قديم 05-24-2016, 08:35 AM
المشاركة 11
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

و بين القرية و المدينة ...
فسيلة روحك تنبت بجمال أصيل ..
أ . ياسر /نور الدين
جميل جدا هذا السرد
#متابعة ..


قديم 05-25-2016, 10:11 AM
المشاركة 12
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
انا سعيد جدا باستجابتك لهذه الدعوة..وارى بأن سيرتك غنية بالاحداث الدرامية وحتما سنحصل على رواية ذات قمية عالية...واعتبر نفسي في سباق ومنافسة معك لنرى من يكتب ويحصل على منتج اكثر ابداعا وتشويق وسحرية ودرامية

سنتابع معك سيرتك ولك ان تعلمنا حينما تنتهي من الحديث عن مرحلة النشأة حتى نستمر في طرح الاسئلة؟
شكرا الأستاذ أيوب صابر .
متى أنهيت الفترة الابتدائية سأنتظر تساؤلاتك . و متى خطر بالك سؤال لا تتوان في طرحه
و شكرا على المتابعة .

قديم 05-25-2016, 10:14 AM
المشاركة 13
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

و بين القرية و المدينة ...
فسيلة روحك تنبت بجمال أصيل ..
أ . ياسر /نور الدين
جميل جدا هذا السرد
#متابعة ..

الأستاذة جليلة ماجد
مرحبا بك في رحاب الملت
و شكرا على المتابعة

قديم 05-25-2016, 10:15 AM
المشاركة 14
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أساكي ، سوق أسبوعي ، رحبة واسعة مسيجة بسور بني بأحجار مرصفة مع الإسمنت ، بابه الرئيسي مقوس و عظيم ، بضع حوانيت رصّت في واجهته على الطريق المسفلت الرابط بين مدينتي وارزازات و أكادير، حافظ على نفس المسافة بينه وبين المدينتين ، كما لو أنهما كفتا ميزان . إن استقبلت القبلة تجد وارزازات و تتركك وراءك أكادير ملتحفة ضباب المحيط الأطلسي ، ناقلات و شاحنات تعبر بين المدينتين ، معروفة بأزيز محركاتها ، أما الشحانات العملاقة فهي حاملات معادن تفرغ حمولاتها في البواخر لتعود هادرة صاخبة ، أما الصغرى فتنقل الخضر من سوس باتجاه الشرق . على الرصيف الآخر تجد المدرسة بمحاذاة مقهيين طينيين من الطراز القديم ، الحصير يكسو أرضية الغرف و سقوفها من أعمدة خشبية و قصب ، غير بعيد عن المدرسة هناك تسمع هدير محرك الطاحونة حيث أكياس القمح والشعير ، نعم هناك أيضا بعض دكاكين ترحب بزبائنها طوال الأسبوع ، تجد فيها سكرا وزيتا ومساحيق التصبين وقنينات الغاز ، إن رميت عينك اتجاه وارزازات سترى لافثة كبيرة من الماركات العالمية هناك تجد محطة للوقود و الغازوال والمشتقات النفطية ، لن أنسى طبعا مصلح الدراجات والسيارات ، و حتى إن نسيت كل شيء فبائع التبغ لن أنساه بسهولة .

في المدرسة استقبلنا المعلمون ، لا أتذكر الشيء الكثير ، المعلم يطوف على الطاولات مفرغا الحبر في محبرات تتخذ من زوايا الطاولات موطئا حدث يصعب نسيانه وخاصة أن الكتابة على الدفتر ليست هيّنة بهذه الريشة الدقيقة جدّا ، فهي تخالف ما ألفته أصابعنا من أقلام قصبية في المسجد و دواة بها صمغ وصوف يقلل من مقدار ما سحبته من سائل ، حتى الكتابة على اللوح تكون غليظة ، لكن هذه السطور دقيقة جدا ، وزّعت علينا المناشف الخضراء ، ماهذا يا ربّي ، يدي ترتعش حقّا هل أرعبني المعلّم ، أم هذا العالم الجديد ، من الصعب أن ترى طفلا تظنه دائما لايقهر و هو في مستوى يعلوك بسنوات ، يسلخ سلخا عظيما وهو لم يقترف جريرة إلا أنّه تعطّل دقيقة والصفوف قائمة أمام القاعات . الحمد لله أن وفّقت في نطق كلمة حاضر حين زلزل اسمي أذني ، لم أكن أعلم أن إسمي سيفزعني يوما ، حتى هذه الكنية التي اختارها أبي لم تتعوّد عليها أذني بعد ، لعوطار ، هي خفيفة رشيقة ، لكن كل القرية تنادينا بإدموسى ، فما بال أبي غيّر اسم الأجداد؟ يقول أنه عندما همّ بتسجيل أول أولاده في كنانيش الحالة المدنية . نصحوه بتغيير هذه الكنية التي تجد لها حضورا كبيرا ليس في الملت وحدها لكن في دواوير كثيرة في سوس ، مما يجعل الرسائل تضيع و كذا استدعاءات السلطات نظرا لتعدد الأشخاص الذين يحملون الاسم و الكنية نفسيهما ، هكذا انطلق لسانه بهذا اللّقب فحمله جدّي و كلّ أبنائه أيضا ، و به تميّزنا عن باقي أبناء موسى .


