قديم 02-21-2016, 12:47 PM
المشاركة 41
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ذهب ذلك الجراد الي غير رجعة...لكن صنفا اخر من الجراد، كان اشد فتكا، وأعظم خطرا، بعد ان اتقن لعبة النجاة عبر السنيين في معركة صراع البقاء، وتكاثر بصمت في حصونه وصياصيه لعدة قرون مضت، وفي أماكن كثيرة...في الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب...في الاصقاع الباردة، والصحاري الحارة...حتى ان بعضه هاجر الى الاراضي الجديدة، واستحكم مع الزمن في مفاصلها، وصار له هناك نفوذ عظيم..

وظل اثناء ذلك كله، ولسنوات عديدة يحلم في السيطرة على بلاد السمن والعسل، بدلانا فلسطين...وأصبح مع الأيام صاحب شكيمة، ونفوذ، وامتلك وعلى عكس الجراد الصحراوي، أدوات بقاء، واستمرار، وانتصار...فقد أصبح مدرعا، وله يد طويلة، وعيون كثيرة، وأدوات خبيثة، وأساليب ماكرة...

وبينما كان ذلك الجراد الصحراوي من صنف واحد، ولون واحد أقرب الي لون الرمال الصحراوية، الا ان هذا الجراد الاخر استفاد من سعة رقعة انتشاره في البلاد والاصقاع، فأنتمى اليه أناس كثر من عدة اجناس والوان...منهم الأبيض كبياض الاسكندنافيين ومنهم الأسود كسواد الاثيوبيين...منهم له عيون زرقاء بزرقة السماء ومنهم من ظلت عيونهم على أصولها اسود، وبني، وعسلي...وهو ما يشي باصول شرق اوسطية...

وكان بعضه قد استوطن منذ سنوات في الساحل الفلسطيني، وبعد ان نجح في استقدام المزيد من بني جنسه الي الأرض التي نسج حولها حلمه وحلمهم في العودة والرخاء، استجمع قوته، وعاود الانتشار من جديد في هجمة توسعية، شرسة، وكان ذلك بعد سبع سنوات تقريبا من هجوم الجراد الصحراوي الكاسح...

وما لبث هذا الجراد ان استحكم بكل قوة، وجبروت، واستوطن في رؤوس الجبال، وبدأ يقضم بمخالبه الأرض، والشجر، والحجر، ووضع يده على عيون الماء...الذي هو مصدر لكل حياة...وظن البعض حينها انها موجة عابرة، او هي سحابة صيف لا بد زائلة...لكنه هذا الجراد استوطن في حقولنا، وجبالنا، واستفحل في اذاه...ومرت السنين تلو السنين وهو ما يزال يستحكم في ربوع ارض فلسطين، ويجثم بصلافة، واستهتار واستكبار على صدور اهلها...ولا يوجد في الأفق ما يشير الى متى سيرحل هذا الجراد...

وان كانت كل تلك الحشرات والجرادات التي حدثتكم عنها فيما سبق قد تسببت بأذى عظيم لأهل فلسطين فذلك الأذى لا يعدو نقطة من بحور الأذى والالم والقهر والعذاب والترويع التي صنعها، وتسبب بها هذا الصنف الاخر من الجراد...وتلك اوديسا الم أخرى يطول سردها وتتعدد فصولها...وسوف نعود لقصها عليكم بتفاصيلها المؤلمة، والمروعة، والمرعبة، لكننا نعود لنستكمل أولا مصادر الألم والخوف الاهون في حدة ترويعها والتي عصفت بفلسطين كما اذكرها في طفولتي المبكرة فما يزال في جعبتي ويعصف بذاكرتي مصادر الم أخرى حفرت لها مكان في الذاكرة...

وكان بعض هذه المصادر حشرة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة... وكانت تسكن في رؤوسنا...ذلك هو القمل اللعين ...الذي كان يسرح ويمرح في غفلة منا ويتغذى على دمائنا، ويتكاثر هناك بين بصلات شعر رؤوسنا دون رادع، وكأنه في غابة استوائية، واظنه كان يفضل ان يختفي في المساحات الكائنة خلف اذاننا، او ربما انه كان يجد في تلك الأماكن اقصر الطرق لما يشبع نهمه من المغذيات والملذات...

وكان انتشاره آفة رهيبة من افات ذلك الزمن...وكان القضاء على هذا الصنف من الحشرات تحديدا من اشد اهتمامات والدي...ومن ضمن أولوياته...واظنه كان يخشى ان يكون القمل من آيات الله المرسلات على الناس في ذلك الزمان...كما سبق وان ارسلت هي والطوفان، والضفادع على قوم فرعون...اعداء موسى وهارون...

واذكر تماما كيف انه كان يشرف شخصيا ومباشرة ونحن صغار على قص شعورنا وبحضوره الدائم...وقد وظف لذلك الغرض حلاقا، وكان البعض يسمونه، مزينا وكان اسمه جميل عبيد...وكان والدي يدفع له في تلك السنوات، اجرة سنوية عبارة عن صاع واحد من القمح تضاعف مع مرور السنين مرات ومرات الى ان اصبح الدفع نقدا هو المستحب، وذلك مقابل خدماته في تزين كل رأس من رؤوسنا...وذلك بحلقها وتنظيفها تماما من أي شعر بماكنته شبه المعطلة بشكل دائم...والتي كانت كثيرا ما تخلع الشعر خلعا بدل قصه، وتتسبب لنا في كثير من الألم...بينما كانت ردة فعل المزين جميل عبيد حينما كنا نتوجع ونعبر عن ذلك بصيحة اخ...اخ...اخ...كانت ردة فعله ابتسامة بعرض الأفق...واحيانا قهقه تزيد المتألم المسكين الما اشبه بطعنة سكين...او كأنه كان يرش ملحا على الجرح...فقد كانت اسنان ماكنته بالية...

وكانت النمرة المفضلة لطول الشعر عند والدي، هي النمرة صفر دائما وكأن الحلاقة طقوس دينية، بينما كنا نحن الصغار نقاوم الصلعة والنمرة صفر باستماته، وبكل ما اوتينا من قوة وحيلة واساليب...وكنا نظن النمرة صفر نوع من العقاب الفردي والجماعي احيانا...وكنا نخجل من أنفسنا إذا ما اجبرنا عليها امام الاخرين ...وكنا نحن نستهين بذلك العدو اللعين ونفضل ان يظل شعرنا مرسلا...طويلا مسترسلا...كاشجار غابة استوائية...وان كان لا بد من قصه، فلتكن القصة على النمرة أربعة...وان لم يكن فالنمرة اثنان...لكنا كنا دائما نخسر المعركة مع والدنا ونستسلم لإرادته ورغبته في استباحة شعورنا حتى لا تصبح مرتعا لتلك الحشرة المخيفة...التي ارتبط وجودها في وجدان الناس وعقولهم بالغضب الالهي والعذاب المبين...

وقد استمرت حرب والدي على حشرة القمل التي كانت تعشش في رؤوسنا حتى أصبحنا في الصفوف الدراسية العليا...لان المدارس الابتدائية كانت أحد أسباب انتشار تلك الافة بصورة وبائية احيانا...وقد اشتركت المدارس في تلك الحرب الفتاكة على القمل...فكانت الماردس تمارس رقابة شديدة على طول شعورنا وتجبرنا على قص شعورنا على النمرة صفر في محاولة للسيطرة على ذلك الوباء، وكان اذا صدف وطال شعر احدنا بمقياس يزيد على مقاييس المدرسة، يرسلوننا الي المنزل وعلى ان لا نعود حتى نجتث الخطر...واستمر الامر على ذلك المنوال الى ان تبدلت الأحوال وهزم القمل شر هزيمة واظن ان ذلك حدث بفضل المبيدات الحشرية التي لم تكن موجودة في ذلك الزمن... وبفضل وفرة الماء الذي اصبح يُصب صبا من الصنابر والدشات التي صارت منتشرة في كل مكان...بينما كان الماء في بداية الستينيات ينز نزا بالقطرات من الجرار والاباريق...او من تلك الاوعية المتطورة قياسا بما كان متوفرا وهي عبارة عن براميل يركب في اسفلها حنفيات تفتح وتغلق حسب الطلب ولا يكون هناك حاجة لمساعدة شخص آخر في كل مرة تريد فيها صب الماء للتنظيف وما اشبهه.. كانت تلك الباميل تملا بالماء كلما تيسر ذلك فالحصول على الماء في تلك الايام لم يكن سهلا...فقد كان الامر يتطلب جهدا كبيرا حيث يؤتى بالماء من الابار...التي كانت احيانا بعيدة ومخيفه ...بل وقد تستغربون حين اقول انها واحدة من اهم مصادر الخوف في تلك الايام... وللماء والابار عندي حكاية ورواية سوف اقصها عليكم فيما يلي...

