احصائيات

الردود
3

المشاهدات
4387
 
محمد مهاجر
من آل منابر ثقافية

محمد مهاجر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
50

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Sep 2013

الاقامة

رقم العضوية
12374
05-24-2014, 12:49 PM
المشاركة 1
05-24-2014, 12:49 PM
المشاركة 1
Thumbs up الراعى الصغير
الراعى الصغير

-
قصة قصيرة
-

فى يوم الخميس رجع حديد باكرا من المدرسة ورمى شنطة الكتب على الارض وجلس على السرير الخشبى. كان ينظر الى خشب السقف المستقيم والمرصوص بعناية وهو يحاول التركيز وتجميع شتات افكاره. وعندما سمع صوت رجلى امه تتحركان فى اتجاهه, عمد الى تصنع التعب ورمى بجسمه كله على السرير. ولم تبذل الام جهدا كبيرا حتى تدرك نوايا ابنها بالرغم من ان حالته كان يرثى لها, فهى تعرف السمات التى تظهر عليه حين يتصنع المرض او التعب الشديد او الكأبة, وهى سمات تظهر مقترنة بالتخطيط لطلب شيئ صعب المنال. وابتسمت الام واخذت بعض الاشياء ثم ذهبت الى المطبخ.

وعندما رجعت كانت تحمل صينية بها اكل وكوب ماء, فوضعتها على المنضدة وجلست بجانبه. وانشأت تشجعه على الأكل وهى تشمله بنظرة اختلط فيها الحنان والقلق, اذ احست بانه يخبئ شيئا ما. وبعد ان اكلا مع بعض واطمأن الصبى الى ميلها الى قبول خططه, اخبر امه بانه قرر ترك الدراسة والتفرغ تماما للعمل كراعى بهائم. وسرعان ما قامت الام منتفضة واعتدلت فى وقفتها وعدلت من وضع رداءها, وبكل قوتها صاحت فيه وهى ترفض قراره بشدة. اما هو فظل جالسا هادئا ومبتسما, واصبح ينظر اليها وهو صامت, بينما هى تثور ثم تهدأ ثم تحاول من جديد بجهدها كله ان تثنيه عما ازمع عليه. وعندما اخذ دوره فى الحديث رد عليها بهدوء وخلط عباراته بالمزاح وهو يحاول اقناعها. وهو متعود على المزاح الكثير مع امه. وبعد جهد استطاع ان يقلل من فورة غضبها. وعندما نجح الصبى ابن الثالثة عشر فى امتصاص ثورة الغضب, جعل يمزح من جديد مع امه. ولانها كبحت جماح ثورتها, فقد عمد الى تكرار طلبه, لكن بحذر هذ المرة. ثم بدل ملابسه عندما ذهبت الام والتردد يرافقها ويسيطر عليها ويجعلها تؤجل البت فى الامر. وعندما عادت مرة اخرى وجدته مايزال يحتفظ بابتسامتة العذبة المالوفة التى ابرزت جمال اسنانه البيضاء الدقيقة المفرقة. وحاولت الام الاحتفاظ بالصرامة وهى تراجع تفاصيل الرد الذى اعدته, ثم امعنت النظر فى عينى ابنها, ثم تبسمت رغما عنها, فقد كان يمزح معها وهو يكثر من تحريك عينيه وشفتيه, فصمتت لبرهة, واخيرا آثرت التريث لانها تحبه حبا كثيرا. واقتربت منه اكثر وجذبته اليها وقبلته فى جبينه ثم مسحت ظهره وكتفيه وضغطت برقة ولطف على ذراعيه. ولما خررت اصابعها المشبوكة باصابعه ادركت ان بامكانها الصمود حتى تتمكن من القيام بالخطوات الضرورية فى مثل هذه المواقف

