احصائيات

الردود
50

المشاهدات
18717
 
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي


ايوب صابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
12,766

+التقييم
2.40

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7857
01-02-2016, 08:51 AM
المشاركة 1
01-02-2016, 08:51 AM
المشاركة 1
افتراضي ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
القدس العربي» تنشر مقاطع من روايته الجديدة… سليم بركات في «أقاليم الجن»: مزيد من الخيال الجامح
january 1, 2016

ستوكهولم ـ «القدس العربي»: خيال بلا حدود يجعل من رواية سليم بركات الجديدة «أقاليم الجن» (تصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. في 500 صفحة) سجلاًّ لا يشبهه سجلٌ خيالي. جاء بركات إلى الرواية العربية بالفانتازيا في «فقهاء الظلام»، وبالمسارات الرمزية في معظم رواياته الأخرى، وبالمساق الأسطوري في «كهوف هايدراهوداهوس»، والرواية الواسعة الملحقة بها «حوافر مهشَّمة في هايدراهوداهوس»، إضافة إلى لعبته الغريبة بحكاية عن التماثيل ذات المهمات المدروسة «ثادريميس».
رواية « أقاليم الجن» بحث في عادات وتقاليد، وتناسل وأخلاق الجن، إلى درجة تحيِّر السؤال: من أين استقى المؤلف مصادره؟ لقد بنى عالماً لا شبيه له بقوانينه وأنظمته وعاداته وطبقات الجن فيه. ربما تتقاطع أحياناً مع أنظمة البشر لكنها لا تتطابق، ولن تتطابق لاختلاف طبيعة النوعين.
أبرز سمات الرواية ذلك الصراع المعلن والقاسي والعنيف بين ابن وأمه على وراثة أحد أقاليم الجن. فالزوجة قتلت زوجها السلطان غدراً لأسباب متعددة في سياق الرواية، وعندما يطالب الابن بميراث أبيه تماطل الأم في نقل التوريث إليه بكسب عقول سادة الفرق المحاربة إلى صفها. لكن الابن لا يلبث أن يتصدى لخططها بخطط مضادة، ودهاء قوي يقلب على أمه كل شيء، باتفاقه مع سادة المحاربين على التناوب في مشاركته حكم الإقليم، ثم ينتهي به الأمر إلى قتل أمه قبل انقلاب سادة المحاربين عليه بقتله هو.
هذا تفصيل من هيكل الرواية. فعميد المحاربين الأقوى بين سادة الفرق يجد نفسه مقصياً في هذا الصراع. لكنه يستولي بفرقته الكبرى على أرض «مانعات الرياح» ليبدأ من هناك التخطيط لحصار الفرق الأخرى. وتسمية «مانعات الرياح» مصطلح في الرواية يشمل تلك الابتكارات الهندسية في صناعة أبراج، وأسوار تتصل ببعضها يمكنها حجب الرياح الدائمة الهبوب في أرض الجن عن الأمكنة المطلوبة محاصرتها. والجن إذا حُجبت عنهم الرياح هدأت حركتهم وصاروا ثابتين جامدين.
عوالم غريبة جداً: هناك طيور عمياء مقدسة على الهضبة في إقليم جن هذه الرواية، يمنحها الجن لحوم موتاهم، فيما يرتدون هم جلود أقربائهم، ويأكلون عظامهم التي لا طعام لهم سواها، ويخافون البلل من الماء ولا يأكلون ثماراُ أو نباتاً. هناك فريق من النساء يسميهم المؤلف «التَّرِيْكات» وهنَّ من لم يساعدهن الحظ على التناسل من ذكور الجن، فهن منبوذات بلا نسل. هؤلاء النساء يعمدن إلى اغتيال الذباب الذي يتناسل به الجن (عملية التناسل غريبة جداً ومعقدة في الرواية، ليس فيها أي اتصال جنسي). ومع الاغتيالات تظهر الأقنعة لأول مرة في تاريخ الجن. أقنعة ترتديها الإناث «التريكات» في ارتكاب أفعالهن، وهي على صورة وجه أنثى آدمية تظهر بلا تمهيد في إقليم زينافيري (إقليم وقائع الرواية)، فتدور حولها وقائع كثيرة، وتظهر تأويلات في تفسير ظهورها بين جن نجد أشكالهم تشبه بأنصافها العلوية أشكال البشر قليلاً، لكن أرجلهم هي أرجل الجراد من أحواضهم نزولاً حتى أقدامهم.
الأنثى الآدمية هادئة المظهر والطبع، مستكينة وسارحة كأنما لا يعنيها ما يجري حولها. منجِّمو معبد الإقليم يأخذونها إلى معبدهم، ثم يضمها السلطان إلى حديقة حيواناته التي تحوي أنواعاً غريبة جداً من طيور «كارنا» الطويلة الأعناق كالأفاعي، والذئاب الصفر، ونمور بوابات الرمال، وبعض الجن الأقزام الصغار جداً، لهم أذيال وعلى جلودهم شيء من الريش.
لكن الإناث «التريكات» يخطفن الأنثى الآدمية من حديقة السلطان فيأخذنها إلى مساكنهن البعيدة جداً عن مدينة الإقليم وقراه ذات الأبنية من عظام الحيوانات، قبل أن تظهر مجموعة صغيرة من البشر فجأة فيتعرفون على الأنثى الآدمية كأنها كانت مفقودة، ثم لا يلبث أن تظهر جماعة ثانية من البشر تقتل الجماعة الأولى وتأخذ الأنثى أسيرة. في أثناء وجود المرأة الآدمية بين الإناث الجنيات «التريكات»، يتبادلن لعبة من النفخ في ثقوب الحجارة معها، تقليداً لما يفعله الذكور والإناث من الجن في عملية التناسل، ثم يضعن تلك الحجارة إلى جوار منازلهن التي هي حُفر في الرمل.
تفاصيل كثيرة تتداخل مع الوقائع الرئيسية في اتجاهات لا يمكن إيجازها: فهناك «مَجْمَع الذباب» الذي يشرف عليه شعراء يختارون للجن الطالبين للنسل ما يناسبهم. وهناك المعبد والمنجمون ذوو المهمات غير المعروفة كالتي نعرفها في مهنة المنجمين. وهناك الهضبة الحمراء الغامضة، وطيور «لاكيلا» العمياء، والأعمى «ماشفير» المتمرد على سلطة الإقليم، وقيَّاف البروق، وزوجة السلطان الثانية التي تغتالها زوجته الأولى بغرقها في بركة ماء، وهناك «الجن المطايا»، وهم من يختارونهم ضخاماً جداً وأقوياء يركبهم الجنُّ السادة كالخيول في تنقلاتهم. وهناك الحانة التي لا يشرب فيها الجن (هم لا يشربون الماء أبداً) شيئاً كما نعرف عن الحانات، بل يقف الواحد منهم في الحانة مقابل الآخر صامتاً، و»يتخاطران» حتى الفجر بلا أدنى همس. وهناك الأرض الخاصة بصناعة أبراج «مانعات الرياح» تحت إمرة مهندسين وصنَّاع وعمال ذوي اختصاصات في صناعتهم. وهناك واحة «كيما» لصيد الحيوانات من أجل عظامها، أما لحومها فتقدم طعاماً إلى الطيور العمياء، ثم هناك الثلج الذي يهطل لأول مرة في حياة الجن على أرضهم فكأنها النهاية الكبرى لانحلال ممالكهم.
لكن الرواية المتعددة المسارات تنتهي بضربة شديدة الإيجاز في تلميحها: سنسمع تشققاً لصخرة تحت طبقة الثلج من تلك الصخور التي تسلت الإناث «التريكات» مع الأنثى الآدمية بالنفخ في ثقوب فيها. فهل سينبثق نوع جديد من المخلوقات ممتزج الخصائص من الجن والبشر؟ بركات يتركنا في حيرة مثل حيرتنا من عالم الجن كله في هذا التأليف الشامل المبتكر المتعدد، الخرافي الأسطوري «الجامح الخيال» كما يقول محمود درويش عن صديقه الشاعر سليم بركات.
هنا مقاطع من الفصل الأول، خصّ بها المؤلف «القدس العربي»:
غاياتُ التفصيل.. ومَطالعُ التوثيق
تلقَّفتْ طيورُ لاكِيْلا، ذوات الجسومِ النسورِ، والرؤوس العظام بلا لحمٍ عليها أو جلد، نفيرَ البوق الحجرِ، جاثمةً على أعشاشها فوق قمة الهضبة الحمراء. منذ ثمانين عاماً لم ينفخ بوَّاقٌ في البوق الحجر معلَّقاً إلى غصن من شجرةٍ لا كالشجر، ابتناها النحاتون تصميماً من عظام شتَّى لحموها قِطعاً بالسيور الجلد، ونصبوها إلى الجهةِ الشرق من بوابة المَعْبد الكبير، في الساحة، وسط مساكن قبيلة زِيْنَافِيري المنيعة، المهيبة، في أقاليم الجن. أدارت الطيورُ رؤوسَها الفارغةَ المحاجرِ، لا عيون فيها، صوب مهبِّ النفير لم تبعثره الريحُ كاقتدار الريح على التقويض. داخَلَ النفيرُ الريحَ، ذلك الصباح، على الأرض الرمل ممتدَّةً كسماءٍ؛ عَلِقَ بزغبها الخفيِّ، فوزَّعته الريحُ قطرةً قطرةً من الصوت على الجهات، حيث حلَّتْ وارتحلتْ بالنقوش النافرة للصوت كارتحالها بالنقوش المتقوِّضةِ، الفوضى ـ نقوشِ الرمال.
سبع مرات نفخ البوَّاق في الأسطوانةِ النحتِ من حجرٍ ذي مسامَّ، ثم أعاده معلَّقاً إلى غصنٍ في الهيكل المصمَّم شجرةً من عظام. نهض الصخبُ واقفاً على أقدامه الذهبية مُذْ تزاحمت المعابرُ في مدينة جنِّ زيْنافيري بالملبِّيْنَ النداءَ النذيرَ. جموعٌ هبَّت قفزاً على سيقانها، ثم تراصَّت، بعد بعثرةٍ، في انتظام. جمهراتٌ جاورت جمهراتٍ على نحوٍ محسوب في علوم الخطط انجزها عقلُ المحاربيْنَ جيلاً عن جيل، فطنةً عن فطنةٍ، دُرْبةً عن دُربة، واختباراً عن اختبار. سريعاً كانت فِرَقُ المحاربين على أهبةٍ بأسلحتها العظام في أيديها، والخوذِ الحجرِ على الرؤوس، مستقبِلةً بوجوهها، صفوفاً أنصافَ حلقاتٍ، هيكلَ الإله الأكبر كُوْياسِي، الذي لم يتوقف مصمِّمو هيئته، منذ النشوء الأول لقبائل الجن، عن التبديل فيه. كُلُّ حكيمٍ، أو قائد، أو مُنجِّم، أو سيدٍ من أسياد السلالات، له الحقُّ في إِملاءِ إضافةٍ إلى الشكل استِزادةً، أو إملاءِ إنقاصٍ يتولى المصمِّمون تنفيذَه بلا اعتراض. هو هيكلٌ ضخمٌ من مجموع عظامِ المخلوقاتِ شتَّى، جنًّا، وحيواناتٍ، وطيوراً، جرى رصُّها قطعةً إلى قطعةٍ، في حسابٍ حاذقٍ لسقوط الظلال من بعضها على بعض، ولعبور شعاعات الشمس من خَلَلِ فراغاتها على الساحة المحيطة بالمعبد. وقد تراكم الهيكلُ الإلهُ علواًّ، واتساعاً، على نحوٍ يُرى، من كل جهة فيه، مخلوقاً متداخلاً من هيئاتٍ محيِّرة في انتسابها إلى كائنٍ بعينه. والجموعُ المحاربون، الذين لبُّوا نداءَ البوقِ النذيرَ، قادمينَ قفزاً على سيقانهم ـ سيقانِ الجراد، شخصوا تحديقاً إلى الهيكلِ الإلهِ يَرى كلٌّ فيه، بالخيال النحَّات في باطنَيْ عينيه الحجريتين، صورةَ الحقيقة التي تُلْهِمه الولاءَ عنيفاً للإرث في إقليم زينافيري.
بعد برهات من إِحكام الفِرَق صفوفَها منتظِمةً، متهيئةً، متأهبةً، شقَّ الغبارُ العاصفُ قميصَه عن قائد المحاربين مَاَيَاكي ممتطياً جنِّياً ضخماً يقود الريحَ خلفه بأرسان السرعة قفزاً على أربعٍ ـ ساقيه، ويديه معاً كدابَّةٍ. لجم الجنيُّ المطيَّةُ سرعتَه غوصاً بقدميه في الرمل. انتصب واقفا فنزل ماياكي عن ظهره.
للجنِّ السادة مطاياهم من الجنِّ الضِّخام تمشي على أربع إن اقتضى الانتقال، أو على الساقين إنِ اقتضى. الجنُّ السادة، والعاديون، والجنُّ المطايا، كلهم متشابهون في نشأة أعضائهم، إلاَّ بتمايزٍ في ضخامة المطايا عن غيرها، لذا تُتَّخذ كالدَّواب لنقل راكبيها. ماياكي وصل بمطيته الأسرع من شعاع على هضبة طيور لاكيلا المقدَّسة، حين اكتملت أُهبة الفِرَق المحاربين تلقاءً بلا مرشدٍ، يعرف الواحدُ، بخصِّيْصة الخطط عن خيال المحارب فيه، أين موضعه وموقعه.
