قديم 04-30-2012, 07:46 AM
المشاركة 491
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صلاح الدين بوجاه ومرآة النقد:
" النخاس " ونقاد ثلاثة
تعد رواية " النخاس " للروائي التونسي المتميز صلاح الدين بوجاه، واحدة من الروايات التي وصلت إلى ذروة الاغتراف من التراث السردي القديم، ومحاولة إعادة تشكيله في ضوء معطيات جمالية وأسلوبية ودلالية تعبر عن التراسل بين الماضي والحاضر، من خلال صهر فنيات السرد القديم بجماليات الإبداع الروائي المعاصر، بحيث لم ينبت الوعي الروائي الحديث عن شجرة نسبه البكر الكامن في أوليات الحكي لدى القدماء، حين تراسلت لديهم فنون الشعر والمشهد الحواري، إلى جوار صناعة الخبر و المقامة، لتكون هذه الفنون في كليتها العميقة نزعة إنسانية تصب في مجر أوسع يعبر عن مبدأ راسخ يشير إلى أهمية السرد.
ومن هذا المنطلق الذي يصل بين الماضي والحاضر، بواسطة استرفاد الجوانب الحية في تجربة السردية العربية القديمة، نبتت أفكار بوجاه التي تصوغ وعياً جديداً لسرد مغاير، يستلهم قصص العرب ورواياتهم وأخبارهم وأيامهم وخيالاتهم وبطولاتهم لينسج من جملتها مدونته الرواية، ويصوغ من خلالها مفاهيمه الروائية الخاصة حول الرواية اللغوية أو رواية الواقعة اللغوية، والتي تستند إلى وعى عميق بمكونات الماضي القادرة على الحضور وإعادة التوظيف.
وإذا كان التشديد على التمازج بين فن السرد القديم والرواية الحديثة على هذا النحو من البروز في تجربة صلاح الدين بوجاه الروائية على الصعيدين النظري والإبداعي فلن تكون مغادرة هذا الملمح أو تجاهلها من قبل مرايا النقد الروائي، ومن هنا وجهت الكتابة النظرية والإبداعية الخطاب النقدي الدارس له نحو العصب المركزي الذي تصب فيه البؤرة المركزية لخلاصة تجربته الروائية، ولعل تتبع مرايا النقد العاكسة لعناصر رؤيته كما تبدت في ذراها من خلال رواية " النخاس " ما يكشف عن تقارب الفضاءات النقدية وتقاطعها إزاء عناصر محددة تمثل نقاط إجماع بين نقاده على أهميتها في تشكيل هذا التقارب مع التراث السردي إن العودة إلى تقديم منصف الوهايبي للرواية ودراسة د. عبد الله أبو هيف عن استلهام التراث السردي في روايات بوجاه، بجانب دراسة د. صبري حافظ عن الرواية والتي بعنوان (متاهة اللغة، مرآة الرواية) ، جميعاً تكشف عن تجاوب بين أفق التوقعات النقدي، وتقارب في توصيف العناصر المكونة لضفيرة السرد في " النخاس "، وتغرينا عمليات التلاقي بين هؤلاء النقاد في التقاط الملامح المائزه للرواية بتتبعها لدي كل ناقد منهم.

في تقديمه " النخاس " يلمح منصف الوهايبي صلة الرواية بشجرة نسبها العريقة التي تنبع من تربة التراث الإبداعي العربي الثرية، وفنونه البواحه دائماً بعبق الماضي فما تتدثر الرواية به من سمات التفريغ من الأصول و التعريج عن الفروع وإدراك التشعيب غايته، يمثل وشيجة عجيبة تقربها إلى فن " التوريق العربي " أو ما اصطلح عليه مؤرخو الفن الأوربي بلفظة الأرابيسك، ففي (النخاس) أشتات من الأمشاج والصور المستمدة من التاريخ وسيره، تتقاطع مع سيرة بوجاه ذاته، ومن ثم يفجر السرد الروائي مكنونات الشكل القديم ويطلق روحه الحبيسة ليكشف خباياها، فى مزيج غرائبي يكتظ بالشخوص والعوالم العجيبة، تضرب فى أرض الواقع بسهم وتشارف الحلم والرؤيا من خلال التركيز على صورة البحر الأبيض المتوسط، وبنية الترحال التي تجمع فى مسيرتها أشتات الأمم والحضارات المتاخمة له ماضيا وحاضرا : فإلى جوار العرب نرى الترك والبربر والأسبان والقبط والفرنسيين والطليان والزنج.
ويؤكد الوهايبى أنه بواسطة هذا التمازج العجيب بين شكلين : قديم وجديد يداور أحدهما الآخر، أي العربي القديم والجديد الذي طورته الرواية الأوربية، يخدم الشكل الروائي فى محصلته النهائية متخيلا ينبني على التعدد والتداخل بين الأجناس وتحقيق قدر كبير من الكثافة، فهي تسمى الأشياء وتعددها في اللحظة ذاتها، غيرأن هذا الاحتشاد ينطلق من وعي الكاتب بلعبته الروائية التي يؤدها ببراعة، فلا نجد صوتاً نشازاً أو لحناً ناتئاً بين أمشاج النصوص والأصداء (فالمجردات والمحسوسات جميعاً لا تتدافع ولا تتزاحم قدر ما يفتح بعضها على بعض وينهض بعضها لبعض)، فلا قداسة مزعومة للغة الفصحى، وإنما تداخل لغوي يجمع بين عربية رصينة وأخرى عامية، إلى جوار نسيج مصنوع بحرفية من برج من اللغات فرنسية وإيطالية وسواهما…
على أن المبني لا ينفصل عن المعني فهذا التعدد يقود إلى حركة لا تبتغي التوقف ولا تقبل السكونية، تعطي طرفاً من القول وتفتح باباً واسعاً لتعدد لا يحد في تنوع معاينة التي لا تقبل الاختزال.
وفي دراسته التي تحمل عنوان استلهام التراث السردي في الرواية العربية والتي تتخذ من روايات صلاح الدين بوجاه نموذجاً، يؤكد د. عبد الله أبو هيف على أهمية رواية " النخاس " في مجال استنباش التراث السردي العربي القديم، وهذا ما يظهر جلياً منذ عتبات النص ومداخله.
إن تصدير الرواية بمقولة ابن سينا المأخوذة ( من الإشارات والتنبيهات) تنقلها إلى كمال الوهم وأقصي أمداء التخييل من خلال عالم أشبه بمغامرة شائقة سردياً ولغوياً، بداية من عتباتها (العنوان ، الإهداء ، الكلمات المفتاحية، التذييل المسمي أطراف النص)
عنوان الرواية لا يحمل في طياته كما يذكر أبو هيف تلك المعاني التي أسندها إليه بوجاه، فالنخاس يشير إلى بائع الدواب ويتسع المعني ليشير إلى بائع الرقيق، لكن بوجاه أضاف للكلمة معان جديدة يدخل فيها (ولوج جراح الآخرين وشرح صدورهم والنظر في دخيلة أمرهم)، ويدخل فيها أيضاً المقايضة جليلها وحقيرها وضروب المداورة والتجوال، ويتحول النخاس بحركة هذه المعاني إلى حلزون تائه يزحف في دنيا الناس يكشف الخطايا في أسواقهم وبهذا المعني ينقطع معني النخاس عن مراده اللغوي المباشر المذموم ليعبر عن معان إيجابية دالة على الرحالة الذي يدرك بواطن الأشياء.
ولا تتخلق رواية " النخاس " في بنائها الروائي إلا وهي تضع نفسها في خضم أثير تحوم فيه داخل متاهات السرد وغوايته الغامضة والتي تكشف عن توق إلى الدخول في لعبة الكشف عما يحدث في الأبعاد العيانية الظاهرة أو الداخلية فيما وراء الأنفس، ولعل استخدام فعل (تداوره) الملتصق دوماً بحالة السفر نحو استلام الجائزة، والذي يكشف أبو هيف عن دوره بدقة تتبعه لوروده المتواتر على طول الرواية، ما يدل على توغل الرواية صوب التعدد وصراع التأويلات ويدخلها في تضافر الأشكال السردية يقول د. أبو هيف " إن فعل المداورة يغني معانيه وتأويلاته مثال لبناء الرواية التي تنوع أشكال سردها من الخبر إلى الحكاية إلى السيرة إلى المقال إلى النزوع إلى الشعر، فتضافر الأشكال جميعها في ذلك التشكيل الفريد لانهيارات السرد وضبطه في الوقت نفسه"
وعلى مستوى علاقة السرد الروائي المتخيل بالأبعاد المرجعية نجد أن بوجاه في " النخاس " مثلما يناهضه لمرجع بالتخييل فإنه كذلك يناهضه التخييل بالإيهام حينا وبالمبالغة في المحاكاة أحياناً أخر، وهو ما يظهر في عناوين فصول الرواية، كما يتجلى كذلك في التداخل المقنن بين المبني الواقعي والأستعاري ، فالوحدات القصصية لها طبيعة منطقية ذات ترتيب واع، بالإضافة إلى وجود نسق من التنضيد داخل الخطاب الروائي تفصح عنه فاعليات التناص مع نصوص وإشارات ثقافية،إلى جوار تحول الكتابة إلى فضاء فنتازي بواسطة انصهار اللغة والمخادعة السردية والمرجعية وإظهار الراوي في بؤرة.
ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث
ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث النثري العربي، مما يرهف قدرتها على التعامل مع متغيرات العصر وتبدلات الحساسية الأدبية، ويطرح في اللحظة نفسها بنية روائية جديدة تكتسب بها الرواية العربية خصوصيتها وفي هذا الأفق جاءت رواية " النخاس " لبوجاه لتجسد على صعيد أولي طموح كاتبها لتطوير أداته الروائية بعد روايته الأولي (مدونة الاعترافات والأسرار)، كذلك لتؤكد على مذهبه الذي أصطلح على تسميته بالواقعة اللغوية" وهي واقعية ذات مستويات ثلاث كما يؤكد د. صبري حافظ ، أول هذه المستويات.
- تصوير مباشر للواقع العربي الأعجف الخارجي قديمه وحديثه
- بناء واقع روائي داخلي صرف يحيل على ذاته، ملتمساً جل عناصره من بناه الداخلية بل ورموزه التي لا فك لسننها إلا صدوراً عنها وعودة إليها.
- إقامة واقع لغوي محض يعبر عن واقع لغتنا التي نهوى ونعشق، هذه التي تسكننا ألماً جميلاً ونسغاً حلالاً، يروي كرمة غدنا غوصاً من تربة ماضينا.
ولقد ظل هذا الطموح يداور بوجاه حيناً ويغدو عصياً في بعض الأحيان إلى أن تحولت مراوداته لهذا الطموح إلي واقع في روايته " النخاس"
وتتسم ( النخاس ) بقدرة روائية تمزج بين الوهم بالتسجيل، والواقع بالخيال وأشكال السرد التراثية القديمة ببنية السرد المعاصر، كل ذلك يقيم قواعد اللعبة النصية المخاتلة، عبر متاهة نصية ممتعة يستحيل معها تلخيص الرواية، فالرواية لا تعتمد في رأي د. صبري حافظ على مسار الحدث على الرغم من مسيرته الشيقة ولا ثراء الشخصيات على الرغم من خصوبتهما، بل على التراكب والتناسخ وتراسل الدلالات.
مبدأ التناسخ ذات الأصول الهندية والذي يري أن كل صورة ما هي إلا تجل لصور سابقة، هو مبدأ عمل الأحداث والشخصيات في عالم الرواية فالرواية تؤكد على أن لكل شئ بعده التاريخي، وأن تراكم طبقات الخبرات والمعارف يمكنا من استيعاب الأشياء والجزئيات والشخصيات والتصورات.
ويتوقف د. صبري عند دلالة التصديرين الاستلهلاليين، والذي يتقاطع فيهما بوجاه مع قول لابن النديم من كتاب "الفهرست" وآخر لابن سينا من "الإشارات والتنبيهات" وهما يمثلان مفتاح قراءة للرواية، وهذا ما يتضح في دلالاتهما على شمول التجربة وإلى تحول جميع الأمم والأزمنة، بالإضافة إلى منهج التجاور الذي يسفر عن نفسه في بنية العبارة المقطعة، حيث تتجاور الأخبار والأنساب والأماكن والمناقب والمثالب مما يؤدى إلى توليد علاقات جديدة وتفجير العلاقات التقليدية كذلك الولع بالتركيز والاقتصاد، والمبدأ الجمالي الذي يعي أهمية الكمال كمصدر الكمال وأن مصدر هذا الجمال هو كمال الوهم.
ويلتفت الناقد أيضاً إلى دور عناوين الفصول في تقديم بعد إرشادي للقراءة، يوهم ويذكر بعناوين النصوص القصصية التراثية القديمة، وتنهض هذه العناوين بعدة وظائف أولها إجهاض التوقع واستباق الحدث، بجانب التقليل من التشويق دون الإجهاز عليه، وثالثها إرهاف من حدة الجدل التناصي مع النصوص القديمة، وأخرها دورها في الإيحاء باستقلالية كل فصل.
والحكي ينطوي كما يري د. صبري حافظ على مبدأ الغواية الجاذبة نحو السفر والترحال والوهم الذي يباطنه ظن بالحصول على جائزة، الرواية تقص رحلة الكاتب تاج الدين فرحات البحرية على سفينة " الكابو – بلا " السوداء إلى جنوه، حيث تلقي دعوة من هيئة جائزة (مينالدو) الأدبية لزيارة البلاد الإيطالية، ولكنه مدعو إلى لحضور حفل الإعلان عن الفائز بالجائزة لا حصوله هو عليها، (فثمة تعلق بوهم وتعلة، منذ بداية الدعوة، إذ إن غايتها ملفعة بالأسرار والترجي وإن كان مقصدها الجغرافي واضحاً وهو جنوه).
على أن هذه الرحلة المجسدة داخل الرواية من خلال ارتباطها بدلالات السفينة والمؤلف/ البطل، تشير إلى أبد الرحلة ولانهائيتها كما يقول د. صبري، فالسفينة تشكل استعادة دالة على كوكبنا الأرض، وربما تشير أيضاً إلى قارتنا الأفريقية؟ أو إلى المؤلف – صلاح الدين بوجاه نفسه؟ وحيرة هذه الأسئلة التي تتنازع فيما بينها في تشكيل دلالة الرواية تخلق قدراً من الالتباس لتوسع أفق دلالات الرحلة. (فالرحلة في هذه الرواية هي الرحلة الأفقية والرأسية معاً، أي رحلة الغوص في البحر وتكبد مشاق عباب الغمر، ورحلة الغوص في قيعان النفس البشرية وطبقات التواريخ المطمورة ومستويات اللغة المتراكبة في آن واحد"

إن السفينة في الرواية تمثل صورة مصغرة للعالم الخارجي ونجح بوجاه في أن يجعل منها نواة مركزية للعالم الروائي، بواسطة تجسيده خصوصية السفينة وعموميتها معاً بتلك الطريقة الشاعرية، التي تنسج خيوطاً محكمة لشبكة من العلاقات والأحداث.

