قديم 05-26-2013, 12:44 PM
المشاركة 11
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


ساق سيارته عند خروجه من الوكالة صوب المستشفى ، وجدها عند البوابة فقالت له : " الطبيب في انتظارك " ستجدني في السيارة عند خروجك ، ، نظر إليها نظرة استكشاف لعلها تخفي عنه شيئا ، بادرته بابتسامتها الشافية فقال : أنت رائعة سأعود حالا .
في المكتب حنحن الطبيب عند سماعه طرقا خفيفا عند الباب طالبا منه الدخول ، سلم عليه المريض واقفا وهو في عجلة من أمره ، فقال له الطبيب " تفضل بالجلوس " ، جلس خالد و التوثر يبدو على صفحته وبدأ انقباض يتسلل إلى صفاء روحه و مرونة أيامه الأخيرة قائلا : " لا بأس هل من جديد سيدي " فرد عليه الطبيب : "هل أنت متوثر؟ " جال خالد ببصره في الغرفة و حك جبهته بأطراف أصابع يده اليسرى فأعلن " نعم ، بعض الشيء " فأجابه الطيب : " أعرف ، هذا التوثر ناجم عن مرضك " كان الطبيب في معرض كلامه يضع قرصا فوارا داخل كأس ماء ، وقدمه للمريض ، فتناوله خالد و أفرغه في جوفه بعصبية مغلقا عينيه ، أتبعها بطقطقة لسانه و زفير حاد ، فسأله الطبيب :
ـ كيف حالك الآن ، هل تعاودك النوبات ؟
ـ ربما أنا بخير .
ـ بكل أسف ليس الأمر كما تعتقد . على الأقل هذا ما تظهره نتائج التحاليل الطبية و الفحوصات .
ـ ماذا تعني سيدي وضح كلامك .
ـ هل في عائلتك من هو مصاب بالسرطان ؟
ـ لا ....لا ...لم أسمع بهذا .
ـ تشير البيانات أمامي أن وادك و أمك ماتا .
ـ طبعا سيدي ترحمهما السماء ، ماتت أمي بعد معاناة مع المرض ، هم بمسح دمعة وقدم له الطبيب منديلا فهوى الدمع من عينيه استرسالا .
ـ آسف يا ولدي ، لكنك ستلتحق بهما بعد شهرين .
ـ ماذا ؟ سأموت ؟ لا ..لا .. واخيبتاه !!!!!
ـ هون عليك كلنا سنموت .
ـ لا...لا ... ليس مثلي يموت .... ليس مثلي يموت هذا ظلم ....هذا ظلم !!!!
قال هذا الكلام فخر صعقا مترامي الأطراف ، فحملوه إلى قاعة الإنعاش و العناية المركزة .


قديم 06-01-2013, 10:11 PM
المشاركة 12
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