تمشَّى قائد المحاربين مستعرضاً جمهراتِهِ في سلاحها وخُوَذها، فتمشَّى الجنيُّ المطية من خلفه كحرَسيٍّ. قلَّب عينيه الحجريتين الرماديتين في محجريهما تقليبَ الرضا. عيون الجن عيونٌ حجر في محاجرها، رمادية، كتيمة كأعين التماثيل لا بريقَ فيها، أو حدقاتٍ. لا أجفان لعيونها. محدِّقةٌ أبداً من الرؤوس الصِّغار، المستطيلة الوجوه. ذكورُهم جُرْدٌ لا ينبت شعر على جلودهم. وهم يتخذون من شعور رؤوسهم الرمادية على زرقةٍ جدائلَ طويلاتٍ، حرَّةً على جهات الوجوه. عِجافٌ هزيلون، ذكوراً وإناثاً، كهياكلَ عظامٍ عليها جلودٌ خشنة، رمادية، بنقوشٍ من خطوط ونقاطٍ بِيْضٍ وصُفر تولد معهم، هي ـ في زعمهم ـ تدوينٌ من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. والجنُّ، جُملةً، ذوو أيدٍ ضخامٍ، مفرطة في ضخامة راحاتها وأصابعها، لا تتناسب مع جسومهم العجاف. هي أيدٍ كلما تضاءلت، وانكمشت، وتصاغرت، دلَّهم أمرُها على شيخوخة واحدهم. أنوفهم مطموسة، مَسحاءُ، مستوية مع صفحات الوجوه، لا دليل عليها إلا ثقبان في الوجه الواحد، فوق الفم، ينتفخ جلد الخدَّين حولهما شهيقاً وزفيراً.
أسنانهم ضِخامٌ في الأفواه. يولدون بأسنانٍ ضِخامٍ، في سياقٍ من الاستنسال قائمٍ بقوانينه ـ قوانين نشوء الجن. كلُّ زوجين يستحصلان، مطلعَ اختيار الواحد شريكَه، كُرةً حجراً تتسع ملء يدين من أيديهما. في الكُرة الحجر ثقبٌ عميق حتى مركزها، توضع فيه ذبابة مختارة من مَجْمَع استِنْسالِ الذباب، القائم سُلطةً بذاته في جناحٍ من قصر السلطان كَاشَاجُو ـ سلطان إقليم زينافيري. شعراءٌ يتولون، خَلَفاً عن سلف، إدارةَ المجمع، حيث يُحتفَظ بالذباب، على أنواعٍ بلا حصر، في قوارير من خزف مغلقة. هُم الشعراء يَهَبون كلَّ زوجين ذبابةً، بعد درسٍ عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما، ومقدار طاقتيهما على استحضار صورٍ مغالية في غرابتها ـ صورٍ رؤىً.
قبل وضع الذبابة المختارة في ثقب الكرة الحجر، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجنِّ في راحة يدها اليسرى مطبقةً عليها، لا تفتحها قط، بل تنفخ عليها من وقت إلى وقت. ثم تُنقل الذبابة إلى راحة الذَّكر يُطْبقها عليها أربعين يوماً ينفخ عليها من وقت إلى وقت. بعد الثمانين يوماً تلك توضع الذبابة في ثقب الكرة الحجر، ويُسدُّ الثقب بسدادةٍ جلدٍ ثمانين يوماً هي دورةُ الريح بالرمالِ حلقةً من حول هضبة طيور لاكيلا، وإرساؤها النقوشَ متماوجةً بإتقانٍ على الرمال في العراء المحيط بالمعبد.
بعد الثمانين الأيامِ من أيام الجن تنشقُّ الكرة الحجر عن وليدٍ كخادرة الفراشة، لكنْ مكتمل الشكل على صِغرٍ في الهيئة، بأسنان كبيرة، وعينين حجريتين، ورِجلين كرِجلي الجرادة تماماً: فخذان صُلبتان من عظم عليه جلدٌ خشن مُعرَّق، وساقان قصَبتان، منشاريتان، تنتهيان برسغيْنِ عظمتين صغيرتين هما قَدَما الكائن الجن.
يقفز الوليدُ بعد تصدُّع الكرة الحجر كالجرادة، دائراً دورتين من حول والديه. يقفز الوالدان من حول وليدهما دورتين. يضربانه على صدغيه، كلٌّ بقبضة مضمومة، ضربة تصرعه برهةً مغمىً عليه. يفيق فينطلقان به إلى مسكنهما.
مشيُ الجنِّ مشيُ الجرادة مُذْ يولدون بأرجلٍ كأرجل الجراد من ذبابٍ حاضنتُه الكُرةُ الحجر. شعراؤهم المتوارثون مَجْمَعَ انتخاب الذباب للإستنسال لا يُعهد بالمهنة إلى سواهم. يقلُّون عدداً أحياناً، أو يزيدون، لكنهم لا يجاوزون الأربعة. منجِّمو إقليم زينافيري عهدوا بالتكليف إلى الشعراء منذ ما لا يحصره تحديدٌ من أزمنة الجن. ذلك كان زعمَهم في اقتسامٍ عادلٍ للسماء والأرض بينهم: هُمُ المنجمون يتتبَّعون نشأةَ الخطط، وقواعدَ الخطط، وأخاديعَ الخطط في المشوف من كُرة السماء وبريقِ زجاجها المعتم، ومطاوي البرازخ بين الكواكب وبناتها النجوم. أما الشعراء فيتتبَّعون المستورَ من كُرة الأرضِ ـ باطنَها العماءَ، وأسسَ العماء، وفروعَ الملتبسِ المُشْكل من فيض اللامحسوم: يتتبعون الكلماتِ حتى يرثوا منها ثقةَ الجنِّ بالأرض من حولهم، كثقة الذباب بطيرانه المحيِّر، وإخلاص الذباب للاستحالات في العناصر من نشآت أجسامٍ إلى روائح.
توكَّل الشعراء باختيار الذباب، ونوعه، وجنسه، لطالب النسْل من الجن تحفظ أنثاهم، وذَكَرهم، حظَّهما الحشرةَ في راحة اليدين، كلٌّ أربعين يوماً، فإن سَها أحدهما مرةً، وتراخت يدُه المضمومة عن ذبابته، قبل اكتمال الأربعين، لم ينجب بعد ذا قط. قد يحدث أن لا تُنْجَزَ النشأةُ، لا من خطأ يقترفانه، بل من عجز الكرة الحجر ذاتها عن الإيفاء بوعدِها ـ وعدِ الحاضنة. يحدث أن لا تتصدع الكرة الحجر عن وليدٍ مكتمل بعد ثمانين يوماً من احتباس الذبابة في جوفها، بل تخرج من ثقب صغير آخر فيها، ذبابتان صفراوان قَرَضتا الحجر حتى أحدثتا لنفسيهما مَخرجاً. تحومان حول رأس الذكر الجن قليلاً، ثم حول رأس أنثاه، ثم تختفيان: تلك علامة إخفاق الكرة الحجر في الحَبَل. لكنهما يستطيعان، في الحال هذه، إعادة الكَرَّةِ طلباً للنسل من اجتماع نفخِهما على خيال الذبابة، التي تعرف، دون سائر حشرات الأرض، أنها وعدُ الانتقال بجسدها البزرةِ، في الظلام، إلى انبثاق الشكلِ الجنِّ وليداً يبدأ سيرتَه بالقفز أوَّلَ خروجه من الكرة الحجر.
الجن يتحركون قفزاً على أرجلهم ـ أرجلِ الجراد. ما من تأويل لذلك الرَّتْقِ الغامض بين أنصاف أجسادهم العليا الآدمية وأنصافهم السفلى مستعارةً من هيئة الجراد. كان حريًّا بمنطق النشأة أن يستولد الجنَّ مزجاً من هيئة الآدميِّ والذباب الحاضن لبزرة العبور إلى تشكيل الجنين. في أقاليمهم جراد كثير، تعرف نساؤهم، اللواتي لا تتوقفن عن الغناءِ الهمهمةِ عاليةً أو خفيضةً، كيف يستخلصْن من عصارة حشوها ترياقاً يزيل انتفاخَ الرُّكَب دَهْناً، ويلحم الكسور في العظام طلياً على مواضع الكسور. منجِّمو إقليم زينافيري الأربعة، المتطبِّعون على ربط الإشارات الكونية بطباع العناصر، وترويض الطلسمات في إنشجار البروق برسمها هيئاتٍ، واستنزاف المُلغز شرحاً موثوقاً في الأعراض الظاهرة للمخلوقات الخُنَاثى، والهُجَناء، لم يكلفوا أنفسهم جهْدَ النظر إلى المزْج في هيئات الجن يولدون بأنصافٍ متراكبة من حشرة بعينها هي الجرادة، ومن الشكل الآدمي. لا يرون في الأمر إلاَّ نشأةً محضاً قائمة بذاتها، يتمايزون بها عن طيور لاكيلا، والذئاب الصُّفر، وقرود براري هِيْهْمو، التي يرتعدون من ذِكْرها. لكنهم يرون الجراد مراراً في تأمُّلهم سُحُبَ الغبار، فيتأوَّلون أن الجراد جنيٌّ متنكر في صورة الحشرة لا غير، هارباً من غزوات قرود هيهمو الزرق الأقدام، الحمر العيون، الذهبية الأنياب. هُمْ لا يهابون حيواناً، أو حشرة، أو زاحفاً، إلاَّ قرود هيهمو المتلذِّذة التهاماً للجن أحياء وموتى. قرودٌ تغزو أرض الجن إن بخلت أرضُها البراري جنوباً بوفرة في الطعام عليها نباتاً، وحشراتٍ، وثمراً، ودرناتٍ عسقوليَّة.
الجن لا يأكلون طعاماً إلاَّ العظام. يأكلون عظام موتاهم، وعظام الطير، وعظام الحيوان من كل نوع، مجفَّفةً، فيما يطرحون اللحوم على سفوح الهضبة الحمراء تقدمةً لطيور لاكيلا المقدسة، ذوات الرؤوس العظم بلا جلد عليها، والفارغة المحاجر لا عيونَ فيها. يثيرون الغبارَ بأقدامهم الأرساغ الحَشَريَّةِ، أو بأيديهم، فيحتسونَه استنشاقاً إن عطشوا. لا نسغَ، لا سائلَ، لا عصارةَ، لا دماء فيهم. جراحهم يسيل منها غبارٌ رمادي، وإذْ يلفظون أنفاسَهم موتاً ينفثون، في الزفير، غباراً برتقالياًّ. عيونهم حجر بلا أجفان تدور في محاجرها كعيون الحرباءات. لا ينامون. يتشاءمون من ذِكْر الأعمار. كلما كبروا تصاغرت أيديهم المفرطةُ ضخامةً: ذلك مَسُّ الزمن في دورته أعمارَهم. سلاحهم عظامٌ، أو نِزالٌ بالرَّكْل من سيقانهم القصبات المنشارية يتضاربون بها مستدبراً أحدُهم الآخرَ بظهره، وللزمن عندهم وحدةُ قياسٍ هي ترقوة الثور.
ما من ضرورة لفهم تلك الوحدة في قياس الزمن. قد تكون اقتباساً مُستغلِقاً في مطابقة الزمن بالأبعادِ المسافات والحجوم. أو ربما يرى الجنُّ الزمنَ استواءً محسوساً كالأرض تُقاس بالقفزات، والأذرع، والنظرِ الحاسبِ بالتخمين.
ما من مطر في أرضهم. يعرفون سُحُبَ الغبار، لا غيرها، مُذْ أرضُهم ريحٌ متصلة في شهور أعوامهم كلها. قد تهدأ أحياناً في زمجرة مكتومة تتهيَّأ بها للوثبةِ أكثرَ عصفاً. وهُمْ، في الآناء القِصار من هدأة الريح يخمدون فلا يتحركون كأنهم في صوم. لا جنَّ يغزو جنًّا، أو يسرق من مخازن العظام، أو يكمل نِزاله عراكاً، أو يكمل معركةً، أو يُبارح المكان الذي هم فيه إنْ خمدتِ الريح.
لا ينام الجن. فإن توسَّلوا حلماً مَّا، مقصوداً بالتحديد مثل وصفٍ بالكلام واضحاً، ألصقوا عيونَهم بساق الشجرة العظام، شرقَ المعبد، وتكلموا. كلامُ الجن، في حالهم تلك اختلاءً بأنفسهم، مكشوفين في الساحةِ الرمل، هو حلمهم. ما يتخيَّله الجنيُّ، سرداً لرغائبه على نفْسه كلاماً، هو حلمه. إنه يتدبر الحلمَ كاملاً، موصوفاً، منطوقاً بكلماتِ رغبته، ثم يختزنه ملصِقاً عينيه الحجريتين بساق الشجرةِ العظام، فيغدو الحلمُ المُحاك بعناية اليقظة حلماً رؤيا.
سُحبٌ غبارٌ في أرض الجن، وبروق مُسَطَّرةٌ بشهوةِ المصادفات الكثيرة للجفاف العميم، العظيم. بروقٌ صلبةٌ، لا من نارٍ، بل من حجرٍ نارٍ، وفلزٍّ معدنٍ، ترمي على الرمال، بعد اشتعالها الزئيرِ، بُرادةً سوداء يجمعها قيَّافُ البروق وِيْلابو الطويل، الذي لا يُبارى طولاً في إقليم زينافيري، ويقايض بها الآخرين على العظام. يمزج الشارونَ البرادةَ بعصارة جوف الجراد فيدْهنون، بالمزيج، أبوابَ مخازنهم الصِّغار لصقَ البيوت حِرْزاً من اللصوص، أو دعاءً صامتاً باستنزال البرقِ لعنةً على مغتصبِ ما يخزنون من عظام فيها، لا غير. كل ناحية من إقليم زينافيري تشهد مواكبَ بروق، وقُطُراً بروقاً متتابعةً تخصُّها بأشكالِ الشِّعَبِ النار، وتشجُّرِ اللهب بما لا يُحصى، أو يُحصى، من غصونٍ في البرق الواحد. بُرادة البروق على أهضام الهضبة الحمراء ـ هضبة طيور لاكيلا، هي الأوفى إغراءً يطلبها الطالبون من ويلابوذي القفزة الواحدة المديدة أوسع من أربع قفزات لجنيٍّ آخر. لذا هو الأوحد يصيد الذئاب الصُّفر ركضاً خلفها حتى إنهاكها، فيما يتصيد الآخرون بمقاذفَ عظامٍ.
جنوب غرب إقليم زينافيري تمتد واحة كيما شرخاً أخضرَ، مستطيلاً، في مرآة الرمال. أيْكٌ لفيفٌ من شجر ذي شوك، وثمر ذي شوك، يطوق الحدودَ الماءَ، وسط الواحة، منبجساً من نبعٍ مستورٍ هو بقايا الذاكرة الظاهرة لنهرٍ آثرَ النسيانَ فغارَ دفيناً في ملجأ الماءِ الأصل. الجنُّ لا يرِدونَ الواحةَ إلاَّ بحثاً عن قنائصَ حيواناتٍ أراويَ، وثيرانٍ، وطيور، وذئاب صُفر، يتموَّهون لقنصها اختباءً تحت الرمل، آناء مجيئها للشرب، أو قذْفاً بالعظام مبريَّةً كحراب. يأخذون اللحوم تقدمةً لطيور لاكيلا العُمْي، ويجفِّفون العظامَ فيخزنونها طعاماً إلى جوار عظام موتاهم. غير أنَّ الأكثر إغراءً من بين القنائص جنٌّ صِغارُ الحجوم، ضِئالٌ، قُزُمٌ، لا يزيد طول واحدهم عن شبر من يد الجنِّ العاديين، لهم أذيال، وعلى جسومهم المهازيلِ ريشٌ بني وأحمر، يقايضون به أسنان الموتى في سوق كاتْرَامِيْلْ ـ سوقِ الصمت، الواقع على بعد قليل جنوب الواحة، تختلف إليه القبائل للمقايضات.