إن تتبع مسارات الآراء النقدية السابقة, لهؤلاء النقاد الثلاث, على الرغم من اختلاف المنطلقات النظرية لكل منهم, ليكشف عن وجود عناصر أساسية وسمات تعبيرية, لا يمكن أن تتجاوزها العين الناقدة الخبيرة لفن السرد العربي الحديث, فمن خلال تحاور الرؤى حول "النخاس" تبرز أهمية العنوان الروائي والعناوين الداخلية للفصول ونبية العبارة السردية المخاتلة واستخدام الموروث السردي القديم فى بعد إشاري مغاير, كل ذلك يسهم فى صناعة فصل روائي متعدد الدلالات والرؤى, يغوص فى الأوجاع الفردية ويجعل منهما تجربة إنسانية لها صفة الشمول.
ولا شك أن هذه القراءات الثلاث لتكشف كذلك على قدرة الإبداع الأدبي أن يحرك استجابات جمالية متعددة بحسب المنطلق المحرك للتلقي, لكن هذا التعدد لا يعبر عن الخلاف الجذري, بقدر ما يولد أفق جامع وفضاء مشترك للقراءة, إن كل أدب يتسم بالاستمرار والديمومة لا شك يوكل فى كل منا إحساس ما ويستدعى تجربة ماضية لنا خاصة بكل فرد, لكنه كذلك يستطيع أن يجعلنا جميعا نتقارب فى أبعاد معينة, من خلال نقطة التقاء مشتركة, ومن هنا كان الدرس النقدي حول "النخاس" معبرا عن قدرتها على مزج الخاص بالعام, والفردي بالجماعي, ككل إبداع عظيم, يرجى له فى لحظة ما بالدوام, وبالكشف المستمر عن خبايا التجربة الإنسانية.



==


دراسة جديدة حول الروائى القيرواني صلاح الدين بوجاه نشرها كاتبها مصطفى عبدالله بالعدد الأخير من الأسبوعية الإماراتية الصدى

" النخاس " .. و روايات المتوسط


مصطفى عبد الله


١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤


أجد أن مناقشة رواية ( النخاس ) هنا في الإسكندرية ، داخل قصر الكلمة ، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر ، و كبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط .. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين و مصر و اليونان و نهضتها في إيطاليا و فرنسا و تميزها في الشمال الإفريقي و الأندلس . و ربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد ، لنا مع الآخر ، الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي ، و نهر الإبداع الروائي .


و قد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها و تقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب ، أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس ، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي ، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشرت روايته الشهيرة (السد) ، و كذا لكونها رواية مربكة مريبة ، تأخذ بقارئها في بعض مساربها ، فإذا ما اطمأن و أسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض .


وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ ( النخاس ) ، هذه الرواية المداورة ، فيزج به في منطق اللهاث و التقصى .. اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة ، و تقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، و في استفهامات العالم اليوم من ناحية ثانية .


و ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت و الميلاد و المتعة و الألم و البداية و النهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات ، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب ، فيكون الأداة و الرمز في آن واحد .


و لأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات و ثقافات عدة ،فإن ( النخاس ) تستدرج أجناسا و شعوبا ، منها الإيطالي و الإسباني و الفرنسي و التركي و اليوناني والمصري : القبطي و المسلم ،فضلا عن التونسي طبعا ، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية ، و تمدها بثراء فريد ، و تتخطى بنا أحادية الأسلوب و الأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها .


و لعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد الدكتور صبري حافظ بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارا جديدا مع الرواية في المشرق العربي .


و ضمن هذه الوجهة نضع ( النخاس ) التي تدعونا إلى قراءات متجددة كثيرة للوقوف على خفايا بنيتها ، و مجاهل قضاياها .. و متعة أسلوبها ، و هي وجهات في الفهم و التأويل يلخصها الشاعر التونسي منصف الوهايبي بقوله : "تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن الترويق العربي ، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة " أرابيسك " ، حيث يسم التفريع الأصول ،كما يسم التعريج الفروع ، و يدرك التشعيب غايته .. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في (ألف ليلة و ليلة)" .


لهذا نكرر على أننا إزاء أسلوب ساحر ، ونص سردي مريب ، و إثارة عجيبة للمعاني و الأغراض .. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي .


لهذا فإننا لا ندعو إلى قراءة هذه الرواية فحسب ، إنما تأملها ، و مقاربتها المقاربة النقدية الضرورية ، و مقارنتها بالجديد المصري و العربي.. و وضعها ضمن مسارات إبداعن الروائي الحديث . هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة أفقها الفعلي ، و هي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية حارقة ، هي " قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة ، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس و مصر وغيرهما من البلدان العربية .


تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي ، لورا ، الراقصة ليلى ، وجرجس .. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قال الكاتب في (النخاس ) : " تاج الدين نخاس كاتب أبدا ، حلزون تائه زاحف في دنيا الناس كاشف خفاياهم شارح صدروهم ، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره ، صدره كونه من الشموس و النار و الثلج و الخوف و الخامات النفيسة و قصور الحكام و فحش آخر الليل ، و الحياء و العفة ، و المخطوطات النادرة و أولياء الله الصالحين . هذا كله شجعني في هذا التمهيد على استجماع عناصر حيرتي و أنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرا في مراوغاتها الممتعة ، و دعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن حول مسألة الحوار العالمي ، و إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم ، و سالف إسهاماتهم في حضارة الأمس و اليوم .


و كم احتلت هذه الرواية حيزا من مناقشاتي مع بوجاه كلما التقينا هناك في تونس أوهنا في مصر ، و قد أكد لي أن شخصيات النخاس لا ظل لها على أرض الواقع ، و إنما هي تجسيد لحضارات متبانية ، بل و متصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطالية ،و كأنها تعلة للانعطاف على لعبة كبرى ..


و من يبحث عن القيروان مجسدة داخل ( النخاس ) سيرهقه البحث ، فصلاح الدين بوجاه يؤكد أن المدينة لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية و زمانية ، و هو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل ( السيرك ) مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام .


فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي أكد :" حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى ؟ أم ندعى إلى أن نهتف مع بوجاه نفسه : ماذا يفعل الكاتب في النهاية غير محاولة تشويش المثل و الحقائق قصد إعادة تنظيمها ؟!" .

قديم 04-30-2012, 07:47 AM
المشاركة 492
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صلاح الدين بوجاه

١٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٤
مولود في القيروان .تونس1956
متزوج له 4 ابناء
متحصل على دكتوراه دولة في الادب العربي...وجوه الائتلاف والاختلاف بين الرواية التونسية والرواية المكتوبة بالفرنسية في تونس .
كاتب تونسي يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ بداية السبعينات.معروف في المشرق العربي باسهاماته النقدية والقصصية والروائية.
صدرت اعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق وشارك في عدد من لجان التحكيم مشرقا ومغربا
عضو اتحاد الكتاب التونسيين وعضو اتحاد الكتاب العرب .ينتمي الى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات.عميد سابق بكلية الاداب بالقيروان.
عضو الجمعية المغربية الفرنسية للاداب المكتوبة بالفرنسية.
عضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية.
يقدم عديد البرامج في الاذاعة والتلفزة .
حاصل على الجائزة الوطنية للاداب 2003
من اعماله المنشورة

في المجال النقدي
الاسطورة في الرواية الواقعية.بيروت .1990
الجوهر العرض في الرواية الواقعية .بيروت .1992
مقالة في الروائية .بيروت .1994
كيف اثبت هذا الكلام؟.تونس.2004
في المجال الابداعي
مدونة الاعترافات..تونس.1985
التاج والخنجر والجسد.القاهرة .1992
النخاس.تونس.1995
السيرك.بيروت.1997
سهل الغرباء.تونس.1999-القاهرة 2000
لا شيء يحدث الان.تونس 2002-القاهرة 2002
مخطوطاته
وجوه-بورتريات-
حمام الزغبار ـ رواية
مداخل الى ادب بوجاه
التراث.التجريب.الفنطازيا.العبث والسريالية.الوجود والاسئلة الكبرى.الموت.تعاقب الحضارات. الوجود سرك كبير .مشهد الكتابة هو الابقى.
العنوان ---38.نهج ابن الربيب.حي سيدي سعد.القيروان 3100 الهاتف-216.98950426

قديم 04-30-2012, 07:48 AM
المشاركة 493
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مع الروائي صلاح الدين بوجاه

كتبهاكمال الرياحي ، في 2 سبتمبر 2006 الساعة: 13:57 م

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

حِــكاية نخّاس الحكايا أو قصة الكاتب صلاح الدين بو جاه
الذي يركب الرواية والقصة القصيرة ويرتكب النقد ويداور السياسة
حاوره : كمال الرياحي
تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي , وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .من هو ؟ هو بكل سخف الأسماء واختزاليتها المميتة :صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية . لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .
ولد بالقيروان سنة 1956 ليكون كاتبا تونسيا متميّزا يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ السبعينات .عرف في المشرق العربي بإسهاماته النقدية والقصصية والروائية .صدرت أعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق .عضو باتحاد الكتاب التونسيين واتحاد الكتاب العرب .انتمى إلى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات .شغل خطة عميد كلية الآداب بالقيروان .عضو الجمعية المغربية للآداب المكتوبة بالفرنسية وعضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية .قدم عديد البرامج في الإذاعة والتلفزة حصل على الجائزة الوطنية للآداب سنة 2003 وناقش أطروحة دكتوراه دولة في الأدب المقارن حول الرواية التونسية المكتوبة باللسانين العربي والفرنسي .من أعماله المنشورة في المجال النقدي :
الأسطورة في الرواية الواقعية ’بيروت ’1990
الجوهر والعرض في الرواية الواقعية’بيروت’1992
مقالة في الروائية’بيروت’1994
كيف أثبت هذا الكلام؟ تونس ’2004
وصدر له في المجال الإبداعي :
مدونة الاعترافات ’تونس ’1985
التاج والخنجر والجسد ’القاهرة ’1992
النخاس,تونس 1995
السيرك’بيروت 1997
سهل الغرباء ,تونس 1999 ,القاهرة 2000
لا شيء يحدث الآن,تونس 2000 ,القاهرة 2003
من مخطوطاته:
وجوه ,بورتريهات
حمام الزغبار ,رواية
هذا الحوار يسلّط الضوء على تجربة الرجل القصصية والروائية ويحفر عميقا في ملامح بوجاه بحثا عن حقيقة الطفل الذي يحمله , وعن المناخات التي أثّرت فيه فدفعت به إلى ارتكاب الكتابة ,في اللقاء سياحة مختلفة في فضاءات السحري والعجائبي والكابوسي والسياسي .
- قرأنا لك حديثا عن روايتك البكر "مدوّنة الاعترافات والأسرار" تقول فيه : "العمل الأول يختزل تجربة صاحبه إذ يكون بمثابة البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، الآن وقد مرّ على روايتك البكر ما يناهز العشرين سنة أما تزال ترى فيها البذرة التي قام عليها مشروعك الرّوائي أم أنّ هذا المشروع قد اتّخذ مسارات مغايرة وطَرَق سُبُلا لم تكن في ذهنك إبّان فراغك من الرواية نطفة المشروع ؟
oo "البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، هذا تعبير قديم يُفيد أنّ المشاريع تكون مختزنة في كلمة أحيانا، أو فكرة، أو ما دونها، والحق أنني اليوم، بعد مرور سنوات طويلة عن بداياتي الأولى أعود لتأكيد هـذه الفكرة ! فكرت أولا في قول العكس، كأن أقول أن مشروع الكتابة عندي قد اتّخذ مسارات كثيرة جديدة بحيث بدا مختلفا عن استهلالاته، ثم استقر الأمر عندي دون عناد أو مناكفة للجزم بأن "مشروع الكتابة"، إن كان لي مشروع كتابة حقا – قد انطلق مع بداية السبعينات حين أقبلتُ على عرض قصصي القصيرة الأولى على مجلات تونسية وعربية.
وأجدك تعيدني إلى بداية الثمانينات، وبالتحديد إلى المقدّمة التي شفعتُ بها "نصّي" الأول. فعلا طال الحديث بعد ذلك، فهناك من قال إنه لا جدوى من أن يُرفق النص الأول بمقدمة، وهنالك من رأى أنها غير مناسبة لنص قصير، فادعاءاتُها كثيرة متنوعة، ومُنجزه محدود قليل !!
موقفي لم يتغيّر ! لا أجدني اليوم مدفوعا إلى تبرير أي شيء أو الاعتذار عن أي شيء ! كل ما هنالك أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة". هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي، والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم. كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.
n انشغلت روايتك البكر في نزعتها التجريبية بالهاجس اللغوي أو "الواقع اللغوي" كما عبّرت عنه فكانت اللغة تجهد لتتماسّ مع الأعجاز بما طفحت به من شاعريّة، و ما توفرت عليه من ترميز وما انبنت عليه من تكثيف، أهو الإيمان بأن المشروع الرّوائي هو مشروع لغوي أوّلا وأخيرا أم أنّه الانتصار للغة بوصفها إحدى المكوّنات الهامة والركائز القويّة لحضارة من الحضارات ؟
oo النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.
بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.
ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !
n لامك بعض النقّاد على التوطئة النقدية التي أردفتها بروايتك "مدوّنة الأسرار" ورأوا فيها إسقاطا كان يجمُلُ بالكاتب تركه للنقاد والاكتفاء بتقديم عمله الإبداعي، تاركا إياه يتحدّث عن نفسه دون أن يسطّر له التأويلات الممكنة أو يشرح له ما أشكل أو يساعد القارئ على فتح مغالقه فيظلّ النص بذلك ببهائه ورونقه، وقد لاحظنا عزوفك عن هذه المسألة /التوطئة في أعمالك اللاّحقة، أكان ذلك من باب تطييب خاطر النقاد أم أنه اقتناع فعلي بأن ما تطلّبته باكورة أعمالك الرّوائية من توضيح – بوصفها العمل البكر – لا تحتاجه بقية رواياتك ؟
oo فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.
ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.
n جاءت لغة روايتك "مدوّنة الاعترافات" مع قوّتها ومتانتها لغة شفافة ومتألقة، كثيرة الرواء، مفعمة بالشاعرية. أكان ذلك راجع إلى كثافة حضور الذات في الرواية بوصفها العمل البكر أم هو الحنين يشدّك إلى التجربة الشعرية أم هو الاعتقاد في أن الطابع الشعري ضروري لتقع الرّواية من الأنفس المتلقية موقعا حسنا ؟
oo أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.

