قديم 06-12-2014, 02:10 PM
المشاركة 11
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تحقق المنتوجات أعلى الأرقام في أسواق المهجر قاطبة و تتهافت كبريات الأسواق الممتازة على الزعفران و عسل الزعتر و بعض المعلبات الغذائية من اللوز والجوز و زيوت الأركان ، فتجوب صالحة القرى و المداشر محفزة التعاونيات على مزيد من الإنتاج و تلح كثيرا على النظافة و الثمار الجيدة ، و تحذر من الغش والتزييف ، وما إن عبرت دفعتها الثانية الحدود حتى جاءها التحذير من شركة صديقتيها أن دراسة أجريت للدفعات الأولى تناهت أن بعض الشوائب تحول دون إعطاء المنتوج درجة الجودة العالية ، كما جاءتها رسالة من مركز مراقبة المواد الغذائية تدعوها للحضور فورا ، هناك وجدت أناسا مختصين خلصوا أن شروط الصناعة الغذائية تقتضي حفظ المنتوجات الأولية في أماكن خاصة وفق درجة حرارية معينة لكل منتوج ، و عملية عصر زيوت الأركان يجب أن تتم بواسطة الآلات العصرية حتى لا تشوبها زوائد تؤثر على جودتها . بدأت الأسئلة تلف في ذهنها ، أنتم لا تعدمون أعذارا لكبح إنتاجية شعوب الجنوب ، أنتم تختلقون دوما عراقيل لإذلال المنتوجات الأجنبية ، فنشر الدراسة في الإعلام حرب فاضحة ، يواصل المختصون اقتراحاتهم الجديدة ، حفاظا على المعايير المعتمدة ، نصحوها باقتناء آلات لتجويد المنتوج والاستفادة من خبرات تقنيين سيسهرون على مراقبة سلسلة الإنتاج من مهدها إلى أن تصل إلى السوق ، وهناك طلب موجه في الموضوع للوزارة المختصة لتسهيل تلك العمليات وفق اتفاقيات الشراكة . تيقنت أنهم يراقبون كل كبيرة وصغيرة هناك ، يحدون من الغزو الخارجي ، ويستغلون كل فرصة لتسويق آلياتهم . رأت نفسها دخلت متاهة كبرى ، شروط الرأسمالية العالمية ، و العلاقات (شمال ـ جنوب) أي مجازفة هنا تعني الخسارة . يجب الرضوخ لمطالبهم ، فهم أهل البلد ، و لو تركوا أبوابها مشرعة لاكتسحهم القمل و البق.
رجعت وهي تحاول اقناع التعاونيات على شراء الآلات الجديدة وتحديث التصنيع التقليدي ، هي تعلم أنهم لن يعدموا حيلة أخرى مستقبلا من تلك الحيل المكشوفة قصد فرملة الإنتاج ، فهم يقبلون بالاستيراد لكن بنسب ضئيلة لا تؤثر على الميزان التجاري . ماذا بعد ذلك ؟ تيقنت أن عليها مواصلة البحث عن مواطن المال ، يجب أن لا تعتمد على موطن واحد لاستقطاب العملة ، يجب أن تقتحم كل المجالات ، لكن كيف ؟ البرصة فيها سماسرة أقوياء و أشداء قد يرشدونها ، معها قسط من المال لا يفي بالغرض لإعلان حربها ، كما هي مؤمنة بعدم المقامرة بما تملك ، عليها أن تلعب لعبتها بأموال الآخرين .
خمسة أشهر مضت على ولوجها عالم الأعمال ،البرصة ستعطيها فرصا كبيرة للنجاح ، أولى الجلسات ستكون قريبا جدا ، وكيلها يوصيها بالمشاركة في التداول ، هناك أسهم ستطرح قريبا من شركة عملاقة ، ستكون بأثمان بخسة نظرا للمستقبل الغامض و عدم وضوح خطة مجلس الإدارة ، المبلغ سيكون مكلفا لكنه مربح جدا .
خرجت من بيتها غير مطمئنة ، أدارت العجلات و توقفت عند سوق السمك ، اليوم ستعرف ما يخبؤه بائع الكزبرة ، هو في مكانه المعتاد ، الحزم مصفوفة على منضدة أمامه ، صندوق الليمون في جانبه الأيمن وهو جالس على كرسيه الخشبي المهترئ ، تحت المنضدة تظهر أكياس الأعشاب المبللة ، فاجأته نبرتها وهي تسلم عليه ، لكأنه سائح مع موجات أثيرية لا يسمعها غيره ، كانت نفسه منقبضة منذ الفجر ، لم يبع صبيحة اليوم حزمة واحدة ، لعل السوق عبوس اليوم ، لم تقف ذاكرته على يوم شبيه بهذا الذي ابتدأ لتوه ، شعور يغمره كالذي اعتراه في أول ليلة بالسجن ، لكن بسمتها أزاحت عنه الكثير من القنوط ، سألته عن أحواله ، لم يفته أن يقاسمها التحية مستفسرا عن أحوال أمها . ردت بابتسامة مستفسرة عن نوع المساعدة التي كانت ينوي تقديمها ، كان سؤالها مباشرا بعثر جوابه ، تماسك أخيرا قائلا : " كل الصعاب لها حلول ، هذا ما علمتني الحياة " فقالت له : "ترى إن كان صديقك وحبيبي يواجه مشاكل جمة ، هل ستساعده أو على الأقل ترشدني إلى شخص يمكنني من مساعدته." فكر قليلا ثم أجابها : " هل يمكن أن أعرف نوع المصاعب التي يتخبط فيها " فردت و حشرجة تعكر نغمتها : " إنه يسير شركة والده ، وشركته مهددة بالإفلاس ، سيضطر للتخلي عن جزء من حصصه في الشركة . وعندما سكت قالت : "معذرة على إزعاجك سيدي ، فأنا مجرد فتاة مغلوبة على أمرها ، أعماها حبها ، و توهمت أن الجميع يمكن أن يضحوا بما يملكون لنجدة ناصر ، كنت أتساءل إن كان أصدقاؤه يملكون تقديم يد العون ، لكن لابأس ربما يجد حلا آخر ." قام بائع الكزبرة من مقامه ثم جلس و رعشة تهز أصابعه و تغلف صوته : " يا بنيتي إنه شاب سيتأذى كثيرا لأن روحه طيبة ، سينال عقاب نيته الصالحة ، آه يا زمنا يجلد الأرواح الطاهرة " تحركت مستعدة للرحيل و هي تقول : " سامحني فقد أيقظت أشجانك سيدي ، تركتك بخير " ناداها بعد أن خطت خمس خطوات : " انتظري قليلا " توقفت قليلا ثم واصلت المسير و هو خلفها يهرول : " أعلم أنك محرجة من طلب المساعدة ، لكن هذا المكان لا يليق للحديث ، سنذهب لأحد المقاهي ، أريد معلومات إضافية ، جرها من يدها متجها بها نحو محطة سيارات الأجرة ، فاجأه أنها تدعوه إلى سيارتها . سيارة وضيئة ، لابد أنها باهضة التكلفة ، تسرب الشك إلى دواخله ، فهمس بمكر ، ألا تبيعين السيارة وتساعدي حبيبك ؟ " صفرت صفيرا طويلا ثم قالت : "أنت ذكي جدا لكن ربما وقتي يذهب سدى ، فالمبلغ الذي يحتاجه ناصر لإنقاذ موقعه في الشركة ليس بالبسيط كما تظن ، حتى لو تم بيع عشرات السيارات فلن تفي بالغرض ." كاد يتعثر و هي تضغط على الدواسة ، فقالت بشيء من العجرفة : " اذهب إلى أعشابك و اتركني لحالي ، فأنا نذرت نفسي لهذا الحب ، و لن أعدم من الوسائل ما يجعله يحس بأنني المرأة المناسبة ." طارت شكوكه وهو معجب بهذا الإصرار و هذه القدرة على التحدي ، طمأنها : " أراك تستهينين ببائع الكزبرة ، مهما كان المبلغ ضخما فأنا له بالمرصاد ." لكنني أحتاج إلى ضمانات تؤكد أن أموالي ستكون بأمان ، تهللت أساريرها وهي تتأكد من قوة حاسة شمها ، فرائحة النقود تجذيها أينما وجدت ، الآن وقد كشف المسن أوراقه ، فستبدأ لعبتها السحرية بحيوية أكثر فقالت بصوت وديع : " طيب سيدي ، كل ماتطلبه بديهي جدا ، تفضل واركب ."