هزم القمل شر هزيمة منذ زمن بعيد ولو انه ما يزال يظهر بين حين وآخر، هنا وهناك، لكنه ما يلبث ان تشن عليه حروب شرسة فيقضى عليه ويزال من الوجود اذا ما ظهر...وقد اصبح الامر سهلا لان ادوات مقاومته تطورت مع الايام واهمها وفرة الماء الذي صار يصلنا عبر الانابيب والصنابر دون اي عناء من الينابيع والابار الارتوازية، وكذلك وفرة الصابون، والشامبوهات...والمبيدات الحشرية....

والمفارقة ان شريحة الشباب اصبحت هذه الأيام تعتبر حلق شعر الرأس على النمرة صفر، تلك التي كان يفضلها والدي اختيار مميز، وموضة محببة، تشي بصلابة، ورجولة وجمال... يسعى اليها الشباب بأيديها وأرجلها...وكأن ابي كان يستشرف المستقبل ربما...ولو ان اهدافه التي سعى اليها في ذلك الزمان كانت التخلص المطلق من ذلك البلاء العظيم...

يتبع ...

قديم 02-23-2016, 02:38 PM
المشاركة 42
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ويمكن الجزم بأنه أينما وجد القمل وجد أيضا البق والبراغيث، فهذه الحشرات تشارك الناس في مساكنهم...صحيح اننا قليلا ما نراها لكننا نحس بها، ونستشعر بوجودها...احيانا من خلال حركتها المتسللة على اجسدنا...حيث تترك احمرارا، وأثرا لامعا ومؤلما ولو كان بسيطا...فتتحرك على أثره أصابع ايدينا بصورة غريزية، وتلقائية لحك المنطقة المصابة او المقروصة والتي تكون قد تعرضت للعض، والقرص والحفر، بحيث تتمكن تلك الكائنات من امتصاص ما تستطيع سحبه من الدماء...

وأحيانا نعرف بوجودها من خلال قفزها امام ناظرينا، إذا أمعنا النظر ودقننا في تفاصيل ما يدور حولنا...والقفز طريقة بعضها في الانتقال من مكان الي مكان...ولولا هذه القدرة العجيبة التي وضعت فيها لاحتاجت ربما لسنوات حتى تتمكن من الانتقال من مكان الي آخر ...

وأحيانا أخرى كنا نعرف بوجودها من خلال الحركات البهلوانية التي تقوم بها القطط في محاولة للتخلص منها...حيث تأخذ تتلوى وهي تحاول الوصول اليها بمخالبها ولسانها وكأنها أصيبت بحالة صرع...او شي من هذا القبيل...

والمخيف ان أجهزة الميكروسكوب الدقيقة أظهرت حديثا بأن تلك الحشرات الدقيقة ونقصد هنا البق، والبراغيث ليست سوى بعض المخلوقات العديدة غير المرئية التي تشارك الناس في مساكنهم...فهناك العشرات من المخلوقات الأخرى التي تم رصدها حديثا بالنواظير قد يصل عددها الي الخمسين حسب ما نشر من معلومات حولها موثقة بالصور والادلة القطعية...وهي أيضا تشارك الناس مساكنهم وتتخذ منها بيوتا لها...وهذه كائنات دقيقة جدا وصغيرة في حجومها...لكنها كبيرة حتما في حضورها وضخمه في مفعولها وأثرها المؤذي، والمخيف، والمزعج، فهي أيضا من مصاصات الدماء، وتتغذى على دمائنا...وتنقل لنا حتما الكثير من الامراض...وتتسبب بالعدوى وانتشار الامراض...

واذكر تماما اننا كنا في تلك السنوات نعاني من الدمامل، وهي أكياس من الدم والقيح الصديد، والتي كانت تظهر بكثرة على ارجلنا...وأحيانا على وجوهنا وباقي نواحي اجسادنا...وبعضها كان يتسبب لنا بشديد الألم خاصة إذا ما ظهر في أماكن حساسة...وكانت هذه الأورام والانتفاخات تعالج بصورة شعبية وذلك بتغطيتها بدهون أسود، او بالبصل المشوي قليلا والذي كان يوضع على الدمل حتى ينضج وينفجر ثم تبدأ عملية تفريغ الدمل من محتوياته القذرة بالشد والعصر بالأيدي وما الي ذلك من طقوس...وحتى يختفي محتواها ويندمل مكانها تماما...لكن اثرها يظل قائما لسنوات عديدة قادمة، وكأنها اصبحت وشما يميز صاحبه... لكنه حتما وشم يذكر صاحبه بماضي مؤلم ورهيب...وما تزال بعض الوشوم من هذا الصنف ظاهرة عندي، وابرزها هذا الذي في وجهي وعلى مسافة قصيرة جدا من عيني اليسرى...ولا بد انني كنت محظوظا انها ظلت سليمة...

والحمد لله ان الله مسخ تلك المخلوقات بتلك الحجوم الضئيلة جدا، حتى ان بعضها لا يتجاوز حجمه حجم الذرة، ولا يرى بالعين المجردة، وبذلك جلعنا لا نرى منها اية ملامح او تفاصيل...بينما جعلنا نرى بعضها وكأنها مجرد نقطة سوداء...بينما حجب أخرى عنا تماما...ولولا ما حدث من تطور في وسائل الرصد والتصوير والمناظير ربما لم نعرف بوجودها بعضها ابدا...

فقد تبين اليوم...وبعد كل تلك الطفرات التي حدثت في أدوات التصوير والمناظير، بأنها كائنات بشعة في شكلها، وبعضها شديد البشاعة، وبغيظة ومخيفة، ولها خراطيم مرعبة، وهي اشبه بأبطال مشهد من مشاهد أفلام حرب النجوم التي ما ان نراها حتى ترتعد فرائصنا ونرتجف من شدة الخوف...

كما تبين انها متعدد الالوان وبعضها مزركش، وجميل، وحتما مثير للاهتمام والدهشة...فهي بمنتهى الاعجاز، والدقة في الخلق والتركيب... وذلك ما أظهرته الصور التي تمكن العلماء من تصويرها لهذه المخلوقات والتي احتاجت لتكنولوجيا متطورة بشكل كبير لرصدها ...وتطلبت عملا لعدة ساعات حتى يتمكن المصور من تصويرها واظهرها على حقيقتها وتجسيد ملامحها...

ولو ان هذه المخلوقات كانت بحجم أكبر قليلا، أي بحجم الفأر او الارنب مثلا ...وبانت لنا على حقيقتها وبحيث تبرز لنا اشكالها المخيفة، وملامحها، وافواهها، وانيابها، وقواطعها، وخراطيمها وعيونها التي يبرز بعضها بشكل مرعب على اجسادها لتسبب لنا كل ذلك بذعر شديد ربما لا مثيل له الأرض حتما، وتعجز عن ان تتسبب به حتى اي واحدة من الحشرات السامة والحيوانات المفترسة المخيفة....