قديم 04-30-2012, 07:49 AM
المشاركة 494
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n راهَنَتْ رواياتك إجمالا ورواياتك البكر تحديدا على التراث اللغوي تنهل من منابعه وتستلذّ ثماره المعتّقة وتنثر عنه غبار الزمن باعثة فيه روحا جديدة تستجيب لإشكاليات المرحلة. فهل ترى أنّ الاستفادة من الموروث هي إحدى الإمكانات المتاحة للمبدع وهو ينسج نصّه أم أن استلهام الموروث وهضمه وتجاوزه هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن ؟‍!!
oo أحتفظ بقولك "إن استلهام التراث، وتجاوزه، هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن". أضع استلهام التراث عند ركن الزاوية. فعلا، فهو حجر الأساس بالنسبة إلى كل بناء جادّ ينشد البقاء. ليس في إمكاننا بناء معلم باق إلاّ باستلهام التراث، والانطلاق منه والنسج على منواله. لكنّ شرط التجاوز من الشروط الأساسية في هذا البناء. انظر الهندسة المعمارية مثلا، تجدها تطبّق هذه المقولة تطبيقا رصينا أصيلا كاملا. لهذا فإنني أعتقد أن النصوص الجيّدة تبنى لا محالة على مزيج من النصوص القديمة المستقرّة، أما البناء من عدم، أو قل "ادّعاء البناء من عدم" فأمر مردود لا يكون أصلا.
وقد يكون من الطريف أن ألاحظ هنا أنّ تجارب الكتابة عندي قد نشأت، أول نشأتها، تراثية صرفا، وليس في ذلك أية غرابة، إن كنت تحت تأثير الكتب التراثية الكثيرة التي طالعتُ في مكتبة والدي، فانبثقت كتاباتي الأولى من قبيل المحاكاة، فـ"الأدب" بالنسبة إليّ هو ذاك ! بالإضافة إلى أنّ والدي الزيتوني لم يكن يعرف مفهوما مغايرا للأدب. أودّ هَهُنا أن توقف بعض الوقت للإلحاح على دور والدي في تكويني، خاصة في المرحلة الأولى، لقد كان معلما فعليا بالنسبة إليّ، معلما في الصرف والنحو، بل في الرياضيات والعلوم الطبيعيّة… قل إنه المعلم الشامل، وكفى. جعلت شخصيّته بقية شخصيات المدرسين في الابتدائي والثانوي تمضي غير ذات قيمة، إلا فيما ندر ! وقديما كان النقّاد حين يكتبون ترجمة أديب أو شاعر يشيرون إلى شيوخه. شيخ شيوخي كان والدي، بتكوينه التقليدي الذي كان يميل إلى النثر، ولا يحفظ من الشعر إلا شواهد قليلة دالة، بالإضافة إلى إشاراته المتكرّرة إلى المعلّقات.
في هذا الباب يمكن أن أقول إن تجربتي في الكتابة تستند إلى طبقات، بل هي طبقات متراكمة : الطبقة التقليدية التي ورثت الأدب عن بداية القرن العشرين [أو قل آخر التاسع عشر] مع جبران خليل جبران وكرم ملحم كرم خاصة، ثم عقبتها طبقات شتّى متنوّعة بدخول الفرنسية في تكويني، وإضافة عوالمها الشيّقة جدا، خاصة عالم السريالية الذي بقي عالما شيّقا جدا، إذ أتاح التعبير عن العقلاني، والتخييلي الاستيهامي في وقت واحد ! في طفولتي كنتُ أسأل نفسي كيف أعبّر عن خيالات الصبا الأول بكيفية رصينة متوازنة، ثم حدث انشطار عندي فصرتُ أميّز بين العالمين… حتى كان كافكا من ناحية، والسريالية الفرنسية من ناحية أخرى، فتمكّنتُ من قول الهجنة التي تسكنني. لذلك تعثر في كتاباتي اليوم [في تناولي لقضايا الحياة والموت والبداية والنهاية والمتعة والألم] عن مزيج غير متجانس بينها جميعا !
n قال بعضهم إنّ بنية نصّك "مدوّنة الاعترافات…" يعتريها شيء من التفكّك على ما في النص من طرافة فكرة وسلاسة لغة وثراء خطاب، بهذا المدى الفاصل بين زمن كتابة الرّواية وزمن قراءتك لها اليوم. هل ترى فيها هذا الرأي أم ترى أن كفاءة التلقّي ما تزال تنفر من الجديد الصادم وتأنس بالقديم المألوف ؟ ألا ترى معي أن الذائقة الرّوائية والإبداعية عموما تكشف عن ملامح الذهنية العربية الشرقية وعن آليات اشتغالها ؟
oo ليس القارئ مجبرا على "رأب الصدع" في البداية كنت أحمله ما لا يحتمل، فأقول إنه ينبغي أن يُسهم في كتابة الرّواية برأب الصدع، أو تصوّر النقائص وملئها. والحق أنني أميل اليوم للإلحاح على أن العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كان فعلا "عملا أول"، بما يتضمّنه ذلك من إشارات إلى البكارة والبداية واكتناز التجربة… لكنه أيضا كان عملا أول من حيث النقائص الكثيرة التي يتضمّنها. كنتُ أوحيتُ فيما سبق أنّ الاستناد إلى التراث بالنسبة إليّ يعود إلى سببين : أوّلهما تكويني وأثر والدي، وثانيهما اختيارٌ معقلن يقضي بوجوب الاستناد إلى التراث. حدث ذلك بإيجابياته وسلبياته. وهنالك مسألة يمكن أن تكون دالة هنا، وهي الاختلاف بين الثقيل المشرقي والتونسي. لقد نشرتُ في القاهرة رواية ومجموعتين قصصيّتين، ويمكن أن أقول أن القارئ المصري، أو قل المتأدب المصري، مطّلع على ما أكتب ويقبله قبولا عاديا، أمّا القارئ التونسي فيميّز بين التراثي في "المدوّنة" خاصة و"غير التراثي" مثلما ظهر في الأعمال اللاحقة.
إلى جانب خياراتي الأسلوبية أحيل على "أفق التقبّل"، أفق التقبّل في مصر – وفي المشرق عموما – يختلف عن أفق التقبل في تونس، خاصة أن أعمالي الأولى ظهرت مباشرة بعد انتشار "الأدب النضالي" الذي لا يعني بالنسبة إليّ أيّ شيء، بنضاليته الفجّة وانغماسه المبالغ فيه في الواقع اليومي المعيش.
n لنبقى مع اللاّئمين، فنذكر لك ما عابه عليك الدكتور مصطفى الكيلاني – بعدما أطنب في الإعجاب بالرّواية – من تجريد فيقول في مؤلّفه : "صلاح الدين بوجاه قد أعاد في هذه المحاولة الروائية طرح إشكالية اللغة الإبداعية في المجال الروائي والمسألة الحضارية معا في زمن نحتاج فيه إلى مثل هذا الطرح بغية إنشاء رواية عربية أصيلة حديثة، ولكنّنا نعيب على هذا الطرح طابعه التجريدي".
هل كنت قصدت ذلك التجريد حتى يكون عملك الإبداعي أفّاقا ومتحرّرا من حمولات الواقع وما يرشح به من إسفاف، أم أنّك كنت تسير في طريق كان قد بدأ تعبيدها المسعدي بأعماله الشهيرة ؟
oo هو بين هذا وذاك في الوقت نفسه. فقد سبق أن قلت إنّ ثقافتي الأولى تقليدية، مما جعل أمامي أفقا تقليديا لقول ما أريد أن أقول. قد يكون الأمر ناتجا عن توازن بين تلك الثقافة الأولى، وسعي إلى التحرر من القضايا اليومية التي تثقل الكائن. أما اليوم فأنا أميل إلى التعبير عن أوسع الرموز وأهمها وأبعدها غورا بأحداث إنسانية بسيطة تطبع الكائن. حياة الكائن مثقلة بها يُتيح الإحالة على الأبعد وأكثر ثراء والأعمق دلالة. في أدب محمود المسعدي نعثر أيضا على هذا الجوار الدال بين ما هو قريب وما هو بعيد، في أدبه يحدث وفاق عجيب بين بسائط الأمور وعظائمها. لهذا نعلن هاهنا أنه مرحلة هامة جدّا في تطوّر الأدب العربي عموما، رغم أنه لم يلقَ الشهرة العربية التي هو بها جدير. المسعدي مشهور جدا من حيث الأسهم، لكن القرّاء في المشرق قلّما اطّلعوا على أعماله. بعض النقّاد طالعوا نتفا من "السد" أو "حدّث أبو هريرة قال" والحق أنه ينبغي اليوم أن نعود إلى أدبه بالكثير من التمعّن على اعتباره مرحلة هامة جدا من مراحل تطور الأدب والفكر.
n يقول عز الدين المدني في كتابه التأسيسي "الأدب التجريبي" : "وما الأدب التجريبي إلاّ مرحلة مؤقّتة وانتقالية ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازها". لماذا طالت هذه "المرحلة المؤقّتة" وطال انتظار هذا "الأدب الكامل "؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن جمالية وفنية في العمل الإبداعي خارج سؤال التجريب وألعاب الإطاحة بالسائد ؟
oo مع احترامي للأديب الصديق عز الدين المدني لا أعتقد أنّ هنالك أدبا كاملا. الأدب تجريبي أبدا، أما الأدب الكامل فنسعى إليه ونتوق إليه دون أن يكون وجودا فعليا. "موريس بلانشو" يعبّر عن هذه الفكرة الرائعة للجزم بأن الأدب هو "ما نُقبل دوما على ابتداعه"، الأدب في حركته وتبدله وتطوره وتغيره. من قبيل التبسيط القول بوجود مرحلتين : مرحلة تجريبية مؤقتة، ومرحلة أخرى نهائية ودائمة. على العكس المرحلة التجريبية هي الدائمة عبر ترافد حلقاتها الكثيرة المتعاقبة. ولا أشكّ في أنّ أفضل نص ابتدعه عز الدين المدني هو قصة "الإنسان الصفر"، بمراحلها القديمة والجديدة المنشورة في "كتاب الأسئلة" لخالد النجار. لقد كانت هذه القصة القصيرة قصة رَحِمِيَّةً مكّنت الكثير من النصوص من أن تكون. لهذا أجد لها أثرا فيما أكتب وفيما يكتب إبراهيم الدرغوثي خاصة.
لقد سعت إلى تجريد الأشياء من قداستها، وإلى قول ما يعسر أن يُقال، أو قوله بطريقة أخرى مغايرة، فمثّلت منطلقا حقيقيا للكثير من عيون الأدب اللاحق، حتى "دار الباشا" لحسن نصر تتضمّن فصولا تذكّر بـ"الإنسان الصفر" لعز الدين المدني.
n وضعت عبارة "رواية تجريبية" عتبة تلقّي في "مدوّنة الاعترافات…" وغابت هذه العتبة عن بقية أعمالك الرّوائية رغم أن هاجس التجريب ظلّ يرافق النصوص. هل يعني هذا أنّ التجريب في النص الأوّل كان سؤالا مركزيا بينما تحوّل في النصوص اللاحقة إلى استراتيجية لطرح أسئلة أخرى قد تكون مضمونية ؟!!
oo إشارتك هذه ذكية جدا، إذ تلتقط سمات التجريب وتميّز الموجود منها في النص الأول لمقارنته ببقية النصوص الموالية. مثلما أشرت التجريب جزء من الاستراتيجيا المركزية في صلب النصوص الموالية، إنما لم يعد القضية الأساسية. أما الأسئلة الجديدة فمضمونية. لهذا يُمكن أن أقول إن العمل الأول أعلن إجمالا عن خيارات أسلوبية معيّنة، ثم تأتي الأعمال الموالية لتأكيدها مع تقديم فسحات غرضية مغايرة. فكأنّ الأعمال اللاحقة من قبيل دعم الأصل بإضافات جديدة. لهذا، ومن هذا المنظور أساسا، أقول أنها تنويعات جديدة تدعم الأصل وتُغنيه. أما الأسئلة الجديدة التي تتضمنها فقد سلف أن عبّر عنها محمد الغزّي إذ أعلن أنها أسئلة وجودية، في المعنى العام الواسع.
الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة. الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.
n يتواتر سؤال السبيل في روايات صلاح الدين بوجاه، هل يعيش المؤلّف أزمة الاتّجاه في زمن اندثرت فيه معالم الطريق أم هو سؤال المثقف في كل الأزمنة باعتباره توأم الاغتراب ونزيل غربة دائما وتلك ضريبة "الوعي الشقيّ" ؟!
oo أقول هو "سؤال الإنسان"، فعلا لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.
فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا !
n قرأنا في روايتك "السيرك" عن ظاهرة أكل لحم الكلب أو "غزال السطح" التي تنتشر في إحدى مناطق الجنوب التونسي والتي يُنكرها أهلها، رغم أن التيجاني سبق إلى تدوينها منذ قرون في رحلته الشهيرة. هل في ما ارتكبته شيء من نيّة فضح المسكوت عنه وما يجري في المناطق الخلفية لوجاهة الإنسان المتمدّن وما يعيشه من وحشية ونزعة إلى ارتكاب الممنوع والمحرّم ؟!
oo هي نزعة أثيرة عندي. أهدف إلى كشف المستور وإزاحة القداسة عن الواجهات الهشة التي كثيرا ما تخفي ممارسات شتى خفية، وعادة أكل الكلب من قبل الأفّاقين والمجرمين والسكارى عادة منتشرة في أكثر من جهة، لكن الناس يتستّرون عليها، على أنها من العادات المكروهة. وكم من عادات مكروهة تخفي الباقات المنشّاة والأفعال الموزونة. عادة أكل الكلب يشيع أنها كانت منتشرة في حي "الرحبة" في مدينة القيروان. وهذا الحي قد جمع الأفّاقين وباعة الحشيش والخمر منذ عصور… حتى أصبح أنموذجا واسعا للمسكوت عنه بكل أنواعه. المسكوت عنه، الجنسي والديني والسياسي أيضا من المسائل التي أصبو إلى الكشف عنها ويهتك أستارها. من هذا المنظور يبدو الروائي دارسا أنثروبولوجيا كاشفا منقّبا يُعرّي العورة ويهنك السرّ ويُفضي إلى النقيصة.
الكشف عن النقائص أيضا هدف أسمى يسعى إليه الكاتب، لأنّ وضع الإنسان إزاء ذاته، إزاء حقائقه الأولى البسيطة، هو من أهداف الرّوائي التي ينبغي أن يحتفظ بها ويقدّمها. هذه هي الأهداف التي أتشبّث بها ويعنيني أن أواصل العناية بها بكيفيات مختلفة فيما أكتب. الكتابة في ذاتها تنبع من نزعة نحو إتيان المحرّم، نزعة قصية في أعماق الكائن البشري عموما ! وهل أعتى من الكتابة في مجتمعاتنا هذه التي تعتبرها نسيا منسيا، بل عادة سرية مرذولة مكروهة !
n قرأنا في "السيرك" إصرارا على إقحام العامية التونسية من خلال مجموعة من الأسماء والأفعال عمدت إلى تفسيرها في ملحق/ذيل، هل كنت تختبر لغة المتداول اليومي أم كنت تريد الإيهام بالواقعيّة أم كان دافعك البحث عن تلك الأسلبة التي أعلنها باختين في تناوله للخطاب الرّوائي ؟!!
oo تلك هي الرّواية التي هتف بعد قراءتها الأستاذ بكار : "هذا أسلوب بوجاه !". أقول هذا لأنني فعلا سعيت إلى ترصيعها بألفاظ عامية لخدمة وظائفها السردية أولا، ولاستحضار معجم واقعي تونسي يتماشى خاصة ومعمار الرّواية. الرّواية تُبنى عبر الزقاق والسقيفة والمجالس والمقاصير والمستراقات، وهي جميعا تحيل على المعمار العربي القديم في البيوت القيروانية، وبيوت تونس بصورة عامة، وقد رغبت في اعتماد الكثير من "الأشياء" في تسمياتها العامية الدارجة بيننا تماديا في تصوير الواقع اليومي. ورغم ذلك انتبه "عُتاةُ القرّاء" إلى الأسلوب الخاص بي الكامن في تجاويفها والنابع من بنيتها السردية والملابس لأحداثها. أما مسألة إدراج ثبت يُفسّر العامية فمن اقتراح الأستاذ بكار. ذلك أن النص كان سيصدر ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" مثل نص "النخّاس"، ووضع مقدمة له الأستاذ الصحبي العلاني، وطلب الأستاذ بكار بوضع "معجم" في آخره يشرح الألفاظ التونسية للقرّاء في المشرق العربي. لكن ظروف النشر شاءت بعد ذلك أن يصدر النص ضمن "منشورات دار الأدب" ببيروت، قبل أن أعيد نشره – على كاهل المؤلف – سنة 2002.
n لاحظنا غلبة الجمل الاسمية في روايتك "السيرك" والتي تفيد عادة السكون وانحسار الحركة وهو ما يتناقض مع دلالة العنوان الذي يحملنا إلى عوالم الحركة بامتياز. هل هذه المفارقة بين اللغة والمتخيّل من ناحية وبين العنوان والمتن من جهة أخرى من قبيل المراوغة أم المصادفة ؟
oo غلبة الجمل الاسمية… مجرّد صدفة غير مقصودة، إلى حدّ اللحظة لم أعد إلى النص للقيام بإحصاء غلبة هذا النوع أو ذاك من الجمل عليه. والحق أنني لا أحفل كثيرا بمثل هذه الملاحظات الأسلوبية أو أن الكتابة، لأنها مما يُرهق الرّوائي ويضع الأغلال في أقدامه. قد يكون من مهام النقاد أن ينتبهوا إلى مثل هذا، لكن حركة النص، ودلالات الشخصيات داخله، وأبعاده المعنوية تبقى حرة متحركة بعيدة عن هذا أو ذاك من التفسيرات التي تبقى مجرّد تأويلات.
n تمرّ بنا فصول روايتك من خلال عناوينها من الزقاق إلى السقيفة الأولى فالثانية ثم وسط الدار فالمجلس الكبير ثم المستراق مرورا بالمقصورة لتخرجنا من الخوخة. في هذه العنونة مبرّرات كثيرة لقراءات مختلفة ففيها إشارة إلى وعي الرّوائي بشعرية العنونة، وفيها معنى الاستضافة : استضافة القارئ، وفيها ما يحيل على جمالية المكان، فكأنك تؤثّث فصول الرّواية كما يؤثّث بيت عتيق، فأيّ هذه الدلالات كانت حاضرة في ذهن بوجاه وهو يضع عناوين الفصول ؟
oo الدلالة الأولى نابعة من إعجابي بـ"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف. كنتُ أعتقدُ – ولا أزال – أنه قد تمكّن من ابتداع بنية رائعة بتقسيم روايته إلى شماريخ وعراجين، فرغبتُ في محاكاته بكيفية أخرى إذ عملتُ على استحضار بنية "البيت العربي" القديم بمختلف عناصر عمارته. وأعتقد أنني قد نجحت في لفت انتباه القارئ التونسي والمشرقي. فكثيرون هم الأصدقاء الذين لاحظوا ذلك وتساءلوا عن دلالاته ! لهذا أجزم معك أنها غاية جمالية تلك التي دفعتني إلى استحضار المعمار القديم المساوق للمضامين.

