احصائيات

الردود
20

المشاهدات
18167
 
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي


عماد تريسي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
556

+التقييم
0.09

تاريخ التسجيل
Mar 2008

الاقامة

رقم العضوية
4597
11-22-2013, 09:18 PM
المشاركة 1
11-22-2013, 09:18 PM
المشاركة 1
Arrow قطوف من أدب ( ميخائيل نعيمة )


ميخائيل نعيمة

اسمه: ميخائيل نعيمة. (1889-1988)م.

مولده :
ولد في بسكنتا في جبل صنّين في لبنان عام 1889م. نشأ هناك ولكنَّ جذوره تعودُ إلى بلدة النعيمة في محافظة "إربد" في المملكة الأردنية الهاشمية.

تعليمه :
أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في مدرسة الجمعية الفلسطينيّة، ودرس في الناصرة في فلسطين في المدرسة الروسية، ثم إلى موسكو القيصرية، ثم التحق بجامعة بولتافيا الأوكرانية بين عامي 1905 و 1911 م حيث تمكّن من الإطلاع على مؤلفات الأدب الروسي هناك. أكمل دراسة الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1916م ، في جامعة واشنطن، مع إجازتين في الأدب والحقوق، وأوفد من قبل القيادة الأميركية إلى جامعة رين الفرنسية، إبان الحرب العالمية الأولى.
ما قاله النقاد :

- ميخائيل كما يصفه أحمد قنديل: إذا كان للعربية، بل إذا كان للشرق جميعا أن يزدهي بمفكريه وان يباهي بفلاسفته وشعرائه وكتابه، فقد حق لنا نحن أبناء العربية أن نضع ميخائيل نعيمه في راس مفاخرنا الروحية والأدبية في هذا العصر. إن ميخائيل نعيمه مدرسة إنسانية فريدة ومذهب مخلص من اشرف مذاهب الفكر الإنسانd>

- ويقول المحامي ميخائيل عون: "في تاريخ، أكثر الشعوب، أدباء يفرضون أنفسهم على شعوبهم.. فيحيون ذكراهم بأنفسهم، ويجددون ذواتهم في تاريخ شعوبهم.. وشعوبهم تجد ذاتها في تراثهم. كمن يكتشف قانون البقاء!.. من هؤلاء الأدباء الروَّاد: الريحاني، جبران خليل جبران، عمر فاخوري، وميخائيل نعيمة!".

- وجاء في محاضرة المفكر التونسي محجوب بن ميلادي:" إن الحديث عن نعيمة هو حديث صعب ومتشعب، ولذلك فهو يضّطرنا إلى الغوص في قضايا الفن والعلم والفلسفة، والدين والمجتمع والسياسة، والتربية والثقافة والحضارة ، وربط بين هذه القضايا ربطاً محكما و واضحاً".

محطات:

- في عام 1918م ، وفي شهر أيار تحديداً سيق إلى الجندية في الجيش الأمريكي، وأرسل إلى الجبهة الفرنسية الألمانية، ثم سرح عام 1919م، وعاد إلى نيو يورك وعمل في محل تجاري.

مؤلفاته :
- الغربال
- كان يا ما كان
- المراحل، دروب
- جبران خليل جبران
- زاد المعاد
- البيادر
- كرم على درب الأوثان
- صوت العالم
- النور والديجور
- في مهب الريح
- أبعد من موسكو ومن واشنطن - اليوم الأخير
- هوامش
- في الغربال الجديد
- مقالات متفرقة، يابن آدم، نجوى الغروب
- مختارات من ميخائيل نعيمة وأحاديث مع الصحافة
- رسائل، من وحي المسيح
- ومضات، شذور وأمثال، الجندي المجهول


التعريب
- قام ميخائيل نعيمة بتعريب كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، كما قام آخرون من بعده بتعريبه (مثل يوسف الخال، نشرة النهار)، فكانت نشرة نعيمة متأخرة جداً (سنة 1981)، وكانت شهرة "النبي" عربياً قد تجاوزت آفاق لبنان.
- مجموعته الشعرية الوحيدة "همس الجفون" وضعها بالإنكليزية، وعربها محمد الصابغ سنة 1945، إلا أن الطبعة الخامسة من هذا الكتاب (نوفل/بيروت 1988) خلت من أية إشارة إلى المعرب.

وفاته :
توفي عام 1988 في بسكنتا ، عن عمر يناهز مئة سنة .



.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:24 PM
المشاركة 2
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


المَذاهِبُ والمُتَمَذهِبُون (البيادر)

ميخائيل نعيمه


أنتم في عالم مُرهَفِ الظفر والناب، متوتِّر الحسِّ والأعصاب، واسع البطن، ضامر الصدر، حسير البصيرة والبصر، أزغب الفكر والخيال. هو عالم الإنسان المتهالك على الأوشال، وفي قبضته البحار؛ وعلى فِتْر من التراب، وله الأرض بقطبيها؛ وعلى بصيص من النور، والشمس والقمر والنجوم في ناظريه؛ وعلى نسمة من الهواء، وأنفاس الفضاء الأوسع تمرح في حنايا ضلوعه.

وأنتم من هذا العالم في بقعة صغيرة جرَفتْ إليها الأيَّامُ منذ القِدَم – وما تزال تجرف – كلَّ ما اسودَّ من رغبات القلب البشري وما ابيضَّ، وكلَّ ما دبَّ على الأرض من أفكار الناس وحلَّق في الجوِّ من أشواقهم. فكم غازٍ غزاها فتملَّكتْه وما تملَّكها. وكم فاتح جاءها فطوتْه من قبل أن يحظى بمفتاحها. وكم من نبيٍّ شعَّ نورُه من جبينها، ورسول أذاع الحقَّ بلسانها. فكأنَّ القدرة التي جعلتْها من الأرض قلبَها، ومن السماء قارورةَ طيبها، ما كوَّنتْها كذلك إلاَّ لتكون فتنةً للغزاة والفاتحين، لعلَّ أرواحَهم تتضمَّخ بطيب روحها، وقلوبَهم تتجمَّل بجمال قلبها؛ ولعلَّهم إذ ذاك يدركون أن السيف مفتاح الجحيم، وليس مفتاح الجنَّة، وأن المدفع نذير الفناء، لا بوق البقاء، وأن خيرات التراب لكلِّ أبناء التراب: مَنْ طَمِعَ منها بأكثر مِنْ نصيبه خَسِرَ نصيبَه، ومَن أباحها لنفسه وحرَّمها على سواه حرمتْه الحياةُ أشياء كثيرة أباحتْها لسواه.

هي بقعة قلَّ ذهبُها وكثرتْ مذاهبُها – هذه البقعة التي تدعونها بلادكم.

وهناك أشباه العقلاء، وما هم بالعقلاء، الذين يتمنون لو تُعكَس الحال، فتفيض هذه الأرض فضةً وذهبًا، لا لبنًا وعسلاً، وتغيض ينابيعُ إلهامها، فتذوي مذاهبُها وتمسي هشيمًا يَعافُه الحيوانُ والإنسانُ وتحتمي به الفئرانُ والديدان.

فهم يقولون إن المال سؤددٌ وسلطان، وقلَّة المال شقاءٌ وخذلان – وهم لا يعرفون من الغنى غير الغنى بالفلس والدينار، ولا من الفقر إلاَّ الفقر إلى الدار والعقار. أما أن تكون لهم ثروة لا تصدأ ولا تنتن ولا تذوب، وأما أن تكون لهم مذاهب تعلِّمهم أن الغنى بالشيء هو الاستغناء عنه، وأن مكمن القوَّة في الفكر والخيال، لا في الظهر والعضل، ولا في السحت والمال، فكل ذلك عندهم هراء في هراء.

وهناك أشباه الحكماء، وما هم بالحكماء، الذين يرون في كثرة المذاهب كارثة، فيلومون السماء التي ما جعلتْ هذه الأرض منبتًا لشتى المذاهب حتى جعلتْها منبتًا للشفار والنصال ومعقلاً للخصام والنضال؛ فتفرَّقتْ كلمتُها، ولانتْ شكيمتُها، وهانت قيمتُها، فكانت موطئًا لأقدام الفاتحين، وألعوبةً في أيدي الطامعين. وهؤلاء واثقون كلَّ الثقة، مؤمنون كلَّ الإيمان، بأن جراثيم الشقاق والنزاع إنَّما هي في المذاهب عينها، لا في جهل المتمذهبين بها – وهم عن اكتناهها قاصرون.

ومن ثمَّ فأشباه الحكماء يقولون إن مذاهب هذه البلاد قد أدَّت بها إلى الخمول والتواكل، والاستسلام والتخاذل؛ فسبقتْها الأممُ التي تتكل على نشاط ساعِدها وقوَّة إرادتها، وتركتْها خلفها أشواطًا لا حول لها ولا طول، ولا رهبة ولا وقار. وكأنَّهم بذلك يقولون إن مَن يتكل على ساعِده أقوى من الذي يتكل على ساعِد ربِّه. لقد كفروا بالحياة وما أحسنوا الكفر، وآمنوا بشعرة من شعورها فما أحسنوا الإيمان. ولو أنهم أحسنوا الإيمان لعرفوا أن الاتكال على القوَّة التي منها وفيها وإليها كلُّ شيء لهو القوَّة التي ما بعدها قوَّة؛ ولو أنهم أحسنوا الكفر لأدركوا وهنَ الاعتداد بالنفس وخذلان القائل: "بمشيئتي عملت وأعمل وسأعمل كيت وكيت." أيُّها الكافرون، أحسِنوا الكفر! ويا مؤمنون، أحسِنوا الإيمان! أمَّا الذين لا كفرهم كفرٌ ولا إيمانهم إيمان فأشدُّ الناس وبالاً على أنفسهم وعلى الناس.

وهناك أشباه المصلحين، وما هم بالمصلحين، الذين يرتأون توحيد المذاهب لاعتقادهم أن الناس إذا ما توحَّدتْ مذاهبُهم توحَّدتْ قلوبُهم وأفكارُهم، فجَلَتْ عنهم جيوشُ التعصُّب والضغينة وحلَّتْ محلَّها أجنادُ الوئام والسلام. إذن فليوحِّدوا أذواق الناس في كلِّ ما يأكلون ويشربون، ويحبون ويكرهون؛ إذن فليوحِّدوا أحلامَهم في الليل وأهواءهم في النهار؛ إذن فليوحِّدوا ميولَهم وأعمالَهم، وليوحِّدوا قاماتِهم وبيئاتِهم، كي لا يحسَّ واحدُهم ما لا يحسُّه الآخر؛ إذن فليصهروهم في أتون واحد، ويسكبوهم من جديد في قالب واحد. لكنني أقول لكم إنَّهم ولو فعلوا كلَّ ذلك – وهو مستحيل إلاَّ على الله، ولو شاء الله لفعله من زمان! – لما خلقوا مذهبًا واحدًا تنصبُّ فيه جميعُ قلوب الناس وأفكارهم. فما المذاهب بأنواعها سوى اتجاهات الفكر المولود إلى الفكر المولِّد، والخيال الأدنى إلى الخيال الأسمى. هي مناقب كثيرة في جبل الوجود، لكنها كلها تؤدي إلى القمة؛ هي شعاعات عديدة في دائرة الوجود، لكنها تجتمع في محور واحد هو الله. فمادامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله، وغايتي من مذهبي الوصول إلى الله، فما شأنك معي أي طريق أسلك إلى الهدف؟ وما شأني معك إذا سلكتَ إليه طريقًا غير طريقي؟ لعلَّك نسرٌ تبلغ القمَّة بخفقة واحدة من جناحيك؛ ولعلني سلحفاةٌ أدبُّ في منعرجات الأرض. أو لعلَّني أصبحت خيالاً هائمًا، كيفما اتَّجه واجَه الخيال الأكبر؛ ولعلَّك لا تزال شهوةً خسيسة، أنَّى دَرَجَتْ تعثَّرتْ بخساستها. فما بالك لا يهنأ لك عيش إلاَّ إذا شددتَني بحبال خساستك؟! وأنا، من قبل ومن بعد، ما اخترت سبيلي إلى الله، بل اختاره الله لي. هل تكون أعدل من الله وأعرف بمشيئته منه؟!

وأخيرًا، هناك أشباه المرشدين، وما هم بالمرشدين، القائلون بنبذ التعصب وهم من المتعصبين، والكارزون بالتساهل وليسوا من المتساهلين. وهم يعنون بـ"التعصُّب" تعلُّق الإنسان بمذهبه تعلُّقًا يحمله على كُره كلِّ ذي مذهب سواه؛ وهم يقصدون بـ"التساهل" أن يغضَّ الواحدُ الطَّرْفَ عن الاختلافات التي بين مذهبه ومذهب جاره، فلا يقاتله من أجلها ولا يضطهده، ولاسيما إذا كان كلاهما من أبناء وطن واحد. ولهم في ذلك شعار يُكثِرون من ترديده، وهو: "الدين لله والوطن للجميع" – وكانوا أصدق نطقًا وأبعد تأثيرًا لو أنَّهم قالوا: "الوطن لله والله للجميع." فمن أين لنا – وكلنا عيال على الله – أن ندَّعي الملك في الأرض أو في أيِّ شطر منها، وأن نمنِّن الله لقاء ذلك بجعلنا الدين وقفًا عليه؟ ومتى كان الله في حاجة إلى دين إنسان؟! إنما أحتاج إليه لأجعله ديني، ولا يحتاج إليَّ لأدين به. وهو للكلِّ وفي الكل. فمن أين لك أن تدَّعي منه أكثر ممَّا لي؟! ومتى كنتَ قادرًا أن تجزِّئ الله وتوزِّعه حصصًا غير متساوية على الناس كنتَ أقدر من الله.

أما فلسفة "التساهل" فأعيذكم منها إن كنتم من المؤمنين. فأنتم عندما "تتساهلون" مع الناس – إنْ في عقيدة أو ذوق أو شعور – فكأنَّكم تقلِّدونهم جميلاً، متكرِّمين عليهم بحقٍّ ليس لهم، وواضعين أنفسكم في مرتبة أعلى منهم؛ وكأنَّكم بذلك تقولون لهم: "نحن على هدى وأنتم في ضلال، لكنَّنا نسكت عن ضلالكم رأفةً بكم ودرأً لما قد يكلِّفنا ردُّكم إلى الحقِّ من تعب وجهاد."

حذارِ، يا صاحبي، أن تجعل نفسك أكرم من الله، وأعلم منه بذاته، وأعدل منه في خلقه. فهو قد أهَّلني لأحمل صورته ومثاله، ولأمتِّع روحي بجمال أكوانه؛ وقد بَسَطَ أمامي خيراتِ الأرض، وسَكَبَ عليَّ بركاتِ السماء، وما منَّنني يومًا بعطية. وأنتَ، مَن أنت لتحجبه عني، فلا أراه إلاَّ بعينك، ولا أمجده إلاَّ بلسانك؟! وأنتَ، مَن أنت لـ"تتساهل" معي، فـ"تسمح" لي أن أبصر ربي بعيني وأمجِّده بلساني؟! ومذهبي في الله هو صوت الله فيَّ. فمَن أنت لتخنقه، أو لـ"تتساهل" معي فلا تخنقه؟! ومذهبي من روحي كأنفي من وجهي: ذاك يكمل كياني الباطني، وهذا يتمِّم كياني الخارجي. فإن أنت لم يعجبك أنفي، بل لم يعجبك من أنوف الناس غير أنفك، أفلا امتشقت سيفك وأعملْتَه في أنوف الناس لتجعلها مشابهةً لأنفك؟!

