قديم 01-05-2018, 03:15 PM
المشاركة 11
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
وإذا جئنا للوصف فإن "فمن يقرأ وصف الذئب والقطا في لامية الشنفرى يجد أنه إبداع حقيقي، بل إبداع من نوع خاص سلك فيه الشاعر مسلكا متميزا عن سابقيه ينم عن خبرة بحيوانات الصحراء وطيورها وعن تفاعل الشاعر معها".



"فقد جاءت صورة الذئب والقطا في معرض تفاعل الشنفرى وحيوانات البيئة الصحراوية وطيورها وتمثيله للصراع القائم في الصحراء عن طريق جعلهما شريكين له في صراعه وكذلك إبراز شجاعته وقدرته الفائقة على التحدي والتغلب على الصعاب بإظهار نفسه أسرع من الذئب مرة وأسرع من القطا مرة ثانية".



فنلمس في علاقته بالذئب مسألة التكامل بين الطرفين المتحابين، فهما في الهمّ سواء، كما يستخدم في وصفه عدة أسماء له فهو سيد عملس وأزل، كاهتمام العرب بإطلاق أكثر من مسمى على الحيوانات التي لها مكانة مميزة عندهم:



وأَغْدُو على القُوتِ الزَهِيدِ كما غَدَا
أَزَلُّ تَهَادَاهُ التنَائِفَ أطْحَلُ
غَدَا طَاوِياً يُعَارِضُ الرِّيحَ هَافِياً
يَخُوتُ بأَذْنَابِ الشِّعَابِ ويُعْسِلُ
فَلَما لَوَاهُ القُوتُ مِنْ حَيْثُ أَمَّهُ
دَعَا فَأجَابَتْهُ نَظَائِرُ نُحَّلُ
مُهَلَّلَةٌ شِيبُ الوُجُوهِ كأنَّها
قِدَاحٌ بأيدي ياسِرٍ تَتَقَلْقَلُ
أوِ الخَشْرَمُ المَبْعُوثُ حَثْحَثَ دَبْرَهُ
مَحَابِيضُ أرْدَاهُنَّ سَامٍ مُعَسِّلُ
مُهَرَّتَةٌ فُوهٌ كَأَنَّ شُدُوقَها
شُقُوقُ العِصِيِّ كَالِحَاتٌ وَبُسَّلُ
فَضَجَّ وَضَجَّتْ بالبَرَاحِ كأنَّها
وإيّاهُ نُوحٌ فَوْقَ عَلْيَاءَ ثُكَّلُ
وأغْضَى وأغْضَتْ وَاتَّسَى واتَّسَتْ به
مَرَامِيلُ عَزَّاها وعَزَّتْهُ مُرْمِلُ
شَكَا وَشَكَتْ ثُمَّ ارْعَوَى بَعْدُ وَارْعَوَتْ
وَلَلْصَبْرُ إنْ لَمْ يَنْفَعِ الشَّكْوُ أجْمَلُ
وَفَاءَ وَفَاءَتْ بَادِراتٍ وَكُلُّها
على نَكَظٍ مِمَّا يُكَاتِمُ مُجْمِلُ

قديم 01-05-2018, 03:16 PM
المشاركة 12
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
فهو يخرج لطلب القوت مثل الذئب الذي دعا أصحابه ليشاركوه البحث عنه، "وواضح أن الشاعر أسقط على الذئب كل ما يجيش في نفسه، إذ كان بلوغ القوت هو أمنيته التي تهيئ له الحياة الكريمة والاستقرار في ظل عشيرة وأهل ينعم في الحياة معهم، وهو غير قادر على تحقيق ذلك بدون الذئب السريع الذي يوصله إلى الزاد عبر المفاوز المقفرة والمسافات الطويلة، لذا صور الذئب بهذه الصورة ليحقق لنفسه الغاية المنشودة".