استفاق خالد فوجد تفاحته بجانبه وعلامات السهر منحوتة على وجهها ، فبادرها قائلا :
ـ أنت هناحبيبتي .
ـ منذ مصرعك البارحة وأنا هنا أنتظر رجوعك ، بماذا أستطيع خدمتك ؟
ـ كل شيء طبيعي حبيبتي ، أنا جائع ، وربما أحس بالبرد ، لا تهتمي أنا بخير ، سنخرج حالا ، تعرفين لا أحب هذا المكان ، أتمنى أن تعملي في أي مكان إلا هذه المستشفيات بيوت العجز والمرض .
ـ لا تقل هذا حبيبي ، فهذا البيت مقدس ، يقوي الأفراد ويشفيهم ، وفيه يتعافون ويعانقون الحياة .
ـ بل يعانقون الموت ، الموت ، أتعلمين ما هو الموت ؟
ـ ماذا تقصد حبيبي ، تبدو متعبا منهكا ومتوثرا ؟
ـ معذرة ، إن رفعت صوتي في حضرتك ، فعلا لم أعد أتحكم في أعصابي ، أنا متعب حقا .
ـ حبيبي ، أنت بحاجة إلى الراحة ، حياتي حياتك ، سعادتي سعادتك ، عذابي عذابك ، أنت أنا جسد واحد ، فلا تفكر هكذا .
ـ أنت رائعة حبيبتي ، أنت زوجة مثالية لو تعلمين مقدر حبي لك .
بعد مضي يومين سمح له الطبيب بمغادرة المصحة ، وسلمه رخصة مرضية طويلة تعفيه من العمل مدى الحياة ، و نصح زوجته بالاهتمام به والترفيه عنه وجعله يستفيد من من أيام حياته الأخيرة .
دخل بيته ، فأخذ يتصفح المكان بدقة ، بعد شهرين سيهجر هذا البيت من غير رجوع ، إني أحببتك أيها البيت ، ذكريات جميلة تتماثل أمام عينيه التان فاضتا بالدموع ، و سناء تشاركه هذه المأذبة المرة ، وجهها الشاحب ، عيناها المحمرتان ، قال لها : هل أخبرك الطبيب ؟
وضعت وجهها في ملء يديها و صرخت صرخة مدوية ، و اتجهت صوب غرفة النوم مستلقية على بطنها دافنة وجهها في وسادة و هي تنتحب . هرع إليها وقد أذهله هذا الرد ، فانحنى عليها واضعا كفه على ظهرها وشفتيه تقتربان من أذنها ، وهمس لها : كفى حبيبتي ، يكفيني مصابي ، فلا تزيديني عذابا ضعفا ، ارحميني ، وارحمي نفسك ، إن كان يعز عليك فراقي ، فماذا أفعل ؟ لا أملك من أمري شيئا .
تركها للحظة حتى تشفي غليلها دمعا و تنفس عن حمولتها وتوجه إلى المطبخ يهيء الشاي ، حزنت و أيقنت في نفسها أن الحزن لا يقدم ولا يؤخر ، فلا شيء يجدي غير القبول و الإعتراف بقلة الحيلة ، توجهت المطبخ فوجدته يرتشف كوب شاي فلمى رآها بدأ لسانه في الكلام : " لم أكن أعلم أن نهايتي ستكون في عز شبابي ، و في أوج سعادتي ، ليتني لم أتزوج كي لا أعذبك معي ، ليتني مت قبل أن تمتلئ حياتي أملا ، كل شيء في الدنيا يؤلمني ، ماذا فعلت في حياتي ، لتكون هكذا ؟ ألا أستحق الهناء ، ألا أستحق رأفة الأقدار ؟ فواصل منشدا:
بئس الضيق بعد رحابة
و بئس الإذلال بعد عز وعلا
أشكو مصابي لذي قرح
فهو بالابتلاء والشدة أدرى
ليس السقيم من ينشد دنيا
فالدنيا لذي قوة وكبرياء .



قديم 06-04-2013, 02:16 AM
المشاركة 13
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