قديم 04-30-2012, 07:50 AM
المشاركة 495
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n تصرّ في خاتمة رواياتك أن تقحم إمضاءك فتغتال الرّاوي في عملك، هل كنت أنت المؤلف الذي يروي دائما أم أنّه يحزّ في نفسك أن تترك تلك العوالم الرّوائيّة لشخصيّة ورقيّة ؟
oo فعلا ملاحظتك طريفة جدا، والحق أنّ هذا التقليد حاضر في "المدوّنة" و"النخّاس" و"السيرك" و"التاج والخنجر والجسد". أستحضر اسمي مباشرة، أو بعض ألقابي الظاهرة أو الخفية، كأن أقول "أبو يُسر" وهي كبرى بناتي، أو "تاج الدين فرحات" تنويعا على "صلاح الدين بن فرحات" وهي لقبي الأصلي… إلى غير ذلك من "الرموز" المفضوحة الواضحة التي تصبو إلى الإحالة على المرجع الخارجي، وجعل النص "نسبيا" أي نسبيّ الانغلاق، أو الإحالة على ذاته. والأمر نابع من تصوّري للعلاقة بين النص والمرجع، فليس في كتابتي "سيرة ذاتية" بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن فيها يقينا نابعا من الجوار الدال. بين النص المكتوب والمرجع المحكي، حتى لأكنهما واحد. في ذلك تصور للفن الروائي الساعي إلى الانبثاق من الحياة والعائد إليها، ينبثق منها بإثارة أسئلتها الوجودية الكبرى، ويعود إليها للإلحاح على استفهاماتها الأصلية.
… ثمّ انتبهتُ بعد ذلك إلى أن الشاعر الزّاجل في قصائدنا العامية يُضمن اسمه للتباهي في نهاية "القسيم"، فاستطرفتُ ذلك حقّا !!
n لاحظنا في آخر أعمالك وفي "السرك" تحديدا أنّك تنزع إلى الوصف مستعملا لغة واقعيّة محايدة خلافا لعملك البكر الذي جاء مثقّلا بحضور كثيف للذات جعلها تقف منظّرة ملقية بحكمها ورؤاها. هل انحسار هذه الذّات الوجودية وانفجار الواقع ليعبّر عن نفسه في علاقة بانهيار الإيديولوجيّات والفلسفات اليوم ؟
oo قد أوافقك على "انهيار الأيديولوجيا وانحسار الواقع"، لكنّني أولا وآخرا أعيد الأمر إلى "العمل الأول" الذي افتتح به هذا الحديث. فالعمل الأول يقتضي منا أن نقول كل شيء، فكأنه يختزل، ويختزن، جميع الأعمال التي تعقبه، أما الأعمال الموالية فأقل ادّعاء، لذلك تكون أكثر صمتا، وأميل إلى الإيحاء دون جلبة أو ضجيج. فلنقل إن التفسير مزدوج إذن، هذا وذاك في الوقت نفسه، لكنّني أعود لأكرر الإشارة إلى أنّ الكاتب إذ يكتب لا يقصد إلى هذا الأمر أو ذاك، إنما من مهام الناقد فيما بعد أن يُعمل أدوات التأويل فيما بين يديه.
n تحدّث سعيد يقطين في حوار أجريناه معه عمّا سمّاه بـ"الرّواية التفاعليّة" التي استفادت من الثورة المعلوماتيّة. هل يعتقد بوجاه أنّ هذة الاستفادة كفيلة بأن تضمن للرّواية حداثتها، أم أنّ هذا التوظيف لا يعدو أن يكون صرعة فنيّة سرعان ما يعود بعدها الرّوائي إلى سحر المخطوط وجماليات البصري العتيق ؟
oo أنا من القائلين بأنّ "الإنسان بصدد التغير والتبدّل"، فعلا، الإنسان إذ يبتدع أدوات جديدة يدخل علاقات مغايرة، وبالتالي يُغيّر من ذاته، لهذا لا يمكنني اليوم أن أجزم بأن البقاء للمخطوط. إنّما يعنيني أن ألاحظ أن المسألة بالنسبة إليّ تعود إلى الاحتفاظ بالمكتوب، أما بالنسبة إلى غيري فمن يدري. أنا ممن يؤمنون بالقدرة التحريرية للكتابة الروائية التي تحتفظ لنفسها بمجالات الهدوء والصمت والتأمل والرويّة وإعمال العقل. هذه الجوانب هي الكفيلة بالإسهام في تحرير الإنسان، أما الجلبة فلا تغني ولا تسمن من جوع !
n شخصيّة "تاج الدين" – سيد الورق في روايتك "النخّاس" – فيها الكثير من صلاح الدين بوجاه. هل كنت تراوغ الرّوائي بالذاتي وتضفر الرّواية بالسيرة والمتخيّل بالواقعي في مؤلّفِك ؟!!
oo هي هباءات متمازجة، وفي الإمكان أن تعثر على إجابة على هذا السؤال طيّ الصفحات السابقة، تاج الدين فرحات هو صلاح الدين بوجاه، وهو جيل بكامله من أصحاب صلاح الدين بوجاه، لكنه مخلوق روائيّ نصيّ قد قُدَّ من كلمات. لذلك لا أميل إلى التأكيدات الخاوية الجازمة النهائية، إنما تستهويني الأجوبة المفتوحة غير المكتملة. ولا أعتقد أنّ "النخّاس" رواية سيرذاتية، رغم رغبة الرّاوي في الإيحاء بذلك. إنما هي تبنى – مثلما أسلفْتُ- على حوار أخّاذ بين الواقعي المرجعي والنصّي الصرف، لذلك تتردّد بين هذا وذاك. والحق أنّ ما يُنبئ فيها بالسيرذاتي يوجد في غيرها من رواياتي، بل من مجاميعي القصصيّة، لذلك أميل إلى تأكيد ما يمكن تأكيده بالنسبة إلى غيرها… فيها مزيج من نتفٍ وهباءات قد تذكّر بسيرتي لكنها تتجاوز سيرتي لتضرب بسهم في سيرة جيل بكامله، مدوّنة الاعترافات والأسرار كذلك، وبطلها الذي يختفي منذ الصفحة الأولى.
وكنتُ قُلتُ في ذلك الحين، إنه قد غاب، أو غُيِّبَ. وأعلن هاهنا أيضا أنّ "تاج الدين" في "النخّاس" هو أبو عمران سعيد في "المدوّنة" وهو الرّاوي في "التاج والخنجر والجسد"… وهو جميع هؤلاء الذين سيترددون على محاولاتي الرّوائية القادمة، له سماتهم وعلى لسانه شذراتٌ مما يقول، وفي ملامحه أيضا !!
n نواصل الحديث في هذه المسألة : "نصوصي تشبهني، فهي لا تحتيا في كنف العافية، إنما تقوم على مطلق الانشطار والخفّة… والبحث عن الجديد البعدي المبهج".
هذا الكلام لك، ومع ذلك تستدرك سريعا لتقول أنّك لم تقصد كتابة سيرتك ولا سيرة جيلك، وإن كانت الوجوه التي عرضتها في نصوصك تشبهك أو تشبههم.
هل فعلا يقدر الكاتب أن يحسم في ذلك الشبه أم أن المتلقّي هو الذي قد يعثر على ذلك الشبه بينك وبين تاج الدين مثلا لأن الكاتب قد يكتب تحت ثقل اللاوعي فتنسرب من بين أنامله حيواته وخلاياه وجيناتـه وهـو لا يعلم ؟!
هل تكتب وأنت على عرش وعيك أم أنه يحدث أن تراجع نصّا كنت قد كتبته فتغيب عنك دوافع ارتكابه ؟!!
oo فعلا، أنا لم أقصد إلى كتابة سيرة جيلي قصدا، لكن تلك السيرة تظهر من تجاويف الرّواية، تمدّ رأسها لتنظر من خلال شقوقها. وأجزم مجدّدا أنّ نصوصي تشبهني، وأنها مثلي لا تحيا في كنف العافية، إنما تتصادم ولا تترافد ! أقول إنّ هذا ينبع من بنيتها، وبنيات شخصياتها، لهذا فهي "لا تقول هذا" لكنّها "توحي به"، هذا هو لبّ المسألة. وأنا معك في أنّ الأمر يُترك ليحسم في شأنه المتلقّي بما يريد. وقصارى ما أقول هنا لا يعدو أن يكون تفسيرا واحدا من بين تفسيرات شتّى كثيرة يمكن أن تصيب، كما يمكن ألاّ تصيب ! وأشير هاهنا إلى أنّني أكتب نصوصي دفعة واحدة، ولا أعود إليها.
النص الوحيد الذي كتبتُه على مرحلتين، الأولى تفصلها على الثانية سنة كاملة، ثم عدتُ إليه لأتناوله بالكتابة مجددا… حتى تجلّى ذلك في بنيته وترجيعاته… هو "التاج والخنجر والجسد" أما بقية الأعمال فكتبت مرة واحدة، بل دفعة واحدة !
n تقول في الشهادة الأردنية (عمان عدد 101) إنّك اكتشفت أخيرا أنك لا تتوق إلى قول شيء بعينه. وإنّه كل همّك الآن هو معالجة فوضاك ومخاتلته زمنك وقرنت ذلك الشعور بمسألة الكتابة والخوف والحرية ؟
أولا : هل يعني هذا أنّ مقولة رسالة الكاتب (الحضارية) مقولة بائدة وليس عليه أن يكون لا مصلحا ولا مساهما في ثورة أو تحوّلات اجتماعية وكل ما عليه أن يلتفت إلى وجهة ؟!
ثانيا : لنتوسّع في الحديث عن الخوف والحريّة، ألا يحتاج الكاتب أحيانا ذلك الشعور بالخوف ليكتب كتابة مختلفة. ألا ترى في الخوف أو القمع منافع أدبية جمّة فبحضوره يمكن للكاتب أن يخلق أدوات جديدة فتحمله بعيدا عن المباشرة الفجّة التي قد توقعه فيها الحريّة ؟!
oo قلتُ ذلك الكلام لأن الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي. أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم. أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية. في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف. خشية الانفضاح تجوّد أدوات الكتابة عندنا، وتندرج ضمن المستقبل. استشراف المستقبل هو الضامن لوجود كتابة تحترم ذاتها. لكن الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
n يمثّل الفنتاستيكي رافدا من روافد تجربتك، فهل هو ناتج عن انغماسك في المدوّنة التراثية أم عن قراءاتك لأدب أمريكا اللاتينية… أم هي طفولتك القرويّة القيروانية بين الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت، أم كل هذا مجتمعا. نريد قليلا من البوح والتجلّي في علاقتك بالسحري والعجائبي واللامعقول ؟
oo أجواء باهرة هذه التي يحيل عليها سؤالك، تفتح مجالا رحبا لتمثل "الأدب". وهل "الأدب" بصفة عامة إلا ذلك الانغماس المبهج في "ألف ليلة وليلة" التي على إيقاعها تمضي طفولة الفتى في مدننا القديمة، وعلى إيقاع ما نُسج على غرارها من "صور متحركة" و"ألبومات مصورة" تمضي طفولة الفتيان شرقا وغربا. لهذا ليس من العسير اليوم أن نهتف أن "الأدب" هو ذلك البراح الفاتن الذي عليه تنفتح ألف كوّة من كوى الطفولة والشباب. الأدب الفنتاستيكي أوسع من أن يُضبط في رواية أمريكا اللاتينية، أو أجواء الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت.
علاقتي بالسحري واللامعقول تعود إلى أغوار خفية في تركيبة طفولتي، إلى أشياء صغيرة جدا تواريها أمي في حقق من العاج والمعدن والخشب، بعضها معلوم وأكثرها غير معلوم، إلى اعتقادها أنّ كائنات عجيبة تشاركنا حياتنا وتملأ أركان غرفنا ومقاصيرنا، إلى حكايات العمة الوافدة من أعماق القص الشرقي، إلى ليالي الشتاء الطويلة الصامتة تلف خيالنا بألف ملاءة من بيارق ملوّنة وبخور لذيذ، إلى "زيارة" أولياء الله الصالحين تفعمها الشموع… إلى رائحة الدم في أضاحي المساء البعيدة، حيث تولد الحكايات من كمّ فرحنا وخوفنا وتوقنا إلى الجديد الرائق.
هل أقول يا أخي كمال إنّ الأصل هو العجيب، وإنّ كل ما عداه ثانوي واستثنائي وطارئ. أوَدُّ ههُنا أن أجزم بأن الذائقة الغالبة على إدراكنا للرواية اليوم هي الذائقة "الفرنسية المدرسية" التي قنّنت الرّواية وضبطتها وجعلت منها ما يُعرف بين جمهور النقّاد بأنموذج "القص الكلاسيكي"، كأنما جاء وقت قد تمحّضت فيه نواميس بعينها للتعبير عن جنس بعينه واضح الملامح، جليّ العلامات، والحقّ أن هذه القوانين الكلاسيكية لا تعدو أن تكون رافدا من روافد القصّ موصولة بمحور بعينه من محاور الرّواية في العالم. وفي إمكاننا أن نشير على وجه الدقّة والتحديد إلى أنّ الرّواية الفرنسية هي التي أورثت العالم هذا الإدراك بتمحيضها رافدا بعينه من روافدها واعتباره الأصل والمحور، واعتبار كل ما عداه فرعيا طارئا غير أصيل. والواقع أن توسيع دائرة الإدراك سرعان ما يُنبئنا عن فضاءات روائيّة أخرى كثيرة منها الرّواية الإسبانية خاصّة، والرّواية الألمانية، وقد لبثتا منفتحتين على مستنداتهما المشرقية انفتاحا ذكيا جدا، ومنها المستندات العربية، والفارسية والهندية والإفريقية.
ولقد عملت على تطوير ذلك الموروث الثري وإعادة تأمّله فتيسر لها الكثير من الغِنى والطرافة وتوطّدت قدرتها على استدراج آليّات مشرقيّة بالغة الأهمية، منها خاصة آلية الشعر الصوفي، وما يُتيحه من عروج على مقامات بهيّة غير معلومة.
عن الرّواية الإسبانية أو أكاد أقول الإسبانية/العربية القديمة) تولّدت الرّواية الأمريكية الجنوبية، بمختلف نماذجها، هذه التي أضحت اليوم دُرجة أدبية في العالم. والحق أنّني قد اطّلعتُ عليها اطّلاعا واسعا في السنوات العشر الأخيرة، إذ كنتُ قد لبثتُ أسير النظرة الطاغية القديمة… رغم إيماني الثابت بوجوب تطعيمها بموروثنا الشخصي الأمومي الدراويشي التراثي القريب قصد تطويرها وإغنائها بالجديد. لهذا أذكر مجدّدا "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"المسخ" لكافكا و"ذئب البراري" لهرمان هسه… قبل أن أذكر أيّة رواية أخرى !
n وصف الأستاذ محمد الغزّي روايتك "النخاس" بأنّها "بالأدب الملحمي أوثق صلة"، هل يعني هذا أنّ الرواية انعطفت على سابقتها "الملحمة" لتتشرّب منها ؟ هل يعني هذا أن الرواية تُقبل على إحياء الملحمة التي كانت المتهم الأول في إراقة دمها ؟!
oo لقد غدا مقرّرا الآن أنّ الرّواية جنس "أَكُول"، يتغذّى على الأجناس الأخرى، فيقتات من الشعر، والملحمة والقصة القصيرة والموّال والعروبي والخرافة والأسطورة، يستحوذ على فضاءاتها، حتى يكون – مثلما أثْبَتُّ يوما ما – مثل النواسخ التي تدخل على المبتدإ فيكون اسمها وعلى الخبر فيكون خبرها. الرواية بهذا الفهم تُحدث تشويشا في النظام القائم، نظام الوجود، لتعويضه بنظامها المبتدع.
على هذه الشاكلة فهمتُ الكتابة الرّوائيّة، وأمارسها اليوم، وضمن هذا الإدراك أفهم قول الصديق الشاعر محمد الغزّي "إنّ النخّاس بالأدب الملحمي أوثق رحما". والواقع أنني لم أكتبها لغاية معيّنة أو ضمْن هدف بعينه… إنّما كان قصارى ما رغبتُ في إنشائه لا يعدو أن يكون نصّا يستلهم التراث العربي والرواية الحديثة في الوقت نفسه. المأزق الحقيقي الذي انبثقت منه كتابتي يكمن في برزخ اللقاء بين الوهم والحقيقة. كل ما حولي في طفولتي يعلن عن نفسي العقل، خاصة في رحاب الولي الصالح سيدي فرحات ورحاب الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي، بينما الدُرجة العربية في السبعينات خاصة كانت تتمثّل في التشبّث بالعقل لدى النخب المثقفة على الأقل.
مع مدونة "كافكا" انتبهتُ إلى إمكان التعبير عن المتناقضات، قول العقول والحدس والعجيب في الوقت نفسه، هذا هو اليقين الذي نحن في حاجة إليه الآن، أن نكون في مكانين في وقت واحد، أو قل أن نكون في المكان وخارج المكان، هذا هو إيقاع العصر، وليس في إمكان الرّواية العربية إحداث إضافتها الكونية اليوم إلاّ بتجاوز المنطق الأحادي، والجد المبالغ فيه وارتياد مجاهل الوهم والعجيب واللامعقول. ليس لدينا مدوّنة فلسفية نستند إليها، كل ما هنالك نُبذٌ من شتات غير واضح من الرؤى التي يمتزج فيها الكياني الأصيل بالسياسي المتغير السريع غير الثابت لا سلاح لنا اليوم غير التناقض، والتهكّم، والعجيب. بهذا قد نتمكّن من رصد واقع عربي متناقض عجيب غير معقول، واقع لا نملك فيه شيئا، ولا نتحكّم فيه.
الرّواية التقليدية تتصوّر أنّ الكاتب ذات قوة فاعلة قادرة على التغيير، والحقّ أنّ قصارى ما تتوق الرّواية إلى تسجيله لا يعدو أن يكون تأكيد عجزها وعجز شخصياتها، وعجز الرّوائي عن الفعل.
المنفذ الوحيد للنجاة اليوم من مخلب الواقع المرير يكمن في السخرية منه، فلا مستندات فلسفية عربية واضحة اليوم، ولا مستندات فلسفية غريبة يُمكن أن تعبر عن الواقع العربي العجيب. لهذا فإنّنا نعلن أنّ رواية قائمة على التناقض هي الأقدر على التعبير على همومنا الكثيرة الطاغية. ضمن هذا الأفق ندرك قولة الغزي أنّ الرواية لدى بوجاه تتوق إلى الملحمة !

