ضوء الظلام
ضوء الظلام
هل للظلام "ضوء" ؟!
هذا ما رايته بعيني قبل خمسون عاما
في الحقيقة لا يمكن لي وصفه
ولا أريد أن اقسم لكم كي تصدقوني بل سأسمعكم شيء من أحداث تلك الليالي التي كانت سببا في رؤيتي له :
"حل الظلام ،وتوقف الكلام ،وأصبح الناس نيام ،وغمرت السماء نفسها بلحاف الغيوم السوداء ليختفي ما تبقى من ضياء, فهنالك مخطط لجريمة على سطح الأرض ، لا تريد السماء للقمر والنجوم رؤيتها..... "
أنها مقدمة لأحد الروايات المرعبه التي كانت تحكيها لنا جدتي يرحمها الله قبل النوم
لم اذكر أنني سمعت منها حكاية عن الحب فاغلبها قصص مرعبه أبطالها مخلوقات خرافية ، يبدو كما لو أن الحب والفرح عدو لنا خلافا لرعب والخوف
أنني اعتقد أحيانا أن هذه القصص خلفها سر وهذا بالطبع أقوله ألان بعد نظرتي المنطقية لأحوال الناس في ذلك الزمان
لكن المضحك والمبكي في الأمر أن أبائنا و أمهاتنا كانوا يطلبون منا أن نكون رجالا شجعان وفي نفس الوقت يروون لنا هذه القصص
أتذكر عندما كانت أمي ترسلني إلى منزل خالتي ليلاً انطلق كالبرق وعندما أصل منزل خالتي أقف ألهث كال.....
وقبل خروجي من منزلها أقف محدقا في الظلام كطائرة تقف منتظرة الأذن للإقلاع ،وبعدها انطلق ،
يقشعر بدني وتزيد سرعتي عندما اقترب من بابنا وكأنني عند نهاية المدرج لشعوري أن شيء ما في اللحظات الأخيرة يكاد يمسك بي
كم كانت تلك القصص المرعبه تشل حركتي تجعلني منكمشا على نفسي
فبمجرد حلول الظلام تظهر شخصيات قصص جدتي اسمع دبيبها وهي تقترب مني تحوم حولي ترعبني
كانت عيني المختبئة تحت الغطاء لا تتو قف تدور في محاجرها طيلة الليل وعندما اشعر بحاجتي لدورات المياه يخرج فجاه من قلب الظلام أطياف تلك الشخصيات فارتعد واغرق نفسي
كم هو محرج هذا الأمر نعم لقد أثرت تلك القصص في كثيرا وكانت سبب في ظهور أمراض نفسيه مازلت أعاني منها حتى اليوم
على كل حال نظرتي لليل المخيف بدأت تتغير بفضل أحداث سريعة متتابعة مزقت عباءته السوداء ،رمتها جانبا
لتريني ضعفه وكذلك مفاتنه!
ففي احد الأيام وكان ذلك بداية فصل الخريف مازلت أتذكره صعدت سيارة لأول مرة في حياتي مع أبي ومجموعة من سكان قريتنا كانت وجهتنا السوق الكبير- الذي يتوسط القرى
مازلت إلى الآن أرى السيارة فهي مقيمة في ذاكرتي كذلك اسمها (انترناشيونال )
كان ألجميع يسميها "عنتر ناش " لا اعتقد أنهم لا يستطيعون نطق الكلمة بل لان اسم "عنتر" محبوب لديهم
تحركت السيارة وكانت تتمايل بسبب الطريق الترابي الوعر ونحن في حوضها نتمايل مع إيقاعها و تمايلها
لم تستغرق الرحلة طويلا ، وصلنا مع طلوع الشمس
كم كان المنظر ساحرا وأنا أرى السوق لأول مرة في حياتي وأراء قوافل الإبل والحمير محملة بالبضائع تتهادى نازلة من التلال المحيطة متجهة إلى السوق
ذهب أبي للتسوق وتركني بعدما أعطاني قرشين لأشترى بها ما أشاء
في ذلك اليوم رأيت بعيني تأبط شرا الذي كان اسمه يثير الرعب فبطولاته التي يصعب تصديقها كانت حاضرة في عقول الجميع أصبحت جزء من تراثنا
لم أشاهده من قبل بل سمعت المتسوقين يهمسون بإسمه عند قدومه ويشيرون إليه
كان رجل ضخم يتعدى طوله المترين يتطاير الشرر من عينيه هبط من بعيره الذي يشبه الفيل ووقف بخيلاء، فعم السكون على المكان ، وبمجرد دخوله السوق تفرق الناس مفسحين له الطريق
وفي ذلك اليوم أيضا رأيت شخصية أخرى كنت كثيرا ما اسمع عنها انه مجنون "عاليه" او "جان جن " رايته وهو يركض خلف الأطفال والذين كانوا يهتفون مرددين
جان جن جن جننوه
أخذوا عاليه وتركوه
دخل الأطفال مسرعين للممر الذي كان يقف فيه تأبط شرا
يتبعهم جان جن وعندما شاهد الأطفال تأبط شرا تفرقوا في لمح البصر واختفوا كأنهم أفراخ حجل فاصطدم جان جن بتأبط شرا فلطمه لطمه سمع صداها من كان في أخر السوق فسقط جان جن بالقرب مني وقام من مكانه وانزوى بجانب احد الدكاكين وجلس ودفن رأسه بين فخذيه للحظة ثم رفعه وحدق عميقا في عيني!