"فاستطاع الشاعر أن يصنع علاقة معاناة وتشرد وخوف وضياع بينه وبين الذئب، إذ إنه بوجود الأهل والقوت يتحقق الرخاء والاستقرار والأمن، وغيابهما يدخله في دائرة البؤس والشقاء ورفض الواقع المعيش، والبحث عن واقع بديل من وجهة نظر الشاعر هو أفضل مما هو كائن، وهذا ما أشقى الشاعر وأضناه، إذ إنه حاول الخروج من دائرة الأهل والعشيرة واللجوء إلى عالم آخر يتكامل معه" وهو عالم الحيوان:



وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُون : سِيدٌ عَمَلَّسٌ
وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وَعَرْفَاءُ جَيْأَلُ
هُمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّرِّ ذَائِعٌ
لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ


وهذا يذكرنا بقول الشاعر:



عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير


ونجد صورة القطا تدلنا على مثل هذا التكامل، إذ نجد الشاعر يسقط مشاعره وأحاسيسه وحالته النفسية على هذا الطائر:



وَتَشْرَبُ أسْآرِي القَطَا الكُدْرُ بَعْدَما
سَرَتْ قَرَبَاً أحْنَاؤها تَتَصَلْصَلُ
هَمَمْتُ وَهَمَّتْ وَابْتَدَرْنَا وأسْدَلَتْ
وشَمَّرَ مِنِّي فَارِطٌ مُتَمَهِّلُ
فَوَلَّيْتُ عَنْها وَهْيَ تَكْبُو لِعُقْرِهِ
يُبَاشِرُهُ منها ذُقُونٌ وَحَوْصَلُ
كأنَّ وَغَاها حَجْرَتَيْهِ وَحَوْلَهُ
أضَامِيمُ مِنْ سَفْرِ القَبَائِلِ نُزَّلُ
تَوَافَيْنَ مِنْ شَتَّى إِلَيْهِ فَضَمَّهَا
كما ضَمَّ أذْوَادَ الأصَارِيمِ مَنْهَلُ
فَغَبَّ غِشَاشَاً ثُمَّ مَرَّتْ كأنّها
مَعَ الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ


فهو عندما يطلب الماء يتتبع القطا حيث تذهب إليه فيسبقها لسرعة عدوه المشهورة عند الصعاليك، فترد القطا بعده وتشرب سؤره، فجموع القطا تشعر بما يشعر به من العطش، فيتسابقان إلى الماء.



فالشاعر عند حديثه عن "الذئب وعشيرته وكذلك حديثه عن أسراب القطا يحكي لنا مشاعره وأحاسيسه، فعندما يشبه نفسه بالذئب فهذا يعني أنه يتحدث عن نفسه، إذ جعل حديثه عن الذئاب مجالا للإفصاح عن تجربته الشعورية، وبانتقاله إلى الحديث عن القطا يظهر لنا قدرته الفائقة على العدو، وهو بذلك يريد أن يبرر سمة الصراع من أجل الماء وهي هاجس البدوي في الصحراء، وهي أيضا نزعة وجدانية لدى الشاعر تأتت غليه حين هجر قومه فوجد لدى الحيوانات البديل والمستراح.



قديم 01-05-2018, 03:17 PM
المشاركة 13
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
التعبيرات الفنية

إذا تتبعنا التعبيرات الفنية التي استخدمها الشنفرى ليبث ما يدور بداخله من آلام وشعور بالغربة، فسنجد ارتفاعا في النضج الفني لديه، وإن ابتعد عن الاستقصاء في وصف مال يدور بداخله، إذ يكتفي بالإشارات السريعة التي تجعلنا نعمل الذهن في استخلاص فنيتها، فقد بدأ قصيدة بالنداء صارخا في قومه الذين شعر منهم بالنبذ ولم يجد منهم ما تصبوا إليه نفسه:



أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ
فَإنِّي إلى قَوْمٍ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ
وَشُدَّتْ لِطِيّاتٍ مَطَايَا وَأرْحُلُ


واختار هذه الصلة "صلة الأمومة"؛ لأنها أقرب الصلات إلى العاطفة والمودة التي يفتقدها الصعلوك طريد الصحاري، "وذلك ليرميهم بالفضيح ويسجل عليهم بالقبيح؛ لأن الأم شأنها الحنوّ والشفقة، وأولادها من شأنهم المحبة والتراحم، وقد خرجوا معه من حيز التصافي إلى حيز التنافي".