صعبٌ قنصُ الجنِّ الضئال، ذوي الريش والأذيال. يلزم القناصَ وقتٌ يُحْتَسَب بالأيام الكُثر في كمينه، تحت الرمل، ليختطف واحداً من المخلوقات القُزُم، الساكنةِ جحوراً ضيقة، غائرة عميقاً أسفل جذور الشجر الشوكِ الأيكِ، الضخام الجذوع، في واحة كيما. مخلوقات حذرةٌ أُوْلالِكَ كالومضِ في برقٍ. إنْ بوغتت ألقت بأنفسها في الماء حيث لا جراءة للجن على النزول إليه. كُره الجن، في زينافيري، للماء، وتِهْيابُهم البللَ شبيهان بالكوابيس تأخذهم من الحناجر إنْ ذكروا قرودَ هيهمو. حيلة الجنِّ المريَّشيْنَ، الضئالِ، تُنجيهم كثيراً، لكنْ يحدُثُ أن لا يُنْجِد حظُّ الحيلة واحداً، أو أكثر، فيؤخذ قنيصةً نفيسة، يُقايض ريشُه بأسنان الموتى الأكثر فخامةً في المقايضات، أما العظام فتُستطاب مَضْغاً في ولائم الأعياد، بعد الشَّبع، أو يتبادلون القليلَ منها قِطَعاً هدايا أثيرةً.
سوق كاتراميل هي ملتقى القبائل للمقايضات: عظام طيور تُقايض بعظام ذئاب. عظامُ شيوخ موتى تُقايضُ بعظام أطفالٍ موتى، وريشُ الجن الأقزام بالأسنان. لكنهم لا يقايضون من منافع حاجاتهم جلوداً بجلود. كل جنيِّ ذَكَر يتخذ ثوبَه من جلد أنثى ميتة في عائلته. وكل أنثى تتخذ ثوبَها من جلد ذَكر ميت في عائلتها. يتوارث الجن جلودَ آبائهم، وأمهاتهم، وإخوتهم، والأقربيْنَ الأخوال، والخالات، والأعمام، ونسلهم الأولاد. منذ ما يُسْتَحْضَر، وما يُستحضَر من ذاكرة شيوخ الجن، كانت سوق كاتراميل في موضعها جنوب واحة كيما. سوق الصمت المقدَّس ـ هذا هو وصفُها المقدس بلا كلمات. يجتمع الجن، في السوق، للمقايضات صامتين، حذرين في الحركة لا يُحدِثون جلبةً، أو ضوضاء، أو صخباً. يُحاذِرون التلامسَ مهما كان اكتظاظ السوق الدائم بعروضه، وبالجماعات على مشارفه تقيم أياماً، ثم تحل محلها جماعاتٌ أُخَرُ أياماً بعد رحيل الأُوَل: كل شيء يُنْجَز بإشارات خرساء.
بلا أسلحة يحضر الجنُّ سوقَ الصمت المقدس. لا ينتقم منتقمٌ لنفْسه هناك إن صادف غريماً خصماً. لا يسرق اللصوصُ في زحامه أحداً. الإناث، والذكور المقبِلون منهم على رغائب الإنجاب، في الأعمار الناضجة، يتبادلون إشارات الرغبة من صميم المصادفات، في موضع منفصل من السوق. معهم عيدان من نبات الواحة يربط إليها الواحدُ منهم، ذكراً وأنثى، ذبابةً بشعرة من شعر رأسه الطويل. إن حطت الذبابة على كتف العابر به، أو بها، تلازما زوجين للإستنسال، بعونٍ من اختيار مَجْمع الذباب ذبابةً لائقة بهما، للبلوغ بالرغبة قَصْدَها في الحاضنةِ الكرةِ الحجر.
يفهم الجنُّ لغاتِ الجن كلهم. يتلقَّفون اللغاتِ مكتملةَ المعاني من هبوب الريح على أقاليمهم من الجهات كافةً بنبْرٍ في العزيف هو بلوغُ المقاصد في الكلماتِ الغمغمةِ، والهمهمة، تعبيرَها منْجَزاً مستوفىً تتحصَّلُه ذاكرةُ الجنيِّ فتختزنه. هم ناطقون بلغات ثعالب أرض كَارُوس، وثيران أرض هَادولا، وعصافير أرض كُوشْنُو، وبعوض بحيرة سِيْمِيْر، وحيتان أرخبيل محيط زِيْلُو السحيق على تخوم نهاية الممالك القديمة، وجراد أودية بَاكْنون، وعناكب كثبان أرض ماناو المتراصفة الرمال كالحراشف. قاطنو إقليم زينافيري الأكثرِ ذباباً مكينون، إضافةً إلى اللغات أُوْلالِكَ، في لغة ذبابهم على أنواعه: اللحوحة، والطائشة الرعناء، والجسورة لا تأبه لانتهارٍ، والهادئة طيراناً، والطَّنَّانة طيراناً، والمشِعَّة، والكامدة، والسريعة، والبطيئة، والواضحة أشغالاً، والغامضة أشغالاً تحطُّ على موضعٍ أياماً بتمامها، واقفة على رؤوسها في توازنٍ يحفظه الخفْقُ المتلاحق للأجنحة. والجنُّ يخصصون هذا النوع من الذباب بلقب «المُنجِّم».
مدن إقليم زينافيري، وقراها، أبنيةٌ ومساكن بلا تصاميم في الهندسة تُحْسَبُ رُقيًّا، أو براعاتٍ من اختصاصٍ في العمارة: عظامٌ تكوَّم فوق عظام بأناةٍ من حفظ الثقل متَّزناً على الأرض الرمل. تُقام الجدران أولاً، دائرية في أغلبها، غير عالية، ثم تُجعل عليها الجلودُ سقوفاً تُغطى بالعظام الصغار حتى تغدو قباباً. تُحاط المدينة بسور من العظام الكبار بلا ارتفاع، وفي السور معابر إلى القرى المحيطة بالمدينة عن قربٍ كبير، حتى تكاد تلامس مساكنُها السورَ من الجهات كلها. فإن باغتهم غزاةٌ لجأ أهل القرى سُراعاً إلى الداخل. غير أن إقليم زينافيري لا يُفاجأ بغزاة؛ لا يجرؤ غزاة على انتداب الخطط لغزو الإقليم المنيع، الكثير المحاربين لم تخُض قبيلة حرباً ضد أهلها منذ ثمانين عاماً من أعوام الجن البالغة مَبْلغَها طولاً.
غزو قبيلةٍ لأخرى، في تاريخ الجن، الذي يُدوَّن بإضافة العظام إلى الأسوار، يتحكَّمُه طلبُ العظام لا غير، إن فَرَغَتْ مخازن أمَّة منها، وصَعُب عليها التعويض بعظام موتاها فقط، وقلَّتِ الطرائدُ، والمواردُ من الحيوان والطير. لا عن استزادةٍ للسَّعةِ في ما تخزنه، أو تغليباً للرَّفاهِ في المخزون من العظام، تغزو أمة من الجن أمة أخرى، بل الاضطرار من مسِّ الجوع. قد تقتطع مللٌ ثرية لمِلل محتاجة بعضاً من وفرة مواردها، إذا توسَّلتها العونَ: ذلك قليل، بل نادر. أما غزو أمة لأمة، لأسباب أخرى غير طلب القوت، فلربما اقتضته، على حَصْرٍ كبير في الحدوث، رؤى منجِّميهم إن غلب على تأويل وحيها الذعرُ من نفاد المؤنة، أو الإنذار مبكراً بتربُّصٍ من أُمم أخرياتٍ بمخازنها نهباً. تلك هي الغزواتُ الإستبَاقية يسيرُ بها وحيُ العلاماتِ الموصوفة، وتراكُبِ الإشاراتِ الصورِ، وتقاطعاتِ المعارج بين الأفلاك، ومجاهراتِ الكسوف والخسوف، واحتجابِ النجوم في مياه الكواكب ومرايا الشُّهُب والرُّجوم.
حروب الوحي، استباقاً من الأقدار، لا تنتهي بتسوياتٍ إخضاعٍ، أو اتِّفاقٍ على الحدِّ من الخسارة يُرتضى به وصْفاً للاَّغالبيْنَ، بل بإفناءٍ نهائي من أمة لأمة حتى آخر محارب فيها، وآخر نسلٍ صغير أو كبير، ذُكراناً وإناثاً. المنتصرون يعرُّون عظامَ المغلوبيْنَ من اللحمِ الضئيل عليها فيؤخذ تقدمةً إلى طيور لاكيلا، ويقيمون الولائم وقتاً على قدْر انتهائهم من التهام آخر عظم من عظام من قَتَلوا. هي الحال الوحيدة في إرث الجن يأكلون عظاماً غير مجفَّفة بعد. لا يستسيغونها، لكنهم لا ينتظرون انتقالَ الغضب، الذي تلهبُه المعركةُ فيهم، من جهة في قلب الواحد إلى الجهة الأخرى. هُم عنيفون أبداً. غاضبون أبداً. أنصافُ قلوبهم الأيامِنُ مضطرمةٌ غضباً في أعمارهم، ونشوبُ المعارك يملأ الجهات اليُسْريات. لا ينتظرون انحسار الغضب عن جهات قلوبهم اليسريات: يأكلون عظامَ الأعداء القتلى غَيرَ مجفَّفة بعْد قبل انحسارهِ.
في أعيادهم ـ أعيادِ أرض زينافيري، يصحب الجنُّ إلى الساحات في المدينة، وفي القرى، أفضلَ ما ادَّخروه من مخازنهم: جمجمةَ أبٍ، أو جدٍّ، أو أم، أو أخت، أو أخ. يصحبون جماجمَ الأقربين إليهم في كبار الأعياد ـ عيد طيور لاكيلا، وعيد الجراد، وعيد العاصفة الزرقاء.
يصعدون الهضبة الحمراء، في عيد الطيور. القمةُ المستوية، الشاسعة الأرجاء، تتسع لسلطان زينافيري، والمنجِّميْنَ، والأسياد، فيما يقيم المحاربون، والعامَّةُ، شعائرَ العيد على أهضام الهضبة، وسفوحها، في خشوعٍ يتوسَّلون به ترويضَ المصائر إفراغاً للموت من هيبته كطيور لاكيلا أفرغتِ الظلامَ، في محاجر رؤوسها العظامِ الحية، من هيبة الظلام.
عيدُ الجراد شعائرُ احتفالٍ مفتوحة: يدور الجنُّ قفزاً من حول أنفسهم، متصنِّعيْنَ بأيديهم الضخام رفيفاً كرفيف أجنحة الحشرة، التي منحتْهم كمالاً في الأرجل على مُطابَقةٍ من شكلِ رِجْليها في مرآة خلائق الظاهر. وفي عيد الجراد هذا تستحضر إناث الجن السمَّ الناقع، الفَتْكَةَ، من دقيق عظمِ فِقَرِ الأطفال الموتى، إذْ خاصيَّةُ السم في عظام أطفال الجن موصوفةٌ معلومة، لكنها تتلاشى كلما كبروا. والذكور، الذين تستخلص نساؤهم هذا السمَّ دقيقاً مطحوناً، يحفظونَ الدقيقَ في رقاقاتٍ جلدٍ مطوية مغلقة بإحكام. فإن راموا انتقاماً، أو ثأراً، نثروه على وجوه الخصوم في غفلةٍ منهم: مَنْ يتنشَّقون شيئاً من طحين السم تتصلّب مفاصلهم كلها، تلتحم فلا يتحرك فيهم عضوٌ بعد ذلك: تموت الضحية متحجِّرةً.
الجن الخَلْق الذين لا ينامون، ويبتكرون أحلاماً متوافقةً مع رغباتهم المتوسِّلةِ أحلاماً معلومة بتفاصيلها، يعمدون، في عيد الجراد، إلى إلصاق عيونهم الجواحظِ الحجرِ بأيِّ موضع من جدران المعبد الدائريِّ، العظيم بناءً قبَّةً من العظام، منقسميْنَ على صنفيْنِ في الفكر يهَبُونهما أجسادَهم كأنما في أشغالٍ مرهِقة، وهم ثابتون لا يتحركون؛ مرهِقةٍ تبلغ مبلغَها من الكَدْحِ ضراوةً. فكرتان تشبهان الركض وراء طريدة، أو منازلةَ خصمٍ ركْلاً. فكرتان مجهِدتان: الأولى أنَّ الجنيَّ يتوهم حفْرَ سرداب حفراً شاقاً بيدَيْ خياله، للعبور إلى الجهة الأخرى من الأرض، ثم يَجد نَفْسَه، بعد إنجاز الحفر، في متاهة من ممراتٍ رملٍ ضيقة جداً، بين مياه مترامية تتماوج في قاعها وجوهٌ كوجوه قرود هيهمو المُحاطة بشعر أصفر طويل. ممراتٌ تتأرجح به كأنها طافية، وذعرُه من السقوط في الماء يقوِّضُ بُنيانَه، أو يكاد.
الفكرة الثانية التي يهَبُها الجنيُّ خيالَ جسدِه، هي انكبابه، في حاله المتفكِّرة، على تركيب أجنحة كاجنحة الذباب على جانبَيْ جذعه، حَفْراً بشظية مسنونة من العظم في جلده، ولحمه الأعجف الضامر، لتثبيت جذور الأجنحة في الجراح المستوهَمة، الأكثر إي ماً من جراح حاصلةٍ حقًّا. وإذْ يثبتها، ويهمُّ بالطيران، يسقط أرضاً متمرِّغاً في الرمل.
الجن الذين يلصقون عيونهم بجدران المعبد العظامِ من كل صنفٍ وخَلْقٍ، ينهارون حالما يستنفدون ما تفكروا فيه. يتراخون منهَكيْنَ، أو ينطرحون صرعى من الإعياء.
فكرتان يمتحنُ الجنُّ بهما، في عيد الجراد، احتمالَ أجسادهم، ذكوراً وإناثاً. ولمَّا ينجزونَ الإنهاكَ قويًّا كما توقَّعوه، يلبثون في غضبٍ يوماً بتمامه من أيام الجن، فيقوِّضون منازلهم سقوفاً، وجدراناً في النهار، ثم يعيدون بناءها في الليل على نحوٍ مختلف عما كانت عليه قبل الهدم. يدورون حول منازلهم الجديدة قفْزاً هياجاً يثيرون به الغبارَ زوابعَ يستنشقونها في نشوةٍ سُكْرٍ.