والذى يزود ام حديد بالمقدرة على الصمود هو شعورها العميق بالمسؤولية تجاه ابنها واخواته بعد ان سافر الاب فى رحلة تدوم لعدة اشهر. وهى تعلم ان حبها لحديد يعلو كثيرا عن حبها لبناتها, لكنها لا تجد حرجا فى ذلك التحيز ولا ترى نفسها تشذ عن نساء القرية فى هذا الموقف. وهى تعلم كذلك ان الابن المتهور قد وضعها الان فى موقف صعب جدا. كان لا تزال تقف فى مكانها وتنظر اليه فى عينيه, وبعد دقائق سادها الصمت وفهم كل واحد اشارات الاخر, ربت حديد على كتف امه ثم اتجه نحو الزير فشرب الكثير من الماء واستعد للخروج. وعندما وضع الكوب فى مكانه كان عقله مشحونا بالافكار المختلفة حول نوايا امه. مرر اصابعه ليزيل العرق الكثير المنسكب على جبهته الملساء, ثم امسك بقوة بكمه ليمسح عنقه, واخيرا استاذن من امه لكى يخرج للعب الكرة مع زملاءه. ووافقت الام لكنها حذرته من الحر الشديد والعنف المصاحب للعبة.


وعند غروب الشمس كان حديد يجلس مع امه واخواته الثلاثة وهم يشربون الشاى مع الحليب. كانوا صامتين كانهم يؤدون طقسا ما. ولما لمح الحيرة فى وجودهم قرر الصبى بان الفرصة سانحة واعاد النقاش من جديد حول قراره. وعندما تم رفض الفكرة من قبل كل النساء الاربعة, ظهرت علامات التوتر والضجر بينة على وجهه. وافرغ مكنون غضبه على فطيرة الزلابية فعض عليها بقوة حتى شعر بالالم يتسرب الى جذور اسنانه. لكن النساء الاربعة لاحظن انه لم يبد لينا فى موقفه رغم توتره البين. وامسكن بزمام المبادرة مرة اخرى لياتين بحجج جديدة لاقناعه. لكنه كان يرفض افكارهن بعناد شديد وصلابة فى الرأى. و كان يؤكد باستمرار على حجته القوية وهى شعوره العميق بانه قد اصبح راعى البيت بعد سفر ابيه. وزاد عليها حجة توفير الفلوس التى ينوون دفعها لراع البهائم. وقال لهن بان تلك الفلوس يمكن ان تستخدم لسد بعض احتياجات الاسرة. وعندما لاحظ صمتهن طلب من اخواته ان يجهزن له احتياجات رحلة الغد. وبالرغم من ان امه كانت تحتفظ بمشاعر الحب الشديد والخوف من مخاطر مهنة الرعى, الا ان الذى كان يقلق اخواته هو نزوعه الشديد الى تقلد منصب سيد البيت فى ظل غياب الاب. اما هو فانشغل عنهن بالتفكير فى دوره الجديد و حول انتباهه كله نحو رحلة الغد. وهو يدرك ان المرعى يبعد اربعة عشرة كيلومترات عن القرية, ويدرك فى جوف فؤاده بان المكان محفوف بالاخطار الكثيرة. وعندما اختلت الفتيات بامهن تحدثن معها و حاولن تخفيف الضغوط التى شعرن بانها مازالت تؤثر عليها. وهى لم تشعر بحمل اشد وطأة على كاهلها مثل الذى تشعر به فى تلك اللحظات, لكنها تماسكت وقالت بانها اذا وافقت فستملى عليه الكثير من الشروط. وعندما لم تجد مساندة منهن تشد من أزرها, غادرت الجلسة وقلبها يكاد يتقطع من فرط الجزع واللوعة على ابنها. اما حديد فقد احس بانه فاز بهذه الجولة رغم حذره من غضب الام, وانفرجت اساريره وقرر الخروج الى الشارع مرة اخرى للقاء زملاءه.


وفى الشارع جلس مع جمع غفير من رفاقه وهم يستمتعون بنسائم المساء وضوء القمر. وظلوا يربطون اذانهم بخيط متواصل من سرد الحكايات الشعبية المثيرة التى كان يرويها لهم اخوتهم الكبار. اما القمر النير الجميل فكان يبتسم وهو يرى التفاصيل الجديدة التى يتم ادخالها بين ثنايا الحكايات القديمة, فتزيد من روعتها وفتنتها, ويزدان بها سحره وضوءه. وكانت ام حديد فى تلك الاثناء تجلس بمفردها فى الغرفة وهى تهيم بخيالها فى وادى مرعب, فتحاول ابتداع الحلول لكنها كانت تصطدم فى كل مرة بموقف ابنها الثابت وقدرته الخرافية على الصمود. وبعد لحظات ذهبت الى المطبخ ثم دعت بناتها لكى يساعدنها فى تجهيز ما يحتاجه ابنها فى رحلة الغد. وبعد ان انتهت ذهبت الى جارتها فوضحت لها حجم مخاوفها وسالتها عن كل الاحتياطات الواجب أخذها بعين الاعتبار, كذلك طلبت منها ان تزودها بالنصائح والدروس المستنبطة من تجارب الماضى.