قديم 05-25-2016, 09:13 PM
المشاركة 15
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كان ذلك في خريف 1979 حيث شارفت على السبع سنوات الموعد الرسمي لالتحاق كل طفل بالمدرسة ، كثير من الأطفال غرباء عنّي ، حيث يقطنون القرى المجاورة لأساكي ، ليس عيبا ان تبتعد المدرسة عن قريتك بثلاث كيلومترات ، فنصف ساعة كافية لحرق تلك المسافة ، نسير في جماعة إلى المدرسة ، أطفال قريتي هادئون ، بل شغبهم ليس فيه خبث و سوء نية ، أذكر يوما في الاستراحة ، أن طفلا دفعني للاستهزاء برجل يقود شاحنة ، فقلت مسايرا لخطته ، ياله من رجل بدين ! انتهى الأمر وانتقلت عيناي إلى مشاهد أخرى ، فجأة ارتسمت في وجهي أصابع صفعة محكمة ، و سبّ و شتم ينهال عليّ من طفل يكبرني ، انه ابن الرجل البدين. من حسن حظي أن الوادي كان سببا لانتقالي من هذه المدرسة إلى أخرى بعد شهر ربما أو أقلّ ، قبل اللّحاق بها يلزمك أن تعبر واديين أحدهما يكاد يكون دائم الجريان في الشتاء . ربما لو طال بي المقام هناك لأصبحت غير الذي كنته ، هناك يجب أن تكون لديك جرعة خبث زائدة ، و لا مجال للسّذاجة . كل يوم نصطحب معنا خبزا و زبدة ، لن نعود للبيت عند وسط النهار وتلك مساحة كافية لتعلّم كلّ أنواع الزندقة ، و محو آثار البراءة ، يعطيني أبي قطعة صفراء ، أحمل معي شايي وسكري و هكذا يفعل كل الأطفال ، في المقهى نستعير البرّاد والكؤوس والماء المغليّ مقابل نقود صفراء . طفل أسمر قبّل أصابعه بعد أن لمس بها وجنتي ، تبعته جاريا لأنتقم منه ، كان يراوغني بخفّة بالغة أحسست بالهزيمة خاصة عندما التحق بعصبته التي نهرتني . لحسن حظي جاء المطر باكرا و حال بيني وبين هذه المدرسة الموبوءة .
كان الجوّ ماطرا ، يحملني أبي لاجتياز شعاب صغيرة نابعة من جبال قريتنا ، متوجهين جنوبا جهة قرية أخوالي تاركين أساكي وراء ظهورنا ، دخلنا فجأة مدرسة تتكون من حجرتين فقط ، مدرسة هادئة هدوء الجنان ، فيها بنات و صبيان ، معلمة ناعمة الملمس و الصّوت ، وجدت هناك بعضا من رفاقي في مسجد سي ابراهيم ، لن أحس غربة هنا ، حتى أطفال هذه القرية لا تبدو عليهم الخسة والنذالة ، حتى أنهم منضبطون ، همّهم الأوحد هو التعلّم . وجدتهم يومها يدرسون حرف الكاف ، سرعان ما وجدتني أقرأعلى السبورة ، حتى تلك المحبرة وجدتها هنا جافة مهملة ، نكتب بقلم الرصاص و قلم الحبر الجاف . أحببت المدرسة ، أحببت رفاقي ، كنا كتلة متناغمة ، يا له من حظ عظيم .



