احصائيات

الردود
4

المشاهدات
2888
 
محمد غالمي
كاتب وقاص مغربي

محمد غالمي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
91

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Dec 2005

الاقامة

رقم العضوية
734
11-04-2013, 12:54 AM
المشاركة 1
11-04-2013, 12:54 AM
المشاركة 1
افتراضي حين يصدأ التبر!
بمكتبه الخاص المحاذي لقاعة الجلسات انبرى السيد عبد المولى ريحان يرتب الملفات ويهيئ الأغراض في انتظار زمن الجلسة. نهض من مقعده وخطا خطوات.. انتصب شابك الذراعين يتملى، بعين التأثر والإشفاق، في صورتيهما القائمتين على خوان في الركن جهة اليمين. ابتسم لأنه مطمئن لمستقبلهما، موقن أشد اليقين بأنه نائم ملء جفنيه من صلابة عذريتهما. ابتسم من جهة لما تمخضت عنه فروض الطاعة، من جدية ونشاط واستقامة طبعت حياتهما على الدوام حتى صارا في عرفه ملاكين، بهما يزهو وفي مجالس خلانه وأصفيائه يفخر. استحضر في الصورة دفء صباح هذا اليوم في أجواء البيت ورحابه الحميمة.. إذ انتهى وقتئذ من التنفل ـ كما يفعل على الدوام عقب صلاة الفجر ـ ودعا لنفسه وآله، ثم جلس إلى مائدة الفطور منفردا كعادته. بدا موفور الصحة، وضئ الطلعة كالثريا بين ما تبقى له من بهجة الحياة وزينة الدنيا؛ رافدان من رحيق دمائه وعصارة نفسه: عزيزة ريحان ملاك في عمر زهور الياسمين والأقحوان، أشرق وجهها كالغرة وزادها الخمار الأسود حسنا وبهاء. وطالب الحقوق سليم ريحان ملاك زانه الرواء والامتلاء، وهزه شرخ الفتوة والعنفوان.. اعتاد السيد عبد المولى، قبل أن يمد يده للطعام، أن يتفحص ملفات فوانيس آل بيته، ويعيد تقييمها كما يتفحص الملفات في قاعة الجلسات.. اهتدى مطمئنا إلى أنه في غنى عن فتح أبواب الوسواس الذي يستفزه من حين لآخر.. يؤمن بأن مملكته مزدانة باللجين الصافي، والذهب الخالص النقي.. حمل حقيبته وولى شطر غرفة الطعام حيث عزيزة وسليم.. نهضا أحادى فقبلا يد والدهما، وتقهقرا إلى الوراء حشمة وحياء. قطب السيد وأبدى عدم الرضا؛ إذ لم يجد مبررا لتقصير ابنه في القيام فجرا لأداء الفريضة.. فهم سليم محتوى رسالة العين المؤنبة فطأطأ الرأس خجلا يصغي في خضوع وإذعان.. لا يا سليم، لم أعهد فيك هذا التراخي.. ليس من شيم آل ريحان التقصير في الاستجابة للنداء الرباني.. أو تراك تجهل بأن الصلاة خير من النوم؟
حقا لم يفق الفتي فجر هذا اليوم كما تعود؛ لقد غدر به النوم لطارئ، فتواصلت هجعته كمن ضرب على أذنيه الموت! وقبل أن يغادر السيد خاطب رفيقة دربه: "سوف أكون اليوم ضيفا عند قاضي القضاة، ومن ثم إلى قاعة الجلسات.. موعدنا مساء.. لا داعي لانتظاري وقت الغذاء".. وبرح المكان مزهوا بعدما وجه وأرشد، مقتنعا بأن من في البيت توجه واسترشد.. وفوق ذلك عرف كيف يبسط رداء هيبته وسلطان ذاته في أكناف بيته وبين معارفه.. كان هناك في أقصى الشارع فتى مرابط عند جدع نخلة، انتفض من مكانه وهرول في اتجاه السيد.. عرف عبد المولى ريحان بأنه أمام وجه مألوف لديه يدعى ثعلبة الحشاش؛ سبق وأن أفرج عنه استجابة لتوسل عزيزة.. حقا، راعى الأب في ابنته ما أوتيت من أحاسيس
إنسانية مرهفة، وما جبلت عليه من عطف على المشردين ودوي الحاجة، وأجدرهم منزلة في نفسها ثعلبة.. لا مناص إذن من أن تتجرأ فتلتمس له الشفاعة عبر أمها. وانكب ثعلبة على يد السيد يلثمها في هستريا.. بالكاد استعاد الرجل حرية يده وأثنى على الشاب ثم واصل الطريق... ابتسم وهمس في خاطره: هذا البغل غير سوي.. مجنون من فرط الحشيش والأفيون..
استفاق عبد المولى، ومسح عينيه من غشاوة أوحت بها أطياف الصورة. ارتدى بدلته ولسان حاله يردد: لا أراني الله فيكما مكروها.. ودلف من الباب المفضي إلى القاعة محفوفا بمستشاريه.. شريط يدور دورته الزمنية الرتيبة؛ افتتاح.. نداء.. هوية.. تذكير.. شهود.. دفاع.. تأجيل.. مداولة... الشريط درامي إلى أقصى الحدود، حافل دوما بالمفاجآت الدموية؛ كل الملفات بين يديه مستنقع يعج بالديدان.. نتانة فظيعة تهدد حبال الشم بالشلل. حاول كتم أنفاسه ولم يفلح في كبح سطوتها.. انصرف وحمد الله على أن في بيته شهد النحل الأصيل،اللجين الصافي، والتبر الخالص النقي . ما فتئ يردد هذه اللازمة في خاطره..
قبل أن يغادر السيد عبد المولى اعتذر للسيد قاضي القضاة على أنه في حاجة إلى الراحة، وليس بمقدوره أن يستأنف عمله. وكان له ما أراد فغادر إلى بيته. قطع الشارع تغمره المسرة.. وأمام الباب الخارجي لحديقة البيت وقف كالمصلوب، جحظت عيناه وتدلى لسانه وأخذ بريق عينيه يخبو رويدا رويدا!.. استحال الربع أمام ناظره مسرحا تمرع فيه الثعالب والكواسر والزواحف!.. دب الشلل في ركبتيه فصاح صيحة منكرة، وانبطح كالثور مغشيا عليه. استفاق عبد المولى ريحان فألفى نفسه على سرير بقاعة الإنعاش! فرك عينيه وتحسس سلامة أطرافه، ثم نهض بخفة وصافح الطبيب، وجعل ينظر إليه يتفقد أحوال المعطوبين.. تساءل مندهشا من الأجساد الملفوفة بالضمادات البيضاء:
ـ من هؤلاء الأموات الأحياء الذين غمروا القاعة أنينا يا دكتور؟
وأجاب الطبيب مستنكرا متشفيا:
ـ مساكين؟ هؤلاء أحق بأن تزج رقابهم بالسكاكين! ... (واستطرد على السجية مشيرا ببنانه إلى شخصين ممددين على سريرين متجاورين، وعبد المولى مصغ إليه).. لم يستطيعا ـ من فرط ما تناولا من الحشيش ـ التحكم في زمام دراجة نارية من الحجم الكبير.. سرعة جنونية أتت على صبي يلهو..
وتساءل عبد المولى غير مرتاح:
ـ من يكون هذان المجرمان؟
رد الطبيب في همس: ذاك يدعى ثعلبة الحشاش وتلك عزيزة!!
تحمل القاضي حر الذبحة، وابتسم كاظما غيظه ..
لبث برهة يتساءل بلسان جريح: أيكون الملح والعسل قد سرح فيهما الدود؟! وانسحب من القاعة ويده على أنفه من حدة العفن المسكرة نتانته.. واصل سبيله يضحك مرة ويقطب أخرى .. لم تفارق يده أنفه .. أضحى في مواجهة أصوات مزعجة تصرخ عن يمينه وعن شماله وكأنها حجارة مسننة.. اضطر أن يزيل يده من فمه ويحمي رأسه ويسير.. لكن أين....؟؟