ويتناص هذا البيت مع بيت عروة بن الورد يستنفر قومه للإغارة على القوافل:


أقيموا بني لبنى صدور ركابكم
فكل منايا النفس خير من الهزل



بيد أن الغرض يختلف، فعروة يستنفر قومه ليتبعوه ويلتزموه في طريق الإغارة، وهو ما يقصده بإقامة الصدور، أما الشنفرى فغرضه من إقامة الصدور تنبيه قومه ليقوموا من أخلاقهم معه إذ اضطرته معاملتهم إلى هجرهم، أو يقصد استعدادهم لرحيله عنهم أو أنه لا مقام لهم بعد رحيله.



ونلحظ في اللامية البعد عن المقدمة الطللية أو الغزلية التي يتميز بها الشعر الجاهلي، ويرى الدكتور يوسف خليف أن السبب في ذلك جنوح الصعاليك إلى الوحدة الموضوعية في شعرهم ومقطعاتهم، إذ المقدمات الطللية تخل بهذه الوحدة الموضوعية، ولكني أرى السبب هو الشعور النابع عنه الاستهلال، ذلك أن الشعور الذي ينتاب الشعراء الجاهليين - غير الصعاليك - هو الحنين للماضي أو للمحبوبة أو للديار.. أما الأزمة النفسية التي يعيشها الصعلوك فهي الشعور بالنبذ الاجتماعي والفقر، لذا فهو يبدأ قصائده بالحديث عن هذا كما يبدو من مقدمة "اللامية" محل الدراسة.



ونظرا لنزوع الصعلوك للبعد عن المجتمع وعزوفه عنه إلى حياة الإغارة والنهب جعلته يتحلل من الولاء للقبيلة فلا نجد اعتزازه بهم مثلما هو الحال في الشعر الجاهلي "لأن ما بينه وبين عشيرته انقطع، فلم تعد له قبيلة، وإنما أصبح شعره صورة صادقة من حياته هو".

لَعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على امْرِئٍ
سَرَى رَاغِبَاً أَوْ رَاهِبَاً وَهْوَ يَعْقِلُ


والأرض واسعة سواء لصاحب الحاجات والآمال أم للخائف، بشرط أن يكون عاقلا متزنا بصيرا بالأمور، فطلب الآمال والتهرب مما يخاف منه يتطلب الحكمة والتعقل، خاصا لمن كان طريدا!



هُمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّرِّ ذَائِعٌ
لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ


أشار إلى الحيوانات بالضمير "هم" ووصفهم بالأهل تأكيدا على أفضليتهم عن أهله الذين خذلوه، وعلل الوصف بأنهم لا يذيعون سره أو جرائمه بل ويناصرونه وإن كان مخطئا، عكس ما يفعله الناس!! وكأن الجريمة أصبحت في نظر الشنفرى هي الصواب الذي ينبغي لأهل الجاني الوقوف معه فيها وحمايته. إن هذا البيت يظهر مدى بغض الشنفرى لأهله لعدم تأييده في باطله، ويبين إصراره على المواصلة في طريق الجريمة.




قديم 01-05-2018, 03:19 PM
المشاركة 14
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
ومن التعبيرات الفنية الظاهرة في لامية الشنفرى "المفارقات"، وهي وسائل فنية يحاول بها إظهار محاسنه وتميزه عن غيره..