بلا مقدمات قرر حديد ان يغادر ليلة السمر ويرجع الى الى البيت. واراد الا يقطع استرسال الراوى فتسلل بهدوء من بين الحشد وتحرك بجسم قلق وعقل يتبرم من الاسئلة الكثيرة. وعندما وصل رفض تناول العشاء واتجه مباشرة الى السرير الخشبى الصغير. كان منهكا يكاد التعب ان يقتله واصبحت شهوة النوم تزيد, كذلك استولت عليه الرغبة فى نسيان احداث الساعات الماضية كلها. لكنه فتح عينيه بعد دقائق عندما اشتدت عليه نوبات الارق والهموم, وهم بالذهاب الى امه. وعندما تحرك ذاهبا راها تفتح الباب وتتقدم الى ناحيته. اقتربت منه وهى حذرة ثم امسكت بيده برفق وجلسا على السرير. ولم تحدثه بما كان يتوقع بل ظلت ممسكة بيده وشرعت تتلو ايات من القران. وبعد التلاوة نفخت على قبضة يدها اليمنى ثم مسحت بكفها على جبهته, وكررت فعلها ثلاثة مرات, ثم ظلت صامته وهى ممسكة بيديه لعدة دقائق. وعندما اغمض عينيه سحبت الملاءة القطنية وغطته بها ثم خرجت بهدوء من الغرفة. كانت وجلة ومهمومة من ان يصحو من غفوته ويعود اليه القلق من جديد.


وفى صباح الجمعة, وعلى غير عادته, استيقظ منذ الفجر. وبعد ساعة كانت امه فى المطبخ تمد اليه كوب شاى بالحليب ووجها الصبوح يشع بهجة وعزة استقتهما من شمس هذه القرية الاستوائية الرائعة ومن نار الحطب المتقدة العنيدة. وكان الصبى يريد ان يخبرامه بكل خططه وكيفية التنفيذ, لانه اراد ان ينطلق اليوم. لكن البسمة الريانة التى كست وجه امه وعينيها جعلتاه يعدل عن رغبته فى البوح بكل شئ. واكتفى الصبى بشكرها لانها وافقت له بان يخوض التجربة وفق الشروط التى وضعتها. وكان اهم هذه الشروط هى ان يعود الى المدرسة بعد رجوع ابيه, لان القرار النهائى هو بيد الاب حسب قولها. وهو يحبها كثيرا لذلك خشى ان يحدثها بما يغضبها. وهى تحبه كذلك حبا مفرطا لذلك اخبرته بان دافعها القوى هو خشيتها عليه من مخاطر المرعى.

وعندما خرج بغنمه الى الساحة الواسعة عند المدخل الشرقى للقرية ادرك منذ اللحظات الاولى الحجم الهائل لمهمته الجديدة. وكان كلما يلتفت ليرد التحية لشخص ما يجد ان بعض البهائم تفر منه. وكان معظم الناس, وهم جبلوا على التعاضد والتعاون مع بعض, يقدمون المساعدة المطلوبة بنفس زكية وطبع اريحى. وبعد دقائق اكتظت الساحة بالماشية والاغنام. والبهائم تشكل مصدرا رئيسيا لدخل الناس هنا لذلك يتحملون فى سبيل تربيتها المخاطر والصعوبات الكثيرة. وعندما اكتمل شمل الرعاة هموا بالتحرك, لكن ام حديد امسكت بيد ابنها وبدات تتلو ايات من القران وتردد الدعوات وتذكره بالوصايا التى قالتها له ليلة امس. لم يعلن تبرمه صراحة لكنه ظل طيلة الوقت يكافح بعناد لتخليص يده منها. وبعد ربع ساعة نجح لكنه لم يستطع ان يخفى ملامح الالم الناتج عن سحب يده بالقوة, وبرغم ذلك استطاع الاحتفاظ بابسامته التى ظلت ملتصقة بذهن امه طيلة النهار. وبسرعة صعد الصبى على ظهر الحمار وهو يمسك بالعصا ويحاول ان يمنع امه من ان تمسك بيده من جديد. وكانت تنظر اليه مشفقة وهى تحاول ان تقول الكثير. فى البدء نجحت فى ان تخفى عنه معظم ما تضمر من مشاعر الجزع, وحين تحرك اشاحت بوجهها بعيدا عنه و لم تقدر على حبس الدموع. واخيرا اعتدل الراعى فى جلسته و هش على الغنم, فلكز الحمار, ثم تحرك تاركا امه فى مكانها منتظرة مع النساء. وضرب على الحمار ليزيد السرعة ولم يلتفت ليرى نظرة امه الحنونة العطوفة التى ظلت تلاحقه حتى اختفى عن الانظار

