قديم 03-15-2016, 09:29 AM
المشاركة 11
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(6)

اللجان الشعبية تحاصر شرق المدينة ...
كان لابد أن ينتهى إحكام السيطرة على شرق المدينة قبل غروب الشمس وحلول الظلام.. والعشرات والمئات من الفارين من غرب المدينة ينضمون لإخوانهم تلبية لنداء ذلك الشاب الذي بزغ نجمه فجأة في قلب الأحداث..
كان نادر يشعر أنه لم يغمض له جفن منذ عقود.. لكن بعض المشاهد جعلته رغماً عنه يبقى متيقظاً..
جر ساقيه ناحية الجموع ليتابع المشهد عن قرب ..
الضابط جلال عاكفاً على تدريب حشد من سكان شرق المدينة على القتال بالأسلحة النارية .. وشاعت ابتسامة أمل على وجه نادر المكفهر حينما لمح شلة المقهى في أول المتدربين .. صحيح أن المعلم فوزي كاد يفقأ عين جلال بأول طلقه لكنه يتعلم بسرعة.. لم يعد الشاب محسن يرتجف وكان فخوراً بنفسه وهو يحمل السلاح كالمحترفين .. أما الشيخ حسن الفقي فقد أذعن لأوامر نادر .. عليه أن يستغل موهبته في تلاوة القرآن بتذكير رجال اللجان الشعبية بفضل الجهاد والثبات بدلاً من تذكير الأموات بعد أن فاتهم أوان التذكرة ...
ـ " ألستم بحاجة إلى مقاتل تحت العشرين ..."
التفت نادر فرأى أخيه مدحت قادماً وهو يحمل في يده عكاز والده الراحل .. والمثير هنا أن والدته جاءت تحمل في يدها يد الهون الذي تدق به الثوم ولوحت بها قائله في جدية :
ـ " دعهم يجربوا ضربة واحدة من هون أمك ..."
حاول نادر أن يبتسم رغماً عنه.. بعد أن نست تقاسيم وجهه كيف ترسم الابتسام.. وقال برفق :
ـ " أمي .. مكانك مع بقية النساء .. في البيوت .. لو نجحوا في اختراقنا ستكونون أنتم خط دفاعنا الأخير عبر النوافذ والشرف .."
ثم نظر إلى أخيه مردفاً :
ـ " وأنت يا مدحت ..هل ما زلت مصر على كتابة اسمك ( متحت )؟.."
ضحك الأخير ولوح بعكاز والده قائلاً :
ـ " لقد تغيرت كثيراً يا أخي العزيز .. لقد كنت واحداً ممن شاركوا في هدم جهاز السلطة حامي الشعب .. ولابد أن أشارك معكم اليوم لعلى أكفر عن ذنبي القديم ..."
ـ " الكل سيشارك يا أخي العزيز .. لم يعد هناك خيار أخر .."
ثم التفت لأمه مردفاً :
ـ " وأنت يا أمي .. عودي مع النساء فالرجال بحاجة للتغذية قبيل المعركة.."
ـ " من حقنا الوقوف معكم جنباً إلى جنب.. دعك من تلك الأفكار الذكورية العنصرية.. التي ورثتها من أبيك"
تذكر نادر البرامج الإعلامية التي أدمنتها أمه على مدار عقود والتي تغذي فكرة أن المرأة مفيدة جداً في أي مكان يجمعها بالرجال .. لكنك إذا احتجت لها في مكانها فلن تجدها أبداً..
قال لها في صبر:
ـ " يا أمي.. الأفكار الذكورية لا تواجه أبداً بالأفكار الذكورية.."
نظرت له في غير فهم فابتسم هو في غموض..
لم تفهم أن أفكار التحرر والمساواة التي تلقفتها عبر الإعلام هي من بنات أفكار الرجال.. وتصب في صالح أهوائهم الردية..
هنا ارتفع صوت جلبه ونقاش حاد عند إحدى اللجان الشعبية ..ثم برز جلال وهو يلوح بكفه قائلاً :
ـ " أيها القائد .. إنه سمكة بلطجي شرق المدينة العتيد.. يريد أن يقابلك .. يقول أنه جاء متطوعاً ..."
صرف نادر أمه وأخيه برفق ثم التفت إلى جلال قائلاً :
ـ " دعوه يأتي ...."
ـ " لكنه يرفض التفتيش .. ومعه حقيبة سوداء مريبة .."
تقدم نادر إلى جوار جلال ناحية الجهة التي تتصاعد منها الجلبة ولمح سمكة وهو يحيط حقيبة جلدية سوداء بذراعه اليسرى ويلوح بمطواة في يده اليمنى صائحاً :
ـ " سمكة لا يفتش في منطقته .. إياكم أن تقتربوا .."
صاح نادر ليسمع سمكة وسط الصخب :
ـ " دعوه..."
التفت سمكة إلى نادر وتهلل وجهه صائحاً :
ـ " ألم تسمعوا كلمة كبيركم؟ .."
اقترب منه نادر مشيراً إلى المطواة التي بيده قائلاً :
ـ " لا مكان بيننا للبلطجة يا سمكة .."
اغلق سمكة المطواة باحترافية ثم دسها في جيب سرواله قائلاً :
ـ " لقد تبت من البلطجة يا كبير وجئت أعرض خدماتي .. و .."
ووضع الحقيبة على الأرض ثم انحنى ليفتحها مستطرداً :
ـ " وأموالي كذلك .."
تأمل نادر ومعه جلال وبقية رجال اللجان الشعبية الأوراق المالية التي تملأ الحقيبة الجلدية بدهشة كبيرة ... وغمغم جلال :
ـ " أموال مسروقة ..."
رفع سمكة طرفة إليه قائلاً في سخرية :
ـ " إنها مائة ألف ترللي .. ثمن رأس قائدكم ..."
عقد نادر ساعديه أمام صدره ونظر لسمكة مستفهماً :
ـ " من ؟"
ابتسم سمكة وهو ينهض مجيباً :
ـ " زبون قديم من بنى الأصفر ... لكن سمكة قرر ألا يستمر مع المعسكر الشرير..."
اقترب منه نادر هامساً في خفوت :
ـ " نوسام..."
صاح جلال وهو يحول بينه وبين سمكة :
ـ " حذار أيها القائد قد تكون خدعة ..."
نظر سمكة إليه بلا مبالاة على حين رتب نادر على ساعده مطمئننا قبل أن يقول لسمكة في هدوء :
ـ " ولماذا قررت ترك المعسكر الشرير؟.."
ـ " سمكة ليس خائناً بطبعة .. أنا استعمل قوتي لمن يدفع الثمن .. أنا فتوة مثل فتوات الزمن الغابر لكن المجتمع أساء فهمى ... وعلى رأسهم رجال السلطة .. لذا كنت سعيداً جداً وأنا أشعل النار من تحت أقدامهم ..ثم اكتشفت أن الجانب الذى استخدمني لهدم السلطة كان يهدف إلى إخراج كائنات الظلام مصاصة الدماء إلى السطح .. والتي لن تفرق بين دماء سمكة وأي دماء أخرى .. لقد خدعني ذلك الأصفر وقررت أن أخدعه أنا أيضاً .. وأنا هنا رهن إشارتك ويسعدني أن أكون سبباً في رجحان كفتكم ... أنا أضمن لكم عشرات البلطجية يمكنهم أن يثيروا الرعب في قلوب الظلاميين بمجرد رؤيتهم .."
وضع نادر كفه على عاتق سمكة ونظر في عينيه قائلاً :
ـ " قلت .. لا مكان للبلطجية بيننا يا سمكة .."
ابتسم سمكة في حرج ثم قال بلهجة صادقة :
ـ " أعذرني فمازال لساني يخونني.."
ثم صوب عبارته قائلاً :
ـ "هناك العشرات من الفتوات مستعدين لغسل ماضيهم القذر بالانضمام إليكم ..."
اعترض جلال قائلاً :
ـ " هل سنقاتل إلى جوار المجرمين و النوار .. ؟"
قال له نادر وهو يرمقه بنظرة باردة :
ـ " ومن منا لم يجرم ؟.."

***

ـ " كيف حالك يا دكتور؟"
ابتلع العوادلي ريقه وهو يتأمل العيون الجشعة تتأمله والأنياب الحادة التي تلتمع في ظلام الغرفة على الضوء المتسلل عبر نافذة حجرته..
لم يغادر بيته منذ استيلاء الظلاميون على غرب المدينة.. ظل يراقب المذبحة من وراء النافذة في الظلام.. وينتظر..
حتى فوجئ بتلك الزيارة المفاجئة من نوسام ومعه حشد من الظلاميين.. وقد بدا مظهر الأول المتأنق دائماً متناقضاً مع هيئة الظلاميين الرثة ناهيك عن رائحة الدماء الطازجة التي تفوح مع كل حركة وسكنة..
قال بصوت مبحوح وكأنه يخشى استثارتهم:
ـ " ببـ.. بخير.. هـ.. هل هناك ججـ.. جديد؟"
عقد نوسام ساعديه أمام صدره وقال في حزم :
ـ " أكيد يا دكتور.. دورك لن يتوقف عند الاختباء في بيتك وغلق هاتفك.. لعمري هذا خوف لا مبرر له يا دكتور.. هذا أمر قد دفناه سوياً كما تقولون .."
ـ أنا لست مخـ.. مخـتبئاً .. كما أنني حذر في استعمال وسائل الاتصال .."
ـ " وسائل الاتصال في أيدينا الأن.. يبدو أنك لا تشاهد الأخبار أيضاً.. على العموم كانت فرصة طيبة كي أزورك في بيتك.. ولأخبرك كذلك أنك سترحل فوراً لشرق المدينة؟"
زاغت عيناه بالطبع وجف حلقه.. وهو يتخيل نفسه بين براثن سكان شرق المدينة المتحمسين .. سيحولونه إلى شاورمة جزاء له على
جره لشعبنا الطيب إلى فخ الظلاميين..
ـ " شـشـ.. شرق المدينة!.. كـ.. كيف؟"
ـ " اطمئن يا دكتور الذي يحميك في غرب المدينة من الظلاميين قادر على حمايتك في شرق المدينة من فلول السلطة.."
ـ " صصـ..صحيح.. لكن.. مشكلتي ليست مع السلطة بقدر ما هي مع الشعب الأسمر ذاته.."
ابتسم نوسام في مكر.. وغمز بعينه قائلاً :
ـ " تنسى دائماً أنك واحد من الشعب الأسمر.. وأنك طيب مثلهم ويسهل التغرير بك.. كما غرر بهم .. "
ـ " وما هو دو..دو.. دوري بالضبط.."
ـ " هو دورك منذ البداية يا دكتور.. "
ثم جال ببصره في أرجاء بيت العوادلي تسائل :
ـ " لكن أين واجب الضيافة يا دكتور.. يبدو أنك قد تأثرت بنا لحد بعيد"
وضحك وخلفه تتابعت ضحكات الظلاميين ومن جديد فاحت رائحة الدماء وزهمها.. ارتبك العوادلي وهو يشير لهم كي يجلسوا قائلاً :
ـ " أنا أعـ.. أعرف شرابك يا سيد نوسام.. لحظة .. سأستدعي خادمي كي ... لكن.. بالنسبة للسادة الظلاميين...أأ.."
وصمت متحيراً .. لكن نوسام أنقذه من الحيرة حينما قال برقة :
ـ " لا عليك يا دكتور.. سيشربون الخادم! "

