تعود الشعراء و الأدباء عندما يكتبون المرثيات أن يخصوا بها العظماء و المشهورين ووجوه القوم أو يرثون في قصائدهم و نصوصهم من ينتمي لهم بقرابة تكون من الدرجة الأولى غالبا
و عندما يكتبون لهم قصائد الرثاء يضيفون إلى سجلاتهم مناقبا و صفات ما كانوا ليحلموا ببلوغها حال حياتهم ، يضيفون لهم سطوعا على هالاتهم فضفاضة وواسعة أكثر من ذواتهم الحقيقية
و لهذا حفل الشعر العربي و العالمي بالكثير من المرثيات و قد قيل أن المرثيات هي أصدق الشعر العربي كونها تنبع من ألم الفقد و لكن ألا تكون المرثية غالبا حافلة بالمبالغة التفخيم ؟
و لنقرأ الكثير منها عربيا و عالميا لنجد أنها كانت هكذا دوما
كتب توماس جراي (1716-1771) قصيدته المشهورة "مرثية في باحة كنيسة ريفية " عام 1751
و فيها قفز فوق المتعارف عليه ليسطر في مرثيته الطويلة و المكتوبة بأسلوبه الهادىء رثاء لمن لا يفكر أحد برثائهم ..هؤلاء الناس الذي يشكلون نسيج الحياة و نسغها لكنهم مسحوقون حال حياتهم
و منسيون إذا ماتوا
بدأ جراي قصيدته بوصف للطبيعة الساكنة و التلة المشرفة على القرية و هبوط المساء الرتيب الكثيب و كانه يستخدم كاميرا سينمائية احترافية ليضعنا في الجو العام الحزين للقصيدة
و ما يشك أحد بادىء ذي بدء أن هذه المقبرة الريفية تحتوي عظيما من العظماء او المشاهير
يخبرنا عن بيت ما يخيم عليه الحزن و السكون لخلو مكان عائله منه و إيداعه في مكانه الأبدي الأخير تحت الثرى
بل و ربما هناك راع طالما غنى في الفلوات عازفا على نايه و هو الان حبيس القبر
لربما كان يحمل في جنباته روحا شاعرية تمتلك الكثير من الابداع
و في نهاية المطاف كلهم متساوون في مملكة الموت
فهل تختلف جمجمة راع فقير أو فلاح بسيط عن جمجمة ميلتون او فيرجيل؟
القصيدة تخدم محورين رئيسيين
الأول منها هو التركيز على الإنسان كذات مجردة من الألقاب و تسليط الضوء أكثر على داخله و كيف يشعر و في نهاية المطاف ليس مدى شهرته و لا ثروته و لا عظمته هي المقياس و إنما ما استطاع في حياته أن يقدم من إنجازات قد لا تبدو كبيرة لكنها مهمة
فمن من لا يحتاج الفلاح و الراعي و إن جهل منه حتى اسمه
هو يؤدي فائدة عظيمة لكنه مغمور
المحور الثاني للقصيدة هو " كل الأنام إلى ذهاب" و كل ما تحت التراب يتساوى أمام ناظري الدود
هذه القصيدة تدرس في الكليات المتخصصة في آداب اللغة الانكليزية فهي قصيدة عميقة المعنى بأسلوب شاعري و تصاوير بديعة جدا
و كانت الشاعرة الراحلة نازك صادق الملائكة قد درستها في كلية الآداب في جامعة بغداد
و بما أن المترجم دوما يحمل هم انتقاء النص الذي سيشرع بترجمته فقد تلقفتها و شرعت في ترجمتها
كان هذا في عام 1945 و ذلك قبل أن تطلق كتابها الهام قضايا الشعر المعاصر و تؤسس به لنظرية ثورية في كتابة الشعر العربي
و لكن الشاعرة الراحلة من خلال ترجمة القصيدة إلى اللغة العربية أفصحت بوضوح عن هويتها الشعرية الخاصة بها
فقد اعتمدت المزاوجة بين أسلوبين . الأول منهما هو القصيدة العربية التقليدية المقفاة بلغة قوية فصيحة و أحيانا باستخدام ألفاظ و تراكيب مغرقة في فصاحتها
و استخدمت أيضا في ذات الوقت السوناتا بحيث كتبت كل مقطوعة مؤلفة من أربعة أبيات بوزن و قافية مختلفين
و ربما كان في هذا ما يشبه الموشحات الأندلسية أيضا
انتقاء الشاعرة للقصيدة ارتكز برأيي على نقطة مهمة و هي أن النص الأصلي يتقاطع في فكرته الأساسية مع الدين الإسلامي حيث أن القضية التي طرحها تتناغم تماما مع " الموت حق"
أيضا القصيدة تتحدث عن بيئية ريفية مهمشة تماما كما هو حال ريفنا العربي مما يجد لها رواجا ليس في أوساط المثقفين و إنما بين العامة
نازك الملائكة التزمت عدد أبيات القصيدة الأصلية فقابلتها بيتا ببيت و هذا سبب نوعا من الإطالة التي تعمدها جراي كون الشعر الانجليزي يحتفي بهذه الإطالة و خاصة في المرثيات
و لكن أرى أن هذا سبب تكرارا للفكرة فلو كانت الترجمة قد ابتسرت بعضا من الأبيات لكانت النسخة العربية أكثر جمالا و تميزا