قديم 04-30-2012, 07:50 AM
المشاركة 496
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n كيف تُدرك مستقبل الرّواية العربية في ظل ما نرى من تنوّع أسلوبي ومناخي لهذا الجنس في العالم. هل تصمد الرّواية العربية أم تتحوّل إلى مسخ قبل أن تتحلّل ؟
oo من صُلب التنوّع الأسلوبي والسردي والمناخي تُولد الرواية العربية وليس العكس. وكلما كانت الرواية قادرة على التحول والتبدّل والتجدد تمكّنت من الصمود أكثر من السابق. هذه الصيرورة هي التي تريدها الحركة الطبيعية لتحول المجتمع ويؤسفني كثيرا وجود بعض الأدعياء ممن يزعمون الإيمان بالماركسية وبإطنابها في رصد التحوّلات التاريخية، وهم في ذلك لا يتجاوزون الأخذ بالظاهر الذي هو من قبيل الموضة الاجتماعية، يُنكرون على الرواية تحولها الداخلي. والحقّ أنّ هذا الجنس – عبر تاريخه الطويل – قد أكّد قدرته على أن يُولد في كل منعطف ولادة جديدة. فالقصّ الشرقي، ورواية الفروسية، وما يُعرف بالرواية الكلاسيكية، والرواية الرومنسية والسريالية، والواقعية، والرّواية الجديدة، والسحرية والذهنية… وسواها… لا تعدو أن تكون تنويعا على أصل واحد. لهذا نؤكّد مجددا أنّ مستقبل الرواية العربية لن يكون إلا بإصرارها على امتلاك مبدأ التنوع والتحول الذي تشير إليه في سؤالك صديقي كمال.
الرّواية لا توجد في المستقبل إلاّ إذا ما أيقنت بالغرق وقبلت الاختلاف، وأقرّت بهما، حينها فقط تكون قادرة على أن تطفو فوق سطح الرداءة. لا امتلاك لمستقبل الرّواية إلا بالإقرار بالخروج من الرّواية وهجرانها ومغادرة مضاربها. في عالمنا العربي حصل هذا دون قصد، فمن صلب رواية القرن التاسع عشر، بطابعها التعليمي والتاريخي، انبثقت "الرّواية الفنية" في سعي إلى تمثل البداية الغربية -والفرنسية على وجه التدقيق – وتقليدها تقليدا تاما كاملا مباشرا، ثم كان الحدث الرّوائي الكبير الذي مثله نجيب محفوظ في مصر والبلاد العربية، والذي اختزل تجارب متتالية كانت الرواية الغربية قد عرفتها في عشرات السنين.
وعلينا أن نشير أيضا إلى أنّ الرّواية لم تعرف المسار التاريخي ذاته، فتطور الرّواية العربية غير تطوّر الرواية الفرنسية، وغير تطوّر الرواية الإسبانية مثلا، تلك التي مثّلت تاريخا مختلفا عن تاريخ الرّواية الفرنسية، فعلا كانت تاريخا مغايرا للسائد باعتمادها على إنجازاتها الداخلية المستندة بدورها إلى مبدأ القصّ القديم، بحواشيه واستطراداته الكثيرة، وزمنه الدائري، وكثرة هواتفه وشخوصه وأصواته. لهذا فمنتهى ما نقول هنا أننا ننفي هاهنا قطعيا أن تكون الرّواية قد احتفظت خلال تاريخا الطويل بسمات معيّنة يُمكن أن تغلبها على بقية السمات الكثيرة المتبدّلة المتغيّرة على الدوام. علينا أن نكتب رواية مختلفة في كل مرّة نمسك فيها بالقلم، علينا أن نكتب نصوصا جديدة.
n صلاح الدين بوجاه من الرّوائيين القلائل الذين لم يتنكّروا للقصّة القصيرة بعد أن ذاقوا طعم الجنس الرّوائي ! لماذا هذا الوفاء للقصة القصيرة ؟ هل هي ألذّ طعما ؟
oo لستُ ممّن يُميزون بين الرّواية والقصة القصيرة. وأعتقد جازما أنه ليس من شأن الكاتب أن يُميّز بين الرّواية والقصة القصيرة. هنالك مواضيع تتلاءم مع هذا الجنس، وهنالك أخرى تتلاءم مع الجنس الآخر، بكيفية عفويّة نابعة من جوهر الجنس الأدبي القائم في واحدة على اللمحة القصيرة، والأحداث المقتضبة والشخصيات القليلة – في الغالب الأعم – وعلى عكس ذلك في الأخرى. أمّا أمر التمييز فيُتركُ للنقّاد. وأعتقد أنّهم لا يعودون إلى الفصل بين القصة القصيرة والرّواية إلا أثناء التدريس، أما حين يتعلّق الأمر بالتقبل – مجرد التقبّل – فإنّهم يقتصرون على الاستمتاع. وهاهنا مربط الفرس مثلا يُقالُ، فهناك متعة فنية صرف تنشأ بين النص والقارئ، تُسهم بعض المتع الجانبية في صياغتها، ومنها متعة الموضوع وقربه أو بعده عن النفس، ومنها متعة الأسلوب… لكن الأمر في جوهره يتّصل بمتعة كبرى واحدة طاغية هي "متعة السرد"، فإذا ما نشأ تواطؤ بين كاتب النص وقارئه حول أمر السرد كان كل شيء، وإذا لم ينشأ ذلك لم يكن شيء.
وتدركون جيدا أن أمر المتعة ليس مقنّنا، فهو أمر عجيب يستعصي على القياس والضبط. لهذا يبقى غائما ضبابيا… لكنه ثابت حاضر أثناء كل عمليات التقبّل. لهذا فإنّ القصة القصيرة لا تختلف في أمر ولادتها عن الرّواية. انظر حقلا شاسعا تملأ الأزهار جنباته، ترى هل يتساءل في أول انبثاقها عن نوعها وجنسها وأسرتها وفرعها ؟ وما أن يدخل عالم نبات حتى يستهل عملية جديدة طارئة على الطبيعة وهي الضبط والتبويب والتفريع، حينها تولد القصة القصيرة، وتولد الرّواية، وتولد الملحمة، والقصة الطويلة… وسواها كثير. لهذا فإنّه ينبغي أن نميّز بين لحظتين تتكاملان لكنها لا تندمجان، تترافدات وتتساندان. لكن إحداهما لا تعوّض الأخرى بأيّة حال من الأحوال.
وكنت في بداية أمري قد أنشأت عددا من القصص القصيرة، ثم تركت هذا الصنف لوقت طويل اشتغلتُ فيه بالرّواية، وهي جنس رائع لأنّه يحقق عشرة عجيبة بين الكاتب وشخصيات عمله، عشرة محببة جدا إلى نفسي، فكأنها الصداقة الفعلية التي تنشأ بين الناس في الحياة، لذلك أفضل – في المطلق – الاشتغال بهذا الصنف. لكن القصّة القصيرة تمدّ أعناقها من أعطاف الوجود لإغرائي في لحظات بعينها. وأعتقد أنّ جنس "البورترية" هو الذي يجتذبني في أصل كل قصة قصيرة. لهذا فإنها تعتمد على شخصية واحدة في الغالب الأعم.
n لاحظنا اهتماما كبيرا بالأشياء في جل أعمالك الإبداعية، حتى أنّك قد تجعل من الشيء البطل أحيانا مثل قصة "المصعد" فهل يعود ذلك إلى شغفك بالأشياء أم إلى تأثّرك بالرّواية الجديدة في فرنسا، واهتماماتك النقديّة ؟
oo الأشياء هي الحياة. وفيما وراء الانتباه إلى كون "الشيء" فاعلا أساسيا في القصة ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الشيء يمثل الوحدة الأصلية في الحياة، أو قُل جوهرها الباقي. فهل الحياة – في نهاية المطاف – غير ثَبْتٍ غير متناسق من الأشياء، ثبتٍ مشوش، لكنه أصيل صادق، ثبتٍ طبق الأصل !! تفتنني الأشياء، وقد أشرتَ في استفسارك إلى "المصعد" في قصة سرفنتيس رسخت في ذهني طواحين الهواء. لبثتُ استعيدها مرات بعد الفراغ من النص. لقد كانت حقا أهمّ من الدون كيشوت ! الطواحين والحصان !
ألستَ معي يا صديقي كمال في أنه يُمكن اختيار عنوان أروع للدون كيشوت يكون "الطواحين والحصان". العالم الجديد يغيب الإنسان، ويجعل منه مجرّد ظل للوجود، مجرّد رقم. فلنتخيّل معا نهاية لرواية "الطواحين والحصان"، وسرعان ما سوف ننتبه إلى أنها، في جوهرها لن تختلف كثيرا، لكنها ستكون أصدق وأكثر تطابقا مع الواقع. لهذا أكرّر أنّ الأشياء تفتنني، اليوم أُمسك بالمعجم (أي معجم/لسان العرب مثلا) وأستهلّ قراءته على أنه قصة، أو قل مجموعة من القصص المتتالية التي يمكن قراءتها بلا توقّف، تستهلها متى أردت، وتستوقفها متى شئت، ثم تعود إليها فجأة، وبلا سابق إصرار… هذه هي القصة وهذه هي الحياة.
"النخّاس" مثلا حُبْلَى بالأشياء، فوق المناضد، في الطبيعة، في ذهن الكائن البشري، والأشياء تحيل على الوجود، وجود الأبطال، المسألة في رأيي فكرية، وليست سردية أو فنيّة. الأمر يُحيل على تمثل للوجود وتصور للحياة أعمق من تمثل القصة وتصوّرها، لهذا فإنه يعنيني هاهنا أن أتشبّث بما استُهلت به هذه الأسطر : الأشياء هي الحياة. فأيّة رواية يمكن اختزالها في كلمات، هي أشياء مضمونة إلى بعضها البعض. إنّي أحلم بكتابة قصة أو رواية لا تعدو أن تكون ثبتا متلاحقا من الأشياء. فعلا أحلم بكتابة معجم لأشياء متلاحقة يُعرّف بعضها البعض الآخر. وأعتقد أنني سوف أساق يوما إلى كتابة هذا، أو إلـى كتابـة شـيء مماثل !
n ألا يعني هذا أنّ الناقد يباغتك أحيانا ويضع بردته على كتفيك ؟
oo أعتقد، على عكس الظاهر، أنه لا يسكنني ناقد خفي يضع بردته على كتفي، إنما أظنّ جازما أنّ كائنا متفلسفا يملأ كياني، كائنا همه الاستنجاد بأعمق ما ينبجس من وجودنا العربي لمّا لشتات نظرية عربية في الرواية. إنّ همّي يكمن في مجال اللقيا بين الرّواية والنظرية الفلسفية، وإني لأدرك جيدا أنّ غياب نظرية فلسفية متكاملة ممّا نسمّيه مجتمعا عربيا هو أصل هذه المهزلة. والواقع أنّ المجتمعات العربية (التي نصر دوما على نحتها المجتمع العربي والحد) متفاوتة الوعي بالأشياء، تتحكّم فيها علاقات متداخلة مختلفة من مجتمع إلى آخر… لكنها في منتهى أمرها تنتمي إجمالا إلى المرحلة نفسها.
أُدرك أن كثيرين سيجزمون باختلاف بنية الأسرة في تونس مثلا عن بنية الأسرة في الخليج، لكنني أعود للجزم بأن الأمر في منتهاه يؤول إلى جوهر واحد، فالظاهر هو الذي يتخير ؛ زد على ذلك أنّ الأمر لا يستقيم للمقارنة الكمية، فأسر قليلة في العاصمة التونسية مثلا تغيرت العلاقات داخلها بكيفية تامة، فأضحت تختلف عن مثيلاتها في أي مكان عربي آخر، أما الغالبية العظمى ففي جوهرها (ورغم التعليم والتجربة والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى) أسرٌ عربية صميمة. لهذا أعود إلى سؤالك للإلحاح على أنّ ذات الكاتب تستجمع الناقد والمتفلسف ورجل السياسية ورجل الاقتصاد لتصنع منهم في النهاية ذاتا واحدة قائمة على التناقض. والتناقض هو لبّ المسألة وجوهرها !
عليه ينبني الثراء الذي يزعمه الكاتب، فالنفوس الهادئة المستكينة التي لا تعرف تقلقلا نفوس غير كاتبة، أما الذات الكاتبة فذات متعددة، تدرك جيدا أنّ كائنات شتى كثيرة تسكنها، وأنها لا تعيش في كنف الوئام والاستقرار إنما تتدافع على الدوام، فيجذب بعضها البعض الآخر، و"يُبهذل" بعضها البعض الآخر، فيستخف به ويسخر منه ويتهكّم عليه ! هذا هو مناخ الرّواية، إنها – مثلا أكرر دوما – ليست بنية معرفية تنشد الحقيقة، إنما هي تنشد حقيقة ما… قد تختلف من قراءة إلى أخرى… بل إنها لتختلف من قراءة إلى أخرى حسب اختلاف القرّاء.
n تجلّى في مدوّنتك النقدية اهتمامك بالأدب المقارن، والأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية، هل وجدت ما يُميّزه عن الأدب العربي المكتوب بالعربية ؟
oo بقي الخطاب الرّوائي الغربي – في أعراف نقاد كثيرين – خطاب أطراف، تستوي في هذا المدوّنتان العربية والمكتوبة بالفرنسية ويتوافق الموقفان المشرقي والأوروبي. ويبقى الخطاب النقدي الذي يتناوله مخطئا أهدافه معرضا عن تقصّي مكامن الأدبية فيه وعن اعتباره من جيد الأدب، في الشائع الغالب الأعم. فالاهتمام بالمدوّنة المغربية (ضمن مجال الأدب المقارن) يعود إلى الإحساس بهذا التناقض الأصيل الذي تتبع عنه ثنائية المشرق والمغرب، أو قُل أنه ينبع منها !
وهو يستند إلى تبريرات متعددة، منها الشخصي الناتج عن إسهامنا في الساحة الثقافية التونسية، ومنها الموضوعي الكامن في بحوثنا الجامعيّة، ومنها المستقبلي النابع من توقنا أي إبراز ما يخصص هذه النصوص، ويُسهم في التعريف بأدبيّتها، ويُنبه إلى مطايا التأثير المتبادل بينها. لهذا فإنّنا نودّ أن نُسجل هنا أن مشروع اهتمامنا بالأدب المغربي مشروع طموح، ذو غايات متنوّعة، وهو المتردّد بين ثقافتين تتبادلان المدّ والجزر والإغناء المتبادل منذ عقود من زمان. ومهما يكن من أمر فإنّ اقتضاء البحث في هذا المجال الأوسط بين إبداعين روائيّين تونسيّين، أو مغربيّين، كُتبا في لغتين مختلفين، قد أضحى اقتضاء عاما ينبجس ممّا يُحبّر فوق أعمدة الصحف، ومما ينشأ في الملتقيات الأدبية العامة، فضلا على ما قد تظفر به طيّ هذا المصنف المتخصّص أو ذاك.