إن يكن مذهبي نتانةً في أنفك وقذًى في عينك، فهو ليس كذلك في أنف الحياة وعينها – وإلاَّ لما جادت عليَّ بذاتها. وإذن أنت عندما تضطهدني إنَّما تضطهد الحياةَ التي هي أمك وأمي وأبوك وأبي، وتجعل نفسَك أعلم منها بذاتها، وأعدل منها في بنيها. ولعلك، يا صاحبي، لو تفقَّدتَ قلبَك لوجدت أن النتانة التي في أنفك إنَّما تتصاعد إليه من قلبك؛ ولعلك لو تفقَّدت فكرَك لوجدت أن القذى الذي في عينك إنَّما تسرَّب إليها من فكرك.

لا. لا، يا صاحبي. خذْ "تساهلك" عني! فحقِّي أن أسلك إلى خالقي السبيلَ الذي يهديني إليه خيالي، لم يأتِني من قبضتك ولا من حدِّ سيفك. وإذا ما شئتَ أن تعطيني شيئًا، أو أن تأخذ مني شيئًا، فأعطِني محبتك وخذ محبتي: فأنا أحوج إلى محبتك منِّي إلى تساهلك، وأنت أحوج إلى محبتي منك إلى زادي. وأنت إذا ما أسكنتَني قلبَك أدنيتَني من محجَّتي، وأنا إذا ما أسكنتُك قلبي أدنيتُك من محجَّتك. فأنت في كلِّ ما تفتش عنه لا تفتش في الواقع إلاَّ عني، وأنا لا أفتش إلاَّ عنك. وما مذهبي غير سبيلي إليك؛ فليكن مذهبك سبيلك إلي.

قال أحدهم: "دعوني أنظُم أناشيد الشعب ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسنُّ شرائعه." ولو أنَّه قال: "دعوني أنظُم صلواتِ الناس ولا همَّ لي من بعد ذلك مَن يسوسهم"، لجاء بحقيقة أسمى وأروع من تلك. فالناس، مهما تنوَّعت ملاهيهم، من علوم وفنون، واختراعات واكتشافات، ومتاجر وسياسات، يشعرون أبدًا بخيبة الهزيمة من وجه قوة لا قوَّة لهم عليها؛ ومهما أمعنوا في طلب الملذات الأرضيَّة، وسكروا بقدرتهم الفكرية والفنيَّة، تمرُّ بهم ساعاتٌ يرون فيها الأرض قاعًا صفصفًا، وكلَّ أعمالهم قبض الريح: فلا علومهم وفنونهم، ولا اختراعاتهم واكتشافاتهم، ولا متاجرهم وسياساتهم، قرَّبتْهم قيد شعرة من السعادة التي ينشدون والمعرفة التي يطلبون. فهم كلَّما عضَّهم الألمُ لجَّ بهم الشوقُ إلى الحياة الصافية من الألم، فثابوا إلى أنفسهم يضرعون إلى مَن هو فوق اللذة والألم ويبتهلون؛ وهم كلَّما فتَّتَ الموتُ أكبادَهم جدَّ بهم الوجدُ إلى الكينونة التي لا تعرف الموت، فهبوا إلى معابدهم يستعطفون ربَّ الحياة ويترجَّوْن؛ وكلَّما طلبوا المعرفة، فألفَوْا أبوابَها موصدةً في وجوههم، راحوا يطرقون بابَ مَن ليس معرفة إلاَّ منه ويسجدون له ويمجِّدون.

وأنتم، يا أبناء هذه البقعة الصغيرة من الأرض، أما كفاكم مجدًا – إن كنتم للمجد طالبين! – أن بلادكم نَظَمَتْ صلواتِ نصف سكان الأرض، فأعطت أفكارَهم أجنحةً وقلوبَهم ألسنة، وطافت بهم الأزليَّة والأبدية، وسَمَتْ بأرواحهم إلى عرش السناء الأسمى؟ أم ما كفاكم فخرًا أن تكون بلادكم في كلِّ يوم وجهةَ الملايين من الأحداث والشبان والكهول والشيوخ في كلِّ أقطار الأرض، كلَّما جاعوا إلى أكثر من الخبز وعطشوا إلى أكثر من الماء؟

فكيف لا تخجلون من بعد ذلك أن تحسدوا غيركم وتقلِّدوه، وأن تحتقروا أنفسكم وتكبروه؟ أم كيف تتبرَّمون بمذاهبكم، وهي تراثكم الأثمن وتراث الناس أجمعين؟

ألا فتشوا مذاهبكم بإخلاص. فتِّشوها بلهفة العاشق. فتشوها بطهارة الطفل، وحرقة التائه، وإيمان المحتضر، تجدوا فيها السلامَ الذي إليه تطمحون، والطمأنينةَ التي بها تحلمون، والحريةَ التي باسمها تترنَّمون.


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:26 PM
المشاركة 3
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


مناجاة

ليلٌ بهيم، وسماءٌ غضبَى، وأرضٌ في وجوم.
وفي الرأس سباقُ أفكار لا تنام،
وفي القلب حفيفُ أشواق وارفة، نديَّة،
وفي العين رسومُ أشباح تتساوم على بني الإنسان وتتصافق،
وفي الأذن جلبةٌ من صلوات وعربدات، وزفرات وقهقهات، وأنين شيوخ، وانتحاب أطفال، ودمدمة براكين، وهدير بحور كثيرة.
وعلى الشفاه دبيبُ حروف ومقاطع وكلمات تنتظم وتنتثر تسابيحَ خافتةً حَيِيَّة لاسمك القدوس، يا مَن تعالى عن الأسماء والتسبيح.
*
يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل،
طال ليلٌ نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء – طال وادلهمَّ وتغضَّن وترهَّل، ولكنه ما شاخ بعدُ ولا ابيضَّ فوداه. وبنو الأرض يدأبون في غضونه ويكدحون كما تدأب المناجذ وتكدح في غياهب التراب.
يكدحون ويدأبون، إلاَّ أنَّهم حيث يبدأون ينتهون.
يزرعون ويحصدون، وفي الأهراء يخزنون، ولكنهم أبدًا جياع وأبدًا معوزون.
من حشاشة الأرض يأكلون، ومن مآقي المُزْن يشربون، ولكنهم في غُصَّة دائمة بما يأكلون وبما يشربون.
يتزاوجون ويتناسلون، وأبدًا عن سَنَدٍ وعَوْن يبحثون.
يتخاطبون ويتكاتبون، فما يتعارفون ولا يتفاهمون.
يتنازعون على أردان الليل وأذياله، فيمزِّقون لحومَهم بأظفارهم، ويسحنون عظامَهم بأضراسهم، وبغير نُتَفٍ من جلابيب ليلهم لا يظفرون.
من أين للأرض هذا القرمز في وجنتيها؟
أهو الدم المسفوح من نحر هابيل؟ أم شهوة الدم المشبوبة في قلب قايين؟
أما يزال دم هابيل سائحًا في عروق الأرض وصارخًا: "أنا الدم المهراق لا لذنبٍ إلاَّ لأنَّني أرضيتُ فارتضيت"؟
وشهوة قايين التي لا تُرضي ولا ترتضي – ويؤلمها إذا ما غيرُها أرضى فارتضى – أما تنفكُّ تستعر في أحشاء الأرض؟
أمحتوم على الحَبالى ألاَّ يحبلن بهابيل دون قايين؟ وعلى الوالدات والمرضعات ألاَّ يلدن ويرضعن سوى الذبائح والذبَّاحين؟
فيا ويل الحَبالى والوالدات والمرضعات! يا ويلهنَّ يغسلن أوزار أبنائهنَّ الذابحين بدماء أبنائهنَّ المذبوحين – فلا الأوزار بمغسولة، ولا الدماء بمحقونة.
حتى مَ تحترق الأرضُ بشهوة قايين، فلا يطفئها دمٌ يتفجر من أوداجها، ودمع ينهلُّ من أحداقها؟
وإلى مَ هذا الليل يغشِّي على أبصار بني الأرض، فيلتقي في طيَّاته الأخُ أخاه، فينكره ويبغضه ويُرديه، ثمَّ يغسل يديه من دمه ويقول: "ما أنا بحارس لأخي"؟
ومتى تنحسر الظلمةُ عن أبصار بني الأرض، فيعرف الأخُ أخاه، ويعرف أنَّه حارس لأخيه ومطالَب براحته وسلامته وحياته إذا ما شاء هو الآخر أن يتذوَّق الراحةَ والسلامةَ والحياة؟
متى يتهلهل ليلٌ كثيف نشرتَه فوق أرض حسيرة عشواء، فيرفع إليك كلُّ ابن أنثى قلبَه الملفوح ويهتف عاليًا:
"أهِّلني، يا مالك النهار والليل، أن أعرف أخي وأكون له حارسًا نشيطًا، يقظًا، أمينًا ومحبًّا، كيما يكفَّ دمُه في أذني عن الصراخ، ودمي عن الغليان والفوران."
إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضرِمَ النهار من محاجر الليل؟
*
يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر،
ها هم الذين برأتَهم صورةً لك ومثالاً، فنفختَ في صدورهم نَفَسًا من صدرك، وأودعتَهم روحًا من روحك، لا يغريهم من عيشهم شيءٌ مثلما يغريهم اللهوُ بالأعداد، وتمثُّل البدايات، وتصوير النهايات. فهم أبدًا يجمعون أعدادًا إلى أعداد، ويطرحون أعدادًا من أعداد، ويضربون أعدادًا في أعداد، ويقسمون أعدادًا على أعداد. ونتيجة ما يجمعون ويطرحون، وما يضربون ويقسمون، أعداد فوق أعداد فوق أعداد، تُبرى بترديدها ألسنتُهم، وتضيق بها خلايا أدمغتهم، وتتورَّم من الحملقة إليها أجفانُهم، وتتكسر على ركامها أقلامُهم، وتنشقُّ من ضغطها سجلاتُهم.
يعدُّون الثواني والساعات، والسنين والقرون، ويحصون مَن وُلد ومَن مات.
يعدُّون أجرامَ السماء، ويحصون كلَّ دورة من دوراتها ولفتة من لفتاتها، ويحسبون أوزانَها وأبعادَها.
يعدُّون نباتَ الأرض وحيوانَها، وطيرَها وحشراتِها، ومعادنَها وطبقاتِها، وما فيها من جبال وبحار، وجداول وأنهار، وسهول وأغوار، وما على سطحها من مدن ودساكر ومزارع، وما في المدن والدساكر والمزارع من بشر وبهائم، ومن أيدٍ تعمل ولا تنعم، وأيدٍ تنعم ولا تعمل.
يعدُّون في الصوت نبراتِه، وفي القلب أنباضَه، وفي الجسم عظامَه وعضلاتِه.
يعدُّون أرزاقَهم من ثابت ومنقول، ولهم دفاتر يقيدون فيها ما يملكون من مال وما يدينون ويستدينون، وهم عليها أحرص من نملة على حبَّة، ومن عنكبوت على ذبابة – تلك هي دفاتر الخزائن والجيوب. أما أن تكون لهم دفاتر للأرواح والقلوب، يحاسبون فيها نفوسَهم عن كلِّ كلمة جارحة، ونيَّة غدارة، وفكرة قتَّالة، ومحبة حبسوها، ويد أمسكوها، ونعمة حجبوها عمَّن هم في حاجة إليها، فما فكروا في ذلك ولا يفكرون.
يعدُّون، ويعدُّون، ويعدُّون، وإليك، يا واحدًا لا يُعَدُّ، لا يهتدون.
ها هم الذين لفظتَهم حروفًا حيَّة في اسمك الحيِّ الذي لا يُلفَظ ما يفتأون يَصِلُون الحروفَ بالحروف، والمقاطعَ بالمقاطع، ويزوِّجون الكلماتِ من الكلمات، ويؤلِّفون منها الأحاديثَ والأساطيرَ والأسفار. فلا تكلُّ لهم شفاه، ولا تحرُنُ لهم أقلام، ولا تتخدَّر منهم أنامل. وكلماتهم أكثر ما تكون دخانًا لأبصارهم، وفخاخًا لأقدامهم، وسمومًا لدمائهم، ومناخزَ تقضُّ عليهم مضاجعَهم وتعبث بأحلامهم – والبريء منها ما كان كاليعسوب، لا عسل في فمه ولا إبرة في دُبُره.
أما الكلمة التي تضمِّد جرحًا، وتفكُّ قيدًا، وتمزِّق غشاوة، والكلمة التي تجمع ولا تفرِّق، وتَجبر ولا تكسر، وتفتح ولا تغلق؛ والكلمة التي تشفع ولا تصفع، وتصفح ولا تنبح، وتُعين ولا تدين – فما أندرها! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألِفها ياء – طليقة من أحابيل البدايات والنهايات، حيث بَنوك يتخبطون، وعنك، يا ألفًا هي الياء وياءً هي الألف، يصدفون.
أعداد فوق أعداد، وحروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات – وكلُّها سواد في سواد، وظلمات طيَّ ظلمات.
فإلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر؟
*
يا قلبًا يضيف ولا يُضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار،
ما للضيوف المتألِّبين حول موائدك يتدافعون ويتلاطمون ويتناهشون؟ – وموائدك فسيحةُ الأرجاء، مثقلةٌ بأعجب الخيرات وأثمن البركات من كلِّ ما يؤكل ويُشرَب. أصنافها لا تعرف العدَّ ولا النفاد. وقد ضمَّختْها السماءُ بأطيب العطور، وزيَّنتْها الأرضُ بأبهج الألوان والأشكال.
ما للشباع من ضيوفك يتجشأون، وتخمًا في أمعائهم يشكون، ولكنهم لا ينصرفون لحظة عن المائدة ولحظةً لا يقيلون، وللجياع مجالاً لا يفسحون؟ ألعلَّهم يخشون على كنوز خيراتك النفادَ، وعلى فوَّارات نِعَمِك النضوبَ، وعلى يدك المبسوطة الانقباضَ، لذلك يخزنون من يومهم السمين لغدهم الأعجف؟
وإذا ما خيرُك يومًا نَفَد، ونعمتُك نضبت، ويدُك انقبضت، فيمَ ينفعهم كلُّ ما يخزنون؟ وهل من غد ليوم تحبس فيه قِراك عن المقترين؟ وما للجياع من ضيوفك يقدِّمون رِجْلاً ويؤخِّرون أخرى، ويلاوصون، ويتغامزون، وبلُعابهم يتلمَّظون؟
ما لهم كالغرباء، أو كالبُرْص، بين ضيوفك، يدورون من حول موائدك، وبغير الكسارة والسقاطة لا يظفرون؟
ما للبياض في عيونهم يصطبغ بحمرة الشفق، وللدماء في عروقهم تنحمُّ، وللعضلات في سواعدهم تتكمَّش؟
ما للضيوف، شباعهم وجياعهم، لا يعرفون للضيافة حشمةً، ولا للمضيف وقارًا، فيتقاتلون على قصاعه المليئة أبدًا بكلِّ خير، وإياه بالخير لا يذكرون؟
متى يشبع الجياع من جودك، ويمتلئ الشباع من وجودك، فلا يتدافعون ولا يتلاطمون ولا يتناهشون؟
إلى مَ، إلى مَ هذا الليل، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا يُنار؟
*
ليلٌ بهيم، وسماء غضبَى، وأرضٌ في وجوم.
وفي الرأس بريقُ فكر واحد وهَّاج،
وفي القلب بشارةُ فجر يولد،
وفي العين خيالاتٌ مُجَلْبَبَة بالنور،
وفي الأذن أجواقٌ من عوالم لا تُبصَر ترنِّم صامتةً ترنيمةَ الانعتاق،
وعلى الشفاه تسابيحُ عاليةٌ لاسمك القدوس، يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل،
يا واحدًا لا يُعَدُّ، ويا ألِفًا لا تُمثَّل، وياءً لا تُصوَّر،
يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار.