وبعد دقائق من تحركه طافت بخياله مشاهد من احلام ليلة امس. كانت ليلة مكتظة بصور اللصوص وقطاع الطرق والثعابين الكبيرة التى ظلت تتسلل اليه من بين الاعشاب. وبالرغم من انه كان شغوفا بمرافقة والده الى المرعى والذهاب مع رفاقه الى الغابات, فان الصبى احس فى هذه اللحظات بانه لا يمتلك المعلومات الكافية عن كل مخاطر عمله الجديد. اما الحمار فاحس بالراحة لخفة وزن الراعى الصغير ذى الجسم النحيف القوى المتماسك. وقد كان حديد شغوفا بالرياضة والجرى فى الغابات و القفز فوق قنوات المزارع وتسلق الاشجار وصيد الطيور والارانب. ولما قطع نصف المسافة اصبحت تتكشف له المزيد من ملامح صعوبة الرحلة فحاول ان يطرد الصور المرعبه من دماغه لكن من دون جدوى. وهو يعلم انه سيكون وحده فى مرعى قاسى تسكنه الوحشة ومحفوف بالمخاطر المرعبة. وفور وصوله ربط الحمار على شجرة سنط متينة وجلس متكا بظهره عليها ثم اغمض عينيه. قام ونظر حوله والى البعد لكى يعثر على اثر لانسان, لكن لا شئ غير العشب الكثير والشجيرات والثعابين. وبعد ان اطمأن على البهائم فرد فروة من جلد الضان على الارض وجلس عليها. اخرج سكينه من غمدها المثبت على ذراعه فمرر اصابع يده بحرص على نصل السكين ثم رفعها امام عينها ثم لوح بها فى الفراغ. امسك بالعصاه وتلاعب بها ثم شد بقبضته عليها حين تذكر ما استقر فى قلبه كرد فعل على الخطر. اما الاغنام فعلت اصواتها ونشرت مرحها فى المكان كله, وكانت لحظة تذوق حديد فيها الطعم اللذيذ لاول انتصار له, فاحس بنسمة باردة تغشاه. واختلط طعم اللذة بطعم الغيرة التى شعر بها تجاه غنمه الخمسة والخمسين, فهو يحس بانها لعوبة ومستهترة حين تهيم فى الارض الخضراء ولا تعبأ بالخطر الكامن تحت العشب. وحاول العزف فابى مزماره الخشبى ان يتجاوب معه فرماه وانشأ يغنى بدونه وهو يمد بصره نحو الافق البعيد. وفى السحاب كان يرى نفسه راجعا من السوق فتستقبله امه واخواته بوافر البشر فيوزع عليهن المال الكثير مما جناه من بيع البهائم وريع المزرعة, ثم يرى معالم الفرحة والثناء والاعتزاز تعلو وجوههن وتزيدها جمالا. ومع اقرانه شاهد نظرات الاعجاب والغيرة منه لانه الوحيد الذى لا يأخذ مصروفا من ابويه وراى نفسه يحدثهم بانه طالما حلم بان يجد تقديرا من الناس اكثر من الذى حظى به ابيه. وصمت الراعى لدقائق ليعيد التفكير فى دوره الجديد لكنه احس بالوحشة فعاد للغناء بصوته المبحوح. وكان كلما يشعر بعودة الهدوء تتناكف فى ذهنه افكارا كثيرة عن هجوم لصوص اوباش لا رحمة عندهم وهم يشهرون السلاح فى وجهه. وجعل يقرأ ايات من القران بشفاه مرتجفة ثم اغمض عينيه وردد بعض عباراته القوية. وعندما فتح عينيه تيقن من الخطر الكبير القادم نحوه, وهو خطر اكثر فظاعة من الخطف او الاعتداء او سرقة البهائم. ومن جديد امسك بمزماره اللطيف بيديه المضطربتين وصمم ان يجود العزف


