قديم 08-14-2014, 02:00 PM
المشاركة 21
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
إضاءات نقدية موجزة على قصيدة (غربة القلب) للشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري)
بقلم: الناقد والأديب المصري الأستاذ محمد عبد السميع نوح

غربة القلب



تأوّهَ الطِيبُ في أعطافِها نــَــــــوْرَا
فاجتثّ من لِينتِي أفنانَها الحَــــــرّى



وقدّ من مقلة الأشواق زُنبُـــــــــــقة ً
تنفسَ الليلُ من إشراقِها فجـــــــــــرا



فالتاعَ مني شغافُ الوجدِ، جندَلنِــــي
والشوقُ حمّلني أثقالـَه الكبــــــــــرى



هل كان في نيتي أن يُسْتدَرّ دمـــــــي
هل كان من عادتي أن أصْرَعَ البحرا



هامتْ على زورق الآهاتِ قافيتـــــي
ما زلتُ أُتبعُها عِلاتِها العَشـــــــــــرا



الهمّ والحلمَ والوهمَ الذي بيـــــــــدي
والعطرَ والسحرَ والأسرارَ والخمــرا




وغصة ًفي حلوق الليل رابضــــــــة ً
طورًا تمورُ وتعلو تارة أخــــــــــرى



والحِبْرَ إذ يعتلي رأسَ اليراع لـــــــه
لونُ الطحالب يغزو السطحَ والغـَـوْرا



وصفحة َاللوح إذ يلهو البياضُ بهـــــا
مستبشرا، ثغرُه بالبسمةِ افـْتــَـــــــــرّا



فألـْقـَمَتـْنِي الخطايَا قعْرَ هاويـــــــــــةٍ
كالسحر يَأسَرُ مني الحِقـْوَ والصــــدرا



يا غربة َالقلب في أدغالِ فاتنــــــــــةٍ
تتيهُ في تِيهِهَا أحلاميَ السكــــــــــرى


فتشتُ عن لغةِ النجوى بذاكرتــــــــي
فما وجدتُ سوى ما يَقدَحُ الجمـــــــرا



أينَ الجنونُ الذي أقعَى بناصيتــــــــي
واختطّ للبوح فيهَا أسْطـُرًا حُمْـــــــــرا



واجتزّ من جسدِ الأشعار خاصــــــرة ً
ومن سماء القوافي أنجمًا خُضــــــــرا



لا شئَ يَرْبأ بي عن وأدِ خاطرتــــــــي
في تربةِ الصمتِ ما قد يُنبتُ الزهــــرا


المغرب
18/8/2009

1

عنوان القصيدة نثري مفعَّل على تفعيلة الرمل + حركة واحدة : غربة القلْ (فاعلاتن) +بِ (فَ)

2
يتخلق الكائن الفني على شكل تراتبيٍّ اعتمد على مفارقة خارقة للعادة في البداية ثم تولدت عنها كافة المفارقات والمواقف الساخنة في القصيدة ، انتقل الشاعر في ست قفزات أولية هي الشطرات للأبيات الثلاثة الأولى ، ثم ومن أول البيت الرابع ينطلق السؤال الفاتح للحالة الشعرية للغربة وتتفرق.. فيعد علات القافية التي هي علات غربتة متماهيتين في تناص مع الوصايا العشر وفي حالة تركيز ووعي تام بالقضية ، وقد استعان غسري بمقدرته الفائقة في تطويع اللغة واللعب على العروض الخليلي بمهارة ضفرت الكلام والموسيقى في شعر حقيقي قاصدا بذلك إثارة دهشتنا وهو نجح في ذلك بلا أي شك.


3
ميزة غسري أنه لم يغفل القارئ لحظة واحدة ولم يغب عن باله أنه يخاطب مستويات متباينة من الثقافات فوقف بالتجربة ( هو الذي وقف ولم يوقَف قسرا) على مستوى ما هو شعر وشعور يتلقاه الذوق بترحاب وينفعل معه انفعال الغربة الذي انحكمت به القصيدة ،
وانظر إلى مطلع القصيدة:

تأوه الطيب في أعطافها نورا == فاجتث من لينتي أفنانها الحرى
وقد من مقلة الأشواق زنبقة == تنفس الليل من إشراقها فجرا

الصورة مغرقة في الجمال ، لا ينتقص من جمالها الإقرار في الأفعال الماضية الأربعة : تأوه ـ اجتث ـ قدَّ ـ تنفس .. إقرارا لا يقبل الشك ، ولا بأس لأن التجربة تتحرك في واقع الحياة تحوله إلى هذا الشعر.

4

انظر إلى هذا التركيز الشديد والصحو والوعي الشديد والبصر الحديد :

هامت على زورق الآهات قافيتي == ما زلت أتبعها علاتها العشرا

ثم هو يعدد العشر العلات في نسق منطقي دقيق:

الهم والحلم والوهم الذي بيدي == والعطر والسحر والأسرار والخمرا (7علات(
وغصة في حلوق الليل رابضة == طورا تمور وتعلو تارة أخرى (واحدة(
والحبر إذ يعتلي رأس اليراع له == لون الطحالب يغزو السطح والغورا(واحدة(
وصفحة اللوح إذ يعلو البياض بها == مستبشرا ثغره بالبسمة افترا (واحدة(

وكان اصطدام المنطق / العقل والفكر بالعاطفة / البديهة والموهبة التلقائية أثر في مجيء العلات السبع الأولى في بيت بينما الثلاث الأخريات كل واحدة في بيت ، ذلك اصطدام أنتجه الالتزام العروضي من جهة ومنطق النص الشعري الواقعي بدرجة ما من جهة أخرى .. أليس من حق المتلقي أن يسأل الشاعر في أمر هذه القسمة بين العلات ومساحتها على الورق ؟ وما دام منطق النص الشعري كذلك فإنه لايمنع من أن يكون منطق التلقي كذلك أيضا .

5
ويقدم الشاعر الحكمة وشيئا من خلاصة تجربته الحياتية فنجد الحكمة عند غسري مستلة من كل تراثنا الديني والشرقي ، وأن عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .. وقد يجعل الله سره في أضعف خلقه ، وما إلى ذلك مما يدور حول هذا المعنى ، يقول غسري :
لا شيء يربأ بي عن وأد خاطرتي == في تربة الصمت ما قد ينبت الزهرا

6
تقدم قصيدة غربة القلب لغسري تجربة فريدة أيضا في تواطؤ الفكر مع الوجدان في إنتاج حالة شعرية صادقة ، الفكر والعاطفة ، العقل والموهبة فيزول ما بينهما من تنافر في قصيدة استفادت من المنطق الرياضي البحت ومن العاطفة الإنسانية الرفيعة في آن واحد

7
في هذه القصيدة نجد "غسري" في تجربة منطلقة إلى آفاق الشاعرية محتضنا الإنسانية بأوجاعها وأفراحها دمه في دمها وواقعه من واقعها يناقش قضية الغربة القلبية بموضوعية تلبس من الشعر حلل الاستعارة والمجاز والصورة الدافئة.

قديم 08-14-2014, 02:09 PM
المشاركة 22
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
[SIZE="4"][COLOR="Black"]
وفيما يلي قراءة مستفيضة لشاعرية عبد اللطيف غسري..



جلسة إلى الشاعر المغربي
الأستاذ: عبد اللطيف غسري


بقلم الأديب والناقد المغربي الأستاذ محمد داني



ـ مدخل
ـ المقدمة والاستهلال في قصائده
ـ الشكل والمضمون في شعره
ـ اللغة الشعرية في شعره
ـ الموسيقى الشعرية
ـ التكرار في شعره
ـ المعارضة في شعره
ـ الصورة الشعرية في شعره
ـ مفهوم الشعر عند عبد اللطيف غسري
















مدخل:
نصوص شعرية لفتت انتباهي.. وجرت فضولي لدخول غمارها.. والإبحار في ينابيعها...
ما إن دخلت عالمها حتى وجدتها تحمل طاقة جمالية ،وفنية أغرتني بالتناول...طاقة فجرت دهشتي.. وأسالت تفاعلي معها.. فتيقنت أنني أمام شاعر مغربي يعي ضمن متخيله تبادل الأدوار بين المرسل( الشاعر)، والمرسل إليه( المتلقي)، أثناء عملية القراءة...
صحيح أن هذه الدهشة التي تولدت جراء اتصالي بقصائد هذا الشاعر المغربي، تطلبت مني اعتماد أحكام قيمة.. وتوسل مقاييس أثناء قراءتي المتعددة.. متوسلا التأويل ، والتفسير والتساؤل.... وكل هذا لأبرر الدهشة الجمالية التي فجرتها في هذه النصوص الشعرية...
إن الأمر:"يتعلق بتأمل الذات في بعدها الحقيقي، والعميق والحفر في الوجود واللغة والمتخيل لنستعيد مع الشعراء لحظة الإبداع الممتدة في اللانهائي"[1]...
إن الشاعر المغربي الأستاذ عبد اللطيف غسري الذي سنكون في ضيافته الشعرية، جعلنا نسكن الفن والشعر، والجمال، وسحر الكلمة، ورقة الصورة من خلال الشعر...فهو يفرش لنا ذاته عبر اللغة، والصورة.. ليجعلنا في حضور الدهشة، نتماهى الشعر ومتخيله...
أول ما يسترعي انتباهنا عند أول لقاء مع نصوص الشاعر عبد اللطيف غسري، هو الشكل الشعري الذي اعتمده.. ليجعلنا من خلال التواصل الأولي نسترجع مرجعية القصيدة.. في تاريخها الشعري العربي... فنتذكر ارتباط هذا الشكل المعتمد في الكتابة بالإنشاد، والسماع، والمشافهة، والإلقاء...مع التركيز على النبر والإيقاع، والموسيقى، والتعبير الجسدي( الحركات، وملامح الوجه)، وكلها آليات تدخل في البناء الشعري ، وطقوسه....
لكن حاليا.. تراجع هذا المنظور الصوتي، فاسحا المجال أمام الحضور القوي للخط، والطباعة.. الشيء الذي نقل النص الشعري من ميزته الشفوية إلى مجال آخر ، هو الكتابة...مما ربط الشعر بالسيميائية...وهذا يدفع المتلقي إلى التسلح باستراتيجية قرائية مخالفة لاستراتيجية التقبل السماعي...
إن الشكل العمودين الكلاسيكي، والذي يهيمن على جل قصائد شاعرنا سي عبد اللطيف غسري، والذي اختاره عن وعي، يجعلنا نتوقف طويلا أمام هذا الاختيار لمحاورته، واكتشاف جمالياته...
والقصائد التي اخترناها لمحاورة الشاعر عبد اللطيف غسري، هي:
- طبق لطعام الليل وأرغفة القلب
- فراشة الشبق
- قلم ينز حلما
- حدود حماي صوت الهجرس
- هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى
- أنا شبح يختلي بالمرايا
- عاشق الكفتة
- فلسطين يا منتهى شجني
- رباعيات عاشق
- عصر المغاوير
- بغداد يوم الكريهة
- غربة القلب
- سيف الملامة
- يا سيد الليل
- قبس العندليب من ألحانك..


[1]- آيت اوشان، (علي)، الذاكرة والصورة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط1، 2005، ص:7


عندما نرى هذه القصائد المختارة، تستلفتنا العناوين المصدرة لها.. وكما قلنا في كتابات سابقة، أن العنوان له سيميائياته ، ودلالته،ووظيفته في التشكيل الشعري...
وهنا يحضرنا تعريف ل(ليو هوك) للعنوان، إذ يقول:" هو مجموعة من الأدلة اللسانية التي يمكن أن تعتلي النص والإشارة إلى محتواه العام، وإغراء الجمهور المقصود"[1]...
وقد أدى العنوان في مجموعة النصوص الشعرية هذه، وظيفة جذب وتشويق.. ومساعدة على القراءة والتأويل... وكل العناوين تأتلف في صيغ اسمية كلها مركب، ما عدا قصيدة واحدة، فقد جاءت تأتلف في صيغة فعلية، وهي(هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى).
ونستنتج من هذا كله :"أن الشاعر يحاول بهذه الصيغ والتراكيب الاسمية النفاذ إلى المكونات الثابتة في بنية اللغة قصد إعطائها أبعادا بلاغية تخرجها من دلالتها المباشرة إلى دلالات رمزية وجمالية"[2]...
كما أن هناك ملاحظة ملفتة، وهو أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد صدر بعض قصائده بحاشية، يحدد من خلالها اسمه ولقبه، وتوضيحه أو دافعيته في كتابة هذا النص الشعري أو ذاك... مثل :(فراشة الشبق)،و(حدود حماي صوت الهجرس)، و( هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى).. والتي يبين فيها معارضته لبعض قصائد الشاعر الكبير الدكتور مصطفى الشليح( سينيته)(ونرجس لا تنبس)، والرد عليه...أو يبين من خلاله إهداءه هذا القصيد للشاعر الشليح.
وهذا التصدير أعطى للقصيدة دلالتها.. وحدد سياقها.. وأزال بها الملابسات الخاصة بإنتاج بعض هذه النصوص الشعرية... وهذا حقق من خلاله الشاعر عبد اللطيف غسري غايتين:
1- الحفاظ على التقليد الذي عرفته القصيدة العربية التقليدية، كما نجد عند شوقي وحافظ وشعراء البعث، والمدرسة الكلاسيكية..
2- البحث عن ربط ميثاق ، وتشكيل تعاقد ضمني مع المتلقي، يوجه من خلاله ظروف النص، ومعناه.. والإعلان عنهما بصراحة...
ملاحظة ثانية... نستنبطها من قراءتنا الأولية لهذه النصوص الشعرية... وهي أنها – كلها- خالية من علامات الترقيم...كأننا أمام قراءة إيطالية لا تعتمد علامات الترقيم.. مع العلم ،-وهذا يعلمه الشاعر عبد اللطيف غسري جيدا- أن لعلامات الترقيم بعدها الصوتين والتركيبي، والدلالي، والتداولي..فهي ليست علامات ، أو رموز للزينة.. نوزعها في النص اعتباطا.. بل إنها تمتلك دلالات تعيينية وإيحائية... بالإضافة إلى تضمنها توزيعية الكثافة الصوتية من جملة إلى أخرى، والعلاقة بين مكوناتها...ولا أدري لم حذف الشاعر عبد اللطيف علامات الترقيم من قصائده... هل ليترك للمتلقي مبادرة المشاركة في تحديد إيحائية الجمل الشعرية؟... وحدودها؟...أم أنه يمتنع عن ترقيم قصائده حتى لا يعطيها معنى مضادا؟...أم أن طريقته في الكتابة مبنية على الاسترسال، وترقيم الكتابة ينبني على الإدراك بحدود البنية الصوتية وامتداداتها، وارتداداتها؟...وبما أن الكتابة عنده مبنية على الاسترسال، فهذا يتطلب منه انسيابية ترتكز على محو الفواصل.. وأن المعنى واحد يبدأ من أول كلمة ، ولا ينتهي إلا بانتهاء القصيدة....؟...أو ربما، أن الشاعر لا يومن بسلطة العلامات الترقيمية على لغته الشعرية؟...
شخصيا...أجد أن هذه الظاهرة تعود إلى طقوس الكتابة عند الشاعر عبد اللطيف غسري..طقوس نستشف من خلالها حالة القلق التي يعيشها وهو يكتب الشعر.. فهو في لحظات المخاض والولادة، يعبر عن الذات الشاعرة وما يلتبسها من وحي شعري...وعندما تتلبسه الحالة الشعرية..وحالة الكتابة، لا يعرف حدودا لما يكتب.. ولذا تنتفي العلامات الترقيمية.. لأنها تشكل عيا، وحصرا.. وانقطاعا لهذه الانسيابية التي يعيشها ويحياها...
- البياض والسواد:
عندما ننتقل من السماع، والمشافهة إلى عملية القراءة البصرية.. تأخذ النصوص الشعرية مجالا ثانيا، هو المجال المكاني.. وبالتالي ، هذه القراءة تبين حيزها المكاني، أو علاقتها مع الفضاء.. ومن ثمة تصبح خاضعة لقانون تشكيلي مرتبط بالفضاء.. وجماليته...
هكذا ، عندما نقف إلى قصائد عبد اللطيف غسري، نجد أن الفضاء متساو، ومتناسق، لا تفاوت فيه...وبالتالي يتساوى البياض والسواد، ولا يركب أحدهما الآخر.. ما دام الشاعر قد اعتمد الشكل العمودي ذي الشطرين، بناء وتشكيلا في جل قصائده...


[1] - Gérard , genette : Seuils, ed, De . Seuil, 1987 ; p : 54

[2]- علي آيت أوشان، المرجع نفسه، ص: 18

المقدمة والاستهلال في قصائده

لقد أدرك الشاعر عبد اللطيف غسري، أن للقصيدة العمودية تقنياتها في تواصلها مع المتلقي...مع العلم أنه يضع أمام عينيه طريقة الشاعر العربي في بناء قصيدته..وكيف كان يعتمد الطرق العديدة لجلب الأسماع إليه، وشد السامعين...
وشاعرنا عبد اللطيف يعي جيدا ، أن حسن الاستهلال يصرف الأسماع والقلوب إليه..لأن:"حسن الافتتاح واعية الانشراح، ومطية النجاح"[1]...
ويدرك أن الشاعر العربي القديم كان يستهلل قصائده بالنسيب ا الوقوف على الأطلال، والدمن... وهذه الطريقة في الأداء عمل بها شاعرنا عبد اللطيف ن ولم شيد عنها.. وبالتالي جاءت قصائده متكونة من:
- مقدمة.
- موضوع.
- خاتمة.
ولكن هذا لا يصدق على كل قصائده..بل جاءت بعضها بدون مقدمات، أي جاءت بتراء...
والمقدمات التي استعملها عبد اللطيف غسري، إما مقدمات رسمية، وتشتمل على المقدمة الطللية... أو مقدمات ثانوية، وتهتم بالنسيب، ووصف الطبيعة، والبكاء على الشباب، والتأسف، والشكوى، وما إلى ذلك...
ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الرسمية، وتضمنت الوقوف على الأطلال، والديار والرسم...قصيدته (قلم ينز حلما)، والتي يقول فيها:
هذي رسوميَ أطياف وأشياء++++ وأوجه مستطيلات وأفياء
معشوشب قلمي سود غمائمه++++ تسوقها ألف في إثرها ياء
شعاره خطفة للضوء مبصرة++++ لا خطوة في دروب الظل عمياء
لا يبرح المزن في آفاقه نزلا++++ عروشها كنوايا البحر علياء
وقصيدته (أنا شبح يختلي بالمرايا)، والتي يقول فيها:
تبعثرني ولولات الصدى++++ ولغو يدك حصون المدى
فأرتد صوتا كوجه المساء++++ يلملم أنفاسه مفردا
صحوت وفي الصحو بعض قفول++++ إلى خبر ينثني أوحدا
ومن القصائد التي اعتمدت المقدمات الثانوية، والتي تضمنت استهلالا حول:
- لحظة رؤية الحبيب ومروره: مثل قصيدته (تمرين بي)، والتي يقول فيها:
تمرين بي لكأني الشجون++++ وغيماتها أو كأني السكون
أنا واقف في زوايا اشتياقي++++ تعيش بثوب ربيعي السنون
أصارعُ وجديَ في درب صمتي++++ ويَصرَعُني مِن شذاكِ الفُتون
- وصف لحظة عشق، ووله. مثل قصيدته( رباعيات عاشق)، والتي تغرق في الوصف والنسيب، والتي يقول فيها:
متيمتي نور فجر أطل++++ يشد العقول ويسبي المقل
نسجت لها من دمي بردة++++ مطرزة بخيوط الغزل
خريدة حسن لها سمرة++++ بلون الغروب إذا ما اكتمل
أسيلة خد لها طله++++ تميت الشجون وتحيي الأمل
- البوح والنداء، والتباريح: كما في قصيدته( فلسطين يا منتهى شجني)، والتي يقول فيها:
فلسطين يا منتهى شجني++++ ويا مصدر السقم في بدني
ويا وهجا في الفؤاد مضيئا++++ يراود ذاكرة الزمن
يعود فيبحر في كل يوم++++ بموج الضمير بلا سفن
- وصف الطبيعة وحالة الذات الشاعرة: كما نجد في قصيدته( غربة القلب)، والتي يقول فيها:
تأوه الطيب في أعطافها نورا++++ فاجتث من لينتي أفنانها الحرى
وقد من مقلة الأشواق زنبقة++++ تنفس الليل من إشراقها فجرا
فالتاع مني شغاف الوجد جندلني++++ والشوق حملني أثقاله الكبرى
- الشكوى، ووصف الليل: كما نجد في قصيدته(يا سيد الليل)، والتي يقول فيها:
يا سيد الليل والأفراس والمال++++ متى ستسمعنا من برجك العالي
اهبط إلينا نبادلك القلى مقة++++فبسمة الدهر لا تبقى على حال
جدد عراك التي قدت حبائلها++++ بغفلة منك في الماضي وإهمال
وساند الناس في خطب وضائقة++++ واسق الورود بماء منك سيال
هكذا نجد تنوع المقدمات في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، وبالتالي تنوعت معها المواضيع من حب ووصف للطبيعة، واهتمام بالقضايا العربية المعاصرة، وما إلى ذلك...