نعم يا سناء الدنيا لقوي ، ما كانت يوما لعليل سقيم ، هو ورم زائد ، وصمة عار على وجهها المشرق ، ، أومن بالقوة يا سناء ولا شيء غير القوة ، أريدك أن تجسدي هذا الطموح ، أريدك صلبة ، لا تستسلمي ، لا تخذليني ، أرى فيك كل صفات المرأة العظيمة ، المرأة الحديدية ، أريد أن أرحل مطمئن البال راض عنك ، قولي كلمة لعلها تزيد من أجلي وإلا صمتك عجل برحيلي .
ـ كيف تريدني أن أصبرعلى فراق الحبيب ، أنا أنثي يا رجل ، أنت من جمع شتاتي ، و نسم حياتي ومنحها طعما ولذة ، كنت أسير بلا هدف بلا معني ، كانت أيامي خالية من كل روح ، فلك أعيش ومنك أستمد عذوبة الحياة ، فلا أرى نفسي قادرة على مواصلتها بدونك .
استسلم الزوجان لقدرهما و هما اللذان كانا إلى عهد قريب في سعادة مترامية الأحضان ، أمضيا يوما عصيبا زرع في نفسيهما أثقالا وأهوالا لن تمحيها السنين ، استنزف رصيدهما من المقاومة ، وأتي على أيام الفرح التي كانا ينعمان بها ، لم يستطع النوم مخادعة جفونهما إلا بعد تناول أقراص سافرت بهما إلى رحاب نوم صناعي مليء بالهواجس . استيقظ خالد منهك الإحساس مشرد العزيمة ، خائر القوى ، متعب الأفكار، فاقد التركيز ، نظر بجانبه فلم يرها في الوقت ذاته سمع رنين الأواني في المطبخ ، تقدم نحو الحمام وأطلق رشاشا باردا لعله يحيي بعض آماله و يبعثر جبال الخوف والقلق الجاثمة على صدره ، فكبلت حركيته و أحكمت القيض على روحه المرحة ، توجه صوب المطبخ فوجدها أعدت الفطور ، جلسا حول المائدة وهما يتبادلان نظرات مليئة حبا و رحمة وبعض شفقة ، و هما يرتشفان كؤوس القهوة ، أوقد سجارته التي فارقها منذ بداية مرضه ، الآن لا جدوى من كل تلك الاحتياطات ، لا مفر من الرحيل ، بدخان أو بغيره ، اعتنى بصحته أو تناساها ، لا شيء يغير من المعادلة الجديدة مفعولها ، لا يشيء يبدو مهما ، لا شيء يبدو على حقيقته أو ربما تجلت حقائق الأشياء بشكل جلي و واضح ، منطقه يكاد يتغير جذريا من كل شيء .
ـ لا بد أن أفعل شيئا ، ساعديني من فضلك يا سناء .
ـ ما تقصد ، أنا بجانبك ، ما حاجتك؟
ـ آه ، الحياة حبيبتي .
صمتت ولم تجب عن هذا السؤال الذي يفوق قدرتها ، فما رأته في الكشوفات يحكم على حياته بالزوال ، فلا تملك غير دفعه بعيدا عن هذه الأفكار ، ومحاولة انتشاله من هذا الفراغ الذي يملأ حياته .
ـ حبيبي ، أقترح عليك أن تسافر ، تمارس الرياضة ، تقرأ الروايات والقصص .
ـ آه حبيبتي حياتي كلها قصص وحكايات ، حياتي ذكريات ، حياتي أصبحت منذ اليوم مجرد ذكريات ، مجرد صور عابرة ، مجرد خيال .
ـ إن الذكريات جميلة حبيبي ، فلماذا لا تكتب مذكراتك ، على الأقل أنا سأحتفظ بها و تعيش معي ما حييت ، وتؤانسني في وحدتي .
ـ ماذا ؟ تقصدين أن أدون حياتي ، لا ، قال هذا الكلام فاحمرت وجنتاه وأذناه و اشتد غضبه ثم تمالك نفسه مستطردا ، لا أستطيع ، أنا لست فنانا ولا سياسيا ولا شخصية مهمة ..ماذا سأكتب ؟ ...أنت لا تعلمين ..
ـ اكتب أي شيء ، طفولتك أيام المدرسة ، حياة القرية ..
ـ قلت لا هذه فكرة لا أرتاح لها ، ولن أقوم بها .
ـ الرأي رأيك ، أريدك فقط أن تشغل بالك في شيء مفيد ، مثل تلك الذكريات الجميلة التي تطفو بين الفينة والفينة على قلوبنا ، فتجعلنا نحب استرجاع الماضي الجميل ، ولا اريدك أن تبقى هكذا مستسلما تنتظر الموت .
ـ حسنا سأفكر في الأمر .





قديم 06-04-2013, 02:20 AM
المشاركة 14
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الإخوة والأخوات متتبعي هذا النص ، لكم الشكر والتحية ، أظن أن الجزء الممل من النص تم تجاوزه ، من الآن فصاعدا
سيدخل النص منعطفا جديدا ربما كان له وقع جميل على نفوسكم .
نلتقي قريبا
مودتي .