قديم 06-13-2014, 04:44 PM
المشاركة 12
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
و ماذا بعد ؟؟

يا للتشويق ...!

أنتظرك أستاذ ياسر ...

صافي الود

عند المطر ..تعلم أن ترفع رأسك ..
قديم 06-14-2014, 06:21 PM
المشاركة 13
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


لن يطول الانتظار بل جئت ملبيا يا أستاذة .


قديم 06-14-2014, 06:25 PM
المشاركة 14
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سامية فتاة أمضت سبع سنوات في بلاد الغرب ، شقراء معتدلة القوام ، تبدو أطول من قامتها ، أكملت ربيعها الخامس والعشرين عكس أخيها ناصر تملك ذكاء اجتماعيا خارقا أهلها لممارسة العديد من المسؤوليات بأريحية ، لا يجرفها التيار ، فالعديد من الأشخاص لا يقوون على ممارسة أكثر من مهمة ، فهي تسرد الصوف و تشاهد التلفاز وفي الوقت ذاته تجاري صديقتها في حديث الموضة والطبخ و الفن دون أن يتشتت انتباهها لحظة واحدة ، إنها تملك تعددية التركيز ، مقبولة الجلسة ، مرنة الرد ، حاسمة الرأي ، يقظة الملامح ، تمارس هالتها ضغطا رهيبا على محاورها ، قوة الحجة و واسترسال لغتها في تسلسل منطقي مشفوع بذاكرة قوية فتتجسد النظريات في أقوالها وأفعالها لكأنها إنسان آلي كامل البرمجة ، زارها أبوها في رحلته الإستشفائية الأخيرة و قف على تسييرها المميز للوحدات الفندقية التي أنشأها في بلاد المهجر ، فوقع لها توكيلا على كل ممتلكات العائلة العقارية ، شرح لها أهمية الشركة ، والمصاعب التي تواجهها و نبهها أنه بين الفينة والفينة ستنتابه تشنجات عصبية ناجمة عن الإرهاق الذي يعانيه ، يخبرها أن أعضاءه متماسكة لكن جهازه العصبي مرهق لأنه بدنه لا ينال قسطه الكافي من الرياضة و الفسحة والاسترخاء لإنعاش حيويته فباشر وصيته : " أنت بنت أبيك يا سامية ، وأخوك ولد أمه ، حبكما كبير في أعماقي ، لكن أخاك يحتاج دوما لعين توجهه ، تركته لعام كامل يلهو و يعيش على مزاجه ، لكنني سأفوض له تسيير الشركة ليقف على عجزه و على عدم قدرته على التسيير ، سيرى بأم عينيه أن العالم لايمكن سبر أغواره دون الفعل الحقيقي ، فليست الدروشة سبيلا سليما وليس العناد منشأ القوة ، بل تلك القدرة على التصرف بإيجابية في أحلك الظروف ، سيتعلم كثيرا ، فمعه في مجلس الإدارة أناس خبثاء ، أناس شراهتهم لا حدود لها ، أناس يمارسون عقدهم في مواطن لا تسمح بالتهور ، ضعفه سيجعلهم يقدمون على تصرفات غبية ، وهي فرصة ذهبية لقطف رؤوسهم السامة و رد كيدهم في نحورهم . سترين يا ابنتي بأم عينك أن أخاك لن يطلب منك المساعدة ، لأنه أغلق نفسه في عالمه الخاص ، و توهمه نفسه أن الحياة تسير فقط بمنطقه الضيق ، إنه تشرب الكثير من طباع أمك التي ما كانت يوما سعيدة في حياتها ، فمنذ أن علمت أني كنت أحب فتاة أخرى قبل زواجي تقوقعت على نفسها غيرة ، و الحقيقة يا ابنتي أن والدي هو من اختارها لي ، ليس لأنني لست قادرا على عصيان أوامره ، وليس لأنني ضعيف لأفرط في حبي ، لكن التي كانت يوما حبيبتي معاندة جدا ، و رسمت خططا لعلاقتنا غير مبهجة حين تم رفضها ، يومها عرفت أن الحب شيء و القدرة على إنجاحه شيء آخر .
يا ابنتي تعلمين أني لا أخفي عنك شيئا مهما صغر أو كبر ، وأعلمك علم اليقين أنني لست نادما على كل قراراتي طوال حياتي ، في الشركة هناك فتاة تسمى صالحة إنها نسخة طبق الأصل من أمها في شبابها هذه صورة أمها ونحن في ريعان الشباب ، وهذه صورة البنت ، من جهة فهي كفؤة جدا كمحاسبة ، لكن عينيها و ملامحها تحملان العناد والمكابرة ، أبطأت في ترسيمها لأعرف نواياها الحقيقية ، تتبعت كل خطواتها و علمت أنها مهتمة عن بعد بأخيك ناصر ، لكنها لم تقدم بعد على أية خطوة ، حرصها الكبير جعلني أعجب بصبرها ، ولكن في الوقت ذاته هذا النمط في التعامل ينم على حدة الطباع و الإيمان الزائد بالنفس ، وشخص كهذا لا يحسن التصرف عند الشدائد . يا ابنتي أنت ربة العائلة في غيابي حتى يسترد ناصر عافيته و يتحمل مسؤوليته . لا تنسي أمك وهاتفيها كل يوم وطمئنيها أن كل شيء سيكون بخير عند عودتك إلى البلاد لتسيير الشركة و الأخذ بيد العائلة . فهي تثق بك كثيرا بالقدر الذي تخاف على ولدها ناصر و لو أظهرت عكس ما تضمر ، فأنا أعرفها جيدا . و طوال حياتي لم تقم بسلوك مشين ، بل تتفانى في سبيل العائلة وفق قواعدها و استطاعتها . " كان أبوها يومها صفحة شفافة جدا ورهيفا جدا ، سقطت دمعة من عينيه و هو يكابر تدحرجها ، لكنها ابنته التي يعرف بجد معدنها ولايضيره أن يبدو ضعيفا في حضرتها . في الأسبوع المقبل ستنال شهادتها و تعود إلى الوطن .

