احصائيات

الردود
1

المشاهدات
2986
 
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي

طارق الأحمدي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
853

+التقييم
0.14

تاريخ التسجيل
Apr 2007

الاقامة

رقم العضوية
3325
03-04-2012, 09:46 PM
المشاركة 1
03-04-2012, 09:46 PM
المشاركة 1
افتراضي رحلة في زمن الموت


انتفضت فاطمة في فراشها ومدّت يدا مرتعشة إلى قارورة الماء وعبّت ما بقي فيها غير مبالية بالقطرات النازلة على صدرها وأسفل ذقنها.
أضاءت الغرفة ونظرت إلى الساعة العجوز المصلوبة على الجدار أمامها. فركت عينيها لتزيل بعض آثار نوم هجرها من مدّة.
- منتصف الليل وعشرون دقيقة.
لفظت الكلمات بصوت ضعيف ينمّ عن خوف أزليّ ممّا تخفيه الساعات.
- ليل الشتاء طويل والصبح أبعد, كبعد ولدي عنّي.
حدّثت نفسها بهذا وهي تكتم عبْرَة تسلّقت مآقيها وهتكت حرمة مقلتيها, فأدارت رأسها نحو الجهة الأخرى فقابلتها صورة زفافها.
فاطمة ترفل في فستان أبيض, والأمل يترقرق في عينيها, والسعادة تلثم ثغرها, والحبّ يتشبّث بوجنتيها. وإلى جانبها زوجها وقد زاده القميص وربطة العنق وسامة, وملأ كتفاه العريضين الصورة حتى كاد جزء منهما يغيب.
- لِمَ تركتني يا رضا؟ لِمَ رحلت باكرا؟ لِمَ سمحت للحزن أن يعشّش في أعماقي مبكّرا؟ لِمَ أسدلت ستائر الفرح دون استئذان؟ لِمّ سمحت للوحدة القاتلة أن تغزوني؟ لِمَ يا رضا؟ لِمَ يا رضا؟
لم يسمع رضا وبقيت فاطمة ترفل في سواد الأيام وظلمة الساعات. تلهث لتوفّر حليبا لمريم. وتتجرّع عرقها المالح لتجلب كتب الدراسة لعلاء. وتقطع من عمرها ليكبر ابنيها, تحترق كشمعة لتضيء دربهما. أسدلت ستائر أنوثتها باكرا ورفضت أن يحلّ آخر مكان رضا.
أفاقت من غفوتها فأضاءت المكان.
كلّ شيء على حاله منذ رحل ابنها.
الفراش منظّم مرتّب, الطاولة في الركن الأيمن من الغرفة وقد انتشر فوقها بعض الكتب والمجلات. صور الفنّانات والفنّانين وبعض مشاهير الرياضة تملأ الجدران دون نظام. النافذة مغلقة, ستائرها مسدلة. المسجّل في مكانه تحيط به مجموعة غير قليلة من الأشرطة المحبّبة إليه. الخزانة واقفة في صمود تغطّي جزءا كبيرا من الجدار الأيسر.
كلّ شيء باقٍ, إلاّ علاء لم يعد موجودا. لقد رحل من أسبوعين.
فتحت فاطمة خزانة ابنها, أخذت منها قميصه, تشمّمته, ضمّته إلى صدرها. جلست على حاشية السرير, عبّت نفسا قويّا من رائحته المطبوعة فيه فانتفضت صورته داخلها ورأته أمامها.
- قد كبُرْتُ يا أمي, صرت رجلا. فإلى متى وأنت تعانين؟ اُنظري حالك, ضعفك, مرضك, وهَنَكِ. كلّ شيء فيك يذوي, ينهار, يتحلّل, وأنت غير مبالية. وأنا لا أجد ما أواسيك به..أمي..لن أذهب للدراسة بعد اليوم.
صاحت فزعة, اهتزّت كوحش جريح. وضعت يدها على فمها تكتم صرخة انطلقت من أعماق أعماقها.
- أبعد تعب السنين, وألم السنين. بعد كل هذه المعاناة, تأتي اليوم لتمحوَ كلّ ما سطّرتُه فيك, ما بثثته داخلك من بقايا روحي..يالك من جاحد. أنت لست ابني, أنت ابن هذا الزمن الرديء الذي لم يرحمني في شبابي فزاد من ظلمي وألّب عليّ ضنوتي.
بكت فاطمة. أجهشت بالبكاء, صار بكاؤها نحيبا.
لم يهتمّ علاء لثورة أمه بل زاد في نبش مكامن العذاب فيها وسافر .
" ما أوهن جناحك يا فاطمة. كم أودّ لو أعزّيك فيما ضيّعته من شبابك, أواسيك في محنك المتعاقبة..أين هو زوجك الآن يحمل عنك هذا الحمل, هذا العبء الثقيل, وينزع وتد الهواجس منك, ويقتل دودة الضياع فيك؟.."
قبل أن تقوم لتُعِدّ ابنتها للذهاب إلى المدرسة. وقبل أن تصل الغرفة سمعت طرقا مبحوحا على ظهر باب البيت العجوز. ثم زاد الطّرق وتسارعت معه دقّات قلبها, فأسرعت تفتحه وهي تتعثّر خوفا مرّة, وتبتسم أملا أخرى.
فتحت الباب. حجب عنها رجلي أمن الرؤية. غطّت جثتيهما مساحة رؤيتها. تراجعت إلى الخلف وقد فزع لسانها وفرّت الكلمات إلى أعماقها.
- غرقت المركب بعلاء ورفاقه بعد مسافة من إبحارهم ... فليرحمه الله ..
وقد قيل: " أنّ فاطمة قد غابت عن الوعي ذلك اليوم فنُقِلت إلى المستشفى, ولم تحضر جنازة ابنها, ولم تودّعه حين حمله الرجال إلى مثواه الأخير."
وقيل أيضا: " أنّ مريم صُدِمت لموت أخيها فشرد ذهنها, وقلّ اهتمامها بما حولها, وأصبحت كثيرة الغياب عن الدراسة, ولم تنفع معها توسّلات أمها ولا نصائح معلّميها ولا حزم المدير معها. فرسبت تلك السنة."
وأخبرني أحدهم أن فاطمة باعت منزلها وحملت أثاث بيتها في شاحنته. وقد سمعها تقول لابنتها وهما تجلسان إلى جواره.
- لا تجزعي كثيرا بنيّتي. فالذي أخذ منا والدك وأخوك قادر أن يهبنا الكثير ويعوّضنا أكثر. وأملي أن أراك عروسا في بيت زوجك, وتنجبين رضا, وعلاء....