[1]- الحسن بن رشيق القيرواني،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق : منحيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981،ج 1، ص:217





الشكل والمضمون في شعره

عندما نتمعن جيدا في شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، نجد انه شعر واقعي في مجمله.. وبالتالي نجزم أن شاعرنا شاعر واقعي ، ملتزم...
نعم.. رب قائل : إن عبد اللطيف غسري لا ينتمي إلى الواقعية الصرفة في شيء...في تصوير تجربته الشعرية..وانه حافظ على النمط الموروث، وانفتح على مواضيع عدة، وبرؤى مختلفة...
شاعرنا آمن بالحب والحياة..والعلاقات الإنسانية...فقد كان إنسانا قبل أن يكون شاعرا.. وما زال الشاعر يحمل الإنسان.. ولذا كانت عينه على كل شيء...يلتقط المواقف، فيعبر عنها شعرا عندما تحرك سواكنه.
عشق الحياة.. والجمال...والطبيعة...والإنسان...فاستمد من هذا العشق مضامينه الشعرية....فكانت قصائده لا تخلو من قيم، ورؤى، ومبادئ...وبالتالي كانت قصائده عبارة عن تداعيات نفسية...وعبارة عن بوح شعري- إن جاز لنا ذلك- ... ولو عن غير قصد... ومن ثمة تنوعت الأغراض في شعره.. واختلفت المواضيع...فكان كالنحلة البهية، لا يمتص إلا رحيقا، ولا يمد إلا عسلا مصفى...
ففي حديثه عن الصداقة نجده يصف صديقا له في جلسة عفوية.. يصف شغفه بالكفتة، ونهمه.. تصويرا جميلا لا يخلو من صدق ، وعفوية....نشتم فيه مدى الحب الذي يكنه لهذا الصديق...ومدى الألفة والصداقة التي تجمع بينهما، ولو أن وصفه يعد من باب النميمة...
كما أننا نجده في غزلياته- إن شئنا- يصور المشاعر الإنسانية بدقة متناهية، ويصور حالة الفرح والانتعاش التي تكون عليها النفس،وهي في حالة غرام، وهيام.. أمام الحبيب.
وفي قصيدته(فلسطين يا منتهى شجني)و( بغداد يوم الكريهة) نراه يصور ألمه.. وحزنه... وما يحس به من فجيعة اتجاه بلدين عزيزين( فلسطين)و( العراق).. ومن خلال معاناته وحزنه يتمرأى لنا معاناة الشعبين العراقي والفلسطيني...
وشعر عبد اللطيف غسري، يظهر من خلاله أنه شاعر مجيد...كالشعراء الكلاسيكيين.. اهتم بالشكل واعتنى به كثيرا... من خلال اعتماده على عمودية الشعر، والصياغة اللفظية.. وجمالية العبارة الشعرية...
صحيح أن له قصائد تفعيلية ، لكن الغالب عليه هي: القصيدة العمودية، لأنه يجد فيها سواكنه، ولذته...
والجميل في شعر عبد اللطيف غسري، هو أننا نجده متعدد المواقف.. حيث نجد أن تجربته الشعرية متنوعة الاتجاهات، والمذاهب.. فهو شاعر كلاسيكي لا يختلف عن رواد الكلاسيكية(شوقي- حافظ- مطران-الرصافي- الجواهري-.....وغيرهم).
وأحيانا نجده رومانسيا متأثرا بمدرسة أبولو.. فلا نجده يختلف عن الشابي، والهمشري، وأبي شادي،والأخطل الصغير،وصالح جودت،وغيرهم...
وأحيانا نجده حداثيا، يسير في ركب شعراء الحداثة: أدونيس، والبياتي، والسياب،ودرويش، وغيرهم...
فعبد اللطيف غسري، لم يسجن نفسه في حيز معين، وبالتالي لم يتقيد بمبدإ ما .... وهذا ما وفر له نوعا من الحرية في الاختيار، والتعبير، والرؤية... وبالتالي كان شاعرا حرا، غير ملزم...أو الانطلاق من فلسفة معينة...
لذا كانت قصائده قناعات ، واختيارات، تصبو من رؤية خاصة للحياة.. ومعايشة للأحداث... ومعاناة ذاتية... فهو شاعر مطبوع.. يعرف مدى الرسالة الملقاة عليه...
وتجربته الشعرية، لا تخلو من روح المعاصرة... دون الإغراق في الحداثة والتجديد المسف...ومن ثمة لا نجد في شعره غموضا.. أو لبسا..أو ألغازا...كما نجده خاليا من الركاكة، والفظاظة، والإسفاف، والخلط بين الأجناس الأدبية...
وفي كثير من قصائدهن نجد رومانسيته ظاهرة للعيان.. تتدفق منها مشاعره وشعوره.. يغلب فيها الشكوى، والحنين، والأنين،والقلق،كما نجد في قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
إذا حدثت شاقني صوتها


وحملني نشوة كالحزن


وعلمني كيف تحلو الحياة


وكيف يلد مذاق الشجن


وكيف يصير الهوى جنة


وكيف تهون جميع المحن


لمن حلمه أن يعيش كعنـ


ـدليب يغرد فوق فنن


+++++++


إذا الليل جن علي استوى


لدي الكلام وصمت الحجر


أبيت أعد نجوم السماء


وأبحث عن وجهها في القمر


إلام أظل أسير الهموم


يعذبني حبها بالسهر


إذا الشوق زاد اكتفيت بأن


أرى سحرها في كتاب الصور

وشعره يمتاز بالوحدة العضوية:"لأن وحدة الشعور والإحساس الذي ينتظم أجزاء معظم قصائدهن نراها تكون ما تشتمل عليه القصيدة من صور وموسيقى وتعبيرات، بلون واحد نابع من الموقف النفسين المسيطر على الشاعر لحظة إبداعه القصيدة"[1]..
وبالتالي ، يلتقي الفن بالشعور عند عبد اللطيف غسري.. كما تلتقي الوحدة الفنية بالوحدة الشعورية في قصائده...لأن كليهما واحد..
قصائده لا تخلو من صور بديعة....وراقية...وهذا يبين مدى الخيال الذي يتمتع به.. وقد استعان في صياغته هذه الصور على الأساليب البيانية المعروفة ( التشبيهات، والاستعارات، والمجازات، والكنايات، والمحسنات البديعية)... وبالتالي استطاع أن يقدم لنا كثيرا من الصور الفنية.. وصبغها بعواطفه، وأحاسيسه، وجمال نفسه...دونما صنعة أو تصنع...
وقد برع كثيرا في خلق صور غير قابلة للتجزيء.. والتي حولت القصيدة إلى لوحة فنية شاملة.. ومن هذه القصائد ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر


وتجرحان خدود الماء والقمر


عيناك تفاحتان امتدتا وهجا


في قامة الليل أو في باحة العمر


النبض إثرهما يغفو على شغف


والقلب بينهما يصحو على سفر


سافرت كالشفق المبتل صوبهما


ما للبنفسج في عيني من أثر


أشتم رائحة الوقت المراق على


ثوب الطريق وفوق العشب والصور


وأشرئب وكلي للسنا ظمأ


ظل الأماني بساط قدَّ من شرر


يممت شطر التباريح التي غربت


في أفق خاطرة مشدودة الوتر

حيث يصف فيها عين حبيبته.. فيشبههما بالتفاح، وبالبحر.. ويبين فيها لوعته، وشوقه وحنينه إلى رؤية هاتين العينين القتالتين...وأمام جمالهما ، يطلق لنفسه العنان لتصف كما تشاء... وهي ترى فيهما الدنيا ..فنجد صورا ووصفا جميلا يرشح صبابة.. إنها تعرية للذات، وكشف للنفس، وتعرية للخواطر... وفي هذه التعرية صدق العاطفة، والأحاسيس...
ومن الصور المبتكرة والجميلة هذان البيتان.. حيث يصور فيهما الغيم والسحاب، وقد تحولا إلى كتاب، وشرع يقرأ فيه، ويتصفحه.. كما يصور حالته الشعورية، عندما انتابته الأحلام، وتحولت إلى يد تلقي في جرابه حصوات.. وما هذه الحصوات إلا الأحلام التي تلقى في خاطره.. وذهنه.....
أقرأ الغيم سطورا++++ ماثلات في كتابي
وأكف الحلم تلقي ++++ حصوات في جرابي
وقوله أيضا، وهو يصف أسنان حبيبته بالثلج لكثرة بياضها.. كما يصف فمها بالبرقع.. عندما تبتسم تظهر ثناياها البيضاء...فيشع نور يخترق ظلمة الليل... وضحكاتها، وصوتها كاللوز المتساقط.. فهو الجمال يقطر منها ضحكا، وابتساما.. ونظرا ...وعطرا...
كما أن الضوء يعشق خطواتها، ومشيتها ، ويجد فيه جمالا.. أما الورد فيأخذ لونه وحسنه منها:
يا طفلة يتعرى الثلج إن فتحت +++++ أزرار برقعها في هدأة السحر
ويسقط اللوز من شباك ضحكتها +++++ ويستجم الندى في ظلها العطر
ويرتمي الضوء مسكونا بخطوتها +++++ ويشرق الورد من ألوانها الكثر
ويقول عن القصيدة، مصورا أوارها، وعراكها.. وكيف يستعد الشاعر لاصطيادها حيث يعد عدته..إنه يقدم لنا صورة معركة بينه وبين القصيدة.. وكيف يجاهد نفسه ليفوز بها.. إنه يحول قول الفرزدق:"لخلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر"، إلى قصيدة جميلة حالمة بالصور، والاستعارات:
إذا ظبي القصيدة صيد حيا +++++ فقد شبعت مروج الفكر ريا
وقد لبس الخيال رداء خصب +++++ زكي الروح مؤتلقا نديا
فهل أعددت للكلمات سهما +++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
فتردي شارد النجوى قتيلا +++++ وتصمي في الهوى كبدا طريا
وهل أسرجت خيلك باقتدار +++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقدت جحافل النبضات طرا +++++ بشعر كنت فارسه الكميا
نعم جرعات قلبي من رحيق +++++ وكم من هضبة تنمو لديا
فأقبل يا وشاح النار أقبل +++++ وأحضر كل قافية إليا
ستحملني إلى خلجان بوحي +++++زوارق كنت أرعاها مليا
يلاطمها عباب في دمائي +++++ وعاطفة تدمدم في يديا
وأصوات تولول في يراعي+++++وتعزف في المدى نغما ثريا
مقامي لا يبث النَّوْرَ إلا +++++إذا كان الضياء له سميا
ويقول في قصيدته (تمرين .. بي) مصورا حبيبته في أحسن بهاء.. وهي تمر به.. ومن أمامه، كأنها الحسن الناطق... على وجنتها الورد .. وفي شفتيها دمه.. وعندما تفتران عن ابتسام .. يظهر صفان من اللؤلؤ الناصع البياض.. وهذا ما يزيد الشاعر افتتانا.. وولعا.. وصبابة...
تمرين ... في وجنتيك الأقاحي +++++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد+++++يكون له الشوق أولا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني+++++رذاذ الرجاء تدر الجفون
ويصور سهره وأرقه، وهو يناجي نجم السماء، باحثا عن قافية، شاردا وراء صورة.. باحثا عن مدخل إلى قصيدة.. إنها لحظات المخاض والولادة.. يصورها بفنية عالية.. فلنقرأ قوله:
يا أيها القلم المصلوب في قمر +++++ناءٍ على كل شلو منه أجزاء
آليت أن تركب الهمس المدوم في+++++ غلالة الصمت لا تثنيك أرزاء
عزَّ اقتفاء النجوم الساريات فما+++++ يغشي مداراتها إلا الأعزاء
فاستشرف الضوء من وجه تهيم به+++++كأن هامته في الحسن جوزاء
وقد أكثر عبد اللطيف غسري من استخدام التشبيهات التمثيلية، والضمنية، التي أعطت للصورة فنيتها وجماليتها.. وبعدها الدلالي المنشود.. وهذا لم يجنح به إلى الخروج عن الذوق العام، أو الإسفاف، أو الإخلال بالحياء العام...
ومن براعته في التصوير، قوله:
أنا الموج ، إن هجت فالبحر لا +++++ تؤوب قواربه ناجيهْ
كتبت تعاويذ للعشق في+++++جبيني وفي الصحن والآنيهْ
وسافرت في القوس والمستطيل+++++وبين الدوائر والزاويه
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++وأشرق في شمسه الحاميه
ففي كل الصور التي عرضناها، نجدها لا تخلو من محسنات بديعية.. إذ تتوفر على طباق وجناس، وتورية، وكناية، ومقابلة...

[1]- د. شرف، (عبد العزيز)و ، د. خفاجي، (محمد عبد المنعم)،النغم الشعري عند العرب، دار المريخ للنشر، الرياض، طبعة 1987

اللغة الشعرية في شعره

اللغة أداة التواصل .. والشعر يختلف لغة عن لغة الحديث اليومي..إذ إن لغة الشعر لغة انزياحية...غنية بدلالتها... فنية...إيقاعية... خاصة...والشاعر في لغته الشعرية يتخلص من لغته الأولى التي هي الحديث اليومي...
والشاعر عبد اللطيف غسري، شاعر شاب ، يعي اللغة الشعرية ودورها.. ويعمل على تطويرها.. ويسكب عليها من ذاته، وروحه.. ولذا جاءت لغته مرآة لذاته ، ونفسيته...
وعندما نتمعن في قصائده التي اعتمدناها ، نجده وظف لغة فصيحة، خالية من أي ابتذال... وإذا ما قمنا بعملية إحصائية لأن :"الطريقة الإحصائية تضع يدنا على بعض الترددات التي هي ذات مغزى. فلا أحد ينكر دورها في رصد المحاور التي يدور عليها الديوان أو القصيدة، ولا أحد يجادل في أن تلك الترددات تضمن انسجام النص مع نفسه، ومع النصوص الأخرى التي ينتمي إلى جنسها"[1]...
وفي قصائده العمودية، تظهر لنا المفردات جلية، والتي تشكل قاموسه الشعري. ويمكن ترتيبها على الشكل التالي:
1- السحاب- الضباب- الغيم- قطرات- رضاب- سراب- بخار- ماء- الثلج- موج- فجاج- شعاب- تراب- أدغل- البحر- شاهق- جبل- الخمائل- المطامير- الطوابير- الصخور- الهضاب- دمن- الروابي- الخراب- نوافير- اليباب- متاهات- قوارير-
2- ود- ولهان- عاشق- أحن- شفاف- تهيم- مهجتي- شاق- نشوة- الأشواق- الاغتباط-
3- غامق- محتقن- نور- الغروب- الليل- الفجر- القمر- مورد الخد- الدياجير- نوارا- بياض.
4- شجن- الهم- السقم- الحزْن- العزاء- الشجون- ألم- السعادة- البعد- العدم- الحزَن- المحن- الصمت- وصال- القهر- يرزح- نير- الزيف- ضعف- صرخة- جرح نازف- الرعب- تباكت- عجز- الدمع- جفن ذارف- أثقال- آهات- الحلم- الوهم- غصة- تيه- الجمر- واد- كدمات...
هذا بعض من قاموسه الموظف في قصائده، وهو يبين أنه لا يخرج عن القاموس اللغوي الشعري المعتمد عند الرومانسيين..به يعبر عن ذاتيته وغنائية شعره...
وهذا القاموس نجده يعبر عن حالات نفسية، هي:
1- صورة الطبيعة ومكوناتها...
2- صورة المشاعر والحب، والعشق والسعادة.
3- صورة التيه والحيرة، والصراع النفسي.
4- صورة الحزن، والكآبة والألم.
إن قاموسه الشعري، يبين إقبال الشاعر على الحياة، وانشراحه، وشعوره بالحياة، وبالأمل... وربما وضعه الأسري، والاجتماعي يلعب دورا كبيرا في هذا الاستقرار العاطفي والوجداني، والنفسي...
والأبيات التالية ، تعبر عن هذه الحالة النفسية، التي تشعها الثقة ، والاستقرار النفسي:
ولكنني كل يوم مقيم+++++على قمة الهضبة العاليهْ
لأرشف من قدح المفردات+++++وآكل تفاحتي الغاليه
فظل الفراغات لا يحتويني+++++ولا يكسر الحوض والجابيه
وهذا لا ينفي وجود حالات من القلق، والتبرم، والشعور بالغم.. فهي لا تخرج عن المعتاد، والمألوف عند الشعراء... خاصة عندما يدق العشق بابه... فنحس نبضه ، وتوهج إحساسه.. وتصلب عينيه...واصطخاب دمعه...عندما يرى في معشوقته ما لا يراه غيره...يراها كالشفق المسافر، وفي الترقب يحس بثقل الوقت، وصلابة الزمان...فينتظر ، ويتطلع ، وفي الأخير ييمم شطر التباريح عله يجد راحة النفس، والبدن.. فيحس أمام لهفته وشوقه أنه أصبح تاريخا من الحشرجة.. وأنه من الوجع والألم أصبح يتساقط أجزاء و ذرات...
ورقي وهج خلفي أمم+++++وسفوح تباريحي قمم
أنا تاريخ من حشرجة+++++يتساقط من وجعي زخم
والشجو الصاعد من ورقي+++++ترف لم يألفه القلم
شرفاتي تصهل يا امرأة+++++يتدفق في يدها النغم
ويضيء العشب إذا برزت+++++كسراج تعشقه الظلم
وعندما نتمحص شعر عبد اللطيف غسري، نجد أنه تراوح بين استخدام الجملة الفعلية والاسمية، داخل القصيدة العمودية الواحدة...والجدول التالي يبين ذلك:
الجدول رقم: 1 جدول تصنيفي للجملة الموظفة في قصائده
القصيدة
نوعها
عدد أبياتها
عدد الجمل الفعلية
عدد الجمل الاسمية
كوني لوجودي يا امرأة
عمودية
13
06
07
أنا الموج
عمودية
37
24
13
تقاسيم على أوتار رملية
عمودية
26
12
14
جبين من لجين
عمودية
10
01
09
تمرين بي
عمودية
19
11
08
عيناك تفاحتان
عمودية
17
11
06
ظبي القصيدة
عمودية
18
13
05
فراشة الشبق
عمودية
14
08
06
قلم ينز حلما
عمودية
16
07
09
حدود حماي صوت الهجرس
عمودية
14
10
04
هل أشتهيك لبعض أنسام الدجى
عمودية
10
08
02
أنا شبح يختلي بالمرايا
عمودية
14
10
04
عاشق الكفتة
عمودية
18
10
08
فلسطين يا منتهى شجني
عمودية
20
11
09
رباعيات عاشق
عمودية
20
10
10
عصر المغاوير
عمودية
30
18
12
بغداد يوم الكريهة
عمودية
34
16
18
غربة القلب
عمودية
15
07
08
سيف الملامة
عمودية
34
20
14
يا سيد الليل
عمودية
13
07
06
قبس العندليب من ألحانك
عمودية
15
11
04
المجموع
21
407
231
176
طبق لطعام الليل وأرغفة القلب
التفعيلة
62
19
43
أنين الوتر
التفعيلة
24
08
16
المجموع
02
86
27
59
ويتبين من الجدول أن نسبة الجمل الفعلية بلغت 56،75%، والجمل الاسمية بلغت نسبتها 43،25%.. وتمثل النسبة الأولى غلبة الجملة الفعلية في تشكيل القصيدة الشعرية عند عبد اللطيف غسري..
وقد اختار توظيف الجمل الفعلية لأن الحالة النفسية التي كان عليها ساعة ولادة النص الشعري، تطلب منه ذلك...وهي تدل على القلق الذي يعانيه لحظة القول الشعري، والتوتر الذي يعانيه.. كما أن الفعل يبين به سرعة الحدث، واستمراره، وحيوية الموقف وأثره، ومدى اتصاله بذاته، وبكينونته كشاعر، وكإنسان...
وشاعرنا لا يستعمل الألفاظ الدارجة أو العامية، أو يقوم بتفصيحها.. جل ألفاظه وعباراته فصيحة،تمتح من قاموس شعري متين، ورصين: (شهل- العوسج- السندس- رسوم- أطياف- النوق- جوزاء- الكنس- الأسيل- الخنس- الهجرس- أفنان- فلوات- الهجن- فريدة- الغسق- اليعافير- جحافل- أعطاف- هماز- الهتون- أتون)..