قديم 05-27-2016, 01:37 AM
المشاركة 16
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ربع الساعة كاف لأصل إلى المدرسة الجديدة ، سعيدة تكبرنا حجما و سنا ، طويلة قياسا لقزميتنا ، تكاد تكون والمعلمة سواء ، حين تغيب المعلمة هي من تتولى الحراسة ، لكي لا تجد اسمك على لائحة المشاغبين ، يجب أن تعد بتقديم هديّة ، نبدو لها كحملان في رعايتها ، قطعة لحم أو برتقالة أو رمّانة أو حفنة تمر قد تقيك من عقوبة المعلّمة ، سعيدة هي القائدة التّي لا يشقّ لها غبار ، يوما جرّتني من يدي عندما وصلنا قبالة منزلها ، نظرت نحو المعلّمة التي كانت تسكن مع عائلتها في نفس البيت ، قالت المعلمة شيئا شبيها بالأمر فوجب الرّضوخ ، سرت معهما ، دخلت بيتا لا أعرف من ساكنيه غير سعيدة ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّني لا أزال برعما ليّنا ، فراشة تذوب أجنحتها تحت الضغط ، ألا تعلمين يا سعيدة أنّ أمي في انتظاري و قلقها لن يسكته غير حضوري ، يا سعيدة كان الأحرى بك مصاحبة ابن عمّتك ، على الأقل لن يحسّ وحشة في دار أخواله ، هو أيضا من أبناء موسى و رفيقي في طريق العودة إلى الدّيار ، جلست إلى مائدة خشبية محاطة برجال بنياتهم وازنة ، أبوهم رجل مرح المجلس ، يسألني عن أحوال عائلتي . نسيت أمي وأبي وجدّي وجدّتي في رحاب أسرة تحلّي الطّعام بالضّحك ، غير بعيد عنا نساء وفتيات بمعية المعلمة تحلقن حول مائدة ثانية ، لكن لم أكرّر تلك الفعلة بعدها ، أتحايل على المعلّمة وعلى سعيدة عند الخروج ، و لم أجرؤ على مشاركتهما الطّريق ، أخاف أن تصطادني مرّة أخرى فتقلق أمّي ويضطرّ أبي إلى الحضور ليطمئن عليّ .

نحفظ ، نتسلى ، نلهو ، نرسم ، نكتب ، نتنافس في المحادثة والتعبير الشفوي ، نلتقط الحساب من فم المعلمة حتى قبل أن تكمل سؤالها ، مرح جدّا أن تكون في القسم الأول بتغزوت ، ظهرت النتائج النهائية ، المركز الثالث هو موضعي ، أحببت هذه الرتبة و هي أقصى ما أصله في سنوات دراستي ، طفل بارع هو من حصّل المرتبة الأولى و طفل أبرع منه هو من حصّل الثانية ، لا تنس قريبي من أبناء موسى هو أيضا انتزع الرّابعة ، و بعدها تأتي أفواج و أفواج من تلاميذ متوسّطي التحصيل . لا أذكر متى غادرت سعيدة فصلنا ، لكنني أتذكر جيدا عندما وبّختها المعلمة يوم علمت أنّها تتلقى الهدايا من التلاميذ وأن لوائح الشغب مغشوشة .
حذار أن لا تحفظ يوما يا نورالدين فيتوج رأسك بأذنين و رقيتين ، يا ليتهما كانتا لأرنب أو قطّة ، لا.. لا.. إنه الحمار ، أخذت حذري بما يكفي و يزيد لكنني ذات كبوة ارتقيت إلى رتبة حمار .
قد تختلط ذكرياتي في المستويين الأول والثاني ، لكن المطعيات لا تتبدل هم ذات الأولاد والمعلمة عينها ، فقط ما يميّز السنتين هو مسكن المعلمة ، ذات يوم وصلني الدور ، فالمعلمة لا تستطيع المبيت لوحدها في سكنها الجديد ، و الحلّ لن يكون سوى أن تختار كلّ يوم طفلا يؤانس وحشتها و يدفع عنها بعبع الظلام ، و ربما يدفع عنها شر متهور قد يتجاسر و يتسلق حائط البناية ، يومها أحضرت من منزلنا خبزا وخضرا ولحما و لوزا و بيضا وغيرها ، ما أن دخلت الدار حتى أحسست بروحي ستغادر كياني ، سكنت حركتي و اعتراني وجوم عجيب ، أعطتني المعلمة كرسيا وجلست قرب باب غرفتها و الشمس ماضية للغروب ، كناشي بين يدي أقرأ فلا أعرف ماذا أقرأ ، أحفظ و لا شيء يلتصق في ذهني ، حلّ الظلام فدخلت الغرفة والمعلمة في منامتها ، تكتب وتكتب ، أنهت كتابتها وأنا لا أزال أستبدل كتبي التي تعذر عليّ استيعاب ما تحمله ، وضعت المقلاة على الموقد و الشمعة تصاحب سمرنا ، سمعتها تغني أغنية ، قشرت البطاطس و قطعتها قطعا رقيقة ، لأول مرة سأتناول عشاء مرّاكشيّا ، لقد زرت مراكش عندما كنت صغيرا ، أبي يقود السيّارة متسلقا منعرجات تيزي نتاتست ، ما أن ترتفع أبواق السيارة عند كل منعرج حتى أحاكي جرسها برنين خفيف من شفتي تيت تيت ، هكذا تحكي أمي ، كان طعم البطاطس غريبا ، لولا الخوف لقذفت به بعيدا ، شهيّتي أيضا مقبوضة .
في الصباح انشرحت لما وجدت الدنيا كما تركتها ، الشمس تطل باسمة من وراء الجبل ، النساء يحملن قفافهن متوجهات إلى الحقول ، ماء الساقية متدفق رقراق ، ملأت جوفي من هواء الدنيا الفسيحة ، في القسم تعجبت المعلمة عندما تطرح سؤالا و لا أستطيع الإجابة .