قديم 06-09-2013, 03:00 PM
المشاركة 15
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


أيام جميلة تلك التي قضيتها في القرية ، طفولة البؤس والحرمان تمحوها عواطف جياشة وأحاسيس رقيقة ، رغم محدودية أرزاق الأسر ترى النبل يتدفق من حركاتها وسكناتها ، الابتسامة والتزاور يغذيان تلك الرحمة و ذلك الحنان . يتقاسم أهل القرية الأفراح والأحزان فلا تجد نفسك وحيدا في صراعك مع الحياة . عندما تستقبل قريتي تتراءى لك بناية شامخة من الطين ، قصر كبير مزدان بأربع منارات في زواياه ، تلك من مخلفات الاستعمار والأسر الحاكمة قديما ، مسنو القرية يتحدثون مؤكدين أن تلك البنايات شيدت على قهر وتسلط ، فالأهالي الذين يعيشون تحت وصايتها يصلون الليل بالنهار دون أجر و بلا رحمة ، إذ يكاد عدد العسس يتساوى وعدد العمال ، فيكدح العامل بلا استراحة ، وإن بدا منه ما يسيء لحارسه فمصيره إلى الفناء أقرب منه إلى الحياة و النجاة ، يحكون عن دهاليز و أقبية و أنفاق حفرت تحت البناية بعضها لتخزين السلاح و المؤونة وبعضها لتعذيب و سجن كل من له رأي مخالف حتى يقضي أو يسلم كل ممتلكاته و ينفى عن الديار .
الشيخ موسى يروي قائلا : " سبحان الذي أخلى هذه القصور بعد أن كانت أوكارا للترف و البذخ و الغناء و الاستعباد ، والآن أصبحت مرتعا للزواحف والجرذان ، وتآكلت هيبتها و تحطمت أسوارها " يرتاد السواح الآثار القديمة مستمتعين بفن العمارة و نقوشها المميزة وزخارفها فيتساءلون عن زمن البناء و صاحب المعلمة و ينبهرون بعظمة الأولين وقدرتهم على الإبداع و رقي أذواقهم وجمالية منجزاتهم ، يقفون مشدوهين أمام تلك المعالم الأثرية التي تنم عن حضارة و حضور في التاريخ ، لكن لا أحد يستحضر أرواحا زهقت و أطفالا يتموا و أعراضا هتكت ، وأسرا شردت ، ومحنا لا تعد ولا تحصى فقط لتخلد هذه البناية و يظهر ألقها و تبدي زينتها لمن يجهل تاريخها .
قريتي راسية على ضفة نهر موسمي مزدحم بالقصب ، تأوي إليه الخنازير نهارا مستظلة بأشجار الصفصاف العالية و مستحمة في مياه بركه و عيونه ، وتتجه ليلا لإفساد حقول الذرة والخضروات ، يبني القرويون منصات مراقبة على أشجار اللوز والزيتون حارسين محاصيليلهم من هجماتها ، كل يوم يتناقل البدويون أخبار الحقول التي غزتها جحافل الخنازير و الأضرار التي تكبدها النائم الغافل الكسلان .
تبتعد المدرسة عن قريتي بثلاثة أميال ، أذكر أول يوم قادني فيه أبي إلى اليها ، كان الجو ماطرا ، تخلص من سرواله الفضفاض و حزم جلبابه و وضعني على كتفيه لنعبر شعبة محملة بمياه عكرة قدمت به من أعلى الجبل المطل على المدرسة ، مقاعد خشبية ، سبورة سوداء ، حجرة طينية مزينة بصور ، معلمة تتحدث بلسان غريب ، كتاب ولوحة و ريشة و محبرة ...



قديم 06-10-2013, 09:32 PM
المشاركة 16
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