قديم 08-14-2014, 02:12 PM
المشاركة 23
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الموسيقى الشعرية

الموسيقى لها اثر على الجو النفسي المرتبط بالصورة الشعرية، والراسم لها... وهي من أهم عناصر الشعر. ولعل الوزن والقافية هما أكثر عناصر الموسيقى أهمية.
والموسيقى- كما يقول الشاعر سليمان العيسى- :"عصب الكلام الجميل شعرا ونثرا، تبلغ ذروتها في الشعر، والذين لا يحسون بها، ولا يجيدونها لا يملكون العصب السليم"[1]. وهذا القول يبين لنا أهمية الموسيقى في الشعر، والقائمة على مجموعة من القواعد.
والموسيقى مرتبطة أشد الارتباط بالمشاعر."لكونها من أساسيات البناء الشعري والشعوري. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يبنى بناء شعري إلا من خلال هذا النسيج الموسيقي الذي تتحول فيه الفكرة إلى لغة شعرية، ومن تم إلى جمل شعرية، ثم أبيات منتظمة أو أسطر شعرية، وأخيرا إلى قصيدة كاملة البنيان"[2].
وموسيقى الشعر نوعان: داخلية، وخارجية.
فالخارجية تتمثل في الوزن والقافية. والوزن هو: التفعيلات والبحور المستعملة في الشعر العمودي، أو التفعيلي. والقافية: هي الكلمة الأخيرة من البيت وحركتها.وقد عرفها الخليل بن أحمد الفراهيدي، بقوله:"هي من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع حركة ما قبله"[3]. وعرفها الأخفش، بأنها:"آخر كلمة في البيت"[4]
أما الموسيقى الداخلية، فهي نوعان:
1- الموسيقى الداخلية الواضحة، والمتمثلة في المحسنات البديعية، والتجانس بين الكلمات، والحروف.
2- الموسيقى الداخلية الخفية، وهي التي يمكن أن نحسها فيما تشيعه من جو يتلاءم مع انفعال الشاعر ونوع تجربته.
- الإيقاع:
الإيقاع في مفهومه مطابقة للوزن.. لم ينتبه إليه دارسو الشعر القدامى، وأهملوا حركية الإيقاعية:"ولم يلحظه الدراسون إلا من خلال الموسيقى والوزن الشعري، مع أنه كان من أوضح فني العمارة والزخرفة الإسلاميين. كما كان الأساس الذي قامت عليه علوم البلاغة والفن اللغوي"[5].
ويعتبره بعض الدارسين بأنه :"تتابع منتظم لمجموعة من العناصر، وفي الفنون يتكون الإيقاع من حركات( الرقص) أو أصوات ( الموسيقى)أو ألفاظ(الشعر)"[6]
ونفس الطرح أكده ابن فارس ، حيث قال:"إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم ،وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة"[7].
والدرس الحديث ، اهتم بالإيقاع ، واعتبره مصطلحا انجليزيا، انشق من اليونانية ، بمعنى ( الجريان)، و( التدفق). وتطور ليصبح مرادفا للكلمة الفرنسية( Mesure) المعبرة عن المسافة الجمالية.
ويرمي بصفة عامة- كما يقول عبد الكريم شبرو- إلى التواتر المتتابع بين حالتي الصمت والصوت، أو الحركة والسكون، أو القوة والضعف، أو الضغط واللين، أو القصر والطول، أو الإسراع والإبطاء، أو التوتر والاسترخاء[8].
والإيقاع خاصة الداخلي منه، يؤدي دورا هاما في تعميق الإيقاع النفسي، وفي خلق نغمات وإيقاعات أخرى تتوازن مع الإيقاع الخارجي للقصيدة[9].
وعبد اللطيف غسري يعرف أن أهم قيم الإيقاع : الوزن. وهو يساند المعنى، ويبين العاطفة المتضمنة في النص الشعري:"والقيمة الحقيقية للإيقاع وهو ذلك النوع المسمى بالوزن، لا تمكن في العلاقات الصوتية نفسها، بل في التهيؤ النفسي الذي يحدثه الأثر الأدبي الجيد، من خلال شبكة عظيمة من العادات والمشاعر ، والدوافع، يبدأ من الكلمات الأولى، ويستمر في النمو"[10].
وكما نعرف، فالوزن مجموع التفعيلات المكونة للبيت. وهو نظام من الحركات والسكنات يلتزمها الشاعر في بنائه الشعري.. أي الالتزام ببحر معين.
والوزن يكون من وحدات صوتية خاصة ، يرمز إليها في علم العروض بالمتحرك والساكن، وهي بدورها تتشكل من التفعيلات الشعرية المكونة للبحور الشعرية...
ويرى الدكتور محمد العمري أن المقوم الصوتي الإيقاعي في الشعر العربي ، يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية، هي[11]:
1- الوزن المجرد القائم على المقاطع أو التفعيلات،سواء أكانت منتظمة
أم حرة.
2- التوازن أو الموازنات.. ويتألف من عناصر لغوية مشخصة، كونه عبارة عن ترديد الصوامت" التجنيس" والصوائت" الترصيع"، اتصالا وانفصالا.
الأداء ، وهو عملية التجسيد الشفوية، حيث يقوم القارئ أو المنشد بتأويل العناصر الوزنية ، والتوازنية،وما يقع من انسجام واختلاف في تفاعل مع الدلالة ، اتساقا واختلافا.
والشعر يصدر عن رؤيا وليس عن واقعه.. عبد اللطيف غسري، يعتبر القصيدة حركة لا تخضع لسكون أبدا...<< وليس مقياس عظمتها في مدى عكسها أو تصويرها لمختلف الأشياء والمظاهر الواقعية. بل في مدى إسهامها بإضافة جديد إلى هذا العالم..>> [12].
وهولم يتمرد على عمود الشعر والقصيدة الكلاسيكية، بل حافظ عليها ، وأبدع فيها . لكن دون أن ينسلخ إلى حداثة القصيدة العربية.. بل كان محافظا، ومجددا.. فكان شاعرا حداثيا، مبدعا...
والشكل يخضع للرؤيا، فكل رؤيا عاشها ، إلا ووظف لها الشكل الخاص الذي يناسبها... ومن هنا جاء اهتمامه بالقصيدة ككل، ولو يهتم بالبيت الشعري، لأنه يعرف أن البيت سيضعه في حدود ضيقة، وسجن مغلق.. ولذا جاءت قصائده العمودية ذات الشكل البنائي التقليدي معتمدة على التماسك ووحدة الموضوع... يتخللها إيقاع جميل، يطرب الأذن.. وهو واع كل الوعي بان العروض أو البحر الذي يبنى عليه قصيدته هو عنصر من الإيقاع..ولكنه خرج على مضض على العروض، وخرق الالتزام به في قصائده التفعيلية..
وعبد اللطيف غسري بهذا التنويع وهو الكتابة على النمط التقليدي، واعتماد قصيدة التفعيلة، لم ينف من خلاله البيت الشعري القديم. فقد جمع في النموذجين السابقين شكل البيت الشعري...وبالتالي شكل منه نموذجين من النماذج الثلاثة التي حددها الدكتور محمد بنيس في دراسته عن الشعر العربي الحديث، وهي: التقليدية، والرومانسية العربية، والشعر المعاصر.. فوجدنا عنده التقليدية والرومانسية...
وكنموذج عن هذا التنويع نورد النموذجن التاليين من شعر شاعرنا عبد الطيف غسري.
1- النموذج التقليدي: يقول في قصيدته (سيف الملامة):
البدر لا تنتابه الرعدات+++++ أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها+++++أو أشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى+++++فتراقصت من شعرها الخصلات
الليل في أهدابها طفل على+++++كتفيه تعزف لحنها النسمات
يغدو فيربكه الحياء كأنما+++++طبعت على وجناته القبلات
في مقلتيها عندليب دأبه+++++فوق الرموش تململ وسبات
2- النموذج الرومانسي: يقول:في قصيدته(أنين الوتر):
1
النجوم تئن
تبعثر حبات عقد القصيدة
تصرخ في مسمع الليل:
هذا المساء تعيث الجراثيم في أحشاء القمر
أجراس الظلام ترن
تدق بكف الخطر
2
يرقد النهر في أحضان السكينة
منتظرا طلعة الأعين الشهل
والسوسن الغض فيه يحن
يراقب خفق الشجر
ما لأشرعة الضوء غرقى
ما لوشاح الندى لا يغطي رؤوس الثمر
ما بال القناديل تلبد في الظل
ما لهديل الحمام يكن
ومركب هذا الربيع يسافر تحت البصر
وعناقيد هذا الغروب ما بالها تنكسر
تتساقط فوق جبال المدينة
فوق أنين الوتر
- الوزن:
الشاعر نوع في أوزانه الشعرية. فاعتمد في قصائده العمودية على الوحدة الوزنية التي يتساوى فيها عدد التفعيلات في كل من الصدر والعجز... وبذلك تساوت الأبيات وأشطرها، وتساوت كذلك تفعيلاتها... فهي خاضعة لنظام وزني خليلي لا يمكن الخروج عنه، لأن كل خروج يسبب اختلالا عروضيا ، وإيقاعيا في القصيدة.
والقصائد العمودية التي اعتمدناها في قراءة شاعرية عبد اللطيف غسري، بنيت على أوزان هي كالتالي:

الجدول رقم: جدول الأوزان وقافيتها وعدد أبياتها
عنوان القصيدة
الوزن
القافية
سيف الملامة
الكامل
التاء
عصر المغاوير
البسيط
الراء
عيناك تفاحتان
البسيط
الراء
تمرين بي
المتقارب
النون
تقاسيم على أوتار رملية
مجزوء الرمل
الباء
ظبي القصيدة
الوافر التام
الياء المشبعة
جبين من لجين
المتقارب
الزاي(الزين)
كوني لوجودي يا امرأة
المتقارب
الميم
أنا الموج
المتدارك
هاء السكت
قبس العندليب من ألحانك
الخفيف التام
الكاف
قلم ينز حلما
البسيط
الهمزة
حدود حماي صوت الهجرس
الكامل
السين
هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى
الكامل
السين
أنا شبح يختلي بالمرايا
المتقارب التام
الدال المشبعة
فراشة الشبق
الكامل
السين
يا سيد الليل
البسيط
اللام
عاشق الكفتة
المتدارك( الخبب)
القاف
فلسطين يا منتهى شجني
المتقارب
النون
رباعيات عاشق
المتقارب
القاف
بغداد يوم الكريهة
المتدارك
الفاء
غربة قلب
البسيط
الراء المشبعة

هكذا نجد أن المتقارب وظف 6 مرات، ويمثل نسبة 28،57% ، والبسيط 5 مرات، بنسبة 23،80%. والكامل4مرات، بنسبة19،04%،والمتدارك3مرات،بنسبة14،28% ومجزوء الرمل،والوافر، والخفيف ، مرة واحدة...بنسبة 14،31%(4،77X3)...
أما روي القافية، فنجد السين تكررت 3 مرات، والراء كذلك،والقاف والنون مرتين،والباقي تكرر مرتين...
إلى جانب القصيدة العمودية، اعتمد عبد اللطيف غسري القصيدة التفعيلية، وتمثل ذلك في قصيدتين هما (طبق لطعام الليل وأرغفة القلب)، و(أنين الوتر) وجاءا معا على وزن المتقارب...
- القافية:
يؤكد الدكتور عبد الرضا علي[13]، أن القافية هي: مجموعة أصوات تكون مقطعا موسيقيا واحدا يرتكز عليه الشاعر في البيت الأول. فيكرره في نهايات أبيات القصيدة كلها مهما كان عددها( في القوافي المفردة)، كما في قول الشاعر عبد اللطيف غسري:
يا سيد الليل والأفراس والمال+++++متى ستسمعنا من برجك العالي
اهبط إلينا نبادلك القلى مقة+++++فبسمة الدهر لا تبقى على حال
جدد عراك التي قدت حبائلها+++++ بغفلة منك في الماضي وإهمال
وساند الناس في خطب وضائقة+++++ واسق الورود بماء منك سيال
ففي يديك دماء من عروقهم+++++ وفي جيوبك حلم العاشق السالي
وفوق ظهرك أثواب مطرزة+++++ بالرمش من عين ذات المعطف البالي

وعندما نقف إلى شعر الشاعر عبد اللطيف غسري، نجده متنوعا في قوافيه. فقصائده العمودية اعتمدت القافية وحافظت عليها، وبالتالي اتسمت بشاكلة وشكلية القصيدة الكلاسيكية الموروثة.
كما اعتمد الفرباعيات، حيث كل كوبليه له قافيته المستقلة به... مثل قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
متيمتي نور فجر أطل+++++ يشد العقول ويسبي المقل
نسجت لها من دمي بردة +++++ مطرزة بخيوط الغزل
خريدة حسن لها سمرة +++++ بلون الغروب إذا ما اكتمل
أسيلة خد لها طلة +++++ تميت الشجون وتحيي الأمل
----------
يخط الجمال قصيدة شعر +++++ على شفتيها بلون الشفق
ويرسم في بؤبؤي مقلتيها +++++ غلالات نور ذوات ألق
أحن إلى جرس ضحكتها +++++ وعطر لماها الندي العبق
هي الشدو جادت به وهي تقتات قبرة الشرق عند الغسق
----------
لها أثر في شغف الفؤاد+++++ يناجي الجوارح مثل النغم
تهيم بأسراره مهجتي+++++ وإن عز ما أحدثت من ألم
فلا لحن يحلو لها غيره+++++ كأن بها عن سواه صمم
كمال السعادة في قربها+++++ ولم ألق في البعد إلا العدم
أما في قصائده الحداثية، التفعيلية، فإننا نجد تنوعا تقوم عليه القافية في شعره.. إذ نجد القافية المتتابعة، ولو أنه في قصيدته ( طبق لطعام الليل) يحافظ على النموذج التقليدي، إذ يمكن كتابة القصيدة على هذا الشكل دون أن يقع أي تغيير في المعنى:
جناحاه اخترقا حجب الضوء استبقا لرهان العزة في خطوات الأعرج
جفناه التصقا من خشيته أن يعشو عن طرقات المنهج





[1] - صبحي،(محيي الدين)، مطارحات في فن القول، ص:87

[2] - قادري، (عمر يوسف)، التجربة الشعرية عند فدوى طوقان بين الشكل والمضمون، دار هومة ، ص: 109

[3] - الشنتريني،( افن سراج)، أوزان الشعر والكافي في علم القوافي، تحقيق محمد الداية، بيروت، (د- ط)،1974،ص:97

[4] - المرجع نفسه،ص: 98

[5] - اسماعيل، (عز الدين)، الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي، القاهرة، (د- ط)، 1992، ص: 281

[6] - د. يونس، (علي)، نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي،الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د- ط)،ص: 17/18

[7] - ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، 1977، ص: 238

[8] - المرجع نفسه، ص: 112

[9] - فوزي،( عيسى)، النص الشعري وآليات القراءة، منشأة المعارف، مصر ، (د- ط)، 1997، ص: 441

[10] - قادري، (عمر يوسف)، التجربة الشعرية عند فدوى طوقان بين الشكل والمضمون، دار هومة، ص: 148

[11] - العمري، (محمد)،الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، نحو كتابة تاريخ جديد للبلاغة العربية،منشورات دار سال، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص: 3

[12] - بنيس،( محمد)، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، ج3، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء، ط3، 2001، ص: 39
[13] - د. عبد الرضا ، ( علي)، موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 1997، ص: 167

التكرار في شعره

لا تخلو قصائد الشاعر عبد اللطيف غسري من التكرار.. والذي وظف بعناية فائقة، محققا به نغمية، وموسيقى داخلية.. بالإضافة إلى ترسيخ المعاني وتأكيدها...
والتكرار ظاهرة موسيقية، ومعنوية، يؤكد دلالة الجملة الشعرية... بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى رفع مستوى الشعور في القصيدة.. وهو يغني الشاعر عن الإيضاح المباشر، ويغنيه عن الإخبار... وهو رهين بالحالة النفسية.. والحالة التي تكون عليها الذات الشاعرة ساعة خلق القصيدة....
والشاعر عبد اللطيف وظف التكرار في شعره، وجاء متنوعا، لأنه يعي أن :"تكرار الأصوات والكلمات والتراكيب، ليس ضروريا لتؤدي الجمل وظيفتها المعنوية والتداولية، ولكنه شرط كمال أو محسن أو لعب لغوي، ومع ذلك فإنه يقوم بدور كبير في الخطاب الشعري او ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية"[1]..
والتكرار الموظف، نجده على الشكل التالي:
- تكرار الفعل:وهو تكرار يتغيى منه الشاعر عبد اللطيف غسري تبيان استمرارية الانفعال ، والحالة الشعرية، ودينامكيتها.. كما يبن من خلالها حالة المخاض التي يعيشها... وهذا التكرار للفعل جاء متنوعا، وغنيا بدلالته...ومنه:
1- أفعال الاستمرار: وظف عبد اللطيف غسري في شعره أفعال الاستمرار، وهي من النواسخ الفعلية.. كما في قوله في قصيدة ( فلسطين يا منتهى شجني):
أما زال أفقك محتقنا+++++ برائحة الموت والحزن
أما زال طفلك يمشي وحيدا+++++أما زال يبحث عن وطن
أما زال يرجو هبوب الريا+++++ ح من كربلاء إلى عدن
أما زال أهلك في نفق+++++ يتيهون فوق ذرى الدمن
2- الفعل المضارع: كما في قوله في قصيدة ( رباعيات عاشق):
يخط الجمال قصيدة شعر+++++ على شفتيها بلون الشفق
ويرسم في بؤبؤي مقلتيها+++++ غلالات نور ذوات ألق
وقوله أيضا في قصيدته ( عصر المغاوير):
يحلمن غير كليلات القلوب ولا+++++مستسلمات لأهوال المقادير
يبحثن في شفق الآفاق عن ألق+++++ به يحطمن أسوار الدياجير
يرقبن فيه وصال البدر مكتملا+++++وفيه يجتزن أعشاش الدبابير
يثبن منه إلى حقل الضياء بأحلام الصبايا وسيقان اليعافير
وقوله في نهاية نفس القصيدة:
يبعن في كل أسواق الهوى عرقا+++++ يجري سيولا بأبواب المواخير
ينشرن فلسفة الإسفاف في صفحات الليل أو في مجلات المشاهير
يصنعن منها خريفا للحضارة لا+++++ يخضر إلا بأذهان المغامير
وقوله أيضا في قصيدة( أنا الموج):
أعابث صيف المعاني فيحنو+++++ وأشرق في شمسه الحاميه
وأرسم منهن عشرين ألفا+++++ على دفتر الأنجم الباديه
وأختار قطر الندى لي شرابا+++++ وأسبح في البرك الصافيه
وأطلق في هضبات الشعور+++++ دمي وفراشاتيَ العانيه
وأجعل من موطن الشعر حضنا+++++ وأرتاح في كفه الحانيه
- تكرار الضمير: نجد الشاعر عبد اللطيف غسري، يكرر في كثير من قصائده الضمير المنفصل.. ليبين الذاتية التي تتحكمها الحالة الشعرية... والجو الذي يسيطر على الذات الشاعرة.. كما في قصيدته ( قبس العندليب من ألحانك):
أنا أرسلته ليخبر عني+++++ حمما تستطير من بركانكْ
فاسألي المفردات تخبرك عني+++++ أنا شدو المساء في أركانك
صدحت ألسُنُ القصيدة مني+++++ بكتاب ختمته ببنانك
أنا طهر التراب في فلوات+++++ سوف تروى بهمسة من لسانك
وقوله في قصيدته( عصر المغاوير):
فهن متعة دنياكم وهن لكم+++++ نعم الصواحب في كل المشاوير
وهن في منهل التقوى شقائككم+++++ في الصالحات وفي حسن التدابير
- تكرار الحرف: نجد في قصائده :
- تكرارا لحرف الجر ، مثل ما ورد في قصيدته ( أنا شبح يختلي بالمرايا)، حيث يقول:
صحوت وفي الصحو بعض قفول+++++ إلى خبر ينثني أوحدا
إلى جبل ينحني للرياح+++++ إذا راح في جوفها واغتدى
إلى أرق يرتدي زهو نار+++++ وظل ينازعه ما ارتدى
رعته الهواجس حتى غواها +++++ وأوردها شرفات الردى
إلى وتر مل جنب التأسي+++++ وأورق طلحا له أنشدا
- تكرار حرف التوكيد الذي يفيد التحقيق أو التقليل(قد).. كما في قصيدته ( عصر المغاوير)، والتي يقول فيها:
لقد دققتم بنعش الحق من زمن+++++ في ملتقى زيفكم شتى المسامير
وقد عدوتم على أغصان دوحتنا+++++ وغركم صمت أشباه النواطير
تكرار حرفي الاستفهام(أ)، و(هل)، كما في قصيدته ( ظبي القصيدة) و(فلسطين يا منتهى شجني)، واللتان يقول فيهما:
أما زال أفقك محتقنا+++++ برائحة الموت والحزن
أما زال يرجو هبوب الريا+++++ ح من كربلاء إلى عدن
فتقطع دابر مغتصب+++++ له ألف وجه بلا أذن
أما زال أهلك في نفق+++++ يتيهون فوق ذرى الدمن
وقوله أيضا:
فهل أعددت للكلمات سهما+++++ بلا قوس وسيفا مشرفيا
وهل أسرجت خيلك باقتدار+++++ إلى جوزاء حرفك والثريا
وقوله في قصيدته ( غربة القلب) :
هل كان في نيتي أن يستدر دمي
هل كان من عادتي أن أصرع البحرا
- تكرار حرف النداء والمنادى، مثل قصيدته ( طبق لطعام الليل وأرغفة القلب)، والتي يقول فيها:
يا سوسنتي المطمورة
تحت أديم العوسج
خلف جدار الرهبة...
.....................
يا سوسنتي اختبئي
في جيب قميصي
- تكرار الاسم:
1- تكرار أسماء الاستفهام: نجد تكرارا لأسماء الاستفهام ، كما في قصيدته(تقاسيم على أوتار رملية)، حيث يقول:
كيف تحصَى وهي شتى+++++ مثل ذرات التراب
أين مني ذكريات+++++ كن يلزمن ركابي
أين مني شهقات+++++ ملء أنفاس الروابي
2- تكرار الاسم: كما في قصيدته( عيناك تفاحتان) التي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر+++++ وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا+++++ في قامة الليل أو في باحة العمر
عيناك أنت إذا تغشاهما سفني+++++ تمر في أفق قد غص بالحور
- تكرار الظرف: كما في قصيدته ( رباعيات عاشق)، والتي يقول فيها:
إذا حدثت شاقني صوتها+++++ وحملني نشوة كالحزن
أبيت أعد نجوم السماء+++++ وأبحث عن وجهها في القمر
إلام أظل أسير الهموم+++++ يعذبني حبها بالسهر
إذا الشوق زاد اكتفيتُ بأن+++++ أرى سحرها في كتاب الصور
وهذا التكرار الموظف قد أعطى لشعره إيقاعية ، وأغنى موسيقاه وأغنى دلالته..
هكذا نرى أن الشاعر عبد اللطيف غسري قد اعتنى بالتكرار لوعيه لما له من دلالة...كما أنه يعين الدارس على تجلية نفسية الشاعر.....
ويؤكد الدكتور محمد مفتاح أهمية التكرار بقوله:"أن تكرار الأصوات والكلمات ، والتراكيب ليس ضروريا لتؤدي الجمل وظيفتها المعنوية والتداولية .. ولكنه ( شرط كمال) أو محسِّن أو لعب لغوي"[2]... ويضيف قائلا:"ومع ذلك فإن التكرار يقوم بدور كبير في الخطاب الشعري أو ما يشبهه من أنواع الخطاب الأخرى الإقناعية"[3]...
وعبد اللطيف غسري، لا يرى في التكرار فضلة.. وترفا لفظيا.. بل يرى فيه إغناء لتجربته الانفعالية، وعكسا لها.. وهو يعرف أنه:"لا يجوز أن ينظر إلى التكرار على أنه تكرار ألفاظ بصورة مبعثرة غير متصلة بالمعنى، أو بالجو العام"[4]