قديم 05-28-2016, 12:12 AM
المشاركة 17
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المعلّمة خلوقة ، نبيهة ، ظريفة ، جميلة ، أختها أجمل منها ، بعد أن فشلت خطة استضافة كل تلميذ ليلة ، التحقت بها اختها ، تعلمنا أناشيد عذبة مليحة ، تعجبنا ملابسها المدنيّة ، شعرها المنساب ، حركتها الموزونة ، والأكثر من هذا رقتها و عذوبة صوتها . حضر أبوها أيضا لمدّة و كذا خطيبها ، أذكر أن أبي استضافهم يوما في بيتنا ، كان أبوها شخصا فارع الطول يلبس نظارتين ، تبدو سنين عمره على وجهه ، صوته يتّسم ببعض غلظة . خطيبها ليس إلا ابن خالتها ، و لكونهما من مراكش فقد كانت فرصة لوالدي لإحياء الذكريات ، جلسا في الصالون الطويل على مضربات متوسدين مخدات من ثوب الموبرة الناعم . المعلمة في غرفة أخرى مع أمّي و جدتي و أختاي ، أختي الثالثة ما تزال حديثة الولادة ، استرقت السمع فسمعت أختي أمينة تتحدث عن البطانية الناعمة التي قدّمتها أمي للمعلمة لتحتمي بها من البرد ، رجّت الدنيا رجاّ من حولي ، لماذا أفشت أختي سري ، كيف سأواجه المعلّمة ، و قد أمرتنا بإحضار الحرباء خلسة و دون إعلام أحد بالأمر ، واهمة المعلمة و في ثقافتنا شائعة عن الحرباء ، أن عضتها قويّة و يقال بالحرف أنها لا تطلق من غرست فيه فكّيها حتى ينهق الحمار من تحت الأرض ، رغم ذلك هناك من أحضر لها الحرباء ، ما أثار رهبتي هو تقارب اسم الحرباء والبطانية في لغتنا ، واهمة المعلمة حين اعتقدت أننا نستطيع كتمان السّر ، واهمة المعلّمة إن ظنّت أنّنا لا نفقه طقوس السّحر والشّعوذة ، واهم أنا حين ظننت أن أختي باعتني للمعلّمة .
تزبد المعلّمة في القسم وتتوعّد ، و قد انتشر خبر الحرباء انتشار النار في الهشيم ، سأترك المعلمة لأن رحلتي معها قد انتهت .
أبي يأخذني معه إلى حفل وطني ، المقدّمون والشّيوخ يأمرون برّاح الدوار ليعلن في القوم ضرورة الحضور إلى البيرو للاشتراك في احتفالات الوطن ، تجمع الزرابي في الدواوير لتزين مكان الحفل ، كل شيخ يفتخر بعدد الحضور الذي استقدمه إلى البيرو ، صبحا ننتظر الناقلة في أساكي ، حملتنا و أعمدة الهاتف تتسابق بجانب الطريق ، أحسست فرحا عظيما ، وصلنا إلى الفيلاج ، بعد عشرين كيلوترا من الرّكض ، كانت الأعلام الحمراء ترفرف فوق كل السطوح ، ساحة البيرو مكتظة بالناس ، فرقة كناوة تدق الطبول و الرقصات بلغت ذروتها منذ الصباح ، استمتعت بهذا العدد الهائل من الجلابيب البيضاء ، كأننا في مصلى العيد ، رأيت التلفاز لأول مرة بالألوان يظهر في زاوية من زوايا الساحة ، رجال الأمن ينظّمون النّاس و يهيّئون لهم مكان الجلوس ، شيئا فشيئا بدأت الشمس تلفح جباهنا ،همس لي أبي : "أليست هذه الشمس حارقة ؟" أجبته بتلقائية ، طبعا ، يقوم أبي، أتبعه ، يطلب منه الواقف على الباب الرجوع إلى مكانه ، يتذرع أبي بالشمس الحارقة التي ستؤذي الصّبي الصّغير ، يرفض الحارس حجّة أبي ، يتقدّم أبي للخروج يعترضه الرّجل ، يعلو صوت أبي يردّ عليه الآخر، يتصايحان ، يتقدم رجال الأمن، يطوقون أبي ، يجرّونه نحو البيرو ، يتمسّك بيدي ، يحاولون التفريق بيننا ، دخلنا أروقة البيرو ، أوقفنا رجل الأمن أمام مكتب القائد ، لم ننتظر طويلا حتى وصل القائد ، لم يستفسر عن الأمر ، فقد جاءته القصّة كاملة ، يسبّ أبي سبّا اقشعر له بدني ، ظننت أبي أقوى من الجميع ، لكنه ما ردّ بأكثر من توضيح للموقف ، لم يستمع له القائد بل أمر برمينا في الزنزانة .
بقينا هناك زهاء ساعة ، كانت الحجرة باردة ، أبي يقول : "على الأقل هذا المكان بارد "
في المقهى يحكي عمّى عمر ، واحد من رجالات قريتي البواسل ، واحد من أبناء موسى ، كيف جمع رجال البلدة الوجهاء ، و اتجهوا نحو القائد لاطلاق صراحنا ، شربنا الشاي و أكلنا الخبز ، و قهقهنا ضحكا و قد انتهت الحادثة بسلام . في طريق عودتنا يقول أبي : "هذا أول خروج لك يا بني ، أدخلتني فيه السجن " هذه العبارة حفرت عميقا في قلبي ، تراني حامل شؤم لأسرتي ؟

