قديم 05-31-2012, 03:56 PM
المشاركة 751
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الظروف الحياتية التي اثرت في تكوين الاديب عبد الكريم غلاب:

- تعتبر رواية "المعلم علي" نموذجا دالا على الواقعية الحياتية. فإذا كانت الرواية السابقة "دفنا الماضي" تتمثل "جيل القنطرة" باسترجاع الأحداث التاريخية وبناء القصة عليها. فإن رواية "المعلم علي" انتقلت إلى الواقعية الحياتية وعملية. فظهر بها مفهوم النقابة والعمل النقابي ومفهوم القانون والحقوق الخاصة بالعمال والحقوق العامة التي تشمل بقية الفئات في المجتمع. وظهرت مفاهيم أخرى كالربح والإنتاج والعامل ورب العمل/المعمل والإضراب والصراع. والدفاع عن العمال والخروج بالعمل النقابي إلى العمل السياسي المناهض للمستعمر والمستغِلِّ. وهو ما سيدفع عبد العزيز (شخصية الرواية) أن يشرح ويبين:" مهمة النقابة الدفاع عن مصالح العمال.. هكذا يفهمها زملاؤكم الأجانب، ولكنها عندكم رسالة لإنقاذ إنسانية الإنسان فيكم". ص (320، المعلم علي).

- غير أن صاحب «الأبواب السبعة»، روايته الشهيرة، سيجد نفسه يوما رفقة مدير «لوبنيون»، المحامي محمد برادة، يدلف أبواب سبعة من نوع آخر، تختلف عن أبواب وأقواس مدينة فاس، فقد اقتيد الرجلان إلى سجن لعلو في أكتوبر 1969، بتهمة نشر أنباء مخلة بالأمن العام.

- وقد كان حين تتعبه الكتابة الجادة في الافتتاحيات والسجالات الفكرية والأدبية وفنون الإبداع ينحو في اتجاه السخرية التي كانت تجد مجالاتها في عمود يومي أطلق عليه اسم «مع الشعب» يعرض فيه مشاكل المواطنين وقضاياهم. لكن تلك الكتابات ستجلب عليه المزيد من المتاعب، خصوصا حين كتب يوما ينتقد استفحال ظاهرة الإجرام والسرقة التي تفشت كثيرا. فالرجل الذي كان يعيش «مع الشعب» في رصد مشاكله وطموحاته، كانت له حياة أخرى أقل مدعاة للقلق، لكنه كان يفرق بين التزامه الفكري والسياسي وبين حياته الخاصة، إذ كان يمارس هوايته المفضلة في مسالك الغولف أو يسافر بعيدا عن هموم الشعب، أو يقتطع من وقته بعضا منه للانشغال بأمور أخرى، مع أنه كان شبه زاهد في مسائل عديدة.


- يتحدر غلاب من عائلة برجوازية. كان أبوه تاجراً أسهم في تاسيس المدارس الحرة لأن التعليم الرسمي التي كانت تشرف عليه الإدارة الفرنسية لم يستجب لحاجات الشعب وتطلعاته.
- أسس في القاهرة أثناء دراسته الجامعية، مع عدد من الطلاب المغاربة رابطة الدفاع عن المغرب ضمت مغاربة من تونس والجزائر ثم كوّن معهم "مكتب المغرب العربي" هدفه المطالبة باستقلال الدول المغاربية والمطالبة بتحرير بعض القادة الذين سجنتهم السلطات الفرنسية المستعمرة. وعمل لدى عودته إلى المغرب أستاذاً وصحفياً ومناضلاً فدخل السجن ثلاث مرات.
- لغلاب خمس روايات منها: سبعة أبواب 1965 وهي سيرة ذاتية عن تجربته بالسجن.
- وثلاث قصص هي: مات قرير العين 1965.
- كاتب ارتبطت عنده الكتابة بالنضال
- يشتمل الكتاب على أربعة فصول، فضلا عن تمهيد وخاتمة. خصص كل فصل لنوعية محددة من الخطاب «السيرـ ذاتي»، ترتبط بمرحلة عمرية معينة، وبتجربة حياتية خاصة. هكذا أفرد الفصل الأول لسيرة «الطفولة والصبا»، وتناول فيه الناقد المرحلة الممتدة من سنة 1918 تاريخ ميلاد الأديب المغربي، إلى سنة 1937 موعد هجرته إلى مصر، وهي الفترة التي خصصها السارد لوقائع النشأة الأولى بمدينة فاس، وبدايات اكتشاف العالم المديني الصغير، وصلات الصبي بمحيط الأسرة و«الكتاب» و«الحارة»... وهي الوقائع التي انطوت عليها سيرة مفردة حملت عنوان: «سفر التكوين» (1997).

- أما الفصل الثاني فخصصه «حسن بحراوي» للسيرة «التعليمية» حيث تناول بالتحليل نص «القاهرة تبوح بأسرارها»(2000) وهو النص الذي يرصد الفترة الممتدة من مغادرة «غلاب» للمغرب سنة 1937، وحتى عودته إليه بعد مرور إحدى عشرة سنة من الإقامة المتواصلة في مصر، شهد خلالها تحولات ثقافية حاسمة، وخطوبا سياسية بالغة الخطورة،.

- هذا بينما خصص الفصل الثالث من الكتاب للسيرة «السجنية» من خلال نص «سبعة أبواب» الذي تناول فيه غلاب تجربته في الاعتقال على عهد الاستعمار التي استمرت ستة أشهر، بما هي تجربة شديدة الخصوصية طبعت ذاكرته ومساره الحياتي، وكان لها بالغ الأثر في تعاطي شخصية المناضل السياسي الذي مثله مع الاختبارات العديدة التي شهدها المعترك السياسي المغربي طيلة عقود طويلة من التجاذب بين الحكم والمعارضة. ويجدر التنويه في هذا السياق بنص السيرة السجنية الذي كان هو أول نص ذي طبيعة سيرة ذاتية كتبه غلاب، حيث صدر مطلع سنة 1965، قبل كل نصوص السير الأخرى التي أرخت لمساره الحياتي.

- على نصوص السير الذاتية التي لم يخضع فيها «غلاب» مساره الحياتي لاسترجاع يراعي منطق التعاقب والاسترسال، وإنما كان ينطلق دوما من أحداث كبرى في حياته ليسلط الضوء على التفاصيل والتحولات التي أحاطت بها، ومدى تأثيرها على شخصيته الفكرية، واختياره السلوكي، كما أن الدراسة غلبت عليها في أحايين كثيرة نغمة الحكي واستعادة الوقائع، بحيث بدت أشبه ما تكون بملخص لنصوص السير المختلفة، واختزال لها في صور محددة يحكمها الجدل والترابط.
- تلك كانت أهم المضامين التحليلية التي اشتملت عليها دراسة الناقد حسن بحراوي عن عبد الكريم غلاب، سعى من خلالها إلى الكشف عن التشكيل السردي لنصوص السيرة الذاتية لهذا المفكر المغربي البارز، بالقدر ذاته الذي استهدف فيه التعريف بالمحطات المركزية في حياته وتفاصيلها الحميمة، والوقوف، من ثم، على سماتها الجمالية، وسجاياها الفنية والأسلوبية. مما جعل من كتاب «جدل الذات والوطن» ترجمة نثرية بالغة التأثير لتحولات مسار أدبي ثري، وتجربة حياتية مثيرة بتفاصيلها وتقلباتها المدهشة، لا يمكن إلا أن تعد بسفر ذهني عذب، يدعو لمعاودة القراءة مرات عديدة.

هناك الكثير من المؤشرات التي توحي بأن الاديب عبد الكريم غلاب عاش حياة غنية بالاحداث وهناك الكثير من التفاصيل لكن لا نكاد نجد اي معلومة عن ظروف النشأة والطفولة وعليه سنعتبره مجهول الطفولة.

مجهول الطفولة.

قديم 05-31-2012, 03:59 PM
المشاركة 752
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
96- قامات الزبد إلياس فركوح الاردن
نبذة الناشر:
يمكن لنا أن نسميها رواية الخراب... حيث كل شيء في انقضاض على كل شيء. وحيث تتجلى الحياة في نقائضها، وتتقذف بشكل زلزالي ضد ذاتها وتجلياتها، ضمن هذا الخراب تتحرك الشخصيات باتجاه حلم غامض، إنها شخصيات مشردة تحاول حلمها الخاص بشكل أو بآخر، وتفيق على واقع واحد هو الخراب، ثم تنتهي أو تنوس في غمرة موات حقيقي يطحنها.
وتتناسل حركة القص دائماً بشكل فيوضات سردية عارمة، منتجة شخصيات مشظاة وزمناً متشرخاً وأحداثاً هبائية ومكاناً شبحياً متفلتاً، وتبدو الرواية في الظاهر خليطاً غير مبرر من كل شيء ونقضيه، لكنها في الحقيقة ترسم الزمن العربي الرسمي الحاضر بإحداثياته اللازمة، بدءاً من فلسطين ومروراً ببيروت وانتهاءً بالذات الفردية العربية، التي أنتجها الموات وأنتجته.
إن حلم الثورة هو اللامكان الوحيد الذي اسمه بيروت، وهو اللازمان الوحيد الذي هيأ نذير الحلبي للموت بيد طائفية، وخالد الطيب للموات بيد الذات التي اكتشفت ذاتها الهروبية على غير فجأة، وزاهر النابلسي للنواس والإنضاب خلف حجاب الحلم المنتسف. وهكذا يتفقع كل ذلك السيل الذي كان منذوراً للبشارة والثورة والعتق من الخراب، يتفقع زبداً جفاءاً، ويتكشف عن صمت برزخي يرين على الأشياء.
إن "قامات الزبد" رواية ترصد "الواقع" وتترصد حركته الباطنة لتجلو خواءه العميم. وهي حين تسافر في حركة الواقع بلغتها وبنيتها الحكائية السافرة، إنما تسافر لتسفر، وإنما تستبطن لتجلو مرحلة ما سنعيشها.
زهير أبو شايب

قديم 05-31-2012, 10:07 PM
المشاركة 753
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قامات الزبد


سنة النشر: 2004
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة


كلمة الغلاف :
تبدو شخصيات " قامات الزبَد " ومنذ الصفحة الأولى مشغولة بتحليل انكسار إشعاعات العالم والتجربة الجماعية في منشور الذات ، وتبدو هذه الشخصيات جميعاً منفصلة عن الماضي والأحداث التي مرّت بها ومنهمكة في لعبة تحليل المشاعر وتقصي حقيقة موقفها من العالم الذي تصفه وتحوّله إلى مرآة شفافة تعكس صوراً مشوشة وخيالات باهتة وأفكاراً تُحيل التجربة الموصوفة إلى مبررات للانهيار واختيار الهروب ملاذاً من تجربة سياسية غامضة . هل تحكي " قامات الزبد " عن الحرب الأهلية في لبنان ؟ نعم ، ولكنها تحكي أكثر عن حرب الذات مع نفسها ، عن ذلك الصراع الداخلي الذي يعتمل داخل ذوات الشخصيات . ومن هنا تلتحق رواية إلياس فركوح بذلك النموذج من الكتابات الروائية العربية الجديدة التي تصوّر انهيار العالم الخارجي بتصوير الصراعات الداخلية للشخصيات . إنها تلتحق فرداً جديداً في عائلة الأعمال الروائية التي كتبها إدوار الخرّاط ، وإبراهيم أصلان ، ومحمد عز الدين التازي ، وحيدر حيدر .

فخري صالح

قديم 05-31-2012, 10:18 PM
المشاركة 754
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
إلياس فركوح

كاتب أردني ومؤلف لعدة كتب. حازت روايته قامات الزبد على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990، وحاز على جائزة الدولة التقديرية في حقل القصة القصيرة عام 1977 . أسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1992 حيث يعمل مديراً لها. وهو من مؤسسي اتحتاد الناشرين الأردنيين، وهو عضو في الاتحاد المذكور، وفي اتحاد الكتاب والأدباء العرب، ورابطة الكتاب الأردنيين التي عمل عضواً في هيئتها الإدارية لعدة دورات.

من اقواله:إن الكتابة لا تتعامل مع مصادفة، وهي ليست نتاج المصادفة على الإطلاق. إنها ممارسة واعية ؛ فعلٌ مقصود يصدر عن ذاتٍ تبصر كل ما يحيط بها، وتسجّل الجزئيات بوعيٍ متيقّظ، كي تصوغها في ما بعد ضمن تركيبٍ فـنّـي يتسق ووجهة نظرٍ تسري في الحياة، وتحكم عليها""

قديم 05-31-2012, 10:40 PM
المشاركة 755
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
إلياس فركوح

ماذا يعني أن يعمل كاتبٌ على إنشاء موقع له على شبكة الإنترنت؟
أهو فعل إشهارٍ وإعلام، أم ثمّة ما هو أعمق في دلالته يقارب إعلان الحضور الفاعل في العالم ، والجهر بوجود كينونة تملكُ إضافتها المتواضعة إلى هذا العصر ؟ بمعنى : تملك "مذاق" أسئلتها الوفيرة حيال حفنة إجابات مفتوحة·
رُبّما هي هذه الأسباب والدوافع جميعاً ·
ولمَ لا ؟
قد تكون هذه الشبكة الكونية الحرّة في انفتاحها حتّى أقصاها ، حين الحضور الدائم في خلاياها ، هي المنفذ الأنسب للخروج من "شبكة/مصيدة" الإعلام المتخلّف الذي يشرنقنا (ككتّاب عرب) حدّ الاختناق، ويجعلنا رهائن مزاجية الأفراد وأنانياتهم تارةً ، والمصالح الضيّقة للسُلطات وآنيّاتها تارةً ، وعماء الصحافة "الشعبية": هذه المهتدية ، غالباً ، بصلف الإسم وسطوة العلاقات·
وبالمقابل : أهي>"شبكة علاقات" من نوعٍ آخر ، مغاير ، ومضاد ؟
أجل ·
ولمَ لا تكون كذلك ، حيث يُصبح التأكيد في كل لحظة على أنّ الشجرة ، مهما طالت وتطاولت ، فلن تكون هي الغابة ولن تختزلها أبداً، أو تنطق بصوت آلاف أشجارها ·
إنّ نشيد الأحراش والبراري ليس سوى همس ملايين الأوراق المعلّقة في أذرُع الريح وسواعد الأشجار : الخضراء منها ، والصفراء ، وتلك المابين ·· أيضاً·
نحنُ ، حين نحدّق كثيراً في اللامع المضاء بصخبه العالي ، نعمى فلا نُبصر·
ونحنُ ، لحظة نُغمض أعيننا حيال المترائي الشفيف المتخايل ، نتبصّر ما لا يُدركه غيرنا.