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:28 PM
المشاركة 4
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


في العاصفة ( 1 )

يا الله!

أمس جاءني رسولُك نيسان، وعلى حقويه منطقةٌ من شقائق النعمان والأقحوان، وعلى رأسه إكليلٌ من النسرين والوزال، وقد لفَّ ذراعيه بالورد والياسمين والريحان، وساقيه بالأرز والسرو والسنديان.

وكان جبينُه سماواتٍ صافية زرقًا، وفي عينيه شموسٌ وكواكب وأقمار، وفي فيه بلابل وحساسين وشحارير وهمهماتُ مياه كثيرة، وعلى صدره بحيراتٌ ومروج، وفي راحتيه جواهر لا تزال مغلَّفة بالأسرار وعجائب ما برحت في الأكمام، وقد تدلَّت من أطراف بَنانه عقودٌ من الآمال الخضر تدغدغها وشوشاتُ نسمات بليلات.

فما إن وطئ عتبة داري حتى أعشبتْ عرصاتُها واخضلَّت وكانت قبل جردًا ويابسة. وما إن اجتاز العتبة إلى الداخل حتى أشرقت داري وكانت عابسة، ورقصتْ حجارتُها وكانت جامدة، وعبقتْ بالطيب وكانت معفونة. وما إن صافحتُه حتى ماع قلبي في داخلي نعمةً وحبورًا.

لقد وددت لو يقيم الرسول عندي إلى الأبد. لكنه كان على سفر. فما كاد يسلِّم حتى راح يودِّع. وإذ ودَّعني ناولني كأسًا من الماء الزلال وقال:

- "اشربْها، ففي شُربها الريُّ كلُّه."

وانصرف.

وحينما رفعت الكأس إلى شفتي ألفيتُها مِلحة كالدموع. فوضعتها جانبًا، وسألتك بحرقة العطاش وحيرة التائهين:

- "دموع مَن في الكأس، يا ألله؟"

فما أعطيتني جوابًا.

*

وبعد قليل، جاءني رسولُك تموز، يا ألله.

فاقتادني إلى حقوله الذهبيَّة، حيث السنابل والمناجل والبيادر، وحيث البهائم والعصافير، والفئران والضبَّان، والنمل والنحل، وكلُّ ما هبَّ ودبَّ، تسرح وتمرح في بحبوحة من كرم الأرض وجود السماء.

فحصد كلانا مع الحاصدين، وجلسنا على النوارج مع الدارسين، وذرَّينا القمح من الأحساك مع المذرِّين. وشربنا الماء قراحًا من عيون الأرض الحنون. وأكلنا الخبز مبلَّلاً بندى ألف كفٍّ وألف جبين. وسهرنا تحت النجوم مع الساهرين.

ومشينا كذلك – أنا ورسولك تموز – في الرياض والبساتين. فصفَّق لنا الحَوْر والصفصاف والزيزفون، وبخَّر لنا الرمَّانُ بمباخره، ومال علينا التفاحُ بخدوده الحمر، ورنا إلينا الخوخُ بعيونه السود، وعقد الكلُّ فوق رأسينا سُرادقًا من الزمرد والياقوت والمرجان، يقينا لفحةَ الشمس والرياح.

فأثملتْني غبطتي. ورحت أتمنى على الرسول أن يقيم معي إلى آخر الدهر.

لكنه – هو كذلك – كان على سفر. فما عتم أن ودعني تاركًا في يدي تفاحةً فائقة الجمال. وقد قال لي عند الوداع:

- "كُلْها، ففي أكْلها الشبعُ كلُّه."

ومضى.

إلاَّ أنَّني عندما هممت بأكل التفاحة وجدتها قلبًا آدميًّا ينبض. فاعترتْني قشعريرةٌ من أمِّ رأسي حتى أخمصيَّ. وبيدٍ مرتجفة وضعتُ القلب بجانب الكأس. وبشفتين مرتجفتين سألتك:

- "قلب مَن ذلك القلب، يا ألله؟"

وظلَّ سؤالي دويًّا هائلاً في أذني.

*

وبعد قليل، أقبل عليَّ رسولُك أيلول، يا ألله. وفي مشيته جذل يترنَّح، وعلى شفتيه شهادةٌ من دم الكرمة، وفي عينيه وهجٌ من روحها، وفي يديه فلذاتٌ من أكبادها، وعلى ظهره دنٌّ من النبيذ المعتَّق.

فهششت للرسول وبششت، وألحفت عليه في دخول بيتي للاستراحة من أثقاله ومن عناء الطريق. لكنه أبَى الدخول، وأخذني بيدي وسار بي على بساط من الكلأ الشائب والأوراق الكالحة، المفطومة عن ثدي أمَّهاتها، والهائمة على وجوهها مع كلِّ ريح ونسيم.

وكانت الشمس كأنَّ على وجهها نقابًا من غبار، والهواء كأنَّ برأسه دوارًا وفي رئتيه احتقانًا، والأرض كأنَّ بها نزيفًا مستعصيًا، والسماء كأنَّها الرِّق ما خُطَّ عليه شيء.

ومازال الرسول بي حتى بلغنا عين ماء رقراق. وما إن جلسنا إليها حتى أنزل رفيقي الدنَّ عن ظهره، فسقاني منه وشرب، وأطعمني من عناقيده وأكل – وما كان أطيب ما أكلت وما شربت! فتمنيت عليه ألاَّ يفارقني حتى يفارقني نَفَسي.

لكنه – هو كذلك – كان على سفر. فما لبث أن ودَّعني من بعد أن ناولني حبَّتين من العنب لا غير، وقال:

- "أشعِلْهما عند الحاجة، ففي نورهما النورُ كلُّه."

ثمَّ تناول الدنَّ وأفرغه على الأرض قائلاً:

- "لتسكر هي كذلك."

وعاد من حيث جاء.

ولما رجعت إلى بيتي وفتحت يدي عن حبتَي العنب ألفيتهما عينين بشريتين مغمضتين. فألقيتهما على مائدتي بجانب الكأس والقلب وصرخت إليك مذعورًا:

- "لِمَن هاتان العينان، يا ألله؟"

لكنك ما أجبتني بشيء.

*

وأخيرًا، جاءني في ليلة ليلاء رسولُك كانون – كانون الثاني الأصم. فسلَّم بالعواصف والصواعق، وصافح بالبروق والرعود.

وما هي غير ساعات قصيرات حتى وجدتُني قابعًا في زاوية من زوايا بيتي، وأمامي موقدٌ فيه حطبات نحيلات تلحس أبدانهنَّ ألسنةُ نار لعوب طروب، فيقهقهن ويزغردن، وتطفر منهنَّ قلوبُهنَّ شراراتٍ راقصات، ويرسب ما تبقَّى منهنَّ في أسفل الموقد رمادًا بلا حراك.

وعلى قيد فترٍ مني هرَّتي البيضاء، وقد التفَّتْ على ذاتها في شكل كعكة وراحت تغط غطيط مَن يجهل الهمَّ والخطيئة.

والريحُ في ثورة وجنون، والبرقُ ينهش جِلد الجَلَد، والرعدُ في غضبة الموتور، والبَرَدُ كأنه وابلٌ من الرصاص، والظلمةُ قد دغمت الأرضَ بالسماء.

وعندما خمدتْ أنفاسُ ناري، ونضب الزيتُ في سراجي، وانطلقت هرَّتي إلى مسامرة الفئران والجرذان، أويت إلى فراشي – وكان كأنَّه من جليد – وقلت في نفسي: هنيئًا لمن له مأوى وفراش في مثل هذا الليل، وإن يكن مأواه من طين وفراشه من جليد!

لكن نومي كان سهادًا، وكان ليلي جهادًا.

فالعاصفة ما انفكَّت تدور من حول بيتي وتدور، نافخةً بأبواق الجنِّ والعفاريت، صافرةً صفير الهاويات السفلى، معولةً عويل الثكالى، عاويةً عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود، صاخبةً، ناقمةً، مولولة. وللرعد قصفٌ ودويٌّ وترجيع، وللبَرَد على سطح بيتي ونوافذه وجدرانه قعقعةُ آلاف الطبول يرشقها آلافُ الصبية بالحصى، وللصقيع في بدني لسعاتٌ موجِعات.

حتى خُيِّلَ إليَّ أنَّ العاصفة لن تهدأ قبل أن تقوِّض بيتي من أسُسه وتطمرني تحت أنقاضه بالثلج. وعبثًا حاولت طرد ذلك الخيال بخيالات السماوات الزرق، والمروج الخضر، والخمائل الغنِّ، والصحارى الملفوحة بأنفاس الهجيرة. فما كنت أُبصرني غير لقمة ضئيلة في أشداق تلك العاصفة الغضوب.

عبثًا حاولت أن أصمَّ أذنيَّ دون الفحيح والصفير، وأن أزرع فيهما أغاني الجنادب، وزقزقة العصافير، وحفيف الأوراق، وخرير الجداول، حتى نقيق الضفادع في ليالي الصيف المقمرات. فما كنت أسمع غير هدير الرياح وزمجرة الرعود.

فرأيتني صغيرًا، وصغيرًا جدًّا، ورأيتني ضعيفًا، وضعيفًا جدًّا، يا ألله.

وكان آخر ذلك الليل – ولكلِّ ليل آخر. لكن آخر الليل ما كان آخر العاصفة. فقد صبَّحتْني بمثل ما مسَّتني من الضجيج والصخب، وبزمهرير أشدَّ من زمهرير المساء. وما بُحَّتْ لها حنجرةٌ ولا وهنتْ عزيمة.

نهضت من فراشي، والصقيع يلاحقني بألف منخز وناب، فيعضُّ أصابع يديَّ ورجليَّ، ويَخِزُني في كلِّ مسام بدني. فتصطكُّ أسناني وترتجف مفاصلي. فأسرع إلى موقدي، وأضرم فيه نارًا، وأشعر أني ربحت جولةً – ولو قصيرة – من جولات عراكي مع العاصفة.

فأستكن إلى حين وأطمئن.

وتحين مني التفاتةٌ إلى النافذة، فأرى الثلجَ قد غمرها حتى نصفها، وأرى الريح لا تزال تبذر الأرض ببذار أبيض عجيب، وقد مَحَتْ منها معالمَها، وخنقتْ كلَّ أصواتها، وحبستْ كلَّ أنفاسها. فلا الجبال جبال، ولا الأودية أودية. ولا أثر لبهيمة أو إنسان، أو لدويبة أو حشرة. وبين الأرض والسماء لَبَدٌ من السحاب الأغبر لا تنفذ العينُ من خلاله إلاَّ لمسافة خطوات قليلات.

وتدوم حالي كذلك مع العاصفة ثلاثة أيَّام متوالية، تنسدُّ في نهايتها منافخُ الريح، ويخرس في خلالها الرعد، وتنفد جعبةُ البرق، مثلما تنفد مؤونتي القليلة من الوقود ومن المأكول والمشروب، وتحترق آخر نقطة من الزيت في سراجي. فلا يبقى بيدي غير ثقاب واحد، لا أكثر ولا أقلَّ.

ويزحف الجوع والعطش والبرد والظلام عليَّ من كلِّ جانب. ولا يذر الثلج حتى لعيني منفذًا إلى الخارج سوى نافذة صغيرة في أعلى الجدار. فأتسلَّق سلَّمًا وأرسل بصري إلى الآفاق القريبة والبعيدة.

وهناك أبصر ما لم تبصره عين، وأسمع ما لم تسمعه أذن.

وماذا أبصر وأسمع، يا ألله؟

أبصر بساطًا فائق البياض، لا أوَّل له ولا آخر. وأبصرك في وسط ذاك البساط، ومن حواليك جمٌّ من بني الإنسان ومن سائر مخلوقاتك، وقد اشتبك الجمعُ في عراك دامٍ عنيف. وأسمعك تعطي الأوامر وتدير دفَّة العراك. ثمَّ أبصر – ويا لهول ما أُبصِر! – أبصر سواقي من الدم القاني تنساب على ذلك البساط الأبيض. والسواقي الحمر تتجمَّع في بحيرات حمر. والبحيرات تتلاقَى في يمٍّ أحمر هائج. وأنت في وسط ذلك اليمِّ تدور من حولك أمواجُه الحمر وتتعالى، فتغمرك أعلى، فأعلى، فأعلى – حتى منكبيك.

ولكنك لا تتزحزح.

فأدعوك، وأدعوك، وأدعوك. ولكنك لا تجيب.

فأرتمي خائبًا، خائرًا، مذعورًا، من أعلى السلم إلى الحضيض. ولا أعلم مدى غيبوبتي عن نفسي وغيبتي عنك.

وأخيرًا، أفيق وبي رجفةٌ من شدَّة الجوع والعطش والبرد، وفي عيني ظلمةٌ دامسة. فأندب نفسي. ويستسلم قلبي لشبح الفناء.

*

وإذ ذاك يهتف بي هاتف. فأذكر نيسان وما أهدى إليَّ، وتموز وما أهدى إليَّ، وأيلول وما أهدى إليَّ. فأجمع ما تبقَّى لي من قوَّة وأزحف في ظلمتي إلى حيث الكأس والقلب والعينان، وفي داخلي يأس صارخ: "أهذا كلُّ جناي من ربيعي وصيفي وخريفي، يا ألله؟!"

وأُقبِلُ على الكأس فأجرعها ولا أبقي فيها ثمالة. وتجري قطراتُها جَرْيَ السحر في بدني، فأحسها في عروقي دمًا سخينًا وقويًّا.

وأظفر بالقلب النابض فألتهمه بشراهة. وللحال أشعر بنشاط ما شعرت قبلُ بمثله قط، فأراني قديرًا على امتطاء صهوات العواصف.

وأقع على العينين المطبقتين فأشعلهما بالثقاب الباقي لديَّ. وفي لمحة تشرق عيناي بنور لا عهد لهما بنظيره، فينحسر سقفُ بيتي من فوق رأسي، وتتقلَّص جدرانُه، ثم تذوب في فضاء طافح بالنور، عابق بالأريج.