قديم 05-29-2016, 02:41 PM
المشاركة 18
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في فصل الصيف يتغير كل شيء في منزلنا ، تأتي خالتي خديجة و ابنتها كلثومة و ابنها عبد المالك ، ثلاثة اشهر من المرح الزائد و الشغب المستمر ، رغم أنّني مرغم على الذّهاب إلى المسجد ، لكن أيّام الصيف الطّويلة ، فيها ما يكفي و يزيد للّعب و المرح ، نقصد بستانا تخترقه ساقية ، تحت ظلال أشجاره نقضي الظهيرة و قد لجأ أهلنا للقيلولة ، كل واحد يبني صهريجه بالطين ، و يملؤه بماء الساقية ، نشق القنوات ، لنسقي مزروعاتنا ، كل منّا يسيج حقله البالغ مترا مربعا واحدا تقريبا ، نهتمّ بحقولنا طوال الصيف .
في البستان نفترس كميات هائلة من العنب والتين ، نقطف ثمار اللّوز ، نأكل السّفرجل ، جدّي يعتني بهذا البستان ، يشذّب أشجاره ، يقيم داليات العنب . رغم القيض فالبستان ربيعي الطبع ، طيور مغردة و ثمار دانية تنعشها رطوبة الماء .
شهر رمضان على الأبواب ، شهر هجيري الملامح ، نرى أسرنا و قد نال منها التعب ، و شدّ الحر أنفاسها ، شهر كامل و لا ترى الفرحة في نفوسهم إلا عند المغيب ، إذ ذاك تشرق وجوههم الشّاحبة ، و تستيقظ هممهم المكسورة ، أبي بعصا طويلة إلى جانبه ، قد تنزل على قطّة متسللة إلى المائدة و ربما إلى ظهورنا أقرب ، متى كان ميزاجه سيئا جدّا لا نحضر طعام الفطور ، يترقبون الأذان بلهفة، الماء البارد و التمر و الحريرة و الخبز والحليب والشبّاكية و السّلو كلها مهيأة، متى أعلن الأذان الانطلاقة انجرف الجميع هبّة رجل واحد للأكل .
صباح العيد نتوجه إلى المصلى ، نتباهى بأثوابنا الجديدة ، نصلي في الصّف الخلفي ، و بكلام خافت نصدّع رؤوس المصلّين ، متى انتهت الصلاة ، قام الإمام مخاطبا مكبرا و الجميع يردّد التكبير ، أحب هذا الجو الروحاني الذي يعتري الجماعة ، أحب ألحان الأذكار التي ينشدونها قبل الصلاة و بعدها ، تنتهي المصافحة نتنقل مهللين مكبرين جهة المقبرة ، نشارك الأموات منا فرحة العيد ، يدعو الإمام لهم بالرحمة والمغفرة و الجنة ، يذهب كل إلى حال سبيله .
الصيف لا تنقضي أفراحه ، لا يسكتها إلا قدوم المطر في الخريف ، حفلات الزفاف و مواسم القرويين ، موسم عيساوة ، موسم الرماة ، موسم كناوة في بعض القرى ، أبي لا يحب المواسم ، لا يحب الرقص ، لا يحب الطقوس الروحانية التي يصفها بأعمال الشّرك والشيطان ، أنا أجد فيها بهجة عارمة، أحب طبول عيساوة ، و إيقاعها الرهيب ، أحبّ الحالة المجنونة التي تعتري العيساوي حين يفقد صلته بهذا الوجود ، وهو يمارس الحضرة ، تغرس مسامير حادة في وجهه و هو يحسّ نشوة عارمة ، رقبته مزينة بمسامير تخترق جلده لكأنها قلادة عجيبة ، لسانه مشدود بجلد شفتيه ، يا لها من نشوة ، يقذف برأسه ذات اليمين والشمال ، نحو الأسفل نحو الأعلى ولسانه يلهج بذكر الله ، أحب النساء العيساويات اللائي جئن للتفرج فقط ، فإذا بهن ينخرطن بلا وعي في هز الرؤوس ، فتعمل جليساتهن على شدهنّ بحزام عند حجرهن لكي يلزمن أماكنهن ، يمارسن الحضرة واقفات على ركابهن ، شعرهن الوديع متشتت على رؤوسهن ، يهيج بعضهن فيطلقن صيحات منخرطات في بكاء مرير .