==
2010/11/14،
إلياس فركوح: اكتب ما دامت معرفتي ناقصة ومدينتي تتفلتُ مني حاوره: محمود منير
اختار مدينته والسرد معاً. تؤثث ذاكرته رواياته عن مكان يهوى الأقنعة ويرفض الإفصاح والإبانة, في ثلاثة أعمال روائية أصدرها خلال فترة جاوزت عقدين من الزمن, وبقدر إخلاصه لمدينته المختلة نبش أرشيفاً استثنائياً يمتد ستين عاماً تبدأها الحرب والأسئلة لتنتهي عنده عبارة حاسمة هي: لا شيء يكتمل.
إلياس فركوح وعَمّان على موعد قديم لم يتغير منذ الصفعة وطيور عمّان تحلّق منخفضة ومجموعات أخرى, لكن القصة القصيرة دفعته إلى تجديد مواعيد أخرى مع مدينته في الرواية, فنشر رواياته: قامات الزبد, أعمدة الغبار وأرض اليمبوس, لذلك كانت فكرة محاورته تفترض لحظة تداعي لا تحتمل تلصص الصحافة بل اعترافات متدفقة متوالية حملته على نشرها جملة تداعيات, أرسلتها له عبر البريد الإلكتروني, تمثل قراءة متأملة لروايته الأخيرة.
اعترافات فركوح ل¯ العرب اليوم ابتعدت عن المباشرة في تناول تجربته الإبداعية المتعددة في القصة والرواية والترجمة والنشر والكتابة الصحافية, إنما أتت نصاً موازياً لها يشبه كاتبها وتقترب من مناطق قد تبدو معتمة بقصد إضاءتها, لكن منطقة وسطى تبقى ملازمة له.
* في أرض اليمبوس, تبدأ الحيرة ولا تنتهي, وربما كانت عمّان كذلك, هل كانت عباراتك لا زلتُ لا أعرف. لا زلتُ أكتب, هي مفتاح الكتابة ومفتاح المدينة في آن?
- بعد قطعي لشوطٍ في التجربة القصصيّة, وخلال كتابتي لقصص المجموعة الثالثة إحدى وعشرون طلقة للنبي, أدركتُ بأنني فقدتُ كثيراً من ركائز اليقينيات التي انبنت في سياقها القصص السابقة; إذ بِتُّ على غير ثِقةٍ بما كنتُ أراه رؤية العَين! ففي لحظات إعادة تشكيل تلك المرئيات, عبر كتابتها باللغة, وخلال بذلي المجهودَ لاصطيادها على هيئاتها المُجَرَّبَة, وجدتني أُصابُ بما يشبه الفَزَع! كانت تنفلتُ من تشكيلاتها الأُولى عندما أعملُ على التحرّش بها, حائراً ومتسائلاً عن النقطة, أو الزاوية, التي سوف أبدأُ منها لأستطردَ من ثَم في عمليّة بِنائها بالكتابة. كانت تتحررُ من أجسامها الأُولى وتمثلاتها السابقة لتتخذ لنفسها أجساماً وتمثلاتٍ جديدة! جديدة ومغايرة كأنما ما كانَ موجوداً هناك, في الخارج قبل الكتابة, ما عادَ ليتكررَ ثانيّةً هنا, عند الكتابة وفي داخلها! كأنما التماسُك الظاهر للعيان في (المصادر) و(المراجع) لا يعدو أن يكون وهماً, أو سراباً سرعان ما يتلاشى عند إخضاعه للامتحان برؤيا الكتابة; فلقد تحوَّلَت محسوساتُ العالَم الواقعي المنتظمة والمتسقة والصلبة إلى حالاتٍ من الهشاشة بحيث افتقَرَت لِمْا يشدُّّ ويُمَتِّنُ عناصرَها, وبالتالي لِمْا يؤهلها لأن تكون ذات تعيين متَفَقٌ عليه, أو أشتركُ فيه مع غيري!
عندها, اكتشفتُ بأنني لا أكتبُ قِصصاً بالمعاني المتعارَف عليها, تلك السائدة, وإنما هي حالاتٌ تستبطنُ قصصها المتعددة القابلة, بدورها, للتكاثر أكثر. كما أنها قابلة, أيضاً, لكثرةٍ لا تنفدُ من تقنيات التناول الفني. فإذا كان ذلك كذلك, أعني مرئيات العالَم الواقعي بمحسوساته الجامدة وحيواته المتحركة, فإنَّ المراهنة على جوهرٍ حقيقي فيها ليست سوى مراهنة خاسرة. كما أصبحَ التسليمُ بما نراه, والقبول به, والرِضا عنه, من المحظورات التي يأباها الوعي الكتابي في أعماقي وينفرُ منها. وأحسبني أصبتُ بالتعبير عن هذا كلّه, عندما خصصتُ في بداية رواية أعمدة الغبار صفحةً لأشهدَ بالتالي:
كلّما حاولتُ ذاكرةً تسترجعُ ما فاتَ;
انكسرتُ على شفرة الغياب.
قلتُ: لعلَّ الكلمات هي القادرة.
لكنَّ شيئاً, في الخارج, لم يحدث.
إذَا; ولأني افتقدتُ الثقةَ في ثَبات الموجودات على أحوالها عند الكتابة, والتفَّت الريبةُ حول ثبوتيتها لدى (المنطق) الفني إبّان إعادة تشكيلها على الورق; أصبحَ العالَمُ يتحركُ في دوائر من الاحتمالات. والاحتمالات, كما نعرف, مجموعة افتراضات لا بُرهان عليها قبلَ إخضاعها للفحص والتجربة. ولكن; ماذا يحدث لتلك الاحتمالات/ الافتراضات في ورشة الكتابة الأدبيّة? وهل نبتغي الوصول إلى البُرهان, أم نكتفي بما يمنحنا الفحصُ والتجربةُ من فضاءاتٍ انفتَحَت لنا لتنفتحَ, بالتالي, الكتابةُ السرديّةُ على احتمالاتٍ تجددُ نفسها من خلالها? ناهيكَ عن أنَّ ما تخرجُ به ورشةُ الكتابة الأدبيّة والفنيّة لا يخضع لقياس ومعايير العمل في المختبرات! وبذلك; فإنَّ السعي الأدبي (السعي الأدبي الواعي, أعني) لا يريد الوصول إلى بُرهانٍ هو زائفٌ بمعايير العِلْم الوضعي, بقدر ما يستمتعُ بالوقوع على عوالَم جديدة أخرجتها الكتابة, وأنضجتها جسارةُ المُضي في ملاحقة احتمالاتها المحمولة على خَيالٍ يرى ما أسميته (المصادر والمراجع) دون التنكُّر لسياقها الاجتماعي والتاريخي ولحظتها السياسيّة, ولكنه لا يلتزمُ إلاّ بآليّة إعادة التركيب ومنطق الحذف والإضافة.
نعم, الكتابةُ رحلتي نحو المعرفة التي أضاعت نفسها وسط فوضى العالَم. أو لعلّني أنا مَن تاهَ داخل أكاذيب العالَم وتلفيقاته القيميّة وتوليفاته المضادة للإنسان الفرد وإخصائها لحريّته في الحلم والتخييل, تلك المسنودة بأيدولوجيات شتّى تَدّعي بناء عالَمٍ نظيف, لكنها, حين تصطدمُ بلحمنا وترتطمُ برؤوسنا, تَسقطُ وتُسقطنا معها في مستنقعات الدم ومدارات الوهم القاتل. لأنها كذلك; فهي كتابةٌ تتلبسها الحيرةُ المشفوعة بالمرارة ابتداءً. حيرةٌ تجاه المدينة, رغم أنها مدينتي أنا. مدينةُ هذه الذات المكلومة على وَقْع الجروح المفتوحة في أرواح ساكنيها, التي لن تشفيها أو تغلقها جميعُ أبراج الإسمنت المتعاليّة عليهم وعلينا وعلى الفضاء الذي تتواقح لتغلقه أيضاً!
سأواصلُ الكتابةَ ما دامت معرفتي ناقصة, ومدينتي تتفلتُ مني. سأواصل بالكتابةِ حَفْري المعرفي المتواضع بحثاً عَني أنا. أبحثُ عني في مدينتي, وأبحثُ عن مدينتي فيَّ. لأننا, ندري أو لا ندري, نحن الذين نُسْكِنُ المُدَنَ فينا! نحن, كُلُّ واحدٍ مِنّا, إنما يحتفظُ في داخله بمدينةٍ تخصّه وحده.. رغم أنها تخصُّ سواه في الوقت نفسه.
* معرفة لن تكتمل, ومدينة تهوى التفلت, إلى أين ستمضي ببحثك عن نفسك في عمّانك, وعن عمّانك فيك?
- حين نباشرُ سَرْدَ المدينةِ إنما ننطلقُ, بحَذَرٍ وبما يقاربُ الخوفَ من أن ننزلقَ إلى حيث لا نقدر على الفكاك من أسْرِ اللغة واستطراداتها المغوية, من صورةٍ ما, معينة ومحددة بمعنى أنها واحدة. غير أنَّ الانطلاق, بحسب تجربتي, لا يكون نحو الأمام باتجاه توسيع الصورة وتطويرها بمراكمة فضاءات تتعدّاها, لكن بالحفر فيها ومحاولة معاينة ما تخفيه تحتها من أصداءٍ هي التي أبْقَت عليها ماثلةً تنتظرُ مَن يكتبها. الصورةُ المُرادُ البدء منها صورةٌ جامدة, أو هي مركونةٌ في ثَلاّجة الذاكرة مُجَمَدَةً, لكنها ليست فوتوغرافيّة أبداً. إذ تختزنُ المجموعةَ الكاملةَ من الروائح, والأصوات, والألوان, وذبذبات الكلام الكثير - أو القليل - التي تتفاوتُ في درجات وَخْزِها لذاكرتنا حتّى تفيق.
هي الصورةُ إذَا نعاينها الآن, لحظة الكتابة. وإنها قديمة. الصورةُ القديمةُ نفسها نستعيدها من زمنها الذي انقضى لنُحييها, ونبعثها جديدةً بكلماتٍ ينبغي أن تكون, هي أيضاً, جديدة. ولكن: كيفَ تتجددُ الصورةُ إنْ ظَلَّت كما انتهت إليه في لحظة زمنها العتيق? هل نُبقي على عناصرها كاملةً, أم نُضيفُ إليها أو نحذفُ منها? هل نحافظُ على علاقات تلك العناصر ببعضها, وبما/ بمن جاورها وحايثها وارتبطَ بها, أم نعملُ على خَلْقِ/ اختلاق علاقات مغايرة قد لا تقلبها رأساً على عقب; لكنها تجعلُ منها صورةً أقربُ إلى المنظور إليها من زاوية جديدة?
حَسَنٌ; ما الزاوية الجديدة? ماذا أقصدُ ب¯الزاوية تحديداً?
الاجتهادُ, في نَظَري, قراءةٌ جديدةٌ, أو قُلْ معاينةٌ جديدةٌ لصورةٍ قديمة أبتغي رسمها بكلماتٍ تشيرُ إليها وتأنفُ من نسخها أو استنساخها. فالكاتبُ فيَّ, وبإصرارٍ نهائيّ لا رجعةَ عنه, ليس ناسخاً, وليس مقّلداً, وليس مصوِّراً, وليسَ ذاكرةً صافيةً لا يشوبُ شفافيتَها الخالصة عَكَرٌ, أو شَغَبٌ يحطّمُ الانسيابيّةَ الكاذبة التي يتوهمها الخيالُ الكسيحُ المستكينُ إلى قُدسيّة الواقع وقداسته!
إذَا: نحنُ حيالَ آليّة الخَلْق من جديد. نحنُ بمواجهة زيف اليقينيات نعملُ على زحزحةِ أعمدة الماضي/ التاريخ, ونجتهدُ في تقويض أركان المعابد المُكّرَسَة لتبجيل وَثَن السَلَف الذي لم يكن صالحاً غالباً, ولا نشبعُ من التهامِ كُتَل التَمْر في أصنامِ هُبَل وغيره; إذ نحنُ لا نعبدُ الزائلَ لا بل, في حقيقتنا, إنما نجعلُ من ذاك الزائل عنصراً نستثمرهُ في نصوصٍ تستبيحُ عِصْمَتَهُ الكاذبة, وتشهدُ على فَرادةِ الفرد مِنّا في مواجهته لهذا العالَم المُريب بأسئلةٍ لا تجيب عنها مزاعمُهُ الصفيقة.
الإفصاحُ والإبانةُ غايةُ صورة الكاميرا (الثابتة دائماً رغمَ وجود المتحركة), لكنها ليست مهمة الكتابة أبداً. فالكتابةُ, في المبتدأ منها وفي مطافها الأخير, حالةٌ دائمةُ التغيُّر ودائبةُ الانقلاب على سابقها من نُصوصٍ هي مَحَلُّ شَكٍّ; إذ ثمّة العَينُ المستطلعةُ تُمْعِنُ في أن تَدَعَ الصوَّرَ تتألبُ على نفسها لكي تتداعى.. ولكن شريطة الاحتكامِ إلى بصيرة الوعي المستريب. وبذلك; فإنَّ الاستثناءَ في أرشيفي عن مدينتي عمّان يطلعُ من منطقةٍ غائرةٍ لا ترى محتواها سوى عَيني أنا, لا عَين سواي. ولذلك; فإنَّ عَمّاني ليست كمثل أيّ عَمّانٍ أُخرى. كما يجدرُ التذكير, لكُّلِ الذين يَنسون, أنَّ لِكَّلِ واحدٍ مِنّا مدينته, حتّى وإنْ كُنا نشتركُ جميعاً في العيش داخلَ هذه الواحدة المتعددة المُسمّاة: عَمّان!
* بدأت أرض اليمبوس بالحرب وانتهت بها, كأنها اليقين الوحيد, ومَرّت بينهما نساءٌ كثيرات وحبٌّ يتحوَّل ويتغيّر... ولا شيء يكتمل. هل هي لعبة السرد وغوايته, أم هي ضرورة المكان وخُلاصة التاريخ فيه?
- أهي فجيعتُنا بفقدان أحبّتنا بالموت الذي تجلبه لنا الحروب, رغم عدم رغبتنا فيه وفيها, ورغم هشاشتنا حيال وحشيتها الطالعة مِنّا? أم هي رهبتُنا الشخصيّة من ذاك الآتي إلينا يخطفنا إلى العَدَم, أو المجهول, بعد أن كُنّا ذات تاريخ? أم هي خِشيتُنا من هذه الوحشة والتوّحُد, في حياتنا الراهنة لَمّا نتنفس, وتالياً من ذاك التلاشي والاندثار والاندغام بالتراب لَمّا نقضي, فنمضي?
نحن نقضي. إذَا: نحن ننتهي.
ولكن: أين نمضي, حقاً, لنبدأ من جديد?
وهل ثمّة جديد ينتظرنا, أو ننتظره?
ربما يكون هذا هو السؤال الوحيد المفتوح على آخره, وبلا حدود, ومن دون أي نهاية. إنه سؤالُ الفراغ! هو كذلك لأنَّ فراغاً محتوماً, مهما أعملنا الخرافةَ, والأسطورةَ, والإيمانَ الديني, والعقلَ في تعبئته بالإجابات, فلسوف يبقى بُرهاناً يشهدُ على نفسه فقط, ليتركنا في رَحِمٍ مُصابٍ بالحمل الكاذب! ولستُ هنا بصدد البحث عن حَلٍ ما حيال هذا الفراغ والعُقْم, لكنني أبحث, بالأحرى, عن تعبئة عَيشي الشخصي, الفردي, ما دُمتُ أتنفسُ, بما يقيني من أن أنتهي قبلَ أن أقضي. كما لستُ أخجلُ من الجَهْرِ بخوفي من الفراغ, وتحديداً ذاك الفراغ الذي يعني خُلو ذاتي من المعنى. أيّ معنى. صحيحٌ أنَّ لا شيء يكتمل, غير أنَّ قدراً هائلاً من المعنى نتحلّى به لحظةَ اعترافنا بنقصنا. لسنا مخلوقات كاملة, لكننا, في الوقت نفسه, لسنا كائنات تسبحُ في فراغ المعاني.
هذا يقينٌ أؤمنُ به, مثلما أؤمنُ إيماناً كاملاً بواقعة الموت. لكني أجدني أستطردُ متسائلاً عن أشكال الموت وضروبه. إذ ليست الحرب وحدها تعادلُ الموتَ. فالحُبُّ, في موازينه المختلَّة وأهوائه المتقلبة, والمتحرك ضمن سياقات لسنا أحراراً في اختيارها, إنما يضعنا وجهاً لوجه أمام (موتٍ ما) ربما نعاني قسوته وضراوة خساراتنا فيه أكثر مما نتوقع من ذاك الحامل للعَدَم! مَن يدري? وها نحنُ نتخبطُ وسط المتاهة. متاهة ما نريد الاكتمال به, ومعه, وفي داخله, غير أننا, وعلى صدور محبوباتنا وفي عيونهنَّ, نبدأ بخوض حروبنا المهزومة حتّى الثمالة نتجرعها محاذين, بصمتنا الرُخامي المكابر, حجارةَ المدافن الملوكيّة التي خَضَّرتها عُفونةُ السراخس والجهنميات الناغلة في بقايانا!
أيُّ معنى يتبقى لنا, والحالةُ هذه, سوى أن نكتب? أعني أنا: أن أكتب?
فأن أكتبَ خُلاصةَ تاريخ المكان هو أن أكتبني في حالات الوجد الشفيف, وثمّة المرأة وجهي الآخر الذي خطفتهُ الحربُ مني. وأن أكتبَ هو أن أكتبَني في حُمّى اشتعالات الحروب الخاسرة, وثمّة المرأة التي غادرَت المكانَ وخلّفتني وحدي لأستنسخها صُوَراً لن تكون هي أبداً. فعَن أيّ حروبٍ نكتب, إذَن?
ليست غواية السرد ما يكمن خلف أرض اليمبوس. ربما هي كذلك في قلب تلك الأرض التي أُقيمُ عليها, أنتظرُ امرأتي تأتيني بالجوابِ عني أوّلاً, عَلّني, إنْ فَعَلَت, أحظى بقليلٍ من الطمأنينةِ عند خطوي عَتَبَةَ الما بعد. عَلّها تمحضني, بلمسة أصابعها الحرير, راحةَ روحٍ أتعبها النقصان.