[1]- د. مفتاح،(محمد)، تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص، ص:39

[2]- د.مفتاح، (محمد)، الخطاب الشعري( استراتيجية التناص)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 1992، ص: 39

[3]- محمد مفتاح، المرجع نفسه، ص: 39

[4]- ربابعة، (موسى)، التكرار في الشعر الجاهلي، دراسة أسلوبية، جامعة اليرموك، الأردن، مؤتمر النقد الأدبي 10- 13 تموز، 1988، ص: 15


المعارضة في شعره

ارتأى أنطوان كمبانيون أن التناص أوسع من السرقات الأدبية، التي جاءت بهاج وليا كريستيفا، وأوسع من التلميح الذي جاء به ميشيل ريفاتير...إذ ربطه بالتكرار، والاستشهاد، والأمثال، والخطاب المباشر، والخطاب غير المباشر، والتقليد، والنقد، والمعارضة، والباروديا، والمصدر، والتأثير، والتعليق، وغيرها...[1]
ورأى مارك ألجندنكر أن التناص يأخذ أشكالا أربعة، وهي: الاستشهاد، والتلميح، والمعارضة، والباروديا[2]...
ويرى الدكتور محمد مفتاح، أن هناك نوعين من التناص: المحاكاة الساخرة ( النقيضة)، التي يحاول كثير من الباحثين أن يختزل التناص إليها، ثم المحاكاة المقتدية ( المعارضة) التي يمكن أن نجد في بعض الثقافات من يجعلها الركيزة الأساسية للتناص [3]...
ويذهب جيرار جينيت أبعد من ذلك ،عندما اعتبر التعلق النصي Hypertextualité أدبا من الدرجة الثانية، وعرفه ( أي التعلق النصي)، بأنه:"كل نص مشتق من نص سابق بواسطة تحويل بسيط أو تحويل غير مباشر"[4]...وأنه ينقسم إلى ثلاثة أشكال تناصية، هي: المعارضة والباروديا، ثم التحريف Travestissement...
وقد اهتم الشاعر عبد اللطيف غسري بالمعارضات الشعرية، واعتبرها نوعا من التفاعل النصي، والشعري.. مع نصوص أخرى مؤثرة....واعتبرها- أيضا- نوعا من المحاورة مع هذه النصوص المؤثرة...
1- مفهوم المعارضة Pastiche:
يؤكد الأستاذ الدكتور عبد القادر بقشى في كتابه " التناص"، إلى أن المفهوم الاصطلاحي لكلمة(معارضة) في المعاجم العربية له معنيان، هما:
- معنى حسي: حين يدل على السير والمحاذاة...
- معنى معنوي: ويدل على المقابلة والمباراة، وتحقيق المناقضة.
وبالتالي ، نرى أن مفهوم المعارضة اللغوي، هو:"المقابلة، والمحاذاة،والمباراة، والمناقضة..."
وقد اهتم النقد العربي القديم بالمعارضة، حيث اعتبرها نوعا من الموازنة، والمفاضلة بين الشعراء.. وهذا ما نجده عند الأصمعي، وأبي عبيدة، وعند الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري.. وعند حازم القرطاجني، اللذان يريان أن المعارضة لا تتحقق في نصين إلا إذا اجتمعا في غرض ووزن وقافية.[5] ولو أنهما ( الآمدي و حازم القرطاجني) لم يصرحا بلفظة المعارضة في كتابيهما.لينتقل المفهوم إلى معاني أخرى ، هي: المجاراة، والمساواة،والمخالفة، والاختلاف.
وقد اتفق النقاد العرب القدامى، على أن المعارضة لا تكون بإبدال كلمة مكان أخرى.. ولكن بإنشاء كلام فني يأبى التشابه، ويحقق الاختلاف[6]..
واهتمت الدراسات النقدية الحديثة بالمعارضة، إذ اعتبرتها :"أن يقول الشاعر قصيدة في موضوع ما ومن أي بحر وقافية. فيأتي شاعر آخر فيعجب بهذه القصيدة: بجانبها الفني وصياغتها الممتازة. فيقول قصيدة من بحرها وقافيتها وفي موضوعها (...) حريصا على أن يتعلق بالأول في درجته الفنية، أو يفوقه فيها"[7]...
والمعارضة إما معارضة صريحة حين يكون التوافق في كل شيء...ومعارضة ضمنية وغير تامة...إذا ما نقص شرط من شروط المعارضة السابقة أعلاه...
والشاعر عبد اللطيف غسري، قد تضمنت أشعاره بعض المعارضات، فنجده عارض قصيدة الشاعر المغربي الكبير الدكتور مصطفى الشليح( وبنرجس .. لا تنبس)، والتي يقول فيها:
فيم الشكاة تجوس ليل النرجس++++ طرفا صحا متوجسا لم ينعس؟
حدس المساء يدس في أجراسه++++ قبسا من الأجراس لما يقبس
كنس الفضاء بشمسه ليجسها++++ بيد الظلام قصيدة لم تنبس
شمس على جلبابها همس سرى++++ مستأنسا بالهمس عند المجلس
مثل الهسيس يرف من أنفاسه++++طيبا إلى الأنفاس سار بمعطس
يكسو الرواء بسندس من سندس++++ فإذا الرواة سفارة للجلس
سأسو الكلام جراحه بكلامه++++وجراحه بوشاحه في مقدس
يرسو على آهاته متلبسا++++ أقواسه...فكأنه بالملبس
قوس تغرس في عبارته التي++++ عطست ستارتها بهاء ملبس
قوس كأن الليل يمحو طرسه++++ بيد لتجرحه يد المتلمس
اجلسْ إليك صحيفة ماسية++++ واحدس قليلا من بهاء النرجس
ثم اختلس منه وسامته التي++++ بسمتْ.. فلا عين رأت بالمجلس
اهمسْ بكل قصيدة ضوئية++++ ما شئت ..إنك للقصيدة ، فاهمس
احرسْ ظلال الماء في أقداسها++++ من حبسة المعنى.. وماءك فاقبس
انبسْ بقولك .لا.لصمتك خفقة++++ لغوية ..وبنرجس..لا تنبس
وقد عارض هذه القصيدة بقصيدتين، الأولى (هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى)، والتي يقول فيها:
نبست مفاتنها بما لم أنبس++++ قالت هنا حسن التجلي فاجلسِ
واملأ قوارير المساء مدامة++++ واسق الفؤاد قصيدة واستأنس
إن ضل صوتي عن مسامعك استمع++++ أو غاب عنك هلال وجديَ فاحدس
وانسج على منوال همسيَ بردة++++ واصرخ إلي بملء صوتك واهمس
هذي حديقتي الصغيرة فانتسب++++ هذا غديري تحت رجلك فاغطس
وهنا يتبادر لنا ركام من الأسئلة: لم هذه المعارضة؟ وفيماذا تمت ؟ وما قيمتها الجمالية والفنية؟ وماذا قدمت هذه المعارضة للشاعر عبد اللطيف غسري؟...
لقد تمت هذه المعارضة ن وتحقق من خلالها نوع من التشابه على مستوى:
1- الوزن: فقصيدة الدكتور مصطفى الشليح جاءت على وزن الكامل التام( متفاعلن متفاعلن متفاعلن).... وقصدتا عبد اللطيف غسري جاءتا على نفس الوزن ، أي البحر الكامل. مع ما دخل على تفعيلاته من زحافات وعلل.
2- القافية: قصيدة الدكتور مصطفى الشليح، قافيتها سينية. كذلك قصيدتا عبد اللطيف غسري،جاءتا على قافية سينية مشابهة.
3- الألفاظ المستعملة( القاموس أو المعجم المستعمل): في القصيدتين للشاعر عبد اللطيف غسري، نجد توظيفا لكثير من الألفاظ التي وردت في قصيدة الدكتور مصطفى الشليح... والجدول التالي يبين ذلك:
الجدول رقم: جدول الكلمات المستعملة في القصائد بثلاثتها
كلمات قصيدة الدكتور مصطفى الشليح
قصيدة (حدود حماي صوت الهجرس)لعبد اللطيف غسري
هل أشتكيك لبعض أنسام الدجى(عبد اللطيف غسري)
الشكاة-تجوس-ليل-النرجس-لم ينعس- حدس-المساء-أجراسه-قبسا- كنس- الفضاء شمسه-يجس-الظلام-قصيدة-تنبس-جلبابها-همس-سرى-مستأنسا- المجلس- الهسيس- يرف-أنفاس-طيب- معطس- يكسو- الرواء- سندس- الرواة- سفاره- الجلَّس-يأسو- جراح- الكلام- بوشاح- مقدس- يرسو- آهات- متلبسا-أقواس- الملبس- ماء- يمحو- طرسه-المتلمس- اجلس-صحيفة-ماسية-احدس-بهاء-اختلس-وسامته- بسمت-لا عين- اهمس- ضوئية- للقصيدة- ظلال- احرس-أقداسها- حبسة- فاقبس- خفقة- صمتك- لغوية-
اشرح- ظل- البسي- أثواب-تتوجسي-الشفق-أذياله-وجنتيك-الجواري الكنس-أهفو-تشتغل- القصيدة-برهة-ناصيتي-الأسيل-الملمس-اهزني-صخبا-الصدى-قمم-الغمائم-سفوح-سيري-اوتار-عشقي-اسبحي-الطيف-ملكوت-صمتي-انعسي-ما خطب-قلبك-بين كفيك-استوى-متضرجا-القافيات-الخنس-دم الكلام-يسيل- شفتيك- يمتار اخرس- تتأجج- الكلمات- جمراته- جوف الليل- أشرس- حمي- الوعيد- بنفسج- الياسمين- لون- حزنك- يكتسي- لا تشتكي- درة- تحتلني- متنفس- يضيف- أفق- تمكثين ببابه- تضيق- أقفاص- الدجى- النورس- تحسبين- حرر حسنك- آسري- مزفت- ملبسي- انسك- يستبد بوحدتي- دعي- بساتين- لا تتجسسي- شذاك- المدى- فتطيبت- أنوف- الجلس- تذكري- أجوس- البحر- لغتي- حدود حماي- صوت الهجرس.
نبست- مفاتنها- انبس- جست- قالت- التجلي- فاجلس- املأ قوارير- المساء- مدامة- اسق- الفؤاد- قصيدة- استأنس- ضل- صوتي- مسامعك- استمع- غاب- هلال- وجدي- فاحدس- انسج- منوال همسي- بردة- اصرخ- صوتك- اهمس- حديقة-انتسب- غديري- رجلك- فاغطس- نامت- كتفيك- ذاكرتي- نظفتها- ليلي- المتكدس- تحسس- الورد- يعتادها- فاحن- كفك- المتحسس- أرخيت- الستائر- جملة- رغبت- صنو- الندى- مجلسي- التمنع- يديك- جريدة- مشؤومة- صحيفة المتلمس- أشتكيك- أنسام الدجى- شذا- النرجس.
4- الموضوع: الشاعر مصطفى الشليح في قصيدته (وبنرجس...لا تنبس)، والتي يهديها إلى الشاعر عبد اللطيف غسري، ويضمنها انطباعه عن الشعر، والقصيد، وخلق الشعر...ويطلب فيها من الشاعر غسري أن يجول في عالم الشعر، ويدخل سحرها وعوالمها... وأدغالها..وأن يسهر وراء شواردها.. ويقتبس من الكلمات ما يراه وردا ونرجسا يزين قصيدته...وأن يجلس إلى الشعر ، يتمحصه، مستحضرا القصيدة العربية، يحدس منها.. ويختلس منها بعض البسمات الجميلة...إنها دعوة إلى الشعر من شاعر إلى شاعر...
وفي قصيدتي عبد اللطيف غسري، نجد الموضوع لا يبتعد عما سطره الشاعر مصطفى الشليح..فيرد عليه ،أنه فعلا يدعو القصيد ليلا.. ويجلس إليه.. متمعنا في عوالمه.. يسوس عنانها، بعدما تشتعل القصيدة في خاطره.. ويأخذ بناصيتها، يزين أوصالها بلغة حالمة .. شاعرية.. وأنه لا يتوانى في نسج همساته قصائد... لا تقل جملا ، وشاعرية عن القصائد العربية كالبردة، وغيرها... وأنه كل ليلة يدخل حديقته الغناء، والتي هي حديقة الشعر.. ويغطس في غديره، بحثا عن لآلئ الشعر...
5- المسافة الجمالية أو الانزياح الجمالي: عندما نقارن النصين المعارَض، نجد أنهما يختلفان عنه من حيث القيمة الجمالية والشعرية..فأفق توقعاتهما تختلف عن النص الآخر.. فهي تتشابه في مسائل حددناها آنفا.. لكنها تختلف من حيث القيمة الفنية، والجمالية.. وهنا تلعب تجربة الشاعرين مصطفى الشليح، وعبد اللطيف غسري، وثقافتهما الشعرية، واطلاعهما الواسع على الشعر العربي ، دورا في هذه المعارضة، وتميز الرؤية الشعرية من شاعر إلى آخر...
لذا"ليس القول باختلاف النص المعارض، ذلك التحويل التام لمكونات النص المعارَض حتى لا علاقة ولا شبه بينهما. بل هو التحويل الذي يظل فيه النص النموذج طاقة تفجير لنصوص لاحقة ومصدر توليدها"[8]...
صحيح أن نص الدكتور مصطفى الشليح قد أوحى للشاعر عبد اللطيف غسري بقصيدتين.. لكن المستوى الفني والجمالي متباين جدا... وبذلك أعطتنا هذه المعارضة شبيهين مختلفين في الروح مع النموذج الأصل...
هذا يجعلنا نستحضر قولة للدكتور محمد مفتاح للاستشهاد بها... حيث يقول، بأن أي:"نص مهما كان ليس إلا إركاما وتكرار لنواة معنوية موجودة من قبل. ومعنى هذا اننا نعتبر النص الاول يتكون من مقومات(+أ)، (+ب)،(+ج)... والنص اللاحق له، الناسخ على منواله يحتوي على مقومات (+أ)،(+ب)،(+ص)..أو على (+أ)، (+ب)،(+ك)...فعملية الاشتراك في مقوم أو عدة مقومات ضرورية لتجنيس الخطاب اللاحق، مع السابق. فكلما قل الاشتراك في المقومات زادت فرادة الخطاب التالي وأصالته. وكلما اشترك النص في كثير من المقومات مع ما سبقه كاد أن يصبح نسخة مكرورة فاقدة للأصالة"[9]...
وهذا يدفعنا إلى القول أن الشاعر عبد اللطيف غسري كان موفقا في معارضته لقصيدة الدكتور مصطفى الشليح، واستطاع أن يربح الرهان ويعطينا قصيدتين متميزتين لا تخلوان من فنية، وجمال وإبداعية.


[1] - Compagnon , ( Antoine) : La seconde main ,ou le travail de la citation, Ed : Seuil, Paris , 1979, p : 54

[2]- د. بقشى، ( عبد القادر)، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، أفريقيا الشرق، (د-ط)، 2007، ص: 54

[3]- د. مفتاح،(محمد)، تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية التناص)، ص: 122

[4] - Genette ,(Gérard) : Palimpsestes, la littérature au second degré, Ed : Seuil ,1982, p :14

[5]- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق، محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط3، 1986، ص:376

[6]- د. عبد القادر بقشى، المرجع نفسه، ص:63

[7]- الشايب، (أحمد)، تاريخ النقائض في الشعر العربي، دار الاتحاد العربي للطباعة، القاهرة، مصر، ط3،1966، ص: 7

[8]- المصفار، (محمود)، التناص بين الرؤية والإجراء في النقد الأدبي،مقاربة محايثة للسرقات الأدبية عند العرب، (د- ط)، (د- ت)، ص: 424

[9]- د. مفتاح،(محمد)،المرجع نفسه، ص: 25

قديم 08-14-2014, 02:13 PM
المشاركة 24
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الصورة الشعرية في شعره

يتميز الشاعر عبد اللطيف غسري ببعد النظر، وعمق الرؤيا.. وهذا ما يلمس من شعره.. وقد استأثرت الصورة الشعرية باهتمامه، لما لها من أهمية.
والصورة الشعرية هي:"إعادة إنتاج عقلية، ذكرى لتجربة عاطفية أو إدراكية عابرة، ليست بالضرورة تعبيرية مباشرة"[1]...
والصورة مرتبطة بنفسية الشاعر، وهي جزء حيوي في عملية الخلق الفني.. وهي روح التجربة الشعرية، وبؤرة تشكيلها الجمالي.
والمتتبع لشعر عبد اللطيف غسري، يجد أن فيه استعمالا للأنماط البلاغية في رسم الصورة الشعرية.. كما كان متداولا عند الأقدمين، أو كما تعرفه القصيدة الكلاسيكية.. فنجد الشاعر يتوسلها بالتشبيهات، والمجازات، والاستعارات..
والصورة الشعرية الموظفة في شعره نجدها على الشكل التالي:
1- الصورة التشبيهية:وظف عبد اللطيف غسري الصورة التشبيهية في شعره، فتعددت أنواعها وأشكالها.. ومن التشبيهات الموظفة، نجد:
- التشبيه المرسل المجمل: وهو التشبيه الذي ذكرت فيه الأداة وحذف منه وجه الشبه، وهو كثير عند عبد اللطيف غسري.. وقد استعمل فيه أدوات التشبيه ليبين صوره.. ومن هذه الأدوات نجد(كأن- الكاف)، كما في قوله:
شرفاتي تصهل يا امرأة++++ يتدفق في يدها النغم
ويضيء العشب إذا برزت++++ كسراج تعشقه الظلم
وقوله أيضا:
تهيم بأسراره مهجتي++++ وإن عز ما أحدثت من ألم
فلا لحن يحلو لها غيره++++ كأن بها عن سواه صمم
وقوله أيضا:
ليس يحصيها خيالي++++ بالتخفي والغياب
كيف تحصى وفي شتى++++ مثل ذرات التراب
كما نجد نمطا ثانيا من التشبيه في شعر عبد اللطيف غسري، وهو:
- التشبيه البليغ: وهو تشبيه لا تذكر فيه أداة التشبيه، ولا وجه الشبه، كما في قصيدته ( عيناك تفاحتان)، والتي يقول فيها:
عيناك تجترحان الرشق بالخفر++++ وتجرحان خدود الماء والقمر
عيناك تفاحتان امتدتا وهجا++++ في قامة الليل أو في باحة العمر
ففي هذين البيتين نجد الشاعر وظف تشبيها بليغا وهو(عيناك تفاحتان) وهي تشبيهات كلها حذفت منها الأداة ووجه الشبه.
ففي المثال الأول نجد الشاعر يشبه عيني المحبوبة بالتفاح(عيناك كتفاحتين)، وهي تشبه التفاح جمالا، واستدارة،وألقا...كما أنه استعار للماء خدودا...ووجه الشبه في ذلك النضارة، والبريق، والملوسة، والصفاء، والإشراق...
وكل هذه التشبيهات تشبيهات حسية، الشيء الذي يجعل من الصور الشعرية، صورا مادية ملموسة...
- الصورة الاستعارية:
الاستعارة، تشكل وجها من وجوه المجاز اللغوي لعلاقة هي المشابهة مع قرينة ملفوظة، أو ملحوظة تمنع إرادة المعنى الحقيقي[2].
وقد اهتم عبد اللطيف غسري بالصورة الاستعارية، لأنه يعرف أنها:"قمة الفن البياني وجوهر الصورة الرائعة، والعنصر الأصيل في الإعجاز، والوسيلة الأولى التي يحلق بها الشعراء وأولو الذوق الرفيع إلى سماوات من الإبداع ما بعدها أروع ولا أجمل ولا أحلى"[3]..
ومن نماذج الصور الاستعارية التي وظفها الشاعر عبد اللطيف غسري، ما نجده في قصيدته ( سيف الملامة)،حيث يقول:
البدر لا تنتابه الرعدات++++ أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها++++ أو أشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى++++ فتراقصت من شعرها الخصلات
الليل في أهدابها طفل على++++ كتفيه تعزف لحنها النسمات
ففي هذه الأبيات صور جميلة، حيث استعار أوصافا شبه بها حبيبته بالبدر لبياضها، وجمالها الفضي...وأنها ثابتة لا تعرف تغيرا في سلوكها، أو عواطفها ومشاعرها...لا تعرف الخوف ، ولا الارتجاف...
والجميل هنا ن هو أنه جعلنا نتصور القمر جسدا، أو كائنا له أحاسيسه.. إلا انه ثابت الجنان، لا يرتعد خوفا أو فرقا...
كما أنه استعار الإشراق والشروق،واللذان هما سمتان لازمتان للشمس..ليلبسهما للبسمات التي ترتسم على شفتيها..كأن شفتيها شمس تشرق ضحكات وبسمات...
كما شبه حسناءه بالمها(الخنساء)، وهي البقرة الوحشية...وهو اسم كان الشاعر القديم يطلقه على المرأة الجميلة ذات العينين السوداوتين، وذات الحور...وذات اللحاظ الكبيرة...وذات الشعر الأسود الكحيل.. تتطاير خصلاته مع النسيم.. وهذا الشعر من شدة سواده، شبهه بالليل ليطلقه على لون شعرها...المتمايل، والمتطاير على كتفيها كأنه في حالة رقص، وغناء...
يقول في قصيدته (أنين الوتر):
يرقد النهر في أحضان السكينة
منتظرا طلعة الأعين الشهل
والسوسن الغض فيه يحن
يراقب خفق الشجر
فهو في هذا المقطع ن يقدم لنا صورة شعرية،تعتمد على الرمز والتصوير... فهو نسج صورة حسية ومجردة..إذ آدمي في حالة نوم واسترخاء...وهو مستلق في أحضان السكينة، والتي هي حالة مجردة نفسية....تتحول في هذه الصورة إلى حسناء، تضم إليها هذا النهر الراقد.. وبالتالي تتحول الصورة إلى رمز للطبيعة ومكوناتها.. وما يعمها من جمال وفتنة...
والجميل أننا أحيانا ، نجد شاعرنا عبد اللطيف غسري، يتلمس هذه الصورة ، والاستعارات مستخدما بعض الأساليب مثل النداء، أو الاستفهام، أو الإخبار،أو النفي، مثل قوله:
سافرت كالشفق المبتل صوبهما++++ ما للبنفسج في عيني من أثر
فقد استعار الحمرة التي يمتاز بها الشفق لحمرة الخدود اللذان تبلتهما دموع العينين..كما انه استعار البنفسج ولونه الأرجواني، والأبيض ليرمز به للدمع الذي ليسكن العينين، معتمدا على أسلوب النفي المتمثل في ( ما) بمعنى (ليس)...
وقوله:
هل يد الشوق منك تمتد طولى++++ أم لغصن الرجاء مني اهتزاز
إذ استعار للشوق والحنين صفات جسدية محسوسة.. وجعل له يدا تتصرف كما تشاء...كما أن لتسرب الشكّ، وبعض اليأس، يصبح الأمل والرجاء قليلا..
وتدبدبه ما بين اليقين والشك، جعل الشاعر يستعير صفات للشجر.... وعلاقته بالريح، ونتاج هذه العلاقة هو الاهتزاز والتمايل..ولذا شبه هذا الشعور بالشك واليأس، وفقدان الأمل باهتزاز الأفنان جراء الريح.. وما الريح إلا رمز للهجران والبعد ، والنوى.. وقد وظف في صيغة هذه الصورة أسلوب الاستفهام(هل......)