والصحيح انه كان لي تجربة مريرة مع حشرات البراغيث المرعبة، لكن ذلك لم يحدث في طفولتي ولا في الريف الفلسطيني، وانما حدث في وقت لاحق من حياتي وفي اجواء صحراوية، ولو ان تلك التجربة المريرة وفي مفارقة عجيبة ساهمت بشكل إيجابي في تغيير موقفي من الزواج، ودفعتني اليه دفعا للتخلص من حياة العزوبية الاشد مرارة والتي اختبرت مرارتها واكتويت بلهيبها في الكويت...في ثمانينيات القرن الماضي ....حيث كنت حينها اسكن مع مجموعة من شباب العزوبية، في شقة جميلة في مظهرها الخارجي، وكانت تلك الشقة الحلم بالنسبة لحياة الشباب قريبة من الشاطيء ومطلة على مياه الخليج العربي، وفي واحدة من أجمل مناطق الكويت، وهي منطقة السالمية، وكان لا يفصلها عن شاطئ البحر سوى اذرع قليلة هي عرض شارع البحر الذي يعتبر واحد من أجمل شوارع الكويت واحد اهم المعالم الرئيسية فيها...

وكانت تلك البراغيث التي روعتني بحجوم كبيرة جدا مقارنة مع اختبرته في طفولتي، وحين اكتشفتها فجأة تشاركني السرير اصبت بصدمة ورعب، ولا بد ان حجومها الكبيرة تعود الي الأجواء شديدة الحرارة في الاراضي الصحراوية...وصدق المثل بحق ذلك السكن اذ يقول "من برا رخام ومن جوا سخام"...وقد كان كذلك فعلا...ولحياة العزوبية شديدة المرارة في الكويت معي قصة مريرة وربما اشد مرارة من قصة العزوبية التي راواها السعدون في روايته ساق البامبو وسأرويها لكم في حينه...ولا شك ان السنوات القليلة التي قضيتها في الكويت كانت عاصفة، ومؤلمة احيانا، وحتما شديدة الدرامية في جوانب منها...وقد لا تصدقون ان الذي حسم امري وجلعني اغادر الكويت رغم حبي لها وتمسكي بالبقاء فيها رغم الزلزال بمقياس عشر درجات الذي هزها وزلزلني وزلزل الكون معها كان لذباب...ولكن تلك قصة اخرى سارويها في حينه...

ولا يمكنني ان انسى الذباب في ريف فلسطين ايضا، تلك الحشرة المنزلية، البغيضة، والمزعجة، والمسببة بالاذى والعدوى بامتياز...ففي طفولتي كان الذباب في ريفنا جزء من حياتنا اليومية، وكان له حضور كبير...وهو بعدة الوان اشرسها الذباب الازرق الذي اكتسب شهرته بانه يستطيع الوصول الي اماكن يصعب على المرء تخيلها، ومن هنا كان الناس يضربون بقدرته المثل بقولهم انه مكان لا يستطيع حتى الذباب الازرق الوصول اليه...والصحيح ان الذباب بكل الوانه واحجامه كان ينغص علينا عيشتنا ويتسبب لنا باذى كبير وقد يكون هو المسؤول عن العدوى التي كانت تصيبنا وليس تلك الحشرات المنزلية الصغيرة...وكان اذا وقع على طعام كنا نرفع ايدينا عنه ولو كان قليلا ولذيذا وشهيا...ولا اظن ان احدا منا لم يكن يحفظ بيت الشعر القائل :
اذا وقع الذباب على طعام........ رفعت يدي ونفسي تشتهه .

ولا زلت اذكر ان والدي كان قد طور وسيلة لطرد الذباب وقتله اذا امكن، وتلك الوسيلة عبارة عن ادة اشبه بتلك التي كنا نستخدمها لقتل الدبابير مصنوعة من الخشب وهي اشبه بمضرب كرة التنس...ولكنه كثيرا ما كان يفضل استخدام اغصان الشجر في طردها من خلال التلويح بها كلما اقترب الذباب...واحب اغصان الاشجار اليه كان شجرة الكينيا ذات الرائحة العطرية، وكان كثيرا ما يحث الناس على زراعة هذه الشجرة الحرجية، نظرا لغنى ازهارها بريحق العسل...وهي تتفتح في موسم الصيف، مما يوفر للنحل رحيقا على مدرا اشهر الصيف التي تجف فيه الازهار الجبلية والبرية...واظنه كان يفضل عسل تلك الفترة والذي كان يسميه عسل الصليب وهو خلاصة رحيق عدد من الازهار التي تتفتح في موسم الصيف مثل الكينيا والصبر والرمان ....

وكان اكثر ما يمارس تلك الطقوس المتمثلة في طرد الذباب، والتي هي اسلوب دفاع عن النفس اكثر منها هواية ، في اشهر الصيف وهو يجلس وقت القيلولة الي جوار ركن من اركان البيت القديم، وبجانب الحديقة المنزلية...في زاوية تلتقي فيها الرياح الشمالية والغربية المنعشه...حيث كنا كثيرا ما نلتقي معه هناك نتسامر ونشرب الشاي...

ولا شك ان اسباب انتشار تلك الحشرات بكثرة ...في تلك السنوات وعلى راسها الذباب يعود الي الاجواء الريفية وكثرة الاشجار المثمرة وروث الحيوانات وندرة المبيدات الحشرية، وقلة النظافة العامة في ظل شح الماء... الذي هو مصدر لكل حياة... لكنه في الريف الفلسطين في تلك الايام كان مصدرا رئيسيا للتعاسة والشقاء...


يتبع ... ذكريات الطفولة المبكرة :

قديم 02-28-2016, 02:58 PM
المشاركة 43
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


كان الماء مصدرا للتعاسة والشقاء في الريف الفلسطيني في خمسينيات، وستينيات القرن الماضي...وكان الناس في قريتنا يعتمدون في معظمهم على مياه الامطار، التي كانوا يجمعونها بشق الانفس في الابار الرأسية المحفورة في باطن الأرض، وكانوا يسمونها بئر النجاصة لأنها بعد حفرها تكون على شكل حبة الاجاص، رفيعة من ناحية القمة والرأس وعلى سطح الارض، وواسعة من الأسفل والقاع وفي باطن الأرض...

وكانت هذه الابار منتشرة في كل مكان بعضها في البراري ومنها بئر بادي وهذا الرجل صاحب البئر واسمه بادي كان حجارا وحفار آبار استغل مهارته في حفر الابار فحفر في ارضة البعيدة بئرا كان الناس يلجؤون اليه في مواسم الشلتوني قليلة المطر، وعندما تنضب الابار القريبة، والكثير منها كانت تحفر في ساحات المنازل، وبعضها داخل البيوت...حتى ان عددها في محيط منزلنا القريب فقط، وفي مساحة لا تتجاوز الدنم الواحد او الاثنين على اقصى حد كان يتجاوز العشرين بئر...

وحتما كانت هذه الابار تتسبب في الكثير من الرعب، والخوف للناس، فقد كانت مثل فخاخ قاتلة منصوبة ومنتشرة هنا وهناك جاهزة للقتل، وكثيرا ما كانت تصطاد الناس وتقتل بعضهم...وغالبا ما كان يسقط فيها الأطفال وتؤدي ببعضهم الى الموت البشع...حيث يختنق الطفل غرقا إذا ما كانت ممتلئة بالماء الذي هو مصدر لكل حياة...ويموت بصورة أبشع إذا ما كانت فارغة...

ولقد شكلت هذه الابار مصدرا للخوف الرهيب لي اثناء طفولتي المبكرة وما تزال، ولا بد ان الابتعاد عنها كان واحدا من الوصايا العشرة، التي ظل الاهل يكررونها علينا حتى أصبح الخوف منها محفورا في الصدور والقلوب والعقول...