قديم 05-31-2012, 10:46 PM
المشاركة 756
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
2010/02/02،


الروائي الأردني الياس فركوح: بالحربِ نمتحنُ جوهرنا أمام الموت.. وبالمرأة نفحصُ جوهرنا حيال الفكرة أجرى الحوار: سميرة عوض


عمان ـ ' القدس العربي' ـ بإصداره ' أرض اليمبوس'، يمكن القول إن الروائي الأردني فركوح يكمل ثلاثيته الروائية التي بدأها بـ ' قامات الزبد' (1987)، التي تتناول الفترة الفاصلة بين نكسة 1967 وسقوط مخيم تل الزعتر، ثم ' أعمدة الغبار' (1996) التي تبدأ من سقوط تل الزعتر حتى خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982.


ولد في عمّان عام 1948، حيث تلقى تعليمه حتى الثانوية العامة متنقّلاً بينها وبين القدس. حاصل على بكالوريوس في الفلسفة وعلم النفس، من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الثقافية من عام 1977 ـ 1979، كما شارك في تحرير مجلة ' المهد' الثقافية طوال فترة صدورها.


شارك الشاعر طاهر رياض العمل في دار ' منارات' للنشر حتى 1991، إلى أن أسس دار ' أزمنة' للنشر والتوزيع عام 1991، حيث يعمل مديراً لها.


حازت روايته ' قامات الزبد' على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990


وكذلك حاز على جائزة الدولة التقديرية / القصة القصيرة للعام 1997.


كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة على مجمل مجموعاته ـ والتي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين. وكانت الرابطة، قبلها ، قد منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية لعام 1982 ' إحدى وعشرون طلقة للنبي'، كما نال جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 عن روايته ' أرض اليمبوس'، إضافة الى دخولها القائمة القصيرة 'البوكر' للعام 2007 عن الرواية ذاتها.



حفاوةً لم أكن أتوقعها



*حققت روايتك الثالثة 'أرض اليمبوس' حضوراً لافتاً جداً. كيف تشعر إزاء الرواية الآن؟


*أعتبرُ نفسي من فئة الكُتّاب الذين حين ينشرون عملاً جديداً، وبعد انقضاء أيام النشوة فور صدوره من المطبعة، سرعان ما تفترُ حماستهم تجاهه بعد وقتٍ قصير، ليبدأوا التفكير بالعمل القادم. ما هو؟ كيف سيكون؟ ولو على سبيل التكهُّن العارف أنَّ أي جوابٍ لن يحيط بمفاجآت الكتابة لَمّا تحدثُ على الورق. غير أنَّ ' أرض اليمبوس'، وخلافاً للأعمال السابقة، عملت على إيقاف تفكيري بالمشروع الجديد ـ أو بالأحرى أربكتني وأجَّلَت ملاحقتي له ـ وذلك نتيجة الاهتمام والمتابعة الاستثنائيين. لاقت الرواية حفاوةً لم أكن أتوقعها بصراحة، داخل الأردن وفي الخارج، رغم إدراكي أنها شكّلت حَفْراً وتحوّلاً ومغايرةً في كل من بنيتها، ولغتها، وتضمنها لأسئلة الكتابة الخاصّة بالرواية الحديثة. ولأكُنْ أكثر صراحةً : لأنَّ ما يشبه الجفاء النقدي الذي قوبلت به الرواية السابقة، ' أعمدة الغبار'، وبحجّة صعوبتها، هو ما حال بيني وتوقـُّع الانفتاح على ' أرض اليمبوس' بهذا التفهُّم والفحص والقراءات الذكيّة المحترمة لها كعملٍ يتطلب بذل الجهد المقابل، وبالتالي التقدير. فأين كان يختفي ذلك كلّه؟ أكان ' الخلل' ( سأسمح لنفسي باستخدام هذه المفردة) في الرواية والأعمال السابقة الأخيرة، أم في ' الوَسَط الثقافي' الكسول المُقْبِل على الأعمال السهلة التي تُقرأ بسرعة، والابتعاد بالتالي عن أعمالٍ يراها ' صعبة' فيكتفي بما هو شائعٌ عنها دون تكبُّد عَناء قراءتها؟!


أعتبرُ ' أرض اليمبوس' رواية محظوظة ـ بمعنى تراكُب جُملة عوامل لا يمكنني تحديدها بدقة، أدّت للالتفات الجاد إليها، وبالتالي كشف ما تحمل من قيمةٍ تخصّها. وكذلك، وبسبب هذا، أعتبرُ نفسي محظوظاً بها.


*حصول روايتك على جائزة تيسير السبول للرواية عن العام 2007 التي تمنحها رابطة الكتّاب الأردنيين ـ وهو رائد الرواية الأردنيّة الحديثة في روايته 'أنتَ منذ اليوم' ـ ماذا يعني لك؟ وأنتَ الحائز على عدد من الجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية عن القصة القصيرة، وجائزة الدولة التشجيعية للرواية؟


*أفرحني ذلك واعتبرته تأكيداً إضافياً لخصوصية الرواية. غير أن الحصول على جائزة جديدة، بقدر ما يعني في جوهره تقديراً مُعْلناً للإنجاز الكتابي الفائز بها؛ فإنه يشكِّلُ لي على الصعيد الشخصي تحفيزاً وحَثّاً لمواصلة مسيرة الكتابة التي بدأت قبل ثلاثين سنة. كأنما الجائزة تجديدُ اعترافٍ بحصيلة الجهد السابق، وكذلك هي إشارةٌ إلى ' جدوى الكتابة' كما أفهمها، وعلى نحوي الخاص، خلال حِراكها في بيئة اجتماعيّة أدارت ظهرها للثقافة وللمثقفين منذ زمن، للأسف. الجائزة تشير إلى معنىً باتَ غائباً، أو مَنسيّاً، أو مشكوكاً به وسط مجتمع تفسَّخَت منظومة قيمه السابقة، وأحَّلَ محلها تبجيله العالي لمعنى الاستهلاك، والسلعة، والمال. وكل ذلك كان على حساب الإنسان الفرد في جوهره الرافض لأن ينمسخ فيتحوّل هو نفسه إلى سلعة قيد الشراء!


الجائزة تَدُّلُ على حصيلة تلك المعاني. كما أنها نقلة تتحداني في كتابتي المقبلة.


*لندخل بوابة الرواية: من أين انبثق عنوانها؟ هناك سؤال عن معناه لمن لم يقرأ الرواية بعد، خصوصاً من جهة المفهوم الديني المسيحي؟


* لطالما كان لمفردة ' اليمبوس' وقْعها الجاذب لي. أوّلاً لغرابة الاسم وإثارته لمخيلة الصبي الذي كُنتُهُ حين تلقيته لأوّل مرّة في درس الدين. كان ذلك في مدرسة ' الفرير'، في القدس، وهي تابعة لرهبانيّة كاثوليكيّة متبنّية لمفهوم اليمبوس، بينما لم أكن قبلها قد سمعتُ به، إذ جئتُ من أُسرة أرثوذكسيّة يونانيّة الانتماء. وثانياً؛ لأنَّ اليمبوس منطقة رحيمة ناسَبَت مخيلة الصبي وروحه؛ فهي رَحْبَةٌ تثيرُ فيه حيوية تشكيل ما يشتهي من صُوَر. ليست الجَنّة وليست الجحيم، حيث رُسِمَ هذان العالمان على نحوٍ قاطع ومفهوم. أما اليمبوس، فعالَمٌ ثالث كَسَرَ ثنائيّة الأبيض والأسود، والخير والشَّر، متيحاً لِمَن ليسوا هنا أو هناك حيّزاً للخلاص!


وكذلك، لأنَّ حالة ' الما بَين' شَكّلت لي موضوعةً مركزيّةً في الروايتين السابقتين ـ وعَلّها أحد ملامحي الداخليّة الغائرة عميقاً داخلي، حيث تتم ترجمتها في رفضي الدائم لأن أكون عند واحد من موقفين متناقضين يزعمُ كل واحد منهما حيازة ' الحقيقة'. فالعالَمُ أكثر رحابةً وأوْسَع مدىً وغَنَيّ ٌ بالتعدد، وأنا لا أطيق اختزاله ( وبالتالي اختزالي) في نقطتين وحيدتين حين الاحتكام إلى منطوقهما فتستقر ' حقيقته' في نقطةٍ واحدة فقط! ـ أقول: ما دامت حالةُ 'الما بَين' موضوعة مركزيّة في العملين السابقين، والرواية الأخيرة هي ثالثةُ هذه الثلاثيّة غير المُعْلَنَة؛ فإنَّ ' اليمبوس' كجزء من عنوانها أو اسمها سيكون إعلاناً مضمراً وصريحاً في الوقت نفسه لجوهر المعنى الكامن فيها. إضافةً إلى مجاورة ما هو مادي ومحسوس في مَشاهد القدس، ورهبان المدرسة، والأرض الحَرام بين القدس الشرقيّة والغربيّة قبل الاحتلال، لِما هو مَجازي بحيث تتسّع الدلالات ويغتني التأويل.



كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ



* ' اليمبوس' هي المنطقة الوَسَط، بحسب المفهوم الكاثوليكي، أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم، أو ' منطقة الما بين'. إلى أي مدى تتشابك وتتقاطع مع ما يُسمّى ' المنزلة بين المنزلتين' عند المعتزلة، وهي أشهر الفِرَق الاسلامية؟



*في الحقيقة أنا لم أفكّر، عند كتابة الرواية، بمقولة المعتزلة ' المنزلة بين المنزلتين'، رغم معرفتي المنهجيّة بها؛ إذ كانت مثلها مثل ' اليمبوس' مصدر جَذب، ولكن لإعمال العقل هذه المرّة لا المخيلة ـ فلقد كبرَ الصبي الذي كُنتُهُ وباتَ شابّاً يدرس الفلسفة كتخصصٍ أساس. وعَلَّ صداها كاجتهادٍ عبقري انشبكَ مع اليمبوس دون وعيٍ حاضر، مما نتجَ عنه موقفي حيال مسألة الاختيار المرفوض مني لأن أكون هنا .. أو هناك! لا شك، ثمة تقاطُع وتَدَاخُل بين هذين المفهومين رغم اختلاف المصدر والغاية. فـ'اليمبوس' اجتراحٌ لاهوتيٌ أُتيَ به من أجل إيجاد حَلٍ لمعضلة المصير ما بعد الموت لفئةٍ من الناس. بينما ' المنزلة بين المنزلتين' اجتهادٌ عَقليٌ خالص احتكمَ إلى المنطق الفلسفي ليطرحَ مَخْرَجاً لثنائيّة منزلتي الإيمان والاجتهاد، أو التوفيق بين النَقْل والعقل.



ابنُ عمّان بامتياز



* كتبَ عنها كثيرٌ من النقّاد والكتّاب مشيرين إلى أنها تمس التطور الاجتماعي والسياسي لعمّان، وتشابكها مع القضية المركزيّة (فلسطين)، كيف تمكنتَ من الجمع بين العام والخاص بشفافيّة واضحة؟


*أعتبرُ نفسي ابن عمّان بامتياز، وكثيراً ما رددتُ على الملأ بأنني ' كائنٌ عَمّاني'. ولأنني هكذا، ولأنَّ عمّان هي الحاضنة الأكبر في الأردن لجميع الحشود الاجتماعيّة الآتية من أُصولٍ ليست أردنيّة خالصة ( وأنا من ضمنها)؛ كان أن توفَرَت لي الرؤية القادرة على ملاحظة تسلسل التطور الاجتماعي والسياسي لها كمدينةٍ جامعة وصاهرة.


