احصائيات

الردود
14

المشاهدات
14365
 
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي


حاتم الحمَد will become famous soon enoughحاتم الحمَد will become famous soon enough

    غير موجود

المشاركات
631

+التقييم
0.09

تاريخ التسجيل
Jun 2004

الاقامة

رقم العضوية
3
08-05-2010, 02:49 PM
المشاركة 1
08-05-2010, 02:49 PM
المشاركة 1
افتراضي في مواقع التمثيل وتأثيره
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فصل مفيد من فصول كتاب ( أسرار البلاغة )

للبلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني رحمه الله تعالى

وهذا الفصل بعنوان [ في مواقع التمثيل وتأثيره ]


ولقد اقتطعته من داخل الكتاب لأهمية هذا الفصل في إيضاح مواقع
التمثيل وتأثيره على مجمل الجملة أو العبارة التي يرد فيها ،
وأود أن أوضح أن هذا الفصل هو لمن لديه سابق اطلاع على
الكتاب وبعبارة أدق للمختصين في علم البلاغة ممن درسوا لغة
عبد القاهر الجرجاني.




فصل في مواقع التمثيل وتأثيره


[ واعلم أنّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاءَ في أعقاب المعاني،

أو بَرَزَتْ هي باختصار في مَعرِضه، ونُقِلت عن صُوَرها

الأصلية إلى صورته، كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً،

ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف

قُواها في تحريك النُّفوس لها، ودعا القُلوب إليها،

واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلَفاً،

وقَسَر الطِّباع على أن تُعطيها محبّة وشَغَفاً،

فإن كان مدحاً، كان أبْهَى وأفخم، وأنبلَ في النفوسَ وأعظم،

وأهزَّ للعِطْف، وأسْرع للإلف، وأجلب للفَرح، وأغلب

على المُمْتَدَح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى

له بغُرِّ المواهب المنائح، وأسْيَر على الألسن وأذكرَ،

وأولى بأن تَعْلَقه القلوب وأجدر، وإن كان ذمّاً،

كان مسُّهُ أوجعَ، ومِيسَمُه ألذع، ووقعُه أشده،

وَحدُّه أحَدّ، وإن كان حِجاباً، كان بُرهانه أنور،

وسلطانه أقهر، وبَيَانه أبْهر، وإن كان افتخاراً،

كان شَأْوُه أمدّ، وشَرَفه أجَدّ، ولسانه أَلَدّ،

وإن كان اعتذاراً، كان إلى القَبُول أقرب، وللقلوب أخْلَب،

وللسَّخائم أسلّ، ولغَرْب الغَضَبْ أفلَّ،

وفي عُقَد العُقود أَنْفَث، وعلى حُسن الرجوع أَبْعث،

وإن كان وعظاً، كان أشْفَى للصدر، وأدعى إلى الفكر،

وأبلغ في التنبيه والزَّجر، وأجدر بأن يُجلِّيَ الغَيَاية،

ويُبصِّر الغاية، ويُبرئ العليل، ويَشْفِي الغليل،

وهكذا الحُكْم إذا استقريتَ فنُونَ القول وضروبَهُ،

وتتبّعت أبوابَهُ وشُعوبه، وإن أردت أن تعرف

ذلك وإن كان تِقِلّ الحاجة فيه إلى التعريف،

ويُستغنَى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر

إلى نحو قول البحتري:

دانِ على أيدي العُفاةِ وشَاسِـعٌ ** عن كل نِدٍّ في النَّدَى وَضَرِيبِ

كالبدرِ أفرط في العلوِّ وضَوْءُه ** لِلْعُصْبة السَّارينَ جِدُّ قَـريبِ



وفكِّر في حالك وحالِ المعنى معك،

وأنت في البيت الأول لم تَنْتَهِ إلى الثاني ولم تتدبّر نُصرته إيّاه،

وتمثيله له فيما يُملي على الإنسان عيناه،

ويؤَدِّي إليه ناظراه، ثم قِسْهُما على الحال وقد وقفتَ عليه،

وتأمّلتَ طَرَفَيْه، فإنك تعلم بُعْد ما بين حالتيك،

وشدَّة تَفَاوتهما في تمكُّن المعنى لديك، وتحبُّبِه إليك،

ونُبْلِه في نفسك، وتوفيرِه لأُنْسِك، وتحكُم لي بالصدق

فيما قلت، والحقِّ فيما ادَّعيتُ وكذلك فتعهَّدِ الفرقَ

بين أن تقول: فلان يكُدُّ نفسه في قراءَة الكتب

ولا يفهم منها شيئاً وتسكت، وبين أن تتلوا الآية،

وتُنشد نحو قول الشاعر:

زَوَامِلُ للأَشْعارِ لاَ عِلْمَ عندهُـمْ ** بِجَيِّدها إلاّ كَعِـلْـمِ الأَبَـاعِـرِ

لَعَمْرُك مَا يَدْرى البَعِيرُ إذا غَدَا ** بأَوْسَاقه أو راحَ مَا فِي الغَرائِر



والفصل بين أن تقول أرى قوماً لهم بَهاء ومنظر،

وليس هناك مَخْبَرٌ، بل في الأخلاق دِقّة،

وفي الكرم ضَعْفٌ وقلّة وتقطع الكلام،

وبين أن تُتبعه نحوَ قول الحكيم أما البيتُ فحسنٌ،

وأما السَّاكن فرديء، وقولَ ابن لَنكك:

في شجَر السَرْوِ منهمُ مَثَلٌ ** لَهُ رَواءٌ ومَا لَهُ ثَـمَـرُ

وقول ابن الرُّومي:

فغَدا كالخِلاف يُورِقُ للعَيـ ** ــن ويَأْبَى الإثمارَ كُلَّ الإباءِ

وقول الآخر:

فَإنْ طُرَّةٌ رَاقَتْكَ فانظُرْ فرُبَّمَـا ** أمَرَّ مَذاقُ العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ


وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يُورق شجَرهُ ويُثمر،

ويفترُّ ثغرُه ويبسِم، وكيف تَشْتار الأرْيَ من مذاقته،

كما ترى الحسن في شارته، وأنشِدْ قولَ ابن لنكك:


إذَا أخو الحُسْنِ أَضْحَى فِعْلُهُ سَمِجاً ** رأيتَ صُورتَهُ من أقبحِ الصُـوَر


وتبيَّن المعنى واعرف مقدراه، ثم أنشِد البيت بعده:


وهَبْكَ كالشَّمْسِ في حُسنِ ألم تَرَنَا ** نَفِرُّ منها إذا مَالَتْ إلى الضَّرَرِ


وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمّل بيت أبي تمام:


وإذا أراد اللّهُ نَشْرَ فَضِـيلةٍ ** طُوِيَتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسُودِ


مقطوعاً عن البيت الذي يليه، والتَّمثيل الذي يؤدّيه،

واستقص في تعرُّف قيمته، على وضوح معناه

وحُسن بِزّته، ثم أتبِعه إياه:


لَوْلاَ اشتِعَالُ النَّارِ فيمـا جـاورَتْ ** مَا كان يُعرَف طِيبُ عَرْفِ العُودِ


وانظر هل نَشَر المعنى تمام حُلّته، وأظهر المكنون

من حُسنه، وزِينته، وعَطَّرك بعَرْف عوده، وأراك

النضرة في عوده، وطلع عليك من طلع سُعوده،

واستكمل فَضْلَه في النفس ونُبْلَه، واستحقّ التقديم كُلّه،

إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير،

وكذلك فرَق في بيت المتنبي:


ومَنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يَجِدْ مُرّاً به الماءَ الزُّلالاَ


لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك:

إن الجاهل الفاسد الطبع يتصوّر المعنى بغير صورته،

ويُخيَّل إليه في الصواب أنه خطأ، هل كنت تجد هذه الرَوعة،

وهل كان يبلغ من وَقْم الجاهل ووَقْذه، وقمعه ورَدْعه

والتهجين له والكشف عن نَقْصه،

ما بَلغ التمثيلُ في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى،

وإن أردت اعتبارَ ذلك في الفنّ الذي هو أكرم وأشرف،

فقابلْ بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يَتَّعظ يُضِرُّ بنفسه

من حيث ينفع غيره، وتقتصرَ عليه وبَين أن تذكر

المَثَل فيه على ما جاء في الخبر من

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"مَثَلُ الّذي يعلِّم الخيرَ ولا يَعْمَلُ به،

مثلُ السِّراج الذي يضيء للناس ويُحرق نفسه"،

ويروي: مَثَلُ الفتيلة تُضيء للناس وتُحرق نفسها.


وكذا فوازنْ بين قولك للرجلِ تعِظُه إنك لا تُجْزَى

السيئة حسنةً، فلا تَغُرَّ نفسك وتُمسِك،

وبين أن تقول في أثره إنكَ لا تجني من الشَّوك العِنَب،

وإنما تحصُدُ ما تزرع، وأشباه ذلك.


وكذا بين أن تقول لا تُكلِّمِ الجاهل بما لا يعرفه ونحوه،

وبين أن تقول لا تنثُر الدُّرَّ قُدَّام الخنازير

أو لا تجعلِ الدُّرَّ في أفواه الكلاب، وتُنشد نحو قول

الشافعي رحمه اللّه أأنثُر دُرّاً بين سَارِحَة الغَنَمْ"

وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى،

وبين أن تقول: هي ظلٌّ زائل، وعارِيَّةٌ تُستردُّ،

ووديعة تُسترجَع، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:

"مَنَ في الدنيا ضيفٌ وما في يديه عاريَّة،

والضيفُ مرتحِلٌ، والعاريَّة مُؤَدّاة"،

وتُنشد قولَ لبيد:


ومَا المَال والأهْلُونَ إلاّ وَدِيعةٌ ** وَلاَ بُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الـوَدَائعُ


وقول الآخر:


إنَّما نِعمةُ قـومٍ مُـتْـعةٌ ** وحَياةُ المَرءِ ثَوبٌ مُسْتَعار


فهذه جملة من القول تُخبر عن صِيَغ التمثيل

وتُخبر عن حال المعنى معه، فأما القولُ في

العِلّة والسبب، لِمَ كان للتمثيل هذا التأثير؛

وبيانِ جهته ومأتاه، وما الذي أوجبه واقتضاه،

فغيرها، وإذا بحثنا عن ذلك، وجدنا له أسباباً وعِلَلاً،

كلٌّ منها يقتضي أن يَفخُمَ المعنى بالتمثيل،

وينبُلَ ويَشرُفَ ويكمل، فأَوَّلُ ذلك وأظهره،

أنّ أُنْس النفوس موقوفٌ على أن تُخرجها

من خفيٍّ إلى جليٍّ، وتأتيها بصريح بعد مكنىٍّ،

وأن تردَّها في الشيء تُعلِّمها إياه إلى شيء

آخر هي بشأنه أعلم، وثقتُها به في المعرفة

أحكم نحو أن تنقُلها عن العقل إلى الإحساس

وعما يُعلَم بالفكر إلى ما يُعلم بالاضطرار والطبع،

لأن العلم المستفادَ من طرق الحواسِّ

أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حدِّ الضرورة،

يفضلُ المستفاد من جهة النَّظر والفكر في

القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام،

كما قالوا: ليس الخَبرُ كالمُعاينة، ولا الظنُّ كاليقين،

فلهذا يحصل بها العِلم هذا الأُنْسُ أعني الأُنس

من جهة الاستحكام والقوة، وضربٌ آخر من الأُنس،

وهو ما يوجبه تقدُّمُ الإلْف، كما قيل:

مَا الحُبُّ إلاّ للحبيب الأوَّلِ


ومعلومٌ أن العلم الأوّل أتى النفسَ أوّلاً

من طريق الحواسّ والطباع، ثم من جهة

النظر والرَّويَّة، فهو إذَنْ أمسُّ بها رَحِماً،

وأقوى لديها ذِمَماً، وأقدم لها صُحْبة،

وآكدُ عندها حُرمة وإذْ نقلتَها في الشيء بمَثَله

عن المُدرَك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب،

إلى ما يُدرَك بالحواسّ أو يُعلَم بالطَّبع، وعلى حدّ

الضرورة، فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر

إذا وقع المعنى في نفسك غيرَ ممثَّلٍ ثم مَثَّلَه كمن

يُخبر عن شيء من وراء حجاب، ثم يكشف عنه

الحجاب ويقول: ها هو ذا، فأبصِر تجده على ما

وصفتُ. فإن قلت إن الأُنْس بالمشاهدة بعد الصفة

والخبر، إنما يكون لزَوال الرَّيْب والشكّ في الأكثر،

أفتقول إن التمثيل إنما أُنِسَ به،

لأنه يصحّح المعنى المذكور والصفة السابقة،

ويُثبت أن كونَها جائزٌ ووجودَها صحيحٌ غيرُ مستحيل،

حتى لا يكون تمثيلٌ إلا كذلك، فالجواب إن

المعاني التي يجيء التمثيل في عَقِبها على ضربين

غريب بديع يمكن أن يخالَف فيه، ويُدَّعَى امتناعُه

واستحالُة وجوده، وذلك نحو قوله:


فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنت منـهـم ** فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ


وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل

معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ،

بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه،

وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء

الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير

كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة

إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على

الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح،

فإذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال،

فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود،

وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه

المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى

من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن

صفة الدم وحقيقته، حتى لايُعَدُّ في جنسه،

إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة

الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر،

ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان

لها الدم دماً البتة. والضرب الثاني أن لا يكون

المعنى الممثَّل غريباً نادراً يُحتاج في دعوى كونه

على الجملة إلى بيّنة وحُجّة وإثبات، نظير ذلك

أن تنفيَ عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان

الفائدة، وتدَّعِيَ أنه لا يحصل منه على طائل،

ثم تمثّله في ذلك بالقابض على الماء والرَّاقم فيه،

فالذي مثّلتَ ليس بمنكرٍ مستبعَدٍ،

إذ لا يُنكَر خطأ الإنسان في فعله أو ظنّه وأمله وطَلَبه،

ألا ترى أن المَغْزَى من قوله:


فأصبحتُ من لَيْلَى الغداةَ كقابضٍ ** على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصابِعِ

أنَّه قد خاب في ظنّه أن يتمتّع بها ويَسْعَد بوصلها،

وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود،

خارج من المعروف المعهود،

أن يخيب ظنُّ الإنسان في أشباه هذا من الأمور،

حتى يُستشهَدَ على إمكانه، وتُقام البيّنة على

صدق المدَّعِي لوِجْدَانه، وإذا ثبت أن المعاني

الممثَّلة تكون على هذين الضربين،

فإن فائدة التمثيل وسببَ الأُنس في الضرب

الأول بَيّنٌ لائح، لأنه يُفيد فيه الصِّحة وينفي الرَّيْب والشكَّ،

ويُؤْمِن صاحبه من تكذيب المخالِف، وتهجُّم المنكرِ،

وتَهَكُّم المعترض، وموازنتُه بحالة كَشْفِ الحجاب

عن الموصوف المُخبَرِ عنه حتى يُرَى ويُبصرَ،

ويُعلَم كونهُ على ما أثبتته الصِّفة عليه موازنةٌ

ظاهرة صحيحة، وأمّا الضرب الثاني فإن التمثيل

وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة،

فهو يفيد أمراً آخَرَ يجري مجراه، وذلك أن الوصفَ

كما يحتاج إلى إقامة الحجة على

صحة وجوده في نفسه، وزيادةِ التثبيتِ والتقرير

في ذاته وأصله، فقد يحتاج إلى بيانِ المقدار فيه،

ووضعِ قياس من غيره يكشِف عن حَدّه ومبلغِه

في القوة والضعفِ والزيادةِ والنقصانِ،

وإذا أردت أن تعرفَ ذلك، فانظر أوّلاً إلى التشبيه

الصريح الذي ليس بتمثيل، كقياس الشيء

على الشيء في اللون مثلاً: كحنَك الغراب،

تريد أن تُعرِّف مقدار الشدة،

لا أن تُعرِّف نفس السواد على الإطلاق،

وإذا تقرر هذا الأصل، فإن الأوصاف التي يُرَدُّ

السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحسّ،

وهي في أنفسها معروفةٌ مشهورة صحيحة

لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة

موجودةٌ أم لا فإنّها وإن غَنِيَتْ من هذه الجهة

عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات،

فإنها تفتقر إليه من جهة المقدارِ، لأن مقاديرَها

في العقل تختلف وتتفاوت، فقد يقال في الفعل:

إنه من حال الفائدة عل حدودٍ مختلفة في المبالغة

والتوسط، فإذا رجعتَ إلى ما تُبصِرُ وتُحسّ

عرفتَ ذلك بحقيقته، وكما يوزن بالقسطاس،

فالشاعر لمّا قال: "كقابض على الماء خانته فروج الأصابع"؛

أراك رؤيةً لا تشكُّ معها ولا ترتاب أنه بلغ

في خَيبة ظنّه وَبَوار سَعْيه إلى أقصى المبالغ،

وانتهى فيه إلى أبعد الغايات، حتى لم يَحْظَ

لا بما قلَّ ولا ما كثر، فهذا هو الجواب،

ونحن بنوع من التسهُّل والتسامح،

نقع على أن الأُنس الحاصل بانتقالك في الشىء

عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر،

ليس له سببٌ سوى زَوَال الشكّ والرَّيْب،

فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فإنَّا نعلم أن

المشاهدة تُؤثِّر في النفوس مع العلم بصدق الخبر،

كما أخبر اللّه تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله:

"قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" "سورة البقرة: 62"،


والشواهد في ذلك كثيرة، والأمر فيه ظاهرٌ،

ولولا أن الأمر كذلك، لما كان لنحو قول أبي تمام:


وطُولُ مُقَامِ الَمَرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ ** لِدِيبَاجتَيْهِ فاغْـتَـرِبْ تـتـجـدَّدِ

فإنِّي رَأَيتُ الشَّمْسَ زِيدَتْ محـبّةً ** إلى النّاس أنْ لَيْسَتْ عليهم بسَرْمَدِ



معنى، وذلك أنَّ هذا التجدُّد لا معنى له،

إذا كانت الرؤية لا تفيد أُنْساً من حيث هي رؤية،

وكان الأنس لنَفْيها الشَّكَّ والرَّيب، أو لوقوع

العلم بأمر زائدٍ لم يُعْلَمْ من قبل، وإذا كان الأمر كذلك،

فأنت إذا قلت للرجل أنت مُضيعٌ للحَزْم في سعيك،

ومخطئٌ وجهَ الرشاد، وطالبٌ لما لا تناله،

إذا كان الطَّلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة،

ثم عقّبْتَهُ بقولك وهل يحصل في كفِّ القابض

على الماء شيء مما يقبض عليه?،

فلو تركنا حديث تعريف المقدارِ في الشدة

والمبالغة ونَفْي الفائدة من أصلها جانباً بقي لنا

ما تَقْتَضيه الرُّؤية للموصوف على ما وُصف

عليه من الحالة المتجدِّدة، مع العلم بصدق

الصفة يُبيّن ذلك، أنه لو كان الرجل مثلاً على

طرفِ نَهَرٍ في وقتِ مخاطبةِ صاحبهِ وإخباره له

بأنه لا يحصل من سعيه على شيء،

فأدْخل يده في الماء وقال: انظر هل حَصَل في كفيّ

من الماء شيء? فكذلك أنت في أمرك،

كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول

والنطق بذلك دون الفعل، ولو أن رجلاً أراد أن

يضرب لك مثلاً في تنافي الشيئين فقال:

هذا وذاك هَلْ يجتمعان?،

وأشار إلى ماء ونارٍ حاضرَين،

وجدتَ لتمثيله من التأثير ما لا تجده إذا أخبرك

بالقول فقال: هل يجتمع الماءُ والنار?،

وذلك الذي تفعل المشاهدةُ من التحريك للنفس،

والذي يجب بها من تمكُّن المعنى في القلب

إذا كان مستفادهُ من العيان، ومتصرَّفهُ

حيث تتصرَّف العينان وإلاّ فلا حاجة بنا في معرفة

أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع

إلى مشاهدة واستيثاق تَجْربة،

وممّا يدلُّك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيدك أُنْساً،

وإن لم يكن بك حاجةٌ إلى تصحيح المعنى،

أو بيان لمقدار المبالغة فيه، أنك قد تعبّر عن

المعنى بالعبارة التي تؤدِّيه، وتبالغ وتجتهد حتى

لا تدع في النفوس مَنْزَعاً،

نحو أن تقولَ وأنت تصفُ اليوم بالطول:

يومٌ كأطْول ما يُتوهَّم و كأنّه لا آخرَ له،

وما شاكل ذلك من نحو قوله:


في لَيْلِ صُولٍ تَنَاهَى العَرْضُ والطُّولُ ** كأنَّمَا ليلُـهُ بـالـلَّـيْل مَـوْصُـولُ


فلا تجد له من الأُنس ما تجده لقوله:

ويَومٍ كَظِلِّ الرُّمْح قَصَّر طُولَهُ


على أن عبارتك الأولى أشدُّ وأقوى في المبالغة

من هذا فظِلّ الرُّمح على كل حال متناهٍ تُدرك العينُ نهايته،

وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخرَ له،

وكذلك تقول: يومٌ كأقصر ما يُتصوّر وكأنَّه ساعةٌ

وكَلَمْحِ البَصَرِ وكلا ولاَ، فتجد هذا مع كونه تمثيلاً،

لا يُؤْنسك إيناسَ قولهم: أيامٌ كأباهيم القَطَا،

وقول ابن المعتزّ:


بُدِّلتُ من ليلٍ كظِلِّ حصـاةِ ** لَيْلاً كَظلِّ الرُمح غيرَ مُوَاتِ


وقول آخر:

ظَلِلْنَا عند بابِ أبي نُعَيْمِ ** بيومٍ مِثْلِ سَالِفةِ الذُّبابِ


وكذا تقول: فلانٌ إذا همَّ بالشيء لم يُزل ذاك

عن ذكره وقلبه، وقَصَرَ خواطره على إمضاء عزمه،

ولم يشغَله شيء عنه، فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن،

ثم لا ترى في نفسك له هِزَّة،

ولا تُصادف لما تسمع أرْيحيّةً،

وإنما تسمَعُ حديثاً سَاذجاً وخبراً غُفْلاً، حتى إذا قلت:

إذا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنيه عَزْمَهُ

امتلأت نفسك سروراً وأدركتك طرْبَة كما يقول

القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك،

ولا تَقُلْ إن ذلك لمكان الإيجاز، فإنه وإن كان يوجب

شيئاً منه، فليس الأصْلَ له،

بل لأنْ أراك العزمَ واقعا ًبين العينين،

وفَتَحَ إلى مكان المعقول من قلبك باباً من العين،

وها هنا إذا تأمّلنا مذهبٌ آخر في بيان السبَب

المُوجِب لذلك، هو ألطفُ مأخذاً، وأمكنُ في التحقيق

وأولى بأن يُحيط بأطراف الباب، وهو أنَّ لتصوير

الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله،

والتقاط ذلك له من غير مَحِلّته، واجتلابه إليه

من الشِّقِّ البعيد، باباً آخر من الظَّرف واللُّطف،

ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفى موضعه

من العقل، وأُحْضِرُ شاهداً لك على هذا:

أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض،

فإن التشبيهات سواءٌ كانت عامّية مشتركَة،

أم خاصّية مقصورةً على قائلٍ دون قائِل تراها

لا يقع بها اعتدادٌ، ولا يكون لها موقع من السامعين،

ولا تهُزُّ ولا تُحرِّك حتى يكون الشبه مُقَرَّراً

بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين

بالنَّرجِس، عامّيٌّ مشترَكٌ معروف في أجيال الناس،

جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بُعدَ ما بين

العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيهُ الثريّا

بما شُبّهَت به من عُنقود الكرم المنوِّر،

واللجام المفضَّض، والوِشاح المفصَّل،

وأشباه ذلك، خاصّيٌّ، والتبايُن بين المشبَّه والمشبَّه

به في الجنس على ما لا يَخْفَى،

وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدتَ التباعدُ

بين الشيئين كلما كان أشدَّ، كانت إلى النفوس أعجب،

وكانت النفوسُ لها أطرب، وكان مكانُها إلى

أن تُحِدث الأريحيّة أقرب، وذلك أن موضعَ

الاستحسان، ومكانَ الاستظراف،

والمُثيرَ للدفين من الارتياح، والمتألِّفَ للنافر

من المَسرة، والمؤلِّفَ لأطراف البَهْجة أنك ترى

بها الشيئين مِثْلَيْن متباينين، ومؤتلفين مختلفين،

وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض،

وفي خِلقة الإنسان وخِلال الروض، وهكذا،

طرائفَ تنثالُ عليك إذا فصّلتَ هذه الجملة،

وتتبّعت هذه اللَّحمة، ولذلك تجد تشبيهَ البَنَفْسَج

في قوله:


ولازَوَرْدِيّةٌ تزهُو بزُرقـتـهـا ** بين الرّياض على حُمْرِ اليواقيت

كأنّها فوق قاماتٍ ضَعُفنَ بـهـا ** أوائلُ النار في أطراف كبريت




أغربَ وأعجبَ وأحقَّ بالوَلُوع وأجدرَ من تشبيه النرجس:

بمداهن دُرّ حشوهن عقيق، لأنه أراك شبهاً لنباتِ

غَضٍّ يَرِفُّ، وأوراقٍ رطبةٍ ترى الماءَ منها يشِفُّ،

بلهَب نارٍ في جسمٍ مُسْتَوْلٍ عليه اليبسُ، وبَادٍ فيه الكَلَف.


ومَبْنَى الطباع وموضوعُ الجِبِلَّة، على أن الشيء

إذا ظهر من مكان لم يُعْهَد ظهوره منه،

وخرج من موضعٍ ليس بمعدِنٍ له، كانت صَبَابةُ النفوسِ

به أكثر، وكان بالشَّغَف منها أجدر،

فسواءٌ في إثارة التعجُّب، وإخراجك إلى روعة المستغربِ،

وُجودُك الشيءَ من مكان ليس من أمكنته،

ووجودُ شيءٍ لم يُوجَد ولم يُعرَف من أصله في ذاته وصفته،

ولو أنه شَبَّه البنفسج ببعض النبات،

أو صادف له شبهاً في شيء من المتلوّنات،

لم تجد له هذه الغرابة، ولم ينل من الحسن

هذا الحظ، وإذا ثبت هذا الأصل، وهو أنَّ تصويرَ

الشَّبه بين المختلفين في الجنس،

مما يحرِّك قُوَى الاستحسان، ويُثير الكامن

من الاستظراف، فإن التمثيل أخَصُّ شيء بهذا الشأن،

وأسبقُ جارٍ في هذا الرهان،

وهذا الصَّنيع صناعته التي هو الإمام فيها،

والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمرُه في

ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه، وعَدَّ محاسِنه

في هذا المعنى، والبِدَعِ التي يخترعها بحِذْقِه،

والتأليفاتِ التي يصل إليها برفقِه، ازدحمتْ عليك،

وغمرتْ جانبيك، فلم تدرِ أيَّها تذكر، ولا عن أيِّها تعبِّر، كما قال:

إذا أتاها طالبٌ يَسْتَامُهـا ** تَكاثرتْ في عينه كِرَامُها


وهل تشكُّ في أنه يعمل عمل السحر في

تأليف المتباينين حتى يختصر لك بُعْدَ ما بين

المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المُشئِمِ والمُعْرِق،

وهو يُرِيكَ للمعاني الممثَّلة بالأوهام شَبَهاً في

الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، ويُنطق لك الأخرس،

ويُعطيك البيان من الأعجم، ويُريك الحياةَ في الجماد،

ويريك التئامَ عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت

مجموعين، والماءِ والنارِ مجتمعين، كما يقال

في الممدوحِ هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه،

ويجعل الشيء من جهةٍ ماءً، ومن أخرى ناراً، كما يقال:


أنا نارٌ في مُرْتَقَى نَظَرِ الحا ** سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان


وكما يجعل الشيء حُلواً مُرّاً، وصاباً عسلاً وقبيحاً حسَنَاً، كما قال:


حَسَنٌ في وجوه أعدائه أَقْــ ** ــبحُ من ضَيْفه رأتْه السوامُ

ويجعل الشيء أسود أبيضَ في حال، كنحو قوله:


له منظَرٌ في العين أبيضُ ناصعٌ ** ولكنّه في القلب أسودُ أسفـعُ

ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضدّه، كما قال:


غُرَّةٌ بُهْمَةٌ ألا إنما كُنْــ ** ــتُ أغَرَّ أيَّام كنتُ بَهِيمَا

ويجعل الشيء قريباً بعيداً معاً، كقوله:

"دانٍ على أيدي العُفاةِ وشَاسِعٌ"

وحاضراً وغائباً، كما قال:


أيا غائباً حاضراً في الفؤادِ ** سَلامٌ على الحَاضرِ الغائبِ

ومشرّقاً مغرّباً، كقوله:

لَهُ إليكم نفسٌ مُـشـرِّقةٌ ** أن غابَ عنكم مُغَرِّباً بَدَنُهْ

وسائراً مقيماً، كما يجيء في وصف الشعر الحسن

الذي يتداوله الرواة وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي

أبو الحسن:


وجوّابةِ الأُفْقِ موقـوفةٍ ** تسيرُ ولَمْ تَبرحِ الحَضْرَةْ


وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوقيفه بين المختلفين،

وأنت تجد إصابة الرجل في الحجّة، وحُسن تخليصه للكلام،

وقد مُثِّلت تارةً بالهناء ومعالجة الإبل الجَرْبَى به،

وأُخرَى بحزِّ القصّاب اللحم وإعماله السكّين في

تقطيعه وتفريقه في قولهم "يَضَع الهِنَاء مَوَاضِع

النُقْبِ ويصيب الحزَّ وويطبِّق المَفْصِل"،

فانظر هل ترى مزيداً في التناكر والتنافر على

ما بين طِلاَء القطران، وجنس القول والبيان ثم

كرِّرِ النظر وتأمَّلْ كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء

من جمع أحدهما إلى الآخر، ما يأْنَس إليه العقل ويحمَده الطبع?

حتى إنّك لربما وجدتَ لهذا المَثَل إذا وردَ عليك

في أثناء الفصول، وحين تبيّن الفاضل في البيان

من المفضول قبولاً، ولا ما تجدُ عند فَوْحِ المسك

ونشْرِ الغَالية، وقد وقع ذكرُ الحزّ والتطبيق منك

موقعَ ما ينفى الحزازات عن القلب، ويُزيل أطباقَ

الوحشة عن النفس، وتكلُّفُ القول في أن للتمثيل في

هذا المعنى الذي لا يُجارَى إليه، والباعَ الذي لا يُطاوَل فيه،

كالاحتجاج للضَّرورات، وكفى دليلاً على تصرُفه

فيه باليد الصَّنَاع، وإيفائه على غايات الابتداع،

أنه يُريك العدمَ وجوداً والوجودَ عدماً،

والميّت حيّاً والحيَّ ميّتاً أعني جَعْلَهم الرجلَ إذا

بقي له ذكر جميلٌ وثناءٌ حَسَنٌ بعد موته، كأنه لم يمت،

وجَعَلَ الذكرِ حياةٌ له، كما قال: "ذِكْرُ الفتَى عُمْرُه الثَّانِي"؛

وحُكْمَهُمْ على الخامِل الساقطِ القدرِ

الجاهل الدنيء بالموتِ، وتصييرَهُمْ إياه حين

لم يكن ما يؤثَر عنه ويُعْرَف به، كأنه خارجٌ

عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود،

ولطيفةٌ أخرى له في هذا المعنى، هي، إذا نظرتَ،

أعجبُ، والتعجُّب بها أحقُّ ومنها أوجب،

وذلك جعلُ الموت نفسِه حياةً مستأنفة حتى يقال:

إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم فلان

عاش حين مات، يُراد الرجل تحمله الأبيّةُ وكرم

النفس والأنَفَة من العار، على أن يسخو بنفسه

في الجود والبأس، فيفعل ما فعل كعب بن مامة

في الإيثار على نفسه، أو ما يفعله الشجاع المذكور

من القتال دون حَرِيمه، والصبر في مواطن الإباء،

والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يومٌ لا يزال يُذكَر،

وحديثٌ يعاد على مَرِّ الدهور ويُشْهَر، كما قال ابن نباتة:


بأَبِي وأمّـي كُـلُّ ذِي ** نَفْسٍ تَعافُ الضَّيْمَ مُرَّةْ

تَرْضَى بأن تَرِد الرَّدَى ** فَيُمِيتها ويُعيش ذِكْـرَهْ



وإنه لَيأتيك من الشيء الواحد بأشباهِ عِدة،

ويشتقّ من الأصل الواحد أغصاناً في كل غصن

ثَمَرٌ على حِدَة، نحو أن الزَّند بإيرائه يُعطيك شَبَه

الجواد، والذكيِّ الفَطِنِ، وشَبَه النُجح في الأمور

والظفر بالمراد وبإصلادِه شَبَه البخيل لا يعطيك شيئاً،

والبليد الذي لا يكون له خاطر يُنتج فائدةً ويُخرج

معنًى وشَبَه من يخيب سَعْيُه، ونحو ذلك ويعطيك

من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعِزَّ والرفعة،

ويعطيك الكمال عن النقصان، والنقصان بعد الكمال،

كقولهم هلا نَمَا فعاد بدراً، يراد بلوغ النَجْل الكريم

المبلغَ الذي يُشبِه أصلَه من الفضل والعقل وسائر

معاني الشرفِ، كما قال أبو تمام:


لَهَفِي على تلك الشواهد مِنْهُما ** لو أُمْهلَتْ حتى تَصِيرَ شمائلاَ

لَغدا سكونهما حجًى وصِباهما ** كَرَماً وتلك الأريحيّة نـائلاَ

إنّ الهلالَ إذا رأيتَ نُـمُـوَّهُ ** أَيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاَ



وعلى هذا المثل بعينه، يُضرَب مثلاً في ارتفاع

الرجل في الشرف والعزّ من طبقة إلى أعلى منها،

كما قال البحتري:


شَرَفٌ تزيَّدَ بالعراق إلى الذي ** عهِدُوه بالبَيْضاء أو بِبَلَنْجَـرَا

مِثْلَ الهلال بدَا فلم يَبْرَحْ بـه ** صَوْغُ اللَّيالي فيه حتى أقمَرا



ويعطيك شَبَه الإنسان في نَشْئِه ونَمائه إلى أن يبلغ حدَّ التمام،

ثم تراجُعِه إذا انقضت مُدَّة الشباب، كما قال:


المرءُ مِثْلُ هلالٍ حين تُبصرهُ ** يبدو ضئيلاً ضعيفاً ثم يَتَّسِقُ

يَزدادُ حتّى إذا ما تَمَّ أعْقَبـه ** كَرُّ الجديدين نقصاً ثم يَنْمَحِقُ



وكذلك يتفرَّع من حالتي تمامه ونُقصانه فروعٌ لطيفة،

فمن غريب ذلك قولُ ابن بابك:


وأعَرْتَ شَطْرَ المُلك ثَوْبَ كماله ** والبدرُ في شَطْر المَسافَةِ يكمُلُ


قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخرُ الدولة

بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبيّ وخلع عليهما

وقولُ أبي بكر الخوارزمي:


أراك إذا أيسرتَ خَيَّمتَ عندنـا ** مقيماً وإن أعسرتَ زُرتَ لِمَامَا

فما أنت إلا البدرُ إن قَلَّ ضَوءهُ ** أَغَبَّ وإن زَادَ الضياءُ أقَـامَـا



المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه

الذي يجب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتَي الحضور

وقتٌ يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر

إذا نقص نورُه، لم يُوال الطلوع كل ليلة،

بل يظهر في بعض الليالي، ويمتنع من الظهور في بعض،

وليس الأمر كذلك، لأنه على نقصانه يطلع كل ليلة

حتى يكون السِّرارُ، وقال ابن بابك في نحوه:


كذا البدرُ يُسْفِـرُ فـي تِـمِّـه ** فإن خاف نَقْص المَحَاقِ انْتَقَبْ


وهكذا يُنظر إلى مقابلته الشَّمسَ واستمداده من نورها،

وإلى كون ذلك سببَ زيادته ونقصه وامتلائه من النور

والائتلاق، وحصولهِ في المِحَاق، وتفاوُتِ حاله في ذلك،

فتُصاغ منه أمثَالٌ، وتُبَيَّن أشباهٌ ومقاييس، فمن لطيف

ذلك قول ابن نباتة:


قد سَمِعْنا بالعِزِّ من آلِ سـاسـا ** نَ ويُونانَ في العُصور الخوالِي

والملوكِ الأُلَى إذا ضاع ذِكْـرٌ ** وُجِدُوا في سـوائر الأمـثـالِ

مَكْرُماتٌ إذا البليغُ تـعـاطَـى ** وَصْفَها لم يجدْهُ فـي الأقـوال

وإذا نحن لم نُضِفْـه إلـى مـد ** حِكَ كانت نهايةً في الكـمـال

إن جمعنَاهُمَا أضرَّ بها الـجـمـ ** ــعُ وضاعت فيه ضَياعَ المُحال

فهو كالشمس بُعْدُها يملأ البَـدْ ** ــر وفي قُرْبها ُمحاقُ الهـلالِ




وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشَّبَه من بُعده

وارتفاعه، وقُرب ضَوئِه وشُعاعه، في نحو ما مضى

من قول البحتري: "دانٍ على أيدي العفاة" البيتين.

ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع، كقوله:

كالبدرِ من حيثُ التَفَتَّ رَأَيتَه ** يُهدَي إلى عينيك نوراً ثاقبَا


في أمثال لذلك تكثر، ولم أعرِضْ لما يُشبَّه به من

حيث المنظر، وما تُدركه العين، نحو تشبيهِ الشيء

بتقويس الهلالِ ودقّته، والوجه بنوره وَبَهْجته،

فإنّا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشَّبه فيه معنويّاً . ]


( انتهى الفصل )


قديم 08-06-2010, 02:41 PM
المشاركة 2
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: في مواقع التمثيل وتأثيره
لله در اللغة العربية ما أروعها من لغة !!!
بارك الله فيك أخي حاتم
( أسرار البلاغة ) كتاب شجعتني أن أطالعه بالكامل
جهد مبارك .. أشكرك




أطيب تحية
....ناريمان

قديم 08-06-2010, 07:03 PM
المشاركة 3
سوسن عكاري
صاحـبـة قـلــــم
  • غير موجود
افتراضي رد: في مواقع التمثيل وتأثيره
إن في الحروف لسحرا يأسر الألباب... وليس البلاغة بما فيها علم المعاني بالسهل البسيط ...
وإنها لتحتاج فصحاء لفهمها وأبعاد معانيها...
جزيت خيرا أخي الكريم
تحيتي الكبيرة لجهود - أسأل الله الجليل أن يباركها وآثارها النافعة كغيث يحيي العطشى ...
/
/
/
سوسن عكاري

قديم 08-07-2010, 02:33 PM
المشاركة 4
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: في مواقع التمثيل وتأثيره
مرحبا أختي الكريمة ناريمان

قراءتك ماكتبت محفز على بذل المزيد في خدمة اللغة العربية ، بارك الله فيك .

قديم 08-07-2010, 02:45 PM
المشاركة 5
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: في مواقع التمثيل وتأثيره
سوسن عكاري أيتها الرائعة

شكرا لمرورك العطر وشكرا لكلماتك المشجعة لبذل المزيد

في سبيل لغتنا العربية .

لكِ أجمل تحية أيتها الكريمة.

قديم 08-26-2010, 11:04 PM
المشاركة 6
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الأخ المبجل حاتم الحمد المحترم
تحية وود . .

ما أجمل لغتنا العربية . . وما أجمل معانيها ومقاصدها . .
وهي اللغة الوحيدة التي تعطي لكل فعل كلمة . .
وهي اللغة الوحيدة التي تعطي للحرف الواحد معنى . .
كما أنها متسعة لا يحيط بها شخص بمفرده . .
مهما تكلف في سبيل ذلك . .
يكفينا أن نغترف منها . . ما نشاء . . وما نستطيع . .

عزيزي . .
أشكرك على إدراج هذا الكتاب الصعب الممتع . .
تقبل مني كامل المنى
دمت بصحة وخير . .

** أحمد فؤاد صوفي **

قديم 08-28-2010, 01:21 AM
المشاركة 7
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الأخ الغالي أحمد الصوفي

أشكر لك مرورك الغالي على نفسي

واشكرك لك تعقيبك المفيد على هذا الموضع.

بارك الله فيك .

قديم 07-17-2011, 12:08 AM
المشاركة 8
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أشكرك أستاذنا حاتم الحمّد على هذا الموضوع ، قرأت جزءا منه فقط ، ولي عودة بإذن الله ، وكما يبدو فيه فائدة كبيرة ، نحن نتابع أستاذي ما تسطره من درر ، وننتظر منك المزيد .
بوركت ، وبورك المداد.

قديم 07-17-2011, 06:01 PM
المشاركة 9
حاتم الحمَد
مؤسس ومدير شبكة ومنتديات منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته


مشرفنا النشيط وأستاذنا الكريم ماجد

بارك الله فيك وجعلنا نعمل لصالح أمتنا وعزتها ،

وأشكر لك مرورك المبهج على هذا الموضوع.

قديم 07-18-2011, 11:56 AM
المشاركة 10
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته


مشرفنا النشيط وأستاذنا الكريم ماجد

بارك الله فيك وجعلنا نعمل لصالح أمتنا وعزتها ،

وأشكر لك مرورك المبهج على هذا الموضوع.
وعليكم من السلام ورحمة الله وبركاته
أشكرك أستاذنا حاتم الحمد على موضوعك الهام والمفيد ، وهو تعبير عن ذوق فني رفيع .
بصراحة منبر علم اللغة بحاجة إلى سيب قلمك الباهر ، فلا تحرمنا عطاءه .
بوركت ، وبورك المداد.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: في مواقع التمثيل وتأثيره
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الحبُّ في مواقع التواصل أشرف حشيش منبر الشعر العمودي 4 03-16-2016 09:26 PM
مهمة فرويد .. تحليل لشخصيته وتأثيره - أريك فروم د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-02-2014 09:56 PM
مواقع اجتماعية محمد القواسمه منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 0 04-23-2014 02:51 PM
مواقع اجتماعية محمد القواسمه منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 0 04-23-2014 02:44 PM

الساعة الآن 12:11 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.