ركبا في السيارة فرن هاتفها ، إنه وكيلها في البرصة ينبئها أن مقالا في موقع إليتروني إقتصادي سيبعثر كل التوقعات ، و ثلاثون بالمئة من أسهم الشركة المدرجة في البرصة ستشهد تقلبات عجيبة ، فهذا التسريب سابق لأوانه ، و هي خطة تحتاج بعض الوقت ليحللها الإقتصاديون وسماسرة البرصة ، لكن على كل حال فالأموال يجب أن تضخ في حسابها بالبرصة في هذه اللحظة ليتصرف في الحين علما أن عقده في التداول لم يحرر بعد ،كما أخبرها ، أن العشرين بالمئة من إيرادات الأسهم كما سبق وتفاوضا عليها ليست مناسبة في عملية كهذه ، كما سيحتاج إلى دفعة مسبقة خارج العقد لإبرام الصفقات مع المضاربين . كانت تجيب بتحريك رأسها و قالت أخيراموضحة : "بعد ساعة سأكون معك هناك ".
"يمكنك أن تتأكد بنفسك سنذهب حالا إلى البرصة فالشركة ستنهار بعد لحظات ، إن لم نقم بعمل جبار " رد عليها : كم تحتاجين من المال ؟ " لا أخفيك الملايين من الدراهم على الأقل ." زفر زفرة حادة وهو يقول : " هذه مقامرة في آخر العمر" فردت عليه : ربما تكون فرصة العمر أيضا ، فأموالك ربما تتضاعف بين يوم وليلة ، فهذه الشركة لا يمكن أن تزول ، فعلى الأقل حصصها الثابثة توازي السبعين بالمئة ، ناهيك عن مدخراتها كسندات في خزينة الدولة ، إنها شركة لها موقعها الوطني وتحافظ على التوازنات و لن تسمح الدولة بتدميرها ، فهذه فرصة للإغتناء و في الوقت ذاته تنقذ وجه صديقك ومنصبه ، أيضا نكون قد حققنا نجاحا هائلا في سبيل الحب ، فكلنا في الأخير ناجحون . فقال لها بعد صمت لوقت قصير : " لنذهب إلى البنك "
عند مدير المؤسسة البنكية وقف بائع الكزبرة بعد إدخاله من البوابة الخلفية ، أعطاه قصاصة ورقة و قال له :" حول قروشي لهذا الحساب " ذعر مدير الوكال بهذا القرار، مستغربا من هذه الخطوة العجيبة الغريبة من أعظم زبون لهذه الوكالة مجيبا : "هكذا دفعة واحدة" فقال أحمد : بصوت الحازم : " يا صديقي إنها غارة فيها غنائم جمة ، سأعيد أموالي بعد حين ، وهل سأجد مؤسسة آمنة كوكالتكم . " لكن المدير بدا عليه التوتر ، وهو يحاول التأثير على الزبون ، فجاءه أحمد من الآخر :" حول نقودي على جناح السرعة فأنا لا أملك وقتا للكلام والدراهم تضيع . " ضغط المدير على الزر فطارت الدراهم إلى المجهول "
ضحكت بمكر وهي تحس انتفاخ رصيدها فأرسلت رسالة إلى وكيلها تأمره باليقظة ، وعدم التحلي بالرحمة ، فكرت أن تحرك عجلاتاها و لاتنظر هذا المخبول المؤمن بزغاريد الحب ، لكن همسة في دواخلها لا تزال تؤمن أن المرء لا يجب أن يغلق الأبواب خلفه ، خصوصا إن كان مبحرا في نفق مظلم .
وجدها تنتظر ، استوى على المقعد وقال لها :" في عينيك بريق عجيب ، قد يكون توترا أو حزنا أو مكرا ، لكن احترسي و لا تقللي من قدرات العشاب ، فهيا على بركة الله إلى سوق السمك ، فكزبرتي تنتظرني هناك ."