***

" سيل الجرذان الظلامية يجتاح غرب المدينة "
" ألا تفهم .. أنت تقترب منهم .. "
" ليس هذا من شأنك "
" أيها القائد .."
فتح نادر عينيه.. فرأى جلال قد جاء يوقظه وقد حل الظلام..
ـ " هناك سيارة تقترب .. تبدو فاخرة لعلها تابعة لبعض المسئولين غرب المدينة .. "
ونهض معه نادر ليرى القادم ..
كانت اللجان متحفزة بعضهم يحمل أسلحة نارية وبعضهم يحمل أسلحة بيضاء وجنازير وتنعكس على وجوههم المرهقة ظلال النيران التي أوقدوها ...
ـ " أخرج من السيارة ببطء وعرف نفسك.."
انفتح باب السيارة الفاخرة ونزل منها شيخ عجوز يتعثر .. رفع ذراعيه عالياً وتأمل الجمع بوجه ممتقع ..
ـ " أأ ..أنا منكم ..."
عقد نادر حاجبيه متمتماً :
ـ " الدكتور العوادلي .."
تقدم الدكتور العوادلي وهو يلهث من فرط الجهد المضنى الذى بذله منذ هبط من السيارة المكيفة وحتى وصل إلى حشد اللجان الشعبية المترقب ! ثم خر على ركبتيه ممسكاً صدره :
ـ " لـ .. لقد نجوت بـ .. بأعجوبه ..."
اقترب منه نادر قائلاً في اهتمام :
ـ " هل هم قريبون ؟.."
رفع العوادلي طرفه إليه قائلاً بصوته المتقطع :
ـ " إنهم سريعون جداً كادوا يلحقون بي رغم أنهم يعدون على أقدامهم و أنا في سيارتي ..."
صرخ جلال :
ـ " استعدوا ..."
تكهرب الجو وتحول الحشد إلى قنابل تنتظر من ينتزع فتيلها وتنفجر على حين مد نادر كفه للعوادلي ليعتمد عليها قائماً ... ذلك العوادلي المتهالك نجا من أنياب الظلاميين في حين هلك مئات وألوف الشباب اليافع والواعد ..
ـ " أ .. أنا معك يا .. يا سيد .. نادر ...وأضم صو .. صوتي إلى ..
صو .. صوتك .. في مواجهة الظا .. الظلاميين ..."
نظر إليه نادر في ثبات فازدرد ريقه وامتقع وجهه .. قال نادر في برود :
ـ " كنت أحد المنادين بخروج الظلاميين للنور .."
ـ " كـ .. كل الشعب كـ .. كان كذلك .."
ـ " الشعب يتبع من ينظر له.. وكنت أحد المنظرين الكبار المدافعين عن الظلاميين .."
عدل العوادلي من وضع منظاره الطبي وهو يقول مرتبكاً :
ـ " أ .. أسف لـ ..لقد .. غر.. غرر بي.. "
نظرة نارية لمعت في عيني نادر ارتعدت لها فرائص العوادلي قبل أن يصيح نادر منادياً أخيه مدحت .. طبعاً تصور العوادلي أن مدحت هذا يقوم بدور مسرور السياف هنا.. وأنه سيطير رأسه ويضعها في طست بين يدي نادر.. لكنه فوجئ بشاب أخضر العود من أولئك الشباب الذين يلقاهم في الندوات المسمومة.. كان ينظر إليه بانبهار وهو يصيح :
ـ " الدكتور العوادلي شخصياً ... أنا من المعجبين بك جداً .."
حاول العوادلي أن يبتسم لكن نادر قطع عليه ابتسامته وهو يقول لمدحت في صرامه :
ـ " خذ الدكتور العوادلي إلى مكان النساء .. سيكون هناك بأمان .."
ـ " هذا لطف منك .."
قالها العوادلي ثم تأبط ذراع مدحت الذى لم يصدق نفسه .. العوادلي يتأبط ذراعه شخصياً .. وقاده إلى حيث أمره نادر وهو لا يكف عن سكب عبارات المدح والثناء على أذني العجوز... وعاد نادر ليلتحم برجال المقاومة الشعبية المتحفزة وصاح ليسمع المعتلين لأسطح البنايات :
ـ " محسن .. هل ترى شيئاً ..؟"
برز وجه محسن من فوق سطح البناية وبرزت عروق رقبته وهو يهتف :
ـ " يتدفقون عبر الطريق السريع الذى يربط الشرق بالغرب ..."
ـ " أعدادهم ..؟"
بصق محسن في تقزز قبل أن يجيب:
ـ " كالنمل.."
وجاء جلال ومعه مجموعة من رجال السلطة القدامى يحملون بعض قاذفات اللهب وقد اكتست وجوههم بالجدية .
ـ " لا تتدخلوا إلا لو فشلنا نحن في صدهم ساعتها يمكنكم فتح النيران على الجميع ..."
قال جلال وهو يرمق الأفق :
ـ " هل سيغامرون بالهجوم رغم النيران التي أوقدناها ...."
ـ " لن يهاجموا.."
قالها نادر في بساطة فنظروا إليه في دهشة فاستطرد :
ـ " بل نحن من سيهاجم .."

***



الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-22-2016, 09:25 AM
المشاركة 12
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(7)

فحيح.. فحيح ..
جحافل الظلاميين تتدفق عبر الطريق السريع كالسيل الجارف ولا صوت يعلو على أصوات الـ..
فحيح.. فحيح..
الظلاميين ليسوا بحاجة لوسائل مواصلات فهم يستطيعون قطع مسافات هائلة سعياً على الأقدام.. لكنهم لا يستطيعون التوقف عن ذلك الـ..
فحيح.. فحيح ..
من بعيد تتبدى معالم الأحياء السكنية لشرق المدينة وقد أحيطت بسور من النيران .. وتوقف الفحيح..
وتوقف الزحف ...
لا شيء سوى أصوات اللهاث ولعق الأصابع و الشفاه...
ثم صرخ يسرم :
ـ " لااااااه.. كان المفترض أن يستسلموا مثل الأخرين ..."
وقفز عشرة فوق بعضهم البعض صانعين برجاً ووثب يسرم ليعتليهم كلهم كي يتمكن من إلقاء نظرة أشمل على الموقف.. فبدا الأمر أشبه بفقرة في سيرك..
ـ " سنحاصرهم حتى تخمد النيران أو تسقط عليها الأمطار .."
ثم عاد إلى الأرض فأحاط به جيش الخفافيش الظلامية منصتين :
ـ " تدبروا أمركم عن طريق قنص بعض الحيوانات إلى أن يستسلم المحاصرون..."
هنا شق الهواء شيء ما يتصاعد منه الدخان .. زجاجة تم حشر خرقه مشتعلة في فوهتها ... وأخذت العيون الواسعة تراقب الزجاجة الطائرة في عدم فهم حتى سقطت بينهم ودوى الانفجار ... عندئذ أدركت الكائنات ماهيه تلك الزجاجة وهي تصرخ وتقفز مبتعدة عن دائرة النيران .. هناك ثلاثة منهم تحولوا إلى زهرة نارية تتلوى من فرط الألم....
وكان أول الغيث قطر مثلما يقولون .. عشرات الزجاجات تطير في الهواء وتهوى على الأجساد الظلامية .
ـ " تراجعوا ..."
يتصاعد فحيح النيران.. وفحيح الآلام ..
عشرات الانفجارات تدوى وجحافل الظلاميين تتراجع بعد أن سيطر عليها الرعب وقاد زمامها الخوف الجبلي من النيران ..
كانت فرقة رماة الزجاجات الحارقة هي إحدى الفرق الخاصة التي أعدها نادر بالاستعانة بالبلطجي التائب سمكة .. تم صنع مئات الزجاجات المتفجرة لتكون طليعة الهجوم على الظلاميين .. وهكذا تحول المحاصرين إلى مهاجمين وصار من يحاصرونهم فارين تحت وطأة نيران الزجاجات الحارقة ..
وصرخ محسن من فوق سطح البناية التي صارت برج مراقبة :
ـ " إنهم يتراجعون .. يتراجعون .."
وارتج المكان بالتكبير والتهليل ... وبرقت عينا نادر وهو يهمس لجلال :
ـ " أبلغ سمكة ألا يتوقف عن مطاردتهم بالدراجات النارية والزجاجات الحارقة .. "
وتلقى سمكة مكالمة جلال وهو يلقي زجاجة أخيرة ناحية حشد من الكائنات الفارة قبل أن يدهس ثلاثة أخرين تحت إطارات الدراجة النارية ....
وصاح في مجموعته أن استمروا في مطاردة الشياطين ...
ـ " مجموعة تطلق الزجاجات ومجموعة تطلق الخرطوش ..."
هنا أخرج بعضهم بنادق الخرطوش التي حصلوا عليها من مراكز السلطة إبان الفوضى التي سبقت خروج الظلاميين.. واليوم يحملونها تحت سمع وبصر فلول رجال السلطة.. و بتوجيههم .. كم تتبدل الأمور..
صوبوا البنادق تجاه الجحافل الفارة على أضواء كشافات الدراجات النارية ، وتصاعدت صرخات الكائنات الظلامية وكرات البلي الحارقة تمزق لحومهم ... هنا فوجئ أحد راكبي الدراجات بمن يثب عليه من خلف فأطلق سبه وأسنان الظلامي تنشب في عنقه .. هناك من توارى في الظلام وطوق راكبي الدراجات.
ـ " تباً ..لقد نالوا مني .."
ـ " أصمد يا وزة .."
قالها سمكة وهو يصوب خرطوشه ناحية الكائن الذى تعلق بالسيد وزة والذى انتابته حالة من الهياج وهو يحاول انتزاع الكائن من وراء ظهره لكن الأخير غرس أنيابه في عنقه كالكلابات..
ودوت طلقة.. وتبعتها طلقات...
وتهاوى الكائن ووزة يصرخ في رفاقه :
ـ " ستقتلونني معه يا حمقى .."
ـ " هل أنت بخير يا وزة ..؟"
تحسس وزة عنقه وهو يسحب زجاجة مولوتوف من جراب خلفه على الدراجة :
ـ " لقد سحب مني لتر دم كامل ..."
وأشعل زجاجة حارقة وألقاها بغل ناحية فلول الفارين الذين تفرقوا على جانبي الطريق السريع الذى افترش بالجثث التي اشتعلت بها النيران واخترقها الخرطوش ... مشهد مروع لم يخطر حتى على بال هؤلاء الذين كانوا يوماً ما بلطجية ..ورفع سمكة هاتفه وطلب جلال :
ـ " ريس جلال ..."
ـ " الضابط جلال..."
بصق سمكة بصوت مسموع قبل أن يقول :
ـ " لا مؤاخذة يا جلال باشا... الفئران تبتعد بشكل كافي ..."
لحظات من الصمت ثم جاء صوت جلال عبر الهاتف يأمره بأن يتوقف عن مطاردة الظلاميين .. لكن يظل يحوم حول المكان ليتأكد من عدم تجمعهم مرة أخرى ..
هنا صرخ وزة في جزع :
ـ" أريد نقل دم بسرعة .. سأموت يا حمقى .."
زجره سمكة قائلاً :
ـ " اخرس يا وزة .. ليعطيه أحدكم لفافة حشيش كي يخرس قليلاً .."
تردد صوت جلال منزعجاً عبر الهاتف :
ـ "حشيش ..! هذا مخالف للقانون يا سمكة .. الويل لك ...!"
ـ " أي حشيش يا باشا .. أنا أقول أعطوه (بقشيييش!!).. "

***

المكان هنا لا يطاق ...
هاته النسوة لا يعرفن التقاليد الراقية ولا يتعاملن كنساء الطبقات الراقية ... بالنسبة إلى العوادلي الذى تربي ونشأ في مجتمع بني الأصفر هؤلاء النسوة أقرب للرجال منهم للنساء ... لذا فقد قرر أن يجلس بينهم ولا ينطق بحرف مع بعض هز الرأس بين الحين والحين حتى لا يتهم بقلة الذوق .. لقد تصور في البداية أن نادر قد أحسن ضيافته ورفق به بإلحاقه بالنساء ثم تأكد لديه أن هذه أشنع عقوبة لم يتخيلها وهو يقطع المسافة من غرب المدينة إلى شرقها ...
ـ " لماذا لا تدخل معنا في الحديث يا دكتور .؟"
قالتها والدة نادر على طريقة النساء (العشريات) كما يقال عندنا فأجفل العوادلي واصفر وجهه ... ماذا يقول لهاته النسوة الرجال .. أبعد الجلوس مع صفوة المجتمع وأكابر الرؤساء والزعماء يجلسه نادر مع هؤلاء الساحرات الشريرات ..
ـ " ما .. ماذا أقول بالـ .. بالضبط .."
(مصمصت) إحدى النساء بشفتيها قبل أن تقول مشفقة :
ـ " لماذا يتتعتع يبدو أنه ممسوس يا أم نادر ... تعال يا (ضنايا) لأرقيك.."
وقامت إليه فذهل العوادلي وهو يتأمل حجمها عاجزاً عن النطق .. من الأحمق الذي أيقظ ذلك الديناصور الأنثوي.. وتصور للحظة أنها ستجلس على أنفاسه وينتهى أمره للأبد .. لقد فعلها فيه نادر ..
ـ " لـ .. لحظة يا (مسز)...."
ـ " (مسز) !!!"
قالتها كأنها تلقت إهانة جارحة.. وبدا للعوادلي لحظة أنها ازدادت انتفاخاً وأنها موشكة على الانفجار في وجهه.. العوادلي لم يفهم طبعاً أنها ظنت به الظنون لأن وقع كلمة (مسز) على أذنها قريبة من كلمة ( مزة ) والتي يستعملها الرعاع للتعبير عن الجمال الأنثوي.. وطبعاً انهالت على رأسه باللعنات والاتهامات بأنه رجل (عجوز وناقص) الخ ...
هنا دوى صوت هاتفه المحمول لينقذه من الكارثة التي تورط فيها.. انتحى جانباً ورفع الهاتف إلى أذنيه متجاهلاً سيل السباب المنتقى..
ـ " ألو... سيد نوسام .."
جائه صوت نوسام بنبرة لا تخلو من القلق :
ـ " تأخرت جداً يا دكتور .. ولم تتصل حسب الموعد .."
ـ " سامحني يا سيد نوسام .. أنا هنا في سيرك حقيقي .."
ـ " المهم يا دكتور ... ما هو الوضع لديك ؟..."
ـ " الوضع فريد من نوعه .. الشعب هنا في شرق المدينة متحمس جداً للمواجهة ... ملتف حول قيادته .. و ..."
جائه صوت نوسام محنقاً :
ـ " كفى شعراً... أريد أن أعرف مصير يسرم الأحمق ورجاله الظلاميين ..."
ـ " الحقيقة أنا هنا جالس مع بعض النسوة لطيفي المعشر وبعيد عن ميدان الحدث.."
كان يتكلم في خفوت .. لكن نوسام كان ثائراً ..
ـ " جالس مع بعض النسوة ... هل أرسلتك لشرق المدينة كي تجلس مع بعض النسوة يا دكتور ... ألم تشبع من مجالسة النساء في محافلنا بالخارج .."
رمق العوادلي رفقة النساء وأزدرد لعابه قائلاً :
ـ " لا تذهب .. بـ .. بعيداً يا سيد نوسام أنا شبه محتجز هنا .."
ـ " هل كشف أمرك .؟"
ـ " إنه لا يطيق رؤية ظلي .. لأنه لم ينس دعاياتي السابقة المؤيدة للظلاميين.
ـ " هذا لا شيء .. تحرك يا دكتور وكن مفيداً ...."
هنا دوى صوت التهليل والتكبير من الخارج وانتفضت بعض النسوة وفزعن إلى النوافذ وعدن بالتهليل والتكبير والزغاريد..
واضح أن الكفة تميل لرجال شرق المدينة.. وعاد العوادلي إلى نوسام الذى سأله بانزعاج عن سر الأصوات لديه...
ـ " إنهم يتقدمون على الظلاميين .. ألم أقل لك أنهم متحمسون ..."
ـ " أريد منك وصفاً دقيقاً لدفاعاتهم يا دكتور.. تحرك فشعبنا لا يطعم الكسالى ."
ـ " سـ .. سأفعل ..."
هنا سمع الصوت الحازم من خلفه يتساءل :
ـ " ستفعل ماذا يا دكتور ؟"
استدار وقلبه يخفق ليرى نادر و بجواره جلال ومعه عدد من رجال شعبنا يتأملونه في شك.. متى دخلوا؟
خر على ركبتيه عند قدمي نادر ورفع كفه مستجدياً :
ـ " سأفعل كل ما.. ما تريده مني .. فـ.. فقط لا تتركني مع هؤلاء النسوة.."
نظر إليه نادر ملياً ثم التفت للنساء متسائلاً :
ـ " ماذا فعلتم بالرجل؟"