وإذا بالبساط الأبيض سهلٌ فسيح، فسيح. وإذا ببحور الدم مروجٌ تموج، وتموج بالأخضر وبالأصفر وبالأحمر وبكلِّ ألوان الأرض والسماء. وإذا بمخلوقاتك المشتبكة منذ لحظة في عراك الموت والحياة تتعانق عناق الأخوَّة الأبدية في أحضان أبوَّتك السرمديَّة، وبينها هرَّتي البيضاء، تحيط بها جماعةٌ آمنة من الفئران والجرذان.

وإذا بك، يا ألله، في وسط الكلِّ، ومن حول الكلِّ، ومن فوق الكل، تغمرهم ببسمة من بسماتك، وتُحْييهم بنسمة من نسماتك، وتهمس في كلِّ أذن من آذانهم:

"مَنْ لم يرتوِ بدموعه لن يرتوي إلى الأبد"

"مَنْ لم يتغذَّ بقلبه لن يشبع إلى الأبد"

"ومَنْ لم يُحرِقْ عينيه لن يبصر إلى الأبد"

والذين ما سمعوا وما فقهوا اليوم سيسمعون – لا شكَّ – في الغد ويفقهون.

فما أجملك

وما أعدلك

وما أكملك

يا الله!


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:33 PM
المشاركة 5
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


التوأمان : الشرق و الغرب ( البيادر )

شرق بصير وغرب مبصر
تفرَّدت اللغةُ العربية بكمالاتٍ كثيرة، ولاسيما في معالجة النفس البشرية وما انطوتْ عليه من قوى ومشاعر ونزعات. وفي ذاك دليل على أن بُناة هذه اللغة الكريمة قد سبروا في النفس أغوارًا سحيقة؛ وإلا لما خلقوا لغة تمكِّنُهم من تصوير دفائن النفس في أدقِّ معانيها، وأشفِّ ألوانها، وألطف ظلالها. فما كانت اللغة يومًا أكثر من أداة للإفصاح عن حاجة في النفس أو حاجة في الجسد. فعلى قدر ما تتسع تلك الحاجات وتتنوَّع طواياها تتَّسع اللغةُ وتتنوَّع أساليبُها. وشعبٌ غزير الحسِّ، مرن الفكر، وثَّاب الخيال، لا بدَّ من أن يخلق لغة غزيرة الألوان، مرنة المفاصل، وثَّابة البيان.

من أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزُها ما بين "البصيرة" و"البصر" وجعلُها الكلمتين فرعين من أرومة واحدة، بل توأمين من بطن واحد. ولكن ذاك الفرع غير هذا؛ ولكن هذا التوأم غير ذاك. فكأنَّهما واحد وليسا بواحد. فالعين، إذ تمرُّ بهما، تحسُّ ما بينهما من تجانس، ولكنها تحسُّ مع التجانس تباينًا. والأذن، إذ تلتقطهما، تستأنس في الاثنين برنَّة تكاد تكون واحدة، ولكنها غير واحدة. فهما أبدًا متلاصقان متباعدان، ومتشابهان متناقضان. أما التلاصق والتشابه ففي المصدر؛ وأمَّا التناقض والتباعد ففي الطريق والواسطة.

فالبصر – ومركزُه العين – يحصر كلَّ همِّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها؛ ومن أشكالها وألوانها يحاول أن ينفذ إلى كنهها. حين أن البصيرة – ومركزُها القلب أو الوجدان – همُّها الوصول إلى بواطن الأشياء دون التلهِّي بظواهرها. فالاثنان يدأبان وراء المعرفة؛ لكن سبيل الواحد غير سبيل الآخر. أما أيُّ السبيلين أفضل وأكفل بالوصول إلى المعرفة فأمرٌ لكلٍّ منكم الحقُّ أن يبتَّ فيه بحسب هواه.

أما أنا فقد قلت من زمان – وما أزال أقول – بأسبقية البصيرة على البصر في بلوغ الغاية المنشودة التي هي الفهم الأقصى المؤدي إلى الحرية القصوى.

لن يبلغ البصرُ قلبَ الحقيقة قبل أن يبلغ حدودَه ويدرك عجزَه وقصورَه، ويلوذ بالبصيرة فينقلب بصيرة. أما البصيرة فلا حدود لها، مثلما لا حدود للحقيقة التي تتوخَّاها. فهي، وإن توكَّأتْ على البصر، لا تسير في نوره. فالمحدود لا يسع سوى المحدود؛ وما كان بغير حدود لا يسعُه إلا ما كان بغير حدود.

والآن، إذا ما قلت لكم إن الشرق هو بصيرة العالم وإن الغرب هو بصره، فما إخالكم تسيئون فهم ما أقول، فتحسبون أن الشرق كلَّه بصيرة ولا بصر، وأن الغرب كلَّه بصر ولا بصيرة. ذاك يعني تجريدَكم الشرق عن كلِّ حسٍّ خارجي، وتجريدَكم الغرب عن كلِّ شعور باطني؛ وهو غير الواقع وغير المعقول. وجل ما أرمي إليه هو القول بأن زبدة الشرق في بصيرته وزبدة الغرب في بصره، وأن الاثنين توأمان متلاصقان يبدوان كأنهما واحد ولكنهما غير واحد.

لقد اتَّبع الشرقُ هدْيَ البصيرة، واتبع الغربُ هدْيَ البصر؛ فأنجب الأول الأنبياء وأنجب الثاني العلماء. فكانت هدية الأنبياء إلى العالم أديانًا ترفع الأرض إلى السماء؛ وكانت هدية العلماء علومًا تهوي بالسماء إلى الأرض.

لكنما الإنسان، وقوى الإنسان، من ظاهرة وباطنة، في مدٍّ وجزر متلازمين. فللبصيرة، مثلما للبصر، مدٌّ يتلوه جزرٌ وجزرٌ يتلوه مدٌّ. ومَنْذا ينكر أن من بصيرة الشرق قد فاض على العالم مدٌّ جارف من الكمالات والجمالات الروحية؟ منذا ينكر على الشرق قوةً اندفعت من قلبه وفكره وروحه إلى كلِّ قلب وفكر وروح، فتغلغلتْ في نبضاتها، وسيطرتْ على خلجاتها، وتسلَّطتْ على أقدس أشواقها وأعزِّ أمانيها؟

منذا ينكر على الشرق سلطانَه على كلِّ أبناء الأرض، منذ كانت الأرض وكان الشرق؟ وأيُّ سلطان يتوخَّاه إنسان على إنسان أقوى من السلطان على القلب والفكر والوجدان؟

ما هي بالهدية الطفيفة أن تهدي إلى العالم بأسره إلهًا، ومع الإله اليقين بأنه أبوك الشفيق الرحيم العادل، ومع اليقين الرجاء بالانعتاق من ربقة الموت وآلام الموت.

تلك هي هدية الشرق إلى العالم. وهي هدية ما تلقَّفها العالمُ حتى أصبح كلُّه معبدًا لإله تعدَّدتْ أسماؤه ولكنه واحد. وإذا الناس يفتحون قلوبهم وأفكارهم وبيوتهم لذلك الإله، فلا يأكلون ولا يشربون، ولا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، ولا يعملون ولا يستريحون، ولا يولدون ولا يموتون، إلا باسمهِ وبمشيئته.

وكأن بصيرة الشرق، إذ هَدَت العالم إلى الله، حاولتْ أن تعطِّل بصره من قبل أن تفتح بصيرته. فكان من ذلك ردُّ الفعل الفظيع الذي بدأنا نشهده في العصور الأخيرة – وأعني طغيان البصر على البصيرة. فالبصر اليوم في مدٍّ والبصيرة في جزر. وكما استغرق مدُّ البصيرة أجيالاً، بل عصورًا طويلة، يستغرق مدُّ البصر عصورًا طويلة. ولعلَّ العصر الذي نحن فيه هو نهاية تلك العصور.

لقد كان من مدِّ البصر أن حياة الإنسان المادية أخذت تتقلَّب من حالٍ إلى حال بسرعة خاطفة: فنُظُمٌ تنهار ونُظُمٌ تُشاد، وحواجز تندكُّ وأخرى ترتفع، وممالك تمَّحي وغيرها يُسطَّر، ولآلئ تغدو حصًى وحصًى تغدو لآلئ؛ ما كان أمس حرامًا يصبح حلالاً، وما كان حلالاً يمسي حرامًا.

هو ذا الإنسان يهزأ بالنسر في جوِّه، وبالحوت في بحره، وبالأسد في عرينه. وهو يُمَنْطِقُ بصوته الأرض، ويحبس نور النهار في أسلاك يسلِّطها على الليل فتمحو ظلامه، ويجترح من العجائب أشكالاً وألوانًا في مختبراته العجيبة. ولا ينقصه – على حدِّ قول البسطاء – إلا أن يخلق إنسانًا نظيره، ثمَّ أن يغلب الموت.

حقًّا إنه لتيار هائلٌ جارف تتعالى أمواجُه وتتدافع في كلِّ ناحية؛ وفي تدافعها صخبُ الزلازل وعتوِّ العواصف، مع شيء من بهجة الفصول، ورونق السماء، وسحر الفوز بالغنيمة، وجاذبية القوة الظافرة. فلا غرو إذا ما غمرت المعمورة وبهرت الأبصار. فهي بنت البصر، وللبصر الحقُّ أن يعتزَّ بها؛ فهو ما أنجبها إلا لينعم بمواهبها وخدماتها.

لاغرو أن يقف العالم – وفي جملته هذا الشرق – مشدوهًا تجاه مدنية الغرب المبصر، وأن يهلِّل لها ويكبِّر، وأن يغفر لها كلَّ زلاتها، ثمَّ أن يعقد عليها آمالاً أبعد بكثير من مدى سلطانها. فهي، على ما فيها من مرارة، غنية بالحلاوة التي لا يصعب على أيِّ إنسان تذوُّقُها، لأنها حلاوة يتذوَّقها الحسُّ. أما حلاوة المدنية القائمة على البصيرة فدون تذوُّقها شقُّ النفس وقهر الجسد. لذلك كانت الأولى أقرب إلى متناول الناس وأذواقهم من الثانية؛ ففيها – كما جاء في بعض الحكايات – "ما يُحَلِّي ويُسلِّي ويُعشِّي الحمار". والحكاية – إذا كنتم تجهلونها – هي حكاية مَكارٍ معه حمارٌ بلغ عند المساء فندقًا في الطريق فعزم أن يبيت ليلته فيه. ثم طلب إلى صاحب الفندق أن "يأتيه بشيء رخيص يحلِّي ويسلِّي ويعشِّي الحمار". فما كان من صاحب الفندق إلا أن جاءه ببطيخة؛ فتحلَّى بلبِّها وتسلَّى ببذرها وعشَّى حماره من قشرها.

ومدنية البصر للجماهير كتلك البطيخة لذاك المكاري. ففيها ما يدغدغ الذوق، ويسلِّي العين والأذن، ويلهي الإنسان عن نفسه؛ مثلما فيها غذاء – أو بعض الغذاء – للبهيمة في الإنسان. أما القلب فتتركه فارغًا، وأما الروح فتعلِّقه على مشنقة الشك والحيرة والإبهام. إلا أنها ذات قيمة من غير شكٍّ. فليس من الحكمة نبذُها، ومن الجهل المطبق التفتيشُ فيها عن التغذية الكاملة للإنسان الطامح إلى الكمال.

ذاك، إذا ما أخذتموها من حيث هي تريد أن تؤخذ، أي من حيث محاسنُها لا غير. أما إذا تفحصَّتم مساوئها فلن تجدوا مدنية قبلها بلغت ما بلغتْه من التكالب والتباغض والقساوة، مع الكثير من التبجح بالعكس. وإما عجبتم لمشهد غريب فاعجبوا معي لهذا الشرق – وقد أهدى إلى العالم المحبة والقناعة والتضامن والتآخي – يقف اليوم على مفرق طريق البصيرة والبصر كسير القلب، ذليل الجفن، ضامر الصدر والبطن، ويمينُه الفارغة ممدودة نحو الغرب، وفي يسراه قائمة بأسفاره المقدسة وأسماء أنبيائه. ثم اسمعوه يستعطي بصوت متهدِّج فيه الانسحاق، وفيه المسكنة والاندحار. وماذا عساه يستعطي؟ إنه ليستعطي طيارات ودبابات ومدمرات ومدافع وقنابل. وإني لأسمعه يقول:

"من يقايضني قنبلة محرقة بآية منزلة؟ وطيارة أو دبابة بسِفْر مقدس؟ بل من يقايضني مخترِعًا واحدًا بعشرة أنبياء؟"

ما هذا، ما هذا؟ أبصيرة تستجدي بصرًا؟ أشمس تستغيث بذبالة؟

أجل، إن بصرًا نشيطًا لخير من بصيرة كليلة. وبصيرة الشرق حلَّ بها كلالٌ منذ أن بلغتْ من مدِّها أقصاه. وإن ذبالة تشتعل لخير من شمس اعتراها الكسوف. وشمس الشرق حلَّ بها كسوفٌ منذ أن انكفأ الشرق على ذاته في جَزْرِه الطويل. إلا أن الكلال يزول بالراحة؛ والكسوف، من بعد أن يبلغ حدَّه، ينجلي عن شمس كلُّها نار وكلُّها نور. ومن ثمَّ فالحياة – وهي أمُّ التوأمين بالسواء، أمُّ البصيرة والبصر، أمُّ الشرق والغرب – ما دَرَجَتْ بالشرق إلى أسمى ذراه حتى عادت فدرجت بالغرب إلى أسمى ذراه. والذروتان ستلتقيان حتمًا في ذروة واحدة هي ذروة الإنسان الموحَّد والمالك زمام نفسه وزمام الأرض والسماء.

أما زمان الملتقى فلن ينقاد تحديدُ قربه وبعده إلى الذين يقيسون الزمان بالساعات والسنين، والفضاء بالأذرع والفراسخ. فهو قريب – وقريب جدًّا – لمن في بصيرتهم أبصار، وفي بصرهم بصائر، وبعيد – وبعيد جدًّا – لمن بصائرهم كفيفة وعلى أبصارهم غشاوات.

وإلى أن يكون الملتقى لا بدَّ للشرق من وثبة بعد هجعة، وللغرب من هجعة بعد وثبة؛ بل لا بدَّ لذاك وهذا من وثبات بعدها هجعات.

وإني لأرجو لهذا الشرق أن تكون وثبتُه القادمة وثبةً تجلو الغشاوة عن بصيرته وعن بصر أخيه الغرب؛ وثبةً فيها القوة دون البطش، والمعرفة دون الادِّعاء، والرفعة دون الكبرياء، والقناعة دون الخنوع، والإيمان دون التعصُّب، والسلام دون الانتقام، والنور دون النار، والسكينة دون الاستكانة – وكيف لمن سيم الذلَّ دهرًا أن يسوم سواه الذلَّ يومًا؟ ولمن ذاق طعم الفقر أن يشتهيه لغيره؟ لا يشبع من أجاع جاره؛ ولا يعلو من نَعلُه على عنق قريبه.