وحاولت البنات ان يشددن انتباه امهن لكى تستمع جيدا الى مقترحاتهن, الا انها كانت تسرح بخيالها طوال الوقت واحيانا ينقبض وجهها ويبين عليه التوتر. وهن يدركن جيدا ثقل التكليف وفظاعة النتائج المترتبة على الاخفاق فى حالة اصرار الاب على تحميل الام مسؤولية ما يحدث لابنها. وبالرغم من يقينه من خلو خططه من الثغرات الا ان الخوف كان ينتاب حديد بين لحظة و اخرى. وهو لم يستبعد احتمال هجوم اللصوص المسلحين فى اى لحظة. وقد ظل على الدوام يعيد تثبيت السكين فى غمدها المثبت فى ذراعه رغم انه يدرك ان استخدامها يعد عبثا مع المجرمين ويكون عندئذ غالى التكلفة. وبعد حين اطرق مليا وهو يراجع الخطة التى وضعها من قبل لمواجهة المخاطر. وبعد فترة قصيرة احس بالجوع فذهب وجمع حليب شاة فى اناء من القرع الجاف. ثم صب الحليب على قطع من فطائر الدخن والسكر. وقبل ان ياكل قرأ ايات من القرآن ولعن الشياطين والثعابين ثم مرر يده على ذراعه وعلى السكين والعصا, ومع ذلك لم يقتنع كليا بانه قد تمكن من طرد الوساوس والخوف الى الابد. وتوقفت اطراف اصابعه عند ندبة على ذراعه الايسر فضغط عليها بحرص شديد. وتذكر وقت ظهور الندبة وما ناله وقتها من اعجاب الاطفال وتقديرهم. فقد كان سباقا فى تنفيذ عادة الفصد لاثبات شجاعتة امام اقرانه. ومنذ تلك اللحظة التى حصد فيها التقدير الناتج عن عملية الفصد, شعر بالفخر وميزة السبق. وحين اقتنع بعدم جدوى الانتظار, قام ونفض ملابسه وفرد ذراعيه ورفع صدره عاليا عريضا وهو ينظر الى غنمه التى ترعى بمرح فى المرعى الاخضر الواسع