والملاحظ أنّ الأدب المغربي بصفة عامة قد أخذ في الآونة الأخيرة يلفت الانتباه، ويتطلّب الانعطاف بالنظر والدرس والتمحيص، بيد أنّ المسألة لم ترق إلى حدود المقارنة بين أساليبه، وأنساقه السردية، وأغراضه ودلالات خطابه. ولاشك أنّ تواتر صدور روايات جديدة تستعمل اللسان الفرنسي، في تونس والجزائر والمغرب، بعد عقود من انقشاع الحماية، يُعدُّ من القضايا التي تتطلّب النظر والتحقيق، فضلا على المواضيع المعالجة والخيارات السردية والأسلوبية وجميع ما يحف بها من مستلزمات وحواف، تعود إلى التقاليد الأدبية والفنية والثقافية العامة.
لهذا فإنّنا نتوق إلى توظيف المقارنة بين المدوّنتين العربية والفرنسية في بلاد المغرب لتجاوز الموازنات التاريخية والاجتماعية والسياسية نحو البحث في إنشائية النص الرّوائي المغربي بصورة عامة.
n لاحظنا أنّ الأدب العربي في المهجر، وخاصة منه التونسي، يعيش على الذاكرة، ولا يستفيد من الفضاءات التي يعيش داخلها، باستثناء قليلين، فكأنّه لبث أسير "القصبة" أو "القيروان". هل قدر الكاتب العربي على البقاء أسير الذاكرة ؟
oo فعلا هذه الملاحظة ذكية جدا، تؤكّد أن الكاتب يبقى أسير حضارته، وما تقوله هاهنا يُمكن أن ينطبق على الأدب في المهجر بصفة عامة، فجماعة جبران وأبي ماضي، وميخائيل نعيمة مثلا لم تستفد كثيرا من الفضاء الحاف بها مقارنة باستفادتها من المخزون الداخلي الذي حملته معها عبر المهاجر المتكرّرة التي قصدتها. فكأنّ الأدب يبقى محكوما بنواميس داخليّة ترجع إلى الثقافة التي يتربّى داخلها الكاتب طفلا، أكثر من عودتها إلى المناخات الجديدة التي يعرفها كهلا، لهذا فإنّنا نؤكّد معك أنّ الأدب العربي في المهجر قد ظلّ يعيش على ذاكرته الداخلية دون أن يستفيد كثيرا من الفضاءات التي يعيش داخلها… دون أن أضيف قولك "باستثناء قليلين"… فهؤلاء القليلون أيضا – في جوهر أعمالهم – يَمور الأدب العربي القديم. خُذ مثلا على هذا عبد الوهاب المدّب، صاحب اللغة المعقدة جدا، حتى بالنسبة إلى الفرنسيين أنفسهم، وصاحب المدوّنة المفعمة بالمصطلحات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية الدينية، فلسوف تنتبه إلى أنّ مدوّنته قد انبنت على استرجاع التصوّف بكيفية دائمة وثابتة. لقد أكّد أن تلك العودة تعني إسهاما في الحضارة الكونية، التي يدخلها من خلال الفرنسية بمخزون ثري هو التراث الصوفي، بأنواعه.
لكن الأحكام التي ننشئها حول مدوّناتنا لاحقة بالنسبة إليها. فنحن نكتب أولا، ثم تأثير الأحكام بعد ذلك. والحكم هاهنا لا يُبرّر الأصل إنما يؤكّده. لهذا نلح على أنّ عبد الوهاب المدّب كاتب عربي يكتب بلغة أجنبية عزيزة جدا، قريبة من نفسه. فالعروبة والأسلوب في أعمق تجلّياتهما يطلاّن برأسيهما من فجوات مدوّنته بكيفيّة لافتة.
n تكتب القصة القصيرة بنفس روائي، حتى أنّك تعود أحيانا إلى القصة نفسها لتستأنفها كقصة "زرنيخ" مثلا، وبعض قصصك أشبه بروايات قصيرة، مثل قصة "المرأة التي تدبغ ظهور الرجال" !؟
oo أنا على يقين من أنّ أعمال الكاتب تنفتح على بعضها بعضا. يحدثُ ذلك بسُبل خفية كثيرة، ويحدث أحيانا بكيفيات واعية غير خفية، والملاحظ أنّني أتولّى إحداثه جهرا بإشارات كثيرة، فرواية "حمام الزغبار" التي أتولّى نشرها هذه السنة تُختتم – على سبيل الذكر – بهذه الطريقة : "وقد ورد ذكر هذه الدروب والحمام والفرناق في مخطوط "التاج والخنجر والجسد" الذي وقعت بين أدينا نسخة منه، حيث وصف الكاتب السراديب الطوال المودّية إلى زاوية سيدي فرحات، الواقعة شمالا على مسيرة نصف يوم لراكب الدابة من القيروان". ولك أن تنتبه إلى أنّ رواية "التاج والخنجر والجسد" تتضمّن في خاتمتها إشارة إلى "حمام الزغبار"، أما رواية "النخّاس" فتشير إلى هذين النصين كما تتولّى الإلمام إلى روايات أخرى كُتبت، وإلى نصوص مخطوطة، وإلى أعمال لازالت في ضمير الغيب، إنّما أصبو إلى تجبيرها مستقبلا. ضمن هذا التداخل المقصود أُدرك أبعاد إشارتك إلى أنني أكتب القصة القصيرة بنفس روائي، وكنت ضمن هذا الحديث أشرتُ إلى انفتاح هذين الجنسين أحدهما على الآخر. هذه وجهة في التصرّف تروقني كثيرا، وإني لموقن من أنّ الواحد منا – مهما يكن من أمر – يعالج نصا واحدا بكيفيات مختلفة.
وغالبا ما يكون الأمر مختزنا في روايته الأولى، أو الثانية، انظر الأفلام الأولى لكبار المخرجين في العالم تجدها تحوي كل شيء، مثل "صندوق الأم في المقصورة القديمة"… أمّا الأشرطة الموالية فتعكف على بعض اللمحات أو المشاهد الموجودة في "الصندوق الأول" فتعيد معالجتها وتوظيفها… شأن الزئبق المستعصي على المعالجة !
n هل كنت تلملم، بسفينتك في "النخّاس"، مثل نوح بقايا شعوب المتوسط ؟
oo لقد كنتُ، على حدّ عبارة ابن النديم، أرغب في لملمة جميع شعوب الأرض. وأزعم أنّ مهمّة الرّوائي تتمثّل في جدوى أن يقول كل شيء في وقت واحد. أو قل أن يُعبّر عن الجزئي وهو يتعرّض إلى الكلي. صورة الطوفان، وسفينة نوح، تروقني كثيرا. فهي تعني التجميع، والبدء من جديد والاستئناف فالخلاّق، كما تعني الحياة إذ تُبنى على زوجين من كل جنس. بصورة عامة هو ذاته الهدف الذي قصدتُ. التجميع والاستئناف والابتداع كلّها مسائل تعنيني كثيرا.. لهذا أقبل الليغوريا الطوفان ونوح للتعبير عن "النخّاس". كذا النخّاس كانت تتوق إلى جمع "العرب والعجم والبربر، وكل ما عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" عسى أن تقول كل شيء، أن تمسك بالجوهر في حركته غير المرئية المنسوبة داخل تجاويف الزمان والمكان.
وفكرة لملمة الشعوب تعني ضربا من الكوسموغونيا، أي القصة التي تحكي البدايات، وتقول الاستهلال. كذا النخاس تتوق إلى التعبير عما به كانت بدايات المتوسط خاصة، في ذلك الحوار العجيب بين اليونان والرومان والعرب، في صدام خلاّق ابتدع الفلسفة، والحب، والخير والشر، ابتدع الله الشيطان، والحرب والسلم، ابتدع القمح والشعير والعسل والزيت الذي يكاد يُضيء !!!
وألبث دوما أصبو إلى كتابة نص مثل النخاس، وإنّي الساعة أشتغل على موضوع آخر يُتيح بالنسبة إليّ الكثير من إمكانات التجميع التي تشير إليها، وهو موضوع "الكثرة" و"التعدّد" و"التكسّر" التي تسكن الكائن البشري، أو قُل تسكنني، وتعبر عن هجنتي وتعدّدي. هاهنا أقدم صورة الكوميديان القادر على تمثيل جميع الأدوار دون أن يتقمص أيا منها تقمّصا نهائيا. هذه هي المواضيع الكبرى التي تغريني يا أستاذ كمال، بل تُغريني للإمساك بها يعسر حقا الإمساك به في وقت يتحتم على جنس الرواية أن يقول الكثير ، بل يتحتّم عليه أن يقول كل شيء !!!
n كيف ترى المرأة ؟ بعين الفنان أم الشاعر، أم النخّاس ؟
oo بعيون هؤلاء جميعا ! المرأة كائن خارق بالنسبة إلى الرجل (كما أنّ الرجل كائن غير عادي بالنسبة إلى المرأة)، لهذا ينبغي أن يتحفز ذهنه، وحواسه وخياله، وكل ذكائه لإدراكها والإلمام بالعامل السحري الذي تشيعه فيما حولها. وموقع المرأة في الأدب أجلُّ من موقعها في الحياة وأبقى. لذا فإنّني ألحّ على ضرورة أن يتعاضد الفنان، والشاعر، والنخّاس للإحاطة بهذه الظاهرة التي تتأبّى على الإحاطة : الفنان كي يُحيطها بهالة من التقديس، والشاعر للتغني بآلائها، والنخاس لاختراق كيانها وتطويعها لأداء مهمات أرضية !؟ هذا هو التناقض الأصيل الذي يقوم عليه وجود كل امرأة، والذي ينبغي التعامل معه بكيفيات مختلفة متفاوتة.
الشعر والفن والنخاسة تتعامل مع فتنة يعسر التعامل معها، مع زئبق يعسر الإمساك به وتذوبه. وجذر الفتنة – مثلا تدرك أستاذ كمال – متنوع الدلالات. لهذا فإنّ ذلك يتطلّب تعدد سُبل التعامل معه. فهو يقوم على :
ـ الغواية
ـ الحرب / وبعد الشُّقة
ـ والفتّان هو الشيطان
ـ السحر.
لذا تأكّد أن تحافظ المرأة الفاتنة بسرب من الفنانين والشعراء والنخاسين كي يُسهموا في تعداد آلاتها، والوقوف بين يدي غوايتها والخضوع لها، والخروج عليها وانتهاك حرمتها. هذا التناقض الأصيل في كيان المرأة هو الذي رغبت بلا شك في الإمساك به عبر رموز (الفنان والشاعر والنخاس)، وهو بلا شكّ لبُّ الأمر كله في لعبة التبادل الآسر التي تحدث بين المرأة والفن.
ولك أن تنظر في مختلف تجاربي في مجال الرّواية ولسوف تظفر بما يؤكّد هذا التعدد في التعامل مع المرأة. فهي محل الرغبة، ومنطلق الإغواء، وباب من أبواب اختراق المقدس. "مدونة الاعترافات والأسرار" تؤكّد هذا و"راضية والسيرك" و"النخاس" والمجاميع القصصية و"التاج والخنجر والجسد"… وغيرها من القصص القصيرة، تدور جميعها حول معاني الإقبال والإدبار في التعامل مع هذا الكائن الروحاني الأرضي، الإلهي الترابي، البعيد القريب، العجيب الساحر والبسيط المتاح !
عليه فإنّني أبوح هنا بأن الأدب برمّته قد لا يعدو أن يكون ترددا بين مختلف إشكالات الوجود الكبرى، وهل المرأة غير واحد من أهم إشكالات الوجود !؟
n ألا تعتقد أنّ الروائي العربي اليوم انقلب إلى نخّاس ؟ أنا أرى ذلك فعلا. فهو يحشو نصوصه بالشفاه والقُبل وأجساد النساء.. ؟ كيف يكتب بوجاه الجسد ؟
oo إنّ الاكتفاء بالنخاسة (على معنى الإجابة السابقة) يُعد تقصيرا صريحا، خاصة في مستوى الرّواية. لهذا فإنّني أعتقد أنّ الروايات (أو الرّوائيين) التي تشير إليها (أو تشير إليهم) لا يمثّلون الأنموذج العربي الأوسط، أو الأنموذج الأكثر شيوعا بين الأدباء. لهذا فإنّني أودّ أن أشير إلى أنّ الروايات الجيّدة أو الروائيين المجيدين، أرفع من مجرّد معنى النخاسة، أو المفاهيم الحافة به. وأسوق على سبيل الذكر لا الحصر رواية مثل "فساد الأمكنة" لصبري موسى، حيث تُنتهك المرأة، بل تباع وتشترى في سوق السياسة وتشابك المصالح المشبوهة. يحدث ذلك من قبل طغمة يرغب الكاتب في تصوير صلتها بملك مصر، دون أن يجعلها الأكثر سيطرة على حظوظ الناس والمجتمع، إنّما قُصاراه أن يُلمح إلى وجودها، بل وانتشار ممارساتها، وسيطرتها على أصحاب القرار وأولي الأمر. أمّا أولئك الذين يجعلون من رواياتهم دكاكين لعرض أجساد النساء فإنّهم الخاسرون أولا وآخرا. فالرّواية تتوسّل بالفن لتخييل الواقع، أو قل لابتداع واقع آخر يوازي هذا الواقع الخارجي ويتخطاه. والفن يسقط بالوقوع في المباشرة.
وما أتوق إليه في رواياتي يُختَزل في سِعَة التعاطي مع نساء الواقع ونساء الفن بكفيات غير تعبيرية، أي غير مباشرة، لهذا ففي النخاس مثلا تجد نفسك في عالم حسي تماما، لكنه حسّ الخَفَر، والحياءِ الفني (لا الحياء الأخلاقي العام طبعا). فوصيّتي للكتاب بسيطة، أعمل بها قبل غيري، "كلما سقطت الكتابة في المباشر هجرت الفن، وضحّت بالعماد الأوحد لوجود الرواية، فالمؤلف ليس في مجال حديث اجتماعي أو سياسي، أو أخلاقي… إنه في مجال فنّي يرتفع فيه الأنموذج المتعامل معه مع المادي إلى المجرد، ومن الأرض إلى الجميل القدسي كلما تركنا التصريح واكتفينا بالتلميح الدال.