[1]- قادري، (عمر يوسف)،التجربة الشعرية عند فدوى طوقان، ص:74

[2]- البكري، (شيخ أمين)، البلاغة العربية في ثوبها الجديد(علم البيان)، دار العلم للملايين، بيروت، ط7، 2001،ص:67

[3]- المرجع نفسه، ص:100

مفهوم الشعر عند عبد اللطيف غسري

الشعر فهم للتجارب، ويتمظهر هذا الفهم في الصياغة اللفظية.. وشاعرنا عبد اللطيف غسري يجعلنا من خلال شعره وشاعريته نرى الشعر لذة ومنفعة، ومتعة... وجمالا...مع العلم:"أن الشعر هو رد الفعل الشخصي الذي يحدثه الكون على نفس الشاعر"[1]...
وقد رأى كثير من النقاد ، أن الشعر لا يسمى شعرا إلا إذا توفرت فيه أركان ثلاثة، هي:
1- أن معانيه تصب في صور خيالية تثير خيال القارئ أو السامع.
2- أن تتوفر في ألفاظه صفة التجانس بين اللفظ والمعنى. وتتوفر فيها صفة الجرس الموسيقي.
3- الوزن الشعري وخضوع الكلام في ترتيب مقاطعه إلى نظام خاص[2]...
ولا نريد أن ندخل في ماهية الكلمة(الشعر)، فهي واسعة جدا...يقول قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر)، معرفا الشعر:"إنه قول مقفى يدل على معنى"[3]...وهذا يجعلنا نتبين أن مقومات الشعر عنده أربعة، وهي:اللفظ والمعنى،والوزن،والقافية. وهذا كان معروفا لدى كثير من علماء العروض والشعر...
وقد تبعه الكثير في هذا التعريف، إذ نجد ابن رشيق القيرواني، يقول في (العمدة):"إن بنية الشعر من أربعة أشياء.. وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية"[4]...ويتبعه في القول ابن خلدون في (المقدمة)، حيث يقول:"هو الكلام الموزون المقفى، ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد ، وهي القافية"[5]...
ويعتبره ستدمان:"انه هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجديد، والذوق والفكر والعاطفة وعن سر الروح البشرية"[6]...
ومن خلال ما أوردناه من تعاريف، نتبين أن قاسما مشتركا يجمع بينها، وهو:
- اشتراط الوزن في الشعر العربي عند الجميع.. وعلى أوزان الخليل..ولو أن هذا الكلام يتناقض مع ما تعرفه الساحة الأدبية من ازدهار للقصيدة الحرة، وقصيدة النثر...
- اشتراط القافية في الشعر.... ولو أن هذا أصبح اليوم شرطا متجاوزا.
هذا يجعلنا نتساءل بماذا يتميز شعر الشاعر عبد اللطيف غسري؟.ما هي خصائصه العامة؟...
من الخصائص التي نجدها في شعره، ما يلي:
1- العاطفة:إن شعر عبد اللطيف غسري غني بعاطفته.. ونقصد بها شعوره الوجداني.. وهذه العاطفة التي تغلف شعره، هي شعور بحقائق الأشياء..وتحدث هذه العاطفة عن حالة انفعال وتأثر...وعلم النفس أكد أن العاطفة هي استعداد وجداني مركب، وتنظيم مكتسب لبعض الانفعالات الموجهة نحو موقف معين، تدفع صاحبها للقيام بسلوك خاص[7]...ويقسمونها إلى نوعين:
- عاطفة الحب.
- عاطفة الكراهية.
وبينهما تدور الحياة العاطفية والوجدانية.. وتقوم على مبدأين أساسيين، هما: اللذة والألم. ولكل مبدأ انفعالاته الخاصة به.وبالتالي تتنوع العاطفة وانفعالاتها ما بين الفرح، والحزن، والغضب، والقلق، والانشراح.. وما إلى ذلك...وهذا كله يجعل العاطفة لا تخرج عن اثنين: حب أو كراهية...
وشاعرنا عبد اللطيف غسري بشر تتلون نفسه باختلاف الحالات والمواقف. وبالتالي ، تتنوع عواطفه..التي تحرك فيه الشعر.. وتخرج الألفاظ والصور معبرة عن هذه العاطفة في وجه من وجوهها...
وعندما نتمعن فيها نجده يوجه عواطفه أو عاطفته إلى اتجاهات متعددة، ومتنوعة:
- نحو شخص.
- نحو جماد( الطبيعة).
- مثل عليا وأفكار وقيم ( الوطن- قضايا عربية....).
وهذه العاطفة يمكن قياسها من خلال مقاييس نجملها في التالي:
- صدق العاطفة أو صحتها.
- قوة العاطفة أو روعتها.
- ثبات العاطفة أو استمرارها.
- تنوع العاطفة أو شمولها.
- سمو العاطفة أو درجتها.
ومن الشعر الذي تتعالى فيه عاطفته، نجد قصيدته(تمرين بي...)، والتي يقول فيها:
تمرين بي..لكأني الشجون++++وغيماتها..أو كأني السكون
أنا واقف في زوايا اشتياقي++++ تعيش بثوب ربيعي السنون
أصارعُ وجديَ في درب صمتي++++ ويَصرَعُني مِن شذاكِ الفُتون
وأنت هناك...تمرين بدرا++++ له في سماء التجلي كمون
ألم تستثرك الإشارات يوما++++ألم تختمر في رباك الظنون
تمرين في وجنتيك الأقاحي++++ يسافر في لونهن المجون
وفي شفتيك استدارات ورد++++ يكون له الشوق أو لا يكون
إذا افترتا عن بياض الأماني++++ رذاذ الرجاء تدر الجفون
ولكن ثلج محياك ترجى++++ حياة على دربه أو منون
ويا لطفولة عينيك! كم ذا++++ بعينيك يصهل مهر حرون
2- الخيال:لا بد للشاعر من خيال في رسم صوره.. وتحلية شعره.. وهو:"الإضافات التي يضفيها الشاعر على الصورة الحقيقية لتبدو جميلة"[8]...
والخيال وليد العاطفة، وهو يهدف منه الشاعر : الإمتاع بعمله الفني الشعري.ونلمس الخيال في شعر عبد اللطيف غسري من خلال ما استعمله من استعارات، وتشبيهات، كما في قوله في قصيدته(أنا الموج)، والتي يقول فيها:
لبدر الرؤى نظرة ساجيه++++ تراقبه مقل وانيه
يبادله الشفق الغمغمات++++ فيشرب حمرته القانيه
تحييه بالغمزات النجوم++++ وترمقه السحب الجاريه
تظل سماؤك تنثال يا++++ فؤاد رذاذا على الرابيه
ومن رحم الخوف يرتد وهم++++ لينخر كالسوس في الساريه
3- الروح الشعرية:وهي المعنى الدائم في التعبير، كلما ترجم من لغة إلى أخرى..وقد عمل عبد اللطيف غسري على ترجمة مجموعة من القصائد من الإنجليزية إلى العربية، واستطاع أن يحافظ فيها على روح الشعر ، بل يزيدها من روحه الشاعرة ...
4- الموسيقى:عندما نقرأ قصائد عبد اللطيف غسري، نتيقن أننا أمام شاعر كبير..يجنح به الخيال إلى آفاق بعيدة..في شعره موسيقى ملهمة,, تجعلنا نتيقن أن:"الشاعر كائن أثيري مقدس،ذو جناحين لا يمكن أن يبتكر قبل أن يلهم فيفقد صوابه وعقله. ومادام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر"[9]....
وقصائد غسري غنية بموسيقاها، لما وفرته فيها الأوزان الخليلية الموظفة فيها من نغمية وهرمونية وموسيقى...وهذا ما دفعه إلى الالتزام بالقصيدة العمودية، وبكل تقاليدها الفنية التي التزمها الشعراء القدامى في قصائدهم.

والشاعر المغربي عبد اللطيف غسري، يعي جيدا أنه يكتب لقارئ معين.....قارئ يتذوق القصيدة العربية في وجهها التقليدي، ووجهها الحداثي...
ففي قصائده هذه نجده يتغيى قارئا ضمنيا، يكون ذا تحقق نصي يضمن فعل القراءة، ووقعها.. ويحيا فعلها...
إن القصائد التي بين أيدينا، تخضع لجدلية تحاضر النموذج..إذ أن حركيتها وتحركاتها، هي في اتجاهات ثلاثة:
- من الماضي إلى الحاضر.
- من الحاضر إلى الحاضر.
من الحاضر إلى الماضي.
هذه الحركية التي يتغياها الشاعر عبد اللطيف غسري، خلخل بها المرجعية الموروثة.وأعاد تشكيلها ، وبناءها من خلال منظوره الخاص.. ومعناه:"أن النموذج الذي يتحرك نحو الماضي نموذج لا بد له من أن يستند إلى مرجعية معينة.. ولكن هذا الاستناد لا يعدو أن يكون امتصاصا لما هو سابق وقديم..استيعابا لعناصره المختلفة، ومكوناته. ثم إعادة لتشكيلها وبنائها، ليصبح النموذج ذا أثر رجعي"[10]...
وهذا يدفعنا إلى تبين مفهوم الشعر وكتابته عند شاعرنا عبد اللطيف غسري.
وهو يعرف أن الشعر – كما يقول في حوار له مع الأستاذ محمد فري- وما يزال أقل الفنون استقطابا للجماهير. ويرى أن هذا أمر تعزى أسبابه إلى طبيعة هذا الفن التي تتسم بنوع من "التعقيد التعبيري" الذي لا يستطيع إدراكه جميع المقبلين على الاغتراف من معين الفنون الإنسانية كلها. إن متلقي الشعر مثل قارئه يتوفر على أدوات خاصة تمكنه من فهم خصوصيات هذا الفن وتمثل إيحاءاته ومحاولة استيعابها. فالشعر مثلا يعتمد على الرمزية والإيحاء والبعد عن الطرح المباشر للمواضيع وهذا يسبب تشويشا أو على الأقل عدم وضوح الرؤية عند غير القادرين على قراءته واستيعابه. لذلك كله يبقى الشعر فنا "نخبويا" إذا جاز استخدام هذا اللفظ. لكن هناك أنواعا من الشعر تتميز بنوع من البساطة في الطرح على مستوى الشكل والمضمون وهي قادرة على أن تستقطب عددا أكبر من المتلقين مما قد يستقطبه الشعر المتلفع برداء الرمزية العالية والتعقيد الفكري والفلسفي.
ويرى الشاعر عبد اللطيف غسري أن ما ترمي به المطابع يوميا من دواوين شعرية ،لا يشير إلى شعبية أكبر للشعر، خصوصا إذا علمنا أن معظم هذه "الدواوين" ليس على مستوى عال من الشاعرية وينتهي أغلبه إلى رفوف المكتبات.
كما ينبه إلى خطورة المنتديات الرقمية، والتي أضحت تستثير اهتمام عدد كبير من المتأدبين في العالم العربي فصاروا يرشقونها بما يعنّ ُلهم من خواطر قد لا تصل إلى مستوى الشعر كما يراه ويفهمه وينظر له الخبراء به. وقد أدى هذا إلى وضع اختلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن الكثيرين من هؤلاء المتأدبين أو المتشاعرين يُطبَّل لهم ويُهتف في كثير من هذه المنتديات. أجل، كان للتطور التكنولوجي الذي نعيشه في عصرنا الحالي أبلغ الأثر في تغير نظرتنا إلى الشعر والأدب عموما على الأقل من حيث أدواتهما الضرورية .
والشاعر عبد اللطيف عندما بدأ يكتب الشعر أول مرة وجد نفسه يخوض غمار صراع جارف بين عشقه للشعر العربي الأصيل الكلاسيكي وانبهاره بالشعر الحديث الذي يعتمد على تحديث الصورة الشعرية والابتكار على كل الأصعدة بما فيها الشكل. كان خياله الشعري موزعا بين هذا الإرث الضخم الذي تركه لنا شعراء العربية الفطاحل منذ العصر الجاهلي وبين هذا الأثر الفادح الذي خلفه تأثر شعرائنا المعاصرين الكبار بالثقافة الغربية. كان لكلا التيارين المتباينين سطوته الجبارة على فكره ووجدانه. وكان يتساءل في نفسه: "أي الاتجاهين ينبغي لي أن أسلك في تجربتي الشعرية؟.."
لا يعني هذا أنه كان يخطط لنفسه مسارا معينا في الشعر، فالشعر الحقيقي يأتي هكذا عفو الخاطر لا تكلف فيه ولا تخطيط مسبقا له. لكنه كان يريد أن يرضي رغبتين متباينتين في نفسه: أولاهما أنه كان يرغب في الإخلاص لشعرنا العربي الأصيل بما يتميز به على مستوى الشكل والمضمون عن باقي روافد الشعر الأخرى،والثانية أنه كان يريد أن يكتب شعرا يحترم روح العصر الذي يعيش فيه وثقافته. وقد خلص في نهاية هذا الصراع إلى الاقتناع بوجوب كتابة شعر يجمع بين هذين الأمرين المتنازعين في خياله الشعري: الأصالة والحداثة. وقد تساءل: "لِمَ لا نكتب شعرا حديثا ينتمي إلى العصر الذي نعيش فيه مع الحفاظ على خصائص شعرنا العربي الأصيل على مستوى الشكل؟ "...
لذلك نجده في قصائده الأخيرة يحاول أن يكتب شعرا عموديا ملتزما بالقافية والوزن التزاما صارما لا ترهل فيه لكن مع محاولة ابتكار صور شعرية جديدة يقول من خلالها أنه ينتمي إلى العصر وروحه وثقافته.
هذا سيحفزنا على معانقة شعر هذا الشاعر الجميل، ومحاولة استجلاء بعض جوانبه الشعرية..

[1]- د.شرف،(عبد العزيز)و، د. خفاجي،(محمد عبد المنعم)،النغم الشعري عند العرب،دار المريخ للنشر،الرياض،(د- ط)،1987، ص:11

[2]- المرجع نفسه، ص:11/12

[3]- قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص:5

[4]- ابن رشيق القيرواني، العمدة،1/77

[5]- ابن خلدون(عبد الرحمن)، المقدمة، مطبعة التقدم، ص:647

[6]- الشايب، (أحمد)،أصول النقد الأدبي، ص:294

[7]- النغم الشعري عند العرب، ص:22

[8]- النغم الشعري عند العرب، ص:23

[9]- النغم الشعري عند العرب، ص: 42

[10]- بلمليح، (إدريس)، القراءة التفاعلية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2000، ص:13

قديم 08-15-2014, 11:06 PM
المشاركة 25
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي

قراءة في قصيدة (حَنـَانـَيْكَ يا طـُهْرَ المسافةِ...) للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم: الأديب والناقد المصري محمد عبد السميع نوح