قديم 01-02-2016, 02:17 PM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كان جون أر تولكين قد اخترع للجن لغة في روايته السحرية سيد الخواتم فهل فعل بركات الشي نفسه مع الجن في روايته ؟
والسؤال الأهم يظل من اين جاء بركات بهذا الخيال الجامح ؟ وهل لطفولته علاقة بهذه السحرية ؟ على الاغلب ان تولكين استمد خياله السحري من طفولتة المريرة فهل كانت طفولة بركات مريرة ؟


قديم 02-20-2016, 12:57 PM
المشاركة 3
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
"أقاليم الجن": سليم بركات في لعبة العوالم المتوازية
عمّار أحمد الشقيري
13 فبراير 2016

منذ القديم، صنع الإنسانُ عوالم موازية لوجوده، آلهة ومخلوقاتٍ وهميّة تعدّدت أشكالها، وكان للعرب نصيب وافر من ذكر هذه الكائنات، وكان منها الجنّ الذي تعدّدت أسماؤه عند العرب.

دائماً ما يصوغ المخيال حكايات عن هذه المخلوقات؛ مرّةً بالتقريب بين عاداتها وعادات البشر، ومرّة بالتأويل؛ غير أن هذه الأخبار عن هذه العوالم، ظلّت رغم كل ذلك كغيرها عند باقي الشعوب "أقاصيصَ، ونتفاً مجزوءاتٍ لم تبلغ في أي معتقد مبلغ البناء".
في هذا الحيّز، يفرد الروائي سليم بركات فخاخ سرده، متصيّداً الأقاصيص، ومحاولاً جمعها، في رواية طويلة (500 صفحة)، صدرت حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "أقاليم الجن".

تبدأ الرواية الثانية والعشرون في مسيرة بركات ببوقٍ يعلن النفير تأهّباً في إقليم الجن زينافيري؛ حيث تبدأ تشكيلات فرق المحاربين بالتجمّع، ويبدأ شيئاً فشيئاً، تأثيث عالم الجنّ؛ عباداتهم وأحكام القضاء وتعاليمهم اليومية ومواثيق البيوع وطرق تناسلهم.
"
يواصل بركات الابتكار في عوالمه الروائية شكلاً ومحتوى
"
يواصل بركات الابتكار في عوالمه الروائية شكلاً ومحتوى، وإعادة صناعته بما يمليه عليه خياله وصنعة التلاعب بالأفكار؛ فمن صناعات الكائنات المختلسة الشكل بين الخيل والإنسان في عمليه "كهوف هايدراهوداهوس" و"حوافر مهشّمة في هايدراهوداهوس"، التي فصّل فيها بأفكارٍ لا تقل التباساً عن الأشكال، العلاقة بين السلطة ودسائسها، ها هو ذا يُعيد في هذا العمل صناعة أشكالٍ أخرى ملتبسة الشكل من سلالات جنٍ أنصافها العلوية آدمية والسفلى جراد، وحين يعتاد القارئ على المخلوقات الجديدة هذه، يدخل العنصر البشري في الأحداث عبر طفلة إنسية وجدها محاربو زينافيري على تخوم الإقليم والمدعوة هايكاهيكسين.

من هذه النقطة، تبدأ لعبة قلب المفاهيم والتصوّرات في العمل؛ بجعل العالم الأساسي، عالم الجن، وعالم البشر هو الدخيل عليه. هنا نلتقي بمجاميع جن يؤرقها سؤال محيّر عن أصل هذا الكائن الغريب، وهل يوجد منه في عوالم أخرى لم تجد المعرفة في إقليم زينافيري الطريق إليه.

بالتوازي مع ذلك، تقود الدسائس الأحداث في الإقليم عبر زوجة سلطان الجن، شيكتان؛ سمٌّ ونفي وإغراق، ودسائس أخرى عبر مجموعة إناث لم يحظين بشركاء ذكور للاستنسال، فعمدن إلى إجهاض الأجنّة التي تحتضنها أكفّ الجنيات، هنا تبرز وحدة الكائن الإنسي هايكاهيكسين في جموع ليست من نوعها.

لا تقف ألاعيب بركات في العمل عند الأشكال، إنما تتعدّاها إلى التلاعب بالقارئ بالإيحاء له عن زمان ما، ونقله إلى آخر، فما بدا خلال الرواية أنه بداية تشكّل الأرضِ مكاناً لأحداث الرواية أعاد هدمه في النهاية. حيلةٌ كرّرها بعدة أشكالٍ في أعماله السابقة، كان أبرزها في روايته الأخيرة "سجناء جبل أيايانو الشرقي" التي أقامها في حيّز زمني لا يتجاوز الدقيقة الواحدة.

كان لا بدَّ من ذكر الإله في هذا العمل، كتجاور فكرة الخيال وفكرة الآلهة وتغيّر النظرة إليها عبر التاريخ، أما إله إقليم الجن زينافيري، المدعو "كوياسي"، فهو تمثالٌ يقيم في معبدٍ ويخضع كل وقت للبتر والإضافة والامتداد والانحسار، واللاتناسق الذي يمليه أسياد الإقليم على النحّات "ألما".
"
التفاصيل تنبئ عن حفرٍ ومعرفة في طبيعة هذه الكائنات
"
على طول العمل، يبقى ذكر أمير الجنّ المتمرّدين، ماشفير الأعمى، والخارجين معه من إقليم زينافيري، يتردّد كرمز لعالمٍ محجوب؛ تابعون متمرّدون من الإقليم يخرجون، ليعيد الأعمى ترتيب ذاكرة كل واحد منهم بعد محوها، ويستخدمهم في جيشه، فإن قبض رجال سلطان الإقليم كاشاجو عليهم تبخّرت ذاكراتهم، فلا يعود دليل على مكانه.

يعرض بركات في عمله هذا دور المحتجب في تحريك المخيال، فأتباع ماشفير الأعمى، أرّقوا خيال جنّ إقليم زينافيري بالتأويل؛ أسئلة عن أنفاقهم خلف أرض مصدّات الرياح المنخفضة، وعن لغتهم المبهمة، وعن تخليص الأعمى أتباعه من عذابات الاعتراف، وبقائهم في الخفاء رغم محاولات منجّمي الإقليم، وقيّاف البروق ويلابو الحصول على أخبارٍ يقينية عنهم.

خلف إقليم زينافيري، عند واحة كيما، وبعيداً عن إله الجن كوياسي، وقبل الدمار الأكبر، يظهر نفرٌ من الإنس، ويعثرون على الإنسيّة هايكاهيكسين أخيراً، فيأخذونها معهم، في حين تظل الجن شاتار تتابع بسكون، وخلفها تابعاتها، لينتهي العمل بفكرةٍ مفادها، إن كان عالمٌ للجن يقيم محتجباً عن البشر، فعالمٌ آخر للبشر أيضاً يبقى محتجباً عن عالم الجن.

ليست "أقاليم الجن" كباقي أعمال بركات خارجةً من الخيال وحده، فالتفاصيل تنبئ عن حفرٍ ومعرفة في طبيعة هذه الكائنات؛ حيث "لا تخلو أساطير الأمم وخرافاتهم من الجن بترتيب الخيال للضرورات اللازمة في بناء النقائض، والمتعارضات، وتطبيقات الثنائيّة اللانهائيّة من أمثلة الظلام والنور، والخير والشر، والظاهر والباطن، كمخارج للأقدار من مغاليقها، والتنبيه إلى أبوابها المفتوحة والموصدة"، وفقاً لما جاء في كلمة الغلاف.
نقلا عن العربي الجديد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
عجائب صاحب السيرتين
عند الحديث عن شعر سليم بركات، يصفه أصدقاؤه بحنفية شعر مفتوحة؛ صبيب لا ينتهي من الصور والمجازات والأخيلة وتشظيات اللغة وغريبها ووحشيّها، وقد صار جملة معاصرة مسبوكة. وباستثناء عمله الروائي الأول "فقهاء الظلام" (1985) ربما، فإن معظم رواياته الأخرى تحمل صفات شعره في خضّها للمعجم والمخيلة العربية. ولعل كتابه "السيرتان" أحد أصفى أعماله وأيسرها للقراءة.


اقرأ أيضاً: عودة إلى عامودا وحريق سينما شهرزاد

قديم 02-22-2016, 09:18 AM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
لا خيال سحري دون طفولة ممزقة وهذا ينطبق على سليم بركات حتما فهذه السطور تظهر جاني من طفولته الممزقة ولو اننا لا تكشف لنا تفاصيل حياته المبكرة وانا استطيع ان اجزم انه اختبر اليتم وتجربة الفقد في وقت مبكر جداً فلا يمكن لعقل ان يعمل بهذه القدرة من الخيال السحري الا اذا ما كانت صاحبه قد اختبر الموت ومرت في تجربة كان فيها قريبا من الموت near death experience
ولو ان الواقع المرير يكون أحيانا أشدة قسوة من اليتم


الحديدي
سليم بركات

دار الطليعة
أدبي(سيرة ذاتية)

التعليق:
يتناول الكتاب عرض موجز ومختصر وعام لطفولة الكاتب في سنينه الأولى والتي قد لا تتجاوز الثانية عشر من العمر.
هناك بعض الكُتّاب لهم امتيازات فمثلاً تقرأ كتابهم بإهتمام بالغ خوفاً من أن تُسرق منك فكرة أو معلومة ومن ضمن هؤلاء الكتاب يأتي سليم بركات مع بعض الامتيازات الإضافية.
اليوم وأنا أقرأ سليم بركات شعرت بأني يجب أن أخشع أمام هذا الرجل في محرابه الأدبي، لا تستطيع أن تقرأ سليم بركات بلسانك فقط بل تبدأ باللسان وتتبعك جميع الجوارح.
عرض الكتاب لطفولة عامة قد تصلح لأي طفل شقي في مدينة القامشلي وقد أشار سليم إلى أن طفولته كانت عنيفة ورد هذا العنف إلى عنف المجتمع فعندما يكون المجتمع عنيفاً سيترجم ذلك على أبناءه وصغاره.
لعلي ارتكبت خطأ عندما قرأت أعمال حديثة لسليم ثم انتقلت إلى أعماله الأولى، لعلي أدركت ذلك من خلال الصور الأدبية فصوره الجديدة ناضجة تماماً فيها أدب مختلف يختص فيه سليم بركات ولم أجدها عند غيره بينما في الجندب الحديدي وجدت هذه الصور ولكنها في طور بزوغها وجدت براعم صور سليم الأدبية، وكم كانت جميلة..! وكم تمنيت ألا ينتهي هذا الكتاب..!

هوامش على الكتاب:

الجندب الحديدي السيرة الناقصة لطفل لم ير إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيها القطا.
--
من ذا الذي يعاتب طفلاً ضربته صواعق الأقحوان فتناثر برعماً برعماً بين نبات حديد وغيم حديد؟ آه كم قلنا: لا تقترب أيها الطفل، لا تقترب من الحطام، بيد أنك اقتربت تلتقط من الحطام بقايا خزف لتزين المراثي.
--
كنا صغاراً يا صاحبي، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوز، واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة. وكان ثمت هرج كبير، هرج مهول، وكان المعلمون الذين يقفزون بين الصفوف ملوحين بعصيهم، أشبه بقطط مذعورة يصرخون: "انتبهوا، لوحوا بأيديكم حين يمر الرئيس".. ومر الرئيس، مر وسطنا ملوحاً بيديه، ثم اختلطت الصفوف الهندسية وراء الموكب، وتحولت إلى كتل سوداء متدحرجة عنيفة في فوضاها.
سقطت على الأرض مرارا تصطدم بي الأجساد والأرجل، وأنا أجاهد للخروج من البحيرة الأدمية وحين وصلت إلى البيت كان وجهي أقرب إلى التراب منه إلى وجه طفل.
تلك كانت بداية العنف يا صاحبي.
---

قديم 02-22-2016, 09:28 AM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات الطفل الكردي الذي كسر جرة اللذة

FacebookTwitterGoogle
*حسام ملحم

لا شكّ أن كتاب “السّيرتان” للشاعر والروائي السّوري سليم بركات، يعتبر واحدا من تلك المصائد التي لا نشعر بفكّيها، إلا بعد أن تخترق نقيّ الرّوح، وهي جمع لكتابين: الأول حمل عنوان “الجندب الحديديّ”، والكتاب الثاني “هاته عاليا، هات النّفير على آخره”.
الطفولة، كمرحلة عمريّة، تعتبر خزينا هائلا -إن لم تكن الخزين الوحيد- لكثير من الكتّاب، سواء ظهرت صراحة في ما يكتبون، أو لمسناها واهية، في روحيّة ما يكتبون.

كيف لا، والطفولة، رغم قصر زمنها، تؤكد لنا حين نقرأها في كتب السّير، أن لازمن حقيقيّا نعيشه، إنما إسراف مملّ للجسد، وهرب مستمرّ من ذاك الحنين إليها، وهي التي تبدو لنا، فردوسا مفقودا وخالدا كالنّكهة، فكثيرة هي كتب السيرة التي مرّت مرور “اللّئام” على ساحاتنا المغلقة، لتقيم حواجز الشّغب والتّوق والجري الحافي فيها، لتنبش المسكوت، وتلعب ذاك اللّعب الماكر في ترتيب رفوف النّفس، وتحيل أرض واقعنا الصّلبة “كما كنّا نعتقدها” إلى رمال متحرّكة، نغرق فيها باستكانة حتّى آذاننا.
كأن “السيرتان” تشبه تأريخا عامّا للطّفولة الفائحة من جسد الجغرافيا الشرقيّة السّوريّة، تتخلّله خصوصيّة خجولة الشّكل، عميقة التّفاصيل، لطفولة “الكرديّ”، يوقعنا سليم بركات في كتابه “السّيرتان”، في فخّ النوستالجيا القاسية إلى طفولة تشبهنا، تشبه التماسنا للدّهشة بين حواف حياة محاطة بالأسلاك الشّائكة، أسلاك الكبار وألاعيبهم وعقائدهم، وحروبهم السّخيفة.