***

أخيراً توقفت الكتل الظلامية الفارة ... صوت اللهاث الغاضب ورائحة اللحم المشوي تفعم الأنوف الحساسة وتثير في نفوسهم الرعب والفزع من عدوتهم اللدود .. النار .. وهتف يسرم وهو يرفع عقيرته إلى السماء :
ـ " من جديد تعود التنانين النارية ...."
وتحسس ظهره في ألم مستطرداً :
ـ " بعد أن ظننا أنها توارت إلى الأبد ..."
صرح أحدهم وهو يطفئ النار التي اشتعلت بكاحله بضربها بالأرض عدة مرات :
ـ " لقد صار الشعب كله تنانين نارية.. أي جحيم ألقيتنا فيه يا رجل"
التفت يسرم في ثورة إلى المتكلم فانكمش في مكانه والدخان الأسود كريه الرائحة يتصاعد من كاحله..
ـ " لماذا لم يصل الدعم من السيد نوسام .؟"
هكذا تساءل ظلامي أخر احترق نصف وجهه وذابت معالمه وبقى نصفه الأخر متحمساً للكلام... لكن قبضة يسرم أطبقت على عنقه وجعلته يبتلع لسانه..
ـ " يسرم ليس بحاجة إلى أحد... لقد صرنا ملوكاً على هذا الشعب ... ولن يعود الزمن للوراء .. لقد ولى عهد السلطة وتنانين النار .... وجاء عهد الظلاميين .."
قال أخر قد احترق شعر رأسه بالكامل وبدا رأسه مثل ثمرة القلقاس :
ـ " وما هي الخطة التي سنقتحم بها النيران يا يسرم ؟.."
لعق يسرم شفتيه ولمعت عيناه في جشع ..
ـ " لن نحاصرهم .. سنقلد أعدائنا ونباغتهم بالهجوم .."
ـ " والنيران التي تحيط بهم .؟."
تشمم يسرم الهواء كأنما هو ذئب يبحث عن فريسه .. ودارت عينيه في المكان بحثاً عن شيء ما ... كان الطريق السريع ممتد إلى ما لا نهاية لكن يوجد مبنى على مسافة قريبة من تلك المباني التي يضعها شعب السطح على امتداد الطريق السريع لتمد سياراتهم بذلك السائل النفاذ .. محطة وقود هناك قابعة في الظلام وقد فر عامليها أو ماتوا .. لكن ليس هذا هو المهم .. المهم هو تلك الحافلة الواقفة بجوار المحطة .. حافلة ضخمة خالية من الركاب .. ولعق يسرم كفيه متمتماً :
ـ " حلمت يوماً وأنا طفل بركوب حافلة مثل تلك...."
ثم التفت إلى الكائنات المترقبة صارخاً :
ـ " الملوك لا يهاجمون على الأقدام يا سادة الظلام ..."
لم يكن يسرم ولا أحد من الظلاميين يجيد قيادة مثل تلك الحافلات .. لكن القرد قد يكتب يوماً شعراً لو مكنته من ألة كاتبة كما يدعي بعضهم... وهكذا اندفعت الحافلة للوراء أولاً فاصطدمت بجدار المحطة .. وتصايحت كائنات الظلام المتكدسة بالداخل وما زال بعضهم بالخارج يحاول الولوج فبرز وجه يسرم من النافذة المجاورة لمقعد القيادة وهتف :
ـ " لن نركب جميعاً يا حمقى .. كفوا عن العبث واتبعوا يسرم على الأقدام .."
واندفعت الحافلة وورائها جحافل الكائنات الظلامية التي لم تجد لها مكاناً وكان مشهداً فريداً من نوعه ....
ومن بعيد لمح سمكة وشركاه وهم على الدراجات النارية المشهد من بعيد..
ـ" ما هذا بالضبط ؟.."
قالها وزة وهو يحاول إشعال سيجارة وزجاجة مولوتوف في نفس
الوقت :
ـ " أحد عاثري الحظ .. قرر أن يمر الأن من الطريق السريع ... ليجد الهول ذاته يطارده ."
حشى سمكة سلاحه بالخرطوش قائلاً :
ـ " لقد عملت أعمالاً طيبة أكثر مما تحتمل أعصابي .. لكن لابأس لنضيف إليها عملاً أخر .."
قالها ثم انطلق على دراجته وخلفه بقية الفريق ... كان أملهم إنقاذ سائق الحافلة ومن معه ... كان أملهم أن يمنعوا كائنات الظلام من الوصول إليه .. فانقسموا إلى فريقين ميمنة وميسرة كي يتفرقوا على جانبي الحافلة كي يسهل التعامل مع الكائنات المطاردة للحافلة بحسب ما يظنون.. ومع ظلمة الليل لم يلحظ أحدهم ماهية قائد الحافلة الذى اقترب منهم وهو يضغط على أسنانه الحادة وعلى دواسة الوقود أكثر لتندفع الحافلة بسرعة أكبر ..
وتمتم في نشوة :
ـ " حلم الطفولة يتحقق ..."
وعلى مسافة قريبة من الدراجات البخارية القادمة من الاتجاه المعاكس أدار يسرم المقود ..
وكان الصدام مروعاً... وصوت تهشم الدراجات والعظام بشعاً من تحت إطارات الحافلة الضخمة ... سمكة كان من المحظوظين فقد زحف بدراجته بعيداً عن إطارات الحافلة عدة أمتار وهو يسب قائد الحافلة الأحمق ويترحم على رفاقه الذين تحولوا لعجين .. وحينما اعتدل من سقطته وكل عظمه في جسده تئن والرضوض والخدوش و السحجات رسمت لوحة سرياليه على جسده .. ساعتها أدرك أنه لم يكن محظوظاً .. كان هناك عشرات العيون المتسعة تتطلع إليه في جشع ... وكان الموت تحت عجلات الحافلة بالنسبة له أرحم من الموت بأسنان الظلاميين ....

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-22-2016, 09:26 AM
المشاركة 13
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(8)