فالخاص والعام في داخلي منسجمان متداخلان يثير الواحدُ منهما الثاني، فيتحوّل التاريخ الشخصي ليكون تاريخ الجماعة، مثلما يتماهى تاريخ الجماعة بتاريخي الشخصي. وربما حين التدقيق بحالةٍ كهذه، يصيرُ لي أن أُفَسّرَ مقولةً كنتُ أطلقتها قبل أكثر من عشر سنوات، ومفادها: ' أنا ابنُ عمّان، لكني أحد بُناتها في الوقت نفسه!' فكيف لا يحدثُ التشابك داخل النصّ بين عمّان وفلسطين بينما الشخصيات الفلسطينيّة، بما تمثّل كحالاتٍ خاصة ليست منفصلة عن حالة الهجرة الكبرى والتهجير القسري، تعيش معي وأتعايش معها يومياً، حيث نتبادل الخبرات والحكايات؟ حينها، تتحوّل حكاياتها لتصبحَ حكاياتي أنا، وبها أبني ذاكرة المدينة التي ترتبط بآصرة المصير مع فلسطين وقضيتها: ففلسطين قضية شعب وأرض، وها الشعب معي وفي داخلي مثلما يتنامى خارجي جيلاً بعد جيل، ويشاركني في بناء عمّان وتأثيث ذاكرتها الجمعيّة.




التنويع على مبدأ التشظية



*تعتمد أسلوب الاسترجاع ـ الفلاش باك ـ في كتابتك الروائية، وهو أسلوب سينمائي يصور ويستشرف ويشرح، فضلاً عن تعدد الأصوات، الغائب منها والحاضر. إلى أي مدى استلهمتَ السينما في روايتك؟


* لطالما كانت السينما أحد عناصر تكويني التخييلي. أذكرُ أن أبي اعتاد القول كلّما طلبتُ منه السماح لي بالذهاب إلى السينما حين كنتُ صبيّاً: ' أنتَ إذا عصرتكَ، فلسوف تخرجُ منكَ الأفلام!' كان ذلك منذ بداية وعيي على العالم، فبدوتُ وكأني أوائمُ بين هذا العالم ' الواقعي' والعالم ' المتخيّل' كخيالات تتحرك على شاشة السينما، بحيث امّحت المسافة بينهما فشكّلا عالماً واحداً في داخلي.


بالكتابة، وهي عمليّةُ حَفْرٍ أمارسها لداخلي غالباً، تستحيلُ مَشاهدُ الرواية إلى مُقتَطعات قائمة بذاتها ـ إنْ قرأناها هكذا. وكذلك، يمكن من خلال وعيٍ فني وقدرة تأويلٍ ورَبْط أن تنشبك تلك المَشاهد المقتطعة لتشكّلَ بانوراما الرواية بكافة مستوياتها. وكما أرى، فإنَّ تقطيعاً سينمائيّاً ( مونتاجاً) أصاب الرواية، فساعدني في التنويع على مبدأ التشظية للزمان، وللشخصيات، وللأحداث.



المرأة تُناقِضُ الحربَ!



الدمج بين المرأة والحرب، في مستهل الرواية وفي خاتمتها؛ كيف ينظر الروائي فيكَ للمرأة؟ وما العلاقة بينهما، بين المرأة والحرب؟


* ربما يشكِّلُ صوت الروائي القابع في داخلي بلاغةَ أو انكشاف المعنى الذي أختزنه للمرأة. وربما هي المرّة الأُولى التي عثرتُ فيها، عبر الكتابة، عن طبيعة الصِلة الواصلة بينها وبين الحرب. هنالك تلازُمٌ بينهما على امتداد الرواية، اعترفتُ من خلاله ببديهيّة أنَّ المرأة تُناقِضُ الحربَ في كونها عنصر إخصابٍ ومساحة لواذٍ للرجل، بينما تمثّل الحرب العنصر النافي، والمدّمر، والقاتل، والإجداب. فغالباً، وعند ورود الحرب في المَشهد، أجدني باثّاً فيه المرأةَ كأنما هي ملاذي وعلى صدرها أبيحُ لبوحي عن ضعفي حريّة الانطلاق.


غير أنَّ هذا ليس إلاّ وجهاً من وجوه التقابُل بينهما، وهو تقابُلٌ ضِدي ومتكرر وعام. الجديد الذي أتت به الرواية، عبر الكتابة وليس قبلها كفكرةٍ مسبقة، كان كشطي لهذه الطبقة من العلاقة وإظهار أنَّ التلازم لا يكون بالضرورة، ودائماً، تلازماً لعنصرين أو كينونتين متناقضتين. فالحربُ، بالنسبة للرجل، هي امتحانه لرجولته وذكورته حيال المرأة. ثمة ما يقاربُ التوتر في المساحة بينه وبينها. وغالباً لا يستند هذا التوتر إلى ما يُفسّره ـ وأنا أقصد الرجل هنا ـ حيث انه كلّما تخطاها مقترباً منها وداخلاً عالمها، باتت هي الكاشفة له عنه لا عنها!


بالحربِ نمتحنُ جوهرنا الصامد أمام محسوس الموت ومَجازه. وبالمرأة نفحصُ جوهرنا الحائر حيال ' الفكرة / الإرث' أننا، كرجال، الأطول صبراً والأنفذ فكراً والأكثر حكمةً والأقلّ عاطفة. وهنا تحديداً نسقطُ، كرجالٍ بالعموم، في الامتحان؛ إذ كانت ' مريم' أو ' ماسة' أو ' العَمَّة' أو ' منتهى' الذوات الأسطع حضوراً من شخصيات الرواية الذكوريّة! فنحن، عبر علاقتنا ذات الأوجه المتعددة بالمرأة، نفاجأ بأننا لحظة اعتقادنا باقترابنا منها إنما نكون اقتربنا فعلاً من عَرضنا لأنفسنا دون مبالغة على شاشة وعيها.


العلاقة بين المرأة والحرب لدى الرجل علاقة ملتبسة تحتمل أكثر من وجه، وتحمل أكثر من معنى، ولهذا كانت وستبقى موضوعة أساسيّة من موضوعات الرواية المتحركة في فضائهما.


*ماذا بعد ' اليمبوس'؟ وهل تخشى خوض حرب رواية جديدة قد تتفوق أو لا تتفوق عليها، خصوصاً وأنها حظيت بعناية نقديّة و' جوائزيّة' فائقة لم تحظ بها أي من روايتيك السابقتين؟


* نعم. باتت ' أرض اليمبوس' أرضاً تتحداني وتتحدى أي مشروع كتابي أُقْدِمُ عليه. وهذا ليس بالأمر الهيّن أبداً؛ إذ عَليَّ ارتقاء قامتها أو جدارها والنظر إلى ما بَعدها بتجاوزها. علّمتني هذه الرواية أنَّ مفهوم ' التواضُع' ليس مقبولاً في الفن، وأنَّ ' غرور التفوق' يشكّلُ شرارةَ إشعال.


*هل تؤمن بأن الجوائز وسيلة مُثلى لتحفيز الإبداع؟


*قد لا تكون الجوائز بذاتها هي الوسيلة المُثلى، لكنها تشكّل في حالة الفوز بها تحفيزاً مباشراً للكاتب؛ إذ هي، مثلما تتبدّى لي، عامل تحدّ ٍ واستفزاز للخروج على ما تم إنجازه والتجديد والتجويد فيه وعليه. وأيضاً؛ طرح مسألة مُساءلة الذات الكاتبة عمّا سيكون منها في عملها القادم؟ فمن الطبيعي أن يعتبر الكاتب الواعي الجائزةَ إشارة تحفيز إضافةً إلى التقدير، وليست بأي حال تتويجاً، كما هي ليست عَزْفاً ' للّحن الرجوع' أو خِتام المشوار.


*هل لهذا التحفيز دوره في تحفيز القرّاء أيضاً، في ظل هروب معلن نحو وسائل أخرى؟


*استناداً إلى ما لاحظته وعاينته، كان للإعلان عن روايات القائمة القصيرة فور ذيوعها، أن عملت على تحفيز الطلب عليها بُغية الاطلاع والاكتشاف ـ أو تلك التي لم يكن قارئ الروايات عموماً قد تنبّه لها سابقاً ـ بسبب عدم توفرها في بلده، أو لعدم قراءته مراجعات لها في الصحف والدوريات التي اعتادَ تصفحها. ولقد صادَفَ وقتها أن كان تاريخ ذلك الإعلان اليوم الرابع أو الخامس من أيام معرض القاهرة للكتاب، فولدت ظاهرة الطلب على جميع الروايات والسؤال والبحث عنها. كأنما التوق للمعرفة لدى عدد كبير من القرّاء كان ينتظر ما يستفزه فظهر.


بيعت جميع النسخ المتوفرة من الروايات التي شاركت دور نشرها في أجنحةٍ لها داخل المعرض، ومن ضمنها رواية ' أرض اليمبوس' في جناح دار ' أزمنة'. كما بيع منها 450 نسخة في طبعتها الثانية من جناحي دار ' أزمنة' و' المؤسسة العربية للدراسات والنشر' في معرض أبو ظبي.


نعم، للجوائز دورها التحفيزي، كما لها دورها المؤكد في إثارة التساؤل والفضول عن روايات، وربما عن روائيين كانوا غائبين عن ذاكرة أو معرفة القارئ العام، فباتوا بسببها وباتت رواياتهم محل قراءة ونقاش وتقييم.


*كيف ترى إلى دور الكتابة، خصوصاً وأن البعض يقول أنها أصبحت غائبة وغير ذات تأثير يُذكَر؟


*علينا أن لا نخدع أنفسنا بخصوص دور الكتابة في المجتمع. فنحن حين نتطرق لمفردة ' دور' ينبغي أن نَعي أولاً إنْ كانت للكتابة مكانتها بين أفراد المجتمع، وكم هي منتشرة بمنتوجها المتمثّل في الكتب بينهم. إذ ليس من المعقول أو العملي قياس دور الكتابة في التأثير إذا لم يكن الكتاب، كحاملٍ لها، مُدرَجاً على أولويات المجتمع. حينها، ولكي نتحلّى بالشجاعة الأدبية ومواجهة الحقيقة كما هي، علينا القول بأن لا دور حتّى للأعمال الفائزة يمكن الإشارة إليه أو إلى مداه وسط شروط حياتية كهذه.


نحن ما زلنا، ككتّاب وقُرّاء عرب، نتحرك على هوامش المجتمعات الغارقة بتدبير شؤونها اليومية المعيشية التي تزداد صعوبةً واستيلاءً على أوقاتها، وهمومها، وطموحاتها، وتوقها لحيازة تجليات الجَمال... ومن ضمنها حيازة منتوج الكتابة = الكتاب والاستغراق في عوالمه.


*وكيف ترى علاقة الروائي بالأحداث السياسية التي مرّت وتمّر بها المنطقة العربيّة؟


*ردّاً على سؤال مُعِدّ ومذيع أحد البرامج الثقافيّة في إذاعة أجنبيّة عن السبب وراء انشغالي بالحروب والسياسة في رواياتي كلّها، بما فيها ' أرض اليمبوس'، كما في روايات عربيّة أُخرى كثيرة، أجبته بأنه من المستهجَن أن لا ننشغل بذلك في كتاباتنا. فكيف يمكن لنا أن نتغافل عنهما في حين كانا السبب الرئيس في رسم طبيعة حياتنا العربيّة، كجماعات وأفراد، وأيضاً في قوة تأثيرهما على مصائرنا!


نحن، بالإجمال، نشكّلُ الحَصاد المُر لأكثر من ستين عاماً من السياسة الفاشلة والحروب الخاسرة. نحن، كأفراد، شخصيات أعطبتها التفاصيل السياسيّة لَمّا تجلَّت في طبيعة العلاقة الشائكة بينها وبين السلطات والحكومات والأنظمة القائمة على تسيير وتيسير شؤون هزائمها. نحن، كمجتمعات، نُصاب بالتشوهات والنمو المنقوص دائماً والمعكوس نتيجةً لهيمنة التخلّف والاستبداد الداخليين من جهة، ولهيمنة القوى الكبرى على دولنا بإملائها لـ' سياساتنا' العرجاء العمياء والعاجزة!


علاقة الروائي العربي بالأحداث السياسية علاقة عضوية بكل معاني الكلمة. ومن جهتي؛ شكلَّت تلك الأحداث المناخات الدائمة التي أنتجت شخصياتي الروائيّة، والتي تحركت فيها وعاشت تتنفس هواءها الملوث بالخسارات، كما كانت الفاعلة والحافرة فيها إذ تجَلَّت كخلفيّة تؤشّر على تحولاتها.


أنا لم أكتب عن الأحداث السياسيّة والحروب، لكنني كتبتُ عنهما في قوة فعلهما داخل الشخصيات وتأثيرهما الكبير في تكوينها. لا مهرب لنا، كروائيين عرب، من السياسة وإن اختلفنا في كيفيّة معالجتها.


*كيف تشعر إزاء أبطال رواياتك الذين يعانون غالباً من بؤس الحياة وظلمها؟


*الحياة ذاتها ليست هي البائسة والظالمة، بل القائمون على التحكم بتسيير مجتمعاتنا والعالم هُم مَن يحوّلون جَمالها ومفرداتها الرائعة إلى مسلسل لا ينتهي من البؤس، فيقع الظُلم بشتّى مسمياته: الظُلم الاجتماعي، القهر السياسي، السحق الاقتصادي، فتكون الحصيلة بالتالي إنتاجهم لعالَمٍ يُدار وفقاً لقانون الغاب: الأقوى يبطش بالأضعف ويعمل على نهشه، ليصل البعض مِنّا إلى تمني الموت لكي لا يشهد هذا الانحطاط الإنساني المريع!


أبطال رواياتي أبطالٌ مهزومون مقهورون غالباً. أبطالٌ لا يملكون من البطولة إلاّ ما استطاعوا الاحتفاظ به من إنسانيتهم ـ وهذا يكفي لمعاينة القليل من الحُب المفجوع، والدفء المنقوص، والقُبلات المحترقة الشِفاه، ولمسات الحنان المضروب: هذا يكفي لأن أُصَفّق لهم وأن أرثي أحلامهم النائسة في آن.


* لِمَن يكتب إلياس فركوح؟


*إلياس فركوح يكتب لنفسه أولاً، ومن داخله، وفي داخله ـ وهو بسبب ذلك إنما يكتبُ لكِ ولكل مَن يرغب مشاركته هذه المدونة الشخصيّة الخاصة. فإنْ تحققَ له أن حازَ على قارئ أو أكثر؛ فإنه يكتب لهم. إنه يكتبُ لقُرّاءٍ محْتَملين يؤمن بوجودهم رغم جهله بهم.


باختصار: إلياس فركوح يكتبُ لِمَن يرغب في أن يقرأ، وبشرط المَحَبّة.