فى البيت حاولت ام حديد الدفاع عن قرارها وحين اتضح لها نزوع البنات الى التحامل على اخيهن تركتهن وذهبت الى جارتها. كانت تمسك بكوب القهوة وهى تحاول التركيز والاستماع الى جارتها, وهى تروى تفاصيل مهمة من قصة اعتداء حدثت لعابر سبيل وسببت له اعاقة دائمة. وادلت بدلوها فى الحديث فقالت للنساء بان الاعتداءات تتم كذلك على المنعزلين فى المزارع من رجال ونساء, لكن النساء بادرن بزرع الطمانينة فيها حين لاحظن الجزع الشديد على وجهها. وفى طريق رجوعها ال البيت انتابها الخجل الشديد من الطريقة المروعة التى نقلت بها خوفها على ابنها وفكرت فى اثرها فى تراكم المزيد من مشاعر الخوف والشفقة لدى النساء. وكان ابنها فى تلك الاثناء يتحرك بارجل حذرة مبتعدا عن مكان الغنم لينصب شراكا للطيور قرب شجيرة صغيرة. ثم انتظر على البعد وهو يعزف على مزماره فلاحظ ان الغنم اغتنمت فرصة ابتعاده لتنتشر فى كل الاماكن المتاحة لها, فعاد وبذل جهدا كبيرا فى لم شملها. وتلفت ذات اليمين وذات الشمال وهو واقف ميمما وجهه تجاه النيل الابيض فلم يجد امامه غير الفراغ الكبير الممتد. رأى المساحات تتمدد والاشجار تكبر ويزداد طولها وتتحرك مبتعدة عنه ومعها الطيور والقرود. واحس بلفحة الحر القوية تضغط على بشرته الجافة. ثم جلس فأرخى اذنه ليسترق السمع الى اصوات تؤنس وحشته فلم يسمع الا صدى صوته المختلط بصياح الاغنام. قام وهو مشوش الفكر يضرب بعكازه على الارض ويخطو حذرا باتجاه الشاطئ. ووقف عند الشاطئ وهو ينظر الى صدر النهر العريض الممتد الى ما لانهاية, وركز البصر حول انف النيل الشامخ الموسوم بالرفعة. وبعد حين تضجر من هجر الكل للمكان هربا من غيظ الظهيرة. وفى هذا الوقت لا يوجد هناك انسان ولا حيوان ولاقارب ولا صيادى سمك ولا شئ غير الفراغ الرهيب الذى يلقى بحمله الاليم على كاهله. وعند العصر انحنى ومد يده ليشرب من الماء ومن تبر الشمس المنسكب على جسم النيل ليزيد من زينته بنقش بديع, ويزيد من قوته وقدرته على الصمود. وعندما وقف تذكر خطة الدفاع فعمد الى ممارسة بعض التمارين بالعصا والسكين. وكان يعلم بخطورة استخدام السلاح ويدرك جيدا ان اللجوء اليه لا يكون الا فى حالات الضرورة القصوى, كذلك يدرك خطل افكاره بالمبادرة بالهجوم على عدو شرس وعنيف. ثم فكر بعد ذلك فى امكانيات الفشل والنجاح اذا اضطر للهرب

وعند العصر رجع بعض الرعاة الى القرية بغنمهم ومروا بساحة التجمع, حيث كانت ام حديد وجلة تقف منتظره لابنها, فسألت كل واحد منهم عنه واستفاضت فى الحديث. وحين لم تجد اجابة يطمئن لها قلبها ركنت الى شعورها الراسخ بان ابنها قد اصابه مكروه بلا شك. وكلما مر الوقت يزداد قلقها, لكنها استمرت فى الحديث بلسان مرتبك رغم تشبثها بالتماسك. و انتظرت فى المكان وهى تترقب مجئ ابنها وتراقب الشمس وهى تتجه بسرعة نحو المغيب. وبعد انقطاع تدفق البهائم نحو القرية يئست الام الحزينة ودلفت نحو البيوت لتسأل الناس اذا كانوا قد سمعوا اى اقوال تؤكد اصابه ابنها بمكروه او تؤكد سلامته. وفى طريق الرجوع الى بيتها كانت تسرى فى جسمها الرعشة وتسيطر عليها الوساوس ومشاعرالرعب المذهل. ولم تنتظر طويلا فذهبت الى ابناء عمومة حديد وطلبت منهم ان يتحركوا بسرعة لانها تعتقد انه قد قتل. وبدون تفكير تحرك الرجال طالبين مساعدة الاخرين. وعم الفزع بين النساء وهرعن لتقديم المساعدة لها عند سماعهن بالخبر وانتشر الخبر بروايات مختلفة وعم القرية. واصبح بعض الناس يتحدثون عن قتل مباغت والبعض الاخر عن قتل الصبى بعد ان قاوم الاختطاف ومحاولة الاعتداء. والناس فى مثل هذه الاحوال لا يتحدثون بدقة ويميلون الى التعميم اواضافة مشاعرهم, كل حسب قدرته وخبرته وتعليمه, وبعضهم يذهب بنفسه لكى ينقل الاخبار الى الاخرين. والسبب فى كل هذا هو انعدام الهواتف وانتشار الامية. ويعتمد الناس على المذياع فى تلقى الاخبار الخارجية واخبار الوفيات. والخبر يداهم الفرد رغما عنه لان مدى الخصوصية هنا محدود. علاوة على ذلك فان البيوت متلاصقة واسوارها قصيرة ومبنية من القش والحطب والطين