عالم مختلف عن المسجد الذي تعودت عليه ، حيث الفقيه يتوسط كوكبة من التلاميذ الذين يضج بهم المكان ، هذا بصوته الغليظ و ذاك بصوت طفولي والآخر بنغمة أنفية لا تميز تقاسيم كلماته ، وذلك سريع في تلاوته و الآخر لا يزال يفك شفرات الحروف ، فيخفت صوتهم شيئا فشيئا ويبدأ الصغار في الكلام والمزاح و الكبار في الغمز و الحركات البهلوانية لينخرط الصغار في قهقهات توقظ الفقيه من استراحته فينهر الجميع ليتعالى الصوت من جديد في صخب ممزوجا بصيحات و بكاء من وصلت إليه عصا الفقيه الطويلة التي لا يكاد يسلم منها الصغير الكبير رغم أن الكل يحتمي بلوحته الخشبية كما يحتمي الفارس من السيف بذرعه . الفقيه ذلك الشبح الذي يرتسم في ذهن كل أطفال القرية ، أبي كان يجبرني على أخذ السجاد لأستعمله اتقاء البرد لكن خوفي من الفقيه أعظم ، فكل التلاميذ لا يفترشون غير الأرض الجرداء ، يستقبل المسجد التلاميذ مع الخيوط الأولى للفجر فتسمع همس الأطفال وهم يرتدون جلابيبهم الصوفية و يتخلص من أحذيته قبل دخوله لرحبة الدرس ، فيعانق لوحه المعلق على مسمار في غرفة اسودت جدرانها وسقفها بدخان ينبعث من حفرة تتوسطها تستعمل كموقد يعلوه إناء من الماء الدافئ معلق بقضيب معدني مثبت في سقف الغرفة . هذه الغرفة هي مجمع ومجلس شباب القرية يستدفئون بموقدها و فيها تلقى نشرات أحداث الدوار والقرى المجاورة وكذا السوق الأسبوعي ، فهذا يتحدث عن ثمن الغلال و وذاك عن مرض فلان والآخر عن عرس مرتقب وهم ينتظرون صلاة العشاء أو موعد النوم . كل أسرة تتكفل بإيقاد الموقد يوم تطعم فيه الفقيه الذي يتنقل عبر البيوت حسب عدد الأسر في تتابع وتوال محكم ، الفقيه هبته كبيرة ، و موضعه أعظم ، فهو الحكم والقاضي و المشرع والفيصل في المنازعات وهو الطبيب المداوي لكل العلل ومن يحضر الغائب و قارئ الرسائل و العقود و كاتبها .
قبل أن يعم الصباح يكون الأطفال قد استكملوا حلقتهم و راجعوا ألواحهم فيتقدمون واحدا تلو الآخر للاستظهار و كل تلعتم تسبقه صفعة الفقيه و ركلاته و كلما عجز المتقدم عن الاستظهار تأخر عن غسل لوحته و وضعها أمام أشعة الشمس الأولى لتنشفها استعدادا لكتابة الجزء الموالي من النص القرآني عن طريق الإملاء فترى الفقيه موسوعة قرآنية تملي الجمل حسب الطلب وعند استكمال الإملاء يأتي دور الفقيه لتصحيح أخطاء الكتابة ، فالويل كل الويل لمن فاتته قاعدة إملائية على هدى الرسم العثماني من ألف محذوفة أو مثبتة أو مد ، أو وقف وغيرها ، فكلما تقدمت في السن و الحفظ كلما كانت انتظارات الفقيه كبيرة ، كل من كتب لوحته وصححها يمكنه الذهاب إلى منزله لتناول طعام الإفطار ليعود ويحفظ ليستظهر جزءه قبل الظهيرة .
المدرسة مختلفة ، المعلمة بصوتها الرقيق الذي يداعب مسامعنا برفق ، تكتب الحرف ثم تكرره مرات و مرات عديدة ، تأمرنا بالنظافة وارتداء الملابس الجديدة و النظيفة ، تعلمنا الجلوس و القراءة و توقظ فينا المنافسة ، تعلمنا الحساب والألوان والرسم ، تعلمنا الإنشاد والقرآن ، ما إن اعتدنا على المدرسة حتى بدأنا نفر من المسجد و بعد أعوام بدأنا نعصي أوامر الفقيه ونستشعر قصوره أمام القدوة الجديدة في حياتنا .
قضينا سنتين مع المعلمة كانت أما رؤوما ، هي من غرست فينا حب المدرسة والتعلم ن كانت كتلك الشمعة الوهاجة تحترق لتضيء لغيرها ، تركت بصمات لا تمحى في ذاكرتنا ، أذكر كيف شخصت العذراء وهي تحمل المسيح إلى قومها ، و كيف شخصت دور المسيح ذلك الوليد الذي تكلم بصوت طفولي ينساب من حلق المعلمة كما لوكانت هي نفسها المسيح والعذراء ،. حضرنا مجلس الرسول عندما جاءه جبريل يعلمنا الإسلام والإيمان والإحسان والساعة ، رأيناه بجماله الملائكي ، كانت تشرح لنا الشيء فتجعلنا نراه رأي العين ، إنه كلام نابع من القلب فتتلقفه القلوب الصغيرة بحب وقبول .