مادامت البشرية على هذه الأرض دام شرقُها في حاجة إلى غربها، وغربُها في حاجة إلى شرقها، وكان ما يرفع الواحد يرفع الآخر، وما يحطُّ هذا يحط ذاك. فما طار نسرٌ بجناح واحد ولا صفقتْ يمينٌ بغير يسار.

شرقٌ يقيم الأهداف وغربٌ يمهد السبيل إليها
لقد كان من هجعة الشرق بعد يقظته، ومن يقظة الغرب بعد هجعته، أن تبادر إلى أذهان كثير من الناس أن الشرق قد شاخ وهرم، وأن الغرب لا يزال في ميعة شبابه وعنفوان قوته. فأصبح من شاء الكلام عن الاثنين لا يجد ما ينعت به الشرق أفضل من الانحطاط، والجمود، والخنوع، والتفكُّك، والتحجُّر، والكسل، وفقر الجيب والقلب، وعمى البصيرة والبصر؛ ولا ما ينعت به الغرب أقل من النور، والعلم، والإقدام، والرقيِّ، والحرية، والعدالة، والبأس، والشجاعة، والمروءة؛ فكأن الشرق بؤرةٌ من الأوبئة القتَّالة، والغرب فوَّارة من البركات المحيية. أما الحقيقة فهي أن كلا التوأمين – الشرق والغرب – يجدِّد شبابه كالنسر. ولن ينفكَّا يهجع الواحد فينهض الآخر، وينكمش هذا فينبسط ذاك، حتى يبلغا بالإنسانية إلى حيث لا هجوع بعد نهوض، ولا انكماش بعد انبساط، بل وجود بغير شطوط، وحياة بغير عواصف.

والغريب أن أبناء هذا الشرق كانوا – وما برح الكثير منهم حتى اليوم – أفظع تنكيلاً بشرقهم من أبناء الغرب، وأشد إعجابًا بالغرب من رجال الغرب. فقد تسمعون في الغرب أصواتًا تُجاهِر بالتواء سبله، وإفلاس فكره، وفقر روحه بالنسبة إلى الشرق؛ ولا تكادون تسمعون في الشرق صوتًا يشيد بما فيه من كنوز القلب والفكر والخيال. وأغرب من ذاك أن هذه الكنوز عينها هي في نظر دعاة الغرب في الشرق السبب الأول والأخير في ما يدعونه انحطاطًا وما هو بالانحطاط، وجمودًا وما هو بالجمود، واحتضارًا وما هو بالاحتضار. إنْ هو غير هدأة بين عاصفتين، وفجوة بين موجتين.

أصحيحٌ ما يزعمه الزاعمون أن أنبياء الشرق قد جَنَوْا على الشرق، وأن أديان الشرق هي أكبر آفات الشرق؟ أصحيحٌ أن السماء قد شغلت الشرق عن الأرض، والآخرة عن الدنيا، وأن الاعتقاد بالقدر قد غلَّ يديه، وشلَّ فكره، وسدل حجابًا على عينيه؟ أصحيحٌ أن الشرق مات لأنه آمن بالإله الحي الذي لا يموت؟

لا. ثمَّ لا. ثمَّ لا. فالذي فعله الشرق حتى اليوم ما كان أكثر من وضع أهداف له وللعالم أجمع. وتلك الأهداف تتوحَّد كلُّها في هدف واحد هو هدف الكمال لهذا المخلوق الذي ندعوه إنسانًا – هدف الانفلات من قيود اللحم والدم، والتغلُّب على الحيرة وما في الحيرة من وجع، وعلى الموت وما في الموت من ألم، والتسلُّط على طلاسم الوجود، ثم الانطلاق في حياة لا حدود لها ولا قيود فيها، يرفُّ عليها سلامُ المعرفة، ويتألَّق في جوِّها بهاءُ الألوهة، ويندمج في قبضتها النقيضُ بالنقيض، ويتلاشى في فضائها الزمان والمكان.

وهذا الهدف قد نفذ إليه الشرق ببصيرته البالغة منتهَى النقاوة والصفاء في بصائر أنبيائه. فهو حقيقة لا مجاز. وهو رؤية لا رؤيا. وهو واحة حية لا سراب خدَّاع.

أما أن الشرق بمجموعه ما بلغ ذلك الهدف بعدُ فأمرٌ لا نزاع فيه على الإطلاق. والقائل بعكس ذلك كالقائل بأن كلَّ رجل في الشرق نبيٌّ وكل امرأة نبية، أو كالقائل بأن كلَّ رجل في الغرب عالِم أو مخترع وكل امرأة عالِمة أو مخترعة. وفي ذاك ما فيه من السذاجة والبلاهة.

ليس يعيب منارةً ألا يستنير بنورها الحارسُ الساكن في كنفها، مثلما لا يعيب قمة نابتة في بقعة من الأرض ألا يتسلقها أبناءُ تلك الأرض. فهدف الشرق هو هو – حقيقة وضَّاءة ثابتة أبدية – سواء أفي هذه الحقبة من حياته أدركه الشرقُ أم بعد حقب طويلة.

بل يكفي الشرق فخرًا – إذا كان من مجال للمفاخرة – أنه في فترة من حياته التهب حماسةً لذلك الهدف، واتَّقد إيمانًا به، وتفانى في سبيل الوصول إليه. ولكنه أدرك العياء قبل الوصول؛ فانكفأ على ذاته، وراح يوصل ما تقطَّع من نياط قلبه، ويرمِّم ما انهار من عزمه، ويبحث في الثرى عن الثريا، فيفوتُه الثرى ولا يظفر بالثريا.

ذلك لأن الطريق المؤدي إلى ذلك الهدف طريق ليس يكفي السالكين فيه أن يؤمنوا بالهدف وأن يتبرَّكوا بأسماء واضعيه، وأن يتصدَّقوا على متسوِّل، ويُطعموا جائعًا، أو أن ينقطعوا أيامًا عن الطعام، أو أن يؤدوا فروضًا معلومة في المعابد.

إنه لطريق ما عبَّدتْه كثرةُ الأرجل بعد. والرعيل الأول من الإنسانية الذي قطعه إنما قطعه مشيًا على القلوب لا على الأقدام، وعلى ضوء غير ضوء الشمس والقمر. وسواد الناس، شرقًا وغربًا، لا يزالون أطفالاً لا يحسنون المشي على أقدامهم حتى الآن؛ فكيف بهم يمشون على قلوبهم؟ وهم يتعثرون في النهار؛ فكيف بهم يسيرون في ظلمة دامسة؟

ما هو بالشنار على الشرق ألا يدرك الهدف بوثبة أو بوثبتين، أو في خلال قرن أو قرنين. فما هو بالهدف الذي يُدرَك بألف وثبة وفي ألف جيل. وإنما الشنار أن يقعد الشرق بمجموعه، من بعد أن وثب ولم يصل، قعدة اليائس البائس، قعدة المنهوك والمقهور، قعدة الخاسر الحائر؛ ثمَّ أن يشيح بوجهه عن هدفه قائلاً إنه خيال وإن الوصول إليه ضرب من المحال، وأن يدير وجهه شطر الغرب باحثًا هناك عن هدف وعن طريق.

أقول لكم: لا هدف للإنسان أبدع وأسمى وأقوى على الزمان من الذي نَصَبَه الشرق وراح يدعو إليه الناس أجمعين. وهو، إذا ما تحجَّب عن البصر المقنَّع بألف قناع، فلأنه ابن البصيرة النيِّرة الصافية؛ وهو، إذا ما عزَّ منالُه، فلأن الكمال عزيز المنال. وهو حقيقة مثلما الوجود حقيقة؛ بل هو الحقيقة قبل كلِّ حقيقة وبعد كلِّ حقيقة.

ثمَّ أقول لكم إن الغرب لعاجز عن خلق مثل ذلك الهدف، بل عن خلق أيِّ هدف للإنسان يقوى على الزمان وتقلُّباته. ذاك لأن الغرب سائر على ضوء بصره؛ والبصر لا يثبت على حال، لأن الأشياء التي يتناولها لا تثبت على حال. ولكن للغرب رسالته مثلما للشرق رسالته.

إنْ تكن رسالة الشرق البصير خَلْقَ الأهداف فرسالة الغرب المبصر هي تعبيد الطريق إليها.

تقولون: وكيف للغرب الذي لا يبصر هدف الشرق ولا يؤمن به أن يعبِّد الطريق إليه؟ وجوابي هو أنه فاعل ذلك في كلِّ ما يفعل، ولكن من حيث لا يدري ولا يقصد. وههنا الأحجية.

لقد حصر الغرب همَّه في درس هذا العالم المحسوس والسُّنن التي يتمشَّى عليها، ثمَّ راح يطبِّق ما اكتشفه من تلك السنن على حياته اليومية. فكانت علومُه وكانت فنونُه؛ وكان منها ذلك السيل من المخترعات والمكتشفات الذي لا يزال في أوْجِه، والذي، إذا ما بلغ يومًا حدَّه، فسيعود حتمًا بالإنسان من المحسوس إلى غير المحسوس – أي من البصر إلى البصيرة، من المحدود إلى غير المحدود، من البدايات إلى اللابداية، ومن النهايات إلى اللانهاية. وذاك هدف الشرق بعينه.

أما ترون إلى العلم، الذي هو دعامة المدنية الغربية والذي يدَّعي ويجاهر أن لا شغل له إلا بالمحسوسات، كيف أنه يبتدئ بغير المحسوس لينتقل منه إلى المحسوس؟

فالنقطة، التي هي لاشيء، تصبح مقياسًا لسائر الأبعاد وأساسًا للهندسة العملية. والواحد، الذي ليس سوى خيال بحت، يصبح الأول والآخر في جميع المعادلات الرياضية؛ والمعادلات الرياضية التي تقوم عليها فصيلة العلوم الطبيعية تنقلب ناطحات سحاب وجسورًا وبواخر وطائرات ومولدات للكهرباء؛ والكهرباء التي ما كنَّا نلمحُها إلا كبرق في الفضاء تُسيَّل نورًا وطاقة في أسلاك من النحاس، أو تُسيَّر أمواجًا في الأثير تنقل أصوات الناس إلى الناس وأخبار الناس إلى الناس، من أقاصي المشارق حتى أقاصي المغارب.

فلا نكران، إذن، أن للعلم الحديث، كما رتَّبه ونسَّقه وروَّجهُ الغرب، فضلاً عميقًا على الشرق والغرب معًا. فهو، من حيث لا يقصد، دائب في نقل ما لا يُحَسُّ إلى حيِّز المحسوس، أو ما كان ضمن دائرة البصيرة إلى دائرة البصر. ولأن معظم الناس – خاصَّتهم وعامَّتهم – لا يؤمنون بالكهرباء إلا أن يبصروها نورًا في بيوتهم، ولا بالشيء إلا أن يلبسوه ثوبًا على أجسادهم أو يمضغوه تفاحة بأضراسهم، لذلك كان للعلم الحديث هذا الأثر البالغ في عقولهم وحياتهم وكانت للغرب هذه المنزلة في ضمير الشرق.

ثمَّ لا نكران أن الغرب قد سهَّل على الإنسان أمر المعيشة بفضل ما استنبط من حيل ميكانيكية، وما توصَّل إليه من خيرات كانت دفينة في الماء والتراب. وإذا ما أعوزتْه اليوم الحكمةُ لخلق نُظُمٍ لا تحرم البعض وتبلو البعض بالتخم فالحاجة التي لا ترحم ستعلِّمه في الغد ما ليس يعلمه اليوم، وستساعده على خلق عالم لا يُنفُق جلَّ حياته في السعي وراء ما يُلهي بطنَه ويستر عريه ويحمي جسده من نقمة العناصر. ومتى انعتق الناس من كابوس القوت والكساء والمأوى أصبح في إمكانهم الانصراف إلى تسكيت جوع غير جوع البطن، وتستير عُرْيٍ غير عري الجسد، والتفتيش عن مأوى يحميهم من نقمة أنفسهم التي لن ترضى بمأوى غير حضن الله.

وثمة مِنَّة ثالثة للغرب لا بدَّ من ذكرها، وهي أن هذا السيَّار، الذي يعلم الله كم دار بنا وكم سيدور في فيافي الفضاء، كان، إلى عهد قريب، عالَمًا مترامي الأطراف، كثير المجاهل، وعر المسالك، عديد الألسن، وفير الصبغات، متضارب النزعات. أما اليوم فقد أصبح، بفضل الغرب ومخترعاته، كرة تكاد تحتويها قبضة الطفل. فالطيارة قد مَحَت الأبعاد والمجاهل والحدود والحواجز.

وهذه الآلة العجيبة التي أخاطبكم بواسطتها الآن قد وصلتْ كلَّ لسان، أينما كان، بكلِّ أذن، أينما كانت. وعلاوة على ذلك فالمدنية الغربية قد أحدثت حاجات كثيرة وخلقت أزياء كثيرة يشترك فيها ابن الشمال مع ابن الجنوب، وابن الغرب مع ابن الشرق؛ حتى إن سائحًا ليكاد يسيح اليوم حول الأرض في أقل من أسبوع من غير أن يحتاج إلى دليل أو ترجمان. وقد كان لا ينتقل من قرية إلى قرية، حتى في القطر الواحد، إلا بمضِّ الفكر والقلب والعصب.

هكذا نرى الغرب، بعلومه وفنونه، ومخترعاته ومكتشفاته، وحتى بحروبه، يصل الأرض بعضها ببعض؛ ومن حيث لا يدري، يمهِّد السبيل لضمِّ الإنسانية المبعثرةِ الشمل أسرةً واحدة يجمعها بيتٌ واحد وتقودها إرادةٌ واحدة إلى غاية واحدة. وذاك ما نادى به الشرق من زمان. أما قال: "أحببْ قريبك كنفسك؟" أما قال: "عامِلْهُ بمثل ما تريد منه أن يعاملك؟" أما قال: "إن الناس كلَّهم عيال الله؟"

وعندما تبلغ علومُ الغرب المادية أقصى مداها، عندما تفلق الذرة أو ترتدُّ عاجزة عن فَلْقِها، ستراها وجهًا لوجه مع ما يجعل المادةَ مادةً وليس بمادة – مع القدرة التي أسماها الشرقُ الله ورفعها هدفًا للإنسان المخلوق على صورتها ومثالها. وبكلمة أخرى، سينتهي الغرب من المحسوس إلى غير المحسوس. وبذاك تنتهي مهمَّتُه في هذه الدورة من حياة الإنسانية، وتبتدئ من جديد مهمَّةُ الشرق.

ومهمة الشرق إذ ذاك، وقد مهَّد الغربُ له الطريقَ إلى الهدف، هي جَلْوُ ذلك الهدف كيما يظهر في كلِّ بهائه، نقيًّا من السفاسف والترَّهات التي حَجَبَ الجهلُ بها سناءَ وجهه باسم الله والدين، وما هي من الدين والله لا بخمرٍ ولا بخلٍّ؛ ثم لمُّ شعث الإنسانية التائهة ما بين بصرها وبصيرتها، وبثُّ النشاط في مفاصلها المفككة، وبعثُ الإيمان الدفين في قلبها بجمال ذلك الهدف وحكمته وعدله؛ ثمَّ السير بهذه الإنسانية المتجددة نحو هدفها بخطى لا تردُّد فيها، وعزم لا التواء فيه، وإرادة تعرف ما تريد، ولا تريد غير ما تعرف، فلا يقهرها شك، ولا يثنيها عياء.