قديم 05-31-2012, 10:47 PM
المشاركة 757
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كتب عن : أرض اليمبوس بتاريخ 2007/10/29
لماذا يـلجأ الـكاتب الى كتابة الحياة الشخصية؟ - روائيون أردنيون يجيبون بقلم حسين جلعاد - جريدة النهار نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة فركوح.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
عمايرة. خريس.
شهدت الأعوام الأخيرة ميل بعض الكتّاب الاردنيين الى الاتكاء على السيرة الذاتية، الذين أخذوا يغرفون من حياتهم الخاصة، ويصدرونها في روايات ونصوص سردية. السيرة الذاتية ليست موجودة هنا بوصفها فنا يؤرخ للذات؛ بل هي "حوادث" روائية، أريد لنا نحن القراء أن ننظر إليها بعيون مفارقة. فما يُكتب هو أدب بقدر ما، لكن ثمة إيحاء مرةً، وتصريح مرةً أخرى، بوجود الكاتب في النص. وليس ملائماً وفق معادلة "التخييل" الرجراجة وحالة المخاتلة العامة، أن نحدد ما هو "أدبي" وما هو "سيرة".
مسألة كهذه قد لا تعدّ ظاهرة جديدة في تاريخ الأدب. إنها سؤال نقدي، وربما فكري، مطروح منذ عمر الكتابة نفسها. وقد انقسمت حولها نظريات عدة، فظهرت نظريات في الأدب الملتزم والواقعي، ونظريات أخرى محورها "الفن من أجل الفن".
في عصر ما بعد الحداثة، وما بعد النص، وما بعد الشمولية، بدا أن الصخب الايدولوجي هدأ، واصبحت الكتابة حقيقة تختص بالكاتب وبطبيعة الكتابة أكثر منها جزءا من بناء اجتماعي وثقافي عام. لكن ثقافة التخصص و"الميكروسكوبية" في عصرنا الالكتروني الصاخب هذا، لم تقترح بعد إجابات متماسكة حول السؤال: لماذا يلجأ الكاتب الى حياته الشخصية لكتابة أدبه؟ سؤال نطرحه على كتّاب أردنيين تتفاوت أعمارهم وأجيالهم وإنجازاتهم الأدبية.
الروائي والقاص إلياس فركوح يُعدّ من رموز الكتابة الأردنية، وهو واحد من جيل يشكل الآن صدارة الرواية في الأردن. حملت أعماله ما يمكن وصفه بـ"رؤيا جيل" كامل، أولئك الذين وسموا بنكبة فلسطين عام 1948 وحملوا لاحقا نكسات العرب وانهياراتهم. هذه الموضوعات ظهرت بقوة في أدب فركوح وخصوصا في ثلاثيته الروائية: "قامات الزبد"، "أعمدة الغبار"، و"أرض الينبوس"، وهي الأحدث والأكثر قربا، وربما التصاقا بشخص فركوح، الذي يتعين حضوره في الشخصية الرئيسية، بقليل من المجاز والكناية والتمويه!
في الإجابة على السؤال يقول فركوح: "إذا ما اتفقنا من حيث المبدأ على أنّ الحياة لا تتعيّن "موضوعاً"، في الفن كما في الحياة، إلاّ بوجود "ذات" لا تعاينها فحسب، بل تعيشها كشرطٍ يوجب التلازم معها، فإنّ لجوء الكاتب إلى حياته الشخصيّة لكتابة أدبه يصير أمراً مفهوماً". ويرى فركوح ان المفهوم (concept) يتوجب النظر إليه "ليس باعتباره حجّةً، أو ذريعةً، أو مبرراً، وإنما هو حالة تكتسب مشروعيتها واستقلالها ضمن الكتابة المتصلة بالواقع الممسوك من خلال شخص يقع في القلب منها إلى درجة يتحوّل إلى موشور لها بكل المعاني".
وبحسب هذا "المفهوم"، كما يقول فركوح، "تنتفي الذاتية أو الشخصنة عن كتابةٍ كهذه"، لتكون هي بذاتها "واقعاً آخر ممهوراً ببصمة كاتبها وتوقيعه". ويبقي فركوح أجابته مفتوحة إذ يقلب السؤال ويقول: "أهي رؤية/ رؤيا للعالم، أم "تذويتٌ" له؟ أهو "حَرْفٌ" لوقائع العالم الحقيقية، أم "تحققٌ وتحديقٌ" لعالمٍ طاله الحرف والتزييف في وقائعه؟".
الروائية سميحة خريس حاضرة بقوة في المشهد الروائي الاردني الراهن، كما أن شخصيتها حاضرة في ما تكتب. في روايتها "الخشخاش" تحضر باسمها وشخصها بوصفها شخصية عامة تظهر على التلفاز في حياة الشخصية المركزية في الرواية. وتحضر أيضاً في أحدث رواياتها "امبراطورية ورق: نارة"، حيث تخبرنا الشخصية الروائية التي تدور الرواية حولها انها أوكلت الى الصحافية سميحة خريس مهمة كتابة سيرة حياتها بعدما استبعدت كتّابا مشهورين في الحياة الثقافية الاردنية وناقشت معنا اسماءهم واحدا واحدا.
تمهّد خريس لإجابتها بنفي السخرية من سؤال الذات والكتابة، لكنها تسرّب استنكارها من طرح مسألة كهذه: "لا اقصد السخرية بقدر ما أسأل بصورة جادة: من أين إذاً يستقي الكاتب كتاباته إذا لم يكن من حياته؟ بالطبع ليس من حياتك مثلاً"، لتضيف: "حياة الكاتب تعني مجمل معرفته وتجربته وهي الحقل الذي يتحرك فيه، فكل ما عرفه من مواقف وأشخاص، وشاهده وقرأه وفهمه أو غاب عنه هو حياته، فنحن لا نصدر عن فراغ ولسنا نبتاً شيطانياً، ولا يقودنا التخييل إلى ما هو خارج هذا الكوكب".
القاصة جميلة عمايرة، والتي تعد واحدة من أبرز الجيل التسعيني في القص، تبدي حيرة مشوبة بالشغف تجاه كيمياء الكتابة والحياة: "لا اعرف كيف يحدث للكاتب ان يصطاد نفسه، ليوقعها في شباك من صنع يديه. شباك الكلمات، تتحول الذات الكاتبة او الساردة معها الى ذات مسرودة: تراقب وتعاين وتسرد اناها بمنظور جديد، بأحلامها وانكساراتها ورغباتها غير المتحققة اصلا في مجتمع اسمه الشرق".
وترى عمايرة أن تحولا يطرأ على الذات وعلى الموضوع معا، لحظة يبدأ تخليق النص: "تبدأ الذات الجديدة التي تحضر في النص بالظهور بأشكال وصور قد تختلف عن ذاتها، لكنها في الجوهر تشبهها او تحاول ان تكون ندا قويا لها، واحيانا تحضر بصورة احلام وكوابيس سوداوية".
الكاتب نادر رنتسي من أحدث الكتّاب سنا، ويمكن وصفه بأنه من كتّاب الألفية الجديدة، فلم يكد يغادر مقاعد الدراسة الجامعية حتى أصدر مجموعة قصصية وثقت تجربة ذاتية في الحب، ثم أتبعها بكتاب ثان هو "زغب أسود/ الرواية الناقصة". وفي كتابه الجديد يفصح رنتسي صراحة عن ذاته، ويجيء على ذكر اصدقائه وحياته الشخصية.
رنتيسي له وجهة نظر في ذلك إذ يقول: "لو أتيح إجراء مسح لأهم الروايات التي كتبها أهم الروائيين والقصاصين في العالم لوجد أن أكثر تلك الاعمال إثارة للجدل تلك التي كانت سيرة ذاتية صريحة أو مواربة. أكثر ما يدعم الاجابة المفترضة هو أن القراءة البوليسية، للقراء والنقاد معا، لأهم الاعمال الروائية والقصصية وقياسها على حياة كتّابها، تشير إلى رغبة المتلقي دائما، عاديا أكان أم استثنائيا، في البحث عن معادل واقعي للكتابة حين تتفوق على الواقع بأقصى حالاته غرابة وقسوة وجرأة". ويقول رنتيسي إن ذلك "اجتهاد لبعض ما تبنته مدرسة التحليل النفسي في محاولة الاحاطة بتعريف الابداع بأنه محصلة لتفاعل ثلاثة متغيرات للشخصية: الأنا والأعلى والهو". وهو، بحسب رنتيسي، ما يزيد من اللبس بين الكاتب وشخوصه.

شجاعة أم فقر في الخيال؟
بعض التنظيرات تذهب الى أن الاعتماد على الواقع الشخصي في استلهام الأدب يُعدّ جرحاً في مخيلة الكاتب، فيما يراه آخرون جرأةً وإغناءً للنصّ. فكيف ينظر الكتّاب الاردنيون إلى المسألة؟
يرى فركوح في المخيلة "ما هو أبعد من مجرد الاختلاق والاختراع والكذب الجميل"، ويقول ان المخيلة الأدبية تعني كذلك، "الأخذ بواقعة شخصية وإعادة تركيبها لأتمكن من إشباعها بدلالات لم تكن لتتحلّى بها في الأصل. وإني، عبر متوالية هذا الفعل، أكون اخترعتُ شخصيةً أخرى ليست أنا بكل تأكيد، تماماً مثلما لم تعد الواقعة الجديدة تملك تحديدات أصلها وحدوده في الواقع الذي جُلبت منه".
ويقول فركوح ان ما بين عمليتي "الجَلْب" و"الجَبْل" ثمة مسافة من "التخييل يتطلب تعبئتها بما هو أكثر من مجرد الخيال الواسع"، اي "بمخيلة مثقفة ترى إلى باطن ما تعنيه التغيّرات الحاصلة في جملة الجبلة الحادثة وفي تفاصيلها"، موضحاً "أنّ ذلك يتجاوز محددات الشائع عن "الجرأة"، بمعنى التجاسر على كشف المستور من سيرة الشخص، بما يعني، بدوره، السير في اتجاه "الفضيحة" أو ما يظللها في عيون مجتمعاتنا المحافظة. إنها جرأة الخروج على مألوف الكتابة، وعلى مألوف مفهومها، وعلى افتراضات الواقع، والأهم: الخروج على مفهوم الخيال والمخيلة".
وتؤكد خريس من جهتها أن كتابة حوادث لصيقة بالكاتب "ليست فقراً في المخيلة إذا كان في تلك التفاصيل ما يستوجب الخوض فيه ويثري المعرفة العامة". وتضيف صاحبة "شجرة الفهود": "لا شك أن هذه جرأة كبيرة وشجاعة أن يسمح المرء للعيون بالتلصص على أدق خصوصياته، وهو أمر صعب في مجتمعنا، لأن هناك من يسمح لنفسه بالحكم الاخلاقي على الخلق، وهناك من يتردد في تقويم المكاشفة".
وترى خريس أن مسألة كهذه ليست مطروحة حين يتعلق الموضوع بالحديث عن كتّاب الغرب، وهي تستنكر الاشادة "بالافصاح الذي يمارسه كاتب غربي"، فيما "يُذمّ الكاتب العربي إذا أقدم على ذلك". وتؤكد أن حالة الازدواجية هذه تزداد "قسوة وتخلفاً في التحليل والتقويم، إذا كان الكاتب انثى"، لافتةً الى أن "هذا الأمر سيشهد اندحاراً حقيقياً بسبب شجاعة الكاتبات وإقدام الكتاب إزاء حياتهم الخاصة، أما من ينكفأ فهذا يعني ضعفاً في تكوينه ككاتب وقدراته على رفض السائد والمتعارف عليه".
القاصة جميلة عمايرة، التي أصدرت حديثا كتابها الجديد "بالابيض والاسود"، بعد ثلاث مجموعات قصصية، تعترف بأن نصها الجديد ملتصق بذاتها، وتقول بدون مواربة إنه "مرثية للذات والاحلام في واقع لا يعترف الا بالظاهر"، وتضيف أن كتابها الذي جاء كرواية قصيرة يعتمد "على الذات الساردة التي توظف ضمائر متعددة لتتحدث عن نفسها عن الماضي، عن الاحلام بالمناجاة حينا والبوح والاختلاء مع النفس حينا آخر؛ لتدور الفكرة الرئيسية عن علاقة الذات مع الاخر المهيمن الذي يملك حق الاقصاء والادناء، انه الاسود الذي سميته في النص امام نقاء الابيض وطهارته".
وتعلن عمايرة صراحة أن الكتاب "سيرتي غير المعلنة، وجهي كما رأيته في مرآتي، لتحضر سيرتي كما عاينتها وعشتها؛ فلا كتابة خارج الذات"، لتقرّ بأن الكتابة من حيث المبدأ هي "محاولة للخروج الى فضاء الحرية"، لكنها بحسب وصفها، تظل "مسوّرة بالذاتي". هذا السور يتأتى من "الخسارة والجرأة وألم الفقدان"، ولهذا فإن الذات تحاول ان "تلجأ الى الاحلام كوسيلة من وسائل الحماية من دون اهدار او اقصاء او مصادرة او تنظير". إنها "احلام تستند في جوهرها الى حياة الساردة الشخصية والنفسية بكلمات تقطر بالصدق والمكاشفة التي تحبذها الأنا الساردة".
يقول رنتيسي إنه تردد كثيرا في كتابة صادمة حول تجربة شخصية، ما دفعه إلى "تقديم مجموعة قصصية على كتاب يتطرق إلى تفاصيل دقيقة للجسد والروح في إطار علاقتين عاطفيتين"، ويعترف: أحسب أني كنت قاسيا على نفسي"، ويرى أن الكتابة إذا كانت "مقياسا شديد الدقة لمدى عمق تجربة الكاتب، وتعدد حيواته؛ فإنها أيضا حين تتجه إلى الذات تخرج بصدقها وجرأتها عن كونها فعل استشفاء ونقاهة أو ممارسة باردة على شرشف أبيض، واستدراكاً سريعاً للحياة، وزهداً كاذباً بالمرأة التي ذهبت"، مستنتجاً أن التخليق الأدبي في المحصلة "مجرد ورقة في اضبارة مريض على أتم الاستعداد للشفاء