وَكُلٌّ أَبِيٌّ بَاسِلٌ غَيْرَ أنَّنِي
إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِدِ أبْسَلُ
وَإنْ مُدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُنْ
بَأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ


فهو سريع في ملاحقة الفريسة.. بطيء في مد الأيدي إليها!



والشعور بالغربة يدفعه لسرد محاسنه ليثبت استغناءه عن الناس:



ولا جُبَّأٍ أكْهَى مُرِبٍّ بعِرْسِهِ
يُطَالِعُها في شَأْنِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ
وَلاَ خَرِقٍ هَيْقٍ كَأَنَّ فؤادَهُ
يَظَلُّ به المُكَّاءُ يَعْلُو وَيَسْفُلُ


وهو في الصحاري ليس بأحمق تخادعه الصحراء فلا يهتدي لطريقه..

وَلَسْتُ بِمِحْيَارِ الظَّلاَمِ إذا انْتَحَتْ
هُدَى الهَوْجَلِ العِسّيفِ يَهْمَاءُ هؤجَلُ


ونلاحظ في أبيات القصيدة ما يمكن تسميته بـ "بعثرة الأبيات"، إذ نجد عدم تنظيم وتناسق في سرد ما يتحدث عنه الشاعر، فهو يصف عفته وترفعه عن إظهار الشره في الأكل:

وَإنْ مُدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُنْ
بَأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ


وبعده بخمسة أبيات يقول:

وَأغْدو خَمِيصَ البَطْن لا يَسْتَفِزُّنيِ
إلى الزَادِ حِرْصٌ أو فُؤادٌ مُوَكَّلُ


وكان الأجدى أن تتلوا الأبيات بعضها لتصبح متناسقة، غير أن الطبيعة الفطرية لشعر الصعاليك وبعدهم عن الكتابة التي هي مما يساعد على إعادة النظر والتنظيم أدى إلى هذه الظاهرة!

قديم 01-05-2018, 03:22 PM
المشاركة 15
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
والشاعر يلجأ للوصف السريع لما يستغني له عن أهله:



ثَلاَثَةُ أصْحَابٍ : فُؤَادٌ مُشَيَّعٌ
وأبْيَضُ إصْلِيتٌ وَصَفْرَاءُ عَيْطَلُ
هَتُوفٌ مِنَ المُلْسِ المُتُونِ تَزِينُها
رَصَائِعُ قد نِيطَتْ إليها وَمِحْمَلُ
إذا زَلَّ عنها السَّهْمُ حَنَّتْ كأنَّها
مُرَزَّأةٌ عَجْلَى تُرنُّ وَتُعْوِلُ


فهو يسترسل في وصف قوسه وإظهار محاسنها الضئيلة التي لا تستحق الذكر، فهي ذات صوت حين يطلق بها السهم، وملساء لا خشونة فيها تؤذي اليدين، ومرصعة بما يزين به، وقد ذكر القوس والسيف بأوصافهما دون تصريح بالأسماء، إذ يحرص على إظهار المحاسن! إذ يبدو في وصفه حيل الدفاع النفسي تجاه بني قومه الذين استعاض عنهم بهذه الأشياء، فعمل على تقديم الوصف، وأنها تفيده أكثر منهم إذ حين تمر عليه ليلة برد شديد يصطلي بها:

وَلَيْلَةِ نَحْسٍ يَصْطَلي القَوْسَ رَبُّها
وَأقْطُعَهُ اللَّاتي بِهَا يَتَنَبَّلُ


ولعله يقارن بين حنين الأم (القوس) لولدها (السهم) حين خرج من حضنها وهجرها فتصرخ وتولول عكس قومه الذين لم يأسفوا عليه حين هجرهم!



ويهول في وصف قوة عدْوه فهو حين يعدو تتطاير الحجارة الصغيرة من حول قدميه، فيضرب بعضها بحجارة أخرى، فيتطاير شرر نار وتتكسَّر.