قديم 06-29-2013, 12:57 PM
المشاركة 17
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



كنت وحيد أسرتي بعد زواج أختي في السنة الأولى من ولوجي إلى المدرسة ، أمي ذلك النهر الفياض من المشاعر النبيلة والرقيقة ، تلك الرحمة التي تتغشاني كل ليلة ، فقدت الدنيا بفقدانك ، فقدت حلاوة الحياة في غيابك ، كل جميل عبث بعد ذهابك ، كنت أتوسد فخدك وأنا في العاشرة ، لا يحلو لي نوم إلا على هذه الأريكة الربانية ، هذا المضجع الفطري الذي يحتضن كل قادم إلى الدنيا فيجده دافئا مرحبا يحميه من الضياع و الخوف والبرد .
أبي يخرج باكرا إلى السوق وهو يسوق بغلته الحمراء ، هي بنية ميالة إلى حمرة داكنة ، حاملا على ظهرها أكياسا من الخضر ، جزر ، فول ، باذنجان ، فلفل ، لفت..... حسب ما يجود به كل موسم فلاحي ، يصلي صلاة الصبح ، يرتدي جلبابه ، فيقفز على ظهر الحمراء الساكن فتطوي الطريق طيا متجاوزة مواكب المتسوقين ، كانت الحمراء قوة البنية ، سريعة الخطوات ، هادئة المركب ، باردة الأعصاب ، أبي يعتني بها كثيرا ، هو من يسرجها و يعلفها وينظف مرقدها .
أختي تزوجت مكرهة على غرار بنات القرية ، قليلات هن اللأئي أتيحت لهن فرصة الاختيار ، سلطة الأب وعلو شأنه وهمته تلغي كل أفراد الأسرة عند القرار ، الأم تكتفي بتزيين هذه الأوامر و تكسوها الحكمة بزخرف القول فتخفف من تعسفها و عدم رشدها ، أيام كنت أرتاد المسجد أنام بجوار أختي التي تصلب عودها و أينعت أنوثتها ، رسمت صورة دقيقة لفارسها موضحة : " أريده جميلا يسكن المدينة ، فارع الطول ، قوي البنية بدون سمنة ، حلو الكلام يلبي حاجاتي ، نتجول يدا في يد ، أختار الفساتين الزاهية والحلي البراقة من خالص الذهب والفضة ، سأكون جميلة بهية بحذاء بعقب طويل ، عندما تكبر ستعرف ما أقوله يا أخي ، نم الآن فأنت تحتاج إلى الراحة ." أطفأت القنديل الزيتي بعد أن غطتني بغطاء صوفي أحرش .



قديم 06-29-2013, 10:26 PM
المشاركة 18
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