قديم 05-31-2012, 10:50 PM
المشاركة 758
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كتب عن : أرض اليمبوس بتاريخ 2009/10/10
الواقعي والمتخيل في "أرض اليمبوس" لإلياس فركوح بقلم د. محمد عبد القادر عمان- تمثل رواية أرض اليمبوس لإلياس فركوح، والتي وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة "البوكر" للعام 2008، نموذجاً للسمات المميزة للرواية الجديدة أو لرواية "الحساسية الجديدة" على حد وصف إدوارد الخراط. وبصدور هذه الرواية يكون إلياس قد أبدع ثلاثية روائية بدأت بـ"قامات الزبد"، تلتها "أعمدة الغبار"، ثم "أرض اليمبوس"، لتشكل في مجملها مشروعاً روائياً نهل فيه الكاتب الكثير من مكوناتها الفنية، من تجارب ذاتية، هي في حقيقة الأمر ليست ذاتية محض، بقدر ما هي حصيلة لذاكرة جماعية أيضاً. ومن هنا تبرز إشكاليتان أساسيتان فيما يتصل بكتابة إلياس فركوح الروائية: الأولى: هل يظل النص السردي المرتكز الى السيرة الذاتية عملاً ينتمي بجدارة الى عالم الرواية؟ والثانية: إلى أي مدى يشكل الواقع متن الرواية، وأي دور للمخيلة في إنتاج رواية فنية يلعب فيها التخييل دوراً رئيساً في إنتاج العمل الفني؟
إن قولنا أن إلياس عكف على كتابة مشروع ثلاثية روائية – حتى الآن في أقل تقدير – يدعونا الى توضيح الصلة الأساس بين رواياته الثلاث:
في قامات الزبد يرسم الكاتب ملامح مرحلة معينة تبدأ بانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وتواجدها في كل من الأردن ولبنان باعتبارها رداً على هزيمة حزيران 1967 مروراً بأيلول 1970، وحرب تشرين 1973، وسقوط مخيم تل الزعتر في عام 1976. على أن السرد الزمني في الرواية لا يتسم بهذا التسلسل التاريخي المتصل، لعلاقة ذلك بالأداء الفني، وكذلك الحال في الروايتين التاليتين.
ثم صدرت أعمدة الغبار، لتتناول مرحلة أعقبت سقوط تل الزعتر، ثم زيارة السادات لفلسطين المحتلة، واندلاع الحرب العراقية-الإيرانية ثم الحصار الاسرائيلي لبيروت.
وها هي أرض اليمبوس تستكمل بعض الحلقات عبر تداعي السيرة بدءاً من الولادة في العام 1948 والتنقل ما بين عمان والقدس، ثم سقوط القدس الشرقية في العام 1967، وامتداد السيرة حتى مشارف اندلاع الحرب على العراق في العام 1991. ولست أزعم بذلك اكتمال المشروع الروائي لالياس فركوح، فالحياة ما تزال زاخرة بالتجارب الفردية والجماعية وإن كانت ذات طبيعة مأساوية في غالب الأحيان.
وما يدل على مشروع الثلاثية الروائية أيضاً، هو البناء السردي المتشابه الى حد كبير في الروايات الثلاث، وهو بناء قائم على تفجير الفضاءات الروائية بأمكنتها وأزمنتها وأحداثها وشخصياتها، ليقدم لنا الكاتب عالماً من التشظي والتفكك والانقطاع، وبالذات ذلك الانقطاع الوجداني الإنساني الذي يخلفه انقطاع مسار الذاكرة. كما أن الروايات الثلاث تحمل الكثير من الآراء والأفكار السياسية والفلسفية والأدبية (الفنية) المشتركة، وليس هذا بغريب على كاتب ينهل في رواياته من عالمه الفكري والوجداني والثقافي والسياسي.
إن لفظة "اليمبوس" قد وردت في مغزاها ودلالاتها على لسان خالد الطيب في الرواية الأولى قامات الزبد، في سياق وصف دقيق للصراع الداخلي الوجودي الحاد الذي تعيشه الشخصية والذي عبر عن نفسه في "مونولوج" أو حوار ذاتي جاء فيه:
"أنت تقضي علي بترددك الدائم، بخوفك الخروج من نقطة الوسط. أتعرف؟ أنت في الوسط، وأنا ... أنا أريدك أن تقفز معي الى النقطة الأخرى. لكنك تكبلني. فلا أقدر على المغادرة".
ثم يتابع:
"أتهرب مني؟ تختفي في عتمة المرآة؟ سألاحقك وأقتلك عند نقطة جبنك. عند نقطة الوسط أيها الجبان. أيها الجبان لن تفلت مني مهما هربت".
على أن لفظة اليمبوس تولد بحروفها ودلالاتها في أعمدة الغبار:
"أدركت هي مساحة البساطة المثلى، تلك المفروشة في غور شخصيته، وتلك الواضعة إياه في منطقة "اليمبوس" الكاثوليكية: طفل لم يخطئ ليساق الى جهنم، لكنه لم يتعرض لماء المعمودية لينال خلاصه من جرثومة الخطيئة الأصلية، ويفوز بالجنة".
وظلت اللفظة في سياقها تعكس ثيمة من ثيمات الروايتين، حتى إذا ما صدرت "أرض اليمبوس"، وإذا بالفكرة تحتل المشهد بكامله لتغدو ليس فقط عنوان الرواية، أو عنوان قسمها الأخير بل عنوان مرحلة تصوّر أزمة أمة، ومأزق بناها الفكرية وقياداتها. إنها المراوحة عند منطقة الوسط. حين يستعيد السارد الشاب مرحلة من حياة الشباب الأول يقول لنفسه "علّني تورطت في منطقة الوسط، ما بين مناظر صالات السينما ونقاشات المقاهي عن آخر كتب قرأناها."
وهنا تكون منطقة الوسط تعبيراً عن غياب الوعي وغياب الطريق. ولكنها في سياق لاحق ستكتسب دلالات أخرى ذات صلة بالهوية حين يستدعي الشاب الباحث عن دور وطني فاعل السؤالين اللذين تلقاهما من مصدرين مختلفين:
لست منا فلماذا تكون معنا؟
لست منهم فلماذا تكون معهم؟
وهنا لا نتحدث عن شاب يقع ضحية نزق أو لامبالاة بل نرى شاباً وطنياً يواجه نماذج من الوعي البدائي المتمثل بالتمييز على أساس العرق أو الدين، أو أي شيء آخر، ليقذف به في منطقة اليمبوس.
ثم يبرز القسم الثالث تحت عنوان "اليمبوس" لتستقر الدلالة بأن جمهور الأمة ومثقفيها يقفون في الأرض الحرام، بلا فعل، وبلا رؤية، وبلا قدرة على القيادة. لكن السارد إذ يخاطب قرينه لا يغلق الباب أمام الحركة، ذلك أن اندماج الوعي بالفعل سيبقى هو الطريق. في نهاية الرواية نقرأ الخاتمة التالية:
"حاول. أنت تعرف. لن أكون بعيداً عنك. يدي في يدك، ولسوف نعبر معاً الى الضفة الأخرى بأقل الخسائر".
ولا شك أن "أرض اليمبوس" استلهمت مخزون الذاكرة الواقعية والتاريخية لكاتبها، عبر انتقاءات من سيرة ذاتية، فكان أن حضرت حروب شهدتها الساحات العربية من العام 1948 حتى العام 1991، وحضرت رموز وشخصيات حقيقية: جورج حبش ومنيف الرزاز، وصادق جلال العظم، وحضرت مدن القدس وعمان ويافا واللد ومخيم الوحدات ومدارس وكالة الغوث، وغير ذلك، وحضرت تجارب سياسية وحزبية ووجدانية وعلاقات اجتماعية لها ارتباطات بشكل ما بالسيرة الذاتية. لقد كان حضور الواقع ملموساً الى حد بعيد، وما كان في مقدور ذلك الواقع ببصماته السياسية والتاريخية والاجتماعية من دون التخييل أن ينتج عملاً إبداعياً. هذا التخييل الذي بدأ من عنوان الرواية والذي يفضي إلى مرجعيات دينية وأدبية ورمزية وثيقة الصلة بالواقع في ظلالها ودلالاتها.
لا بل إن المشهد الروائي الفني الأول يحيل الى التخييل حين ينظر الراقد في المستشفى الى لوحة السفينة التي تتقاذفها الأمواج مشارفة على الغرق، فيخترق التأمل العالم الفني وينفذ الى الواقع عاقداً مقارنة بين المشهد التشكيلي والواقع الخارجي، إذ يتماهى المشهدان بحيث لا يستطيع القارئ أن يميز بين سفينة توشك على الغرق وواقع عربي موغل في التردي والسقوط.
على أن القيمة التخييلية الأساس في أرض اليمبوس تكمن في البناء السردي الذي شيده الكاتب، متجاوزاً خط السرد الواقعي التاريخي للحدث وإلاّ كانت روايته سرداً موضوعياً تاريخياً لسيرة ذاتية خالية من الأبعاد الجمالية والفنية التي يخلقها التخييل. أرض اليمبوس رواية تخلو من الحبكة أو العقدة أو التسلسل الزمني للأحداث، بل هي سرد مركب تتعدد فيه أصوات الساردين ويغيب المؤلف كسارد، بل يصبح شخصية أساسية من شخصيات العمل، ويمضي الى أبعد من ذلك بأن جعل الشخصية تخلق قرينها تعبيراً عن الازدواجية القائمة فيها، ما يساعد على تأمل الشخصية لذاتها، ومساءلتها، ومساندتها، أملاً في أن تتوحد الشخصية والقرين ليصبحا كياناً إنسانياً واحداً بوعي فاعل وطريق واحد.
في هذا البناء السردي المفتوح، لا توجد قمم ولا تلال، لا مد ولا جزر بل سهل فني منبسط تتعدد فيه أساليب السرد، فأحياناً يكون الوصف، وأحياناً تكون الذاكرة الشفوية عبر آلة التسجيل، وأحياناً توظف النصوص وقصاصات الصحف، وأحياناً الحلم أو الكابوس، والمونولوج (حوار الذات وتأملها)، وأحياناً الحوار بصوت عال مع القرين. هذا البناء التخييلي يجد له جذوراً في الواقع: الذاكرة انقطعت عن أزمنتها وأمكنتها، العالم فوضى لا ضابط لها، والأحداث شظايا متناثرة على امتداد العمر. كأن الياس يكتب محاوراً ذاته: أي عمر هذا؟ تولد في عام 1948 فتضيع فلسطين! فيصبح عام ولادتك عام شؤم، ويشتد ساعدك فتى قبل العشرين فتضيع القدس وينقطع امتداد التجربة والذاكرة، وما أن تدخل مرحلة الشباب حتى يسقط تل الزعتر، ويمتد بك الشباب قليلاً فإذا بيروت تحت الحصار الكامل، وإذ تغدو كهلاً تشهد حرب التحالف على العراق. هي وقائع على أية حال لا تخص المؤلف وحده، بل هي ذاكرة الجيل الذي شهد هذه المرحلة، وذاكرة أمة ما تزال تبحث عن بوصلة. في مشروعه الروائي الناجز قدم إلياس فركوح محاولة لإدراك الذات من الداخل، وإدراك الذات في تفاعلها مع الواقع بأحداثه وناسه، ليكتب رواية تستند إلى سيرة الذات باعتبارها سيرة جماعية أولاً وقبل كل شيء، ولا شك في أن قيمتها الفنية العالية هي التي بلغت بها قمة الصفوة الروائية العربية للعام المنصرم

قديم 05-31-2012, 10:51 PM
المشاركة 759
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
2006/03/17،
الروائي والقاص الأردني الياس فركوح يتخلى عن «لعبة الأقنعة» ليتقدم إلى كتابة السيره .. حاوره- حسين جلعاد - الرأي بعد نحو ثلاثين عاما من الإبداع، يتخلى الروائي والقاص الياس فركوح عن «لعبة الأقنعة»، ليتقدم إلى كتابة سيرية، يتهيبها كثير من المبدعين، وهو بذلك يضع قلبه وروحه باسمه وتاريخه الصريحين على بياض الورق، ليستنطق ذاته التي تحمل ارثها الشخصي والاجتماعي والتاريخي في ضفيرة تجدل تحولات الذات بفردانيتها وعقلها الجمعي معا، حيث التاريخ العام جزء من الذات، وحيث الفرد بؤرة للتحولات والأفكار الكبرى.
في روايته الجديدة، قيد الكتابة، يعود فركوح إلى «ذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، إلا أن يجابهونه بمقدار ما يملكون من وعي» حسب ما يوضح في حوارنا هذا معه.
الرواية الجديدة كانت أيضا مدخلا للحديث حول تنظيرات الكتابة والنقد، وكذلك مكانة الأدب الأردني وتواجده في الساحة الثقافية العربية، وكذا إشكالية العلاقة بين الإبداع والسياسة.
والياس فركوح من مواليد عمان عام 1948، تلقى تعليمه حتى الثانوية العامة متنقلا بينها وبين القدس، وهو حاصل على بكالوريوس في الفلسفة وعلم النفس، وعمل في الصحافة الثقافية من عام 1977 - 1979، كما شارك في تحرير مجلة «المهد» الثقافية طوال فترة صدورها، وأسس دار أزمنة للنشر والتوزيع عام 1991، ويعمل مديرا لها. حازت روايته «قامات الزبد» على جائزة الدولة التشجيعية للعام 1990 وكذلك حاز على جائزة الدولة التقديرية/ القصة القصيرة عام 1997 كما نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتاب الأردنيين، وكانت الرابطة، قبلها، منحته جائزة أفضل مجموعة قصصية للعام 1982 (إحدى وعشرون طلقة للنبي).
صدر له نحو عشرين كتابا في حقل الرواية والقصة والمقالة والنصوص والترجمة ومنها: «أعمدة الغبار» (1996)، «قامات الزبد» (1987)، وفي القص: «شتاءات تحت السقف»، «حقول الظلال» (2002)، «من يحرث البحر» (1999)، وفي المقالة «أشهد علي.. أشهد علينا: السرد، آخرون، المكان» (2004) وفي النصوص: «الميراث الأخير» (2002). وفي الترجمة: «آدم ذات ظهيرة - قصص مختارة» بالاشتراك مع مؤنس الرزاز، وتاليا الحوار:

* «ميراث الأخير» مجموعة نصوص بحسب التوصيف المكتوب في سيرتك الإبداعية، لكن قياسا إلى حجم المؤمل وما كنت تتمناه فهو نصوص شعرية، لماذا كنت أعلنت عنها بداية على نحو «سري»، إن جاز التعبير، حيث كنت نشرتها في الصحف تحت اسم مستعار (راكان خالد)، ولم تعلن عن تبنيها سوى لاحقا؟ وهل الشعر بالنسبة لك يحتاج مغامرة لتكشف عن وجوده فيك؟ ما الذي يريده الروائي والقاص من الشعر؟ ماذا يحقق له مما لم يقله، خصوصا أنه امتلك ناصية التعبير في كل ذلك السرد الذي أنتجه؟

ليس جديدا حين أقول أن مجموعة نصوص «ميراث الأخير»، كانت محاولة مني لاستكناه معنى الشعر الذي توسم به لغتي أو تشكيلي للفضاءات المتوفرة في كتابتي السردية، وهذا يعني أنني، بقدر ما كنت أريد أن أطرح السؤال على الآخرين الذين يقرأون تلك النصوص بالاسم المستعار المشار إليه. كنت أيضا أسأل نفسي واستفسر عن ماهية الشعر أو جوهره بعيدا عن الأشكال والأوزان، وبعيد هنا أشدد على ما سأقول- عن صخب المعارك والسجالات التي اعتدنا عليها في المجلات والصحافة الثقافية. وإني لأسأل، حتى هذه اللحظة: ما هي طبيعة نصوص «ميراث الأخير» إذا ما أخضعناها لترسيمات الأجناس وحدودها؟ أهي قصيدة نثر بمعنى احتمال تضمنها لشعرية ما جاءت على نحو سردي؟ ما زلت حتى الآن عاجزا عن الإجابة. أما عن كون الشعر طموحا أو أمنية لطالما أردت أن أدخل غمارها؛ فلا أعتقد أنها كانت كذلك حقيقة. هذا البعد أشعره أو أشعر به يتحرك في داخلي حتى في خضم انشغالي بصياغة مشهد سردي، يوقفني ليسألني عن هويته في لحظة أشركه فيها بسردية واضحة قد تبدو هجينة إذا ما انضفرت في هذا البعد.