قديم 06-16-2014, 12:12 AM
المشاركة 15
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عادت صالحة من البرصة وروحها مكسورة ، ياله من عالم صاخب ، أحست أنها تعرضت لابتزاز كبير ، دفعت من خالص مالها دفعة سوداء لوكيلها إنها كل ما تملك ، رغم ذلك حرر عقدا بنسبة مرتفعة جدا لم يترك لها مجالا للتفاوض ، إنه ضغط عامل الزمن ، بدأ إحساسها يمل من هذه اللعبة الخطيرة ، أموال بائع الكزبرة في يد مقامر ، و مقاولتها الفتية تبخر مخزونها ، إنها عودة إلى الصفر ، يرهبها الحضيض، لم تستطع انتظار ما ستسفر عنه بداية التداول ، حركة الأسهم لا تزال عادية ، لكن وكيلها يؤكد أن حربا ضروسا ستبدأ قريبا ، دماغها يغلي وهي تنتظر ، ماذا سيفعل هذا الوكيل ، فناصر لم يطرح بعد حصصه في السوق ، هل يراهن وكيلها على الأسهم المتداولة لتغطية نقص المبلغ الذي حظيت به من بائع الكزبرة . يشرح لها رغم محدودية وقته ، يشرح وهو يقدم التعليمات ، هاتفاه لا يتوقفان عن الرنين ، و أصابعه تنتقلان عبر لوح حاسوبه بسرعة جنونيية ، إنه في قمة الجنون ، كيف سيكون عند بداية التداول ، ربما يمزق ملابسة و يسير ويجيء عبر الأروقة ، سينتف شعره و ينطلق سانه بالسب والشتم ، سيقفز ملوحا بقبضة النصر حينا و ينحني حينا آخر ، أية أعصاب يملك هؤلاء . تبحث لنفسها عن مكان آمن تحسست محفظتها ، فتحتها بضعة أوراق لا تزال هنا ، أما بطائقها فما عادت صالحة للاستعمال . تطوف عبر لطرقات في المدينة ، لم تقف على مكان ترمي فيه أحزانها ومخاوفها .
لطفي يتوجس شرا من هذا المقال الذي تم نشره ، يحس أنه ليس الوحيد الذي سيلعب هذه اللعبة ، يتساءل هل اهتدى ناصر إلى خطة تخلصه من بيع حصصه ؟ هل قام بصفقة مع من يحرره من قبضته ؟ أما هذا الضئيل الذي رفض التعامل معي في البرصة مع أنني كنت أمنحه أكبر النسب ، لماذا تدرع أنه مشغول ؟ هل مثله ينشغل عن كعكة كهذه ؟ بدأت الأمور تختلط في ذهنه عندما أعلمه وكيله أن الأسهم بدأت حركتها في ازدياد ببرصة باريز فقال له بصوت قوي : تصرف وإلا فقدنا حضورنا ؟
هناك في باريز كانت خطة سامية خلخلة حسابات هؤلاء المضاربين فنشرت ذاك المقال لقياس ردة الفعل ، كانت خطة غبية بعض الشيء ، وكلاء الشركة يعملون برأيها ولا يستشيرون ناصرا الذي ما عاد يفرق بين رأسه و رجليه ، بل أغلق على نفسه في المكتب طوال اليوم ، لكأنه ينتظر أن يتحرك العالم لنصرته ، إنها قلة حيلة النعامة ، دفن نفسه هناك والشركة بقرة تمتد نحوها الخناجر . هاتفته أخته في تلك اللحظة لم يجبها إلا بعد رنات عديدة ، سألته عن حال أمها و حال أبيها ، كان رده أنه لا يملك من الوقت ما يحك فيه جلده ، كانت تعرف كل حركاته وسكناته بفضل عيونها المنتشرة في كل الأرجاء ، كانت تراجع عرضها لنيل الشهادة التي أخذت من عمرها زهرته ، وحاسوبها المتطور تتغير جداوله مركزا على التجمعات المالية وتلاحظ تغير حركة الأسهم .
بائع الكزبرة يرى السوق مسودا ، حمل أعشابه إلى الجمعية الخيرية ، دخل الى بيته وزوجته تقصفه بنظرة استغراب و فتحت فمها أخيرا : " ما بك أرى وجهك شاحبا " رجع ببصره إلى الأرض قائلا : " أنا تعبان يا خديجة ، و رأسي سينفجر ، أسرع نحو البالوعة يقذف ما في بطنه من الآلام ، تقدمت نحوه تشد أزره ، تبا لهذا اليوم العسير، يقول بائع الكزبرة ، استوى على سريره البسيط و أخذت زوجته المحفظة لتفرغها فقال لها : " ما بها إلا بعض درهيمات عليك أن تستعيني بالصندوق " فردت :" يا للهول ، باكرا دفعت الفائض إلى البنك " هب من مرقده رغم تهالكه ، لكنه تمالك نفسه ، وقال لها:" سأجد حلا يا حبيبة العمر ." فواصلت بصوت بهي : " لا تشغل بالك حبيبي غدا سأسحب ما يكفي من البنك و ستذهب عند الطبيب ." فرد عليها بعنف : " لا أطباء ولا أبناك ، سأتدبر أمري الآن." وقف مرتعشا فسقط ، عاود النهوض فلم تقو ركبتاه على الصمود . فقال بصوت فيه ضعف دفين : بدأ الكبر ينال مني ياخديجة ، آه لهذا الزمن المر ." واسته زوجته : " لا تبتئس يا حبيبي ، ستستعيد عافيك و قوتك ، لدينا من المال مايكفي لألف عام ، وعقاراتنا تكفي أحفاد أحفادنا ..." فرد عليها بعد جهد جهيد : " لا أحب ذكر المال يا خديجة ، هلا بدلت هذا الموضوع ، لو كنا نستفيد من مالنا لما رضينا بهذه العيشة المذلة ، نحن دمرنا أنفسنا من أجل المال ، كلما انتفخت جيوبنا تضاءلت أجسادنا ، استسلمنا لحب المال واكتنازه ، وفقدنا لذة العيش ." لما رأت عصبيته ازدادت قامت حاملة الدراهم المعدودات و بها اشترت قرصا فوارا عند البقال و بعضا من دقيق و رجعت إليه ، أعدت له حساء الشعير وبعض تمر و أكرهته على شرب القرص الفوار ، رقد على سريره وهو يهذي . خديجة تعيش تقلبات زوجها على مدى الشهور الماضية ، أحست أن شيئا يشغل باله ، فعصبية مزاجه لم تعد خافية ، تظهر من فلتات لسانه و حركات يديه ، يخونه هدوؤه المعهود ، إنه كذاك العاشق المتيم الذي لا يستطيع البوح ، تتساءل إن كانت لحكاية العشيقين صلة بما يعانيه ، أم حرك عشقهما في نفسه نزوة ما ، فبدأ يبهر بالفتيات اللائي يجبن السوق طولا وعرضا في السوق كل يوم ، مرضه جعله يفصح أنه ليس راضيا على عيشه و حياته . هي أيضا أحيانا تحس بهذه النزوة و تتساءل حين ترى تلك النساء اللائي يتباهين بقلائدهن و فساتينهن الجميلة رغم تواضع مركزهن الاجتماعي ، هي المليونيرة لا ترداد الأسواق العصرية ولا البوتيكات ، و لم تقصد يوما صالة الحلاق و لا صالون التجميل . لم تحظ يوما بالمشي إلى جانب زوجها يدا في يد قصد التجوال و الفسحة ، لم تسجل ذاكرتها سفرا و لا رحلة إلى الشلالات والشواطئ ، في الحقيقة لم تستمتع في حياتها يوما بملذات كانت كلها في المتناول .
كانت تبتعد عن المدينة بمسافة بعيدة عندما رن هاتفها و وكيلها يخبرها أنها حققت فوزا يفوق الخيال في آخر نصف ساعة قبل إغلاق البرصة ، هنأها أنها الآن تستطيع أن تدخل صراع الأسهم التي ستطرح بهناء وصفاء ، تسأل وتكرر السؤال ، كم كان مقدار فوزها ، يجيبها أن الملايين أصبحت في جعبتها و باستطاعتها أن تقارع أعتى كبار المستثمرين . تريد أن تسأله عن المزيد لكنه مضطر لقطع الاتصال فهو سيدرس خيارات السوق و ينتظر بيان الشركات و يقرأ مؤشرات البرصات الغربية .
أوقفت سيارتها على جانب البحر ، ركضت وهي تقفز كطفلة تفوقت في لعبة ، وحين ذهب عنها التأثر رجعت إلى نفسها تسألها أسئلة صعبة :" ماذا تريدين يا صالحة ؟ " هل الحب أم الانتقام ، هل التحرر من المكائد والرجوع إلى السلمية أم مواصلة الحرب ، الحرب تستنزف الروح يا صالحة ! الحرب تقتل فينا الإنسان ، عودي إلى رشدك يا صالحة ، لكنها تعود من جديد ، ألم يكن بائع الكزبرة يسخر منها ، لو لم يكن يملك الملايين ما اعتبرها مجرد مخبولة بل لأحس بكفاحها المستميت ، ألا يستحق أن تجرده من ريشه ليحس بلوعة الحرمان ، حتى ناصر هذا ألا يعتبر مجرما ، ألم يجدها تنزف دموعا وروحها في ألم عميق فما كان منه إلا أن تجاهلها ، ألم يعتبر الملايين و منصب الفخامة أفضل منها ومن مسح دموعها الجارية ؟ كلا يا صالحة يجب عليك أن تكملي المشوار !
سامية عقدت يدها وكسرت حاسوبها و نزف الدم من يدها هطولا ، ما هكذا يكون التداول ، من هذا الذي يزحف للسيطرة على الشركة ، فقام بحركات غريبة لا تمت للاقتصاد بصلة ، هذه ليست فعال لطفي مهما بلغ به التهور لن يقدم على هذه المجازفات التي أفقدت التداول كل قوانينه ، هذا ضرب من إقتصاد الجنون كالذي حدث في أسواق أسيا المالية ذات شجع . ماذا يحدث لك يا أخي ناصر وأنت في غفلتك لا تريد حتى الرد على مكالماتي ، فكرت أن تقلع مع أول طائرة ، لكنها مصرة على نيل شهادتها ، غدا فقط ألا تصبرون يوما واحدا ، والله لأبيعن السماء والأرض و أدك كل الذين زعزعوا استقرار بنيان والدي ، أليس المجد رهين أسرتها ، كيف يتطاول عليها من لا يملك من قيم الزعامة شيئا .
ناصر في كوخه الذي هجره منذ شهور مستسلم تمام الإستسلام بعد معرفته بحركية أسهم شركته و صعودها الصاروخي وهبوطها المفاجئ أكثر من سبع مرات خلال ساعتين من التداول ، عرف أن أسهمه التي سيعرضها غدا لسد العجز سيلعب بها مناوؤوه كي لا يجني منها ما يسد عثرات الشركة و بذلك سيفقد رئاستها مع أي انعقاد لمجلس الإدارة للبحث عن الحلول . فكر في رمي نفسه في البحر و التخلص من عجزه الفاضح ، تذكر حبيبته التي لم يستطع حتى مصارحتها بما يكابده ، آه عندما تعرف أنه فقد رئاسته فتعتبره فاقدا لرجولته ، لام نفسه و ندم على تجاهلها كل هذه المدة ، فإن كان يعيش ففقط ليحظى برفقتها ، لكن ربما الأقدار هي من تباعد بينهما .