ـ " لماذا ؟.."
ببطء يرفع نادر طرفه متأملاً جلال الحانق.. يجلس باسترخاء مستنداً إلى جدار أحد المنازل بالقرب من اللجان الشعبية.. لا وقت لهذا يا جلال أرجوك..
ـ " لماذا ماذا ..؟"
اشاح جلال بوجهه جهة الدكتور العوادلي الذى يسرح ويمرح بين رجال اللجان الشعبية .. فهز نادر رأسه متفهماً ثم قال في هدوء :
ـ " لم يحن وقته بعد .. كما أنه مفيد لنا في الفترة الحالية ... نحن بحاجة إلى بوق دعاية أمام شعوب العالم لتأييد موقفنا ..."
ـ " فقط .. نتركه يتجسس علينا من أجل الدعاية ؟.."
مدد نادر قدميه أكثر وتثائب في كسل ثم قال بعينين حمراوين :
ـ " ليس هذا فقط .. هناك أشياء أخرى .. "
ـ " مثل ماذا ؟.."
رفع نادر حاجبيه ولاح على شفتيه شبح ابتسامه وهو يقول :
ـ " ليس الآن .."
هنا دوى صوت محسن كجهاز الإنذار المبكر :
ـ " حافلة تقترب .. يبدو أنه سائق فار من الظلاميين ..."
نهض نادر وكالعادة نهض كل رجال اللجان نهضة رجل واحد منتظرين الأسوأ .. على حين وثب العوادلي متعلقاً بعنق المعلم فوزي وهو ينظر من وراء كتفه في ترقب وذعر ...
ـ " دعني ألقى نظرة .. "
قالها نادر ثم صعد المبنى الذى يجلس فوق سطحه محسن للمراقبة ولتدخين النرجيلة على انفراد بعيداً عن الفضوليين .. أشار محسن بكفه إلى الأفق وقال مؤكداً :
ـ " هناك ... الطريق السريع ..."
دقق نادر النظر ثم التفت إلى محسن قائلاً في قرف :
ـ " هلا أرحتني من رائحة النرجيلة هذه .."
ـ " لولاها لما رأيت ما رأيت .. إنها أفضل منبه ..."
هنا جاء جلال وهو يلهث من أثر السلم متسائلاً فالتفت إليه نادر
صائحاً :
ـ " هل سمعت عن حصان طروادة ؟."
ضيق جلال عينيه كأنما بوغت بالسؤال ثم رنا ببصره ناحية الحافلة القادمة من قلب الظلام على الطريق السريع وبرقت عيناه في فهم ..
ـ " حصان طروادة المشوي ؟..
ولم يستطع نادر منع نفسه من الابتسام وهو يلتفت إلى محسن قائلاً :
ـ " محسن دورك لم يعد مجرد ناضورجي .. لقد حان وقت اختبار قدراتك على القنص .."
رفع محسن بندقيته قائلاً في حماس :
ـ " سيسعدني هذا .. أنا أمقت دور الناضورجي أصلاً فهو يذكرني بأيام كنت أدخن الحشيش مع .."
وقطع عبارته وهو يرمق جلال ممتقعاً لكن نادر جذب الأخير من ذراعه وانطلقا لاتخاذ مواقعهم ... وارتفعت الصيحات التحذيرية مدوية متسلسلة عبر اللجان الشعبية المتناثرة على نواحي الشوارع الفرعية بشرق المدينة .. وخصوصاً عند تلك التي تواجه الطريق السريع عند أطراف المنازل ...
ـ " أصحى .. أصحى ..."
كان هذا هو هتاف اللجان الشعبية في حالة التنبيه على خطر قادم .. وكان الخطر القادم حافلة يقودها كائن ظلامي شبه مجنون..مجنون بحب الدماء.. مجنون بحب الزعامة ... ومن حوله صراخ وطاويط الظلام وفحيحهم أحال الحافلة إلى سيرك متحرك .. ولما تبدت النيران التي أشعلها شعبنا كسياج محيط بشرق المدينة بدأ صوتهم يخفت مع بعض الهمهمات المضطربة ولعق الشفاه والأصابع ...
ـ " استعدوا .. سنقهر عدوتنا النار .."
صاح بها يسرم وهو يزيد السرعة بأقصى ما يملك..
ومرقت الحافلة من أتون النار الملتهب وعبرته إلى الجهة الأخرى..
ولمح يسرم العشرات من المرابطين خلف النار يتراجعون متحاشين الحافلة التي تنقض عليهم من بين النيران كالعنقاء..
ـ " مزقوهم .. "
ولم يكن الظلاميين بحاجة لهذا الأمر بالفعل لكنهم قبل أن يتحركوا قيد أنملة رأوهم قادمين .. كل ظلامي يعرف حقيقة هؤلاء القادمين وحقيقة تلك الأزياء التي تشبه أزياء رواد الفضاء .. وحقيقة تلك الأشياء التي يحملونها والمتصلة بأنابيب يحملونها على ظهورهم .. ولم يسمعوا صوت جلال قائد فرقة قاذفي اللهب وهو يعطي إشارة البدء ...
البدء في شي حصان طروادة..
وبينما يتصارع الظلاميون للخروج من الحافلة ويصارع يسرم كي يتراجع بها بدأ حفل الشواء .. تحولت الحافلة إلى كتلة ملتهبة .. كتلة ملتهبة تنفصل عنها كتل صغيرة كانت منذ قليل كائنات ظلامية تحلم بوجبة طازجة من الدماء .. البعض نجح في الخروج من النوافذ والقفز عبر كتلة النيران .. لكن محسن ومعه العديد من قناصة الأسطح أثبتوا كفاءة غير عادية في اصطيادهم ..
يسرم قفز من النافذة المجاورة لمقعد القيادة وكور جسده وهو يتدحرج بعيداً عن النيران وسمع دوى الطلقات التي ارتطمت بالأرض بالقرب منه ... وحينما اعتدل لمح جلال يصوب ناحيته قاذفة اللهب فقفز في الهواء وتعلق بإحدى أنابيب الصرف وبدأ يتسلقها كالقرد وفي سرعة شيطانية ... وخارج جدار النار وقف من تبقى من الظلاميين وقد احجموا عن خوض النار بأجسادهم .. وقفوا ينصتون إلى صراخ إخوانهم ويتراجعون لاإرادياً..
لقد انتهى أمرهم.
بالفعل انتهى أمر الحافلة التي اقتحموا بها النيران .. ولم يبق سوى بعض الفارين عاثري الحظ الذين نجحوا في التسلل إلى بعض البيوت لكن تبين لهم أن نار رجال السلطة والشعب أرحم بكثير من الوقوع في قبضة نساء شرق المدينة .. وهكذا رأينا الظلاميين الذين روعوا غرب المدينة يفرون ولهم صراخ من أمام نساء شرق المدينة المدججين بعصي المكانس وأواني الألومنيوم..
إحدى هؤلاء النسوة وثبت بواحد من الفارين وأقسمت أن تعصره عصراً حتى ينز كل قطرة دم امتصها من عروق أبناء شعبنا في غرب المدينة.. طبعاً تحول الظلامي إلى ما يشبه العصيدة..
وجاء المعلم فوزي حاملاً عكازه الذي ورثه عن أبيه وخلفه عدد لا بأس به من رجال المقاومة .. وصاح في غضب هادر :
ـ لا تجعلوهم يتسللون إلى الحريم.. لو مس أحدهم طرف واحدة من نسائنا فأقسم أن..."
وابتلع بقية عبارته وهو يتأمل الظلامي الذي تحول إلى عصير طماطم طازج بين يدي ما أطلق عليهم (حريم).. ثم التفت إلى الرجال خلفه قائلاً :
ـ " كفى الله المؤمنين شر القتال "
نادر كان يتابع تسلل يسرم عبر مواسير صرف إحدى البنايات وكان يعرف أنه يقصد القناصة المرابطين يحمون ظهر الرجال على الأرض.. وحينما هم بالنهوض خلفه فوجئ بحشد من الرجال يحيطون به من كل جانب في رسالة واضحة .. لن نتركك تغامر بنفسك ونحن متوفرون ..وسمع صوت جلال يهتف :
ـ " إنه مجرد واحد أيها القائد.."
لكن نادر صاح به وبمن حوله :
ـ " نعم هو شيطان واحد يمكنه شرب دماء نصف سكان شرق المدينة.. نبهوا القناصة فوق السطح وليصعد بعضكم لدعمهم "
ارتفع الصياح التحذيري بالرجال فوق الأسطح على حين تحرك البعض لدعمهم كما أمر نادر..
أما يسرم فقد نجح في الوصول إلى نهاية أنابيب الصرف بتلك البناية وقفز فوق سطحها ولم يكد يستقر حتى وثب برجلنا هناك
وتكور الاثنان أرضاً.. رجلنا فقد سلاحه مع السقطة لكنه قاوم يسرم بشراسة.. والأخير كان يعرف طريقه جيداً إلى عنقه..
بعد ثوان خارقت قوى الرجل فتركه ورفع طرفه ليبصر السطح المجاور.. كان يتعمد الزحف محتمياً بسور السطح من طلقات القناصة المجاورين.. وفي اللحظة المناسبة يثب وثبة هائلة يعبر بها الفراغ الفاصل بين الأسطح ويهوي على سطح جديد بحثاً عن المزيد
من الرجال.. ولم تكد قدميه تستقر هذه المرة حتى تلقت رأسه ضربة هزت كيانه .. ولمح بعينين زائغتين الشاب محسن وهو يتحسس النرجيلة التي هوى بها لتوه على رأسه والتي تهشمت قاعدتها الزجاجية..
ثم هوى يسرم كالحجر بين يدي محسن الذي سارع إلى حافة السطح وصاح في حنق :
ـ " لقد أسرت أحدهم ... وتحطمت النرجيلة !!"

***

أحبطنا محاولة الظلاميين الولوج إلى شرق المدينة وفر من بقي منهم بعد أن سقط زعيمهم يسرم ....
من سوء حظ محسن أن ذخيرته نفدت.. فاضطر إلى ضربه بزجاجة النرجيلة الثقيلة .. لقد تهشمت الأخيرة وفقد محسن أعز ما يملك وهو مستعد جدياً لتلقي العزاء في تحطم النرجيلة..
أمر نادر بإحصاء الخسائر، لقد فقد أبناء شعبنا مجموعة من الأبطال كانوا بالأمس بلطجية يثيرون الفزع في قلوب الشعب ... فختم لهم بخاتمة خير.. وصاروا أبطالاً يحتسبون في مصاف الشهداء... مجموعة سمكة راكبي الدراجات الذين حصدهم يسرم بالحافلة حصداً لم يعد منهم أحداً .. أمر نادر الضابط جلال بعمل جولة استكشافية ومعه عدد من السيارات فعاد بعد ساعة محملاً بالجثث .. جثث تم دهسها وامتصاص ما بقي فيها من دماء .. وأمر نادر بدفن الجثث سريعاً حتى لا تفت رؤيتهم في عضد بقية المقاتلين.
ـ " هل هناك مفقودين ؟.."
قالها نادر فأجابه جلال واجماً :
ـ " لم نجد سمكة ولا وزة ...."
ـ " هذا يعني أنهم أحياء ؟.."
هز جلال رأسه في بطء نافياً وهو يقول :
ـ " هذا ليس مؤكداً.. ربما حملوهم معهم في رحلة العودة كخزين للطعام ..."
تقلصت أمعاء نادر وهو يتخيل .. رباه .. منذ ساعات كان يحدث سمكة والأن لم يعد هناك سمكة ... ولم يتخيل يوماً لا هو ولا جلال ولا أحد من سكان شرق المدينة أن رحيل سمكة سيسبب لهم كل هذا القدر من الحزن والأسى ..

***

لكن من قال أن سمكة رحل أصلاً ؟..
صحيح أن الكائنات الظلامية التي تخلفت عن الركب أحاطت به وقد أثارتها رائحة الدماء التي بدأت تنزف من جروحه لكن .. وزة أيضاً كان ما يزال حياً .. وما يزال قادراً على إلقاء زجاجات المولوتوف ..
ـ " وزة .. مرحى يا رجل ..."
وتناثر الشرر وتفرقت الكائنات في كل مكان .. والمحصلة هي احتراق ثلاثة منها .. وكان لابد من الفرار قبل أن تعاود البقية الهجوم.. جرى سمكة ناحية الدراجة وقام برفعها وخلفه وزة يطلق بعض الخرطوش فيتناثر البلي الحارق على الأجساد الظلامية .... هنا وثب أحدهم وأنشب أنيابه في ساعد سمكة الذى يمسك بمقود الدراجة فأطلق صرخة عاتية ثم أهوى بقبضته الأخرى على رأس الكائن حتى تخلى عن ساعده.. ووثب فوق الدراجة ووثب خلفه وزة وهو يحشو سلاحه بالخرطوش ..
ـ " لم يعد معي مولوتوف .. والخرطوش قرب على النفاد ..."
ضغط سمكة على أسنانه وهو ينطلق بالدراجة صارخاً :
ـ " تشبث جيداً .. سنعود لرفاقنا ..."
ـ " رفاقنا ماتوا يا سمكة .. ولم يعد لنا رفاق ..."
هز سمكة رأسه في عنف قائلاً :
ـ " ما زال لنا رفاق في شرق المدينة يا وزة وهم بحاجة إلينا.. "
هنا انقض أحدهم عليه من الأمام .. ولم يعد يرى شيئاً ..
وصرخ وزة .. وصرخ هو والألم يعصف به.. الوغد ينشب أسنانه في رقبته وصوت لهاثه المسعور يفعم أذنيه.. و.. انقلبت الدراجة البخارية على جانبها وقفز وزة للوراء متخلياً عنها .. على حين ظل الكائن متشبثاً بعنق سمكة والدراجة تزحف بهما مسافة لا بأس بها على الأرض الإسفلتية قبل أن تسكن أخيراً .. لم تفلح الضربات المحمومة مع الوغد المتشبث لذا فقد مد سمكة كفه في جيب سرواله وأخرج مطواته الأثيرة (قرن الغزال)ودون تردد أولجها في جسد الكائن .. لم يعد يفرق هل هذه دمائه أم دماء الكائن الذى مزقه بمطواته لتوه.. كان الدوار يكتنف رأسه وشعر بضعف عام نتيجة ما فقده من دماء لكنه حاول أن يعتدل ليطمئن على وزة ..
لقد قفز الأحمق من فوق الدراجة قبل أن تنقلب وهى طريقة أسرع للموت في أحيان كثيرة لمن يريد تفادي انقلاب الدراجات .. سرعان ما يسقط على شيء ما فتدق عنقه أو تتهشم جمجمته.. ترى إلى أي المصيرين صرت يا وزة يا صاحب العمر .. هنا صكت أذنيه أصوات المص والبلع وهاله المصير الأسوأ لصديق عمره..
ـ " لاااااااه ..."
كان هناك حشد من الكائنات عاكفون على مص دماء وزة الذى بدا ساكن الحركة تماماً ولا يكاد يرى منه إلا قدميه من كثرة تكالب الكائنات الظمآى على جسده .. وصرخ سمكة صرخة أخيرة أودعها كل ما تبقى فيه من قوى ثم مادت به الأرض ونما إلى مسامعه وهو يهوى في دوامة الضعف والوهن صوت طلقات تدوى من ورائه ..وحينما حاول أن يلتفت سقط على ظهره .. ورأى مشهداً مشوشاً لسيارة ضخمة فوقها طبق إرسال ومن سطح الكابينة برز شخص يصوب مدفعاً رشاشاً ويطلق منه الرصاص .... ثم أحاط بناظريه الضباب الكثيف وتلاشى كل شيء خلف جدار من السواد الحالك..
ـ " سيكونون بخير ... رغم ما فقدوه من دماء ..."
هذا أول ما نمى إلى مسامعه وهو يفتح عينيه في بطء .. كان لابد له أن يسأل السؤال الأبدي الذى يسأله كل من يفيق من غيبوبة ..
ـ " أين أنا يا أولاد الـ..."
رفع ب ـ 1 أحد حاجبيه قائلاً :
ـ " أهدأ .. لقد قمنا بإنقاذك .."
بدأ سمكة يستوعب المكان حوله .. هو داخل مكان يشبه عربة الإسعاف من الداخل ... هناك فراشان متجاوران كان هو نائماً على أحدهما ووزة نائماً على الأخر .. هناك محاليل تم توصيلها إلى عروقهما .... كان وزة يتنفس في عمق .. إنه حي ... واكتسى وجه سمكة بالامتنان وهو يقول :
ـ " ما ظننت أنني سأفتح عيناي مرة أخرى .. الشكر وحده لا يكفي يا .. يا..؟"
ـ " ب ـ1 .."
ـ " بماذا ؟!.."
ابتسم ب ـ 1 وهو يراقب شيء ما على شاشة حاسوب وضعه على منضدة صغيرة أمامه ثم قال :
ـ " هو جاهز الأن يا سيد نوسام .."
أعتدل سمكة في حركة حادة كادت تقلب عمود المحاليل وهو يتذكر ذلك الاسم .. رباه .. إنه لم ينجوا بعد إذن .. لقد عاد إلى قبضة سيده القديم ..
هنا دوى الصوت المميز للسيد نوسام :
ـ " حمداً لله على سلامتك يا سمكة .."
قال سمكة في تردد وهو يرمق شاشة الحاسوب التي نقلت صورة للسيد نوسام وهو داخل مكان يشبه القبو :
ـ " سمكة لن ينسى هذا الجميل لك يا خواجه ..."
حك نوسام وجنته بظفره وهو يقول في بطء :
ـ " هل أنت بحالة جيدة يا سمكة فعلاً ...؟"
ابتلع سمكة ريقه وهو ينظر لـ ب ـ 1 ثم قال :
ـ " الفضل يعود لرجالك يا خواجه ...."
ـ " أنت رجلي أيضاً يا سمكة ... لكن .. هل تذكر اتفاقنا ؟..."
صاح سمكة بسرعة :
ـ " هؤلاء الحمقى أفسدوا كل شيء ... كنت قريباً جداً من الهدف وعلى وشك النيل منه .. حتى بادر الظلاميون بالهجوم الأحمق ووجدت نفسي أقاتل إلى جانب الشعب مضطراً .. وكاد الظلاميون الحمقى أن يقتلوني .. بدلاً من أن يساعدوني ..."
أنهى سمكة دفاعه وكتم أنفاسه منتظراً النتائج .. وتمنى في سره أن يكون نوسام أحمقاً بما يكفى ليصدق ... كان الأخير ينصت وهو مرتكز بذقنه على كفه وظل صامتاً لبرهة.. حتى بدأ العرق يتفصد من جبين سمكة..
ـ " أنت محق ..."
حاول سمكة أن يكتم زفرة حارة كادت تفضحه على حين استطرد نوسام قائلاً :
ـ " الظلاميون همجيون غير منظمون .. شهوانيون .. وأخطر ما فيهم .. لا يقدرون قيمة التواصل عبر الوسائل الحديثة .... والحمد لله أن الفريق ب وصل إليك في الوقت المناسب .. الأن ستعود يا بطل إلى معسكر شعبكم الباسل وأعدك هذه المرة .. أنه لن يحول بينك وبين الهدف شيء .."
ثم تحول بالكلام إلى ب ـ 1 قائلاً :
ـ " ب ـ 1 .. ستنزلون سمكة ورفيقه عند أقرب نقطة يمكنهم بعدها السير حتى يصلوا إلى اللجان الشعبية ...."
هنا تذكر سمكة شيئاً :
ـ "وزة لم يستعد وعيه بعد .. كما أن الدماء التي فقدناها..."
قاطعه ب ـ 1 قائلاً :
ـ " تم عمل نقل دم لكليكما وسيفيق صاحبك قبل شروق الشمس .."
ـ " والطعام .. أنا جائع بشدة .. ولا شك أن وزة سيكون كذلك ..."
أطلق نوسام ضحكة عارمة قبل أن يسعل هاتفاً :
ـ " كح .. كح .. طلباتك أوامر يا (سي) سمكة .. "
ثم انقلبت سحنته فجأة وهدر صوته في توحش :
ـ " ولا مجال للفشل هذه المرة .. أريد رأس ذلك الوغد نادر لأزين بها حجرة مكتبي .. أنا مستعد أن أتحول لظلامي أخر كي أتمكن من شرب دمه ...."
أما سمكة فقد حمد الله في سره ... فنوسام فاقت حماقته كل توقعاته.. رباه .. لقد كتب له النجاة من موت محقق .. وعلى يد من .. الرجل الذى خدعه .. ومازال يخدعه ... وبينما اختفت صورة نوسام توجه ب ـ 1 إلى ثلاجة صغيرة بجوار المنضدة التي يضع عليها الحاسوب وتناول بعض المعلبات ثم قذفها في حجر سمكة الذى تأملها في شك .. ثم رفع طرفه إليه وهز رأسه في عنف قائلاً :
ـ " لا .. لا أريد دواء ... أنا أكره الدواء ..تباً.. لماذا تضحك يا أبله؟"