غربٌ حاكم وشرقٌ محكوم
من الأوهام المسيطرة على عقول الناس – وما أكثرها! – وَهْمُهم أن في مستطاع إنسان أن يحكم إنسانًا من غير أن يكون محكومًا منه. والواقع أنه ما قامت علاقةٌ بين مخلوق ومخلوق إلا كان فيها شركةٌ للاثنين، وكانت حصةُ الواحد معادلةً لحصة الآخر.

فأنتم ما اغتذيتم بلحم الأرض ودمها إلا غذَّيتموها بلحومكم ودمائكم. ولا استخدمتم بهيمة إلا كنتم خُدَّامها. ولا ملكتم شيئًا إلا مَلَكَكُم. ولا حكمتم إنسانًا إلا حَكَمَكُم.

هل عرفتم ربَّ أسرة ما تحكَّمَ فيه كلُّ فرد من أفراد عائلته، حتى الذي ما برح مقمَّطًا في المهد؟ أو هل سمعتم بقائد قاد جيشًا وما قاده جيشُه؟ أو هل قرأتم من كتاب إلا على قدر ما قرأ ذلك الكتاب منكم؟

لا يستطيع حاكمٌ أكثر مما في استطاعة محكومه؛ فقدرة المحكوم هي قدرة الحاكم. وإذ ذاك فما معنى هذه الهالة من الجلال والعظمة والسؤدد والسعادة التي تنسجها أوهامُ الناس حول هامات حكامهم، ولا تجد غير الذلِّ والحقارة والصغارة والطاعة العمياء ونكران الكرامة تنسج منها أقنعةً لأبصار محكوميهم؟

إن يكن في الحكم جلالٌ فهو جلال المحكوم قبل أن يكون جلال الحاكم، أو تكن فيه صغارة فهي صغارة الحاكم والمحكوم بالسواء.

وما علاقة الحاكم بالمحكوم سوى علاقة طارئة تفرضها أحوالٌ طارئة من عالَم خفيٍّ ما توصَّل الإنسانُ بعدُ إلى الوقوف على أسراره والسيطرة على منابعها ومجاريها. فحاكم الأمس يصبح محكوم اليوم، ومحكوم اليوم يغدو حاكم الغد؛ لا كسبًا لشرف، أو امتهانًا لكرامة، بل امتثالاً لمشيئة البشرية الخفية في سيرها نحو المثل الأعلى، وتحقيقًا لرغباتٍ في نفسها لا تزال أبعد من متناول مداركها وأعمق من نفوذ وعيها.

والسرُّ في عدم ثبات الحكم البشري وسرعة تنقُّله من يد إلى يد، ومن فئة إلى فئة، ومن شعب إلى شعب، إنما هو في النفس البشرية، وما في زواياها الغريبة من خبايا عجيبة.

إنه لمن الصعب أن تسوق قطيعًا من الغنم بعصًا واحدة. فلا بدَّ ولو من كبش واحد يتمرد على عصا الراعي وصوته. فكيف بقطيع من البشر تسوقه بعصًا واحدة – وإلى الأبد؟

أما كان فرعون سيِّد مصر المطلق يوم جاءتْه ابنتُه بلقيط حظيتْ به على ضفة النيل فربَّاه في قصره؟ وذلك اللقيط جرَّ فرعون ومركباته فيما بعد إلى مدفن من الأوحال في قعر البحر الأحمر؟ فأيُّ الاثنين كان حاكم الآخر؟ أفرعون كان حاكم موسى، أم موسى كان حاكم فرعون؟ ومن أين كان لفرعون أن يعرف القوى المدفونة في نفس موسى والغاية التي نَدَبَتْهُ لها المشيئةُ الكلِّية؟

أما كانت رومة الحاكمة المطلقة في الجليل واليهودية يوم ولد ابن مريم ويوم راح يبشر بملكوت الله! وها هي ذي بشارة ابن مريم لا تزال ماشية من فمٍ إلى فم، ومن قلب إلى قلب. فأين رومة وجحافل رومة؟ أكانت رومة حاكمة الجليل أم كان الجليل حاكم رومة؟ ومن أين كان لرومة أن تتكهَّن بما ستنفتح عنه شفتا الطفل المولود في مِذْوَدٍ للبهائم في بيت لحم؟

أما كانت قريش سيدةً لا يناهضُها مناهضٌ في مكَّة يوم قام يتيمٌ لا سلطان في يده يدعو الناس إلى الإله الأوحد؟ وأين اليوم سلطان الذين اضطهدوه وقاتلوه من سلطانه؟ أكانوا هم حكامه أم كان هو حاكمهم؟ ولو دَرَتْ قريش يومذاك بما انطوى عليه قلب ذاك اليتيم من قوى وأسرار لخرَّتْ أمامه صاغرةً بدلاً من أن تتصدَّى له بسوء.

والآن ماذا عساكم تقولون فيمن يقول لكم إن مشكلة الحكم ما بين الشرق والغرب ليست بالمشكلة التي تتوهمون. فالغرب لا يحكم اليوم الشرقَ أكثر مما يحكم الشرقُ الغربَ. لكنما المؤسف والموجع في هذا الحكم ألا يكون فيه ما يشرِّف أو يمجِّد الاثنين. فهو لا يقوم على مودَّة وأخوَّة ومحبة حَرِيَّة بأن تربط التوأمين، بل على منافع موهومة تذروها الأيام والليالي، فإذا بها حسكٌ ولا حَب، وإذا بها ألعوبة للرياح.

ومن ثَمَّ فأيُّ حكم دام، وأيُّ حاكم تمكَّن يومًا من سبر أعماق محكوميه والوصول إلى كلِّ ما في أغوارها من قوى هاجعة تتململ للوثوب؟ وإن هو لم يتمكَّن من ذلك فبماذا وكيف يصون حكمه؟ ومن يدري بماذا حَبِلَ هذا الشرق في غضون هجعته الطويلة، وبماذا يتمخَّض اليوم؟

إنه لا شك يتمخَّض بأمور أعجب وأعظم بكثير من التي يحلم بها أبناؤه ويحسبونها من خطر الشأن في أعلى مكان. فهم يحلمون – في جملة ما يحلمون – بعنقاء يدعونها الاستقلال، ويتوهمون أنهم، إذا ما ظفروا بها يومًا، ظفروا بالغبطة التي ما بعدها غبطة.

ألا ليت الاستقلال كان ما يتوهمون! ألا ليتهُ ما كان أكثر من استبدال حكم بحكم، ووجه بوجه، ولسان بلسان.

ألا ليته كان يُنال – كما يزعمون – ببذل الفلس والدم؛ إذن لما كان أغلاه نعمةً يبتاعها الناس بمثل ذلك الثمن الزهيد.

لكن الاستقلال غير ما يزعمون. فما استقلَّ إنسانٌ وفي قلبه من الضغائن بثورٌ ودماملُ، وفي فكره من المخاوف ديجورٌ فوق ديجور؛ ولا استقلَّ من كان الفلسُ في جيبه سيِّدَه وأميرَه؛ ولا من كان مقودُه في يدٍ غير يده.

وأيُّ أبناء هذا الزمان، أيُّ شعوبه، أيُّ أمصاره، يستطيع القول بأن مقوده في يده؟ ألعلَّ لا حاكم للإنسان إلا الإنسان؟ إذن أين أنتم من الموت؟ أو من الطبيعة التي، إذا ما فتحتْ كفَّها فوق حاجاتكم، أغرقتْكم، أو أمسكتْها دون حاجاتكم، خنقتْكم؟ بل أين أنتم من الذبابة والبعوضة والجراثيم التي لا تبصرونها، تقضُّ عليكم مضاجعكم وتعتِّم حتى النور في أبصاركم؟

إن تكن تلك حالُكم مع أنفسكم ومع غير الناس فكيف بحالكم مع الناس؟ من منكم ليس محكومًا من نسيب أو حبيب، أو صديق أو عدوٍّ، قبل أن يكون محكومًا من رئيس دولة وقاضٍ وشرطيٍّ؟

ما من مناصٍ للإنسان من الإنسان وحكم الإنسان. وكذلك الشعوب – ما تجانس منها وما تخالف، وما تصادق منها وما تعادى – لا مناص لأيٍّ منها من أن يكون حاكمًا ومحكومًا في آن واحد. ومن خُيِّل إليه العكس، ومن توهَّم أن في مستطاع قبيلةٍ أن تسود إلى الأبد من غير أن تكون مَسُودةً، كان في حاجة لا إلى الاستقلال، بل إلى طبيب عقول وطبيب أبصار – لأنه ما فَقِهَ من عِبَرِ التاريخ أبسطَها وأقربَها إلى العقل والبصر: وهي أن دولاب الزمان ما ينفكُّ يدور، وأن البشرية العالقة به لا بدَّ من أن يعلو بعضُها هنا وينخفض هناك؛ ثم لا يلبث المنخفضُ أن يعلو والعالي أن ينخفض. فصَبْغُكم الدولابَ بالدم البشري لن يسرِّع في دورانه لحظة ولن يبطئ لحظة.

وبعد ذلك فالدم البشري دمٌ زكيٌّ طاهر؛ فهو الإناء الحامل جرثومة الحياة المباركة والفهم المقدس. ومن الحرام أن يُهراق إلا في سبيل الحياة والفهم؛ بل من الإثم أن يُهدَر بغير حساب، على حدِّ ما يُهدَر اليوم ترضيةً لأهواء يثيرُها الجهلُ ويسوقُها الموتُ. ولا بدَّ لهذه الإنسانية المفصودة بمفاصد البغض والجشع من صوت يهيب بها إلى حقن دمائها الزكية والاحتفاظ بما تبقَّى منها لغايات أنبل وأسمى من استبدال حكام بحكام، وتخوم بتخوم، وأوبئة بأوبئة.

إن هذا الصوت سيخرج من الشرق – من هذا الشرق الذاهل اليوم عن نفسه وما في أعاليها من قمم باسقة وفي أعماقها من أبعاد، وعن رسالته العلوية وما في رسالته من بلسم لجراح الإنسانية الدامية ومن نور لأبصارها القَرِحَة وبصيرتها الكفيفة.

إي، ثمَّ إي، من هذا الشرق ستندفع أمواجُ ذلك الصوت إلى أن تغمر الأرض؛ من هذا الشرق المنكوب بأبنائه أشدَّ من نكبته بغير أبنائه. فهم يتطلَّبون له أمجادًا غير مجده؛ والأمجاد التي يتطلَّبونها هي التي جعلتْ من الأرض مسلخًا، ومن الإنسان قصَّابًا لأخيه الإنسان، ومن حياة الناس مجزرة هائلة ومقبرة شاسعة. هي دفعات من السموم التي أفسدتْ على الناس دماءهم ولحومهم، ونخرتْ عظامهم، فصرفتْهم عن نفوسهم وعن ربِّهم.

أما مجد الشرق الحقيقي فسيكون في أنه لن يطلب مجدًا على الإطلاق، بل يقول، مع الناصري: "من أراد منكم أن يكون سيدًا فليكنْ للكلِّ خادمًا." أجل. سيكون الشرق خادم العالم؛ وسيخدم الإنسان، أينما كان، لا بتحريره من حكم جاره، بل بتحريره من حكم نفسه. فما ساد مَن كان عبدًا لنفسه – وإن حكم الشرق والغرب؛ ولا ذلَّ من ساد نفسه – وإن كان محكومًا من الناس أجمعين.

ولو قال لي قائل إن الشرق سيفعل غير ذلك، أو أقلَّ من ذلك، وإنه لن يتمخَّض من بعد هجعته الطويلة بأكثر من حكومات جديدة وتخوم جديدة، لأنكرتُ هذا الشرق ولصرختُ من أعماق قلبي: "ألا ليته ما حَبِلَ ولا تمخَّض!"

غير أني واثق بأن المولود العتيد أن يأتي به الشرق سيكون أعظم من كلِّ ذلك بما لا يُقاس. فالشرق أخصب فكرًا، وأسمى خيالاً، وأسمح قلبًا، من أخلص المخلصين من زعمائه – فكيف بغير المخلصين؟ والشرق أصلب عودًا، وأبعد جذورًا في تربة الوجود، من أن تلويه سياسةٌ أو يقتلعه إعصار.

وإن تسألوني عن ثقتي بهذا الشرق من أين منبعها أجبكم: من الحكمة التي فاضت على لسانه من زمان، والتي يبلى الزمان وجِدَّتُها لا تبلى، وتبور كلُّ سلطة وسلطتُها لا تبور. وهذه الحكمة لن يجلوَها من جديد إلا الشرق، ولن يُحسِنَ الحكمَ بها إلا الذي خلقها من نفسه، ثم حكَّمها في نفسه. فلها ستكون السيادة في العالم المزمع أن يولد، وعلى حَدْوِها ستمشي قوافلُه جيلاً بعد جيل.

غربٌ يغرب وشرقٌ يشرق
كانت الحرب الماضية خاتمة لعهد وفاتحة لعهد من حياة البشرية على سطح هذي الأرض. فبدخولها دخل الغربُ دور التصفية، فأخذتْ أمواجُه في الانكفاء، ودخل الشرق دور التعبئة، فأخذتْ أمواجُه في الامتداد.

وما الحرب التي ننوء بكابوسها اليوم غير مرحلة من مراحل هاتيك التصفية وتلك التعبئة. ومَن ظنَّها الأخيرة كان على ضلال مبين. فحياة البشرية، ما كرَّ منها وما برح ملفوفًا على بكرة الزمان، أطول من أن تُقاسَ بحركات عقرب في ساعة؛ وأدوارها لا تتعاقب بسرعة الليل والنهار. فالفجر الذي يفصل دورًا عن دور قد يطوي من الأجيال أكثر من واحد أو اثنين.

وها نحن في طليعة فجر يُنذِر بانتهاء دور ويبشر بابتداء آخر. أمَّا كَمْ يطول هذا الفجر، ومتى ينجلي عن صباح جديد ونهار جديد – أفي هذا الجيل أم في الآتي؟ – فجوابُ ذلك ليس عندي، بل عند مَن "ألْفُ سنة في عينيه كيوم أمس العابر، وكهجعة من الليل".

وسواء أطال ذلك الفجر أم قَصُرَ فالأمر الذي لا شكَّ فيه هو أن ما تشهدونه اليوم من غليان في العالم وفوران، وما تسمعونه من فحيح وجلبة، ليس سوى حشرجة مدنية تُحتضَر، ووَعْوَعَة مدنية تقتبلُها الأقدارُ من رحم الأيام التي ما تنفك حُبلى وما تنفك تولِّد.