رأيتُ بمرآتي العهودَ الخواليا
لها أثرُ الذكرى بـِيَوْمي وحاليا

تـَباعَدَتِ الأزمانُ لكنَّ ثِقـْـلـَها
يَنوءُ بهِ مستقبلي ومآلِيا

رأيتُ شماريخَ الطفولةِ غَضَّة ً
تطوفُ بوجداني وتـُذكِي خـَياليا

يُزاحمُها نبضُ الشبابِ بمُهجتي
فتـَصْطخبُ الآهاتُ حَرَّى بـِباليا

رأيتُ شآبيبَ الحنين تهاطلتْ
كقطر الندى تـَرْوي الربى والدواليا

وتغسلُ أوراقَ الفؤادِ فتنتشي
وتـَشْحَذ أطرافَ النـُّهى والحواشيا

وتـَسْقي بأنواءِ الصبابةِ دوحة ً
وتملأ بالشَّهدِ النمير السواقيا

أنـَظـِّفُ مرآةَ الخيال بخاطري
أرى حاضري والذكرياتِ البواقيا

فتقفزُ أحلامٌ بروحِي شفيفة ٌ
كأشباح أضواءٍ تـَشِفُّ الروابيا

وقفتُ على شَط ِّالشروق أبُثـُّهُ
لواعجَ أمسي والقروحَ الضواريا

فعَاوَدَنِي طيفُ الغروبِ بهمْسِهِ

وأشجانهِ، مَا لِلـْغروبِ ومالِيا

ولكِنـَّني لازمْتُ رُفقة َأحْْرُفٍ
يُغادِرْنَ أفياءَ السكونِ صَوَادِيا

ويبْحَثـْنَ عنْ رُكنٍ بـِصَرْح الضياءِ لا
يُغادِرْنَهُ إلا خِفافـًا كـَوَاسيا

فـَذِي صَهَوَاتُ الغيْم أضْحَتْ سَقيمة ً
وَذا جسدُ الأحزان أصبحَ عاريا

تـُرى هلْ يَشِينُ الوردَ أن يفقدَ الشذا
وأنْ يَخسَرَ النهرُ المياهَ الجواريا

حَنـَانـَيْكَ يا طـُهْرَ المسافةِ ضُمَّنِي
لقدْ تاهَ نجمي عن شجوني وَمَا بـِيا

أسابقُ بـِرْذوْنَ الزمان وفي يدي
لـُفافة ُشعرٍ أنـْزَلـَتـْها الرُّؤى لِيا

لعلَّ ظِباءَ البَوْح تملأ غـَابَتي
إذا صَحَّ عَزْمي فـَاقـْتـَنـَصْتُ القوافيا

وغامرتُ في صَيْدِ الشواردِ حية ً
وغافلتُ أطيَارَ الشعور الجواثيا

لعلـِّيَ أبْني لِلـْوُجودِ سفينة ً
فيبحرَ في يَمِّ القصيدةِ رَاضيا

وأصنعُ مجدَ القلبِ في ساحةِ المُنى
وفي مدنِ التطريبِ أعْلِي مَكانيا

المغرب
21/10/2009

عندما تجف ينابيع الحياة ، أو هكذا نتصور ، فإن الحلم هو البديل ، نهرب إليه من لظى الواقع ، وعندما يُشَوَّه الحلم ، أو تقطعه الكوابيس ؛ عندئذ لا يجد المرء مفرا من الانهيار .. ولكن الشعراء ، الشعراء فقط ينفذون من سم الخياط إلى بحبوحة القصيدة فينفثون فيها من أرواحهم اللواعج والآمال والآلام ولولا الصورة الجميلة تغلف الشعر كطبقة السكر على كبسولة الدواء لأحرق الشعر قراءه .. فنحن نتحايل بالموسيقى والمجاز الشعري والصورة الجديدة والنغم الحروفي للحروف وحرفة الإدهاش والمفارقة حتى نصل إلى قلوب المتلقين .. وفي القصيدة وقاية من أطباء النفوس والعقول وربما الأبدان ، وفيها الوجاء من جراحات الزمن في التشتت والضياع ، فهذا البوح لنا معشر الشعراء هو ما يحقق للشاعر توازنه النفسي ؛ذلك أن الشاعر تركيبة خاصة ومعقدة ، يذبحه القبح السائد في المجتمعات ، ويؤرقه الكذب والغدر والخيانة لو في آخر الدنيا .. الشاعر مرآة للآخرين فكيف لنفسه؟؟
وفي هذه القصيدة الجميلة المتوازنة لغة وموسيقى ، صورة وخيالا / يطالعنا الشاعر الكبير عبد اللطيف غسري بعنوان مكوَّن من ثلاث كلمات وحرف النداء :
حنانيك ...............1
يــــــــا............... 2
طُهْر..................3
المسافة........... .4
وزيادة على النداء المتضمن في البناء الخاص لـ "حنانيك " يجيء النداء بالأداة يا مقربا للحالة الاستجدائية الاستعطافية وهو يطلب لا حنانا واحدا بل حنانين ، تماما كما في نداء التلبية " لبيك " .. ويجعل الشاعر للبعد الروحي بينه وبين جزء من العمر صار ماضيا ولكنه مدفون فينا ، يجعل له هذا التجسيد في مفردة المسافة ، و تضع كلمة الطهرالمعنى الذي تدور حوله القصيدة ، وبشكل ربما يكون شخصيا جدا أحترم تلك التجارب التي تشير على أكبر مساحة ممكنة من الشعور فتجد الحبيبة الإنسانة وتجد العمر وتجد الوطن وتجد الأم وتجد الأرض وتجد نفسك ونفسي ونفس كل إنسان في القصيدة الواحدة ، ومن هنا وبناء على هذه الرؤية لا بد أن أتوقف عند الجمع في " العهود الخواليا " في البيت الأول وقد توهم الشاعر وأوهمنا معه أن عمره الذي مضى إنما هو عهودٌ خلت ْ ، وحول هذا المعنى : تباعدت الأزمان ـ رأيت شماريخ الطفولة ـ يزاحمها نبض الشباب .
تتكون القصيدة من واحد وعشرين بيتا في بحر الطويل الذي يشي اختياره بتضافره معالموضوع الذي يطرح قضية العمر وتجربة الحياة ، وكأنك مع زهير بن أبي سلمى في حوليته المعلقة : سئمت تكاليف الحياة ، ومن يعش = ثمانين حولا لا أبا لك يسأم ِ
القصيدة بجملتها وحي من نظرة في المرآة ، قد تكون المرآة على الحقيقة ، وقد تكون الرمز الذي أنتجته تأملات الشاعر ، ومن خلال الاستغراق في النظر تطرح القصيدة حدود المسافة التي تحاول أن تقصرها باسم الفعل " حنانيك " أي حُنَّ ثم حُنَّ أيها الطهر المسافرعلى تلكم المساحة الشاسعة من الوجود الذي يحاول الشاعر في آخر القصيدة أن يصيغه قصيدة َ شعر :
لعلي أبني للوجود سفينة = فيبحر في يم القصيدة راضيا
ولذلك نجد أن الأفعال في هذه القصيدة تقيم البناء في أحداث متراكبة تراكبا متسقا مع منطقية الحلم ، وهي على النحو التالي :
فعل ماض خالص : ستة عشر فعلا
فعل مضارع في معنى الماضي : ثلاثة وعشرون فعلا
فعل مضارع في الحال : خمسة أفعال
فعل أمر : واحد " ضمني "
إن ثمانية وعشرين فعلا في المضارع أمر يؤكد أن المسافة للوراء ،في الزمن المسترجَع ، ينسج منها الشاعر هذا السرد الشعري ، في الأبيات من :1 إلى 11تأخذه المرآة بمرائيها سنة من قبل سنة ، تماما كما تضع مرآتين متقابلتين بينهما منظر ،فإن المنظر يتكرر إلى ما لا نهاية .. ولو قلنا إن القصيدة تعمد إلى تلكم الصورة لكانت القراءة منتجة ، ولكنني أثرثر ـ استمتاعا بالفن ـ ، قلنا إن الأبيات من 1 إلى 11 هو في المرآة .
أما الأبيات من 12 إلى 21 النهاية فالشاعر يفر إلى نفسه ، إلى قلمه ، إلى عالمه ، إلى الشعر ..
ولنأخذ الأبيات الأربعة التالية من قلب القصيدة تماما : البيتان : 10 ، 11 نهاية بوح المرآة للشاعر ..
البيتان 12، 13 ردالفعل الشعوري ، وبالطبع فإن الأبيات السابقة على 10 ، 11 ، في سرد الحالة ، والأبيات اللاحقة لـ 12 ، 13 في وصف رد الفعل كيف سيكون والغرض منه والأثر الذي سيحدثه ،وكلها مهم ولكن القراءة تشير فقط وعليك عزيزي القارئ أن تطبق أنت فتقيم للقراءة نصفها الآخر ، وهذه هي الأبيات الأربعة :
وقفت على شط الشروق أبثه = لواعج أمسي والقروح الضواريا
فعاودني طيف الغروب بهمسه = وأشجانه ، ماللغروب وماليا
***
ولكنني لازمت رفقة أحرف = يغادرن أفياء السكون صواديا
ويبحثن عن ركن بصحن الضياء لا = يغادرنه إلا خفافا كواسيا
عناصر الجمال كثيرة ، وألتقط بعضها إضافة إلى ما سبق :
شآبيبب الحنين / شماريخ الطفولة / أوراق الفؤاد / أطراف النهى / أنواء الصبابة / مرآة الخيال / شط الشروق / طيف الغروب / أفياء السكون / صرح الضياء / صهوات الغيم / جسد الأحزان / وبالتأكيد : طهر المسافة / برذون الزمان / لفافة شعر / ظباء البوح / صيد الشوارد / أطيار الشعور / يم القصيدة / مجد القلب / ساحة المنى / مدن التطريب .. هذه منظومة من الصور الناتجة عن نحت المضاف والمضاف إليه بعضها مأهولٌ وبعضها جديد تماما .. والذي يعنينا هنا أن كثرة المضاف إلى النكرة يأتي كإضافة جزء من العمر متبقٍّ إلى مسافة فادحة من العمر تقضَّت ْ ..
وأشعر بميل إلى أن أختم القراءة بهذه الأبيات دون أن أفسد جمالها بالشرح والتحليل ، فهيا :

أسابق برذون السماء وفي يدي = لفافة شعر أنزلتها الرؤى ليا
لعل ظباء البوح تملأ غابتي = إذا صح عزمي فاقتنصت القوافيا
وغامرت في صيد الشوارد حية = وغافلتُ أطيار الشعور الجواثيا


قديم 08-18-2014, 03:04 PM
المشاركة 26
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
عبد اللطيف غسري شاعر يمسك بلجام القصيدة
بقلم الشاعر والناقد المصري عبد الله جمعة


اللغة : كلمة مشتقة من لغا يلغو إذا تكلم فمعناها الكلام .
وفي اصطلاح علم اللغة : فقد عرفت تعريفات عدة أشهرها ما ذكره ابن جني في كتابه ( الخصائص ) حيث قال : " حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " وقد وردت بعد ذلك تعريفات عدة على يد كثير من علماء اللغة إلا أن كل هذه التعريفات قد اتفقت على أن اللغة ترتكز على أربعة ركائز هي :
1 – أصوات منطوقة 2- أن وظيفتها التعبير عن أغراض
3- تعيش بين قوم يتفاهمون بها 4- أن لكل قوم لغة
فهذه – تقريبا – هي الأركان التي يدور عليها تعريف اللغة عند جميع من عرفها وإن كانت بعض التعريفات الحديثة تتوسع فتدخل الإشارة وانفراجات أسارير الوجه وتقطيبها إلخ إلا أننا في بحثنا هذا معنيون باللغة التي هي كما عرفها ابن جني وجعلها في صورة صوت منطوق يعبر عن أغراض أقوام يتفاهمون من خلالها ...
وهنا نقف على سؤال : إذا وقف بشريان من منطقتين مختلفتين في اللغة دون أن يعرف أحدهما مدلولات الأصوات اللغوية للآخر فهل يحدث بينها تفاعل فكري ؟ بالقطع ستكون الإجابة لا ... وهذا أمر طبيعي .. ولكن غير الطبيعي أن يقف بشريان من منطقة لغوية واحدة وأحدهما ينطق بالصوت المتعارف عليه بين أهل هذه المنطقة ولكن لا يحدث تواصلا فكريا بينهما ,
ومن هنا أتساءل : ما الذي قطع التواصل الفكري بينهما على الرغم من توحد المفاهيم الصوتية بين المتحدثين الاثنين ؟ إن أشياء أخرى دخلت غير التعارف الصوتي للمنطوق أحدثت خللا في المنظومة التفاعلية بينهما فالمدلول الصوتي للغة واحد بين الطرفين ولكن حدث قطع لصلة التفاهم ومن هذا الأشياء :
1 – عدم القدرة على تركيب أحدهما للجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه على الرغم من فهمه مفردات الصوت المنطوق
2- فقد ملكة الإبهار والإدهاش لدى المرسل ومن ثم فتور المستقبل عن الاستقبال
3- ضعف المؤثرات الصوتية الأخرى كالموسيقى المصاحبة للفظ المنطوق وفي الشعر تكون ممثلة في الأوزان والتفعيلات ومن هنا أنوه على قيمة الصوت التفعيلي في الصوت الشعري لمن يدعون الحداثة وينكرون التفاعيل حيث يفقدون أهم مقوما من مقومات الصوت الشعري
4- اللجوء إلى الأصوات الغريبة الشاذة ذات المخارج المتداخلة الخشنة والتي تعسر العمل على وعي المتلقي فتشوشه وتجعله خارج نطاق خدمة الاستقبال السليم لما في الألفاظ من غرابة ووحشة
ومن هنا كان لزاما على الشاعر الواعي أن يحقق تلك المبادئ في منتجه الشعري ساعيا بكل طاقته أن يوظف مهارته في الوصول إلى المتلقي من أقصر السبل ولا يتأتى هذا إلا شاعر خبر واختبر وتفاعل واعتبر وهنا في القناديل مذ دخولي وأنا أتحسس طريقي إلى تلك الزمرة من الشعراء المبدعين الذين يقبضون على آلتهم الشعرية بإحكام وطمأنينة تجعل المرء يتساءل وما السر في هذا المنتدى الذي لا يجمع إلا تلك النوعية من الشعراء القادرين على بلوغ حالو السمو التعبيري ؟ حقيقة لم أصل إلى إجابة بعد ؟ فالويب تنتشر عليه المنتديات الأدبية ولكن حقيقة لا تقبل الجدل أن هذا المنتدى له رونق خاص في جمع هذا العقد الألق من الشعراء وذوي الفكر المتقد والبصيرة النافذة
ومن الشعراء الذين شغلوني كثيرا بمنتجهم الشعري لدرجة أن ملكتني الحيرة من أي الزوايا أغوص في بحره الشعري ... الشاعر ( عبد اللطيف غسري ) ذلك الشاعر الرصين الذي يشعرك حين تطالعه أنك تعيش في عالمين متناقضين جمعهما في ألفة شديدة ؛ عالم الشعر التقليدي الرصين وعالم المعاصرة الشعرية ومواكبة معطيات العصر ... فمن أين أتت تلك المقدرة على الجمع بين هذين النقيضين ؟
إن عبد اللطيف غسري يقبض على ملكات عدة نوهت عنها في بدء قراءتي هذه وهي :
1 – القدرة على تركيب الجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه وأعني بالآخر المتلقي ومن ذلك :
قوله في قصيدة سيف الكلام :


وَالليلُ جـاثٍ علـى أنَّاتِـهِ ضَجِـرٌ
هَل ضَمَّدَ الصَّمتُ جُرْحَ الليلِ أمْ نَكَأَهْ

والشاهد هنا قدرته على صياغة الجملة العربية حيث أصر على رفع كلمة ( ضجرٌ ) عن عمد وافتنان على الرغم من اقترابها من الحالية فإن جوزناها على الحالية نصبت فقلنا ( ضجرا ) حيث تصبح حالا لاسم الفاعل العامل عمل فعله " جاث " ولكن اسم الفاعل العامل عمل فعله أحدث السيولة المعنوية اللازمة فلم يحتج الشاعر إلى حركة الحال المعنوية فجمد لفظة ( ضجرٌ ) على الابتداء المتأخر ليحول الجملة من معنى الفعلية إلى الاسمية البحتة وما تحققه من ثبات في المعنى فضلا عن أن رفع الكلمة على الابتداء يفتح مساحة المعنى فيجعل من التعبير مركبا من جملتين إحداهما ( الليل جاثٍ ) والثانية ( على أناته ضجرٌ ) وكلاهما جملة اسمية ولكن الأولى أحدثت السيولة والحركة لما فيها من مشتق يقوم مقام الفعل في العمل ( جاث ) والثانية اسمية صرفة ( على أناته ضجرٌ ) وإصرار الشاعر دليل على وعيه التام بمدلول الجملة ومساحة التعبير الذي سيزيد اتساعا بجملتين بدلا من تضييقه باستخدام جملة واحدة وتحويل العمدة ( ضجرٌ ) المبتدأ إلى فضلة ( ضجرا ) على أنها حال ... وشاعر كهذا يمسك بزمام المعنى والمبنى معا عارفا كيفية تطويع المبنى لخدمة المعنى يقف أن يوقف عليه ويدرس شباب الشعراء كيف يمكن هذا التطويع الذي لم يتأتَ من فراغ وإنما من علم وطول دربة وممارسة شعرية
2- القدرة على إحداث الإبهار والدهشة مما يجعل المتلقي في حال من اليقظة الدائمة سواء بالالتفاف حول المعاني والبعد عن المباشرة أحيانا أو بالمباشرة المبهرة وإجادة توقيف المعنى مع مراعاة الوحدة الموسيقية ومنه قولهفي قصيدة ( قدر القصيدة ) :


ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ


أنهى البيت موسيقيا دون أن يتمه معنويا حتى يشغل المتلقي لمتابعة الحدث الشعري دون أن يتفلت منه أو يذهب مذهبا أخر وكأنه يشد المتلقي معه فلا يشعره بتمام المعنى إلا مع نهاية الوحدة الشعرية (البيت)
3- وجود المؤثرات الموسيقية إلى جانب صوت اللغة المنطوق كداعم ومؤثر خلفي للمعنى فيحيل النغم الموسيقي المتلقي إلى مستشعر بموسيقى تصويرية متفاعلة مع المعنى الشعري ومن ذلك في قصيدته ( سيف الكلام ) التي يقول في مطلعها :


سَيفُ الكلامِ أتانِي حامِلاً صَدَأَهْ
والليلُ يَنْفُثُ فِي أنفاسِهِ حَمَـأَهْ


لجوء الشاعر إلى قافية (الهمزة) ثم الإتيان بحرف الوصل ( الهاء ) ساكنا مقيدا والقافية ( متراكبة ) ودعوني أفصل القول في هذا المسميات الثلاثة حتى نعرف مدى التمكن الذي يمتلكه هذا الشاعر ليحدث موسيقى تصويرية من خلال القافية وحدها تستطيع أن تصله بالمتلقي فهو يرهق نفسه حتى يريح المتلقي في مسامعه
( الروي ) في القصيدة الهمزة وهي حرف ذو انفجار صوتي كما عبرت في موضع سابق
( الوصل ) الحرف الذي يقع بعد الروي وهو هنا هاء الضمير الساكنة
( المتراكب ) وهي القافية التي يقع فيها ثلاث متحركات بين ساكنين
ويسألني سائل : ولم شغلت نفسك بتلك المصطلحات وشرحها ؟
أقول : ما رأيك في سيارة تسير بمنتهى السرعة ثم تصطدم فجأة فتتوقف إنها تحدث رجة عنيفة لمن يجلس في داخلها ... بل أقول : هل منا من يذكر لعبة المدفع التي كانت تمارس في الموالد ؟ حيث يقوم الرجل بدفعها بمنتهى القوة وفي نهاية المجرى تصطدم اصطداما عنيفا بمادة مفرقعة فتحدث دويا هائلا ؟ إن تلك القافية التي استخدمها ( عبد اللطيف غسري ) فعلت بنا هذا تماما كما مثلت في المثالين السابقين ...
فقافية ( المتراكب ) سرعت الإيقاع بقوة المتحركات الثلاث المتتالية ثم ارتطمت فجأة بوقفة سكون على حرف ( الوصل ) الذي هو الهاء ليحدث اهتزازة تصادمية في آخر كل بيت تحيلنا إلى الإفاقة من التعاطي مع معنى البيت حتى نتهيأ لرحلة السرعة تلك مع البيت التالي حتى نصطدم مرة أخرى مع تلك القافية ( المتراكب ) السريعة المنتهية بحرف وصل ( الهاء ) ساكن فجاءت موسيقاه المصاحبة قوية تتوازى مع المراد إيصاله للمتلقي
4- البعد عن الأصوات الغريبة ذات المخارج الشاذة بل والسعي إلى انتقاء الفاظ متالية ذات مخارج صوتية متفاهمة مما لا يشعر المتلقي بحال من النشاذ الموسيقي لصوت اللفظ فجاءت مخارج أصوات الحروف متناغمة لا شذوذ فيها ولا نشاذ ...
هذه مجرد إضاءة علىبعض زوايا الإبداع لدى شاعر يستحق العكوف عليه دهرا لاستخراج ما عنده من مكامن إبداع ولكن الزمان والمكان دائما ما يضيقان على استخراج كل الدرر


عبد الله جمعة
الإسكندرية
الأربعاء 28 – 7
- 2010-07-29

قديم 08-18-2014, 03:06 PM
المشاركة 27
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الشاعر عبد اللطيف غسري
بقلم: عبد الله جمعة