قديم 04-30-2012, 02:57 PM
المشاركة 497
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الكاتب العربي ما يزال يعاني منرقابة الدين والأخلاق والأسرة
الروائي التونسي صلاح الدين بوجاه
أجريالحوار: حاتم النقاطي

القدس العربي
28/07/2008

أصدر الروائي التونسي صلاحالدين بوجاه هذه الايام عن دار الجنوب وضمن سلسلة عيون معاصرة روايته "لون الروح" مضيفا للناقد وللقارئ استفهامات جديدة حول عمق ما يعبّر عنه في أدبه من إشكالاتداخل شخوصه وأزمنة وأمكنة وملامح حضورها في مخيّلتنا، وقد نال مؤخرا صاحبها بهذاالعمل جائزة كومار للرواية ولذلك فان شرعية الدخول لخلفيات كاتبها هي صورة أخريلتأويل عوالمها.
إنّ حتميّة انتماء الإنسان للزمان تؤكد حقيقة تطوّر علاقةالانسان بمحيطه واستيعاب تناقضات الواقع وتوحيدها عبر ذاك الوعي البشريّ القادر عليصهر الآن في ماضيه واستشراف القادم لتأسيس ذاك الوجود المنشود حيث الإمتاع والحرية. ولعلّ الأديب التونسي "صلاح الدين بوجاه" يحمل وعيا خصوصيا بالزمن اذ أنّ معرفتيبهذا "الانسان" تعود الي ثلاثين عاما خلت ولكنّ الزمن ما استطاع أن يغيّر جوهره،هادئا متأمّلا صريحا منفتحا علي كل الآراء مؤمنا بمساهمات الجميع لبناء النصالثقافي والابداعي علي حدّ السواء.
ما زال هذا الأديب منغرسا في الشأن العاممساهما في العمل الجمعياتي اذ أنّه علاوة علي عضويّته بمجلس النوّاب التونسيّفانّّه يترأس أعتي منظمة تونسيّة هي "اتحاد الكتّاب التونسيين" مجمّعا الفرقاءومشجّعا الكلّ علي الابداع والتقدّم بالنصّ وقراءته في آن.
ه
و صوت تونسيّ دخلالساحة العربية من جميع منافذها المشرقيّة والخليجية والمغاربية محاولة لعالميّةممكنة اذ في نصّه ذائقة إبداع انسانيّ رائدة أو هي أسئلة الروائي المهووس بذاكالغائب المختفي المسكوت عن صوته وصورته.
ولعلّ هذا الحديث محاولة لإضاءة نصّثريّ يتطلّب من النقّاد مغامرة الجدّة والصراحة لفهم الخفيّ والعــميقداخله.
لكلّ كتاب جديد اضافته فما الذي يحمله عملك الجديد للقارئ؟
الجديد فيمستوي المعني يكمن في الجمع بين فكرتي "التلصص" و" الإرهاب" فقد اخترت لروايتيالجديدة مكانا خارج تونس، صحراء العريس في القطر المصري الشقيق، الموجود علي بعدكيلومترات من الحدود الاسرائيلية. وفي يقيني انّ هذا الموضع مهم جدّا، لأنّه يحويكلّ المتناقضات التي تعالجها "لون الروح". وكنت قد أقمت هنالك أيّاما قمتُ فيهاببحث حول الطبيعة، من عصافير ونبات وصحراء وحيوان... أفادني كثيرا في كتابةالرواية.
بيد أنّ أهم عنصر أعتبره جديرا بالنظر في هذا العمل الجديد هو بنيته،فهي بنية مفتوحة، تكتب فيها الرواية مثلا ترسم اللوحة الزيتية رويدا رويدا... فلايكتمل العمل الاّ عند نهايته.
انّ النصّ يلعب دورا فاعلا في تحديد منزلة المؤلفلدي القارئ ولكن للناقد أيضا إضاءاته للنصّ اذ أنّه يساهم في تعريف القريب والبعيدبفحوي أبعاده. فما الذي أضافه النقد لأعمالك زمن "موت الكاتب وميلاد القارئ" عليحدّ عبارة "بارت"؟
أخشي أن أصدمك اذا ما أكدت انني لا أعتقد انّ النقد قد أضافالي أعمالي، أو الي مشروعي شيئا. وباستثناء نفر قليل من أساتذتنا لا يوجد نقد فيتونس.
اذا ما استثنينا كلاّ من توفيق بكار ومحمود طرشونة وحمادي صمود وفوزيالزمرلي... صعب أن نتحدث عن نقد في تونس بكل ما يعنيه مفهوم النقد من استناد اليمنظومة شرقية كانت أو غربية، ونقد النصوص وقدرة علي غربلتها. لهذا فانني أكاد لاأنعطف، اضافة الي الاسماء سالفة الذكر الا علي الزملاء هادي خليل وعادل خضر، ومحمدالغزي ومنصف وهايبي وعمر حفيظ وأحمد السماوي، فلقد تمكن هؤلاء من الغوص في جوانب منمدونتي الروائية.
أما في ما عدا هذا فإنني أعتقد انني لم أقرأ بعد قراءة شاملةتضع الامور في مواضعها، وتنخل نصي لتبرز ايجابياته وتشير الي سلبياته. أنا أزعمانني صاحب مشروع متكامل في كتابة الرواية، وانني في تونس غير مقروء بما فيهالكفاية. أما خارج تونس فأشير خاصة الي صبري حافظ وعبد الله ابراهيم.
ألا تريمعي أنّ الوعي النقديّ في ساحتنا الثقافية التونسية والعربية ما استطاع أن يضطلعبدوره الحقيقي داخل سلطة المألوف والسائد أي أنّه ما وجد بعد جرأة فحص "البواكير" فإذا به يعيد النظر في السائد المهترئ (محفوظ ـ الغيطاني) شرقا (الدوعاجي والمسعدي) تونسيّا مما أضاع فرصا ثمينة لتصفّح عوالم أدبيّة أخري هنا أو هناك؟
أنا معكتماما في هذا، بما أنه ليس لدينا نقّاد ـ الا فيما رحم ربك ـ فانّ أغلب "كاتبينا" يقنعون بالركون الي خانة المعروف المعهود لا يتجاوزونه. فبما أنه يوجد من كرّسهالاستعمال فما جدوي الغوص في مدونات ابداعية أخري.
يمكنني أن أزعم أخي حاتم اننيمقروء في مصر والشام أكثر من تونس. ولعل هذه المفارقة تعود الي انني قد التزمت بنشرأعمالي في كل من القاهرة وبيروت ودمشق فضلا علي البلاد التونسية وهو ما حدا بالناقدالمصري صلاح فضل الي مداعبتي بقوله : أنت معروف في القاهرة أكثر من تونس.
هذهمفارقة غير مريحة طبعا، ثم أنا لا أبحث عن أن أكون معروفا شخصيّا، انما أريد أنيكون نصي معروفا... وهذه رغبة كل كاتب في اعتقادي.
أنت اذن مع سلطة نصّ آخر يجدسلطته الفعليّة في قارئ ذكيّ فهل تؤمن حقّا بهذا القارئ والأمّة العربيّة تعاني منشبه أميّة بصريّة؟
لا أذيع سرّا اذا قلت انّ القارئ الذي أتوق اليه هو قارئمثقف. فالقارئ المثقف، بل متعدد الثقافات، هو الذي يعنيني. ومن نماذج ذلك الدكتورالهادي خليل، الذي أتحفني بقراءة من أبدع ما اطلعت عليه في السنوات الاخيرة.


ذلك انّ مراجعي متعددة بعضها عربي وبعضها أجنبي، وأنا واسع الاطلاع علي الرواية الغربية، وأرجو أن تكون نصوصي مندرجة ضمن سياقاتها العالمية.
نحن مكرهون علي المطالبة بقسطنا من انتمائنا الي الثقافة العالمية التي نعتبرها بشكل من الأشكال ثقافتنا. أنا ضد كل أنواع التقوقع، وأعتقد انّ لحظات الضوء في حضارتنا العربية هي تلك الموسومة بالاندراج ضمن السياق العالمي. ولقد تمكّن أجدادنا بفضل هذه الرؤية الذكية المتحركة من احداث تأثير كبير في الحضارة العالمية حولهم، ويعنينا أن ننجح في ذلك اليوم أيضا.
ألا تري أنّ تطوّر المجال الافتراضي ودخول الادباء والقراء الي هذا العالم قد خلق ذائقة أخري لمتابعة الفنون مما يحتّم علي الشريكين "القارئ والكاتب" تأهيل حضورهما واستبدال الورقي بـ "الملتيميديا"؟
الملتيميديا لا يمكن الاّ أن تكون من المتممات، فهي من قبيل النوافل ضمن العملية الابداعية، ويعسر أن تغدو أصلها. لهذا فمرحبا باللقيا الافتراضية بين الكاتب والقارئ... لكن دون استبدال الورق!
أنا وفيّ جدا للورق رغم انني أحسن استعمال الكمبيوتر، اذ أري أن صلتي بالكتابة هي صلة مادية بالورقة، لقد تربيت علي هذا ويصعب أن أبدل عاداتي.