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-25-2016, 10:08 PM
المشاركة 14
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(9)

ظل رجال اللجان الشعبية يضحكون حتى انقلب بعضهم على بعض وهم يستمعون إلى قصة سمكة ورفيقه وزة... ورتب جلال على عاتق سمكة وهو يقول مبتسماً :
ـ " لقد تحولت إلى بطل شعبي يا سمكة ..."
ـ " مثل أبطال (الحواديت)؟ "
قالها سمكة والسعادة تبض من وجهه رغم إرهاقه .. فتعالت الضحكات من حوله على حين ظل نادر صامتاً لبرهة وهو ينظر لسمكة ووزة .. بلطجية الأمس أبطال اليوم ...
وساد الصمت انتظاراً لكلمته..
ـ " ربما غداً تكتشف أنك كنت أعظم من كل أبطال (الحواديت).. على الأقل أنت حقيقة يراها الجميع .."
ثم إنه استدار في مواجهة الجموع المحيطة..
وتفرس في وجوههم.. جلال.. محسن.. المعلم فوزي ..الشيخ حسن الفقي.. وشاع على وجهه البشر مردفاً :
ـ " كلكم أبطال تلك الملحمة.. ملحمة شعبنا الذي قهر الظلاميين بعون ولطف من الله.. هنا في شرق المدينة.. سيتوقف التاريخ طويلاً أمام ما فعلتموه.. "
وفي زاوية المشهد وقف العوادلي يداعب ذقنه بأنامله .. يبحث له عن دور من أدوار البطولة التي توزع .... ولما تأكد أنه خارج إطار البطولة قرر أن يجد لنفسه موضع حجر .. رفع كفه ونعق مثل الغربان ..
ـ " ربما نكون قد دحرناهم في الشرق .. لكن مازال الغرب بأيديهم .."
التفتت إليه الوجوه .. وشاعت ابتسامة رائقة على وجه نادر وهو يصيح :
ـ " ومن قال أن التاريخ سيتوقف هنا في الشرق للأبد.. ألا تشاهدون ..."
وتحرك المعلم فوزي ناحية شاشة المرئي الضخمة التي أحضرها من المقهى لتسلية المقاومين وقام بتشغيل البث المباشر لأخر الأخبار .... الأخبار تأتى من الغرب يومياً تحت سطوة الظلاميين ... فالمذيع من هؤلاء يذيع الموجز وهو يتلفت حوله .. لو أخطأ في حرف فستكون نهايته السريعة وإلا فالكل ينتهى أمره إلى طعام .. اليوم خرج المذيع على الشاشات هادئاً ثابتاً مستقراً ......
وانعقد حاجبي العوادلي و احولت عيناه تقريباً وهو يستمع للمذيع الواثق يقول :
ـ " انتهى الكابوس .. سقط قائد الظلاميين في الشرق أسيراً وجاري السيطرة على فلول الظلاميين في الغرب ...."
واختفت صورته لتظهر صورة حية من الشارع في الغرب .. جحافل من الشعب الذى قرر ألا يكون طعاماً للظلاميين .. يطوفون بالشوارع.. والويل كل الويل لأى ظلامي عاثر الحظ يقع في طريقهم .. وفي السماء حلقت طائرات تابعة لقوات السلطة ..
" معظم السلاح الخفيف والثقيل والآلات العسكرية مخبئة في مخازن سرية غرب المدينة ولابد أن نصل إليه.."
وتصايحت الجموع ملوحة لسرب الطائرات ..
والتفت جلال بحدة إلى نادر الذي بادله النظرات التي تداري الكثير
وعادت صورة المذيع مع صوته :
ـ " لقد عادت السلطة المتوارية .. عادت إلى ميدان المعركة ..عادت إلى الشعب .. "
كاد العوادلي أن يفقد وعيه على حين تعانق محسن مع المعلم فوزي .. ورفع جلال قبضته وهزها في قوة... وهرش سمكة مؤخرة رأسه في عدم فهم... وعقد نادر ساعديه أمام صدره وهو يبتسم في رضا .
وبعين الخيال رأى وجه ما.. وجه أسود مكفهر.. يتابع الأخبار بعينين لا تريان.. لو كان نوسام آدمي المشاعر لمات بالفالج الأن..
ـ " ألم يحن الوقت بعد؟"
التفت نادر فإذا بجلال ينظر إليه نظرة إجلال.. فابتسم في غموض واطرق للأرض متسائلاً :
ـ " لأي شيء؟ "
حك جلال أنفه وهو يضيق عينيه قائلاً :
ـ " لنعرف حقيقة من كان يقودنا.."
اتسعت ابتسامة نادر غموضاً وهو يرنو للأفق..
ـ " أتدري يا جلال.. هذه المدينة التي تضمنا جميعاً.. بشرقها وغربها.. مدينة مغرقة في العراقة والقدم.. وليست بالسهولة التي قد تبدو عليها أمام الأخرين.. إنها أصعب وأمنع مما تتخيل.. وستظل كذلك إلى ما شاء الله.."
ـ " كنا على علم منذ البداية بما سيحدث أليس كذلك؟.. لم يكن في تحركاتنا أي ارتجال.. فلماذا تركناه يحدث؟ "
شرد نادر كأنما يستعيد ذكرى ما.. وبدأ يهمس كأنما يحدث نفسه:
ـ " الخطة كانت كما يلي.. سنمتص الصدمة.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذه كانت الخطة وعلى هذا كان العهد.."
ـ " عهد من؟ "
ـ " عهد الرجال.."
غمز جلال بعينه قائلاً :
ـ " كلنا رجال.."
أومأ نادر برأسه واكتسى وجهه بالأسى :
ـ " اتحدث عن الرجال الذين لا يعرفهم أحد.. ولا يتذكرهم أحد إلا كالحلم العابر الذي تنسى تفاصيله بمجرد الاستيقاظ.. لكن يظل مذاقه في حلقك ما حييت.."
ـ " تتكلم مثل الشعراء.."
ابتسم نادر بركن فمه وشردت عيناه مرة أخرى بعيداً وهو يهمس:
ـ " كذلك هم.. فرسان شعراء.."

***

في مكان ما بشرق المدينة فتح يسرم عينيه ليجد نفسه في قفص حديدي داخل غرفة لها باب واحد ونافذة واحدة يتسرب منها ضوء القمر.. الغرفة تبدو كمخزن قديم تم إعداده لينزل فيه سجيناً..
قفز ناحية باب القفص وضرب رأسه به عدة مرات وهو يعوي كالذئاب..
بعد قليل انفتح الباب ودخل منه جلال ومعه نفر من رجال السلطة
لم يكد يسرم يلمحهم حتى أطلق فحيحاً غاضباً:
ـ " أنا جائع.."
نظر إليه جلال بلا مبالاة قائلاً :
ـ " القائد جاء بنفسه ليقابلك.."
تقلص وجه يسرم وهو يتذكر وجه نادر ذلك الشباب الذي ظهر فجأة
وقلب الأمور رأساً على عقب..
ـ " أنا جائع يا حمقى.. ألا تفهمون.."
هنا برز نادر وخلفه العوادلي فتراجع يسرم وانكمش في ركن القفص.. تساءل نادر :
ـ " ألم تطعموه..؟ "
قال جلال :
ـ " طعامنا لا يعجبه.. إنه يريد دماء.."
التفت نادر إلى يسرم ثم اقترب من القفص..
ـ " أيها القائد.."
شعر بكف جلال المضطربة تحول بينه وبين التقدم لكنه ردها برفق
مطمئنا إياه.. ثم واصل الاقتراب حتى لامس وجهه القفص الحديدي وهو ينظر ليسرم في ثبات..
ـ " هذه معاملة غيـ..غير أدمية بالمرة.."
هذه كانت من العوادلي طبعاً.. التفت إليه جلال محنقاً فتراجع متحسساً عنقه وقال :
ـ " لابد أن نحرص على سمعتنا أمام الشعوب "
قال نادر دون أن يرفع عينيه عن يسرم :
ـ " هذا السجن أفضل بكثير من باطن الأرض حيث جاء يا دكتور.."
هنا وثب يسرم واقفاً في منتصف القفص وصاح :
ـ " أريد طعام يا حمقى.. ألا تفهمون.."
رفع العوادلي سبابته قائلاً :
ـ " هذا حـ.. حق من حقوق الإنسان.."
كور جلال قبضته حول فمه كأنه متردد في لكم العوادلي.. ثم إنه قال بغيظ مكظوم :
ـ " إن كان شرب الدماء الإنسانية حق من حقوق الإنسان.. فيمكنك أن تتبرع له بدمك يا دكتور "
هرب الدم من وجه العوادلي وتحسس عنقه مرة أخرى قائلاً :
ـ " أنا لا أقـ.. أقصد هذا.. لكن هناك دائماً بديل للدماء البشرية.."
هنا قال نادر وهو يرمق العوادلي بنظرة جانبية:
ـ " البديل هو أن يعود لبشريته يا.. دكتور..."
ثم عاد ينظر ليسرم والأخير يتضور جوعاً.. هذا المسخ لا يشغل باله الأن إلا الطعام.. وفكر نادر.. لو لم تكن هناك قضبان حديدية
تحول بينهما.. لمزقه إرباً.. هذا الكائن يستحق القتل مئات المرات..
لكن.. ليس الأن..
ـ " لا يوجد هنا فئران؟.."
قالها يسرم زاحفاً على ركبتيه وهو يتشمم الأرض..
غمغم جلال متقززاً :
ـ " مع أي مسوخ قذرة نتعامل؟ "
رفع يسرم وجهه إليه وأطلق فحيحاً غاضباً :
ـ " ستدفعون ثمن هذا غالياً.. بنو الأصفر حلفائنا سيغزونكم لو تعرضتم لي بسوء.. لو كنت مكانكم لبحثت عن طعام لسيد الظلاميين
ومن يدري.. ربما فكرت ساعتها في الصفح عنكم "
عقد جلال ساعديه أمام صدره وتبادل النظرات مع نادر قبل أن يلتفت الأخير ليسرم قائلاً :
ـ " لو كان الشعب الأصفر قادراً على غزونا منذ البداية.. لما كان لمؤامرتهم الكبرى معكم أي معنى.."
لعق يسرم أصابعه وهو ينظر لنادر في غل :
ـ " أكيد.. أكيد.. نحن مهمون لهم.. كما أنهم مهمون لنا.. لكنهم قادرون على حرق الأرض من تحت أقدامكم.. لا أحد يتحدى سياسة
الشعب الأصفر.. ألم تتعلم شيئاً ممن سلفك.."
ابتسم نادر قائلاً :
ـ " نعم تعلمت.. تعلمت الكثير.."
مال جلال للإمام كأنه يستنطق نادر المزيد.. لكن الأخير استدرك:
ـ " لكنكم لا تتعلمون شيئاً ممن سلفكم يا سادة الظلام.."
كاد العوادلي يموت غيظاً وكمداً.. ذلك الظلامي الأبله يتكلم بلا حساب.. لذا حاول أن يوجه دفة الحوار بعيداً :
ـ " أنه يهـ.. يهذي من شدة الجوع.. أي علاقة تلك التي تجمع الشعب الأصفر رمز الحضارة والرقي بهؤلاء.."
قال نادر :
ـ " من الذي سعى للحوار مع الظلاميين.. كلنا شاهدنا التمثيلية السخيفة التي أداها مبعوث الشعب الأصفر مع هذا اليسرم.."
ـ " أنا متأكد أنـ.. أنهم خدعوا فيهم مثلما خدعنا كلنا فيهم "
ـ " إذن سنراهم قريباً معنا ضد الظلاميين؟ "
ابتلع العوادلي ريقه.. وبدا كأنه قد أسقط في يده.. لكنه حاول أن يجيب :
ـ " ر.. ر.. ربما.. "
نظر نادر في ساعته قائلاً :
ـ " اعتقد أنك سهرت معنا أكثر من اللازم يا دكتور.."
كانت إشارة واضحة فعدل العوادلي من ربطة عنقه وأستأذن في الانصراف وهو يتمنى للجميع ليلة سعيدة..
وبعد انصرافه تردد من جديد عواء يسرم الجائع.. طرق نادر على قضبان القفص الحديدي وقال:
ـ " تريد دماءً حارة؟.."
فغر يسرم فاه.. وسال الزبد من بين شدقيه وعينيه متعلقتان بشفتي نادر وهو يكمل :
ـ " يمكنك أن تحصل على ما هو أفضل لو تعاونت مع أخونا جلال"
وحينما غادر نادر محبس يسرم همس لجلال :
ـ " هذا الظلامي الجائع كنز معلومات.. أريدكم أن تعصروه حتى أخر قطرة.."
ـ " والعوادلي؟ "
ـ " ليس الأن.."
وتركه قبل أن يسمع منه أي تعليق..