ترانا نحن الأطفال، نهرب معه إلى براريه البكر، التي يفرغ فيها احتقان البوح المحاط بذاك الخوف المبهم، الذي يتسرّب من صروح الكبار، نهرب معه لننتقم من الوجود عامّة، كحالة محسوسة وغير مدركة في مزيج الطفولة الفوضويّ، من الحياة والكائنات والبيت والأهل والمدرسة، وحتّى الهواء والماء.
يشرّح سليم بركات في “السيرتان”، بعين الطّفل الرّجل، ارتطامات “الكرديّ” بواقعه، الذي أدرك فيه باكرا ثنائيّة الاختلاف والرعب، وقرأ الشرخ الوجوديّ الذي يلوح في أفقه الحتميّ، في لعبة زمن سليط الوقع، فيحاول بكلّ عنفوانه وغضبه، تثبيت اللّحظة، المكان، الطّيش، في خانة الحسّ في ما قبل الإدراك المؤلم. لنرانا نهرب معه، ونسير في لعبته المبنيّة على رؤية طفل يشي بتمرّد عفويّ على منظومة بيئته وتفاصيلها، التي بدأ يتحسّسها بحذر فجّ الشّجاعة.

يغوص بركات، بحوارية زمنيّة بين الحسّ والإدراك، بين ما كان، وما هو كائن، بين الرائي (الحكيم) والمتورط في الحدث، يعيد تلاوة مخطوطات أزمنته، بحسّ رعويّ ناضج، تغلب عليه الشّعريّة القاسية للحياة واللغة، دون التّخلي عن مفردات وتشكيلات وتفاصيل البيئة، والصورة البدويّة البكر.

إذ تأخذنا “السّيرتان”، بتكتيك سحريّ، تتراءى فيه قسوة شاسعة الفضاءات، كهفا جميلا بسيطا، يوصلنا بحبل الحنين إلى سرّته، ليوجّهنا باقتدار خلّاب، يصفعنا بأيدينا، مخاطبا الطّفل المرتجف المستكين في أقصى زوايا لاوعينا وأشدّها تشويشا وظلمة.
لنشعر بسور العقل “البهيم”، الذي أحاطنا به ذاك الطّفل النشط المشاغب، والحرس الذين انتدبناهم من “كاركون” الحياة، ليصوبوا بنادق الذعر في وجه حاسّة الكشف المدهشة، لصالح الاقتناع.
في”السّيرتان”، نشعر مليا بذاك الانزياح الجغرافيّ في خارطة أزمنتنا وعمرنا وذاكرتنا، لننقاد سعداء فوق شوك العودة الوعرة، كانزلاق لا مفرّ منه، عند حافة الوصول الوهميّ، لنتدحرج ككرة ثلج، تصدم الجذوع عند النّزول تباعا، لتتقشّر وتصغر تدريجيا، نحو حبّة اللؤلؤ النائمة في محارة البدء، هناك تماما، نحسّ بأخوّة الشّمس الحقيقية، الشّمس المتاحة، الأرض المتاحة، الدّهشة المتاحة، في طبقات الطّفولة المطعونة بخناجر اللّعب.

لكن سليم بركات، متعمّدا أو مأخوذا أو وفيّا لقهر حقيقيّ بالضّرورة، يصرّح بكرديّة الطّفل محور الكتاب، يتخلخل على مطبّ الانتماء والتّصريح، يسلخ القصّة عن الجغرافيا، لصالح القومية، يكسر آنية اللذّة الّتي كانت متاحة لكافّة أبنائها (قرّائها)، ليشربوا منها حليب طفولتهم الصافي، من عرب وأكراد وآشور وسريان وغيرهم من أبناء المنطقة، أو من أبناء جغرافيات متشابهة من العالم، ليجيّرها كأسا خاصّة بالأكراد، لتصبح السّيرتان، طفولة قومية، سيحبّها بالضرورة أكراد عاشوا طفولتهم في مدن حداثوية، وجغرافيات متضادّة، بعد أن كانت طفولة جغرافيا وبيئة تجتذب أبناءها (بحنين تمتزج فيه السعادة مع الألم)، وأبناء البيئات المغايرة (بفضول تمتزج فيه الرغبة مع التردد).
_________
*العرب

قديم 02-22-2016, 09:43 AM
المشاركة 6
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
"
سليم بركات".. الكردي الذي كشف عن سحر جديد في لغة العرب: السِّيرة الذَّاتية حين تُنْزَفُ شعراً وعنفاً
يستطيع "سليم بركات" أن يطعنك منذ اللحظة الأولى، أن يجرَّكَ مسْحولاً بين متاهاته وفخاخه التي ينصبها بمهارة صائد فرائس محنَّك، وكيف لا؟ وهو الذي رصد طفولته بسطوة لصٍّ قديرٍ في كتابه "السِّيرتان" فيقول لنفسه: "كِبارٌ نَحْنُ أيُّها الطِّفْلُ، كِبارٌ يَلْهونَ بِقَعْقَعَةِ الحَديدِ أمامَ بابِ الوَقْتِ، وَيَذْرُفونَ الفِلْزَ البَارِدَ. كِبارٌ نَحْنُ، لا نَبْسُطُ أقْدارَنا لِسُنونُوَةٍ عابِرَةٍ أوْ لمَرَحٍ، ولا نَلْبَسُ إلّا حِكْمَةَ البَطْشِ. فإذا هَمَمْتَ، ثانيةً، أن تَخْتَبِئَ من الأرْضِ وَرَاءَ فَرَاشَةٍ فلا تَنْتَظِرُنا، لأنَنا سَنَقِفُ هُنا، تَحْتَ هذا الصَّليلِ الصَّامتِ للأدْوارِ الصَّامتَةِ، رافعينَ قُرونَ الماعِزِ في مَهَبِّ المَلْهاة". ستشعر بأن ثمة شيء غامض يلفك، من أمام ومن خلف، عن يمينك، وعن يسارك، روح كاملة في غموضها الأعلى، وسحرها العفوي المجنون، ستملأ خلاياك وأنت تسوح في هذا الكتاب الغريب، فليس ثمة من شاطئ، وليس ثمة من يد تسحبك جثة من وسط المياه، كل ما في الأمر هذه المرَّة، أنَّك ترى الصِّور من زاوية الشِّعر، ومن زاوية الشِّعر وحده، فيما تتراكم الحكايات والذِّكريات والمشاهد والشَّخصيَّات التي لا تستطيع يد الإمساك بجوهرها الزئبقي داخلك، لتصبح، بعد صفحات تعد على الأصابع، مشحوناً بروح كاملة، تحتل جسداً اسمه "سليم بركات".

اكتشفت الآن فقط لماذا قرأت هذه السيرة أكثر من سبع مرات، منذ أن وقعت يدي لأول مرة عليها في العام 1999 أثناء إحدى دورات معرض القاهرة للكتاب، يومها ظللت أرجو البائع اللبناني أن يخفّض لي سعر الكتاب دون جدوى، ودفعت ستة وثلاثون جنيهاً – لم يكن معي سوى عشرون جنيهاً، واضطررت إلى اقتراض ستة جنيهات من صديق -، الآن أكتشف أن طفولتي الحقيقية وجدتها في هذا الكتاب، في شخص "سلو.. سليمو، باڤي غزو، ابن الملا بركات"، السطور التي قرأتها مرات بلا عدد لم تزل تتحرك أمام عينيّ: "سَيَقولونَ لَكُمْ كَمْ أحَبّوا، وكَمْ كَدَحوا، وكَمْ سَدّوا مَهَبَّ أقْدارِهِم بالجَساراتِ، سَيَمْتَحِنونَكُم بِما لم يَمْتَحنوا أنْفُسَهُم بِهِ، وسَيَرْفَعونَكُم قَليلاً قَليلاً كالقِطَطِ إلى صُدورِهِم، مُتَمْتِمينَ: "تُصْبِحونَ على خَيْر، أيُّها الطَّيِّعون".


"سليم بركات" حين يكتب عن طفولته وعن صباه، لا يشبه أحداً، هو لا يشبه سوى نفسه فقط، وحتَّى هذه، يكتنفها الغموض في أحايين عدَّة، حين كان طفلاً بلا طفولة، وصبياً بلا صبا غائر الروح، والأيام كعهدها، تمر أسفل عينيه المحدقتين سريعة ومتلاحقة، لها رنين إيقاعي "كجرس في عنق قط"، والعينان لا تدع الأيام تمر بلا استيقاف، تعقبها الأسئلة وعلامات التعجب، بل يشبه الأمر مخزناً هائلاً من الذكريات الأولية للعين، الذكريات التي طالها سن القلم، فبدأ النزيف المرّ.

هنا، في "الجندب الحديدي" أو "السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا"، والذي صدرت طبعته الأولى في العام 1980 في بيروت، يثبِّت "بركات" شبح طفولته، جازماً بحسرة شيخ: "كل طفولة ميثاق ممزق.. كل طفولة محنة"، عبر خمسة فواصل متتالية متعاقبة، تشبه الحركات الموسيقية في سيمفونية مطموسة معالمها، تفتتح بمدخل عفوي، يوقفنا على بوابة المنفصلات الخمسة في السيرة الناقصة: "العنف الهندسي"، "في ارتطام الجهات"، "في الحريق وفي الصيد"، "في انهيار بريڤا"، و"في الثلج والخراب".

ومن ثم، نصبح قادرين على تلمس نموذج مثالي للسيرة الذاتية، عبر وشائجها القوية بالرواية، لا سيما في هندستها أو انطلاقها من حدث فاصل، ذو سمة روائية صريحة، ويبرع "سليم بركات" في جمع خطوط وخيوط الالتقاء والتنافر في نسيج سيرته، أو في تلك الكثافة اللغوية والمجازية اللتين تسمان عمله الروائي في مجمله، خصوصاً أن المادة التي يشتغل عليها "بركات" في سيرته، هي المادة نفسها التي تكوِّن محور أعماله الرِّوائية والشِّعرية؛ الأراضي الكردية المحصورة بين شمال سورية والعراق والحدود التركية.

أهي ملهاة أم مأساة، ما يربطنا ويشدنا بهذا / ولهذا الشعر السردي المنغم، الحاد والرَّهيف في الآن نفسه، الشعر القاطع الباتر، اللامع كحد موسي، حين يفرح بانعكاس نقط الدم الحمراء في بريقها على الجلد، أي علامة استفهام تقف قوية أمام أسئلة "سليم بركات" الألف، وأي قدرة تتحمل كل هذا القهر الذي تحمله: "إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حّوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي". ما الذي لا يجعل هذه السطور شعراً؟ دائماً ما شعرت بهذا السؤال يطوِّف حولي كلما أعدت قراءة كتاب "سليم بركات" هذا، "سليم بركات" الكردي الذي جاء ليكشف عن سحر جديد في اللغة العربية، وياللمفارقة، تلك اللغة التي فُرضت عليه وعلى أبناء عرقه الأكراد، الذين حرموا من التحدث بلغتهم باعتبارها ممنوعة ومحرمة، وأجبروا على تعلم العربية في المدارس السورية، في العديد من أجزاء سيرتيه يكتب سليم بركات شعراً لا شبهة فيه ولا ريب، كأنه حين جلس إلى "سليم بركات" الطفل لم يجد سوى الشعر يعبر عما عاشه واختبره بطفولته وصباه، يقول في أحد أجزاء الكتاب: "كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ". فهل من إجابة لمن يريدون أن يكشفوا عن الجنس الأدبي لسيرتا "بركات"؟

ليس ثمة من إجابة، فالقهر والخراب المأسوي اللذين يهدف "بركات" إلى التعبير عنهما في سيرتيه، يتخلَّقان أساساً عبر نص أدبي، يتخذ تكأة روائية كدعامة، رئيسية لصيرورته ودوامه، ومن ثم يصير السؤال بحجم الخراب: "ما الذي يجعل هذا الكتاب بجزئيه سيرة ذاتية وليس عملاً روائياً مثلاً؟"، أهي الإشارة التي يخدعنا بها الكاتب على الغلاف فتقودنا بدورها إلى حيث يشاء، أم هذا التواطئ الفرح والمكتوم بيني كقارئ جائع إلى خرابات الرُّوح، وبين "بركات" الحكاء الذي ثقُلت على كفيه الجروح والانهيارات، فتهاوت لامعة كحبات النَّدى من بين أصابعه؟

أياً تكن الإجابة، فالأمر ليس مهماً إلى هذه الدرجة، الأهم هو الكتابة، تلك التي تبدأ من صرخة المدرسين في صفوف التلاميذ الصغار مثل فراخ الأوز، حين كانوا "واقِفينَ على طَرَفَي الشَّارع كَسُطور الكِتابَةِ": "انْتبِهوا، لوِّحوا بإيْديكُم حين يَمُرُّ الرَّئيس"، ويمر الرئيس، فتتهاوى الصفوف الهندسية "إلى كُتلٍ سوداءَ مُتَدَحْرِجةٍ" من لحم التلاميذ، وتصطدم الأجساد والأرجل النحيفة بطفولة "سليم بركات"، ليبدأ العنف الهندسي في مدينة صغيرة قرب جبال طوروس، العنف الذي يصفه كاتبنا بقوله: "كان عنْفُ الفرّح "الرَّسْميِّ" عُنفاً يفوقُ طاقَةَ طِفْلٍ لا رَسْمِيٍّ، ومع ذلك كان عليَّ أن أتحمَّله في خضوعٍ ساحقٍ، وأن أصيرَ عنيفاً بدوري، عنيفاً إلى درجةٍ تفوقُ طاقةَ طفلٍ".

هذا العنف الذي يتدحرج حتى يصل إلى ذروته، بعدما ضيق كل شيء حول طفولة "بركات" غير الموجودة أصلاً، ليصبح أكثر قسوة وعلواً وهديراً: "أنتَ كُرْدي، الأكراد خطرون، ممنوعٌ أن تتَّحدث الكُردية في المدرسة، ومن ثمَّ، يبدأ وعي جديد؛ الكراهية سلفاً لا لشيء إلّا لأنَّك كُرْدي"!

إنه التاريخ "حين ينفلق كمشمشة"، والغضب حين يقول كلمته بعنف، فاللغة لدى "سليم بركات" أو "سلو" .. "سليمو بافي غزو ابن الملا بركات" تظل هي السطح الذي يشف فيظهر ما تحت العمق، وهي المرايا التي تنعكس من فوقها الوجوه والحكايات، وما يتجلى في هذه المرايا من تقنيات، من سرد وشعر وحكي وقص، تلفها جميعاً سخرية حادة ومأسوية، يسبر "بركات" عبرها الطفولة المحنة، والصبا الملهاة، ليصبح التاريخ الشخصي ليس أكثر من تأريخ لوطن وعرق تشعبت به الأرض ونفته الثقافات.