تبخرت أحلام اليافعة يوم خطبها الشيخ عمر لابنه البكر الذي تخلص من زوجته الأولى بعد طول عشرة من غير بنين ، أبي تربطه علاقة احترام وربما ولاء لآراء الشيخ عمر ذو العزيمة القوية واليد الفرعونية ، مثال للقسوة والشهامة ، هو قائد بيته ، في يديه مفاتيح الخزائن ، أولاده الثلاثة يسيرون وفق خططه وأوامره ، أصغرهم له طفلين ، أختي تبكي حظها ، فهي تتزوج رجلا مطلقا بضعف عمرها ، لا سلطة له ولا قرار ، أمي كانت متحفظة ، أبي يقول :" أنا لست من يرجع عن كلمته ، الكلمة هي الرجولة ، لقد زوجتها له " أمي بحكمتها أيقنت أن لامجال للرفض، فبدأت تهيء أسباب القبول للبنت ، تذكرها بمحاسن الزواج و الولد ، تحذرها من البوار والسمعة المشينة ، كل هذا الكلام لم يكن ليغير من قناعات البنت شيئا ، كانت تبيت الليل باكية العين مكسورة الفؤاد لا تفارقها أمي ليلا ونهارا ، بينما يصطحبني والدي معه ، يشحذ همتي و يقوي صلابتي . " الرجل يا بني هو القوة ، الشموخ ، لا تضعف يوما ، إياك و الدموع فهي الذل بعينه ، كن شاخصا مثل أبيك مرفوع الرأس ، مهما تكن الظروف ، لا تظهر عجزك لأحد حتى أقرب الأقربين ."
الشيخ موسى حكيم القرية ، يرعى أغنامه التي تجاوزت العشرين قرب منزله صباحا ، بعد الظهيرة يقودها عند قدم الجبل المطل على المدرسة ، كل مساء نساعده في استرداد نعجة طائشة أو حمل حمل لم يستطع الركض بعد ونحن عائدين من المدرسة ، كان يقول : " أنتم أبناء المدارس من سينتشل هذه البلاد من هذه الدناءة ، أنتم من سيحرر عقول الناس من الظلم والعار والجهل والقهر ، أنتم من سيدك العصبية ويمحقها ، كنت لا أفهم كثيرا من أقواله ، يا بني الاستعمار همش هذه البلاد وأسكن فيها الجهل و العداوة ، حتى بعد الاستقلال لم تتحسن الأحوال و لم يتغير الكثير ، فقط لا نشتغل في ضيعات العملاء ، و لاندفع لهم محاصيلنا ، لكن كل الأشياء التي كان يصرخ من أجلها الوطنيون في عز شبابي ، يومها كنت في المدينة شعارات تعد بالنعيم المقيم ، تنمية و تشغيل و تصنيع و معادن ، ملاحة وفلاحة ، أحلام كبيرة لم يتحقق منها إلا الشيء اليسير فقرانا ما تزال تائهة في بحار التخلف ، يوم جاءت هذه المدرسة سعدت غاية السعادة ،إنها مشكاة هذه الأرياف ، هي وحدها من يستطيع تغيير هذه الحياة النكدة إلى عيش رغيد .




قديم 06-30-2013, 01:18 PM
المشاركة 19
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الفيلاج مدينة مصغرة يقصدها الناس لأغراض إدارية ، فضاء أوسع من من القرية ، شباب بالزي العصري ، قميص وسروال ، فتيات بفساتين فاتنة وعيون ساحرة و خطوات متزنة ، لغة مختلفة ، سرت وراء احداهن ، عطر يفوح حولها ، شعر ذهبي مسترسل على ظهرها تداعبه رياح الخريف ، فخد أبيض لامع يظهر كلما هبت نسمة مميطة عنه لثام تنورة لا تتجاوز الركبة ، محفظة كاكية من جلد مصقول بحزام رقيق معلقة بكتفها الأيمن ، وقع حذائها ذي العقب الطويل يوافق ميلان جسمها على إيقاع نغمته الموسيقية .
دكاكين تعرض ملابس النساء والأطفال في الغالب ، مكتبة تباع فيها لوازم الدراسة وبعض الجرائد ، مسجد بمئذنته الفارعة ، طريق معبدة في حوانبها أشجار باسقة ، هدير السيارات يقاطع بين الفينة والفينة صوت شريط موسيقي ينبعث من دكان بائع الأشرطة و آخر لحلاق قبالته ، مرت دورية رجال الأمن أحسست بقشعريرة تجتاح جسدي ، كأني في فصل الشتاء ، حنين القرية يراودني كلما تأملت هذا العالم المختلف ، الإعدادية بلونها الأحمر تبدو بناياتها الإسمنتية الشامخة وملاعبها الرياضية الواسعة لكل زائر ، أفواج لا حصر لها من التلاميذ يكتظون على بابها كل صباح ، أمشي مع رفاق جدد جمعتني وإياهم ظروف متشابهة ، أغراب وفقراء يسكنون دار الأطفال .
دارالأطفال مبنى يأوي ساكني القرى البعيدة الذين لم يحظوا بمنحة تشجيع التمدرس ، أغلب ساكني تلك القرى لا يلتحقون بالفيلاج لغلاء كلفة التمدرس وعدم الاطمئنان على أبنائهم الذكور ، أما الإناث فلاحظ لهن وفق أعراف القرى وتجاهل المسؤولين .
قاعتان يفصل بينهما يفصل بينهما حائط غير ملتصق بالسقف ، تتموضع عليه غازية تستعمل للإنارة كلما أصيب محرك الكهرباء بعطب على عادته ، بقعة سوداء رسمتها نيران الغازية على السقف ، كل قاعة في حجم حظيرة عصرية للأبقار يسكنها أكثر ستين بريئا حكم عليهم الفقر أن يتنالوا حظهم من المعاناة في عز طفولتهم ، قراءة في أحلام سكان الدار تؤكد مدى تجرعهم لمرارة الحياة ، ما إن يرخي الظلام ستائره على الحجرتين حتى تسمع صراخا وعويلا وأنينا واستغاثات ونداءات وندبات ، فيظل الساهد يستمتع بألوان الألم والكوابيس حتى ينبجس نور الصباح فيحس بعينيه انتفختا جراء الروائح الآدمية الكريهة و الأحذية المتعفنة وروائح البول التي تفوح من بعض الأسرة ، ناهيك عن روائح التبغ .