إذا الأمْعَزُ الصَّوّانُ لاقَى مَنَاسِمِي
تَطَايَرَ منه قَادِحٌ وَمُفَلَّلُ


وتبدو حياة الصعلكة حين يتغلب على الجوع ويتناساه ويماطله حتى ييأس منه!

أُديمُ الجُوعِ حتّى أُمِيتَهُ
وأضْرِبُ عَنْهُ الذِّكْرَ صَفْحاً فأُذْهَلُ


ويفضل أن يستفَّ تراب الأرض على أن يمدّ أحد إليه يده بفضل أو لقمة يمنّ بها عليه:

وَأَسْتَفُّ تُرْبَ الأرْضِ كَيْلا يُرَى لَهُ
عَلَيَّ مِنَ الطَّوْلِ امْرُؤٌ مُتَطَوِّلُ

قديم 01-05-2018, 03:24 PM
المشاركة 16
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
ورغم سوق الشنفرى لمحاسنه فإنه يقع في التناقض، ولا عجب فالكذب لا يفلح وحتما ينكشف صاحبه، فهو إذ يؤكد أنه لولا تجنُّبه الذم وسوء السيرة لحصل على ما يريده من مأكل ومشرب بطرق غير كريمة:

ولولا اجْتِنَابُ الذَأْمِ لم يُلْفَ مَشْرَبٌ
يُعَاشُ به إلاّ لَدَيَّ وَمَأْكَلُ


"وإذا كان الجوع أقسى ما يصبه الفقر من سياط على جسد الفقير فإن هناك سياطا أخرى لا تقل قسوة عن سياط الجوع ولكنها سياط نفسية عصبية يصبها الفقر على نفس الفقير"[20].



بيد أنه في أبيات أخرى يتفاخر بإغارته على الناس وسلبهم، فيبطش بهم فيرمل نساءهم وييتم أطفالهم!



وَلَيْلَةِ نَحْسٍ يَصْطَلي القَوْسَ رَبُّها
وَأقْطُعَهُ اللَّاتي بِهَا يَتَنَبَّلُ
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وَبَغْشٍ وَصُحْبَتي
سُعَارٌ وإرْزِيزٌ وَوَجْرٌ وَأفَكَلُ
فأيَّمْتُ نِسْوَانَاً وأيْتَمْتُ إلْدَةً
وَعُدْتُ كما أبْدَأْتُ واللَّيْلُ ألْيَلُ
ويسرد محاسنه فهو حليم لا يستخفه الجهلاء، متعفِّف عن سؤال الناس، بعيد عن النميمة وإثارة الفتن بين الناس، صبور، شجاع، حازم، لا الفقر يجعلني أبتئس مظهراً ضعفي، ولا الغنى يجعلني أفرح وأختال.



ونجد في وصف البرد والجوع تلاعبا في الألفاظ من جناس وتقارب في الحروف بتنسيق يعطي سيمفونية تطرب لها الآذان:



دَعَسْتُ على غَطْشٍ وَبَغْشٍ وَصُحْبَتي
سُعَارٌ وإرْزِيزٌ وَوَجْرٌ وَأفَكَلُ
فأيَّمْتُ نِسْوَانَاً وأيْتَمْتُ إلْدَةً
وَعُدْتُ كما أبْدَأْتُ واللَّيْلُ ألْيَلُ
فهو يغير بشدة على قوم ليلا، في ظلام ومطر مع أصحابه الذين سعّر الجوع أجوافهم في برد ورعدة وارتعاش، فرمل ويتم وعاد كما بدأ دون أن يخسر أو يصاب والليل ما زال شديد الظلمة، ما يدل على سرته الشديدة في الإغارة والعودة وتنفيذ المهمة على أكمل وجه دون خسائر!