وإذا كان "بركات" قد افتتح سيرته الأولى بنزيف أولي: "طُفولَتُك حُرَّةٌ منْكَ لأنَّها يقينُ نفْسِها، وأنْتَ جَهالةُ الوقْتِ المُنْحَدِرِ إليكَ بلا طُفولةٍ، فانتظِرْها، طُفُولَتَك، قدْرَ ما تَسْتَطيع، أجِّلْها قَدْرَ ما تَسْتَطيع، مَوِّهِ الطَّريقَ إلَيْكَ كَيْ لا تَصِلَ، أبْقِها في المتَاهَةِ لأنَّكَ لَنْ تُمْتَحَنَ بإرثِها بَعْدَ الآنَ، لقَدْ تَقوَّضَ الأبَدِيُّ"، فإنَّه يبدأ سيرته الثانية "هاتِهِ عالياً، هاتِ النّفيرَ على آخره.. " بإيذان مبدئي، ونفير هادر: "لَسْتُ أُغْويكُم. المَكانُ يُغْوي لِتَكونوا لائِقينَ بهِ، فأشْعلوا حُروبَكُم قبْلَ أن يُشْعلَ الآخَرونَ حُروبَهُم، واتْبعوني!".

إنَّ "سلو.. سليمو بافي غزو، ابن الملا بركات، استطاع أن يحرر فينا كل طفولتنا المغدورة، وكل صبانا المغتال، عبر هذا التداعي السردي الذي اتخذه وسيلة لحفر هذه المحنة، وهذه الملهاة، استطاع أن يبني وببراعة قالباً جديداً لا هو بالسيرة الذاتية، ولا هو بالرواية، لكنَّه شعر يقف على برزخ بين البرزخين، لغة أشبه ما تكون بمجمع إبداعي مكثف، لغة لا تختصر كينونتها في نوع بعينه، بل عبر أنواع وأنماط متفارقة ومتشابكة في الآن نفسه.


الكتاب: السيرتان
المؤلف: سليم بركات
الناشر: دار الجديد – بيروت 1998


*
عماد فؤاد
مجلة حجلنامه

*

*



مجلة حجلنامه
العدد المزدوج 10 ـ 11
والمخصص لـ "سليم بركات"
أبريل 2007

صحيفة "العرب الدولية"

لندن

26 - 6 - 2007

قديم 02-22-2016, 09:48 AM
المشاركة 7
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الكل"الحياة" الدوليةمجلة "الوسط""الحياة" السعودية

سليم بركات في حكايات الشمال*
تفاصيل النشر:
المصدر:
الكاتب: سمير اليوسف
تاريخ النشر(م): 27/4/1998
تاريخ النشر (هـ): 1/1/1419
منشأ:
رقم العدد: 12837
الباب/ الصفحة: 13
الكتاب: السيرتان
الكاتب: سليم بركات
الناشر: دار الجديد - بيروت، 1998
بين دفتي كتاب واحد يعيد سليم بركات إصدار نصي "الجندب الحديدي: سيرة طفل..." و"هاته عالياً، هات النفير على آخره: سيرة صبا"، وكلاهما يعود صدوره الى مطلع الثمانينات. وفرصة قراءة هذين النصين دفعة واحدة تكشف عن اتصال كامل بينهما حتى ليظن المرء أنه يقرأ نصاً واحداً. هذا على اي حال ليس ناتجاً عن قصور في رصد حال الانتقال من طور الى آخر، كان الكاتب أزمع على سرد كل منهما على حدة، وانما لأن ما يرويه ليس سيرتي طفل وصبي، وانما هو سيرة واحدة لمكان وقوم وحفنة أطفال وعصابة من الفتيان، أي ما يشكل عالماً متكاملاً يستعيده الكاتب كمعطى قائم.
إذ لا يرى الكاتب، بل ولا يبدو انه قادر على ان يرى، الطفل ومن ثم الصبي منفصلاً عن العالم الذي ينتمي اليه، ومن ثم فهو لا ينظر بعينيه الطفل الى ما يحيط به كعالم خارجي يتلقاه على نحو تدريجي. والسبب في ذلك انه لا يحاول تصفية حساب مع ماض يحاول الانعتاق من أسره، من ثم فهو يرى الى الطفل في حالة تصالح مع محيطه. ولعل ما يند عنه السرد من نوعة تباه ما يروى تؤكد ذلك. اذ حتى عندما ينعت الكاتب طفولته بكونها "لا طفولة" فإن ذلك لا يأتي كتحسر على نعمة حرم التمتع بها، وانما لكي يظهر بأن طفولته وطفولة أترابه لم تكن رمزاً للبراءة على ما يميل الاعتقاد الشائع الى التصوير.
والحق ان هذه الطفولة لا تقل براءة عن أي طفولة أخرى اذا كان مقياس البراءة هو الفارق بين سلوك الاطفال وسلوك الكبار. فما يُقدم عليه الاطفال في هذه السيرة من عبث وشقاوة لا يبلغ الحد الأدنى مما يقترفه الكبار الذين يهم يتشبهون وعلى خطاهم يتدرجون. فقتل الحيوانات الأليفة ودفن العصافير حية وغير ذلك من إلحاق أدى بمخلوقات مسالمة قد تبدو أفعالاً شريرة، ولكنها مقارنة مع القسوة والعنف الذي يمارسه الكبار وعلى نحو شبه روتيني، تجعلها لا تزيد على عبث اطفال.
لا يسرد سليم بركات سيرة تمرد. ففي عالم لا تحكمه اصلاً الكثير من الضوابط والقيود، ما يجعله الى "حالة الطبيعة" أقرب، ليس ما يبدر عن الطفل أو أترابه الا ما تبيحه هذه الحالة "لهو كلهو ساكني العراء الأول". ومن ثم فإنهم اذ لا يقيمون أدنى اعتبار للقوانين والضوابط، فهذا لأنه ليس هنالك قوانين وضوابط اصلاً تستدعي التمرد عليها.
ولعل وصف الكاتب للمدينة التي نشأ فيها بـپ"اللامدينة" دلالة على إدراكه غياب الضوابط والقوانين التي تفرضها وتمليها حالة التمدن. اذ يوحي ما يرويه الكاتب بأن "الشمال" ميدان طفولة الكاتب وصباه، سابق على التمدن على رغم توافر مراكز ومرافق ارتبط ظهورها بظهور المدن. فغياب القوانين تجعل المستشفى محكوماً بمزاج بغي والمدرسة بإهواء المدرس الذي ينتمي الى الحزب الحاكم.
ولعل ما يبين مبلغ تحكم العشوائية في حياة أهل هذه "المدينة" هي اللحظة التي تقتحم السياسة عالمهم. فدخول الاحزاب السياسية لا يؤدي الى دفع الحياة الاجتماعية باتجاه طور جديد ترسو فيه قيم وقوانين تحد من التلقائية والعشوائية، وانما في الحقيقة تزيد الأمر عشوائية. وهذا عائد من دون شك الى حقيقة ان السياسة بهذه الصورة لم تصدر عن هذا المجتمع وانما اقحمت عليه اقحاماً. ولعل أكثر اللقطات امتاعاً في هذا الكتاب هي تلك التي يروى فيها كيف كان يُساق طلاب المدرسة في تظاهرات تؤيد وتندد: "كنا صبية آنئذ، يخرج بنا المعلمون على هواهم في التظاهرات الوطنية، ولم يبق واحد منهم لم نهتف بشعار حزبه. وكانوا يختلفون فيما بينهم، فيقود بعضهم فريقاً من التلامذة عبر شارع أول، وفريقاً عبر شارع ثان، وثالث، ورابع... بيد اننا جمعنا شعارات الفرقاء جميعاً كما نجمع الطوابع، متسللين من شارع الى شارع، هاتفين في كل منهما كما يهتفون".
ولا يغيب عن انتباه قارئ "السيرتين" المسافة التي تفصل الكاتب عن الزمان والمكان اللذين يسرد ما دار فيهما من وقائع. فهو لا يقص قصة عالم ناء منقض فحسب، بل يبدو ايضاً كأنه يجد لكي يصوره عالماً خرافياً يصعب على المرء تصديق ما جرى فيه.
والحق فإن أي عالم مهما كان واقعياً ومألوفاً، يمكن ان يحول الى عالم خرافي اذا كان الغرض الرئيسي هو سرد قصص تُمتع وتضحك وتثير الدهشة والخوف، بل واحياناً الاشمئزاز. فلن يكون من المستغرب اذا غالب قارئ "السيرتين" الظن بأنه يقرأ فصولاً من كتاب نرفال او فلوبير عن الشرق. اذ ان بركات يبدو أقرب الى قصاص تقليدي، أو حكواتي، منه الى كاتب سيرة حديث، أي انه رجل يسعى الى نقل حصيلة خبرة أكثر من كونه كاتباً يسعى هو نفسه الى اكتشاف ماضيه والتوغل في خفاياه وبواطنه ومساءلة القيم التي سادت فيه. ولهذا فإن السرد لا يتجاوز تسجيل ما تحمله الذاكرة من حوادث وحكايات. ولأنه يقوم بدور قصاص محترف تراه بليغ التعبير، حريصاً كل الحرص على تعالي اللغة عما تصف وتخبر وكأنما خشية ان تتلوث بلغة من يروي حكاياتهم. ولعل الاستعراضات البلاغية التي تأتي خارج سياق السرد ما هي الا إعراب عن رغبة الكاتب في ان يؤكد بأنه ليس مجرد رجل يروي ذكرياته وانما كاتب صاحب صنعة واسلوب يجعله يتميز: "حرس ينتظرون مواثيق الروح المكتوبة، لكن لا ورق للروح، ولا محبرة. حرس انتظار، وهم مؤتمنون على انتظارهم. حلفاء المياه والغبار. حلفاء السنابل، ومنظرو الشعاعات. آآآه".
ما يسترعي الانتباه ايضاً ان ليس ثمة اشارة في ما يرويه الكاتب للأسباب التي حملته على الرحيل عن هذا المكان، كما انه لا يبدى أدنى حنين اليه. وهو ما لا يتفق ونزعة الاحتفاء أو التباهي بالانتماء الى هذا العالم، بل وما يجعل ذلك موضوع تساؤل. فهل الاخلاص للاهل ورفاق الطفولة مبرر اخفاء الكاتب لما يكنه تجاه هذا "الشمال"؟ الكاتب، على أي حال لا يقاوم، وفي أكثر من مناسبة، إغواء الإعراب عن مشاعره حيال هذا المكان وان على نحو موارب: "والشمال امتحان. جهة الضجر الكبيرة سيدة الجهات في امتحانها. تأخذ كل شيء لتعطيك البسالة والتهور. وفي أضعف حال تجعلك وكيلاً على ملك لا يرى، أو حارساً للهواء". ومن، بحق السماء، يريد ان ينفق حياته حارساً للهواء؟

قديم 02-22-2016, 09:57 AM
المشاركة 8
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