نتناول في هذا الفاصل مجموعة من زوايا الرؤية التي يتخذ منها الشاعر وجهة نظر في مواجهة واقعه الشعري محاولين تطبيق كل فلسفة من خلال نص شعري من شعراء القناديل قدر الإمكان حتى يكون الأمر قريبا من تفاعلنا ...
1 – فلسفة الشكوى : وهي واحدة من دوائر النضج الفكري الشعري تتولد من الصراع النفسفكري بين الشاعر وواقعه الشعري وفيها يتبنى الشاعر قيم الشكوى وعدم الرضا والسخط المستمر على كل ما يواجهه من مثيرات في هذا الواقع وفي هذه الدائرة يقوم الشاعر بتركيز تصويره على أدق تفاصيل الواقع القبيحة من خلال شكواه المستمرة متهما الواقع المحيط بفعل كل منتقص مفندا نواقص هذا الواقع وهذه الطبيعة الشعرية ترتكز على تضخيم المشكلة التي يتناولها في تجربته وتعد هذه الفلسفة خيطا يمتد عبر أغلب تجاربه على تنوعها وتقلبها ومن ثم يمكن وصف هذا الشاعر بالشاعر الشكّاء ومن هؤلاء الشعراء الذين دخلوا تلك التجربة بقوة وقاموا بملئها الشاعر الكبير ( عبد اللطيف غسري ) وسوف نتحقق من معالم تلك الفلسفة من خلال تعرضنا لبعض من نصوصه محاولين تحقيق معالم تلك الفلسفة من خلال نصوصه . من قصيدته ( قدر القصيدة ) :
أنينُ الحَرفِ في السَّحَرِ انْشِغالُ
بِـآلامِ القصِـيـدَةِ وَابْتِـهَـالُ
ولِلكلمَاتِ في وَصـفِ اللآلـي
جنوحٌ بالبَيَـانِ لـهُ اشْتغـالُ
فإن صَدَحتْ قرَائحُنا ببَعـضٍ
منَ الأشجانِ يرسُمُهُ الجَمَـالُ
فما كنَّـا علـى وَتـرٍ وقوفًـا
ولا أغرى جوانِحنَـا الـدلالُ
ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ
فكيفَ نُلامُ مِمَّنْ ليسَ تُرْعَـى
لهُ في الشِّعر نُـوقٌ أو جِمـالُ
وكيف يُقالُ ليـسَ لنـا ذِمـامٌ
وكيفَ يُقالُ فُـكَّ لنـا العِقَـالُ
وإنَّـا لا نبَـالـي باعْتـقـادٍ
ولا مَا تستقيـمُ بـه الخِـلالُ
إذا عَنَّتْ لنا بيـضُ القوافـي
على كثبٍ أوِ انْفتَـحَ المَجـالُ
لزرْعِ غيَاهبِ الأوقاتِ بِشْـرًا
فيُصبِحَ للوجـودِ بـهِ اكتمـالُ
وتلـكَ مقالـة ٌ لِلجَهـل فيهَـا
نـزُوعٌ واحتِبَـاءٌ واتِّـصـالُ
قديمًا أبْـرَقَ الجُعْفِـيُّ قـولاً
إلى مَن في مَدَاركِهِ عُضـالُ:
"ومن يكُ ذا فمٍ مُـرٍّ مريـضٍ"
فلا يَحلو لهُ المـاءُ الـزلالُ*
بِزندَقـةٍ قـدِ اتُّهِـمَ المعَـرِّي
ولمْ يكُ فِي الضمير لها احتمالُ
أدِينَ بمِثْلِِها الحَسَنُ بْنُ هانِـي
وقِيلَ لَبِئسَ قَوْلُـكَ والخِصـالُ
وبَعضُ النَّاسِ ليسَ لهُمْ عقـولٌ
فتُدركَ ما يَقولُ بـه الرجـالُ
فكيفَ إذا أتى الشعـراءُ يومًـا
بقولٍ لا يُحيـط بـهِ الخيـالُ
ترَاهمْ يَنظرونَ إلـى قُشـورٍ
لهَا عَن زُبْدَةِ المَعنى انْفصـالُ
ويَنتبذونَ عَـن عَمْـدٍ مكانًـا
قَصِيًّا في الجَهالـة لا يُطـالُ
فَذا قدَرُ القصِيدَةِ ليتَ شعـري:
عروسٌ لا يَطيبُ لهَا الوصالُ
الشاعر في هذه القصيدة يحاول أن يرسم لنا ما آل إليه قدر القصيدة من هوان على يد من لا يرعون للشعر حرمة ولا يقيمون لرحم الشعر وزنا حيث يسيطر بعض من لا يملكون حسا نقديا أو دعما معرفيا على دائرة الشعر فيطلقون أحكاما لا علاقة لها بالإبداع بل تنم عن جهلهم في تحويل مسار القصيدة بعيدا عما خلقت له وهذا هو الواقع الذي يتصادم معه الشاعر ومن ثم فقد أعد عدته وجهز أسلحة الشكوى التي يمتلكها ودخل دائرته الفلسفية التي تمثل وجهة نظره وبدأ في عرض تفاصيل تلك الشكوى الممثلة في : أولا : مدى المعاناة التي يعيشها الشاعر في إنتاج الحرف الشعري وآلام المخاض الشعري العسر حيث يبدأ الأمر بالانشغال بأنين الحرف وتوجعه وكأن آلام الطلق الشعري قد بدأت تعلن عن ميلاد تجربة ولكي يعد تمهيدا منطقيا للشكوى القادمة في الأبيات التالية جعل ذلك الأنين في أكثر الأوقات التي يكون فيها الناس العاديون في حالات الاسترخاء ورفاهية النوم ولكن الشاعر في ذلك الوقت يكون قد بدأ مرحلة المعاناة الشعرية فهو يعيش نقيض ما يعيشه الناس ففي وقت راحتهم هو ساهر على تجربته يعاني من آلامها ووجعها وحين تتحرك دوافعه النفسية راغبة في التفجر باحثة عن ممرات تعبيرية مناسبة يبدأ الانشغال في البحث عن تلك الممرات الممثلة في المركبات البيانية والتي هي تمثل جنوحا من قبل الشاعر عن الواقع ومحاولة منه للالتفاف حول هذه الواقع لإعادة تصويره وبنائه في الحيز الشعري فيتحول الأنين والألم لدى الشاعر إلى جمال تتقبله ذائقة المتلقي فيستمتع هو على الرغم من أن من أنتج هذا الجمال كان يعاني تماما كالأم التي تتألم في المخاض وتعاني أشد المعاناة لتخرج وليدها بهي الطلعة كل من يراه يتعجب من جماله ؛ " أمن الألم تولد هذه الجمال ؟" ولكن من يراهن على جمال الوليد لم ير ولم يستشعر ضراوة الآلام التي مرت بها تلك الأم ( الشاعر ) في ولادة هذا المخلوق الجميل الممتع ... ثم يبدأ الشاعر في تبرير رغبة الشاعر في ممارسة هذا العذاب بكامل إرادته فهو لا يبغي من ورائها ثمنا اللهم إلا رؤية وليده في صورة صحيحة جميلة يعجب الناظرون لرؤيتها ... ثانيا البدء في عرض تفاصيل الشكوى : حتى الآن الشاعر يمهد لعرض خيوطه النفسية التي ستمثل زاوية رؤيته وهي ( فلسفة الشكوى ) فيبدأ الانطلاق نحو تلك الصبغة التي يصطبغ بها ( عبد اللطيف غسري ) في الكثير من قصائده وهي الرغبة في الشكوى المستمرة من هذا الواقع وتكون إشارة البدء لعرض تلك الفلسفة من أول البيت السادس , حيث يعلن عن تعجبه ممن لا يمتلكون حسا شعريا أو نقديا ويتعرضون باللوم لذلك المنتج وهم لا يدركون مدى معاناة الشاعر في تخريج ذلك الوليد المرهق وقد مرت شكواه في هذا البيت من خلال ثقافة عربية ضاربة بجذورها في التاريخ ممثلة في مثل عربي - تناص معه الشاعر بمهارة وإتقان - حين قال ( فكيف نلام ممن ليس ترعى - - - له في الشعر نوق أو جمال ) فأحال المعنى على الحكمة العربية حيث لا يحق لمن ليس له ناقة ولا جمل في الأمر أن يدلي بدلوه في مضمار ليس له فيه شيء .. [ وهذا ماكنت أعنيه في المحاضرة السابقة من (((الامتلاء الفكري))) ... وهي قدرة الشاعر على استدعاء ما يشاء من رافده المعرفي وقتما يشاء بأي حيثية يشاء] ثم ينتقل الشاعر بين تفاصيل شكواه ممررا خيطه الفلسفي الشاكي في الأبيات التالية للبيت السادس من خلال الاستفهام التعجبي الذي جعل منه الشاعر صابغا لفلسفة الشكوى التي اصطبغ بها سائلا : فكيف نتهم بأننا ليس لنا ذمام من هذا الأخرق الذي لا يعرف قيمة العمل الشعري وكيف يتهمنا بالعشوائية الفكرية وأننا لسنا من أصحاب الاعتقاد ونحن الذين نكمل النواقص ولا تصبح للدوائر معان إلا بنا لأننا المتممون لتلك الدوائر فنحن بسمة اللذة في الوجود ونحن أمل التائه في صحراء النفس القاحلة , إن من يدعي ذلك علينا إنما هو جاهل موغل في الجهل ثم استدل من خلال ظاهرة التناص مع تراث شعري حيث اتهم من يقول هذا بمرض الفم وخبثه وعدم قدرته على صياغة الجمال أو التلفظ به ... ثم بدأ في استحضار الشعراء الذين يثبتون أن الشعر كائن مقدس ومحراب للزاهدين فجاء بالمعري وأبي نواس " الحسن بن هانئ " ذلك المتهم بالزندقة أليس قد ختم حياته زاهدا من أتقى الزاهدين والعبرة بخواتيم الأعمال وقد سُبِق بتلك التهمة من قبله المعري ... ( إن هذا ما عبرت عنه سالفا من الحديث عن الامتلاء الفكري عند الشاعر فلولا وجود هذا الجانب المعرفي بحياة المعري وأبي نواس في مخزون الشاعر ما استطاع جلب هذا المعنى الخالد الرقيق الشفاف ) وتتجلى هنا فلسفة الشكوى الظاهرة في شعر عبد اللطيف غسري وكأنها عرق رخامي يمر في حائط البناء الشعري للقصيدة واضحا جليا حين يبدأ في إلقاء اللوم على بعض الناس ممن ليست لهم عقول فيستقبلون قول ذلك الناقد المريض على علاته ويصدقونه فيكون هذا الناقد المريض قد شوه صورة الشعر دون أن يدري وبجهل مقيت .. ومن عيب هؤلا النقاد أنهم غير قادرين على الغوص في أعماق المعنى وإدراك ما وراء الكلمات فيشغلون أنفسهم بالقشور دون الغوص وراء الدرر الكامنة في قاع القصيدة الشعرية ثم يختتم بتلك الحكمة الرائعة الهائلة التي جسدت وكثفت هدف التجربة كلها إن القصيدة بين أيدي هؤلاء الأغبياء مثل العروس التي تزوجت ولكنها لم تنل من متعة الزواج شيئا وكأنها ( كالبيت الوقف ) كما يقول المصريون لم أكن من خلال العرض السابق أعني شرح الفكرة العامة للقصيدة فهي واضحة وضوح الشمس ولكنني مررت من بين افكارها لأبين كيف أن هذا الشاعر قد اتخذ من ( فلسفة الشكوى ) زاوية رؤية فكرية يرى من خلالها الواقع وسوف أستعرض جزءً أخر من تجارب للشاعر ( عبد اللطيف غسري ) محاولا تحقيق معالم تلك الفلسفة أو زاوية الرؤية أو وجهة النظر في مواجهة واقعه الشعري ومنها قصيدته ( إلى البحر أطوي كل موج ) وهي واحدة من الروائع التي نستدل منها وبها على معالم تلك الفلسفة التي تقوم على الشكوى يقول في مطلعها :
يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِـفُ
وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِـكَ عَاكِـفُ
وَأوْراقُـكَ العَـذْراءُ سِفْـرٌ طَوَيْتََـهُ
وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيـهِ قطائِـفُ
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
إنه يبدأ بالشكوى إذ يقول ( يخب حصان الشمس والظل واقف ) لقد أحسست أمام هذه الجملة بأن الشاعر يصرخ إلى الداخل تاركا صدى الصوت هو الذي يخرج لنا مرتدا من داخله فإن ترك صراخه منطلقا إلى الخارج لأصبنا بالصمم من شدة صراخ الشكوى ... إن ( الخبب ) هو السير السريع فإذا خب الفرس نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدوة الواحدة من سرعة العدو فصور الشمس جوادا ينطلق بسرعة مخيفة ثم مرر خيط الشكوى واللوم في قوله ( والظل واقف ) ويستمر في تفريغ شحنة الشكوى اللاحقة ( وأنت على تشذيب حلمك عاكف ) إن انفجار الشكوى كان مكمنه ( إنك تقوم بتهذيب حلمك الذي لم يعدُ كونه حلما والشمس التي هي رمز للحياة تتحرك بسرعة والظل الذي هو رمز لك مازال واقفا ... والمفارقة الرهيبة في أننا حين نرى الشمس تتحرك يكون المتوقع أن الظل يتحرك معها ولكن الشاعر أبى إلا أن يحقق التناقض في مفارقة غاية في الروعة والابتكار فجعل الظل تاركا الشمس واقفا لا يتحرك فالحياة تسير وأنت واقف ما زلت تسعى بحلمك إلى غاية الاكتمال لم تصل به إلى حيز الوجود بعد ...) إن الشاعر هنا يشكو ولكن ما قضية الشكوى المتفجرة في ذلك المطلع الذي هو بوابة الولوج إلى مضمون وهدف القصيدة ... ؟ إنها الشكوى من سرعة الحياة التي لم يعد المتقن المتأني قادرا على ملاحقتها ولم يعد له دور فيها ومن ثم فمن أراد ملاحقة الحياة عليه أن يخرج أحلامه منقوصة غير تامة أي يقتل ضميره ويسير على مبدأ الغش وتزييف بضاعته حتى يستطيع أن يواكب سرعة تلك الحياة ... إن الشاعر عبد اللطيف غسري تضج قصائده بالشكوى ولا يكاد يمر بيت علينا من قصيده إلا ولاحظنا تلك المسحة من الشكوى العارمة من كل شيء , كل شيء ... وتلك هي زاوية الرؤية الأولى التي أحصيتها في المحيط الشعري بعد طول بحث واستقصاء

قديم 08-18-2014, 03:09 PM
المشاركة 28
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
قراءة في ديوان قوافل الثلج للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
محمد محقق

قوافل الثلج أو عشق الشاعر المتدفق ينابيع من العواطف الجياشة تجاه المعشوق هو مقاربة منفتحة لشعر الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري والمستهل بقصيدة( وتمرين بي إلى المتكالبون على رغيف الوقت ) فالرؤية الجمالية والتخييلية لهذه القصائد تبدو وكأنها قطعة موسيقية يسودها التوافق والانسجام اللذان يسموان بالنفس إلى مقامات البهجة والإنبهار، وهو يتألف من 96 صفحة من الحجم المتوسط ويتضمن 29 نصا شعريا من القصائد العمودية تتخللها نصوص تفعيلية ، وهذا الديوان تم إصداره عن مطبعة تبوك وهي الطبعة الأولى للكتاب الذي هو قطعة من حلم الشاعر الأثيل وتذكار أزلي لعلاقته بالحبيبة والطبيعة ولوحة الغلاف تعانق هذا البعد المكاني بما يتواشج في فضائها من مكونات بصرية كما أن العلاقة بين الشاعر والقصيدة العمودية التي ترجم من خلالها أحاسيسه ومشاعره الجياشة تجاه المعشوقة / الأنثى ، والطبيعة واللغة ، تعلو إلى مراقي العشق الخلاق المنسوج بحرير الحياكة الرؤيوية المغايرة والحلم المستشرف والممتد بين الإنتشاء والإفتتان، كل هذا جعلنا ندرك قدرة الشاعر على خلق روح الإنفعال العاطفي المتمثل في مناخ من الشعر الوجداني وهو بهذا صنع له عالما خاصا به حين استمر بتداخله العاطفي في طرح عشقه إلى معشوقته حيث طيفهالا يفارق مخيلته إذ هي دائمة الحضورفي رواحه وغداته وفي اختياره للعنوان قوافل الثلج الثلج/ الماء ، لأنه يمثل عنصر الحياة على سطح الكون,. . وبكل ما تحمله هذه التسمية ،. ماهي إلا تعبير يقوي هذه الرابطة ،وهي دلالة على الوحدة العضوية بين عشقه للأنثى وبين قوافل(كثرة) الثلج النقي الأبيض اللون الذي يدلّ على الطهارة والصفاء.
وبين هذه الظاهرة الطبيعية للثلج المتواجد على رؤوس الجبال وبين القافلة التي تحمله من هناك لسقي بذور النبات/ شرايين القلب العاشق ، لهو تصوير جميل لعنصر الحياة بالنسبة للشاعرالذي يترجم أحاسيسه وهمساته وعشقه عبررسائل بيضاء للحبيبة كماء زلال يمده بمتعة الحياة ولباس ثوب العافية. . حين يعبر عن ذلك ب:
ولكن ثلج محياك ترجى ************* حياة على دربه أو منون
والشاعرفي استخدمه للطبيعة في شتى قصائده جاء لتثبيت تشبته بهذه العلاقة الطبيعية الشفافة المتمثلة في صفاء الحياة وبراءة سننها، مبرزا قدرته على تمثيل ما بداخله عليها إذ هي مرآة لعواطفه ومخاض روحه في عشقه لحبيبته مستخدما في ذلك رموزها بشكل مكثف في قصائده( الثلج ، النار، البحر ، سواد الليل ، السواحل ، الفراش ، الورد ، السماء ، الطيور ، الأشجار ، البجع ، النسيم ، العطر، المساء ، منازل ، الأنهار ، الموج ، النجوم ، القمر ، البدر،الظبي ..) .
ولعل المتابع لقصائد هذا الشاعرالمبدع، يجد ما تحمله من عاطفة قوية تتغلغل في داخل القلب وتطرب لها النفس، ولعل قصيدتيه "قوافل الثلج و تتحدث ملء فم عبق " دليلٌ واضح على مدى صدق هذا التدفق العاطفي :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
سأسكب قارورة الوجد
فوق سفوح الخيال وأرصفة القلب
........
تهتز لضحكتها الغرف
جدلا وتهش لها السقف
........
ونوافذ قلبي مشرعة
لنسيم تحمله السجف
وشموع الوجد ترافقه
فتضيء الروح وتنصرف
والعشق يحمل عادة على الشوق والصبابة والهوى النابع من جوف الروح وثغرة اللسان الذي ينفتح تلقائيا للتعبير مباشرة لهذا الهيام وجنون الحب الشيء الذي جعل شاعرنا يوظف كل الصور الدالة عليه ،والتي من خلال عناصرها أكسبت الديوان لغة تعبيريّة جديدة محتجبة في دلالتها ومتحوّلة في معانيها ومتداخلة في مقاصدها ، وهذا التفاعل الحاصل بين الشاعر وبين المشهد الطبيعي زاد من حيوية القصائد وقدرتها على التأثير؛ لما لها من الصدق في الإثارة وفي البناء والصياغة، فنجده يقول في مطلع القصيدة سيف الملامة
البدر لاتنتابه الرعدات
أو يعتريه الخوف والرجفات
إلا إذا رعشت له أجفانها
أو اشرقت من ثغرها البسمات
خنساء أطربها النسيم على الربى
فتراقصت من شعرها الخصلات
حيث نلاحظ ثراء لغة الشاعر واتساع مروحة موضوعاته وخصوبة مخيلته ومايوحد هذه القصائد على تباينها هو مصدرها القلبي وجذورها المكانية الطالعة من هامات السحاب وغلالات الضباب وأحشاء تلك الجبال الشامخة والهضاب والأودية والبحر و....
ونتحسس بعضها من قصيدة تقاسيم على أوتار رملية وهمسات في آذان البحر وأنا شبح يختلي بالمرايا...
ركز الوهم حرابي ********** فوق هامات السحاب
حين سافرت دهورا********* في غلالات الضباب
.........
أين مني شهقات ********** ملء أنفاس الروابي
.......
ومتاهاتي وسبلي********** وفجاجي وشعابي
...................................
لقلبي أن يحضن الموج
.......
أن أركب الرمل فوق كثيب الحنين
......
سألتك ياليل هل في رؤاك
غديفتدي يومه والغدا
وهل يسكن النجم برد الظلال
وقد بايعته الربى سيدا
فهذه مشاعر تصوغها مخيلة لاتنام ، دائمة التيه والترحال ، ترنو إلى توقيف الزمن وفتح باب الأمل ...
المنى في عيني غابة أيك *********** والأسى في كفيك حزمة شوك
......
تورد العمر مورد ليس فيه ********** غير تسهيد أو معيشة ضنك
......
فخذي أسباب الوصال ، تعالي ********* إن أسباب البعد أولى بترك
مع تأمل الشاعر لأداته الشعرية المتمثلة في الهجرة الرمزية التي تحمل ملامح شبه صوفية والمرتبطة برمزية الليل وهدأة المساء منطوية على الخوف و التفاؤل اللذين يبسطان دلالتهما على مابعدها في عينيه العاشقتين وفي بهجة تجدد حياته ، حيث نجده يقول في قصيدته ما زلت أشرد في آثار راحلتي و أكفان العتمة ملء يدي
منازل الدفء شتى ..كيف أحرسها ********* والثلج تلبسه ليلا ويلبسها
أنى مررت بها استشرفت طلعتها ********* في سورة الشوق حتى كدت ألمسها
......
ما زلت أشرد في آثار راحلتي ****** أتجأر الآن أم أرقى فأنخسها
أريدها رحلة في جوف عاصفة **** هوجاء لا نصب في القلب يحبسها
...................................
وأنوب وروحي هائمة ****** وأؤوب بقلب مبتهج
قمري ... مشكاتك مثبتة **** في باقة ليلي .. في الفرج
فأنا المولود على وتر **** ما حاجة شدوي للحجج
فالديوان قد أوصل الصورة التعبيرية للقارئ ،لما تحتوي عليه قصائده من جمالية وصور رائعة تستهوي النفس وتشد انتباهها خصوصا وهو يتغنى بالفراش وشدو الأطيار فنراه يقول :
رذاذ التمنع في شفتيك شهي
كطعم البنفسج في همسات الفراش
.......
وفراشة الشبق القريبة تنتشي
فتكاد تجدبنا اشتهاء تلبس
.....
يثب الفراش الغض بين أصابعي **** يجتاحه خفر يشب تضرعا
......
افرد جناحك ياهزاز تمنعا ********* للرفرفات نوافذ لن تشرعا
......
وذري للبلبل نمرقة
حبلى يتوسدها الحلم
.....
قالت عصافير الجنان غريرة
ومكانها الأشجار والعرصات
لو كان ربع العاشقين محصنا
تلقى على محرابه الصلوات
....................
فاختياره للفراش هو ترجمة لعشقه المتنقل عبر أزهار قلبه وحدائق نفسه ، المحترق في معاناته ليهبه قربانا للمحبوبة ،بشدى العصافير المغردة لجمالها الأخاذ وطلعتها البهية والتواق للعيش تحت ظلها محتفلا بالحياة بجانبها...
و في الختام نجد أن قصائد الديوان في شكلها ومضمونها، رائعة ودفاقة بالرومانسية التي طغت على أبياتها و تمتاز بالتجديد الحقيقي، كما أنها، جسدت حس الشاعر، و صورت أفكاره وانطباعاته وأعماقه في اتصاله المباشر بالحياة ، كما أن كلماتها غاية في الرقة والشفافية والوضوح .
والديوان هو بمثابة مجموعة من الثيمات (الحب والمرأة واللغة والطبيعة) والتي شغلت اهتمام الشاعر وعبر عنها بأحاسيسه ووعيه .وعندما تآزرت فيما بينها جعلت القصائد تتميز بعمل شديد التفرد والعمق والتأثير.

قديم 08-21-2014, 09:28 PM
المشاركة 29
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رأي الأستاذ محمد يوب في ديوان "قوافل الثلج"..