والبعض الاخر من الناس كان يعتمد على مياه الينابيع البعيدة عن القرية، والتي كان يتطلب احضارها الي المنازل جهدا كبيرا...وفي أحيان كثيرة كان الناس يفضلون الذهاب الي عين الماء لغسل ملابسهم بمياه الينابيع بدلا من احضار الماء الى المنازل بوسائل بدائية شاقة وذلك إما بحملها على الرأس في جرار فخارية مخصصة لذلك الغرض، وكانت هذه المهمة للنساء، او بنقلها على ظهور الحمير، والخيل، والبغال وبحيث توضع في براميل حديدية كان الجيش يستخدمها في تلك الأيام...ولكنها كانت تجد طريقها الى الناس...وكانت تنقل الي المنازل في رحلات مكوكية عديدة تستغرق وقتا طويلا من حياة الناس، وتستهلك الكثير من طاقاتهم...وكانت هذه في الغالب مهمة الرجال في التحميل والتنزيل بينما يلعب الأطفال دور السايس للحيوانات التي تستخدم للنقل...

واحد هذه الينابيع التي كان يؤمها الناس أيام الجمع والعطل الرسمية او كلما كان ذلك ممكنا...ويسمى بئر حارس وهذا النبع يبعد عن القرية ما لا يقل على ثلاثة كيلومترات، لكن الوصول اليه كان يتطلب المسير في طرق جبلية وعرة وخطيرة...يقال انها في مرة تسببت بسقوط جمل تزحلق على صخورها الملساء واضطر صاحبه لذبحه وبيع لحمه في القرية...

ولهذا النبع معي قصة محفورة في الذاكرة وهي اشبه بقصص أفلام الرعب، ففيه تعرضت لاحد الزلازل التي هي من مقياس عشر درجات على مقياس رختر...وقد مرتت فيه بتجربة مرعبة اقتربت فيها من الموت المحقق...ولم يكن يفصلني عنه الا ثواني معدودات...لينطبع أثر تلك التجربة المرعبة في أعماق ذاكرتي...وما تلبث ان تطفو على السطح في كل مرة اجد فيها نفسي في حوض ماء مثل بركة السباحة او البحر...فقد أصبح الماء بالنسبة لي بعد ذلك الزلزال بعبعا مرعبا، ومصدرا للخوف الرهيب على أثر تلك التجربة المريرة... والصحيح انه وعلى الرغم من كل محاولاتي للتخلص من ذلك الشعور المخيف الا انني فشلت فشلا ذريعا في هذا الخصوص... وظل الماء وما يزال مصدرا للخوف والموت بالنسبة لي...وسوف اعود لتفاصيل تلك القصة لاحقا وفي حينه...وضمن ذكريات فترة المراهقة والشباب...

ولم يكن أحد يدرك في تلك الأيام على ما يبدو بأننا كنا نعيش فوق بحر واسع، شاسع عميق من المياه الباطنية العذبة، على الرغم من وجود مؤشرات على ذلك، كانت تتمثل في كثرة عيون الماء والينابيع المنتشرة في منطقتنا، والتي لا تكاد تعد ولا تحصى...منها عشرات الينابيع الجارية في وادي قانا، وعشرات أخرى في وادي المطوي...وكنا نعثر في مجاريها على اسماك صغيرة وهو ما يوحي بأنها كانت ممتدة ربما لتصل الي البحر الأبيض المتوسط...او ربما تأتي من بحر من لون اخر مظلم ربما، ويقبع في باطن الأرض، ويلفظ ما يزيد عن حاجته من الماء في مواسم الشتاء فتتفجر الينابيع وتتدفق ماء سلسبيلا...وتحمل معها بعضا من تلك الكائنات العجيبة التي لا بد انها تعيش في العتمة هناك في الأعماق!؟

وكانت هذه الاودية غنية بالمياه الجوفية تجري مياهها على مدار السنة...وهي لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة، وخمسة كيلومترات، أحدها في الشمال، ويتبع أراضي قرية ديراستيا وهو وادي قانا، والأخر في الجنوب ويتبع أراضي قرية سلفيت وهو وادي المطوي، اما الأراضي التي تحيط بهذه الينابيع الجارية فهي من أجمل مناطق فلسطين الخضراء، وهي غنية بالبيارات وأشجار الحمضيات...حدائق بهية ذات بهجة، وكأنها جنان تسلب الالباب...

وهناك أيضا ينابيع تكون ساكنة في فصل الصيف، ولكنها ما تلبث ان تتفجر في مواسم الشتاء، وهي منتشرة في أماكن كثيرة ومنها بئر حارس والذي اختبرت فيه تجربة القرب من الموت، وبئر قرية مردا المجاورة، وعين سميتا، وغيرها الكثير من الينابيع التي كانت تتفجر، وتجرى في مواسم الخير والمطر، وما تلبث ان تختفي في بداية موسم الصيف...

وهناك ينابيع كانت تتفجر في مواسم الخير لكن أصحاب الأراضي التي كانت تتفجر فيها تلك الينابيع كانوا يحاولون إخفاء امرها حتى لا تتحول تلك الأراضي الي أملاك عامة...والمهم انه لو ان واحدا فكر في استخدام يديه لحفر الأرض في مكان مناسب حيث العيون التي كانت تتفجر منه تلك الينابيع في فصل الشتاء فلربما كان سيتفجر منها ينبوعا يجرى نهرا فياضا، رقراقا يغنى الناس ويوفر لهم حاجتهم من الماء، ويجنبهم كل تلك التعاسة، والشقاء، والجهد اللانهائي للحصول عليه...

ولقد ظل الناس على ذلك الحال يعانون شق الانفس للحصول على الماء، الي ان جاء الجراد فحفر الأرض وأستخرج الماء من باطنها بأدواته الثقيلة وادواته الحفارة فتفجر منها الماء رقراقا صافيا سلسبيلا وافرا عذبا نقيا...فشرب واسقى لكنها كانت قسمة ضيزى يحصل هو منها على تسعة اعشار وسكان الأرض الأصليين على اقل من العشر لكنهم لا يحصلون عليه الا بعد دفع ثمنه...



يتبع...

قديم 02-29-2016, 02:53 PM
المشاركة 44
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


والصحيح ان الابار كانت من اول مصادر الرعب التي عرفتها في حياتي على الاطلاق، حتى قبل ان اعي الأشياء من حولي وادرك مخاطرها...ولم يكن اول بئر عرفته وخفته حقيقيا، ولا هو محفورا في الارض، ولكنه كان بئرا في تلك القصة اللعينة التي يسقط فيها البطل، بطل القصة المشؤومة، ولا يجد من ينتشله الا فأر يمد له ذيله لينقذه حسب الرواية، وأحيانا كانت اختي تحرف القصة وتضيف لها بعض المحسنات، وتقول حمامته بدلا من ذيله لكي نضحك...

وفعلا كانت ترتسم الابتسامات على شفاهنا، وأحيانا كنا نضحك من أعماق قلوبنا وبأصوات مرتفعة، لكننا وفي حقيقة الامر كنا حين نسمع تلك الحكايات نرتعد خوفا وتتراقص قلوبنا رعبا، ولطالما ترجم ذلك الخوف الي كوابيس ليلة مرعبة عندي، منها واحد ظل يتكرر لسنوات عديدة في طفولتي ولا اعرف تحديدا متى توقف، وكنت اجد نفسي في ذلك الكابوس اسقط من على ظهر السقيفة التي كنا ننام فهيا، اهوي الي الأرض بقوة ويطول زمن سقوطي يطول وكأن الأرض غارت وابتعدت، وما البث ان أفز من نومي مرتعدا مرتجفا اتحسس رجلي استكشف ان كانت كسرت من هول السقوط، واستكشف ان كان ما رأيته حقيقيا ام هو مجرد كابوسا واضغاث أحلام مرعبة؟ واسم ذلك البئر اللعين، بئر خنيفسه وهو نفس اسم القصة اللعينة تلك...

والمصيبة ان اختي وبسبب اميتها، وضحالة ثقافتها، ومحدودية معرفتها بالقصص، والحكايات، كانت تروي لنا نفس القصص نحن الصغار مرارا وتكرار، ومنها تلك القصة، وكانت ترويها لنا في الليل والنهار...ذلك إذا كان في النهار متسعا لرواية القصص، ولم تكن هي مشغولة في الطبخ، والنفخ، والكنس، والغسل، والتنظيف، وبقية الاعمال الشاقة التي تقوم فيها بنت الريف في خدمة الاسرة...