قديم 06-16-2014, 12:13 AM
المشاركة 16
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عند العاشرة ليلا استقبلها وكيلها في مطعم فاخر ، تناولا عشاء في مرح وسرور وشربا نخب النجاح ، كان يتحدث عن مغامراته في البرصة ، وكل الرجال الذين صنعهم بذكائه و بعض الذين هوى بآمالهم نحو الحضيض ، كان يصفها بالشجاعة ، بالمرأة الحديدية ، بالنبيهة ، تميل نفسها إلى تصديقه ، لكأنها تجهل نفسها ، يعزف على أوتار خاصة ، فتستعد النفس لتصديقه ، كان كل شيء يسير بشكل طبيعي جدا ، إنه لقاء شريكين تجمعهما التجارة ، لكنه مصر على إفساد احتفالها ، عندما فاجأها :"أين يريدين أن نكمل ليلتنا ، في شقتي أم شقتك ؟" عندها تغير مزاجها كلية ، ماذا يظن هذا الخنزير ، أيحسبني مجرد دمية أو بائعة هوى ، من يظن نفسه ؟ ردت عليه بعنف :" ما هذه الجرأة الخبيثة ؟ " ضحك ضحكة خفيفة و هو يقول :" صدقت دعابتي بسهولة ، يا ابنة العم أنا متزوج ، فقط أمازحك ، لكن لا بأس يمكن أن نذهب إلى المرقص و هناك نحتفل بإنجازنا و بشراكتنا المربحة ." ردت عليه حازمة :" سنلتقي غدا في البرصة فيومي طويل و أحس بالعياء ." قامت من مكانها و ضعت محفظتها على كتفها و لم تصغ لما تردده شفاهه من أعذار .
الليل كله تتقلب في الفراش ، رغم أنها تخوض حربا فهذا لا يعني أنها مستعدة للتخلي عن صالحة كلية ، فحربها مجرد تكتيك لاثبات الذات ، لا تريد نفسها محاربة أبد الدهر ، لا تريد لنفسها أن تتسسكع على ضفاف الشهوات الزائفة ، لا تريد لنفسها شراء المتعة ، تريد متعة حقيقية بلا وخزات ضمير . نعم ضميرها لايزال حيا ، لم تخنقه بعد . توعدت وكيلها بشر عقاب .
بائع الكزبرة يستيقظ من فراشه عند العاشرة صباحا ، نظر نحو الساعة الحائطية القديمة ، عقاربها استوت على العاشرة :" تذكر أنه كان مريضا ، تذكر نقوده ، وتذكر زوجته فانتفض يبحث عنها في أرجاء المنزل ، المفتاح في قفل المنزل يدور ، زوجته تدخل حاملة ما لذ وطاب من الفواكه والخضر واللحم ، كما اشترت جلابيب مختلفة الألوان ، و نعالا صفراء وبيضاء لزوجها ، عانقته عناقا حارا ، سألها :" أين كنت ياخديجة ؟ " ردت بتلقائية :" في البنك حبيبي ، حان الوقت لنتمتع بما جمعناه ، لا كزبرة بعد اليوم ، لا لشظف العيش . سنزور الكعبة كل عام و سنعتني بأحفادنا ." كاد يسقط مغشيا عليه عندما سمع البنك . فسألها : " وهل بطاقتك البنكية صالحة ؟" فردت باستغراب :" ما بك يا حبيبي ، وهل مرضك سيبخر مدخراتنا ، مدير البنك شكرني على ثقتنا بمصرفه و البشارة تعلو وجهه . "
وقفت أمام مبنى البرصة الزجاجي ، تنتظر رفع الستارة ، فور دخولها وقعت ورقة عزل وكليل أعمالها ، وتجميد أسهمها من تداولات اليوم ، و في الوقت ذاته نقلت غلتها إلى حساب بائع الكزبرة و ردت إلى مقاولتها الصغيرة ما ابتز منها ، تنتظر دخول وكيلها كل حين ، لكنه لم يظهر بعد ، ذهبت إلى المقهى ونفسها منقبضة ، رغم خبثه فقد أكسبها جولة مهمة ، تملك رصيدا جيدا من الأسهم ، لم تخسر بائع الكزبرة ، وبإمكانها استرجاع علاقتها مع ناصر مادامت لم تقدم بعد على عمل عدواني تجاهه ، تنتظر وتنتظر و لا أثر له ، قامت إلى سيارتها هناك وجدت رجلين ، تقدما نحوها مباشرة ، " أنت صالحة ؟" ردت عليهما بالإيجاب وضعا دملجين في معصميها و قاداها إلى سيارتهما .
ناصر لم يلتحق بعمله باكرا ، كانت الشمس بارزة عندما قام من كهفه بمحاداة الشاطئ ، لم ينتبه لبذلته التي فقدت نصاعتها و انسيابيتها ، وضع جثته المتهالكة وراء المقود و انطلق نحو مكتبه وهو يفكر أن يلغي طرح أسهم الشركة .
عندما رست سيارته وهم بالنزول كان هناك رجل وامرأة يقودانه إلى سيارة الشرطة .
لطفي تناول فطوره و تهيأ ليوم من العمل الجاد ، و هو على يقين من الإستيلاء على نصيب مهم من الشركة ، نظر إلى ساعته فوجدها تقترب من العاشرة صباحا ، إنه وقت العمل ، خرج من بيته متجها نحوسيارته عندما طوقه رجال الشرطة .