إنَّ ما وقع للشرق في سالف الزمان لشبيهٌ كلَّ الشبه بما هو واقع للغرب في هذا الزمان. فمثلما امتدت مدنية الشرق – وأساسُها الدين – إلى أن غمرت المعمورةَ بأسرها، كذلك امتدتْ مدنيةُ الغرب – وأساسُها العلم – إلى أن طَغَتْ على كلِّ أمة وبقعة من أمم الأرض وبقاعها. وحالُ دين الأنبياء والأصفياء، من بعد أن انحدر إلى الدهماء والغوغاء، وقد احتجبتْ أنوارُه في دياميس من الخرافات والترَّهات، وتكسَّرت أمواجُه على سدود من التعصُّب الكافر، مثل حال عِلْم العلماء، وقد تناولتْه ألسنُ الجهلاء وأيدي المستثمرين والنفعيين، فأصبح منجنيقًا لهدم كلِّ عِلم عداه، ومهمازًا لكل هوًى طائش وشهوةٍ جموح، وبوقًا للتبجُّح في فم كلِّ زعنفة ما أهَّلتْه الحقيقةُ أن يرى وجهها سافرًا.

إن في الكون الذي نحن بعضٌ منه أسرارًا لا يزال العقلُ بعيدًا جدًّا عن الوصول إلى كنهها – وفي جملة تلك الأسرار سرُّ التوازن؛ ولعلَّه من الكون بمثابة حجر الزاوية من البناء. فالمسكونة، بكلِّ ما فيها – ما ظَهَرَ منها وما استتر – في توازن أبديٍّ. وحيثما طرأ أقلُّ اختلال في توازن أقلِّ عضو من أعضائها أصلحتْه في الحال. أما الوسائل التي تلجأ إليها لتقويم الخلل في توازنها فأكثر من أن يحصيها عدٌّ، وأبعد حكمة من أن يدركها عقلٌ.

ما زلزلت الأرضُ زلزالها، ولا كان كسوفٌ أو خسوف، ولا تطايرت الشهبُ في الفضاء، ولا هبَّت عاصفةٌ، أو انهمر سيلٌ، ولا كان بحرٌ بمدِّه وجزره، ولا يابسة بجبالها وأوديتها، إلا لحفظ التوازن الكوني من خلل طارئ. كذلك هي الحال في عالم الإنسان. فلولا خلل يطرأ على توازن كلٍّ منَّا بمفرده لَما عرفنا المرضَ ولا الوجع ولا الموت ولا المصائب بأنواعها.

ولولا خلل يطرأ على توازن الأمة لما عرفت القلاقلَ والثورات والمجاعات والتعسف والظلم والانحلال.

ولولا خلل يطرأ على توازن الإنسانية بأسرها لما كانت الحروب والأوبئة، والاضطهادات والتقلبات في أنواع الحكم ووجهة النظر.

ولكن حذارِ أن يتبادر إلى ذهن أحدٍ منكم أنني أبارك الموت والوجع والثورات والأوبئة والحروب لأنها بعضٌ من الأساليب التي تلجأ إليها الحكمة الأولية لحفظ التوازن في عالم الإنسان. أجل، إنها لدليل على وجود تلك الحكمة؛ ولكنها، في آنٍ، دليل على جهل الإنسان لسرِّ التوازن والحكمة التي أوجدتْه. فلا سبيل للإنسان، إذا ما شاء الانعتاق منها، إلا الانصراف بكلِّ قواه الجسدية والروحية إلى تفهُّم ذلك السر والوقوف على تلك المشيئة التي جعلتْ منه حجرَ الزاوية في بنيان الكون وبنيان حياة الإنسان.

أما قصدي من الكلام عن هذه الأمور فليس أكثر من أن أمهِّد تمهيدًا سريعًا للفكرة التي هي نواة حديثي، والتي تدور حول اختلال التوازن ما بين الشرق والغرب، وهما توأما البشرية، بل ساعداها، بل الكفَّتان في ميزانها. وهذا الاختلال في التوازن قد بدأ يقلب مدَّ الغرب إلى جزر، وجزرَ الشرق إلى مدٍّ؛ وطلائع هذا الانقلاب ليست بخافية عن كلِّ ذي بصيرة.

( يتبع )



.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:36 PM
المشاركة 6
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


التوأمان : الشرق و الغرب ( البيادر )

( تتمة ما سبق )





لمَّا حَمَلَ الشرق مشعل الدين إلى العالم حَصَرَ جُلَّ همِّه في قلب الإنسان وما انطوى عليه من الأشواق المُحرِقة لمعرفة مَن هو، ومن أين، وإلى أين، ولماذا. أما عقله فقلَّما أعاره اهتمامًا. والعقل هو الدرجة الأولى في سُلَّم المعرفة. فكأن الشرق حاول أن يبلغ بالإنسان أعلى درجة من سُلَّم المعرفة من غير أن يطأ الأولى.

لئن كان ذلك في مستطاع الأنبياء والرسل والأولياء فما هو في مستطاع الذين لا يبصرون من العالم ما كان أبعد من أنوفهم، والذين لا يؤمنون إلا بما يُبصرون، وهم سواد الناس.

لذلك نام العقل، ولكن على مضض. فما إن دار الزمان دورته، وفترت الحماسة الدينية، حتى أحسَّتْ البشرية خللاً في التوازن بين قلبها وعقلها. فتنبَّه العقلُ وراح يطالب بقسطه من حياة الإنسان. وحمل الغرب راية العقل، وأجلسه على عرش من الوقار، وانبرى يناضل باسمه. ومن هذا النضال انبثقتْ المدنيةُ التي عشنا – وما نزال عائشين – في كنفها طوال هذه الأجيال.

غير أن هذه المدنية، لشدة مغالاتها في الأمانة للعقل واندفاعها في خدمته، قد أهملت القلب البشري وحنينَه الأبديَّ إلى ما وراء المعقول والمحسوس. فهي قد صرفتْه، أو حاولتْ صرفه، عن الدين، ولكن من غير أن تعطيه جوابًا أفضل من جواب الدين على أسئلته الملحَّة: من أنا؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فما إن بلغت أقصى مداها حتى عادت البشرية فأحسَّتْ من جديد خللاً فظيعًا في التوازن بين عقلها وقلبها. وعادت الحكمة التي لا تُحَدُّ تُصلِح ذلك الخلل بشتى الوسائل، من ظاهرة وخفية – ومنها هذه الحرب التي يكاد الناس يغرقون في غمارها ويختنقون بدخانها.

وكأني، كلَّما أنصتُّ في هذه الأيام إلى قلب الإنسانية الدامي، سمعتُه يخاطب عقلها فيقول:

"ألا بوركتَ يا أخاه. فلقد جئتَ حقًّا بالمعجزات. لقد خرقتَ حرمة الأعالي. وفضضتَ بكارة الأعماق. وحشرتَ أجرام السماء في عدسية مرقبك. وفضحتَ أسرار الجراثيم بعين مُجهِرك. واتخذتَ من البرق رسولاً لأفكارك. وجعلتَه قنديلاً في دارك.

"ولقد أرحتَ الثورَ من نيره، والجوادَ من مركبته، والحرَّاث من محراثه، والحطَّاب من فأسه، والحدَّاد من كوره ومطرقته وسندانه.

"ولقد دخلتَ بسحرك جوف الأرض فقرأتَ تاريخها في ما سطَّرتْه الدهورُ على صخورها وطبقاتها. ثم أكرهتَها على التخلِّي عن الكثير من دفائن كنوزها.

"ولقد خلَقْتَ المطبعة، واتخذتَ من دواليبها رُسُلاً تذيع سحرك في الناس وتجعله حلالاً لكلِّ راغب وطالب، دون ما تمييز بين خاصَّة وعامة.

"ولقد بنيتَ للناس معاهدَ يستظهرون فيها علومَك، وينعمون بفنونك، ويتذوَّقون سحرك، ويحرقون لك البخور، ويسبحونك ويمجِّدونك.

"ولقد شيَّدتَ للناس بيوتًا يداوون فيها أوجاع أبدانهم وعقولهم. فإنْ نجع الدواء كان الفضل لك. وإنْ لم ينجع كان اللوم على الأبدان والأقدار، لا عليك.

"أجل. لقد فعلتَ كلَّ ذلك من أجل الناس، وفعلتَ أكثر من ذلك يا أخاه. ولكنك بعتَ نفسَك والناس من مخلوق عجيب، خلقتَه ليكون خادمك وخادمهم، فإذا به يصبح سيِّدك وسيدهم من غير مُنازع. فوا عجبًا لمخلوق فاق خالقه، ولعبد ساد سيده! أما اسم ذلك المخلوق فالدرهم.

"فبالدرهم تُباع رحمتُك للموجوع – ويا ليتها كانت رحمة؛ ومعرفتُك للجاهل – ويا ليتها كانت معرفة؛ وخبزُك للجائع، وعطفُك لليتيم، وقِراك لابن السبيل، ودفؤك للمقرور، وثوبُك للعريان، وحريتُك للرقيق، وعدلُك للمظلوم، وسَلْواك للمفجوع. ودرهمُك لا يُنال إلا ببذل ماء الوجه، وسفح دم القلب، وإنفاق الدماغ، وإرهاق العضل، وتخدير الضمير، وحرق فتيلة العمر، بلا شفقة ولا حساب.

"وهكذا أصبحتَ يا أخي ألعوبة في يد مخلوقك العجيب. وأصبح مَن والاه مخلوقُك سيِّدَ الناس، وإن يكن أشدَّهم فتكًا بالناس؛ وأصبح مَن جافاه مخلوقُك عبدًا للناس، وإن يكن أشدَّهم غيرة على خير الناس وأعرفهم بالسبل المؤدية إلى سعادتهم. ورحتَ تأتمر بأمر الدرهم. فإن قال لك: اخترع لي ما أُلهي به الجائع عن جوعه، والعبد عن حرِّيته، وما أسلِّي به أخا الضجر والبطر، وما أخدع به طالب الجمال والكمال – اخترعتَ له في الحال من الملاهي ما يلهي حتى الحمار عن علفه، ومن الملذات ما يخدِّر الوجدان؛ وخلقتَ لطالب الجمال والكمال تمائم دَعَوْتَها الفنون، ولطالب المعرفة تعاويذ أسميتَها سُنَّة النشوء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ وخلقتَ لناشد الحرية والاستقلال تعاويذ سواها دعوتَها الوطنية، والقومية، والجنسيَّة، وشرف المحتد واللسان، وعلَّقتَها كلَّها بحواشي خرقة ذات ألوان، وقلت للناس: ها هو رمز حريتكم واستقلالكم؛ فافدوه بدمائكم – فآمن الناسُ بما قلتَ وبما فعلتَ، وراحوا بدمائهم يَشرَقون.

"وأما أنا – أنا القلب الذي ما انفكَّ ينبض منذ كان الزمان وكان الإنسان – فأسألك: مَن أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فلا تسمع ولا تجيب. وأشكو إليك أوجاعًا تتأكَّلني، من غضب وبغض وحقد وحسد وطمع وفجور وقلق وذعر وشكٍّ وحيرة، فلا تتعطَّف عليَّ بدواء سوى التمليق والتخدير.

"وأُسِرُّ إليك أشواقًا تساورُني في هدأة الليل وضوضاء النهار إلى حياة لا محاباة في عدلها، ولا مواربة في صداقتها، ولا مخاتلة في إخائها، ولا شناعة في جمالها، ولا باطل في حقِّها، ولا خوف في قلبها، ولا موت في مفاصلها؛ إلى كيان لا يبتدئ هنا وينتهي هناك، بل تضيع في جوانبه البداياتُ والنهايات، وتغور في أعماقه الفواصلُ والمتناقضات، وتتلاقى في فضائه سائرُ الكائنات. فلا نزاع ولا صراع، بل فَهمٌ يترفَّع عن النزال، ومحبة لا تتدنَّس بالقتال.

"أُسِرُّ إليك أشواقي، فتسخر بها وتدعوها أضغاث أحلام – وأنا أعْرَف منك بها وبمصادرها. وإنِّي لعلى يقين من أنني ما اشتقت شيئًا إلا كان له في كياني كيان. فلو أنه كان عدمًا لاستحال عليَّ أن أشعر به وأن أشتاقه. ففي جوعي الدليل على وجود الغذاء، وفي عطشي الدليل على وجود الريِّ. ولكن مسالكي قد استعصتْ على علمك وسحرك. فما نالني من طعامك غير الجوع، ومن ريِّك غير العطش، ومن نارك إلا البرد، ومن نورك إلا الظلمة.

"لقد تسلَّمْتَ يا أخي قيادة الناس زمانًا ليس باليسير، فأحسنتَ وأسأتَ؛ لكنك أسأتَ أكثر مما أحسنتَ. وها هي ذي البشرية لا تنهض من حفرة إلا لتقع في أخرى، ولا يلتئم لها جرح حتى ينفتح في جسمها ألفُ جرح. وإني لأسمعُها في خلواتها وصلواتها تستغيث بي. فتنحَّ وناولْني الأعِنَّة!"

بمثل هذا الكلام أسمع قلب الإنسان المفجوع بآماله يخاطب عقله المغرور بأوهامه. ولا عجب. فالتوازن بين الاثنين قد اختلَّ إلى درجة لا تطاق؛ فلا بدَّ من تعديله وتصحيحه.

وإني لأبصر أعنَّة البشرية التائهة ما بين سمعها وبصرها تنتقل من يد الغرب – وهو توأمها الماشي على ضوء البصر – إلى يد الشرق – وهو توأمها السائر على هدى البصيرة. وإني لأرى هذا الشرق يعبِّئ قواه منذ الآن للقيام بمهام القيادة الملقاة إليه.

والذي يعبِّئه الشرق لن يكون – بإذن الله – جيوشًا برية تحمل النقمة والثأر، ولا عمارات بحرية تزرع الويل والدمار، ولا أساطيل جوية تُمطِرُ الناس كبريتًا ونارًا؛ بل سيكون بلسمًا لجراح الإنسانية الدامية، ودعامة لِما تصدَّع من إيمانها بالعدل والأخوَّة، وطعامًا وريًّا لِما جاع وعطش فيها إلى السلام الذي لا ينام على الأسنَّة والشفار، والحرية التي تأبَى فوهة المدفع مسكنًا لها، والحقَّ الذي يُغيث ولا يستغيث.

وإذ ذاك فما على الشرق إلا أن يدير وجه البشرية شطر الهدف الذي أدارت له قذالها من زمان. فهدف الشرق ما برح وضَّاح الجبين والسُّلَّم الأوحد الواصل ما بين الأرض والسماء. والمنارات القائمة على جانبي الطريق المؤدي إليه ما تزال تشعُّ القوة والإيمان لكلِّ قلب جسور ينشد الحقَّ الأبدي، ولكلِّ روح مقدام يحنُّ إلى مواطنه الفردوسية، بما فيها من حياة لا تبلى، ونور لا يخبو، وحرية لا يطوِّقها زمان ولا يحصرها مكان.