قديم 04-30-2012, 02:57 PM
المشاركة 498
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أما فيمسألة "الفنون" عموما، فقد يكون هذا القول قولا سليما، ذلك انّ الحوامل الرقميةتتيح امكانات عرض غير محدودة، وتنويعا للأشكال وانخراطا ضمن حدودالإمكان.
فالجوانب المقدرة، الافتراضية، تعين علي الحكم وتكشف عن امكانات أخرياضافية، يصعب تجميد حركيتها أو الامساك بها. انها مثل النهر المتحوّل.
إننا نعلمأنّك "أكاديمي" اذ أنّك حامل "دكتوراه" في اختصاص "الرواية" ألا يمكن لهذه المعرفةبالمناهج والأساليب والأطر أن تؤثر سلبا علي مجال ابداعك؟
كنت أخاف هذا فيالماضي. والملاحظ انني بدأت مبدعا، فلقد ظهرت قصصي القصيرة الاولي، حين كنت فوقمقاعد المدرسة الثانوية علي صفحات مجلة "الفكر". بيد انّ تنوع التجارب، واختلافهافي الزمان مكنني وبكثير من المرونة من التعامل مع لحظة الابداع الروائي.
الروايةاليوم سبيل آخر من سبل المعرفة بالنسبة اليّ، أدخل لعبتها تحت دفع اغراءات شتيبعضها منــدرج ضمن سياق المتعــة، وبعضها ضمن سياق المعرفة، وفي المعرفة متـــعةأيضا.
المهم انني اليوم أواصل مشروعي، وأترك الحكم له أو عليه للمستقبلوالتاريخ. فأنا لست متعجلا، كما أنه لا يعنيني أن يعرف الناس نصي خلال حياتي، أناأراهن علي الخمسين سنة المقبلة، دون ادّعاء طبعا.
ألا تري أننا في مرحلة تقتضيمنّا اعادة الوعي بتصنيف الفنون ممّا يجعلها تنفتح علي بعض وممّا يؤهّلها الي "شعريّة" أخري يضطلع بها المؤلف والقارئ والناقد علي حدّ السواء؟
أنا معك في هذاالفهم، وفي زعمي تحمل الرواية اليوم هذا المشروع، ويمكن أن تحيله مستقبلا عليالكثير من النضج. التجاوب بين الفنون هو جوهر بقائها.
الشعر، النحت، الرسم،المعمار، الموسيقي... كلّها من الفنون التي تغني النصّ الروائي اليوم. وتضيف اليهالكثير. ولقد بدأ النقد اليوم يتحدث عن تحوّل الرواية الي "ديوان العرب" اليوم، بعدأن كان الشعر يحتل هذه الوظيفة في الماضي. وهذا مهم جدّا، لأن الرواية تمكن الكاتبوالقارئ من امكانات غير محدودة للتوافق بين الفنون.
في أوّل التسعينات أصبحتنائبا في البرلمان ولكنّك بدأت الكتابة ونشرت نصوصك قبل ذلك بسنوات. فبماذا أفادتكالسياسة داخل عالمك الروائي؟
الاشتغال بالشأن العام فتح عيني علي الواقع، مكننيمن معرفة البلاد، فلقد زرت كل مناطق الجمهورية تقريبا. وفي ذلك غنيمة كبيرة بالنسبةالي روائي.
لقد جبت الأنحاء، واطلعت علي الخفايا، فأغني هذا عالمي الروائي. "النخاس" ظهرت بعد دخولي البرلمان، لكنها كتبت قبل ذلك.
أما باقي الروايات، وهي "السيرك"، "سبع صبايا"، "لون الروح" و "النهر قرب المدينة"... فقد كتبت في المرحلةالبرلمانية، وهذا أنا مدين به لهذه التجربة الثرية جدا التي مكنتني من الاطلاعالعميق علي حياة الناس في كل مناطق البلاد. وفي ذلك غني وتنوع وتعدد ثقافيبديع.
بعد أزمة حقيقية داخل اتحاد الكتّاب التونسيين وبعد خلاف عاصف بين العديدمن الكتّاب وبين الهيئة المتخلية وقع انتخابك رئيسا لهذا الهيكل. الآن وبعد ما يزيدعن السنتين من اضطلاعك بهذه المهمة ما الذي لم تستطع تحقيقه؟ وما هي موانعه؟
لقدتمكنت من قبول عدد كبير من الكتاب ضمن الاتحاد خلال السنوات القليلة الفارطة (ثلاثسنوات) بلغ حوالي 300 كاتب. بيد أنني بقيت علي حرماني، لأنه يوجد كتّاب كثيرون،وكتّاب كبار، لم يدخلوا الاتحاد.
وأنا أعتقد أن الأمر يعود الي رغبتهم في البقاءخارج الهياكل، ولا يعود الي خلاف ايديولوجي مع الرؤي السائدة في الاتحاد.
هل تريفي تعددية تمثيل "الكتّاب التونسيين" من خلال وجود هياكل جمعياتية موازية مجالالتطوير وعي الادباء بالفضاءات الثقافية والمدنية علي حد السواء؟
نعم، أنا معتعدد الهياكل، فلتعدد الجمعيات الثقافية، إغناء لتجارب كتابنا وتفتيق لأذهانهم،ونشر للثقافة الجديدة بين صفوفهم.
بيد أنّ وفاء هؤلاء جميعا ينبغي أن يلبثللكتابة والكتّاب أوّلا وأخيراً. لهذا فلا ينبغي أن ينشأ هذا العمل المتنوع في كمّالسياسة مهما تكن وجهتها، انما ينبغي أن يزدهر في حضن الثقافة.
للأسف هنالك منرجال القلم اليوم بيننا من يعنيه الحضور السياسي أكثر من الحضور الادبي، وهذا خطأمحض.
لو تبوّأت سلطة سياسية متصلة بمجال الثقافة مما يطوّر هامش التصرّف لديك "سلطة وقرارا وتنفيذا" فما الذي ستسعي لتحقيقه للكاتب وللقارئ ولعالم الفنعموما؟
يا أخي حاتم... يمكنني أن أعد بالكثير دون أن أطبق شيئا حين يتوجبذلك!
لو جالست السيد وزير الثقافة لالتمست منه شيئا من التوازن في التعامل بينالكاتب ، المخرج السينمائي والرسام التشكيلي فقط.
لقد سبق لبعض النواب بمجلسالأمة كما كان يسمي سابقا أو مجلس النوّاب حاليا أن أصدروا مذكّراتهم عما كان يدوربهذا الفضاء فهل تنوي لاحقا اصدار "مذكّرات"؟ ولماذا؟
لا، لا أنوي ذلك، تجربتيفي مجلس النواب يمكن أن تضيء تجربتي عموما، لكنها لا ينبغي أن تستفرغها تماما، بحيثتغدو هي الاصل.
أنا كاتب رواية في المقام الاول، ثم أنا مدرس في الجامعة فيالمقام الثاني، وعضو في مجلس النواب في المقام الثالث...
...
ولا أريد أن أخلطالأوراق!!
انّ الكتابة لا يمكن لها أن تتطوّر الاّ في عالم الحريّةوالديمقراطية. فما نصيب الكاتب العربيّ من ذلك؟
الكاتب العربي غير حرّ. وهذا لايعود الي رقابات وزارات الداخلية، وقد قلت هذا وكررته مرات متعاقبة. انما هو عائدالي الرقابة الدنيئة، والرقابة الأخلاقية، والرقابة الأسرية. لي صديق شاعر كبير بلغالستين، ساءلته زوجته : "كيف تواصل الحديث في الغزل، وبناتك اليوم شابات!!" هذه هيالمسألة!!
لعلّها لا تقوم من غير ايجاد موقف ضروري من الذات والتاريخ و"الآخر" الشبيه والمختلف تجاوزا لموانع "الآن" والماضي واستشرافا لنصّ آخر؟
هذه بعضشروطها، كلنا نحمل الماضي العقدي عبئا يقيد حركتنا، بينما جعل منه غيرنا دافعا نحوالمزيد من الإبداع والحرية. حين ننجح في ذلك... قد يكتب لنا البقاء والتأثير فيعالم اليوم!
اذن من أين تبدأ الكتابة والي أين تنتهي؟
لا بداية للكتابة ولانهاية محددة لها، في يقيني أن الرواية تستهل في لحظة ما، يمكن ألا تكون ضرورةالبداية المادية فوق الورق، انما هي نابعة من لحظة إحساس الكاتب بها. لذلك فالكتابةعملية سيميائية عسيرة جدا، يصعب الإمساك بها أو ضبطها في الزمان أو المكان، أو شدهاالي رؤية بعينها، الرواية متبدلة متحولة علي الدوام.
لهذا أود أن أصرح هنا أنالكتابة تعينني علي تحمّل أعباء الوجود، مواجهة تعب الأبناء، والشغل، الاحساسبالمتعة التي يفتقدها الكائن الاجتماعي في الحياة اليومية.
انّ الرواية هياضافتنا الي الثقافة، علي افتراض أن الثقافة هي اضافتنا الي الطبيعة. هل أمازحكفأقول ان تعريفي للانسان ينبع من كونه كاتب رواية!


وعنده القيروان ...خزينة ذكريات يمكن أن انعطف عليها في أية لحظة.


قديم 04-30-2012, 03:06 PM
المشاركة 499
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقطفات مما قاله صلاح الدين بوجاه
- الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة.

- الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.

- لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.

- فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا

- الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي.

- أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم.

- أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية.

- في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف.



- الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
  • مما يقوله صلاح الدين بوجاه في هذه المقتطفات اعلاه لا شك اننا نستطيع ان نقول بأنه عاش حاية ازمة وخوف من الموت وغيره من الاسباب.
مأزوم.

قديم 04-30-2012, 11:25 PM
المشاركة 500
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

نبذة النيل والفرات:
"من جبل تبدو نابلس كانون نار، والمصابيح تتألف كحبات الدق، لكن العتمة والآهات ونداءات الشباب. وحسام المصادر أين ينام؟ يجئ مع شقشقات الفجر وآذان الصبح ينقر شباك العلية ويقول وهو ما زال خلف القواطع: "صباح الخير عمتي". يسعد صباحك ويطلق جناحك ويجعل نهارك نور وسرور. فوق يا عمتي فوق، فوق خدلك غفوة". وتقوم من فراشها فيندس فيه، وينام حتى قبل الظهر. وذات مرة جاءها برفيق له، وكان جائعين كالقطط الضالة، فأكلا الخبزات واستقرضت المزيد. وبعدها بأيام جاءها بالرفيق نفسه وفي صدره صلية دمدم. ومات الشاب بين يديها وحسام يبكي في العتمة وقف على السطح وصفر، فجاءوا كالجن من الليل حملوه ودفنوه في لحظات دون أن تعلم أمه، وحين حملت لها الخبر المشؤوم صاحب بجنون: ابني لحالي؟ ابني وابنك، أنت سحبتيه!وتذكرت. بلى والله، فهي من قصت سرته، وهي من تلقت بشارته، وهي من حملته يوم طهوره، واليوم، هي من تسمح دمعته الأخيرة، وتذكرة عينيه الغائمتين ورائحة عرقه، مات وهو يحلم بحمام ساخن، ودفنوه بعرقه ورائحة الأصطيل والتبن العالق في شعره. صامت الولادة فهرعت إليها. وأطل الرأس ثم غاب فنامت وبرد الطلق وتراجع وخافت أن يبرد أكثر، فصاحت فيها تصيحها: عيني ولدك يا مستورة، عيني ولدك!" من واقع معاناة شعب فلسطين ومن جراحهم المذبحة بالدماء، تلتقط سحر خليفة صور روايتها هذه "باب الساحة" لتروي للعرب وبأسلوبها المعبر البسيط مشاهد تحدث كل يوم خلف هذا الباب الكبير الذي هو صورة لأبواب أخرى تخفي خلفها نفس المعاناة في فلسطين. في حي من أحياء نابلس شرح الكاتبة بقلمها لتلتقط صورها من كل البيوت، ولترسم وعبر شخصية "الداية زكية" وبيراعها ما يحدث من تخريب في بيوت نابلس وحرق ودمار على يد أصحاب العلم ذا اللونين الأزرق والأبيض وهي بما ترسم لم تنسى التوقف عند واقع المرأة الفلسطينية المتدهور محاولة المقارنة بين حالها اليوم بعد الانتفاضة وحالها قبل ذلك أيام العز حيث لم يكن للدمعة في عيونها طريق ولا للخوف في ملامحها تعبير.


نبذة الناشر:
"وناولها ثاني قصيدة، فتحتها، قرأتها، وطوتها ثم ابتسمت. سألها بخوف: ألا تعجبك؟ قالت: لا بأس، أحسن من الأولى، ولكن بعد؟ "بعد، وماذا بعد؟" قالت: "بعد صغيرة؟" من هي الأولى أم الثانية؟ قالت بعتاب: "بل الفكرة. يا ابني يا شاطر في الأولى أنا كنت الأم، والآن، أنا كنت الأرض، وغداً، طبعاً، أكون الرمز، اصح يا شاطر، أنا لست الأم، ولست الأرض ولست الرمز، أنا إنسانة. آكل أشرب أحلم أخطئ أضيع أموج وأتعذب وأناجي الريح. أنا لست الرمز، أنا المرأة." قال بإحساس: "بل أنت سحاب." ضحكت بكل نواجذها وهمست بجبين مرفوع: وأنت المشتاق للآفاق".



=
كتبهاabdalla makki ، في 4 يناير 2007 الساعة: 07:16 ص



سحر خليفة
فلسطين



وبدأ يلاحقها كالمسعور. يذهب يوميا إلى المكتبة، يقرأ، يحلم، يصغ، وينام، ويقرأ ثانية ويفكر. وتمر الأيام ولا تحضر. ثم تحضر فجأة. بدون نظام. ومعظم المرات تجيء بعد انصراف المدارس عند الظهر. ويلمحها من وراء الزجاج تتقمز بالكعب العالي واللبس الأنيق. القوام الممشوق كالخيزران والتنانير الضيقة والواسعة، وسترات صيفية تعطيها مظهرها الرياضي الأنيق. تقف على "الكاونتر" لتعيد الكتب ثم تمشي وتطقطق فوق البلاط وتغيب طويلا بين الرفوف.

وبدأ يتجسس عليها. الاسم، التخصص، مكان الدراسة، اسم الوالد واسم العائلة. أبوها نجار "مستور،" أخوتها ما زالوا صغارا، فهي الكبرى، تدرس العلوم والأحياء، تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن نالت منحة. كانت من العشرة الأوائل. فهي أذن ذات عقل وفهم. الجامعة الأميركية والأحياء؟ يا رب السماء! فليقرأ أذن كتب العالم.
وماذا تقرأ؟ أدب، فلسفة وسياسة، علوم تاريخ وسياسة، اقتصاد، شعر وسياسة، سياسة، سياسة. فليقرأ إذن كل هذا وذاك، وليسمع ويناقش ويتسيّس.
الآن وهو يذكر أصل السياسة في ماضيه البعيد، يقر بالاعتراف الخطير، فلولاها ما عرف السياسة بهذا العمق. لكان تذوقها ككل الناس: مجرد واقع، واحتلال وبؤس وثورة تجيء من الطرف الآخر عبر الأردن.
حين سمع صوتها أول مرة كان قد كبر كثيرا. مرت سنتان أو أكثر وهو يتابعها في الأحلام والكتب المستعارة والمكتبة. كان قد اجتاز التوجيهي وقدم أوراقه "للنجاح" (*). وحينذاك اعتقل صدفة. سجن إداري ككل الشباب، ومن بعدها انكسر الخوف. ما عاد يخاف من سلطة أبيه. ما عاد يقف بالصف على الدرج ويقول بذل حزين: "مسا الخير يابا." ما عاد يخجل من النظر مباشرة في عين البنات. ما عاد يشعر أن النظر خيانة. وأهم من هذا وذاك، ما عاد مقتنعا بهذا الحب، الحب من طرف واحد، حب الأحلام، حب يجيء من الصفحات والرغبة المكبوتة في الأعماق، والعقل الواعي صمام الأمان. بدأت قراءاته تجدي. الآن يفهم ما يقرأ، ويحلل ويعلل ويتأمل. وقل المكوث على السطح بين "الروبابيكيا" والأجراس. وكثرت زياراته لباب الساحة وخان التجار. وانتمى لأول تنظيم ثم اعتقل. ثلاثة أشهر ثم "النجاح." ثم التنظيم الثاني، ثم سنة وصف خرج بعدها وقد اشتد عودا، يفهم ويعرف ماذا يريد، ويريد أبدا أن يعرف.
ورآها في معرض للكتب. اللباس الأنيق نفسه والكعب العالي والقد الملفوف. ما زالت حلما، والقلب يخفق بهدوء مشوب. اقترب من الطاولة حيث تقف وهي تقلب كتابا جديدا. قال بتحد: "أي بلد هذه؟ خمس سنوات أو أكثر وأنا أعرفك ولا أعرفك."
التفتت بسرعة واضطرت لرفع عينيها. كان قد بات طويلا، أطول منها. التقت عيناها بعينيه. همست بصوت عريض أبح بطيء: "ما عدت تدمع." قال بهدوء موقوت: "كبرت." هزت رأسها وابتسمت بفهم "واضح. واضح."
أي عنف هذا؟ هذا هو الحب الأول، بل أول حب وآخر حب. في حبها اختلط الحنان بقدح الرأس ورعش البدن. الشمس أصفى مما هي، والأرض أغنى مما هي، والبلد القديمة كالأحلام. يسير في حي القصبة، يهوم بين الأبنية القديمة والأقواس والكليل العريض ورائحة السيرج والجفت الحار والخبز الساخن وشي الكباب وقزحة وسماق ومناقيش زعتر وقينر وحلاوة طحينية وجوزة الطيب. بهارات العالم في شوالات، وبصيص النور في كوات، ونجوم مذهبة في المسجد، وسقف الخان وفوق القباب.
والآن ما عاد يستمتع بمواجهة أبيه. ما أن يرى السيارة مدبرة في الطريق حتى يقفز السور ويدفع الباب ويدخل، ويجلس في إحدى الشرفات الزجاجية ويمد ساقيه ويسرح. ومن خلال الزجاج تتسلل شمس الخريف حاملة دفء العالم وإشراقه.
من أين لهذه المدينة كل هذا السنى؟ وامتداد الأفق الغربي يملأ الضباب. وفي الأمسيات البعيدة يغدو الغروب أثيرا يحلحل عقد المفاصل. ويقف منتشيا على سطح الدار يشم الشذى ورائحة الأرض ويحلم بالوصول إلى ابعد نقطة، حيث الخلود وأسواق الروح القصوى، والحب الشامل الوجود كله.
تلال زواتا وقمة روبين وانحدار البطاح لقرص الشمس وحب فتاة عيناها أجنحة الشفق وريش السنونو وذهب السنابل. كانت المرأة صورة، وما زالت، كرمز الأرض. أو أن الأرض هي المرأة. لكن الأرض ما عادت حلم الأحلام. الآن وقد دفع الثمن الغالي يعرف كيف يموت المرء على صخرة أو جحر مهجور كابن آوى. ولولا الروح وإيمان القلب لكفر، وكفر بكل الناس. لكن الناس هم المعبد، هم القبلة، وهم اللازمة لكل صلاة. فبدونهم ما طعم الأرض؟ ما طعم الروح ومعنى الوطن؟


مقطع من رواية باب الساحة لسحر خليفة.
الناشر دار الآداب، لبنان (1999).
الطبعة الثانية. ص 53-56=



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 105 ( الأعضاء 0 والزوار 105)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 11:48 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.