***

في اليوم التالي انقلب العالم رأساً على عقب ..
العالم أشبه بحافلة يرى فيها لص يسرق عياناً بياناً ولا يتحرك أحد.. حتى يقرر أن يخرج أحدهم ويهلل : هذا لص .. فتنهال على الأخير الصفعات والركلات .. كان العالم بانتظار ذلك الـ ( جدع ) الذى سيطل برأسه ويدلي بدلوه لتتبعه الجموع .. وهذا الجدع بالمناسبة كان ..
سيد الشعب الأصفر ..
خرج وأعلن للجموع أنه قلق لما يحدث للشعب الأسمر .... ودعا للهدوء وضبط النفس والحوار ... ثم أنهى بيانه وطلب رجله هناك .. كان بحاجه إلى إفراغ شحنة الغضب في أحدهم ... وكان نوسام يستحق ..
ـ " مازال الوقت مبكراً لنعلن فشلنا يا سيدي .."
ـ " متى إذن ؟. عندما يعلن عدونا فشلنا على الملأ .."
ـ " لدي خطة "ـ قالها نوسام وهو يضغط على أسنانه ـ " أقسم لك بتاريخي كله لن تفشل خطة القرون ... خطة الأجداد .."
جائه صوت زعيم الشعب الأصفر متأففاً :
ـ " أشرح لي خطتك .. وبناء عليها نبحث أمر بقائك هناك من عدمه"
وبدأ نوسام على عجالة من أمره يشرح الخطة البديلة .. كان يشرحها وهو يسمع صوت صراخ الظلاميين وهتاف الشعب الأسمر ... كان في أحد الأبنية المطلة على الشارع الرئيس .. المطل على ملحمة شعب يفيق من ثباته العميق ... وما أشد هذا على نوسام إنه لا يتخيل شعبنا إلا نائماً وغارقاً في المتاهات التي يصنعها هو وأسلافه ...
وأنهى نوسام المكالمة مع زعيم شعبه والتفت إلى دشرم .. أين أنت أيها القذر؟.. ها هو ذا متعلقاً ببعض الأستار يرتجف في رعب وهو يرمق الطريق الرئيس والشعب الحاشد ...
ـ " دشرم .."
صرخ نوسام فطار دشرم كأنما أصيب بصاعقة وتدحرج عند قدمي سيده وهو يلهث ثم رفع طرفه إليه مناشداً :
ـ " أرجوك يا سيد .. لقد تلقى شعبنا الظلامي لطمة عاتية لم يتلقى مثلها من قبل ..."
جذبه نوسام من عنقه وقربه إليه :
ـ " السبب هو .. الحماقة .. الاندفاع .. الهمجية .."
كان يتحدث وهو يضرب برأس دشرم الجدار والأخير تدور عينيه في محجريهما ... أخيراً تركه يسقط على الأرض واعتدل مكملاً :
ـ " الأن على أحدهم أن يسمع ويطيع دون أن يتدخل من عند نفسه .. نوسام لديه خطة .. كل شيء يمكن أن يعاد بنائه ..."
ورفع عقيرته مستطرداً في جنون :
ـ " إننا نصنع قدرنا ..."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-25-2016, 10:10 PM
المشاركة 15
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(10)

في اللحظات التالية كانت شعوب العالم الصفراء والخضراء والزرقاء تشاهد بثاً حياً ومباشراً للمذابح المروعة التي أحدثها شعبنا (الدموي!!) في صفوف الظلاميين (المساكين!)... وما بقي حياً منهم كان يظهر على الشاشات باكياً مستغيثاً بقوى العالم الرحيمة .. أرجوكم .. أنقذونا من جحيم إخواننا .. واحداً من هؤلاء ظهر يحمل لافتة كتب عليها بلغة بنى الأصفر .. " لا للاضطهاد ".." لا للمحارق " .. "لا للسلطة الغاشمة ".. وحينما سأله المراسل عن سر الدماء التي تسيل من شدقيه قال بكل أسى أن أحد قاذفي اللهب نفدت أنابيبه فقرر أن يوسعه ركلاً بدلاً من شيه حياً .. وهذا طبعاً من حسن حظه.. وطبعاً أخذ يكشف للكاميرات عن مواضع الضرب والركل في مؤخرته.. واستفاد المشاهدون معلومة أن الظلامي حينما تركله في مؤخرته يسيل الدم من بين شدقيه.. هذا يحدث.. ويجد من يصدقه..
جثث الظلاميين المتناثرة .. على مساحات شاسعة توجع القلب فإلى متى تستمر حملة الإبادة الجماعية العرقية لتلك الكائنات الظلامية الوادعة !.. وإلى متى الصمت الشعوبي العالمي على تلك المجازر!
هنا يخرج المتحدث الرسمي للشعب الأصفر ليعلن أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إبادة شعب كامل لا يريد سوى حقه في الحياة .. دموع كثيرة سالت عبر العالم وانحدرت عبر جبال المشاعر لتستقر في وديان الضمائر المتوهجة مكونة نهراً ثائراً من الغضب الجامح .
انقلبت موازيين الأمور.. ببضع كاميرات وحفنة محطات بث فضائي أغرقت العالم في بحر من الترهات والأكاذيب .. هذه كانت أدوات نوسام والكارت الرابح والأخير لقلب الأمور شعوبياً ويبدو أنه قد نجح .. لقد صار العالم في واد .. وشعبنا المكافح المناضل ضد الظلاميين في وادٍ أخر ....
نست شعوب العالم حقيقة الظلاميين التي تعمد أحدهم إخفائها.. ونست تصريحات سابقة لسيد الشعب الأصفر.. يوم استولى الظلاميون على غرب المدينة..
" إننا نشعر بالقلق لما يحدث .. استيلاء الظلاميون على مقدرات شعب عريق مثل الشعب الأسمر شيء محزن .."
(وما كان للشعب الأصفر مرهف الحس !! أن يترك شعبنا المسكين لحفنة من الظلاميين ! )
وكما قلنا ونكرر : النسيان هو أفة الشعوب .. وإن كان النسيان أفة شعبنا اللاإرادية .. فهي عند كثير من الشعوب الأخرى .. أفة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد ..
وهكذا وجد نادر وزمرته أنفسهم أمام معركة من نوع أخر...
معركة إعلامية ...
وكان لابد من صد تلك الهجمة الشرسة بأخرى مماثلة.. كاشفة فاضحة ..
ـ " دكتور العوادلي .. هذا وقتك .."
تلعثم كعادته ورمش بعينيه عدة مرات مستفهماً .. أشار له نادر إلى مبنى البث الشعبي قائلاً بنبره صارمة :
ـ " حان الوقت كي تظهر للعالم حقيقة المواجهة أنت رجل لك كلمة مسموعة ورأي راجح عند بنى الأصفر..."
ـ "حـ .. حقاً ..."
اضطر العوادلي أن يخرج أمام الشاشات ليعلن للعالم أن شعبنا الأسمر في مواجهة دامية مع قوى الشر والخراب ... لكنه لم ينس أن يدفع ب(إسفين) من (أسافينه) حتى لا يطير نوسام عنقه.. وهو أن على كلا الطائفتين المتقاتلين أن تعودا للحوار فبدت عبارته كالأفعى التي تأكل ذيلها ...... وحينما أنهى لقائه اقترب منه نادر وقال في مقت :
ـ " أي حوار يا دكتور ..؟"
وكور جلال قبضته لكن أصابع نادر أطبقت على ساعده ليهدأ ..
وتكلم العوادلي :
ـ " لا توجد حرب للأبد .. لابد أن نجلس للتفاوض .."
ـ " مع قوى الظلام.."
ـ " بعضهم فقط .. الباقون غلابه .. أي والله! ..."