وتسارع اقارب حديد لحث الناس على عمل شئ قبل حلول الظلام و تفرقوا لشرح خطة التحرك بسرعة. وكذلك شاركت النساء فى التعبئة واستخدمن مقدرتهن على سرد الحكايات العاطفية والهاب المشاعر. واصبح الجو مشحونا بالتوتر والكل يستعد للحرب. وقام رجال بنفخ ابواق تسمى أم باية, وهى ابواق مصنوعة من قرون الثيران. وامتطى بعض الرجال ظهور الحصين والحمير وهم يحملون البنادق والسيوف والحراب. وضرب اخرون على طبول النقارة. واصبح المكان يهتاج ويئن من هدير الرصاص المنطلق فى الفضاء وصخب الرجال ولمعان السيوف والحراب. وعندما رات ام حديد المشهد طمعت ان ترى خلال الدقائق القادة سحابة كأبتها وهى تهرب مسرعة فى اتجاه عالم التلاشى السريع

وتحرك جمع الرجال فى صفوف منتظمة وكان يتقدمهم الفرسان وهم يركبون الخيل والحمير وسار خلفهم الراجلين والنساء وهن ينشدن الاشعار الحماسية. وفى منتصف المسافة توقفت النساء وانتظرن. و كان حديد فى تلك الاثناء يحاول حل المشكلة التى تركته يعيش احباطا شديدا ويشعر بانه فشل فى اول يوم له كراعى بهائم مستقل. وتحرك الرجال وابتعدوا ستة كيلومترات من مكان النساء فوجدوا الراعى يركب حماره ويقود بهائمه ويحثها على الاسراع. وعندما شاهدوه اطلقوا الرصاص فى الهواء وصاحوا باصوات عالية وعزفوا الطبول والابواق. وتسارع الشباب بالعشرات لمصافحته مصافحة الابطال, وكل يهنئ ويثنى عليه. اما هو فكان مندهشا لكنه لم يجد فرصة ليسال عن حقيقة ما حدث. ومع ذلك شعر بنشوة عارمة عندما شاهد روعة الاستقبال والحفاوة. وظل صعيد حمى الدهشة على نفس المستوى الذى راه عندما استدعى تفاصيل احداث مماثلة جرت فى الماضى لشباب فى القرية. لكن ما حدث له اتاه بطعم ونكهة مميزين. ولم تستطع النساء المنتظرات قرب القرية ان يتبين ملامح الاشباح التى ظهرت من خلال اشعة المصابيح حتى اقترب موكب الرجال منهن كثيرا. واقترب كذلك الهدير المدوى والضرب وعزف الطبول الذى كان يهز الارض. وعندما الوصول عمت المكان زغاريد الفرح وغنت النساء اغانى الحماسة والبطولة وذهبن بالعشرات لتهنئة ام حديد. وهى كانت تستقبلهن بالاحضان ودموع الفرح تبلل خديها وملابسها الغنية بالالوان. وزادت من بكاءها عندما رات ابنها فخورا وهو يجلس على ظهر حماره ويسير وسط موكب الرجال. وتاكدت من انه قد احرز نجاحا باهرا فى اول اختبار له. وكانت فرحتها تزيد كلما رأت احتفال الناس بابنها واعجابهم به يكبر وينمو. واصبحت ترى فيه بطلا يكبر و يزداد طولا وحجما ومنعة. وشعرت بان الناس هنا لن يتركوها لوحدها لتواجه الظروف الصعبة. وزال الخوف الذى اعتراها منذ ان غاب عنها زوجها. والناس فى هذه القرية يتضامنون فى كل شئ, فى البناء والزراعة والاغاثة ورد العدوان والكوارث. ولم تقل جذوة نار الاحتفال الذى استمر مع الغناء والرقص العنيف حتى منتصف الليل, وذبحت فيه الكثير من البهائم