والذي فاقم الأمور سوءا هو انها في كل مرة كانت تقول لنا تلك القصة اللعينة كانت تشير الي بئر حقيقي مملوك لعائلة سمارة يقع الى جانب ارض لنا اسمها المسمد، لتجسد الحدث لنا وتجعله أقرب الي الواقع نتلمسه نحن بأعيننا وكافة جوارحنا، وقد رأيت ذلك البئر في سنواتي اللاحقة، وقد أطلقنا عليه اسم بئر خنيفسه كما في القصة، وكان مهدوما، مهشما من أحد جوانبه وكأنه وحش كبير يرقد هناك فاغرا فاهه لضحاياه، او كأنه مصيدة ضخمة معدة للصيد، ونصبت خصيصا للأطفال مثلي...

وظل ذلك البئر في صورته المخيفة المهشمة فاغرا فاهه الواسع وكانه فاه حيوان اسطوري سنوات طويلة لاحقه، وظل فيها يشكل مصدرا للرعب عندي...وفي كل مرة كنت امر فيها من ذلك الطريق المجاورة له في سنواتي اللاحقة، كان يقتلني الفضول لكي اقترب وانظر في قعره، وظني انني كنت مدفوعا برغبة شديدة للتأكد من عدم وجود بطل قصة اختي في قعره او ربما أحد اخر سقط في غفلة من الجميع، ولم يستطع الخروج فأحاول مساعدته...فاقترب منه ببطء شديد، وحرص لا يماثله حرص ابدا...اتسلق الى هناك منحدرا قصيرا غالبا ما كان مغطى بالأعشاب واغصان شجرة زيتون برية قزمة نمت على سطحه وترك لها الحبل على الغارب، واستمر في الاقتراب لكي اصل الى تلك الفتحة المخيفة، انظر في قعر البئر بوجل وخوف، بل وانا ارتعد وتتراقص قدماي ربما خشية ان يحصل معي ما حصل مع بطل قصة بئر خنيفسه، فلا اجد ربما الا فأرا يمد لي ذيله او ربما حمامته لكي ينقذني...

ثم أصبحت الابار الحقيقة المحفورة في باطن الأرض، وليس ذلك البئر اللعين المتخيل الذي حفرت اختي له مكان في أعماق ذاكرتي، اصبحت تلك الابار الحقيقة والمنتشرة في فناء المنزل وفي المساحة الصغيرة حوله بل وفي كل مكان هي المشكلة، وكأنها فخاخ معدة للصيد أصبحت هي مصدرا للرعب الحقيقي عندي، وكنت أخاف الاقتراب منها، واتجنبها، ولا اعرف متى كسرت حاجز الخوف ذلك وكيف...

لكنني حتى حتما فعلت في سن مبكرة وفي مرحلة ما، وعندما اصبحت قادرا على العمل وانتشال الماء منها بأستخدام الدلو او (الركوة) وهي غالبا علبة حديدية تخزق من طرفين متقابلين ويوضع في الفتحات قضيب حديد او سلك مقوى على شكل نصف دائرة ويربط هذا السلك بحبل بعمق البئر والذي قد يصل الى خمسة او ستة او سبع أمتار او أكثر من ذلك في بعض الأحيان والأماكن...

وكنت إذا ما كلفت بتلك المهمة والتي طالما كلفت بها حتى وانا صغير السن، فالحياة في الريف تتطلب الكثير من الجهد والايدي العاملة...كنت دائما اشيح بوجهي وانا اسحب الحبل وادفع بالدلو الي الأعلى محملا بالماء من الأعماق التي تبدو سحيقة ومخيفة...وكنت شديد الحرص على ان اتجنب النظر في قعر البئر او في الماء خاصة إذا ما كان قريبا من السطح...وكان يلازمني شعورا مخيفا بأن في البئر قوة جذب هائلة لديها القدرة على سحب الأطفال، وكنت أكثر ما استشعر بذلك الشعور إذا ما كنت على البئر وحدي وليس برفقة أحد...

كان ذلك العمل مصدر شقاء لي في طفولتي وحتما لبقية افراد اسرتي...فقد كانت الحاجة الي الماء كبيرة جدا وملحة، لري المزروعات او سقي الحيوانات او للغسيل والتنظيف وتطهير الثياب والاشياء...وهذه وحسب طقوس والدي كانت مهمة مقدسة...تتطلب الكثير من الماء، فقد كان والدي حنبليا متطرفا في ممارسة طقوس التطهير بحرفية تامة، ويصر على ان يتم تسبيع الملابس بعد تنظيفها فالطاهرة عنده التسبيع وليس فقط النظافة، وهذا يعني ان يتم صب الماء بسخاء عليها سبعة مرات كي تطهر، ويشمل ذلك كل قطعة قماش، او ملابس او أداة يشك انها ربما تعرضت للنجاسة، ولكي تصبح طاهرة وقابلة للاستعمال من جديد...
واذكر انه كان يعتبر من يطهر الملابس بغير تلك الطقوس، أي ان يقتصر على ثلاث مرات بدل من سبعة مثلا، بانه آثم قلبه، ولم يقم بما هو واجب، ومقدس...وكان يشير بهذا الخصوص الى احدى العائلات في القرية، والتي كانت تطهر على الطريقة الشافعية، أي انها تكتفي بثلاث عدات بدل من سبعة، على انه لا يطهر لها شيء وربما اخرجها من الملة...

وظل البئر بشكل عام مصدر خوف لي أحاول ان اتجنبه، واحرص كل الحرص على ان يظل مقفلا، وانظر اليه وكأنه مسكون بالجن او بقوى خفية تترقب الناس لكي تزل اقدامهم فتسقطهم وتفترسهم...وقد تعودت لاحقا وطوال حياتي ان أقوم على تفحص مدى احكام اغلاق غطاء أي بئر اصدفه في طريقي، وان لم يكن مقفلا بصورة محكمة وبقفل حديدي او على الأقل بسلك حديد يصعب على الأطفال الصغار العبث فيه، أقوم على وضع الحجارة الثقيلة عليه كي لا يسقط فيه الأطفال الصغار...



.

يتبع...

قديم 03-02-2016, 03:47 PM
المشاركة 45
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وبئر خنيفسه ليس البئر الوحيد الذي خفته طوال حياتي الي تلك الدرجة الحادة والمروعة...بل ان هناك بئر اخر له سمات اسطورية ما ورائية طالما أرعبني وبث الخوف في فرائصي، وقد تجنبت الاقتراب الشديد منه طوال حياتي واسمه بئر النخرور...

وكنا ونحن أطفال كثيرا ما نمر الى جانب بئر النخرور هذا، وعلى مسافة بضعة أمتار فقط منه، وكان ذلك ونحن نسير في طريقنا الى بئر حارس، ذلك النبع الذي كنا نحج اليه سنويا بعد ان تتفجر الينابيع، ويمتلئ بئر حارس بالماء فيصبح كأنه بركة سباحة في وسط جنة من الأعشاب البرية وكانت قريتنا محظوظة بمثل هذه الميزة من بين القرى الاخرى...

وكنا نسير الي بئر حارس نحن الأطفال ونحن نحمل زوادتنا غالبا في مجموعات وكأننا قطعان من الغزلان او اسراب من النوارس مهاجره، وذلك إذا ما حل الموسم، وهو غالبا ما يحل في بدايات شهر اذار من كل عام، وبعد ان تبدأ غيوم الشتاء التي جاءت بالخير والمطر والتي ظلت متلبدة في السماء طوال اشهر الشتاء في التلاشي شيئا فشيئا، وتسطع على اثر ذلك شمس اذار ، وتتألق في كبد السماء، ولو على استحياء ، وتستفيق الكائنات ذات الدماء الباردة من بياتها الشتوي ومنها الحية والعقرب طبعا، وينطلق موسم التزاوج والتكاثر للعديد من الكائنات سكان تلك الأرض البرية، وفي وقت تكون الجبال والوديان قد اكتست بالخضرة وارتدت رداء سحريا ربيعيا مبهجا، من الازهار البرية متعددة الاشكال والالوان...وبدأت براعم الأشجار تنمو من جديد ففي شهر اذار موسم سعد السعود الذي تدور فيه الماء في العود كما يقول الفلاحين عندنا...