***

البقية الباقية عادت إلى الفجوات والكهوف.. كانوا بحاجة لإعادة تنظيم لصفوفهم المهترئة..
قام دشرم بحشدهم وبدون تفاصيل (فالتفاصيل لا تقدم لعامة الظلاميين) خرج بهم إلى حيث قاع المدينة واحتشدوا هنالك حول الخرائب... تتبعهم كاميرات الإعلام الشعوبي تصور ما يجري لحظة بلحظة .. هذا شعب حضاري يتظاهر ويعتصم كما تفعل الشعوب المتحضرة !!.. وفي لقاء مع قناة شعوبية قال دشرم بعد أن سكب عبرتين :
ـ " لقد خطفوا ابني الوحيد يسرم ... لم نكن نعلم أن الأمور ستصل إلى هذا الحد حرقونا وقلنا لنا الله .. لكن تصل إلى الخطف .. هذا لا يحتمل !! "
وخلفه خفقت اللافتات التي تظهر صورة معبرة للمدعو يسرم وهو يبتسم في براءة مفزعة وعلت الأصوات بالصراخ والنحيب .. نريد يسرم .. فليفرجوا عن يسرم ... واستدار مراسل القناة ليختم اللقاء بكلمة مفحمة :
ـ " مسلسل الخطف.. إلى أين ؟...."
لم يتخيل شعبنا المناضل أن تكون المعركة بهذا الانحطاط ... وأن يصل الظلاميون مرة أخرى إلى السطح ويعتصموا في قاع المدينة تحميهم ترسانة إعلامية كاملة .. الاستمرار في مواجهة الظلاميين يعني شيء واحد ... التدخل من الشعوب الأخرى في شؤننا .... والبقاء يعني استفحال أمر الظلاميين مرة أخرى .. طريقين أحلاهما مر....
وجاء اليوم الذي طلب فيه السيد المبجل نوسام اللقاء الرسمي مع المسئول الأول عن شعبنا حالياً.....
وسبب اللقاء : التباحث بشأن الأحداث الراهنة.. فنحن شعب مهم جداً لبني الأصفر .. فهم لن يناموا ملء جفونهم إلا بعد أن تستقر الأوضاع عندنا !!
كانت كل ذرة في جسد نادر تنتفض غضباً وحنقاً ... سيلقى بعد قليل في مقر الحكم ذلك الوغد السافل الذى يحرق الأرض من تحت أقدام شعبنا... سيلقاه وسيحدثه كما يحدث السفراء وهو الذى تمنى أن يلقاه في الميدان ... رجلاً لرجل ... كان نوسام رجل الحوار الأول المنتدب من قبل شعبه ...
وكان نادر جالساً في حجرة المكتب الخاصة بالمسئول الأول لكنه ظل محتفظاً بزي رجال السلطة المميز لا يخلعه.. سيقابل نوسام المتأنق هكذا .. وهكذا لابد أن يبدو المسئول الأول عن شعبنا ....
من حوله انتشر رجال السلطة وعلى رأسهم جلال .. رفضوا تركه مع نوسام بمفرده ..
ـ " السلام عليكم ..."
قالها نوسام وهو يدلف إلى مكتب المسئول الأول وعلى وجهه ابتسامة عريضة وقام نادر ليصافحه فكاد يخلع كفه لولا أن الأخر سحبها في خفة وعدل من ربطة عنقه قائلاً :
ـ " إنه لشرف أن ألقاك أيها البطل الشعبي... وإنني لأتساءل .. إذا كنا قد جئنا من أجل الحوار فلماذا أرى جيش السلطة معسكراً في مكتبك .."
نظر إليه نادر ملياً ثم عقد ساعديه أمام صدره وقال :
ـ " وإذا كنت قد جئت للحوار من أول يوم.. فلماذا جلبت معك فريق الضباع؟"
أغمض نوسام عيناً وفتح عيناً وهو يدقق في وجه نادر .. آها .. هذا الشاب لا يبدو كما يبدو .. مجرد شاب من هؤلاء المتحمسين الذين ينتهى بهم الحال على المشانق ... ومرة أخرى تتجسد أمامه ذكرى ذلك الوجه المرعب .. وجه رجل الأمن الأول الذى يعرف الكثير .. والذى قرر أن يختفى فجأة هو والمسئول الأكبر.... لكن ها هو ذا يظهر من جديد في صورة شابة تنبض بالحيوية.... كان كلاهما ينظر إلى الأخر نظرة حادة فاحصة مترقبة ...
وطال الصمت بينهما قبل أن يقول نوسام في برود :
ـ " الفريق ب فريق علمي بحت .. وعلى العموم أنا لم أحضرهم معي.. فلما الخوف إذن..."
نظر نادر في عيني نوسام مباشرة.. ما الذي يحول بينه وبين ذلك الوغد؟
على الرغم من قرب المسافة بينهما إلا أن نادر شعر أن بينه وبين غريمه مفاوز وقفار ... مفاوز وقفار سيعبرها يوماً لكن ..
ليس الأن ...
حاول نادر أن يبتسم في وجهه فبدا كأسد يكشر عن أنيابه..
ارتجف نوسام وهو يفكر.. ما الذى يمكن أن يفعله معه ذلك الشاب المتهور.. وسام كان عجوزاً حكيماً .. هذا الشاب قد لا يتسم بنفس حكمة سلفه.. فقط لو قدر له وخرج من هنا حياً فسوف ينسفه نسفاً ..
لكن قبل هذا.. عليه أن يجالسه جلسة دبلوماسية !

***
ـ " والآن ..."
قالها نادر وهو يلوح بكفيه في بساطة بمعنى أنه مصغي ... فتلاشت الأفكار السوداء من رأس نوسام وقرر أن يعود للواقع..
ـ " أعتقد أنني أتحدث إلى شخص لا يحتاج إلى مقدمات .. كلانا يفهم الأخر .."
هز نادر رأسه نافياً في بطء وقال في برود :
ـ " كان هذا فيما مضى ... اليوم.. كلا الشعبين يفهم الأخر.. لم تعد المعركة معركة أمنية تحدث وراء الكواليس ...."
رفع نوسام كفه معترضاً :
ـ " لا توجد بيننا إلا المصالح المشتركة يا سيد نادر .. شعبي حريص على استقرار شعبك لأن هناك مصالح وتبعات .. "
ـ " قلت أن كلانا يفهم الأخر ... لم تكن أبداً العلاقة بين شعبينا علاقة حميمية... إلا في الظاهر فقط .. والمصالح التي تدعيها هي مصلحة الشعب الأصفر فقط .. شعب استعماري أباً عن جد .. ويفترض في شعبنا أنه مستعمر أباً عن جد.. هذه هي العلاقة بكل بساطة يا سيد نوسام .."
ـ " هذا كلام رائع ينم عن روح ثورية بارعة .. لكنه لا يمت بصلة لما نحن بصدده .. أنتم في ورطة يا سيد نادر .. العنف الداخلي سيؤدى بكم إلى الانهيار ... لابد من العودة للحوار .. وكنت قد قطعت شوطاً جيداً في هذا في زمن سابق وحان الوقت للوساطة التي تتبرع بها قيادة شعبنا لحقن الدماء .."
ـ " هذا مخيب للآمال يا سيد نوسام.. تصورت أنكم ستقفون إلى جانب شعبنا في حربه للظلاميين "
ابتسم نوسام بركن فمه..
ـ " لا أمل لكم إلا بالحوار.. ساعتها سيكون لكم كل الدعم من شعبنا الأصفر"
أطرق نادر إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال :
ـ " شعبنا لا يأمل إلا في الله ..."
رفع نوسام سبابته قائلاً في حماس :
ـ " ونحن أيضاً شعارنا.. في الله نثق...."
اقترب نادر بوجهه من نوسام واكتسى وجهه بصرامة أقلقت
الأخير :
ـ " لدي عرض أخر لكم يا سيد نوسام .. اتركوا شعبنا وشأنه ... شعبنا قادر على مواجهة مشاكله بنفسه دون وصاية من أحد .. شعبنا فهم من صديقه ومن عدوه.. في الداخل وفي الخارج.. ومن يفكر في الاعتداء على شبر واحد من أرضنا.. سنمحيه من فوق الأرض" خيم الصمت بعد عبارة نادر النارية.. وصداها يتردد في جنبات الغرفة.. حتى قطع نوسام حبل الصمت قائلاً :
ـ " لكنكم حتى الأن غارقون مع أعداء الداخل.... كما تفترضون .."
ـ " لا توجد حرب بلا خسائر ..."
ـ " الخسائر هذه المرة .. ليست ككل مرة ."
ـ " إنها كذلك لجميع الأطراف .."
ـ " العالم كله مشحون ضدكم .. هل ستواجهون العالم ؟"
ـ " العالم القديم الذي كان يدور في فلك واحد.. نعم.. أما العالم الجديد الذي سيبزغ نجمه في الأفق .. وإني لأراه بعين الخيال.. يحمل لنا الأمل في خوض معركة شبه متكافئة.."
فرك نوسام أذنه مفكراً ثم رفع حاجبيه قائلاً :
ـ " حسناً هناك طلب خاص من سلطة شعبنا ... هل يمكنني لقاء السيد يسرم.. بعض التطمينات على صحته وخلافه قد تهدئ الأوضاع .."
ـ " يسرم بصحة جيدة .. رغم أنه لا يتناول الدماء .. وستتم محاكمته علنياً أمام العالم بصفته قائد المذبحة التي جرت لشعبنا ... سيكون أول ظلامي يخضع لمحاكمة علنية بعد أن صار أول ظلامي يجري حوار مع العالم الخارجي .. وأنصحك أن تتابع المحاكمة جيداً يا سيد نوسام .. فستحمل لك مفاجئات أرجوا أن تكون سارة ..."
كان نادر يفهم أنه لن يفلح في استدراجه بكلمة.. ولن يبدى حتى أدني اضطراب أو قلق .. لكنه يعلم يقيناً أنه يغلي من داخله .. بعد أن وصلته كل الرسائل التي أراد هو أن يوصلها إليه.. جذب نوسام نفساً عميقاً وهو ينظر لنادر نظره خاوية ...
ـ " يؤسفني عدم استجابتكم لمناشدات شعبنا ... ليكن الله في عونكم فعلاً ..."
ومد يده مصافحاً وهو يستطرد :
ـ " احرص جيداً على حياة يسرم.. لا تدع أحداً يحرمه من محاكمة عادلة..."
وصافحه نادر ولم يرد .. لقد وصلته الرسالة الخاصة بحذافيرها .. وانتهى اللقاء التاريخي عند هذا الحد.. عاد نوسام إلى مقر قيادته في سفارة شعبه والتقى بالفريق ب لكنه يتبادل معهم أي حوار .. فقط تلقى اتصالاً من قيادة شعبه ويبدو أنه سمع مالا يرضيه ... أنهى الاتصال والتفت إلى رجال الفريق ب قائلاً :
ـ " يسرم لا يجب أن يحاكم ..."
قال ب ـ 1 :
ـ " نحن نحاول تحديد مكانه بالفعل ... لكن هل تعتقد أن هذا هو الكارت الوحيد .. "
قالها وهو يشير إلى شاشة مرئي في أقصى الحجرة .. كان هناك مؤتمراً صحفياً يعقده السيد سليمان .. مساعد السيد وسام رجل الأمن الأول سابقاً والمختفي حالياً..
وكان هذا يعنى أن ب ـ 1 صادقاً ... يسرم ليس الكارت الوحيد ...

***

أسئلة عديدة طرحت على السيد سليمان .. وجه قديم عاد للظهور وفي الوقت المناسب .. ماذا حدث للسيد وسام .. والمسئول السابق .. كان هذا هو السؤال الذى يتردد بأساليب مختلفة وطرق ملتوية .. لكن الإجابة كانت بأساليب مختلفة وطرق ملتوية : ليس الأن ..
فلاش .. فلاش .. همهمات .. ثم .. سؤال أخر :
ـ " أين كنت مختفياً الفترة الماضية ؟.."
ـ " اعتزلت الحياة الأمنية منذ اختفاء السيد وسام .."
ـ " وأين اختفى السيد وسام ..ومعه المسئول الأول ..؟"
ـ " لا أعرف تحديداً .. هل يعرف أحدكم ..؟ "
ـ " هل صحيح أنك تعاونت مع الظلاميين ؟.."
تزايد الصخب وضاع صوته وسط الهرج والمرج... هدوء .. هدوء يا سادة .. قام أحد الصحفيين الثائرين ووجه سؤال أشبه بالقذيفة :
ـ " أنت لم تكن مع السيد وسام حينما حاولوا اغتياله.. هل لهذا معنىً عندك؟ "
ابتسم سليمان قائلاً :
ـ " يعنى أنني كنت محظوظاً .."
عاد الضجيج مرة أخرى والمزيد من الفلاشات .. ورفع سليمان كفه مهدئاً :
ـ " أنا على استعداد لاحتمال المزيد ..."
تساءل نفس الصحفي :
ـ " هل كانت لك علاقة بالظلاميين؟.."
ـ " نعم.."
دوت الهمهمات المتفاجئة.. وأكمل السيد سليمان موضحاً وهو يبتسم:
ـ " علاقة الصياد بالطريدة.."
ـ " يقولون أنك تعاونت مع الظلاميين إبان سيطرتهم على غرب المدينة.."
ـ " يقولون!.. اعطني أسماء من فضلك أو اجلس واعطي فرصة لغيرك.."
جلس الصحفي بوجه أحمر.. وقامت صحفية وجهها لوحة سريالية من كثرة الأصباغ وصاحت بصوت حاد:
ـ " ما هي علاقة الظلاميين بالشعب الأصفر ؟"
هنا علاه الصمت لبرهة.. وتعلقت العيون بشفتيه التي انفرجت عن ابتسامة مقيتة.. :
ـ " علاقة الصنعة بالصانع .."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-28-2016, 11:38 AM
المشاركة 16
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(11)


(الجزء التالي من ملفات بني الأصفر السرية)
قبل قرن من الأن..
كان السيد فريمان من المؤسسين الأوائل لحضارة الشعب الأصفر..
إنه ذلك المزيج الفريد الذي لا يتكرر كثيراً.. إنه ذلك العسكري والسياسي والعالم ورجل الدين الواعظ ..
كان فريمان طموحاً ..كان فريمان عبقرياً .. وكان فريمان صبوراً..
كان يطمح في سيادة الجنس الأصفر ..عالم واحد.. حكومة واحدة..
اقتصاد واحد ..ثقافة واحدة .. دين واحد ..
كان عبقرياً لأنه فهم أن العالم لن يتحد تحت راية بني جنسه إلا بعد هزات واضطرابات عنيفة يركع بعدها العالم للنظام الجديد ..كان يفهم أن العالم لن يتحد إلا بعد ان يتمزق ويأكل الأخ لحم أخيه ..
وكل هذا لن يكون ولن يحدث وهناك شعب يقظ يقف دائماً حجر عثرة في سبيل طموحاته .. الشعب الأسمر ..
كان صبوراً .. لذا فقد عكف سنوات عديدة فقد فيها عدد لا بأس به من الشعر وشاب ما تبقى منه حتى أحكم مخططاته نظرياً وبدأ تنفيذها عملياً .. طبعاً بعد أخذ موافقة سلطة شعبه التي تتبنى أمثاله من العباقرة الواعدين ..
كان فريمان يهوى قراءة الروايات الخيالية وقد أثرت فيه رواية قرئها
يوماً ما عن مسافر الزمن ..الذي ذهب للمستقبل حيث صار الناس طبقتين .. طبقة مرفهة هشة تحيا على السطح وطبقة تحت باطن الأرض تتغذى على سكان السطح .. شغلت تلك الفكرة باله لسنوات وسنوات ..ما الذي يمنع حدوث ذلك بالفعل في المستقبل ..؟
ثم ابتاع قصة جديدة عن مصاصي الدماء فراقت له جداً .. تخيل لو كان يملك جيشاً من هؤلاء .. لن يحتاجوا لتموين ولا لسلاح .. تموينهم دماء الأعداء وسلاحهم الأنياب الحادة التي تنغرس في الأعناق ..
وابتسم في مقت ..وبدأ ينسج في خياله الفكرة التي سيعمل عليها شعبه جيل بعد جيل ..وكانت البداية في معمله الخاص.