كانت تشرح أطروحتها ، وتقدم عرضها لما داعب هزاز هاتفها جيبها ، بين الفينة والفينة يزداد الاهتزاز حتى شوش على تركيزها فطلبت لحظة استراحة ، ردت على مكالمة من محامي الشركة يخبرها أن أخاها محتجز بتهمة تصفية واحد من كبار الوكلاء في البرصة . هاتفت أمها فوجدتها تنوح باكية ، فطمأنتها أنها في طريقها إلى البيت .
بائع الكزبرة بعد أن تناول غداءه مع زوجته خرجا في فسحة ، يعوضان ما فاتهما ، مر على المصرف مطمئنا على ودائعه ، وأكملا طريقهما في جولة عبر مرافق المدينة في ملابسهما الجديدة ، و في جو مرح مليء بالود والرحمة والأمل .

في غرفة اسمنتية قاحلة كان لطفي ينتظر مقيد اليدين مع ثلة من المجرمين الذين يرمقونه بنظرات غريبة ، ينتظر دوره لتقديم إفادته في ملف لا يعرف مضمونه بعد ، هل الأمر يتعلق بصفقاته الماضية أم بكيده المتلاحق في الشركة ، أم في قضية تصفية وكيل البرصة ، يرتب ذهنه للترافع . في تلك اللحظة دخل ناصر إلى غرفة الانتظار فوجد غريمه هناك ، تعجب من هذه الصدفة العجيبة فظن أن التحقيق وصل إلى أعلى الهرم ، ما إن التقط أنفاسه حتى دخلت صالحة مكبلة اليدين ، رأته فهوت بأعينها إلى الأرض عندها خطا خطواته نحوها قائلا : " أعتذر منك يا صالحة ، كان تصرفا غريبا جدا مني ، لكنني مجرد مبتدئ ، الآن انتهى كل شيء ، سأفقد منصبي وربما يكون مصيري السجن ." ولما أمسكت عن الإجابة ، و لاحظ أن عيناها تهيأتا للدموع سألها :" ما ذا تفعلين هنا ؟" هناك هطلت دموعها مدرارا ، كسر هذا الموقف مناداة الحارس على لطفي للاستجواب .
حامد يتأهب للعودة فأمه طريحة الفراش منذ صعقها خبر إلقاء القبض على ابنتها و تحويلها إلى السجن المركزي في انتظار مثولها أمام المحكة في الغد ، لم يترك له الخبر فرصة تسوية أعماله ، بل جمع حقيبته باحثا عن أول طائرة تعود به إلى الوطن ، وجد أخيرا تذكرة ، و انطلق إلى المطار ، عند نزوله من الميترو سقطت منه محفظته ، لكن سامية كانت وراءه أخذت المحفظة و نادت عليه :" سيدي ...سيدي .. هذه محفظتك .." رجع خطوتين فرأى بدرا منيرا يقدم له أوراقه ، شكرها متمتما فبدأ بينهما الحديث ، لم تخبره شيئا عن نفسها رغم إعجابها به و بتفانيه في إنقاذ أخته ، حكى لها مشوارهما منذ الصغر ، كان يتحدث عن صالحة لكأنها أفضل ما أنجبت الأرض ، حكى لها تغيرها منذ تم طردها من الشركة ، رغم ذلك لم تستسلم فقد واصلت كدها وأنشأت مقاولة بسيطة ، لكن حكاية البرصة هذه لا علم له بها ، لابد أن يستعين بمحام قوي لانتشال أخته من هذه التهمة الكاذبة ، يعيد ويكرر أنها روح طيبة لا يمكن أن تقتل ذبابة . سامية تفكر في جليسها ، هل هو التاريخ يعيد نفسه ، لا تريده أن يصمت ، تستلذ بنبرته الحزينة ، تريد سماع هذا الموال الذي يطرب قلبها ، تحاول جره إلى مواضيع أخرى كي تتعرف أكثر عليه لكنه مأخوذ بما أصاب أخته و مصر على إثبات براءتها .