عندما نقرأ عملا إبداعيا نشعر به ونتأثر بتيماته يكون هناك ارتباط بين النص /الإبداع و القارئ/ الناقد هذه العلاقة الحميمية تبدأ مباشرة عند الشروع في قراءة عمل من الأعمال الأدبية ، إن الناقد لا يدخل إلى عالم النص بل النص هو الذي يدخل إلى عالم الناقد ، كانت هذه الديباجة مقدمة للعلاقة التي ربطتني مع ديوان الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري الموسوم ب" قوافل الثلج" الذي يقع في 96 صفحة من الحجم المتوسط.
إنني عندما قرأت هذا الديوان دعاني إلى قراءته بحكم أنه مازال جديدا ، أرضا بكرا يحتاج إلى المزيد من القراءات ، لأن الشاعر في هذا الديوان يخوض تجربة شعرية قل نظيرها عند الشعراء المعاصرين وهي المحافظة على القصيدة العمودية الموزونة دون الخروج عن أحداث العصر. وسأعمل على قراءته من زاويتين الأولى من حيث البناء و الثانية من حيث الخارج الذي يفرض نفسه على القارئ دون فصل الداخل عن الخارج .
إن بنية اللغة الشعرية في ديوان قوافل الثلج مربوطة بحركية غريبة استطاع الشاعر تتبع تفاصيل الكلمات المشكلة لأثاث القصائد ، هذه الحركية التي تمزج بين فضاءات النصوص المكانية و الزمانية وكأنك أمام فضاء واحد يتعايش فيه الزمان مع المكان في نوع من الهدوء الذ ي تفرضه طبيعة الشاعر وطبيعة المكان الذي نسجت فيه أغلب هذه القصائد ، وهو فضاء سيدي رحال المجاور لمدينة مراكش المدينة المغربية القابعة في سفوح جبال الأطلس الذي تتحكم فيه الطبيعة وجمالها وخصوبتها ، وبهذا تجد الشاعر يتناغم مع هذه الطبيعة ومن حين لآخر يجسدها ويحركها وكأنها كائنا حيا يتكلم . ففي قصيدة" تمرين بي" يستخدم الشاعر مفارقات غريبة بين تأثير الدهر في جسده المنهك وبهاء الحبيبة التي مازالت تتدلل وتتغنج هذا الحوار بين الحبيب و الحبيبة جعل الطبيعة تعجب بدلال الحبيبة التي مازالت في كامل رشاقتها مستخدما ثنائيات ضدية ساهمت في هذه الحركية الممتعة التي أضافت للديوان قيمة إلى قيمته .
وهذه الحركية تتخلل كل مفترقات القصائد وتنوعها فنجد الشاعر يخلق حوارا فيه شئا من السخرية ، هذا الحوار الذي تشهده الغرف التي تضحك و السقف التي تهش جدلا و الكأس الأزرق الذي يرمق هذه الحركية ويزيد من تصاعد حركيتها ، إن الفضاء هنا أصبح من بين الشخوص التي تزين أثاث هذه القصائد ، وهذا التحول في مستوى البناء يزداد تطورا وحركية كلما دخلنا في تفاصيل القصائد ويظهر بشكل جلي من خلال القصيدة المفتاح التي تعنون الديوان وهي قصيدة "قوافل الثلج" التي تزخر بتشبيهات جميلة تضفي رونقا وبهاء على النصوص إلى درجة أن الشاعر صاغ هذه المفارقة باعتبار أن الرذاذ التي يخرج من فم المحبوبة أصبح متمنعا هذه قمة في المفارقة التي تجعل الجامد متحركا يتجول بحرية في فضاء القصيدة تعبيرات مجازية فجرت اللغة وجعلتها تنزاح إلى معان أخرى غير المعنى المعتاد الذي نفهمه من اللفظ.
إن الشاعر يصف الثلج القادم من الجبال المجاورة و كأنه قافلة جنود قادمة من هناك حيث لا هناك هناك حيث الثلج قابع في مكانه لايتحرك ولكن الذي يتحرك هو الصورة التي خلق منها الشاعر كائنا حيا يغزو ويقاتل بغير قتال إنها قمة في السريالية و التجريد في رسم جدارية تحت إمضاء الشاعر عبد اللطيف غسري .
كما أن حركية القصيدة تبدو من خلال الاختيار الدقيق للعناوين إنها لم تأت هكذا اعتباطية بل الغاية منها إضفاء روح الحيوية و الدينامية على الصورة المشكلة لنفسية شعرية و شاعرية اجتمعت في نفسية الشاعر و أعطت هذا الزخم الهائل من المعاني و الصور .
إن الشاعر عندما يستخدم الخيال لا يستخدمه رغبة وحبا في الخيال بل يلجأ إلى الخيال لنقل صورة راسخة في ذهنه من زمان ويحاول نقلها إلى مستوى التخيل لتبقى لصيقة بالواقع إن التخيل عند الشاعر مرتبط بواقع يغلب عليه الطبيعة بخرير مياها بجمال أشجارها برونق وطيبوبة أهلها.
إن اعتماد الشاعر في قصائده على الأوزان العمودية يحاول من خلالها عقد صلح بين القديم و الحديث و الرجوع إلى الماضي دون الانغماس في هذا الماضي إنه يحاول استقدام لغة الماضي وتركيبها بشكل جمالي في مواضيع وهموم الحاضر بأن أضفى عليها هذه المسحة الجميلة التي تجمع بين الهزل و الجدية في تناول المواضيع ، إن القارئ و المتمعن في ديوان" قوافل الثلج" يشعر برزانة الشاعر وهزليته المراكشية من خلال توظيف كلمات فيها سخرية لكنها كلمات عفيفة أنيقة لا تخدش الحياء و لا تدفع القارئ إلى النفور و التأفف ، إنها لغة الأستاذ و الشاعر الذي يعرف كيف يوظف الألفاظ في أماكنها طبقا للمبدأ الأخلاقي لتوظيف الكلمة المناسبة في المكان المناسب ، فلكل مقام مقال هذا ما لمسناه في هذا الديوان الشعري.
كما أن حركية الديوان تظهر من خلال التوظيف السيميائي للغلاف حيث إن الشاعر اختار عن قصد أو دون قصد هذا الغلاف الذي يوحي للقارئ وكأن الثلوج قادمة من أعلى إلى أسفل وكأنها تغزو عالما سفليا لا قدرة له على الحرب ، إنها حرب الصور التي تخدع القارئ من خلال تمثل هذه الحرب وهذا الغو.
إن قوة الخيال عند الشاعر تبدو من خلال قصائده المتنوعة بتنوع درجات الخيال عنده فنرى في قصيدة "همسات في آذان البحر" كيف يغازل الشاعر البحر ويناجيه بكلمات معبرا فيها عن روح التأمل و الحب الجميل لدرجة أنه يتمنى أن يسافر إليه عشقا وحبا فيه فنرى بأن قوة استخدام الخيال الذي يغوص في أعماق الأشياء قوي جدا مع العلم أن علاقة الشاعر بالبحر ضعيفة جدا بحكم بعد منطقة سيدي رحال المراكشية عن البحر و رغم ذلك تشعر بأن الشاعر يسكن البحر بل قل البحر يسكن الشاعر.
ديوان قوافل الثلج صرخة أخرى من صرخات الشاعر عبد اللطيف غسري الذي يخوض تجربة الشعر العمودي بنوع من الثقة في النفس وبنوع من الجدية ويشعر القارئ أنه أمام شاعر من العيار الثقيل الذي يخطو طريقه في مجال الشعر العمودي بخطى ثابتة يرقى بالذوق القرائي عن المثقف العربي هدفه في ذلك رسم منهج في الكتابة الشعرية يتحدى بها من يريد المقارعة الشعرية المقارعة بالمعنى المدحي وليس بالمعنى القدحي.
محمد يوب
06-06-10

قديم 09-14-2014, 01:03 PM
المشاركة 30
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قراءة في قصيدة "إلى البحرِ أطوي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
بقلم: الأديب والناقد المصري محمد عبد السميع نوح


إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ...


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ
وَأوْراقُكَ العَذْراءُ سِفْرٌ طَوَيْتََهُ = وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيهِ قطائِفُ
وَلِلماءِ أُخْدودٌ يَقولُ لكَ اقْتحِمْ = عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
دَعِ القَلَمَ الوَرْدِيَّ يَرْسُمُ دَرْبَهُ = زَوَاحِفَ ضَوْءٍ ما لهُنَّ حَرَاشِفُ
وَكُنْ وَتَرًا لا يَسْأمُ الليلُ عَزْفَهُ = وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِهِ مِنهُ طائِفُ
أوِ اخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَة اللظى = هُنالِكَ جِسْرٌ نازحٌ بكَ عَارفُ
بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنتَ تَنْزِفُ طُهْرَهُ = فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَ ما أنتَ نازفُ؟
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضورِ وَإنَّمَا = حُضورُكَ طَيْفٌ فَي القراطِيسِ هَاتِفُ
ضِفَافُ الصَّدى تنزَاحُ.. أمْسِكْ ذُيُولهَا = إذا الصوتُ مَعْنًى لِلصَّدى وَمُرَادِفُ
على عَجَلٍ أبْحِرْ بِأشْرِعَةِ الأنا = لعَلَّكَ فُلْكَ الذكْرَياتِ تُصادِفُ
تركْتَ رَياحِينًا هُناكَ نَدِيَّةً = ـ أتذكُرُهَا؟ـ حيثُ الظنونُ عَواصِفُ
وحيثُ لِسَانُ الوقتِ يَجْرَحُ حَرْفَهُ = وحيثُ قُصَاصَاتُ السؤالِ صَحائِفُ
مَتَى يَشْرَئِبُّ النَّجمُ مِن شُرْفَةِ المدَى؟ = سُؤالٌ لِأسوارِ الإجَابَةِ ناسِفُ
وَنادَيْتَ عِشْتارَ القصيدةِ أنْ ضَعِي = نسِيغَكِ فوقَ الجِذعِ، فالغُصنُ راجِفُ
ألم تعْلمِي أنِّي عَصِيٌّ بنِينَوَى = وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهرِ عَازفُ؟
إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ وَطِئْتُهُ = أليْسَ لِأسْمَاكِي لديهِ زَعانِفُ
وإنِّي لَمَوْلودٌ بِزاوِيَةِ الرِّضَا = وَلَكِنَّ ظِلَّ الحُلمِ في القلبِ وَارفُ
وَإنِّي لِفَتقِ الأمْنِيَاتِ لَرَاتِقٌ = وإنِّي لِنَعْلِ القافِيَاتِ لَخَاصِفُ

قال المرحوم الأستاذ الدكتور الناقد محمود الحسيني :" النقدُ اكتشاف وليس تفسيرا " وهو قول أؤمن به ، وإن النص الأدبي برأي أستاذنا الرافعي رحمه الله يُكتبُ بفكر ويُقرأ بفكر آخر .
الشاعر هنا يجرد من نفسه ناقدا على المخاطب الذي قد يكون هو الشاعر وقد لايكون وليس هذا مهما .
وما يجريه الشاعر على مخاطبه هو ما يجريه الناقد على نص أدبي .. أتكلم عن قصيدة تشبه مشية غزال .
البداية صورة مرسومة لتدهش :
يخب حصان الشمس والظل واقف
وأنت على تشذيب حلمك عاكف
الأصل والظل ، حركة الحياة ، إيجابية أو سلبية الإنسان في الحركة ، عالم المثال وعالم الواقع .. يستمر الدفق الشعري منتقدا بمنطقية الواقع الملبوس بالصورة والكناية ليتحول إلى شعر عذب ٍ قريب الرمز عميق الدلالة ، القصيدة تضع القارئ في موضع الاكتشاف أيضا ولا تتركه يتحير كثيرا ، فهي تشير بأصبع إلى الخيال والحلم من خلال رموزها وتشير بأخرى إلى مفاتيح فك هذه الرموز ، ومن خلال هذا الاختيار الذي يضعنا الشاعر ويضع مخاطبه فيه تتجلى أبعاد الصراع النفسي الدائر مابين دنيا تموج بالحركة والأحداث وبين شاعر تتناثر حياته على السطور وكأنه / الإنسان حبر على ورق ، وياله من تشبيه عميق الدلالة .
اللغة ومفرداتها والموسيقى بإيقاعيها الداخلي والخارجي قدمت لنا كما قدمت في كل نصوص غسري شاعرا مطبوعا .. وهذه هي أهم ملامح هذا الشاعر الكبير .
تنتظم القصيدة في حالة نفسية واحدة من اللوم أو العتاب الدافع حتما إلى الاستنهاض أو بالأحرى التحريض من أول بيت في وحدة موضوعية .
نأتي إلى حركة الشمس وثبوت الظل ثم الأبحر والأنهار وكثير من جزئيات الطبيعة فنراها متناثرة في الأبيات في ترابط مشهدي واحد . وبتآلف العنصرين : وحدة الموضوع واتساق مفردات الصورة الفنية تنشأ الموسيقى الداخلية التي من خلالها نسمع وشيش الحركات سواء للماء أو الطيور والنجم والصوت والصدى .. إلخ ..
ويتناسب بحر الطويل مع التجربة على اعتبار أن ليالي الانتظار طويلة .. كما أنه بحر رصين وغنائيته تتلون مع كثير من الحالات الإبداعية في مرونة عالية ..
يخب حصان الشمس والظل واقف ** وأنت على تشذيب حلمك عاكف

الخبب : إيقاع مستحدث في أوزان الشعر العربي ، حين يجتمع القطع في تفعيلة المتدارك (فاعلن تصير فاعلْ) والخبن (فاعلن تصير فعِلن)ويصير الإيقاع في أغلب الأحوال كأنك تكرر : ما ما ماما بابا بابا (أو) تكْ تك ْ تكْتكْتكتك تكتك صوت عجلات القطار أو ارتطام حوافر الخيل بالأرض ، وفي هذه الحال يخلو الإيقاع من الأوتاد ويقتصرعلى الأسباب ،ولايعدو أن يكون سببا ثقيلا // يليه سبب خفيف
(فَعِلُنْ ـ ///0 )أو سببين خفيفين متتاليين ( فعْلنْ .. فعْ/0 لنْ / 0 )
وهو تسريع للأصل الذي بني عليه المتدارك (فاعلن .. أربع مرات في كل شطر)
ومن معنى التسريع الذي تؤديه الجياد في العدو حين تنقل الميامن جميعا والمياسرجميعا كانت تسمية هذا البحر خببا .
وكذلك حركة هياج موج البحر إنما هي خبب ، وأيضا الرجل يفسد الزوجة على زوجها والعبد على سيده خبب ، والخَِبُّ (بكسر الخاء وفتحها) الخائن ، نخلص من ذلك إلى أن الخبب حركة للتغيير ، وإتيان الشاعر بهذه المفردة كأول مفردة في القصيدة تفتح لنا مجالا محددا للقراءة والمحاكمة له أو عليه .
في البيت الأول : خبب حصان الشمس في مقابل وقوف الظل ، المعروف أن الظل يتحرك عكسيا مع حركة الشمس ، فإذا تحركت الشمس في الصورة الجيدة "حصان الشمس" فعلى الظل أن يتحرك ، المفارقة أنه واقف .. وتوضع الصورة الإنسانية في مقابل الظاهرة الكونية على نحو يوقف القارئ ولابد ، "وأنت على تشذيب حلمك عاكف " والظاهر لنا أن الشاعر ينعي على المخاطب ثبوته فيما تتحرك الدنيا ، الظل واقف وأنت عاكف ، فما المانع أن افهم أن المخاطب والظل سواء .. كأننا أمام صورة عالم المثل وعالم الواقع عند أفلاطون ، وهنا انكسرت نظرية أفلاطون على يد المخاطب المعاتَب بهذا العتاب ، قلنا إن لمفردة الخبب تجليات علمية في عروض الشعر ، وقلنا إن لها تجليات في هياج البحر ، وقلنا إن لها تجليات في عدو الجياد . وهذه التجليات مطروحة في القصيدة :
أما الجياد ففي البيت الأول ، وأما الشعر ففي البيت الأخير ، واما في البحرففي البيتين قبل الأخيرين مباشرة : وهاهما :
ألم تعْلمِـي أنِّـي عَصِـيٌّ بنِينَـوَى
وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهـرِ عَـازفُ؟
إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَـوجٍ وَطِئْتُـهُ
أليْـسَ لِأسْمَاكِـي لديـهِ زَعـانِـفُ
هكذا أجدني أقرأ القصيدة كنص مسكون بالحركة والإيقاع النفسي ، فأنتقل إلى البيت الثاني
وأوراقك العذراء سفر طويته وفي شجر الإحساس منه قطائف
العذرية في إحساس الشاعر أي شاعر لاتبعد عن البراءة والطفولة أو الشباب الغض ، وهنا يشير إلى أن طي كتاب الماضي ماكان يجب أن يُطوى ، لأن فيه بقية حياة ، والإحساس الحياة لاشك ، وإلا لما تحرك حصان الشمس وأنت لم تبرح مكانك ..
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
دَعِ القَلَـمَ الـوَرْدِيَّ يَرْسُـمُ دَرْبَـهُ
زَوَاحِفَ ضَوْءٍ مـا لهُـنَّ حَرَاشِـفُ
وَكُنْ وَتَرًا لا يَسْـأمُ الليـلُ عَزْفَـهُ
وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِـهِ مِنـهُ طائِـفُ
أوِ اخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَـة اللظـى
هُنالِكَ جِسْـرٌ نـازحٌ بـكَ عَـارفُ
بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنـتَ تَنْـزِفُ طُهْـرَهُ
فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَ ما أنتَ نـازفُ؟
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضـورِ وَإنَّمَـا
حُضورُكَ طَيْفٌ فَي القراطِيسِ هَاتِفُ


الشاعر يناور مخاطبه ، تارة بالحكمة " وللماء أخدود" وتارة بالتحضيض الذي يقترب من التلويح بالتهديد :
"أو اختر وقوفا عند ناصية اللظى "
لاشك أن تعدد الأصوات داخل النص الشعري يثريه إلى حد كبير ، وللتعدد شروطه .. والقراءة العجلى توحي بأحادية الصوت ، وهو صوت الشاعر الذي لم يترك فرصة لصوت آخر .. ولكن بالملاحظة الدقيقة يتبين أن ثمة صوتين ، كلاهما للشاعر ، المتكلم والمخاطب ، ألاترون معي أن في توجيه ضمير المخاطب مايوحي بأن الشاعر يناجي نفسه بالخصوص ، والآخرين في العموم ؟
وللماء أخدود يقول لك اقتحم عيون الشتاء الآن ..حركة الماء في الأخدود ، حركة النبض في الإنسان ، حركة الحياة في الكون ، ولذلك كان الأمر : فاقتحم ـ الآن .. وهي صياغة تنقل إلى الإحساس دفق الماء وتوازيه بالطلب (فاقتحم) ثم يعقب ذلك الاستفهام المحفز أو المؤنب (هل أنت واجف) وبعد اقتحام عيون الشتاء والتماهي في الماء سر الحياة تتفتح الورود حتى لتتورد الأقلام، وإلى أي حد تخرجنا هذه اللقطة من قمقم الحزن إلى انفتاح البصيرة على الجمال والفأل الحسن :
"دع القلم الوردي َّ يرسم دربه
زواحف ضوء مالهن حراشف "
وهذا أمر آخر ، وقد كنى عن الإنسان بالقلم ، ولايرسم القلم حرفا ولا صورة وإنما يرسم الدرب .. لن أتمادى في القراءة التأويلية ، فقط أشير إشارات سريعة ، في ثلاث جمل تتشكل صورة جميلة : عيون الشتاء ـ القلم الوردي ـ زواحف ضوء ) ولولا أن زواحف الضوء مالهن حراشف ماكان لها هذا الجمال . وهي بذلك دعوة لتنقية الحياة من القبح والزيف والغثاثة .
ويوضع في مقابل ذلك " أو اختر وقوفا عند ناصية اللظى .. هنالك جسر نازح بك عارف
يكفيني "ناصية اللظى " في مقابل ما إذا رفض المخاطب الدعوة الوردية .. أما كون الجسر النازح عارفا بتكرار معاناة المخاطب فأرى أنه مطروح في سائر النص ، ولاأدري تماما هل من ضرورة ملحة لإيراده ، أم أن ذلك أمرا خاصا بالشاعر مما استأثر به في طويته ، ولكنه واضح الدلالة في معنى الترهيب من التقاعس عن تلبية رغبة المتكلم / الشاعر .
يعينيك فجر أنت تنزف طهره .. فهل شهد الراءون ما أنت نازف
حيثية أخرى من حيثيات الاستنهاض بالترغيب والترهيب ، وهي حيثية من الجمال الموسيقي بمكان ، كما أنها تقدم ورقة جديدة كحجة دامغة ، ونهتز كثيرا إذا قرأنا البيت " أمامك فجر " أو " ودونك فجرا" أو " بوجهك فجر " ثم نقرأ " بعينيك فجر " فذلك أدعى إلى الاهتزاز والانفعال ، وتلك الحالة من النزف المستمر للطهر ، التحذير يعلو وتعلو وتيرته بدرجة متنامية عبر الأبيات ، النص متحرك موقف إلى موقف ، ومن أطروحة إلى أخرى ، ومن حجة إلى حجة ،
تجليت في معنى الحضور وإنما حضورك طيف في القراطيس هاتف ..
التحول من الحلم إلى الواقع ، من التطيف إلى التجسد هو القضية الآن ، يرى الشاعر أن حضور المعاني وحدها ليس كافيا للإقرار بتمام الحضور ، وكأنما هو في سياق المثل القائل " حبر على ورق " البيت يتناص مع هذه المقولة ، ومن أمثال هذه المفاتيح للنصوص الحديثة نتلمس الطريق إلى انفتاح الدلالة إلى ما هو أكثر اتساعا من شخص الشاعر ، فقضايان كلها حبر على ورق ، وفلسفاتنا كلها حبر على ورق ، وابتكاراتنا لم توضع على أرض الواقع كتقنية حديثة ، بل وبكل أسف كثيرا ما تكون مواقفنا العقدية الرائعة والمذهلة مجرد اقتناع عقلي بلا رصيد من العمل ، والإيمان كما هو معروف ما وقر في القلب وصدقه العمل ..
أختم بالفعل "تجليت" والجمع"القراطيس" وهو ملح شديد الدلالة على الشتات ، فالمتجلي مفرد والمتجلى عليه كثير ، إضافة إلى اسم الفاعل (هاتف) الذي يعني الثبوت على حالة الجمود هذه مقدِّما لذلك بأداة الحصر (إنما)وعن الحضور يتكلم عن معناه بما يناسب القراطيس ولم يتكلم عن الحضور المادي الذي هو ضالة المتكلم والمخاطب على السواء . وكلمة الطيف تتمم هلامية كلمة (المعنى) حول قضية الحضور الورقي المرفوض .
الشاعر عبد اللطيف غسري يطرق الذائقة دائما بكهرباء الشعور فيغريني بالكتابة ممسوسا بإبداعه المتميز ..


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قراءة معمقة لبعض روائع الشاعر عبد اللطيف السباعي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اِبتهال في ليلة القدر / الشاعر عبد اللطيف زغلول لطفي زغلول منبر مختارات من الشتات. 8 02-08-2021 09:12 AM
قراءة نقدية معمقة لقصص مبارك الحمود ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 41 12-11-2017 11:26 AM
سر الابداع وآليات توليد القصيدة لدى الشاعر المغربي عبد اللطيف السباعي (غسري) عبد اللطيف السباعي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 09-11-2014 05:18 PM
تتويج الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري أميرًا للشعراء العرب (صنف القصيدة العمودية) عبد اللطيف غسري منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 9 12-08-2011 09:09 PM
جلسة إلى الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري (1) المقدمة والاستهلال _ الشكل والمضمون عبد اللطيف غسري منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 11-26-2011 12:24 PM

الساعة الآن 01:55 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.