ثم يستدرك الشاعر كيف نظرة القوم الذين أغار عليهم ودهشتهم وعدم شعورهم بما حدث نتيجة السرعة في تنفيذ العملية:

وأصْبَحَ عَنّي بالغُمَيْصَاءِ جَالساً
فَرِيقَانِ: مَسْئُولٌ وَآخَرُ يَسْألُ
فَقَالُوا: لَقَدْ هَرَّتْ بِلَيْلٍ كِلَابُنَا
فَقُلْنَا: أذِئْبٌ عَسَّ أمْ عَسَّ فُرْعُلُ
فَلَمْ يَكُ إلاَّ نَبْأةٌ ثُمَّ هَوَّمَتْ
فَقُلْنَا: قَطَاةٌ رِيعَ أمْ رِيعَ أجْدَلُ
فَإِنْ يَكُ مِنْ جِنٍّ لأبْرَحُ طارِقاً
وإنْ يَكُ إنْسَاً ما كَها الإنسُ تَفْعَلُ
فيسترسل في ذكر حديث القوم في الصباح وتعجبهم من نباح كلابهم ليلا لمدة قصيرة ثم هدأت! وهذا لسرعة عدو الشنفرى لدرجة أن الكلاب لم تلحظه مدة طويلة حتى توقع القوم أن تكون نبحت لرؤية شيء سريع لن يكون إلا صقر أو قطاة، فقد تعوَّدوا أن يقوم بالغارة جماعة من الرجال لا فرد واحد، وأن يشعروا بها فيدافعوا عن أنفسهم وحريمهم، أمَّا أن تكون بهذه الصورة الخاطفة فهذا الأمر غير مألوف، ولعل الذين قاموا بها من الجنّ لا من الإنس!



وبعد ذكره لتحمله الشديد ليوم شديد البرودة، يذكر مدى تحمله للحر الشديد، فربّ يوم شديد الحرارة تضطرب فيه الأفاعي رغم اعتيادها شدة الحرّ، واجهت لفح حره دون أي ستر على وجهي، وعليّ ثوب ممزّق لا يردّ من الحر شيئاً قليلاً:



وَيومٍ مِنَ الشِّعْرَى يَذُوبُ لُعَابُهُ
أفاعِيهِ في رَمْضائِهِ تَتَمَلْمَلُ
نَصَبْتُ له وَجْهي ولا كِنَّ دُونَهُ
ولا سِتْرَ إلاَّ الأتْحَمِيُّ المُرَعْبَل

قديم 01-05-2018, 03:24 PM
المشاركة 17
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
ثم يأتي في وصف جسده النحيل لا أجد سببا في هذه الوصف الوضيع إلا الندب والحزن الذي لا يتفق مع الوصف المتعالي الذي قابلناه من قبل، فوصفه نفسه بالشجاعة والعدو السريع وقوة البطش في الإغارة والقتل لا يتفق مع جسد نحيل ضعيف هزيل جائع!! وما ذلك إلا لتنكشف حقيقة الشنفرى وهي أن وصفه المتعالي كان حيلة دفاعية تلقاء نبذ قومه له وعلاقته السيئة بالناس!



وآلَفُ وَجْهَ الأرْضِ عِنْدَ افْتَراشِها
بأَهْدَأَ تُنْبِيهِ سَنَاسِنُ قُحَّلُ
وَأعْدِلُ مَنْحُوضاً كأنَّ فُصُوصَهُ
كعَابٌ دَحَاهَا لاعِبٌ فَهْيَ مُثَّلُ


ويطوي أمعاءه على الجوع فتصبح لخلوّها من الطعام يابسة ينطوي بعضها على بعض كأنها حبال أُتقن فتلها..