قديم 07-02-2013, 01:03 AM
المشاركة 20
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



في الصباح يستقظ الكل وقعقعة الأسرة الحديدية المكونة من طابقين ، فيتوجهون نحو الصنبور المكشوف المحادي للمطعم ، فيغسلون أياديهم و وجوههم بماء مثلج تزيد من لسعاته الريح الشتوية ، فيصطف الجميع أمام شباك الفطور ، كل نزيل يتناول كأس حليب و نصف رغيف مطلي بمربى مختر أو زبدة جارية ، فتجد الأطفال يفضلون الخبز الحافي .
نزلاء الدار ينالون الرتب السفلى في فصولهم ، يتسكع أغلبهم عبر مقاهي البلدة أو يلعبون الورق في أوقات فراغهم ، بعضهم يفارق الإعدادية لمدة قد تصل الشهر الكامل ، قليل من هؤلاء ينال شهادة الثانوي ، بينما يبلغ عدد المنحرفين نسبا متقدمة قد تصل إلى الربع ، و تحتفي بهم المراتب المتؤخرة في مسابقات الرياضة والثقافة التي تقام على صعيد البلدة . حقائق لا تجد لها عينا دامعة ولا قلبا خافقا ولا أذنا سامعة ، الكل متجاهل ، المسؤولون أميون يقودهم رئيس منحرف يصب غضبه وكبرياءه على النزلاء متى أطل على إدارته المهترئة . والأغرب لا محاسب ولا متابع ولا رقيب ، لم نسمع طوال إقامتنا بهذه الحاضنة عن مهتم شملنا بعطفه ولا مراقب شرفنا بقدومه ، كما لو أن هذا المنفى محمية لمخلوقات غريبة .
ترك الأبرياء لكف الإهمال والمدمرين تقودهم إلى اللاشيء ، عند استثناء ثلة من أولئك الصامدين الذين قويت مناعتهم فتجدهم يصاحبون كتبهم صبحا ومساء ، عائمين في عزلتهم شاذين عن الجماعة لا تطيقهم ولا يطيقونها تجد الباقي منقاذا إلى الأهواء ، فتلك مجموعة من سارقي الفواكه في الحقول المطلة على الوادي ، وتلك زمرة مدخنين اجتمعوا حول سيجارة واحدة يتناوبون على شربها رشفة رشفة ، و يوم يحصلون على حبة مخدر ترى أعينهم تلمع إشراقا و ارتياحا ، فئة أخرى جرفها الغرام تسبح في بحر المواعد بين أشجار الوادي و ظلال القصب وآخرون مغرمون بالأشرطة السينمائية لا يكادون يفارقون نادي الفيديو .






مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: صفحتي الهادئة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
في صفحتي بالفيس أشرف حشيش منبر الشعر العمودي 2 04-17-2015 09:31 PM

الساعة الآن 09:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.