وكنا نحن الصغار نؤم ذلك البئر النبع، بئر حارس، بقصد السباحة والاستجمام...ولا اظن ان أحدا ما أبناء القرية الذكور لم يتعلم السباحة في ذلك المكان، وكان يمارسها باستمرار وعلى مدار السنين ما دام يعيش في محيط المكان...الي ان تلوث البئر بمياه المجاري لأحدى المستوطنات التي أقامها الجراد على رأس جبل قريب فصارت السباحة في ذلك البئر النبعة صوفة للموت والمرض... وأحيانا كثيرة أخرى كنت أمر الي جوار تلك الحفرة العميقة المرعبة، التي اسموها بئر النخرور، برفقة العائلة التي كانت تمتلك ارضا شاسعة على مسافة قصيرة منه، صودرت لاحقا بأمر عسكري بعد الاحتلال بسنوات قليلة، تلك الأرض التي تمتد على مساحة سفوح ثلاثة جبال متقابلة، يفصل بينها وادي تجري فيه مياه الامطار في مواسم الشتاء، او مياه النبع حينما تتشبع الأرض من ماء المطر، فيتفجر نبع بئر حارس القابع بين بئر النخرور، وبين ارضنا التي كان يحلو لابي ان يسميها بارض وادي حمد...وهو الوادي الذي يصل حينما يمتلأ بالماء والحياة الي وادي المطوي في أراضي سلفيت المجاورة، واظن ان المياه المندفعة من هناك كانت تتجه بعد ان تختلط بمياه عيون الينابيع في وادي المطوي نحو الساحل باحثة لها عن مصب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط...

وكنا نذهب الي تلك الأرض لان ابي كان يداوم كان على زراعتها، قمحا، وشعيرا، واصناف أخرى من حبوب القطاني، وذلك قبل وصول قطعان الجراد، حيث توقفت الحياة في كثير من المرافق، ولم تعد الأرض مثل الأرض التي كنا نعرفها قبل وصول الجراد...ولم يعد الناس يلتصقون بها كما كانوا يفعلون قبل تلك النكبة المزلزلة، التي خلفت اثارا كثيرة من بينها انها زعزعت التصاق الناس بأرضهم...
ولطالما رافقت ابي وعائلتي ومن كان يشتغل معنا في اعمال الحراثة والحصاد الي هناك، حتى وانا صغير لا اقوى على المسير، وكان ذلك اثناء مواسم الخير الجميلة تلك، ومشاهد تواجدي الي جانب اغمار القمح المحصود ما تزال جلية واضحة في ذاكرتي...اولا لأنها تجربة فريدة من نوعها وجميلة وثانيا لأنها مرتبطة ال يحد كبير بمخاوف من تلك الاغمار التي كانت تتحول الي فخ حينما تختبئ اسفله الافاعي والعقارب إذا ما تركت لبعض الوقت وحتى يستكمل الحصاد...

وفي شبابي كنت اذهب الي هناك وحدي، وبتكليف من والدي، وغالبا ما كانت تلك الرحلة تتم على ظهر حمارة كنا نقتنيها لنركب عليها، ونحمل عليها اثقالنا...وكان الخيار دائما على الحمارة الانثى وليس الحمار الذكر ذلك لان الحمار الذكر شرس ومؤذي يمكن ان يؤدي بحياة الانسان خاصة ما تحركت رجولته في لحظة يرى او يشتم فيها عطر حمارة مارة في المكان...كما ان منظره وهو يمرن جهازه التناسلي الأطول على الاطلاق يخدش الحياء...وكان ابي يرفض فكرة تواجد مثل هذا الحيوان في بيت تتواجد فيه النساء...

وما كان ابي ليقبل اقتناء الخيل أيضا ابدا فقد كان يردد بأن قبر الفارس دائما مفتوح، واظنه فجع في طفولته بأحد الناس الذين سقطوا من على ظهر حصان، او شاهد ذلك بأم عينه، وربما كان هو الذي سقط عن أحدها في طفولته او شبابه ان كان والده قد اقتنى واحدا منها، او ربما اثناء مهرجانات سباق الخيل، والتي كنت انا شاهد علي بعضها في طفولتي المبكرة...واذكر انه حدثنا عن قصة طريفة ولكنها أيضا مخيفة حدثت معه في احد الأيام وهو يركب فرسه وكان اثناءها عائدا من قرية سلفيت المجاورة ووصل قريتنا متأخرا وبعد ان ارخى الليل سدوله فكان ما كان وسوف اقص عليكم تلك القصة في حينه...

وفميا يخص مهرجانات سباق الخيل، تلك المهرجانات التي كانت تقام غالبا اثناء الاعراس في ارض تقع على الجانب الغربي للقرية واسمها الخله، وقد أعطيت ذلك الاسم لوسعها، وانبساطها، فكانت المكان الأنسب لإقامة مثل تلك المناسبات الشعبية...وكان بطلها الذي لا ينازع في طفولتي احد أبناء القرية واسمه عيسى الخليل، وقد كان ذلك الشخص يبهرني بحسن اداءه ورشاقته حينما كان يميل بجسده من على ظهر الحصان ليلقط أشياء كانوا يضعونها على الأرض...ولكن وللأسف ما لبثت تلك الطقوس الجميلة ان تلاشت تماما بعد وصول الجراد الذي خطف الفرحة من العيون، وجمد الدماء في العروق والقلوب...

ولا بد ان والدي كان يشارك في تلك المهرجانات، لان ما وصلني من اخبار عنه في سنوات الشباب، انه كان يعيش حياة الفارس، المغامر، المقدام، عاش الحياة بطولها وعرضها، وكان يسير وهو يمتشق سلاحه الفردي الي جانبه، وقدت شاهدته بأم عيني يستخدم السلاح مرتين في طفولتي وفي مناسبتين مختلفتين، ولا اظنه كان سيتردد في ركوب الخيل والمشاركة في مثل تلك المهرجانات مهما كانت حدة الخطر فيها...ولا اظنه كان سيتردد حتى في ركوب موج بحر عاصف هائج مائج مهما علا وارتفع...
لكن ابي كان يرفض في طفولتي رفضا باتا اقتناء الخيول، تلك الحيوانات الاليفة الجميلة المذهلة في تكوينها وقدراتها الاعجازية، والتي كان والدي يعرف حتما بأن الخير معقود في نواصيها الي يوم القيامة... بل لقد كانت تلك الكائنات الجميلة شبه محرمه علينا...ولا اذكر انني ركبتها الا مرة واحدة في غيابه طبعا، وكانت تلك فرسا اليفا لونها احمر كان يقتنيها قريب لنا...ولكم ان تتصورا ماذا كان شعوري وانا امتطي تلك الفرس وهي تسابق الريح في ميدان واسع، فلا بد انني كنت اترقب موتي او ان يبتلعني قبري المفتوح على رأي والدي... ولم اكرر تلك التجربة بعدها ابدا، ولو ان اخي الثاني في الترتيب، وبعد ان سافر الأول الي الكويت للعمل هناك، قام على شراء فرس في أحدى السنين لاستخدامها في حراثة الأرض بدل البقر، لكنه ما لبث ان تراجع عن قراره واظنه فعل ذلك تحت وطأة ضغط والحاح والدي، فما لبث ان باع الفرس... والتي ذكرى وجودها في حياتي باهتا جدا ولا تكاد تذكر...
والصحيح ان والدي كان يفضل حراثة الأرض بواسطة البقر، ويتمسك بذلك الأسلوب التقليدي القديم كثيرا، على الرغم ان معظم الناس كانوا قد هجروه واستبدلوه بالخيل، والحمير، واستخدموا عليها معدات أكثر حداثة، واخف وزنا، ومصنوعة من الحديد، ولا تتطلب الكثير من الجهد للتعامل معها، ويمكن استخدامها باقتناء حيوان واحد بدلا من الحاجة لاثنين كما في حالة الحراثة على البقر...وهذه العدة الحديدة استبدلت بالخشبية التي كانت تستخدم مع محاريث البقر فيما عدا السكة الحديد التي كانت تركب على الخشب لشق الأرض بعمق لا يماثله محراث الحديد...