انفتاح الكتابة «ميراث الأخير» إشارة على انفتاح كتابتي، بالعموم، على فضاءات أو مناطق لا تحبسها الأجناس، ومن ثم فلن تجيء رغما عني، إلا بنصوص تتسم بخلاسية لا ارفضها، بل أرغب في أن تكون، وربما لإيماني بأن اختلاط الدماء في حد ذاته، أو إذا ما استعرنا تشبيهات المستشرقين أو المستعمرين الغربيين هذه «الهجنة» الجميلة. إن لجوئي إلى التخفي وراء اسم مستعار، كان بسبب من عدم وثوقي مما أكتب، جازما، في الوقت نفسه، بأن هذا ليس سردا- وهو ميداني المألوف. وكنت أخشى إذا ما وضعت اسمي الصريح أن تقرأ النصوص لدى الجميع مغلفة بأحكام مسبقة تأتت من قراءاتهم لسرودي. وأعود فأقول أن النصوص بالاسم المستعار كانت تجربة لاكتشاف هويتها من جهة، وربماهو خبث مني للوقوع على مدى عمق أو هشاشة شرائح كبرى من القراء/ المثقفين/ الكتاب.
ما أريده من الشعر هو أن أمتلك،حقيقة، بعض تمشيحاته، إن جاز التعبير. أن يثري سردي وأن يساعد، في الوقت نفسه، على توسيع مسألة المخاتلة وتعميق المعنى، وتعدد مستوى الدلالات. هذا ما أريده من الشعر في داخل نصي السردي، ولا أدري حتى الآن كم كنت قد نجحت في ذلك أو في جزء منه، أو تطعيمه وتعميق معناه ودلالاته.

تجربة شعرية
* بالقياس إلى ما أتيت على ذكره الآن بخصوص المخاتلة، واستعارة الاسم للتعبير عن «تجربة شعرية»، إلى أي مدى تعتبر التجربة الروائية لديك مخاتلة أيضا؟ بمعنى كم اسما حملت شخوصك الكثيرة والمتعددة المناخات- لاسمك الحقيقي الأصلي؟

لا أخفي- لا بل أعلن- أنني كشخصية خارج النص كاتبة له في الوقت نفسه، عن تواجدي المستمر والمتصل بحيث لا أستطيع الفرار مني، حين أتعرف في سرودي الروائية إلى كل تلك المراحل التي مررت بها، أسوة بمجايلي.
هذا يعني أنني تقنعت بأكثر من اسم دون أن أخفي هذا القناع أيضا، لا بل أعمل في روايتي الجديدة على استنطاق القناع نفسه، فربما يخبرني عني بما لا أعرف، داعيا إياي إلى السفر في وكشف ما كان مطمورا قبل الكتابة، فبات مكشوفا على وقعها. قد تكون أو تندرج الرواية الجديدة في إطار الرواية السيرية أو السيرة الروائية، ولست هنا بمعترض على التسمية؛ إذ ليست هي العنوان الذي كتبت في مناخاته واشتراطاته هذه الرواية، بقدر ما أحاول فيها، مثلما حاولت في سابقتيها، أن أقول عني في نسيج رؤيتي لسواي في الإطار الزمني المشار إليه بالمراحل. وكذلك امتحان مكاني وسط هذا الحشد الهائل من تفاصيل كانت في نتيجتها قد شكلت لوحة الانكسار الكبير الذي عشناه وما نزال حتى هذه اللحظة. كأنما الانكسار يطالبنا بالكتابة عنه علنا، إذا ما فعلنا وعلى نحو صادق، نقدر أو نستطيع أن نجبر شظاياه؛ لكي نرانا دون تزييف.

كشف الذات للذات
* نجهد في أولات الكتابة إلى التقنع وراء الشخصيات، ثم ها أنت الآن تعود إلى كشف الأقنعة للوصول إلى ما تخفي وراءها، ما الذي تحاوله الكتابة إذن؟
بل ما هي الكتابة بعد كل تلك التجارب، وكل ذلك العمر؟


المزيد من كشف الذات للذات ضمن مفهومي الواضح والقائل بأن هذه الذات لم تبن أو تتشكل بمعزل عن الآخرين والاشتراطات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي وضعتهم جميعا في أتون لا يستطيعون الفرار منه. ولا يستطيعون، في الوقت نفسه، إلا أن يجابهونه بمقدار ما يملكون من وعي، أو نصف وعي، أو شبه وعي أو بوعي مشوه. الكتابة الآن هي كتابة الذات غير المعزولة عن محيطها، وليس هذا اختيارا أو التزاما بلحن قديم لا يزال ينبعث من الكراريس والكتب الأيدولوجية؛ بل هو الصوت الصادق الذي يحاول، على الأقل، أن لا ينسب أخطاء هذه الذات إلى الآخرين، وكذلك أن يواجه الآخرين بأخطائهم حتى وإن عبسوا وتولوا.
الكتابة، كما أراها وأعاينها في كل حرف أكتبه في هذه الرواية الجديدة، هي كشف حساب لمجموع الأخطاء والخطايا. الكتابة تراكم أخطاء ينبغي، على ضوء رؤيتي الخاصة لها، أن أعيد ترتيبها لتكون الفضيحة في «أجمل» صورها و«أزهى» تجلياتها.
الكتابة ليست بطولة، تماما مثلما أن البطولة قد انتزعت منا حيال واجبات بناء ما كان مكسورا وما يزال؛ ولهذا قد استعير مفهوم البطولة في إعلاني عن افتقاري لها.

فضيحة مجتمع

* الكتابة السيرية تفتح شهية القارئ على تتبع «فضائحية» ما، أو أسرار يبوح بها الكاتب. إلى أي حد تلبي روايتك السيرية الجديدة شروط حيازة الشجاعة في كشفها والإخبار عن السيرة الذاتية؟ هل هي كتابة منقادة فعلا، أم أنك تغالب فيها ضميرك الجمعي والاجتماعي؟

أنت تعرف أن الكتابة، حتى وإن كانت من الذات عنها، إلا أنها وبسبب وعيي على أنني لست سوى الفرد الواحد وسط حشد من الأفراد الآخرين؛ إذن فلن تكون الرواية إلا صورة ما من صور اشتباك أو امتزاج هذه الذات بذوات أخرى تتلاقح معها وتتصارع، تتآلف أو تتنافر، لكنها سيرة وجه يحمل ملامحه، ويحمل ملامح أخرى ليست له أيضا. وهذا من صميم الكتابة، كما تعرف أيضا.
سيجد القارئ مناخات أخرى وجديدة، وسيقع على اعترافات قد لا تكون في تفاصيلها فضائحية، لكنها في صميمها وفي جوهرها إنما تدل على أن الفضيحة، إن مارسنا أفعالها، ليست سوى فضيحة مجتمع أجبرك وأجبرنا جميعا على اقترافها.

باب التجريب

* أين تصنف كتابتك هذه قياسا بتجارب السرد العربي، هل تراها «معمارا نافرا» كما وصفها أحد النقاد، أم أنك تقدمت إلى مساحات إبداعية جديدة أردت فيها أن تناسب أشكالك مواضيعك؟

إذا نظرنا إلى هذه النصوص من الخارج، فلن تكون إلا نصوصا مفارقة للسائد إن في لغتها أو في بنائها. أتفق مع هذا الرأي لأنني، حين كتابتي، أتقصد ذلك بوعي حاد منطلقا من أن الكاتب في النهاية هو أسلوبه، وأن الكتابة في محصلتها هي كاتبها.
هذا من الخارج. أما إذا نظرنا إلى هذا المنتج المكتوب من زاوية داخلية (إذا جاز التعبير)، فأزعم أن رؤيتي إلى العالم وبالتالي إلى ذاتي تتحلى بخصوصية هي محصلة طبيعية لا بطولة فيها ولا تميز. وإذا ما صح هذا الزعم، فإن هذه الرؤية الخاصة ستتشكل بالكتابة على نحوها الخاص كتابة خاصة بالتالي. هكذا تتبادل عمليتان أدوارهما لتكملا مشهد الكتابة: رؤية خاصة إلى العالم، رؤية خاصة إلى الكتابة، مما يؤدي إلى: الكتابة على غراري.
هل هذا تجريب؟ أنا لا أستريح تماما إلى توصيف هذه الكتابة وإدراجها في خانة التجريب؛ لأن التجريب يعني التقصد من أجل المغايرة، وهذا يتضمن افتعالا بمعنى ما لست أحبذه. أزعم، من جديد، بأن مغايرتي تأتت من كوني في داخلي، وكيفية تفاعلي مع محيطي، إنما هي تجلية لخصيصة أفردت وأفرزت كتابة مغايرة. فالمغايرة بهذا المعنى مغايرة طبيعية لا تقصد فيها ولا تكلف، أو هذا ما أراه.

نزعة التفكيك

* في مناحيك «التجريبية» ثمة نزعة إلى التفكيك، وإعادة بناء المواضيع التي تعالجها من زوايا مفارقة للوعي السائد، كيف يمكن الوصول إلى كتابة إبداعية يوازن فيها الروائي بين رؤاه الخاصة، وبين ما يجريه من سرود على ألسنة شخوصه؟ أم أن الرواية فعلا هي رواية صاحبها؟

هي رواية صاحبها دون مواربة أو تزويق في الكلام. غير أن سؤالا يطيب لي أن أطرحه علينا كلينا: من هو الكاتب؟ من الفرد؟ أوليس هو، في عمقه، أكثر من كائن واحد، بمعنى أكثر من وجه واحد!!. بمعنى أنه حمال لأثقال من التناقضات هي ملامح منه ومن غيره؟ إذا وصلنا إلى اتفاق على هذا الضرب من التعريف؛ فإن جملة الشخصيات المتباينة أو ملامح الشخصيات المتباينة في قصصي وروايتي ستكون نسخة فنية، وصورة أحيانا بالأبيض والأسود وأحيانا أخرى بالرمادي، وأحيانا ثالثة بالألوان بفضاءات داخلية تكرس مبدأ التناقض وصراع صاحبه من أجل خلق توازن لا يتحقق، في نظري، إلا بالكتابة.

الإبداع الأردني
* استطعت مع عدد من مجايليك أن تذهبوا بالإبداع الأردني إلى مساحات غير مطروقة سابقا، وحين يتم الحديث الآن عن إبداع روائي أردني، فإنكم تذكرون كجيل رسخ أدبا أردنيا ذا ملامح مميزة. إلى أي حد استطاع المبدعون الأردنيون الوصول إلى الساحة الثقافية العربية، بحيث يمكن القول أننا أصبحنا الآن جزءا صلدا منها؟

من الضروري الإشارة والتأكيد على أن نضجا ملموسا قد تحقق في عديد من النصوص السردية (قصة ورواية) والشعرية، ما كان له أن يتبلور إلا لأن تراكما قد لحق بهما أنتج، بالضرورة، ملامح نوعية لا يجوز إغفالها من جهة. كما لا يجوز عدم إدراجها عند دراسة المنجز الأدبي العربي وفي حدود التميز من جهة ثانية. وإني حين أدلي بشهادة كهذه لا أصدر عن مبالغة، ولا عن جهل وعدم إطلاع عما يسجل الآن في المدونة العربية.
هنالك ما ينبغي الإلتفات إليه في كتابات أنجزتها مجموعة أسماء أردنية، وذلك لاستحقاقه هذا وبعيدا عن مجاملة الذات لذاتها، أو خداعها بالتحرك داخل إطار الوهم.
فعند تصفح مضمون ومحتويات المدونة العربية، فإننا سنقع للمبدع الأردني فيها على نصيبه الواضح دون شك. غير أن جملة أسباب تكمن في الإبقاء على هذا المنجز بعيدا عن الضوء وسط منطقة الظلال والعتمة على نحو يلحق به الظلم.
ولكي لا نلجأ إلى تبرئة ذمتنا ؛ علينا أن نعترف بتقصيرنا في حق أنفسنا ؛ إذ لم تعمل جهة رسمية أو أهلية ذات صلة بالثقافة على «تسويق» هذا المنجز بصورة منهجية وعملية. لم تعمل هذه الجهات على ذلك حتى أردنيا ! حتى في الداخل ؛ فكيف سننتظر منها أن تفعل هذا في الخارج ؟! كما أن الصحافة المحلية لا زالت تتعامل مع نفسها على أنها مجرد صفحات تقرأ في عمان ومدن ثلاث أخرى، دون أن تتحلى بطموح أكبر لأنها، للأسف، تفتقد الرؤية المتجهة للعالم خارج حدودنا. علينا الإقرار بدوام مركزية بعض العواصم العربية في حقل الثقافة دون أن تتخلى عن نظرتها لنفسها كونها كذلك. أما الأخطر؛ فهو توطن هذه النظرة حتى عند مبدعينا على الأغلب. فهم يرون بأن الاعتراف بهم خارج الأردن سيعمل على تكريسهم داخله !.. ولعل في هذا شيء من الصحة.. للأسف.