"السيرتان" لسليم بركات : كتابان عن الطفولة الضائعة والطيش العنيف*

> "كل طفولة ميثاق ممزق، كل طفولة محنة". بهذا التعريف القاسي للطفولة يفتتح سليم بركات كتابه الجديد الصادر، حديثاً، عن دار الجديد في بيروت. هو ليس كتاباً جديداً في الواقع. انه، هو المعنون "السيرتان"، يضم بين دفتيه نصّين قديمين سبق ان نشرهما المؤلف في عامي 1980 و1982، أي في بدايات الرحلة الابداعية التي استهلها مع "كل داخل سيهتف لاجلي، وكل خارج ايضاً".
يتيح "السيرتان"، اذن، العودة الى البداية. بداية الكتابة، أو كتابة البداية. لكنه يتيح التعرّف اكثر الى التضاريس الاولى للارض التي انشقت منها التجربة الكتابية، الشعرية والروائية، لسليم بركات. وهي تجربة اكتسبت فرادة مميزة واغتنت بمعالم فارقة منذ ذلك الحين. ها هنا، في هذين النصين الأولين، نعثر على الجذور العميقة والنسغ المخفي للشجرة التي ما برحت تنمو وتزدهر مرتوية من الجداول التي يأخذها اليها سليم بركات. هي شجرة حبلى بالحدث، والصورة واللغة، معجونة معاً بخميرة الذهول واللامألوف.
وظيفة مزدوجة
يحقق "السيرتان" وظيفة مزدوجة لقارئ. من جهة هو يوفر الفرصة لاعادة قراءة النصين وتذوقهما من جديد واسترجاع الاجواء والعوالم المدهشة والساحرة التي ينطويان عليها، ومن جهة ثانية، يمنح القارئ الامكانية لمعاينة الكتابات اللاحقة لسليم بركات على ضوء نصّي البداية هذين.
والنصان كانا، في البدء، عبارة عن سردٍ يُفترض فيه البوح باجزاء من سيرة المؤلف في محطتين من محطات العمر: الطفولة والصبا، كما سمّاهما، وهو عمّد الأولى باسم "الجندب الحديدي" وأفصح عنه بعنوان فرعي طويل: "السيرة الناقصة لطفل لم يرَ الا ارضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي ايها القطا". في حين أطلق على الثانية اسماً هو كناية عن نداء: "هاته عالياً، هات النفير على آخره".
هي البداية إذن: أرض هاربة وفخاخ وقطا ونفير، هي سيرة ناقصة لطفل يأتي صاخباً، نزفاً، مطالباً النفير بالعنفوان. تفتح الطفولة عينها على عنفٍ طاغٍ يسم كل شيء بميسمه. يسم الجنين المازال في الرحم يستعجل الخروج الى العراء كي يشرع في التمرد ويباشر الصراع. يسم الطفل البادئ السؤال اللعين عن المصير والواضع، من فوره، خططاً لتحويل العالم الى جحيم. هو السفر الاول في كتاب العمر. سفر التكوين للدنيا التي يؤلفها، بصياحه، الطفل المشاغب، الجهنمي الذي ما ان يضع يده على شيء حتى يحوله حطاماً. يتواطأ المؤلف مع الطفل. أعني انه يتواطأ مع ذاته. هو يكتب سيرة الطفولة كي يعيشها ثانيةً. يعيشها بروحه هذه المرة، آخذاً موقف الانحياز الى الطيش والنزق والعبث. اكثر من هذا، يجدد العقد، الذي لم يكن مكتوباً، مع كل المشاغبين، أطفالاً ومسنين. بشراً وحيوانات. مع فصول السنة والرياح والمطر والثلج والقيظ والصقيع.
تنفتح الطفولة. تبدو مثل زهرة برية تفرد أوراقها لتتلقف الغبار وتبصر، أول ما تبصر، بقعة من الارض العنيدة، سُمّيت شمالاً،عصت على الجغرافيا ونظام الكواكب. شمال لم يدرك ما حواليه فرقد، دائخاً، عند أقدام طوروس، محدقاً في الناس الذين يمضغون الصمت بتلذذ كبير.
وكأن مجيء الطفل ضرورة في مكان وُجد بالصدفة واستقر عند النهايات الحادة لكل شيء: طقس حاد وتراب حاد وفقر حاد ومزاج حاد وضحك حاد وروح حادة وشرايين تقذف دماء حادة وحارة.
وحين يلبث الطفل، برهة، تأخذه الحدة وتنفث في روحه العنف. تبدأ رواية العنف بالمشهد الذي سوف يغدو لازمةً للزمان والمكان في كتاب الطفولة المهشمة: "كنا صغاراً يا صاحبي، مثل فراخ الإوز، واقفين على طرفي الشارع كسطور الكتابة. وكان ثمَّة هرجٌ كبير، هرجُ مهول. وكان المعلمون، الذين يقفزون بين الصفوف ملوحين بعصيهم، أشبه بقطط مذعورة، يصرخون: "انتبهوا، لوّحوا بأيديكم حين يمرّ الرئيس". هكذا يبدأ مهرجان العنف بعنف رسمي. يبدأ الزمن مسيرته بالعنف الحكومي المندلق على الارض مثل مياه حامضة. عندئذ ينعتق المكان من حدوده وينفلت من أصابع الوقت مثل رمل أخرق.
يبدأ الطفل الطفولة بميثاق من العنف يوزّعه، منشوراً على حبل روحه، بين قرى الشمال. من موسيانا الى هرم شيخو. ومن حلكو الى عامودا، يعقد حلفاً مع الزوابع والسحب والبيادر. وهو حلف يرفض أي مساومة ويقول: لا للجميع. لا للرئيس والمعلم والمدرسة والطباشير والبيت والشارع والقطط وابريق الشاي.
حين نقرأ السيرتين، الآن، نكتشف ان سليم بركات لم يتحدث عن نفسه الا لكي يتحدث عن الشمال. فصول الكتاب حبلى بمرويات أهل الشمال في تدافعهم وصراعهم وتقاذفهم، كأنما هم في عراك أبدي. تكتظ العيون بالمشاهد اللاهثة تمضي متلاحقة، متخمةً بالصخب.
الطفولة، طفولة الراوي، تشخّص أحوال الجميع في ذاتها. والجميع في عراك دائم: مع الجيران والدواب والطيور والتراب. ويستقل الطفل بعنفه. يشنّ غارته الاولى على الجرار الخزفية التي تتساقط وتتناثر على الارض. ثم يبدأ بقذف النوافذ بالحجارة وخلع الشجيرات والورود، وينتهي به الامر فاتكأ بالارانب مرتكباً مجزرة يروح بعدها يتسكع عشرين يوماً حول البيت دونما جرأة على دخوله.
في الخارج يعقد الاطفال اجتماعهم ويوزعون العنف والقسوة في ما بينهم بالقسطاس "اطفال بلا طفولة. لا يفكرون الا في سرقة أو خطف أو تحطيم". يكرهون المدرسة والدفاتر والبيت والمعلمين ورجال الشرطة. لكل طفل سكين في جيبه أو سلسلة حديد حول وسطه. واذ تضيق الاحياء في وجه توسعهم وتخذلهم في ارواء عطشهم للتمرد يمدون سلطتهم الى الحقول والبيادر، ثم تصل مملكتهم الحدود حيث الاسلاك الشائكة والألغام. لهوهم مضرج بالدم ولعبهم مزنر بالرعب. لا أحلام بل كوابيس. لا رغبات بل شهقات تشق الهواء كالطعنات.
ينبثق الطفل في هذه المعمعة حاملاً قلبه الصغير بين يديه غازياً السهول فاتحاً ذراعيه للبقول والثعالب لا يعترض سبيله معترض، والا فان عنفه لن يعرف حدوداً. سوف يكسّر قوائم بغل سمعان ويدحرج المرحلة الحجرية عن سطح البيت على كلب فلمز ويرش البهار في بركة أوزات سقمور ويوصل الكهرباء بباب فرن مرادو فما يمسكه احد الا صعق. والويل للقنفذ واليربوع والخلد. الويل، ايضاً، للخراف والدجاج والكلاب والاكباش. وتتعاون الجهات معاً وكذلك الهضاب والروابي لتمنح العنف شرعيته.
ويحتار المؤلف في سرد السيرة. فالحكايات تتدافع والاحداث والابطال بلا نهاية. فماذا بعد؟ يتساءل. ماذا يخرج من جرابه "الكردي"، الشمالي، ويرهقه امام أنظار الجندب الحديدي؟ عمّ يتحدث؟ أعن الكلبة توسي او عن العصفور ذي الساق الواحدة أو عن صدر الذي اجتاز الحدود ليأخذ عفدي من بيته سحلاً أو عن سطيفو العابر الطريق عارياً أو عن جسونو الذي اغتصبه العتالون؟ عن غوليسار قهرمانة العاهرات. عن الملا احمد الذي يختصر خطب الجمعة وصلواتها؟ عن المؤذن عبدالرحمن حامل المجلات الممتلئة صوراً ملونة في باطن سترته؟ عن الكلاب ذات الرؤوس الآدمية؟ عن بروق الشمال؟
يقول المؤلف للطفل فيه: لقد أيقظتنا لنسرد المهزلة. والمهزلة لا تنتهي. تتواصل في الفصل الثاني من العمر، ومن الكتاب ايضاً. يصير العنف اكثر تماسكاً وأكثر عنفواناً. ومن جديد تقوم المدرسة بوظيفتها في طعن الصبي بخنجر الرعب. يقوم المعلم الحزبي المخيف باستدراج الصبيان الى باحة الخوف ليشتمهم ويمعص طفولتهم بحذائه. فما ان يخرج التلاميذ من "مسلخ" المعلم حتى يبدأ العنف مهرجانه المؤجل على أيديهم. هم عنيفون لان الآخرين، الكبار، عنيفون بدورهم. فالآباء يوصدون الابواب بعنف ويضربون زوجاتهم. والملا احمد عنيف. والملا رشيد. وعفدكي كشومشو كذلك، وهو يقذف الشتائم في كل خطوة يخطوها. "يشتم المدينة وابقار الناس وأغنامهم. يشتم الغيوم والهواء ويضرب بعصاه الحيطان من الغيظ". ويشتبك الناس. تشتبك الاحياء وتتعارك الديكة ويتعارك أولاد قاسمو مع اولاد عفدكي وزوجتاهما. وتبدأ الحجارة والقباقيب بعبور الجدار الذي يفصل الجهتين.
ويمضي الصبية في قرع باب المراهقة والتعرف على "بهاء اللحم" الأنثوي. ويتنطح أولاد مرادو لاكتشاف "منابع الهزائم والعذوبة وتعيين سحر السراويل الصغيرة. ولكن أديبو هو الذي يوفّر المشهد الاكثر نضجاً في بستان الإثارة، ذلك ان خانمه تستدرجه وتبادله قشدة جسدها بعلب التبغ الفاخرة.
اما اولاد حارة قدور بك فانهم الرعب بعينه. يفتحون القبور ويغتصبون الموتى. يسرقون الجثث وينتزعون الخواتم واللعنات.
عالم غريب منتوف الريش، مصنوع من القسوة والتهور والشطط والسذاجة. القسوة والسذاجة. طرفا المعادلة السخيان. سذاجة عنيفة؟ أجل. والا كيف يمكن لإبن زرزي ان يبتلع عصفوراً حياً بكامل ريشه في تحدٍّ لأترابه الذي يضحكون ملء أشداقهم "رافعين سيقانهم في الهواء كما تفعل الزيزان المقلوبة على ظهرها".
الطرافة واللامعقول
ذلك هو الشمال الذي فقد بوصلة روحه. بقعة مضمخة بالطريف والشاذ واللامعقول. مسرح يعتلي خشبته كل من يحمل في داخله موهبة الجنون والغرابة. مثله في ذلك مثل بليرو الذي يحرس جسر المدينة. يوقف الشاحنات ويصرخ بالسائقين: حملكم ثقيل فيناولونه تفاحة أو عنقود عنب. يتنحى ويقول: "لقد خفّ حملكم. الله معكم". وأما سيفي فانها تحرس الجداول الوهمية. تمشي وسط الشارع، ثم فجأة تشمّر عن ساقيها وتقفز. وعباسي قزو يحمل على ظهره ابداً أكياساً وهمية من القمح، وداود كوت يسوق أمامه قطيعاً وهمياً من الغنم. وتقوم بين ابن حجي كفر وبين الدجاج خصومة دائمة. وشيخموس؟ هو صبي مثل غيره من صبيان الشمال. ولكنه زوج، هو الذي لم يتجاوز سن البلوغ، فماذا يفعل؟ ... أمه تحشر منديلاً في فم العروس، وتمسك بيديها، بينما يعريها والده في نصفها الاسفل". وابن بيري لا يكاد يخرج من سجن الاحداث حتى يعود اليه. امه ترسم له الخطط وتذود عنه اذا ما اتهمه احد. "بذيئة وقبقابها في يدها ابداً". ابن بيري يسرق كل شيء، يسرق أباريق الوضوء من المسجد، وأحذية المصلين، والدجاج، والدراجات، والحقول، وإسفلت الطرق، والتراب، والهواء.
هؤلاء هم صبية الشمال. جزء من لهاثه الابدي. هم ابطال العنف وضحيته معاً. رواد اللعنة وقرابينها. قدرهم قدر الشمال الارعن وحقد الحكومة الهوجاء. واللعنة تحلّ في عاصمة الطيش ومرتع الطين: عامودا. اندلع الحريق الذي حوّل مئات الاطفال الى رماد حزين. هكذا تحترق الطفولة. تحترق الطفولة في الروح ويحترق الاطفال في سينما عامودا.
وهكذا يأتي "سلو" الى الواجهة ليعلن ان الارض تنتظر أباطرة الملهاة. ولكن من هو سلو؟ هو سليم بركات نفسه الذي حيّرته إكياس القمح المرصوصة مثل ذخيرة الملائكة وأذهلت شرايينه.
كأن الكلمة الاخيرة في "السيرتان" هي الكلمة الاولى في ما يلي من المهزلة الكبرى الآتية من شمال المصادفة والتي سيدأب سليم بركات على سردها عبر اللاحق من نصوصه.
هل يشكل سيل الحكايات المدهشة معنياً على المتعة التي يحسها القارئ في "السيرتان"؟ أي هل يقوم الانشداد الى الاحداث الفانتازية والشخصيات الاكزوتيكية والنوازع الغريبة والمشاهد المذهلة.. وهي مواد السيرة وعناصرها؟
الارجح ان صانع التشويق والمتعة والاندهاش هو ذلك الاسلوب الجاذب والخيال الجامح والصنعة الكتابية والسرد المفتوح على المدى والصور المدهشة... وهذه أدوات سليم بركات وعدّته. وهي اشياء سوف تترسخ وتنفتح على آفاق أرحب وأدهش في اعماله اللاحقة. ان "السيرتان" هو، بمعنى ما، المعين الذي سينهل منه المؤلف في كتاباته التالية، وسوف تستمر تلك الشخصيات العجيبة في نسج حيواتها في "فقهاء الظلام" و"الريش"... الخ... الخ.

قديم 02-22-2016, 12:37 PM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بورتريه للشاعر والروائي السوري الكردي ... سليم بركات «الهارب» كتب أصداء حياته المكسورة
دار الحياة -
دمشق - الحياة :