قديم 11-04-2013, 02:02 AM
المشاركة 2
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


سألت اللغة من هذا الذي تعشقين صحبته و تنصاعين لرغبته ، و تلين ضراوتك على يديه ، ويروض جموحك و لا يهاب طيش ما استعصى من مفرداتك ؟
أجابت : واحد فقط و فقط سلمته أمري و وهبته سري و أقسمت ألا أخذله يوما .

فمن غيرك يا فارس الكلمة تقصد هذه اللغة الوفية التي تملك ناصيتها .

أبدعت يا أستاذي .









قديم 11-12-2013, 11:04 PM
المشاركة 3
محمد غالمي
كاتب وقاص مغربي
  • غير موجود
افتراضي


سألت اللغة من هذا الذي تعشقين صحبته و تنصاعين لرغبته ، و تلين ضراوتك على يديه ، ويروض جموحك و لا يهاب طيش ما استعصى من مفرداتك ؟
أجابت : واحد فقط و فقط سلمته أمري و وهبته سري و أقسمت ألا أخذله يوما .

فمن غيرك يا فارس الكلمة تقصد هذه اللغة الوفية التي تملك ناصيتها .

أبدعت يا أستاذي .










أستاذ ياسر علي: أحيي فيك الذوق الجميل والحس الفني السليم.
دمت من مبدع مهتم..
محمد غالمي

قديم 11-12-2013, 11:50 PM
المشاركة 4
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


هي المرة الأولى التي أتشرف بالقراءة لكم يا أ. محمد , و بإذن الله لن تكون الأخيرة ,
فهذا الأدب الرفيع الراقي و الهادف و الماتع هو مدرسة كبيرة , و من الفضيلة الانتساب لروادها .

كل التقدير




مودتي


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-18-2013, 11:41 PM
المشاركة 5
محمد غالمي
كاتب وقاص مغربي
  • غير موجود
افتراضي
الأستاذ الفاضل عماد.. تالله لقد حصل لي الشرف إذ مررتم على ذاك النص السردي المتواضع مرور من يقدر الأشياء حق قدرها، ويصدر أحكاما وجيهة تستند إلى بعد النظر .. وكانت شهادتك فخرا لي وتحفيزا على جيد العطاء..
تقديري لك..
م.غالمي


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: حين يصدأ التبر!
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أتراه حشيم شكيبيان الفهري منبر البوح الهادئ 2 01-17-2020 04:18 PM

الساعة الآن 11:45 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.