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:37 PM
المشاركة 7
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


من كتاب / دروب

لو شئت أن أحدد النقد بثلاث كلمات لقلت : إنه عمل الحياة الدائم ، فهي ما زرعت السماء شموساً وأقماراً وكوكبات ومجرات ، ولا فجرت من أديم الأرض هذه الأشكال ما بين سائل وجماد ونبات وحيوان وإنسان ، ولونتها بسائر الألوان ، ولا ربطت كل ذلك بنظام شامل مانع لتقبع من بعدها في زاوية من المسكونة ، وتنظر إلى زرعها بعين ارضى ، ثم تقول معتزة بما صنعت :" إنه حسن جداً " .
فلو أنه كان أقصى ما تستطيع أن تتوخاه لما أمعنت فيه تبديلاً وتغييراً ، وتحريفاً وتحويراً .فما تفتت نجوم وتكورت نجوم ، ولا بركان ، وطغى بحر ، وزمجر إعصار ،وقرقر زلزال ،ولا كان إنطلاق بعد انغلاق ، وانغلاق بعد انطلاق ، أو نمو ينتهي إلى انحلال ، وانحلال ينتهي إلى نمو ، ولا كان " هذا الحيوان المستحث من جماد " الذي حار في نفسه على قدر ما حارت البرية فيه .
لو كان لنا أن نُجري على هذه الحركة الكونية التي لا تنقطع ولا رفة جفن مثل الأحكام التي نجريها على حركاتنا البشرية لقلنا إنها ناجمة عن قلق وشوق في آن معاً . فنجن لا نأتي حركة من الحركات - عفوية كانت أو عن سابق قصد وتصميم - إلا نتيجة لعدم اطمئناننا إلى وضع نحن فيه ، وإلا تشوقاً منا إلى وضع أفضل منه .
ما كان الإنسان في حاجة إلى التفكير والتمييز والخلق والتخيل والإرادة والإفصاح عن هذه جميعها لو لم يكن العالم الذ يسكنه عالماً إزدواج ثم تناقض كل ما فيه . فذكر وأنثى ، وبعيد وقريب ، وطويل وقصير وحار وبارد ، وثقيل وخفيف ، وأبيض وأسود ، وحلو ومر إلى آخر ما هنالك من متناقضات .
ولا كان القلق والشوق لولا الحاجة الدائمة إلى الاختيار ما بين هذا الشيء ونقيضه ، أو ذلك الفكر وعكسه ، أو هاتيك العاطفة وأختها التي على الطرف الآخر منها . فنحن مدعوون في كل لحظة من وجودنا إلى التافكير والتمييز والاختيار - أي إلى النقد .


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:39 PM
المشاركة 8
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


من كتاب / جبران خليل جبران

- " إنها لأحجية أن تأكل الموت في كل ما تأكل ، وتشربه في كل ما تشرب وتلبسه في كل ما تلبس، وأن تباركه ومن ثم تلعنه عندما يأكلك ويشربك ويلبسك"

- " لا تهربوا من الجاهل و اهربوا من الجهل، لأنكم عندما تهربون من الجاهل لا تهربون إلا من أنفسكم، أمّا هربكم من الجهل فهو اقترابٌ من المعرفة."

كنت أسمع جبران يقرأ وأقرأ جبران في ما أسمع. هو ذا جبران "المتقمص في جسد رجل يحب العزم والقوة" ينازل جبران الذي "مات ودفن في وادي الأحلام"، والذي، من حيث لا يدري دافنه، مزق أكفانه ودحرج الحجر عن باب قبره، وعاد إلى الحياة، وفي عينيه نور حقيقة جديدة، وفي قلبه جذوة إيمان قديم".


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:40 PM
المشاركة 9
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


من كتاب / البيادر

إن شاء الله
ما وقفت مرة على منبر إلا تمنيتها أن تكون الوقفة الأخيرة. لأنني في كل ما أقوله للناس، أحاول أن أفرغ وجدي في وجدانهم، و راحي في أرواحهم، فتصدني منهم طبلة الأذن عن شغاف القلب، و حدقة العين عن بؤبؤ البصيرة. فأترك المنبر و كأني ما بحت بوجدي إلاّ لأزيد في وجدي، و لا قدمت راحي إلاّ لأغص براحي. و لكم تمنيت لو كانت الحكمة كلمة عن لساني لأذيعها للناس، أو للمعرفة سراجاً في يدي لأقدمها للناس. لكن الحكمة خرساء، و المعرفة عمياء، و كلتاهما في عالم أقصى من السمع و البصر- عالم قد يكون من الكلام دليل عليه، لكنه أوسع من أن يستوعبه أي كلام.
في ذلك العالم يتعانق الإله و الإنسان، و يندمج الجماد و الحيوان، و يمتزج الزيت بالماء، و تلتصق الأرض بالسماء. هنالك لو فتشتم عن غدكم لوجدتموه في أمسكم، و عن مهدكم لاكتشتموه في رمسكم، و عن والدكم للقيتموه في ولدكم، و نفسكم لألفيتموها في كل نفس.
هنالك لا قبل و لا بعد، لا فوق و لا تحت، لا شناعة و لا جمال، لا حرام و لا حلال، لا وزن و لا قياس، بل آزال تنتهي بآباد، و آباد تنتهي بآزال، و روح منبث في كل منظور و غير منظور، و "هنالك" ليست غير "ههنا" بيد أن الناس لا يبصرون. و لأنهم لا يبصرون ترونهم قد جعلوا لحياتهم قياساً، و أصغر ما فيها أكبر من أن يقاس. و رتبوا لها أثمانا، و أبخس ما فيها أثمن من أن يثمن. و أقاموا الحدود و الفواصل بين أعضائها، و أعضاؤها جسد واحد لا يتجزأ. لذلك كانت أيامهم حبلى بالشدائد و لياليهم مثقلة بالهموم. و لو أنهم أبصروا الحياة ببصائرهم لا بأبصارهم لما كان لهم من همّ سوى هم الانعتاق من كل همّ. و لو أنهم طلبوا الانعتاق لوجدوا أن لا سبيل إليه إلا بطرح مقاييسهم العوجاء و موازينهم الجوفاء، و نكران مشيئتهم العمياء من أجل المشيئة الكلية المبصرة، و إفناء ذاتهم المحدودة في ذاتهم التي لا تحدّ.
ألستم تسمون مَن شارككم في دم أبيكم و أمكم و لحمهما، و رضع الثُّدىَ التي رضعتم، أخاً لكم أو أختاً؟ فكيف بمن شارككم في لحم الحياة و دمها و من يرضع البقاء في كل لحظة من الثديّ التي ترضعون؟
ألستم تقدسون الأخوة و تؤمنون بأن صُلب الأخوة المحبة؟ فما بالكم تؤاخون القليل و تنبذون الكثير؟ و تحبون الواحد و تكرهون الألف؟ إن أخوة كهذه لأخوة مقصومة الصلب لا تنزّ إلا القيح و الوجع. إن محبة كهذه في عينها رمد و في أمعائها هواء أصفر. و ما زلتم معرضين عن الأخوّة الصحيحة و المحبة الصحيحة، ظلت حياتكم أرجوحة للحزن و الألم و ميداناً للصراع و النزاع. أما الأخوة الصحيحة، فهي في تلاشي المحبّ في المحبوب.
ألستم تمشون على الأرض، فتحملكم و لا تنوء بكم و لا تئن؟ فما بالكم تحملون الأرض فتنوءون بها و تئنون، ثم تشكون الأرض إلى السماء، و السماء ما كلفتكم يوما بأن تحملوا الأرض، بل كلفتها أن تحملكم، و هي تقوم بوظيفتها خير القيام؟

ألستم تتهافتون على قصاع الحياة؟

فما بالكم تهربون من قدور الموت؟ و لو لم تكن قدور الموت مملوءة أبداً لكانت قصاع الحياة فارغة أبداً. أتخافون الموت؟ إذن فكيف تركنون إلى الحياة و أنتم عارفون أنها تقودكم إلى الموت؟ من كره الموت فليكره الحياة، و من أحب الحياة فليحب الموت. فما الموت إلا حقل الحياة و لا الحياة إلا بيدر الموت.

لكنني أقول لكم إنّكم لو أنفقتم العمر في الشكر لربّ الحياة و الموت لكنتم مع ذلك إلى الكفران أقرب منكم إلى عرفان الجميل.

ها هو العالم من حولكم يكاد يختنق بالدخان الذي تثيره أوهامه، بأن الحياة سلعة تباع و تشرى أو تغتصب بحدّ السيف. و أن البعض يأخذ منها أكثر من الآخر، و أن هذه الكتلة من الناس أحقّ ببركات الوجود من تلك أو هاتيك.

يا ويل هذا العالم من غروره! فهو يدعي المعرفة و ما يزال بعيداً حتى عن عتبتها.

ما قولكم، لو كان أحدكم ربان سفينة في بحر، في صبي لا يعرف شيئاً عن تركيب السفينة و الميناء التي جاءت منها و الميناء التي تقصد إليها، يأتي الربان قائلاً بلهجة الأمر: "أعطني الدفّة"؟ ألا يضحك الربانُ منه و يسير بسفينته إلى المنياء التي يريد؟ ما قولكم لو كان أحدكم قاضيا على منصة الحكم، و جاءه غرّ لا يعرف من الشرع شيئاً، و لا مَن و لا الغاية من وضعه، و قال بلهجة العارف: "دعني أبتّ في الدعوة التي بين يديك"؟ ألا يسخر به و يمضي في دعواه؟
فكيف بالحياة التي لا حدّ لأعاليها و لا قرار لأعماقها و لا نهاية لعجائبها، يقوم في وجهها أحد أبنائها القاصرين- الإنسان- و في يمناه ميزان و في يسراه ذراع و يقول لها بلهجة السيد المتعنت: "بهذا الميزان، و بهذه الذراع أريد أن أصحح ما اختلّ من موازينك و مقاييسك." ألا ترون أن الحياة تربت بحنوّ على كتفه، ثم تجرعه من الشقاء على قدر غروره، كيما يفيق من غروره؟

هكذا يشقى العالم بغروره و سيظلّ في شقائه إلى أن يتعلّم ما تعلّمه هذا الشرق من زمان ثمّ نسى معناه- إلى أن يتعلم قول "إن شاء الله".

فالمشيئة لا تكون بغير معرفة، و المعرفة لا تكون بغير مشيئة، بل إن المعرفة هي المشيئة، و المشيئة هي المعرفة، أمّا الجهل فلا مشيئة له.

كيف لمن يجهل من أين أتى أن يشاء إلى أين يمضي؟ أم كيف لمن لا يعرف علّة وجوده أن يحتم هذه الغاية، أو تلك لوجوده؟ كيف لمن لا علم له بالأسباب أن يقر النتائج؟ لا. ليس يعرف شيئاً من ليس يعرف سوابق ذلك الشيء من الأزل و لواحقه إلى الأبد. من كان في مستطاعه أن يقول "أنا أعرف" حقّ له أن يقول "أنا أريد". أما الإنسان الذي ما برح في عالم البدايات و النهايات و القناطير و الفراسخ، فقصيّ عن هذه المعرفة. و مشيئته وبال عليه، كلما عاكست المشيئة الكليّة. فما له، إن هو أراد التخلص من شقائه، إلا أن يقول " أنا أشاء كيت و كيت، و إن شاء الله كيت و كيت".

لو تعود الإنسان قول "إن شاء الله" بقلبه لا بلسانه لما عتمت المعرفة أن سكبت من نورها في قلبه. و إذ ذاك لآزرت المشيئة العامة مشيئته فأسعدته، بدلاً من أن تسحقها فتشقيه. لكنّه لاهٍ عن مشيئة الحياة المبصرة، و ما في طاعتها من طمأنينة لا تدرك، و غبطة لا توصف، بمشيئته العمياء و ما تبذره في كل يوم من مشاكل و هموم.

أوَلا ترون كيف أنه يرهق جسده بتوسيع نطاق حاجاته إلى حدّ لا يطاق، و يخنق روحه بتضييق نطاق حاجاتها إلى حد لا يطاق؟ ما أبسط حاجات الجسد و أقلها لمن يعقلون! فالذي وهب الإنسان الفكر و ما فيه من سحر، و الخيال و ما فيه من قوّة، و الشعور و ما فيه من جمال، لن يبخل عليه برغيف و قميص و مأوى. أوَلا ترون كيف أنه يسعى جهده لامتلاك كل ما تصل إليه يداه، غير عارف أن المالك مملوك ما يملك؟

أوَلا ترون كيف أنّه يدأب الليل و النهار في تحصيل ما يحسبه ثروة أو غنى، جاهلاً أن الغني من استغنى عن الشيء لا به، و أن الزيادة في ثروة المادة نقصان في ثروة الروح؟

يا للعار أن يصبح مالك الكون مملوكاً لمال أو عقار!

يا للخزي أن تغدو صورة الله سلعة في أسواق الكسب و الخسارة و النخاسة و الدعارة!

يا للهزيمة أن يهرب مثال الله من الله إلى كهوف الهمّ و مفاوز الشكّ و الشقاء! ألا فرجوا عن صدوركم فأنتم أقوى من الفناء، لأنكم أبناء الحياة التي لا تفنى، و أنتم أغنى من أن تستعطوا، لأنكم ورثة الحياة التي تعطي أبداً و لا تستعطي. أنتم أشد من أن تخور عزائمكم، لأنّكم ذرية الحياة التي لا تعرف الملل و لا الفتور.

لا تهتموا بالأسباب لأنكم تجهلون أسباب أي عمل من أعمالكم و فكر من أفكاركم أين تبتدئ، و لا بالنتائج لأنكم لا تعرفون نتائج أي عمل من أعمالكم، و لا أي فكر من أفكاركم إلى أين تمتدّ؛ و اعملوا في حقل الحياة الفسيح، مؤمنين بأنها لن تكون إلا عادلة في كل ما تقضيه لكم أو عليكم، و أنها إذا ما انصرفتم عن كل همّ غير هم من الوصول إلى المعرفة لن تبخل عليكم بالمعرفة، من بعد أن وهبتكم كلّ وسائل المعرفة. و ريثما تدركون ذلك قولوا في قلوبكم، كلما أقدمتم على عمل أو نويتم نية أ ورغبتم رغبة: "إن شاء الله" و الحياة كفيلة بأنكم لن تضلوا المحجّة، التي عندها تستطيعون أن تقولوا: "أنا أشاء لأنني أعرف".
تلكم في اعتقادي هي محجة المحجات، و الناس كلّهم مدركوها يوماً ما- إن شاء الله!


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....
قديم 11-22-2013, 09:42 PM
المشاركة 10
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


من همس الجفون

أنا هو المنوال والخيط والحائك، وأنا أحوك نفسي من الأموات/الأحياء، أموات الأمس واليوم والأيام التي ما ولدت بعد والذي أحوكه بيدي لا تستطيع قدرة أن تحله حتى ولا يدي.


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قطوف من أدب ( ميخائيل نعيمة )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قطوف من حديقة القلب صباح الحكيم منبر البوح الهادئ 7 02-20-2016 10:29 PM
قطوف من بساتين الأدب عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:51 AM
ديوان همس الجفون - ميخائيل نعيمه د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-07-2014 10:22 PM
ألف ليلة وليلة مرآة الحضارة والمجتمع في العصر الاسلامي - ميخائيل عوّاد د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-04-2014 12:36 PM
قطوف 1 محمد عبدالرازق عمران منبر مختارات من الشتات. 2 11-06-2011 11:57 PM

الساعة الآن 10:01 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.