أخافتني نظراته فأشحت بعيني عنه وأدرت ظهري و أخذت أتجول في السوق فرأيت فتى في عمري كان يراقبني تلاقت عيوننا وكذلك فعلت أرواحنا اتجهت إليه وسألته: أين أجد الحلوى ؟ ابتسم وأخذني إلى احد الدكاكين يبيع العسل والزبيب ونوعين من الحلوى فقط اشتريت منه لكلانا وبدأت صداقتنا
خرجنا من السوق وجلسنا على ربوة تشرف على المكان
وبدا صديقي والذي يدعى "نشبه" بقص قصته لي وكأني اعرفه منذ زمن طويل
قال :هذا ليس اسمي الحقيقي ولكن لا احد يعرفني بغيره من سماني بهذا الاسم هو زوج أمي
كم يكرهني هذا الرجل ويكره رؤيتي لكن الشيء الجميل انه كريم مع أمي وأمي لا تبخل علي
أنني حر طليق أعيش منعزلا أنام في النهار وأطوف بالليل والناس نيام
فسألته :
ماذا تقصد "أطوف بالليل" ؟
وهنا بدا يخبرني بأمور اجهلها كم كانت جميله لم اسمع عنها من قبل جعلتني انظر لليل المخيف نظرة أخرى
عدت من رحلتي التسويقية وأصبحت أطوف بالليل مثل صديقي اسمع الهمسات أرى الحركات من خلال الثقوب العديدة المنتشرة على جدران الطين وفي النهار اندس بين النخيل لأنام في رقعة اخترتها بعناية بعيدة عن العيون
ومع مرور الأيام أصبحت خبيرا وأكثر شراهة لم اعد اكتفي بزيارات القرى القريبة بل اقطع المسافات واغزو القرى البعيدة وخاصة في فصل الشتاء صاحب الليل الطويل موسم الكلمات الدقيقة والرقيقة
كانت الجبال والتلال هي القنوات التي اسلكها للوصل إلى غايتي كنت أتحاشى دائما غابات النخيل في الليل رغم أنها صالحة "لنشاطي المريب" لأنها مسكن الجن والهوام كما تقول جدتي
وفي احد مغامراتي الليليه حصل ما كنت أخشاه شعر بي احدهم فصرخ "حرامي" ففررت
استيقظ سكان القرية على الصرخة وصدى وقع أقدامي بين أزقة القرية ألضيقه، شعرت بالخطر فقررت سلك الطريق الذي اكرهه وانطلقت كالسهم ودخلت غابات النخيل
توغلت في الأحراش كنت أتحسس طريقي على ما تبقى من ضوء القمر الذي استطاع أن ينفذ من خلال سعف النخيل ويلامس الأرض
وبعد إن قطعت مسافة طويلة اختفى صوت مطاردي ولم يبقى سوى أصوات ساكني الأحراش يشاركها صوت أنفاسي فشعرت بالأمان وتوقفت عن الركض
في تلك اللحظة افتكرت أني بين الجن والهوام أنهم يحيطون بي ينظرون إلي ،فمساكنهم على الأرض ،فوق الجذوع والأغصان
لذا ازداد إيقاع قلبي فأخذت احدث نفسي :
هل امشي على هون؟
أخاف أن أصبح جان جن أخر
اركض ؟
أخاف أن اطأ أفعى أو اصطدم بجان
وأخيرا اتخذت القرار الصائب توقفت وأخذت نفسا عميقا وواصلت المشي بخطوات خفيفة على الأرض المليئة بالحشائش الجافة
ارفع قدما وانزل أخرى بكل هدوء كانت عيني وجميع حواسي تعمل بأقصى ما لديها
توقفت ،لصقت خلف جذع نخلة عندما رأيت منظرا لن أنساه ما حييت !
رأيت جان جن يضرب تأبط شرا ويركله بقدميه ، ويلوح بعصا غليظة في وجهه بينما كان تأبط شرا جاثيا على ركبتيه يطلب الرحمة منه !
كان جان جن يصرخ في وجهه مرددا: أتسخر مني إيه الأحمق وأنا من صنعك أهذا كل ما جنيته خلال هذا الأسبوع ؟!
اقسم بالله أن هذا كل ما حصلت عليه
أتعلم لو اكتشفت خلاف ذلك ماذا سيحصل لك ؟
اقسم بالله أن هذه هي الحقيقة يا سيدي
عندها صرخ جان جن قائلا لتأبط شرا :هيا قم واغرب عن وجهي وركله بقدمه
ووقف برهة من الزمن طاف خلالها بنظره في المكان دافعا رأسه للأمام وكأنه يستخدم حاسة شمه
ثم غادر، رايته بعيني من خلف جذع النخلة التي كنت ملتصق بها
فجأة رايته يقف بجانبي، لا اعلم كيف حصل ذلك ؟!
التفت إليه مذعورا رأيت عينيه تذكرتها تذكرت بريقها عندما رايته أول مرة في السوق فاندفعت المياه كالحمم وسالت بين قدمي فضحتني بينت ضعفي
ابتسم جان جن وقال : بيت شعر كنت إلى وقت قريب اعتقد انه هو قائله
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
ثم مد يده وفتح كفي ووضع ثلاثة جنيهات ذهبية واقفله وقال: أتعلم أن بلاء الإنسان هو اللسان
الأذكياء يعرفون ذلك أتمنى أن تكون منهم!
من ذلك اليوم لم اعد أخاف من الليل لقد أصبحت من الأذكياء
وها أنا في الستين من عمري اخبر الناس بهذه القصة فقط لان جان جن زارني في المنام وطلب مني أن أفرج عنها !
التعديل الأخير تم بواسطة ايوب صابر ; 09-23-2017 الساعة 02:23 PM