وكان حديد قد بدا منذ العصر يبحث بين الشجيرات وفى جداول الماء والبرك. ولان الوقت قد مر عليه بدون الحصول على نتيجة, ولان التعب انهكه بشدة, ولانه كان يرى الشمس منهمكة بسرعة وماضية بعناد فى اتجاه المغيب, قرر ان يتوقف عن البحث. واحس فى تلك اللحظات بان سواد الليل سيحل عليه فى الخلاء ويحمل معه الاخطار, وان الذى خشى منه سيحل به لا محالة. وهو كان يتوقع اعتداء اوسرقة اوهجوم من لصوص او من حيوانات مفترسة او شياطين. ولم يستطع التخلص من المشاعر السيئة, بل زادت عندما فشل فى العثور على العنزة التى ضاعت منه, لانه متيقن بان ضياعها سيحسب سلبا عليه وعلى مقدرته على تحمل المسؤلية. وبمرو الوقت احاط به الاحباط الكثيف من كل جانب. وفكر فى امره وكرر المحاولة مرة ومرة اخرى, ففشل. واخيرا توقف عندما حاصره الوقت. واتخذ قرارالعودة بعد غياب الشمس. وعندما كان عائدا كان مهموما تعيسا ويحس بوخز الفشل فى كل قطعة من جسمه. لكنه صادف الناس المتجهون نحوه. وعندما نظر اليهم بتمعن اغتبط كثيرا ونسى ما حدث له. كذلك نسى كل مشاعر الاحباط. ودخل مع الناس فى جو الفرح الكبير المقترن بالثناء والاعجاب واصوات الرصاص ورائحة البارود وومضات الشرر وهدير الاناشيد والزغاريد وضرب الارجل الراقصة التى لازمته اصواتها حتى الصبح


قديم 05-24-2014, 12:50 PM
المشاركة 2
محمد مهاجر
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
قصة من الريف السودانى
ارجو منكم المساهمة بالنقد والتعليق

شكرا

قديم 06-02-2014, 11:30 PM
المشاركة 3
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أهلا بالكاتب محمد مهاجر

فرح بقراءة نصك الجديد الذي يثير ظاهرة تشغيل الأطفال و ينقل هذا الاحتفاء بهذا الراعي الصغير الذي بصم اسمه في عالم المسؤولية ، ذكرني هذا باحتفال القرويين بأبنائهم و هم يحققون انجازا معينا ، كاحتفال حفظ القرآن ، واحتفال صيام أول يوم من رمضان ، و غيرها من الإنجازات التي تعبر عن نقلة نوعية تحدث في حياة الطفل وتقربه من عالم المسؤولية ، و لا أظن احتفال الزفاف خارج عن هذا السياق كما احتفال الحصول على وظيفة وغيرها من المكتسبات .

فنيا النص مبني بشكل جيد ، كما احتفظت باسلوبك الروائي الذي تتوخى دائما من خلاله نقل الجزئية و كشف المشاعر و إيضاح الموقف ، مما يوحي أحيانا بالتكرار و الاسترسال الزائد عن اللزوم و أتحاشى هنا استعمال الإطناب أو الحشو لأنها تحمل صفات السلبية ، فلكل كاتب أسلوبه و مميزات كتاباته التي قد يراها البعض تخل بالعمل الأدبي و يراها الكاتب ضرورية لتوضيح الصورة .

رغم ذلك فلابد من الاشتغال على الحذف و على الإيحاء كعنصريين يقلصان من طول النص و يحولان دون الإحساس بالرتابة و الاستطراد الذي يسبب الملل . كما أن تغيير الإيقاع في النصوص يغني المجموعة القصصية .

دائما أنتظر جديدك .

تحياتي

قديم 06-19-2014, 07:56 AM
المشاركة 4
محمد مهاجر
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الاخ ياسر على شكرا على ملاحظاتك القيمة

جانب اخر من شخصية الراعى الصغير وهو انه استغل فرصة غياب الاب ليحاول فرض سلطته على النساء وعدم الاكتراث بارائهن


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: الراعى الصغير
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأمير الصغير أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 2 02-20-2022 06:09 AM
النَّصَّابُ الصغير ...!!! ق.ق.ج محمد أبو الفضل سحبان منبر القصص والروايات والمسرح . 8 10-05-2021 03:43 PM
الوحش إبن النعجة وربيب الراعي عبد الله المنصور منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 2 01-29-2020 12:52 PM
منابر ثقافية الراعي الرسمي لقناة عالي الفضائية في بطولة الإعلاميين الرابعة مراسل المقهى 1 10-20-2014 09:18 AM
الشاعر المبدع حسن الراعي أهلا بك تركي عبد الغني المقهى 9 07-20-2011 06:32 AM

الساعة الآن 09:51 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.