قديم 05-29-2016, 08:24 PM
المشاركة 19
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


يا له من سرد ...
كأنني مع فيلم للذكريات ..
تفوح منه رائحة البهارات القديمة ..
لا زلت # متابعة !



قديم 05-30-2016, 10:42 PM
المشاركة 20
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


يا له من سرد ...
كأنني مع فيلم للذكريات ..
تفوح منه رائحة البهارات القديمة ..
لا زلت # متابعة !


شكرا لحضورك البهي أستاذة جليلة .
هي الحياة ، تدخل حينا في نغمتها فتؤنسك ، و متى تغير الإيقاع صفعتك على حين غرة بحقيقتها الهشة المتعبة المرعبة ، تحاول أن تتكيف ، أن تجد سبيلا لمجاراتها ، لا ينجح فيها إلا من كان حربائي الملكات ، أو امتلك رصيدا غير متناه من التجهال ، أما من يسعى لمنطقتها فهو سيعاني في ظل لا معقوليتها ، في خضم تناقضاتها ، في أتون معتركها الذي لا يؤمن في أحيان كثيرة إلا بمنطق القوة .

سعيد بحضورك الوارف .

 

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب مفتوح .... فتحية الحمد منبر البوح الهادئ 4 02-15-2022 12:59 PM
لقاء مفتوح مع الأستاذ سامر العتيبي ...أسطـورة الفـن التشكـيلي ايوب صابر المقهى 5 04-18-2014 03:14 PM
من فمك نكتب سيرتك: لقاء مع الاستاذ نبيل احمد زيدان ايوب صابر المقهى 27 11-21-2012 02:46 AM
قلبي مفتوح على جرح !! حسام الدين بهي الدين ريشو منبر البوح الهادئ 4 02-08-2012 11:26 PM
بوفيه مفتوح عبدالسلام حمزة منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 5 10-22-2010 03:09 AM

الساعة الآن 12:02 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.