الثقافي والسياسي

* جهد الأدباء في دفع تأثيرات السياسة، وكذا جهد المثقفون في دفع تأثير السياسيين عن نصوصهم وإبداعاتهم، ولكن رغم أن المبدع/ المثقف وازن بين إبداعه وحضوره الثقافي في الحياة الاجتماعية والسياسية، بمعنى أنه تعاطى مع الفعل السياسي والتغييري على هدي من تجربته الثقافية، إلا أننا نلمس مؤخرا طغيان النظرة الأدبية الصرفة في تعاطي المثقف مع ثقافته، فيما العالم الآن غدا أكثر تسييسا، وأوغل السياسي في سيطرته تحت مسميات «محاربة الإرهاب» أو «الدفاع عن حرمة المقدسات»، فيما نرى المثقف ينسل مثل خيط ماء دقيق بدعوى حريته وتنسكه الإبداعي.؟
كيف ترى إشكالية علاقة الإبداع بالسياسة الآن وكيف يمكن الوصول إلى صيغة متوازنة بين الثقافة والسياسية؟


إن علاقة الإبداع بالسياسة علاقة إشكالية بامتياز، نظرا لصعوبة التوفيق بين البرغماتية والمثالية. ففي الأولى، غالبا وكأنما هي القاعدة، تنحى الأخلاق والمبادئ جانبا لتحل محلها اشتراطات المنفعة والجدوى الآنية، مكرسة نفسها على نحو تبريري قوامه أن السياسة «فن الممكن». ولأن الأمر هكذا ؛ فلنا أن لا نفاجأ بكم الأخطاء بل الخطايا التي سوف تلحق بالإنسان لحساب «تحقيق الممكن» في خضم صراعات الدول أو تحالفاتها رغم براقع الأخلاق والحقوق الكاذبة وباسمها زورا وبهتانا.
ولهذا ؛ فإن إشكال التناقض يبرز قاطعا صارخا عندما يكون الإبداع، ممثلا بمنتجيه، يقف على الطرف النقيض تماما من السياسة ؛ والسياسة العربية تحديدا كونها لا تتحلى بالأخلاق أساسا، وفي الوقت نفسه لا تملك وزنا حقيقيا في تقرير «سياساتها» الاستراتيجية فتفقد لهذا السبب حتى شرف الانتساب لمصطلح السياسة لأميتها الفادحة في كلا الوجهين.
الإبداع، في جوهره العميق، معاكس تاريخي للفساد بكافة تجلياته. فما بالك، إذا ما كان للفساد الكلي صفة الجامع المشترك للسياسات العربية وكتائب العاملين فيها من (سياسيين) يفتقدون حتى الخصائص الاحترامية لهذا.
غير أن ذلك كله لا يعني انصراف الإبداع بمبدعيه، عن الخوض في المسائل والقضايا التي تفرزها السياسات العمياء أو الحمقاء عندما تطال في نتائجها تفاصيل الإنسان الفرد في حياته اليومية. ولأن ما أشير إليه ليس استثناء؛ فإن نسبة عالية من الإبداع العربي ما يزال غير مستنكف عن التعرض في نصوصه لتلك الحالات، رغم تسربلها ضمن الجيلين الأخيرين بعوالم الذات التي تبدو خالصة تماما. وحتى لو افترضنا نسبة عالية من هذه الكتابات قد انصرفت فعلا إلى دواخل كتابها / كاتباتها ؛ فذلك أحد آثار غياب العمل السياسي المحترم والمقنع في جانبي السلطة والمعارضة معا.
هنالك (صيغة غير متوازنة) تعيشها مجتمعاتنا العربية بكل ما يحمل التوصيف من معان. فهل ننتظر من النص إلا أن يكرس ذلك إما رفضا، أو كفرا، أو انكفاء درءا لمزيد من خسائر الروح.. والبدن.
* شاعر اردني

خرزة زرقاء

أنا صاحب مريم الأول. ومريم صاحبتي الأولى. ولي اسم اقتبسه أبي من معجم القديسين المحفوظ في ذاكرته، وأطلقه علي. لم أستطع تحمل تبعات الاسم. إنها ثقيلة فادحة، ولست أنا سوى بشري لا يطمح إلى أن يكون أكثر من ذلك. لست سوى رجل يشقى ليكون بشريا ويحافظ على هويته هذه. وهذا، مثلما اكتشفت عبر العمر المار كالبرق، ليس بالأمر الهين. أبدا. فأن تصون بشريتك يعني أن تنخرط في ألف معركة لن تفوز إلا في أقل قليلها.
للاسم الذي أحمله كرامات وهالات لا أستحقها. أنا ضعيف، غالبا، ولعلني ضعيف دائما إذ أعجز عن تحديد أو تذكر جولات فوزي في المعارك الألف التي خضتها. وربما يكون هذا هو سبب إغفالي لإسمي، بقدر ما يسعني ذلك، وإلباس شخصي إسما آخر حين الاقتضاء. غير أني، عند تأملي بالمسألة، أراني أراوح في نقطة التجاذب لنقطتي السؤال : من يتلبس الآخر ؛ الإسم أم حامل الإسم ؟ ثم أخلص إلى التشكك بالقول الذائع :«لكل إمريء من اسمه نصيب.» ففي داخل جميع الذين حملوا بأسماء ذات تاريخ بطولي أو استشهادي، أو أي تميز آخر ؛ إنما ثمة صخرة تربض هناك تجرهم إلى تعاسة العجز ومرارته. فالواحد منهم، رجلا أو امرأة، كان أن لقح بجرثومة التناقض. الاسم في جهة، وصاحب الاسم في جهة أخرى، وبين الجهتين يدور صراع التماثل المستحيل. مساكين هم إذا ما عملوا على أن يتماثلوا مع تاريخ أسمائهم. أنا لم أفعل ولم أسع. غير أن ذلك لا ينفي احتمال أن أكون مثلهم، آخذا بالاعتبار لاوعيي عما يدور داخلي من محاولات كهذه. فالأمور تتحدد بخواتيمها كما نعرف.
نعرف هذا لأنه عادة ما يقال.
ويقال، في العائلة، أن أبي أسماني باسمي المقدس والجليل حماية لي من مصير قضى على أخ وأخت سبقاني إلى الحياة، وسبقاني إلى الموت صغيرين، أيضا. فنذر أبي بأن لا يقص شعري، مهما طال، إلا في كنيسة مار إلياس في خربة الوهادنة ناحية عجلون. وكذلك، في صيدنايا، سوف يتم تعميدي صبيا، لا طفلا، في جرن الدير المقدس هناك. فسافرنا برفقة عرابي إلى سوريا.
كان له ما أراد. وكان علي أن انتظر طويلا، محتملا إزعاجات النذر الذي جعل جنسي الطفولي محل إشكال، ومصدر خطأ الآخرين وارتباكهم، وسخريتهم أحيانا لن أنسى ذلك كلما مثلت مريم في الذاكرة.
«ماشاء الله !»،
لاحظت امرأة تجاور أمي في مقعد الحافلة الذاهبة من شارع الملك طلال إلى المحطة. ثم رفعت الملاية السوداء الشيفون الشفيفة عن وجهها، وأتبعت:
«شو هالبنت الحلوة !»
بسملت، ومسدت على رأسي حتى نهاية شعري الملموم ب«شبرة» من القماش الأزرق. ربما كانت من «فضلة» ثوب خاطه أبي لإحدى سيدات عمان أواخر الأربعينيات. «يوه !»، ردت أمي بلكنتها الشامية المميزة، وصححتها مستنكرة على الفور :
«هذا صبي يا ست.»
وعندما عادت بي إلى البيت، أوصت أبي، فاشترى خرزة زرقاء علقاها حول عنقي بأنشوطة من الجلد الناعم.


مقطع من رواية قيد الكتابة

قديم 05-31-2012, 10:59 PM
المشاركة 760
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الياس فركوح

(روائي/ الأردن)
لا أزال أنتسب إلى الجيل الذي تعلّم حكمة قديمة تعود الى الوراء، عميقا داخل عجينة الطفولة، تحضّه على "نام بكّير فيق بكّير شوف الصحة كيف بتصير"! ليس الأمر بيدي. كما لست مطيعا إلى درجة الإذعان (مع اعترافي بوجاهة هذه الحكمة بعمومها)؛ غير أن وراثة جينيـة، ربما، أدخلتني في عداد الذين يستيقظون فجرا على نداء "الصلاة خير من النوم" فأقوم، من فوري، لأواصل مسلسل فناجين القهوة، وحرق السجائر، ووصل ما انقطع قبل ساعات: الكتاب. أو الكتابة. إذاً: الصحة ليست هدفا وغاية؛ وإلاّ لماذا أصبت بجلطتين كانت الثانية قبل خمسة أشهر؟ ناهيك بعوارض مرضيّة أخرى (كنت مهذبا فوضعت الضمّة فوق همزة الألف، بينما لسان حالي يقصد الفتحة)؟
ثمة متعة غامضة في الاستيقاظ قبل طلوع "الشمس الشموسة". أو علّها خواطر الزهو في الإطلال على الدنيا في سكونها وانبثاقها، كالوردة، من حافة الشفق المخايل؛ فيكون الواحد منا قد تلبسته حالة الخالق وهو يشهد ميلادا يفتق سرّة الأرض بعد الغمر عند التكوين: بطيئا ورويدا، مثل الطفل حين يتنفس في نومه، وليس هنالك من أمر يمكن التثبت منه وتأكيده سوى أن هذه الحالة المتخلقة من تلقائها تتخلق. ليس أكثر وليس أقلّ. حالة تتخلق من منطقة غموض لتمضي إلى منطقة غموض. وهذا هو جوهر جمالها وسر سحرها، في ظني.
وفي ظني، أيضا، أن افتتاني بهذه الحال كما هي في طبيعتها الأرضية، وملازمتي لمعناها العميق عند كتابتي لنصوصي والتزامي الطوعي لذلك؛ إنما يكشف لي احتمال إعراضي الباطني عمّا هو بيّن، وواضح، ومتماسك. يكشف لي عن اعتراضي وتشككي بكل ما هو ذو قوام يشمخ على شاشة العالم ويفقأ عيني؛ إذ أعدّ ذلك تواقحا وفجاجة طفرا من كينونة هي مشبوهة في نظري. كينونة مريبة تفتقر الى جملة شرعيات تمنحها لها صناديق الروح - بصرف النظر عن نتائج فرز صناديق الاقتراع؛ بما فيها تلك التي تراقبها لجان دولية!
ليس لعملي، الذي أخرج إليه صباحا، مفهومه التقليدي أو الصارم. عملي ليس وظيفة تجرّني رغما عني لأتقاضى عليها مالا أنفقه على ضرورات الحياة، بقدر ما هو ممارسة يومية للذات لا يستقيم معناها بغير إحساسها بالإنجاز. فأن تنجز أمرا يعني أنك أنجزت قدرا من ذاتك؛ يعني أنك حققت قسطا من كينونتك؛ يعني أنك اكتسبت حقك بيدك في الوجود؛ يعني أنك اكتسيت بالمعنى الأعمق لأنك، ببساطة ليست بسيطة، قمت بحلب لبن أن تكون وأن تحظى بجدارة ذلك كلّه.
يـاه!
هذا كلام كبير يقارب الوعظ المكرور الممل وينتهي، في الضرورة، إلى السقوط في ركاكة تبشيرية ساذجة. أو هو فذلكة أخلاقية دعيّة ذات طنين مزعج يشبه ذاك الذي تحدثه ذبابة زرقاء كبيرة تحوم حول رؤوسنا بإلحاح! ولأن الأمر كذلك، كما يبدو عبر هذه اللغة؛ فإني أزيد على هذا مستكملا معزوفتي: عليك أن تنجز عملا تحبّه! وأنا، بصراحة، أحب عملي. فأن يعمل كاتب في حقل النشر إنما يعني، في جوهره، أنه يشتغل داخل مناخات الكتابة وآفاق التفكير الهادف إلى لا غاية تسليعية مباشرة: أنه لم يحدث قطعا في نسيجه الشخصي، لا من الخارج ولا من الداخل: أنه لم ينفصم متحولا إلى شخصيتين متباينتين؛ وخصوصاً إذا كان هذا الكاتب يستمتع بتفاصيل "صناعة" الكتاب ويجيد بنسبة ما تصريف مراحلها: قراءة النص، اختيار الحرف وحجمه، إخراج الصفحات الداخلية، توليد التصميم الأولي للغلاف ثم تنفيذه على الكومبيوتر، إلخ. أما عن تسويق ذلك كله، بيعا وشراء؛ فحدِّث ولا حرج: ليست هذه لعبتي، ومن هنا تبدأ متاعب العمل ومآزقه!
لا بأس. على الحياة أن تمضي، وعلينا أن نعبرها بدورنا. بأقلّ الخسائر.
أوصل إبني، الحديث التخرج، إلى مقر عمله قبل مروري اليومي بالبريد لتفقد صندوقي هناك. في السيارة لا يتحرج بإعلان تأففه من دخان السيجارة العابق؛ فالفصل شتاء، والبرد الصباحي قارس، والنوافذ مغلقة، لكن السبب ليس هذا فحسب: إنه قلق عليَّ وخائف! فإثر الجلطة الثانية بات الخطر ماثلا في الثالثة. كما ليس لديَّ أي تأمينات صحيّة في زمن العلاج الأكثر من باهظ، والرقود المحترم الذي لا يتوافر إلاّ في المستشفيات ذات الخمس نجوم!
أبتسم بنصف تهكم، بنصف مرارة؛ وأحوّل نظره تجاه فتاة يافعة بمثل عمره، تذكّرني بأني تجاوزت منتصف العقد الخامس، وأقول: "أنظر! أليست جميلة يا ولد؟ أنظر إلى الصدر! أنظر إلى القد الميّاس! أنظر إلى القفا! يا لطيف!". فلا يكون منه إلاّ أن ينحرج، هذه المرّة، محتجا بلطف وتهذيب حقيقي: "بـابـا!". فأفكر في كم سيصمد إبني البكر هذا محتفظا بحشمة باتت من مخلّفات عصر الديناصورات، وهل سيقوى على سفالات الأيام المقبلة؟ أم تراه، إذا صان ما علّمناه إيّاه من أخلاق الصدق والأمانة وسواها من "بضاعة" انتهت صلاحيتها، كما يبدو، سوف يحقق نجاحه الخاص؟ أثق به؛ غير أني لا أستطيع إخراس مخاوفي عليه.
أدخل مكتبي، ملقيا تحية الصباح على إحسان ونسرين، وأمارس محبتي لهذا المكان حتى الظهر. عند الثانية وحفنة دقائق بعدها، أغادر إلى البيت. بدأ التعب ينال مني ويتجلّى عليّ. لم أعد كالسابق. أمنّي نفسي بقيلولتي الباذخة، بعد وجبة غداء لا أسأل عنها.
قيلولتي نوم كامل أغرق فيه. أغرق فيه تماما. قيلولتي ليست قيلولة أبدا؛ إذ هي إبحار في لذة ربما تكون، في وجهها الآخر، مرضا غير معلن! أو علّها أحد وجوه الهرب من أثقال لم أعد أتحملها، والفرار من مواجهة سدود الأفق وصدود العلاقات وانغلاقها على بناها الناقصة! ولِمَ لا يكون النوم، في هذه الحال، خيراً من صلات بتنا نفشل في مدّها بهواء الحياة؟ أجل. هذا هو الأرجح. أنام في صدفتي وألتذّ بذلك. أحلم بالآخرين، فأرى الواحد منهم يتخندق في جزيرته، مكتفيا بذاته! عجيب! أقوم من قيلولتي الخرافية عند التاسعة أو العاشرة ليلا؛ مثلما حدث اليوم. أعدّ فناجين قهوتي وأشربها. أفتح علبة سجائري وأحرقها. أجلس لأكتب ما سوف أنهيه الآن، قبل أن يصل من نافذتي نداء صلاة الفجر. وأشرع بابي على وردة أعرف أنها طفقت تفرد بتلاتها بالسرّ المستور لتنفرد (وأنا معها) بالشهادة على خليقة لا تتعب من تكرارها لنفسها ولخلائقها العاشقين لها رغم تعبهم، أو ربما بسببه.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 31 ( الأعضاء 0 والزوار 31)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 06:00 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.