قديم 06-16-2014, 03:09 PM
المشاركة 17
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
النهاية ستأتي قريبا
فلا تبتعدوا

قديم 06-16-2014, 10:55 PM
المشاركة 18
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المواقف الصعبة تفتح القلوب لبعضها ، تحاول سامية أن تتفاعل بإيجابية مع ما يقوله حامد ، لكن أخته متورطة بشكل أو بآخر في مصاعب الشركة و لو كان الأمر كما يقول حامد لما تم الزج بها في السجن ، لكن في الوقت ذاته تعرف أن أخاها بريء جدا من التهم المنسوبة إليه ، فربما تكون صالحة أيضا مجرد مخبولة كما ناصر جرتها دورة الحزام .
لكن الذي يوجع سامية أكثر هو هذا الحب الذي ينمو في عش السماء الرحب ، فكلما تنهد حامد أحست أنفاسه عطرا يفوح في فؤادها ، أيكون طعم الحب في الأعالي ساميا تلطفه السحب و تلمع صفحته فيغدو طريا فواحا كوردة بللتها قطرات الندى ، تحس نفسها على صهوة فرس مستوية السرج ، بل لكأنها على هودج ناقة تسير بخطوات وئيدة ، جاءتها لسعة توجس في فسحتها الذهنية عندما تفطنت أنها لم تتحدث عن نفسها لحامد ، أيمكن أن يغفر لها هذا الكتمان يوم يكتشف أنها غريمة أخته و أنه ربما إن تأكدت من تورطها في مشاكل الشركة ستجد نفسها مجبرة على أداء ثمن باهض ، ولن يشفع لها حب حامد و لا نبرته الشجية .
نظر نحوها حامد و تأمل هدوءها ، رأى فيها إنسانة تحسن الإصغاء والإنصات و يلتهب في نفسه شعور غريب كلما أشعت ابتسامتها و مسحت على وجهه بنظرة عابرة ، يحس عينيها منبع دفء طال قلبه البارد ، يخاف كل الخوف أن تعتبره مخبولا لو قال لها بصريح العبارة أنه يحبها ، مؤكد أنها ستستغرب من سذاجته ، وستتساءل إن كان المرء فعلا سيحب شخصا لم يعرفه بعد ، إنها متكتمة جدا على ما يبدو ، لكنها رغم ذلك فعيونها تحكي قصة أخرى غير التي تحاول أن تظهر .

في السجن وجدت صالحة نفسها فريسة للأرق ، وصورته تصاحبها ، يقدم اعتذاره ألاف المرات ، تتألم لأنها لم تستطع غير البكاء بصحبته ، لم تعتذر له عن نواياها في الاتنتقام منه و من شركته لولا تدخلات القدر ، لتصفو روحها و تستعيد عافيتها ، تألمت وهي تتذكر التهم الموجهة إليها ، فمنها ضلوع في القتل ، وإضرار بالشركة ، كانت تنفي التهم و توضح أنها مجرد طموحة تريد حفر اسمها على صخرة السوق ، و أنها مارست التجارة بأخلاقياتها و بمهنية عالية ، وأنها لم تمارس تلفيقا ولا تزويرا ، و حتى عند طردها من الشركة انسحبت بهدوء ودون زوبعة . تخاف أن لا تستطيع توكيد براءتها و أن تبقى فريسة السجن أبد الآبدين . أما ناصر فأحس لكأنه في النعيم ، اليوم تحرر من ثقل أنقض ظهره ، فأخيرا اعترف لها بخطئه ، و قلبه تصافى من وخزات الضمير ، يتذكر أسئلة الاستجواب ، وعن ليلته أين أمضاها و عن علاقته بصالحة ، و علاقة صالحة بالشركة ، وعن معرفته بوكيل الأعمال ، يتعجب من ورود اسم صالحة في محضر التحقيقات ، أتكون تشتغل في البرصة ؟ أسئلة لم يجد لها أجوبة مقنعة ، لم يهتم لمصيره في السجن ، فهو يكاد يرى السجن أرحم من العالم الخارجي .

حان وقت الفراق و حامد لم يعرف عنها ما يكفي تجر حقيبتها متوجهة نحو سيارة جاءت لاستقبالها ، " سعيدة بصحبتك " هذا هو قولها الأخير نادى عليها قبل الدخول إلى العربة ، نظرت نحوه فأعاد النداء التقيا من جديد وهو يقول :" هل سأراك في الجوار ؟" ردت واثقة : "نعم سنلتقي قريبا ." رد بشغف :" أين ومتى؟؟؟ دوني رقم هاتفي ! " ابتسمت في وجهه و قالت : " ليس بعد ، و لم العجلة .." وتوجهت إلى سيارتها .