تقوم سيرة الصبا للشاعر سليم بركات على لملمة المبعثر وتدوين المحذوف، حيث البدايةُ خطوةٌ في فراغ شاسع، والمصيرُ حبل لا يفتأ يضيقُ كالرّسن. فالشاعر الذي ولد في قرية «موسيسانا» النائية في الشمال السوري، على الحدود التركية، عام 1951، لعائلة كردية متدينة، وجد نفسه مقذوفاً في عراء رهيب، لا سلطة فيه لقانون، ولا حقوق فيه لمخلوق، ولا ناظم فيه لحياة سوى ما يقرّره ناموس الطبيعة، وتأتي به دورة الفصول والأيام، فالقسوة على أشدّها، والفقر على أشدّه، والخوف راسبٌ في النفوس، مستقرّ في الأعماق، والهول مرتسمٌ على وجوه الكائنات والأشياء. في مفتتح كتابه النثري «الجندب الحديدي»، (1979)، وهو القسم الأول من سيرة الشاعر، التي يصفها، في شذرة فرعية، بالسيرة الناقصة «لطفلٍ لم ير إلاّ أرضاً هاربة»، يركّز بركات على هاجس البعثرة والتواري، وسقوط الكائن في قعر الهاوية، فريسة للضياع والمفاجأة والخوف.
فطفولة الشاعر، كما تصورها مذكّراته، هي طفولة منهوبة، تتعرّض للخلخلة في كلّ لحظة، اجتماعياً ونفسياً وعاطفياً. لاحقاً، وفي ديوانه الثاني «هكذا أبعثر موسيسانا» عام 1975، يكرّس بركات البعثرة كموضوع مركزي، فيكتب في القصيدة الافتتاحية قائلاً: «... ثم جمعنا الملكوتَ وبعثرناه، وأمعنّا في بعثرة العالقِ منه بأطرف غدائرِنا، ونفثنا في الأحجار هواجسَ ليس تُقال».
هذه الطفولة المشرعة على الهبوب، المبثوثة كغبار في أصقاع الشّمال المحذوف، ستظل ماثلة في ذاكرة الشاعر، الذي أدمن الأمكنة الهاربة، ما حدا بشاعر مثل محمود درويش، الذي عاش مع بركات أيام حصار بيروت في أوائل الثمانينات، ثم عاش معه تجربة الخروج إلى المنفى، والعمل في مجلة «الكرمل»، في قبرص عدداً من السنوات، أن يكتب قصيدة مهداة إلى الشاعر بعنوان «ليس للكردي إلا الرّيح» مؤكداً ثيمة البعثرة والتشظّي والانسلاخ، وكينونة الشّاعر في اللغة: «أنا لغتي، أنا المنفي في لغتي».
لكن طفولة بركات في تلك الجبال الزرق النائية، تأسّست على الرّعب، وعلى قسوة لا تعادلها قسوة، حتى أنه يوجز بالقول إنّ «كلّ طفولة ميثاقٌ ممزّق، وكلّ طفولة محنة». بل إن الرعب جعله يشكّك في وجود قريته، ليتخيّلها تارةً «طعنةً من طين»، وطوراً صليلاً للظلام الهابط، «حين رسا أوّل مرةٍ في الأرض فأنبتَ الوحشة».
والحقّ، إذا حدقنا في مرايا هذه الوحشة الوجودية العميقة، لعثرنا على فراشات محترقة، وأرانب تقفز مخنوقة، وقنافذ تُسلخ من إبرها، وديكة تعترك حتى الموت، وقطاً يهوي من عليائه، وأشباح تنزف مثقوبة بالإبر، وأم تهوي بحجرٍ على ابنها، ويد تنتفُ ريشاً، وكبشٍ ينقضّ على كبش، ودم ينفرُ عالياً من رقبة مطعونة، وأضلاع مجفّفة على حبل غسيل، ويرابيع مقتولة، تعود حيةً في الحلم، وقتيل يصرخ بعد موته، وجثث منفوخة كالطبول، وقطط يرُشّ عليها الكاز لتحترق راكضةً، وبيادر قمح تُضرم فيها النيران، وكلاب تموت غرقاً، وتثقبُ المذاري الحديديةُ أجسادَها، وعصافير تراجيدية، بأجنحة منتوفة، تقتلها الدجاجات تقراً حتى الموت، وقبورٍ لا معالم لها، تطرّز الهضاب البعيدة، فينهض موتاها ليلاً، ويرتادون بيوت الأحياء. نعثر على كلّ هذا وأكثر.
فالطفل سليم بركات، قبل مجيئه إلى العاصمة دمشق، في التاسعة عشرة، ترك وراءه طفولة «اللاطفولة»، كما يعبر، محتفظاً بذاكرة مذهلة عن أدق تفاصيل تلك البيئة العجيبة، السريالية، التي يختلط فيها اليومي بالفانتازي، والمرئي باللامرئي، والتي تركت أثراً عميقاً في حساسية بركات الشعرية والروائية، فابتكر عوالم خارقة، ســريالية، تقف نداً قوياً، لنصوص أشهر كتاب الواقعية الســحرية، كماركيز وبورخس وفوكنر.
في تلك البقعة البرية من الشّمال السوري، وخلال فترة الستينات، على وجه الخصوص، تفتّحت عينا الطفل بركات على الفرح المعلّب، والأعياد المعلبة، والشعارات الخشبية، والانقلابات، والهزائم المتتالية. هناك شهد الشاعر بداية الفرح الرسمي «العنيف»، كما يصف في مذكراته، حيث العَلَم المعلّق على الصدر، والفرح الغامض المرسوم على الوجه، «دونما التفاتٍ إلى أعماقنا».
والقسوة هنا لا تقتصر على المؤسسة الرسمية، كالمدرسة ومخفر الشرطة والهجّانة، بل تشمل البيت نفسه، بما يمثّل من حاضن لقيم وقوانين فولاذية، فوالد بركات شيخ دين ملتزم، ووالدته فلاحة حازمة وقاسية، تُنزل بابنها أشدّ العقاب، بسبب أو من دونه.
وكان لا بدّ من الهروب، وترك المنزل مراراً وتكراراً، والنوم في الحقول أو أودية الأنهار، واكتشاف العتمة الملهمة للعراء الفسيح، «فالظلام لا يخيف، بل يخيف النهارُ»، وكان لا بد أيضاً من الاحتماء بالطبيعة الأم، تعويضاً لفقدان حنان الأم الحقيقية، لتتحول القصيدة لاحقاً، صرخةَ طفل مقهور في وجه القسوة والحرمان والعنف. وفي هذا العراء الكثيف، المهمل والنائي، اكتشف الطفل بركات نماذج بشرية مسرفة في النقصان، تنام وتأكل وتموت كأشباح، هو الذي ترعرع مع أطفال قساة لا يتورعون عن إحراق كلّ أخضرٍ ويابس، إذ «لا طفل إلا وفي جيبه سكّين، أو على وسطه سلسلة حديد».
شخوصه هذه من آشوريين وكرد وسريان وأرمن وبدو وعرب، هي كائنات حلمية مشروخة، أصابها صدعٌ نفسي لا شفاء منه، أو غدَرَ بها قدرٌ غامضٌ، فاستقال وعيها، وأسلمت مصائرها للتمتمات والرّقى والجنون. في سيرة صباه الثانية «هاته عالياً، هات النفير عالياً»، (1980). يصف بركات بعضاً من هذه الشّخوص الحقيقية، ويطوّرها لاحقاً في أعماله الروائية.. هكذا، ومن حيوات هؤلاء البشر الضائعين، المنسيين، المنبوذين، الحقيقيين، في أقصى الشمال السوري، صاغ بركات أقدار شخصياته لاحقاً، في أعمال روائية متميزة بلغت أربع عشرة رواية، تزاوج بين تدفّق الشعر وتوثّبه، ورصانة السّرد ورفعته الفنية، كما في روايات «فقهاء الظلام» و «أرواح هندسية» و «معسكرات الأبد»، و «ثادريميس»، وسواها.
بركات، الهارب من طفولته أو «لا طفولته»، فاجأ الوسط الأدبي في بيروت التي انتقل إليها في أوائل السبعينات، بعد تجربة فاشلة في سورية استمرّت عاماً واحداً، سبق أن نشر خلالها أولى قصائده وهي «نقابة الأنساب» في جريدة «الطليعة» السورية، التي «سقطت بغتةً ككتلةٍ ثقيلةٍ على السّطح الراكد»، على تعبير الناقد صبحي حديدي، والتي قوبلت باستغراب ودهشة، وأخذت الجميع على حين غرة، باستعاراتها الصادمة، وصورها غير المألوفة، وتراكيبها الفصيحة، والتي أراد من خلالها هذا الشاب الحالم أن يقوّض يقين اللغة الشعرية المكرّسة، ويكنس معها الالتزام الإيديولوجي الذي وسم قصيدة جيل السبعينات في سورية. هذا الخط البلاغي استطاع أن يقف نداً قوياً لقصيدة الماغوط، الشفوية، الحارة، التي تعتمد التلقائية والبساطة التعبيرية.
وكانت قصيدة بركات «دينوكا بريفا تعالي إلى طعنة هادئة» المثال الأقوى، فهي تمثّل نمط القصيدة «الكتابية» التي تعي ذاتها كتدوين بلاغي، مقابل القصيدة «الشفوية»، التي تعتمد قوّة الصوت وعفويته، والتي كان يكتبها، إضافة إلى الماغوط، معظم شعراء جيل السبعينات في سورية كنزيه أبو عفش وبندر عبدالحميد وممدوح عدوان وعادل محمود ومنذر المصري وسواهم. هذه القصيدة كانت نشرتها مجلة «مواقف»، التي يرأس تحريرها أدونيس، الذي تحمّس لموهبة هذا الشاب الكردي، الذي يتقن العربية نحواً وصرفاً وبلاغةً على نحو مدهش، ليصدر عن الدار ذاتها ديوان بركات الأول «كلّ داخلٍ سيهتفُ لأجلي وكل خارج أيضاً» عام 1973.
ولم تكن افتتاحية الديوان إلاّ بمثابة لقطة سينمائية بديعة، تعتمد السطر الشعري المفتوح والمتدفّق، وتوظّف الصورة الحسّية، البعيدة من التجريد، مما لم تعتد عليه الذائقة الأدبية آنذاك، والتي كانت مفتونة بالقضايا الكبرى، والجمل التي تحمل دلالات مباشرة، أسطورية وسياسية وفلسفية. لكن افتتاحيته تلك أعادت الاعتبار الى جماليات المرئي، والى اللغة بصفتها فعلاً بلاغياً بالدرجة الأولى، في محاكاة فنية رائعة لكائنات الطبيعة: «عندما تنحدرُ قطعانُ الذئابِ من الشّمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج، وتعوي فتشتعلُ الحظائرُ المقفلةُ وحناجرُ الكلاب، أسمعُ حشرجةَ دينوكا».
من هذه الحشرجة، تتبلور رؤيا بركات لصورة الطفل الهارب من الجحيم، في دواوينه العشرة اللاحقة، وآخرها «المعجم»، عبر تعزيزه قيم البعثرة والتشتّت والتواري. كأنّ الكتابة لديه محاولة للملمة أصداء حياة مكسورة، ومبذولة في المنافي، تتطاير لحظاتها كالقش، ويحياها الشاعر نهباً للصّدفة واللامعقول: «ونعتقد... أننا ولدنا من القشّ، وأننا سنصيرُ إلى قشّ، وأنّ حدودَ الأرض هي حدودُ الرّياح التي ستحملنا معها».
هذه الرياح ستحملُ الشاعر إلى أبعد نقطة في الشمال الأوروبي البارد، حيث يعيش الآن مع زوجته وابنه في السويد، بانتظار قطار غامض، يقلّه، مع أنهاره وجباله وغيومه وذئابه ونباتاته وطيوره، إلى الشّمال من جديد، لينصبَ، ربمّا، فخّاً جديداً لرعبٍ قادم، أو ليكتب عن موسيسانا الحلم، مهد الطفولة الأول، التي لا تفتأ تلتمعُ في ذاكرة نصوصه، مغسولةً بومض البروق.

قديم 02-22-2016, 02:36 PM
المشاركة 10
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
Aug 18,
2013

Lamia rated it really liked it
عن Goodreads

سليم بركات في جمال اللغة وغموض السرد لديه لا يشبه أحدًا في زماننا كـ "بيكاس" في روايته "فقهاء الظلام" يشدك للغته الرصينه المحملة بعبق اللغة العربية الثرية وأنت تحاول أن تجمع شتات ذاكرتك في تذكر معنى الكلمة التي كتب بها ويركز إلى أمر آخر يخالف المعنى الأصلي ويأتي السياق بعد ذلك محملا بالمعنى الذي تحاول التشبت به إلا إن الكلمة تتكرر مرة أخرى في سياق يخالف السابق.
ذاكرة بركات مليئة بصور الألم ومثل هذا الأدب الرائع بين يدينا لا يأتي إلا بصور متخمة بالألم الذي يولد نصوص وحكايا متقنة في الصنع منمقة

تقع الأحداث في الشمال الشرقي لسوريا على مقربة من الحدود التركية (القامشلي) موطن سليم بركات .
"بيكاس" الذي بلغ الشيخوخة في يوم مولده مساءا وكان في ريعان الشباب بعد مضي ما يقارب سبع ساعات هو ابن لأب شيخ/مُلا وقور يخفظ القرآن كاملا عن ظهر قلب وبعضا من الأحاديث النبوية إلا إن المحنة التي دارت رحها في أسوار البيت الذي تتوسطه شجرة زيتون لا يزيد طولها عن متر وتقاسمهم العيش والشعور والأحاسيس يثور ويخرج عن طوره "لا أريد أن أفهم شيئاً فيما بعد ولا أريده الآن.

لست معنياً بفهم هذه المحنة، فليفهمها ربّك" وما تمر ساعات شبابه حتى يطلب عروسا له ! ولا يجدون إلا ابنه عمه البلهاء "سنيم" التي يتكتم كلتا العائلة في كل شيء وما أن يمر اليوم الأول حتى تبزغ خيوط الشمس بوضوح إلا ويقولون بإن الوليد /العجوز "بيكاس" قد مات في حبكة يحاولون جاهدين في أن لا تتطاير إحدى خيوطها وتصل إلى خارج العائلة.

لتنحدثنا الرواية عن نوعان من المعلمين منهم المتعلم المثقف الذي أرسلته وزارة التربية لتعليم أبنائهم حتى يلقى مصير القتل بعد أربع سنوات قضاها في "القامشلي" اثنتان منها في تعليم الأطفال واثنتنان ليعمل محاسب ليحدث ما كان خارج الحسبان حيث تنبت أصابع في حقل داخل المنزل ويكلف "عفدي" الجد من أجل القضاء عليها إلا إن الأصابع لا تزال تنمو ! والمعلم الآخر الذي يعلمهم قراءة القرآن وبعض الحساب في طريقة بدائية لتعليم وقضى نحبه على يد أخ "سنيم"

ولا ينسى بركات التهريب بين مدينة "القامشلي" وما جاورها من المدن وبين الحدود التركية سواء المؤونة الأساسية أو تهريب المخدرات بشتى أنواعها وهناك من يقض نحبة بسبب الألغام المزروعة في الجانب التركي إلا إن هذا الأمر لم يمنع من تطور أساليب التهريب وكيفية تفادي حدوث الإنفجار أو كوارث يمكن أن تلقي بهم إيدي الحراس.

البيئة التي رسمها بركات في "فقهاء الظلام" كانت آسرة بما تحمله من عبق الماضي الذي تشربت الأرض من رائحته والقمح الذي كان ينتقل بين السنابل إلى الرحى والتجار والبائعين مرور بالنساء عند أفران التنور الساخنة إلى قوت النمل الذي يخزنه وكما ذكر بركات بإن النمل يخزن ما يزيد عن حاجته إلى أربعة أشخاص حيث ما أن يقترب الشتاء حتى يدب البحث عن أوكارها. الأساطير التي لا تخلو الرواية منها تضع لمسة براقة في جنبات الرواية .صبغ التكرار التي تضفي بعض الملل في الرواية لا تمنع من الاستمتاع بإنهاء قراءتها. وبعض المشاهد التي كان بالإمكان الإستغناء عنها.

"ليس لأحد سوى خرافه، وبيته، وقمحه الذي يخذله فيتركه عاريا"
"الأم وحدها، التي تركها الأب والابن في سباقهما، لا تعرف مسافة غير مسافة ذهولها"
"عمر الانسان، في الأصل يوم واحد، ومن يعيشون لسنين هم استثناء"
"لو قيض للقرى ان تخرج على صورة لم تلتقطها عدسة، لخرجت على شكل الأرقام التي دونها الملا"
"المياه، المياه. تلك الدعامة الشفيفة التي تسند هيكل الحياة المائل"
"المغيب يستكمل جمع الشارد من ألوانه كما يجمع الراعي غنم الشارد"
"يعرفون ثغرات النهر كراحات ايديهم"
"لفافته تحيط وجهه بهالات من دخان عصبي كقدمي طفل تخبطان في الهواء"
"أما الأبوان فبانا ممسوخين، لينين ككرات عجين يمكن دحوها قبل إلصاقها بباطن التنور"
"شبح خفيف كقطرات الماء التي تدلف من السقف لا اكثر"
"يملأ كفتي ميزان الحي الغربي المتذبذبين بحكمته الثقلية كصيف الشمال"


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:49 AM
ما الذي يصنع القائد العسكري الفذ؟؟!! دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 108 12-09-2015 01:17 PM
فرويد العبقري الواهم فارس كمال محمد منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 2 06-29-2014 10:02 PM
النحو العربي - إبراهيم بركات د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-29-2014 10:40 PM
رحبوا بالأديب والفنان التشكيلي الشاعر عمر مصلح فاطمة جلال المقهى 18 09-10-2013 12:42 AM

الساعة الآن 04:20 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.