قديم 03-06-2012, 10:40 PM
المشاركة 2
سناء محمد
كاتبــة الشمــس
  • غير موجود
افتراضي
كله بقضاء الله وقدره .. مسيرون ! نعم , ولكن ماذا سيحدث لو سرنا في دروبنا والقلب ممتلئ بزاد الرضا ..

وبالرغم من ذلك ستستمر عقارب الساعة بالدوران .. وسنمضي في طريقنا شئنا أم كرهنا .. وسترسم لنا الأيام في كل يوم جديد .. متاهةً جديدة تحمل بين ثناياها ما يسرنا وما دون ذلك

ما أكثر المآسي في حياة الناس .. قصة واقعية صيغت بأنامل مبدعة

بوركت أخي الفاضل طارق الأحمدي


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: رحلة في زمن الموت
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ضد الموت عاطف الجندى منبر الشعر العمودي 2 06-30-2020 01:34 PM
الفرق بين: (رحمة الله) و (رحمت الله) .. ماجد جابر منبر الدراسات النحوية والصرفية واللغوية 9 11-29-2019 07:52 AM
الفرق بين (( رحمة الله - رحمت الله)) ..!!؟؟ هند طاهر منبر الحوارات الثقافية العامة 2 01-09-2016 10:45 AM
الموت , نهاية الحياة الدنيا و بداية رحلة الآخرة /2 د محمد رأفت عثمان منبر الحوارات الثقافية العامة 6 02-07-2015 07:06 AM
الموت , نهاية الحياة الدنيا و بداية رحلة الآخرة /1 د محمد رأفت عثمان منبر الحوارات الثقافية العامة 9 01-30-2015 10:50 AM

الساعة الآن 08:49 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.