وصل حامد إلى بيته والظلام اكتسح المدينة ، أمه عقدت رأسها بمنديل ، و الدموع تبلل خديها ، وشعرها الأشيب مشتت على كتفيها ، هاله هذا المنظر المرعب تعانقه وهي تقول :" إنها هناك مع المجرمين ، هل تناولت عشاءها؟ و هل تسرب النوم إلى جفونها؟ من يدري ؟ حاولت زيارتها فلم يقبلوا ، واكتفوا بأخذ ما أحضرت لها من ملابس و أغذية " كان علي التأكد مما كانت تقوم به ، إنها تخفي عني أمورا كثيرة ، اتصلت بالمحامي كما وصيتني و توجه نحو مركز الشرطة و بدأ يعد ملف القضية . " يواسي أمه المنهارة ، ويعدها ببذل قصارى جهده .
بائع الكزبرة مع زوجته يحلان ضيوفا عند ابنه و انضمت إليهم بنته و زوجها وأبناؤهم ، يقهقهون و يمرحون على العشاء ، كان يومه ربيعيا ، ظهرت صورة ناصر على التلفاز و بعدها صورة صالحة ، فقام من مقامه مسكتا الجميع ، كان خبرا عن الشركة و السجن ، تألم لمصاب العشيقين ، و تألم أكثر لفقدان قلبه صلته بناموس الطبيعة ، أحس أن إحساسه خذله هذه المرة ، تألمت روحه كثيرا ، كما زاده ألما إفساد فرحة أبنائه به و بأمهم .

دخلت سامية بيتها واطمأنت على أمها فوجدت الطبيب يكشف على والدها الذي دبت الحركة في أعضائه دون أن يسترجع وعيه ، فكم مرة قام من مقامه ، و هو يردد ، سآتي يابني لانقاذك ، لن أتركك حزينا هكذا ، لا تخف أختك قوية ، ستخفف عنك آلامك ، اعتمد عليها ، أنت ولد صالح يا بني ، قلب أمك بجانبك ." الطبيب يشرح لهما أنه هذيان ما بعد الإغماء ، و أنه بحال جيدة ، سيتعيد عافيته قريبا ، لكن حذار من إخباره بمشاكل العائلة إلا بعد حين و بطريقة مرنة .

خرجت لتوها عند المحامي الذي شرح لها بدقة مجرى التحقيقات من البداية ، سألته عن تورط أخيها فقال لها إنه بريء كما تعلمين و سألته عن البنت المسماة صالحة ، فقال أن هناك شبهة لا تزال تحوم حول دخولها في المضاربات ، و لكونها آخر من رأى القتيل في منتصف الليل ، بينما لطفي تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه متورط في التلاعبات التي ألحقت الأضرار بالشركة ، فقد تم ضبط كميات هائلة من الخضر المهربة من المزارع في احدى مخازنه صبيحة اليوم و معها تم توقيف الكثير من المتعاونين معه و من المحتمل أن تدينه شهاداتهم ، و ربما يكون هو من قتل وكيل صالحة نظرا لكونه ألحق به خسائر فادحة في مضاربات الأمس . نظرت سامية إلى يدها التي تلفها ضمادة خفيفة كأنها شاركت في مباراة ملاكمة ، شرحت للمحامي القصة عندما سألها عن مصابها . فقال ضاحكا : "هذه حجة تدينك لو كنت هنا في البلد ."

دقت العاشرة صباحا ، أمام المحكة بائع الكزبرة يمشي و يجيء ، ظهرت أم صالحة فجأة و معها شاب ظريف ، توجه نحوها قائلا : " لطف الله من أقداره سيدتي . أقسم أنها بريئة مما نسب إليها ، إنها روح طيبة تلك الفتاة . " سجل المحامي اسمه للإدلاء بشهادته و شرح له في السيارة جميع خطواتها للحفاظ على حبها . كانا في خارج المحكمة بينما دخل المحامي لتسجيل حضوره عند قاضي التحقيق ، إنها سامية تتقدم أباها وأمها و المحامي يسير بجانبهم ، طلب منهم الانتظار خارج المحكمة حتى يأذن لهم بالدخول عند مجيء المتهمين ، رآها حامد قادمة فارتعشت فرائصه ، تقدمت نحوه و سلمت عليه وعلى أمه ثم بائع الكزبرة ، شم أحمد رائحة الحب تنبعث منهما فقال في نفسه :" شكرا أيتها الحاسة السادسة ، أنا بخير و في المكان المناسب ." وصل السيد نبيل الذي قام من مرضه كأنه لم يشك يوما من شيء ، كان في الصباح الباكر في الشركة مع ابنته و هاتف معارفه من كبار المسؤولين و أكدوا له مساندتهم له في مصابه . تقدم بخطواته الواثقة نحو بائع الكزبرة فقال له :" أنت أحمد ؟ يسرني لقاؤك بعد ثلاثين سنة " عانقه بائع الكزبرة وهو يتذكر يوم سرق محفظة والده و زج به في السجن ، كان نبيل يومها يزوره في السجن و يحضر له الطعام و الألبسة حتى انقضت مدته ، عامله بلطف رغم أنه أساء إلى والده ، نبيل يمد يده إلى نبيلة التي خفضت عينيها اللتين غمرهما الدمع قائلا :" السيدة نبيلة ، خفف الله من أقداره " مد يده نحو حامد وهو يقول : " أنت حامد بلا شك ، ابنتي حكت لي عن لقائك بها في الطائرة ." تقدمت أم ناصر تسلم على الجميع دون أن تعرف واحدا منهم .
وصلت سيارات شرطة تحمل المتهمين ليمثلوا امام قاضي التحقيق ، في غرفة الانتظار ، تعلقت صالحة بناصر وهي تعانقه :" سامحني كنت اريد بك شرا ، لكنني كلما اقتربت من إيذائك تذكرت أنك حبيبي ." واسأل بائع الكزبرة . مهما قيل عني فإني بريئة يا ناصر كما أنت بريء ."

النهاية .

قديم 06-16-2014, 10:55 PM
المشاركة 19
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في انتظار ردودكم تحياتي

قديم 06-24-2014, 04:43 PM
المشاركة 20
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بعضُ الخبل نعمة يا أستاذ ياسر ...

و الحب [ كله ] خبل !

أحببتُ العقدة المتمثلة في سجن البطلة ...

و أحببتُ النهاية ..لكني أحسستها مجتثّة ... لماذا ...لا أعلم ...!

استمتعتُ بكل حرفٍ هُنا .. و أكثر برجوع بائع الكزبرة للحياة ...

فنحن _ أيضاً _ نحتاجُ أحياناً أن نعود إليها ...

جميل يا أستاذ ياسر ... جميل جداً !

صافي الود

عند المطر ..تعلم أن ترفع رأسك ..

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:33 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.