وَأَطْوِي على الخَمْصِ الحَوَايا كَما انْطَوَتْ
خُيُوطَةُ مارِيٍّ تُغَارُ وتُفْتَلُ
إن الشنفرى الصعلوك لم يتعال على قومه الذين فارقهم ونبذوه فقط! بل يتعالى على الطبيعة نفسها وما فيها، بل تعالى على الإنس والجن والطير والحيوان والليل والنهار والبرد والحر!! فهو يستطيع التصرف في الليلة الباردة الشديدة بمنتهى القوة دون التأثر بالظروف، وفي اليوم الصائف الشديد الحرارة ينصب وجهه لذلك اليوم متحديا إياه دون ستر رغم أن ملابسه ممزقة لا تقيه منه، وطيور القطا المعروفة بالسرعة والخفة يسبقها الشنفرى إلى الماء حتى أنها تدرك سؤره المتساقط خارج المنبع:

وَتَشْرَبُ أسْآرِي القَطَا الكُدْرُ بَعْدَما
سَرَتْ قَرَبَاً أحْنَاؤها تَتَصَلْصَل

قديم 01-05-2018, 03:25 PM
المشاركة 18
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
والتعسف في وصف بعده عن النظافة لا أجد له تفسيرا سوى ندب الحال، فإن الإنسان مهما حاول إظهار التعالي والصبر والتجلد لا يلبث أن يبدو في كلامه ما يدل على إحساسه بالدونية والقهر:



وَضَافٍ إذا طَارَتْ له الرِّيحُ طَيَّرَتْ
لبائِدَ عن أعْطَافِهِ ما تُرَجَّلُ
بَعِيدٌ بِمَسِّ الدُّهْنِ والفَلْيِ عَهْدُهُ
له عَبَسٌ عافٍ مِنَ الغِسْل مُحْوِلُ


فهو يصف شعره بأنه منذ زمن بعيد لم يعرف الدهن والفَلْي وهو إخراج الحشرات من الشَّعر، حتى جفت عليه الأوضار كما يجف الروث المتعلق بأذناب الدواب عليها! فلماذا يذكر هذه الأوصاف؟ ليس للفخر بالطبع ولا لإثبات تعاليه على شيء من الطبيعة ولا استغنائه عن شيء، إنما لم يحتمل كتمان ما يشعر به الصعلوك من القهر فطاشت المعاني المكبوتة كلمات يلوكها في قصيدته، ما يدل على مدى المشاعر المتناقضة بداخله والاضطراب النفسي الذي يعيشه!



ثم لم يلبث أن عاد لذكر قوته وصيره وتعاليه:



وَخَرْقٍ كظَهْرِ التُّرْسِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ
بِعَامِلَتَيْنِ ظَهْرُهُ لَيْسَ يُعْمَلُ
فألْحَقْتُ أُوْلاَهُ بأُخْرَاهُ مُوفِيَاً
عَلَى قُنَّةٍ أُقْعِي مِرَارَاً وَأمْثُلُ


فمن شدة سرعته على أرض خالية مقفرة ألحق أولها بآخرها!



تَرُودُ الأرَاوِي الصُّحْمُ حَوْلي كأنّها
عَذَارَى عَلَيْهِنَّ المُلاَءُ المُذَيَّلُ
ويَرْكُدْنَ بالآصَالِ حَوْلِي كأنّني
مِنَ العُصْمِ أدْفى يَنْتَحي الكِيحَ أعْقَلُ

قديم 01-05-2018, 03:26 PM
المشاركة 19
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
ليختتم القصيدة بذكر أنسه بالوعول في الصحراء مؤكدا على استغنائه بهم عن قومه!



"ولقد مثل شعر الصعاليك في العصر الجاهلي نتوءا ثقافيا آخر في جسد الأعراف الثقافية، من حيث عدم خضوعه المطلق للتقاليد الفنية المتعارف عليها، مثل البنية الهيكلية للقصيدة في مطلعها وترتيب أغراضها، فقد فرض شعر الصعاليك أعرافا خاصة وتقاليد مغايرة تماما، ربما أهمها رفض فكرة الأطلال وإلغاؤها من القصيدة بوصف أن الطل دلاليا ورمزيا محور الانتماء والالتصاق بالأرض/الوطن"[21]. فالصعلوك فاقد الانتماء للوطن، ملتصق أشد الالتصاق بأقرانه من المنبوذين، وحيوانات الصحارى، فقد استعاض عن أهله ووطنه بأي مكان يمكن أن يحويه:



وفي الأَرْضِ مَنْأَى لِلْكَرِيمِ عَنِ الأَذَى
وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ
لَعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على امْرِئ
سَرَى رَاغِبَاً أَوْ رَاهِبَاً وَهْوَ يَعْقِلُ


وأي حيوان يلاقيه يشاركه البيئة:



وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُون: سِيدٌ عَمَلَّسٌ
وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وَعَرْفَاءُ جَيْأَلُ
هُمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّرِّ ذَائِعٌ
لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ

قديم 01-05-2018, 03:27 PM
المشاركة 20
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
ونجد افتقاد الحب والعاطفة في شعرهم، إذ المجتمع في نظرهم مفرغ منها.



"صحيح أن شعرهم حافل بالوصف، ولكنه وصف حوشي -إن جاز التعبير- لمظاهر الطبيعة من حولهم"فهو لا يستقصي في الوصف، إذ إن حديثه عن النمر والضبع والقطا وغيرها ليس الغرض منه الوصف وإنما التكامل معه في ظروفه وحياته، فكما هو طريد جنايات جائع عطشان هب أيضا تمر بما يمر به، فهو يرى نفسه في ظواهر الطبيعة وحيواناتها.



وإذا تعرض لليل فكلام سريع لا وصف فيه ولا استقصاء:

فقد حمت الحاجات والليل مقمر



مع أن الليل من أشد الأوقات التي يجتمع الهم على الإنسان فيها فجدير بأن ينظر لنفسه من خلاله إذ يعاني النبذ والوحدة! عكس ما نجد في الشعر الجاهلي:



وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ
عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي
فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ
وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَلي
بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ
بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ
كَأَنَّ الثُرَيّا عُلِّقَت في مَصامِها
بِأَمراسِ كِتّانٍ إِلى صُمِّ جَندَلِ


والتشبيهات بعيدة كتشبيه اضطراب الذئاب بسهام الميسر!

مُهَلَّلَةٌ شِيبُ الوُجُوهِ كأنَّها
قِدَاحٌ بأيدي ياسِرٍ تَتَقَلْقَلُ



وهي تشبيهاته نابعة من بيئته، فهو يشبه الذئاب بالقداح، والقطا بالقبائل المسافرة، ومرة يشبهها بالإبل، إذ يبحث عن النماذج التي يراها حوله فيشبهها بعضها!



كأنَّ وَغَاها حَجْرَتَيْهِ وَحَوْلَهُ
أضَامِيمُ مِنْ سَفْرِ القَبَائِلِ نُزَّلُ
تَوَافَيْنَ مِنْ شَتَّى إِلَيْهِ فَضَمَّهَا
كما ضَمَّ أذْوَادَ الأصَارِيمِ مَنْهَلُ
فَغَبَّ غِشَاشَاً ثُمَّ مَرَّتْ كأنّها
مَعَ الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ

واللغة قاسية تنم عن بيئة عربية قحة صحراوية جافة لا تجد فيها بغيتك من ألفاظ تعينك على الاستمتاع بالقصيدة، فلا بد من مجاورة المعجم لقارئها، إذ يلجأ إلى ذكر صفات الشيء بدلا من مسماه فالذئب أرقط، والضبع عرفاء، والسيف أبْيَضُ إصْلِيتٌ، والقوس َصَفْـرَاءُ عَيْطَـلُ، الخَشْرَمُ المَبْعُـوثُ، مَحَابِيضُ.. وهو ما يدل على طبيعة البيئة الوحشية التي يعيشها الصعاليك.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لاميــّـــــــة العــــــــرب *****
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لورانس العــــــــرب ثريا نبوي منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 2 06-19-2022 07:07 AM

الساعة الآن 03:54 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.