وكانت حجة والدي غير القابلة للنقاش انها أقدر على قلب الأرض، وجعل سافلها عاليها، وباطنها على ظهرها...واظنه كان محقا في ذلك فقد تدهور انتاج أشجار الزيتون لدينا بشكل كبير بعد ان هجرنا حراثة الأرض بواسطة البقر بسنوات قليلة، ثم استبدلنا الحراثة وجريا على متطلبات العصر البائسة، وربما بمخطط مدروس جرى تسويقه للناس بوسائل خبيثة، فاستبدل الناس حراثة الأرض برش الأعشاب بالمبيدات السامة نظرا لارتفاع تكاليف كلفة الأرض وحراثتها...فارتفعت مع الأيام نسبة الامراض السرطانية الخبيثة بين الناس...ولا بد ان هذا كان واحدا من الأسباب العديدة الأخرى التي جاء بها الجراد ملك الموت...وتسببت بأمراض لا حصر لها لم تكن معروفة قبل ان هجر الناس الأرض وتبدلت اطباعهم، ومأكلهم ومشربهم واساليب حياتهم..

وكنت اذهب الي تلك الأرض البعيدة تنفيذا لأمره وحبا مني في المغامرة، وبهدف قطف بعضا من ثمار أشجار الخروب التي كانت منتشرة في ارضنا بشكل ملفت ونجني منها اطنانا من الثمار التي تأتي على شكل قرون تصنع منها حلوى الخبيصة ايضا...ولم يعد لها هذه الأيام وجود ابدا في ارض واد حمد وكأن تلك الأرض أصبحت قطعة من الصحراء القاحلة لولا ان الأعشاب الشوكية فيها ترفض ان تموت، وما لبثت ان انتشرت في كل مكان، وتغولت بشكل أصبح من الصعب القضاء عليها...

واعود لاستكمل حديثي لكم عن ذلك البئر المرعب والذي اسمه بئر النخرور، وطبعا لا احد يعرف اصل التسمية الغرائبية تلك، وتتعدد الروايات في الذاكرة الشعبية عن أصل هذا البئر...فمن الناس من يعتقد ان الجن هي التي حفرته، ومنهم من يعتقد ان جنود سيدنا سليمان هم الذين حفروه، والبعض الاخر يعتقد ان الذي حفره لا بد ان يكون هو الذي حفر بئر حارس وبئر مردة القريبة منه والذي هو نسخة طبق الأصل عنه، لكنه أهمل بئر النخرور بعد ان فشل في الوصول الى الماء، وانتقل الي حفر بئر اخر لا يبعد عنه الا مسافة قليلة، وفي ارض أكثر انخفاضا...ويرجح أصحاب هذا الرأي ان قائدا عسكريا من قادة الجيوش الغازية الكثيرة التي سبق ان غزت فلسطين هو الذي حفرها ليسقي جيشه...واظن شخصيا بان هذه الحفرة البئر ربما تسبب بها نيزك سقط على الأرض منذ ملايين السنين الغابرة...او ربما هي مجرد ظاهرة جيولوجية تشكلت هناك بعوامل طبيعية، ولا دخل لأيدي الانسان بصناعتها...فما كان لكائن ارضي ان يستطيع انجاز مثل تلك المهمة...

المهم ان هذا البئر الذي لا أحد يعرف عمقه ولا أحد يعرف ما بداخله سوى الخفافيش التي تسمع أصواتها وتشاهد اثارها، إضافة الي الافاعي والحشرات الأخرى...ولا اظن ان أحدا تجرأ للنزول فيه خاصة ان فتحة بابه صغيرة ولا تكاد تتسع لجسم انسان بالغ ممتلئ...لكنهم يلقون فيه الحجارة ويطرقون اذانهم ليستمعوا متى يصل الحجر لكن صوت الوصول لا يأتي ابدا...

في كل الأحوال ظل هذا البئر، الذي مثل مصدرا للخوف بالنسبة لي وحتى اسمه، النخرور، له رنة مرعبة، اظن ان ما ان يسمعه الانسان حتى تخترق تردداته اللحم، وتصل الى العظم، ومن ثم تسافر عبر النخاع الشوكي الى كل خلية من خلايا الجسد، فيحدث فيه زلزالا ترتجف على أثره القلوب، ذلك البئر ظل مصدر خوف شديد بالنسبة لي طوال حياتي، واظن انني لو عشت مئة سنه أخرى سأظل اخشاه ولن أقترب منه ابدا...
تابع ...

قديم 03-04-2016, 09:01 AM
المشاركة 46
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
استاذة ناريمان

اشكرك على هذا التفاعل والحضور ...واشكرك خاصة على هذه الدفعة المعنوية التي ستساهم في دفعي للمتابعة في سرد مخزون الذكريات....

امقاقات الشنار : في وقت التزاوج وعندما تبدأ انثى الشنار وهو طائر الحجل وهو اشبه بالدجاجة البرية لكن له الوان رائعة ومخضب بالحناء في قدمية اي محجل وربما كان هذا سبب التسيمة، عندما تبدا الانثى في وضع البيض يتخذ الذكر من مكان مرتفع قريب مقرا له ويبدأ يغرد بصوت يطمئن الانثى بان الامور على خير وانه لا يوجد خطر في المكان هذه التغريدات تسمى مقاقات باللغة المحلية وهي مؤشر على حلول شهر التزاوج ( شهر اذار ) للطيور والحيوانات والحشرات في فلسطين.


جيد جداً
افدتني ... الله يسعدك
أكمل

قديم 03-06-2016, 04:03 PM
المشاركة 47
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
استاذة ناريمان
اشكرك على دعمك المتواصل وتشجيعك على الاستمرار...

قديم 03-06-2016, 04:05 PM
المشاركة 48
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


ولا تقل القصص المرتبطة ببئر حارس، الذي لا يبعد عن بئر النخرور سوى خمسمائة متر فقط، لا تقل اسطورية عن تلك التي تتحدث عن بئر النخرور...

فهذا البئر النبع، بئر حارس، عميق ومخيف، ولكن قاعه معروفا لكل من نزل اليه، ويحتاج الانسان ان يهبط عدد 42 درجة مصنوعة من الحجارة الملساء في معظمها حتى يصل الى قعره حيث يوجد حوض الماء مصدر النبع، والذي تظل مياهه راكدة على مدى الأيام التي لا يكون النبع قد تفجر فيها، ويضطر الذي يبحث عن الماء وعلى رأسهم رعاة الماشية الباحثين عن سقيا لماشيتهم أيام الصيف ان يحملوا الماء من تلك المسافة العميقة المنخفضة الي السطح...

وما تلبث ان تتفجر عين الماء الساكنة في الأعماق تلك، ومن ثم تصعد المياه الى الأعلى في مواسم المطر، وتجرى بعد ان يمتلئ البئر الذي هو بشكل بركة سباحة، طولها عشرة أمتار وعرضا لا يزيد عن خمسة أمتار، لكن جدرانها مصنوعة من الحجارة والصخور، وتظل المياه كذلك الى ان تعود نسبة المياه المتفجرة من باطن الأرض الى الانخفاض فيهبط الماء من جديد الى تلك النقطة وهي عين النبع في قعر البئر...

وبئر حارس هذا مخيف وهو فارغ وانا شخصيا لم اجرؤ ابدا على نزول تلك الدرجات الي قعره لأرى مصدر النبع على الرغم من شدة فضولي وشوقي لفعل ذلك، ورغم انني لطالما مررت بالمكان وشاهدت البئر وهو فارغ...

ولكنه يصبح مرعبا أكثر وهو ممتلئ بالماء، ذلك لان الناس ارتبط في ذاكراتهم وساد بينهم قصة اسطورية بأن رصدا يسكن الماء، وهذا الرصد الذي يعتقد الناس انه على شكل خاروف ولا اظن ان أحدا شاهده ابدا، لكنه ليس خاروف كما يدعون، اعتاد ان يأخذ في مواسم عديدة ضحايا له من بين الأطفال الذين يقصدون النبع للسباحة والاستجمام...وكان هذا هو تفسيرهم الوحيد لحوادث الغرق المتكررة للأطفال الذين كانوا يقفزون للسباحة في ذلك البئر المخيف دون رقيب او منقذ كما هو الحال في برك السباحة هذه الأيام...

كما ان الطريقة غير المنسقة او المستوية التي حفر فيها البئر كانت تتسبب في احتجاز بعض من يقصدونه للسباحة حتى يختنقوا...وفي مرة كنت هناك وشاهدت بأم عيني حينما قام أبو زياد وهو من السبيحة المهرة بالقفز الى أعماق البركة، النبع، وكانت قفزة راسية وكان مثل تلك القفزة الأكثر شعبيه ومجال للمنافسة عند زوار النبع...وصرنا نعد له الثواني انتظارا لخروجه من الاعماق، ولكنه وهو السباح الماهر لم يخرج وطال غيابه عن المعتاد...فقفز يومها الى البئر سبيح اخر معروف بمهارته، وهو حسن الصدقي ليبحث عنه في الأعماق في محاولة لإنقاذه... وما لبث ان ظهر وهو يمسك به، ويدفع فيه الى الأعلى، وقد امتقع وجه أبو زياد وصارا ازرقا، داكنا، في مؤشر انه كان على وشك الاختناق، ولولا تدخل حسن الصدقي يومها في اللحظة المناسبة، لاختنق ومات ولربما ظن الناس ان الرصد هو الذي اخذه الى حيث يسكن في الأعماق كما اخذ غيره من قبل...ليتبين بعد ذلك ان أبو زياد المذكور كان قد وصل الى نقطة مظلمة، في الجهة الغربية من البئر، النبع، والتي هي عبارة عن تجويف على شكل مغارة داخلية، ممتدة اسفل صخره كبيرة تظهر بارزة في صدر البئر وهو فارغ، وفقد قدرته على تحديد الاتجاه عندما وجد نفسه في ذلك المكان المظلم، فارتبك ولم يعرف طريق الخلاص من ذلك المأزق وقد اوشك الاكسجين على النفاذ فامتقع وجهه وكاد ان يستسلم للموت المحتم...

وعلى الرغم من كل تلك المخاوف والمخاطر وتلك القصص الأسطورية عن البئر وما يحتويه ويحيط به، كنا إذا ما شاع الخبر بأن نبع بئر حارس قد تفجر، وجرت مياهه...نندفع اليه نحن الصغار مثل جيش أعلن حالة الاستنفار، ونجري اليه بدون رقيب او حسيب او حتى تفكير...وكان الأطفال ما أن يصلوا النبع حتى يأخذون بالقفز في الماء متناسين خطر الغرق والموت حتى ان بعضهم كان يبدأ بخلع ملابسه في الطريق وقبل وصوله للمكان...وقد كانت الحوادث التي اقترب فيها العديد من الأطفال من الموت في ذلك النبع عديدة لا تكاد تعد ولا تحصى...وكان الخطر يظل ماثلا الا إذا ما صدف وجود شخص كبير في السن اتقن مع الأيام والسنوات مهارة السباحة، فيكون هو المنقذ لنا نحن الصغار، ويعمل دون اجر على ذلك ما دام موجودا في المكان...فما كان لطفل ان يستطيع ان يتخلف عن المجموع او مقاومة المشاركة في تلك الطقوس الموسمية السنوية التي هي غاية في الاثارة والمتعة، في أجواء غاية في الروعة والجمال رغم المخاطر المتعددة والكثيرة ...وكانت تتم تلك الطقوس تتم في أجواء احتفالية، بهيجة، وكأن الأطفال في رحلة مدرسية ممتعة وممتدة، تدوم على مدى أيام الموسم الذي يظل فيه النبع جاريا وتظل الامكانية للسباحة في حوض الماء ذلك قائمة...

وما كان والدي ليمنعني من المشاركة في تلك الطقوس رغم حرصه الشديد بأن لا يصيبني الاذى...فما كنت لاحتمل سخرية اقراني وقد اخترت ان اكون من الخوالف...لكنه كان قد صنع لي قربة مثل تلك التي يستخدمها البدو في حمل الماء او الحليب وكان يصر على ان استخدمها في كل مرة انزل فيها الي البئر الى حين اتقان مهارة السباحة...وكنت إذا ما نزلت الماء اضعها بعد نفخها واحكام ربط فمها، كنت اضعها على ظهري واربطها بحبل على بطني، حبل قصير ورفيع ربطه والدي خصيصا لذلك الغرض...وكنت الوحيد من بين الاطفال الذي يستخدم مثل تلك الوسيلة العجيبة المصنوعة من جلد الشاة والتي كانت تشعرني بالامان من الغرق....ولكني وكما اذكر كنت في كل مرة انزل فيها الماء أتصور انها ربما تكون هذه اخر مرة...فماذا عساني ان افعل إذا ما اختارني ذلك الرصد اللعين الساكن في أعماق البئر لكي أكون ضحيته لذلك العام كي يشبع جوعه ويملأ بجسدي النحيل بطنه؟؟؟

وكنت إذا ما ارتطمت صدفة اثناء السباحة بقدم أحدهم، او ربما ببعض الأعشاب التي كان بعض الأطفال يلقونها في الماء، او تلك التي تنبت على جدران البئر وحواف حوض النبع، كنت إذا ما شعرت بشيء يرتطم بقدمي، ارتعب خوفا واصير اقفز في المكان مثل الحبة في المقلى، كما يقول المثل الشعبي، من شدة الخوف والارتباك طبعا، ويذهب ذهني بعيدا بأنني لا بد أصبحت فريسة ذلك الحيوان الأسطوري اللعين الذي يسكن عقولنا ويثر فيها الفزع وان لم يكن يسكن الماء حقا...

كنت اخشى ان أكون ضحيته لذلك العام كما تقول الأسطورة المحلية...ولطالما فزعت لأتفه الاسباب فالمكان ضيق بالنسبة لعدد الأطفال الذين كانوا يحتشدون فيه في لحظة واحدة، واظنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الخوف، لان لا احد كان يجرؤ ربما على النزول الي الحوض لوحده...وبحيث يصبح المكان وكأنه على ضيقه عشا لصغار طير ترتطم ببعضها البعض حينما تتحرك وهي تحاول الانتقال من الجهة الشرقية من الحوض الي الجهة الغربية او من الجهة الشمالية الي الجنوبية، الأطول، والتي تنتهي بصخرة ممتدة يمكن للطفل ان يقف عليها ليستريح قليلا ثم ما يلبث ان ينطلق في مغامرته من جديد...

يتبع...

قديم 03-06-2016, 04:27 PM
المشاركة 49
عبدالحكيم مصلح
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أخي الفاضل أيوب صابر حفظه الله

متابع لك بإنصات ،

تحيتي وأحترامي لشخصكم الكريم ،

قديم 03-08-2016, 12:42 PM
المشاركة 50
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ليتك تعرف مدى سعادتي بمرورك... ولتعلم ان متابعتك منحتني مزيد من الطاقة التي احتاجها لاكمال هذا المشروع الضخم والارث المتعب...

لك جزيل شكري وتقديري....


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأستاذ حمود الروقي في لقاء على قناة عالي الفضائية عن الموهوبين علي بن حسن الزهراني المقهى 8 08-11-2012 12:16 AM
مع الأستاذ أيوب صابر .. دعوة للجميع احمد ماضي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 30 07-10-2011 11:33 AM

الساعة الآن 01:20 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.