***

( الجزء التالي من ملفات الظلاميين السرية)
قبل قرن من الأن.. على أرض الشعب الأسمر نشأ الشاب حسن انبلا أحد مواطني شعبنا الأسمر.. مواطناً متواضع الحال(وهناك من يشكك في أصوله أيضاً ) لكنه كان يحمل طموحات غير متواضعة بالمرة..
نشأ حسن أنبلا وسط الدراويش وهم طائفة من الممخرقين الصوفية حيث يرتمي المريد بين يدي سيده العارف كالميت بين يدي مغسله..
كان هذا يعجب أنبلا جداً وكان يطمح في أن يكون يوماً ما عارفاً يرتمي المريدين تحت قدميه لكنه كان يرى دائماً أن هناك شيء ما غير مكتمل في كل هذا .. هذه الطاعة العمياء من المريدين لا تستغل كما ينبغي لها أن تستغل ..
رجل يبحث عن السلطة .. والمجد .. المجد للشعب الأسمر .. لكن تحت راية حسن أنبلا وإلا فهو العار والشنار على هذا الشعب الطيب أن يطلب المجد تحت راية أخرى.
وطبعاً كان هذا سبباً في معارضة واسعة لأنبلا من شيخه العارف
ومن بعض رفاقه العقلاء الذين يشمون رائحة الكوارث قبل أن تقع ..
وكان هذا سبباً في حقد أنبلا على كل المثبطين.. حتى أنه تمنى يوماً أن يأكل حنجرة شيخه العارف ويشرب من دماء رفاقه ..هؤلاء هم الخونة الحقيقيون لفكرته الوليدة وهؤلاء سيدفعون الثمن يوماً وسيكون الثمن غاليا .
هناك من يجزم أن أنبلا لم يفكر في تأسيس جماعته بمعزل عن دسائس خارجية .. بل البعض يقول أن جماعة أنبلا خطط لها قبل ميلاد أنبلا نفسه .. لكننا سنرصد لكم اللقاء الأول .. بين الدرويش الشاب وعارف أخر لكنه من نوع فريد ..
ها هو ذا الفتى اليانع المفعم بالأطماع - والمحبط كذلك - يتسكع في قاع المدينة وسط الخرائب باحثاً عن شيء ما لا يدري كنهه ..
هنا لمح ذلك الظل القادم من الجهة الأخرى.. سرت في جسده رعدة وهو يرمق صاحب الظل المرعب ..
ـ " من أنت ..؟ شيطان ؟ "
همس صاحب الظل بصوت عميق :
ـ " ربما .. "
ومال عليه صاحب الظل المدثر بالسواد .. وأكمل :
ـ " وربما أسوأ .."
صاح في ريبة :
ـ " أنت من بني الأصفر ..؟ "
ـ " بلى يا أنبلا .."
ـ " وتعرف اسمي ..! "
ـ " أمثالك هم محط اهتمام شعبنا يا أنبلا .. أنت عبقري أخر يتوارى
وسط قمامة شعبكم .."
شاعت على وجهه ابتسامة جشعة .. كان ذكياً لا يضيع الوقت في ذعر لا معنى له .. لقد عانى بما فيه الكفاية ولم يعد هناك ما يثير ذعره
ـ " لم يعد لدي ما أخسره .."
ـ " الخسران ..كلمة لا وجود لها في قاموس شعبنا .. معنا ستكون إنسان جديد يا أنبلا .. فقط انضم للمعسكر الذي سينتصر .. "
ـ " ماذا تريدون ..؟ "
ابتسم فريمان وفرد كفه فإذا بها قارورة بها سائل أسود .. وقال بصوت كالفحيح :
ـ " روحك يا أنبلا .."
كان فريمان معجباً أيضاً بقصة فاوست الذي باع روحه للشيطان ..
وكان أنبلا فاوست أخر باع روحه لشيطان من شياطين الأنس .. فلم يتردد في قبول دعوة فريمان وكان مذاق القارورة مراً كالحنظل لكنه لم يعبأ .. لقد تذوق ما هو أشنع .. طلب منه فريمان أن يتردد عليه في نفس المكان ولا يتصرف من دماغه لو طرأت عليه أي تغيرات ..
تصور أنبلا أن تلك التغيرات ستكون قوة عاتية .. بدنية أو ذهنيه
لكن شيئاً من هذا لم يحدث .. فقط بدأ يعشق الظلام وينفر من الطعام العادي مع شبق عجيب لشيء لم يخطر له على بال .. الدماء .. مشهد الدماء وهي تقتر من الذبيحة المعلقة عند الجزار كان يثير جنونه .. شعر بالخوف ولم يفهم .. وحينما ذهب حسب الموعد للقاء فريمان فهم .. كان فريمان يحمل له طعامه الجديد ..
ـ " طعامك من اليوم هو الدماء .. ومسكنك هو الظلام .. أنت الأول لكنك لست الأخير .."
ـ " لقد صنعت مني مسخاً .."
ـ " لقد حققت لك حلمك .. ألم تتمنى يوماً شرب دماء أعدائك .."
هنا تذكر .. وجه العارف والرفاق الذين عادوا فكرته وثبطوه ..
وبرقت عيناه في جشع .. ونهم .. قال له فريمان مستدركاً :
ـ " لكن تذكر أن أمرك لن ينهض إلا بالخفاء .. والطاعة .."
قالها وهو يشعل سيجاره ويدخنها بعمق متأملاً صنيعته .. هنا لاحظ الاضطراب الذي انتاب أنبلا ..
ـ " ماذا دهاك ..؟"
ـ " لا أدري أشعر باضطراب شديد تجاه النار .."
أخ!.. عيوب الصنعه .. لابد من وجود أثر جانبي.. هكذا علمته التجارب . قال له في تؤدة :
ـ " لا تظهر خوفك من النيران أمام أحد.. النيران نقطة ضعف بني جنسك ."
كان يكره ذلك.. ولا يفهمه.. ولم يعد الرجوع للوراء ممكناً..
أطرق للأرض وقال من بين أسنانه :
ـ " أريد أن أجرب موهبتي الجديدة .."
ـ " فقط لا تترك شهوداً .."
جثث عديدة وجدت لرفاق الأمس خالية من الدماء .. ولم يفهم أحد سبب ذلك .. ثقافة مصاصي الدماء لم تكن منتشرة في اوساط شعبنا خصوصاً في أوساط الدراويش .. لذا عزى ذلك البعض أنه مرض ما أو طاعون يترك الجثة خالية من الدماء .. لكن أحدهم لم يربط بين ذلك وبين الشاب أنبلا خصوصاً أن كل من ماتوا كانوا معارضين لفكرته ولم يبق إلا من يؤيدها .. العارف فهم هذا في اللحظة الأخيرة وقرر أن يصارح أنبلا بذلك لكن هذا كما ذكرنا كان في اللحظة الأخيرة ..
ساعتها فهم العارف .. ودماء الحياة تتسرب منه.. فهم .. والذعر يطل من عينيه .. فهم .. والأرض تميد من تحته .. فهم .. لكنه تمكن من قول شيء ما بصوت واهن :
ـ " أنت الشيطان.."
ترك أنبلا عنقه قليلا ليتمكن من الكلام.. قال كلمة واحدة مقتضبة :
ـ " ربما ."
ثم عاد إلى عنقه ليكمل مهمته الأثيرة ...

***

(الجزء التالي من الملفات السرية لسلطة الشعب الأسمر)
استطاع أنبلا أن يجلب المزيد من المتعاونين لتنظيمه الجديد .. فقد علمه فريمان كيف يباشر ضم أعضاء جدد بنفسه .. كان أنبلا يختار العضو الجديد بعناية ولا يجعله يتناول السائل الأسود إلا بعد تمحيص شديد .. بعدها يدلي بالقسم الخاص قبل قبوله كعضو في أخوية أنبلا
أسس أنبلا جماعته التي كانت تعرف باسمه في ذلك الوقت لا على أنهم مجرد مجموعة من الدراويش في التكايا .. لكن على أنهم تنظيم عسكري هرمي صارم بالمعنى الحرفي للكلمة ..
تنظيم من مصاصي الدماء عاشقي الظلام .. لكن لهم غرض فريد .. السيطرة .. والسيطرة الكاملة .. على القلوب وعلى المفاهيم ..الحق لن يعرف إلا من طريق واحد ألا وهو طريق ..أنبلا..
الظلام هو الأصل .. وهو الحق الذي لا مراء فيه .. والصدام مع سلطة شعبنا كان أمراً حتميا ً.. وهل صنع الظلاميين إلا من أجل ذلك ..
بدأ رجال السلطة يلاحظون زيادة الضحايا من أبناء شعبنا حينما يجن الليل .. العديد من الجثث الخالية من الدماء وجدت في الشوارع الخلفية وظل الفاعل مجهول .. ثم وجدت جثة أحد كبار المسئولين لشعبنا خالية من الدماء في حجرة مكتبه .. هنا جن جنون السلطة .. الأمر أشبه باغتيال سياسي .. منصب الرجل الامني بالغ الحساسية لكن الذي اثار الشكوك أنه كان يهاجم دائماً جماعة أنبلا ويتهمهم بأنهم تنظيم عسكري في دثار من الدروشة .. بدأت الشكوك تحوم حول أنبلا ورجاله وفي النهاية تمكن رجال السلطة من تحديد الجاني هذه المرة .. وبالفعل وقع عدد من خفافيش أنبلا في قبضة رجال السلطة رغم استعمال التنظيم للمكر والدهاء والخفاء في اقتناص الفرائس من الشعب .. واعترفوا تحت الضغط .. جماعة أنبلا الظلامية وراء كل الأحداث .. الغريب أن من اعترف منهم كان يتكلم بتلقائية وكأن امتصاص دماء الناس حق مكفول وواجب محتوم .. كان الإنكار لكل ما ارتكب من جرائم هو شعار الظلاميين وفي الصباح أعلن أنبلا أن هؤلاء ليسوا منه وليس منهم ..! بل هم خارجون عن سيطرته..
ـ "نحن مجرد مجموعة من الدراويش! "
لقد صنع فريمان كابوساً يؤرق منام شعبنا في كل ليلة .. تحسس عنقك يا أخي فهل هذه الليلة ليلتك ..؟ الذعر والرعب .. كانا شعار المرحلة
و بدأت عمليات الدراويش منذ ذلك الحين تأخذ منحى سياسي ..
وبدأت أنظار الشعب تتجه بالبغض لتلك الطائفة التي يرتكب أفرادها الجرائم بالليل ويتبرأ زعيمها منهم بالنهار.. حتى أنبلا بدأ يشعر بالقلق
تجاه أبنائه الذين صنعهم بيديه.. لقد صنع وحوشاً يصعب السيطرة عليهم
وفي لحظات بعينها كان يقف بينه وبين نفسه ويتذكر اليوم الذي انقلب فيه على شيخه العارف.. مازال مذاق الدم الصدئ عالق بلسانه كالأشواك..
ترى هل سيأتي اليوم الذي سيعضه فيه أحد كلابه التي سمنها؟
" السنا على الحق؟ "
" ألم تعلمنا أن الظلام هو الأصل؟ "
" لماذا تحول بيننا وبين الهدف الذي جمعتنا من أجله.."
أين أنت يا فريمان؟.. هكذا تساءل وهو يتراجع بظهره أمام هجمة الأسئلة الحانقة.. لن يعطيهم ظهره.. هذا ليس مضمون العواقب..
هل حدث ما حدث في ذلك اليوم أم بعده؟.. لا نعرف تحديداً.. المهم أن جثة أنبلا الخالية من الدماء كانت حديث الساعة.. لم يحزن أبناء شعبنا على رحيل ذلك الكابوس.. فقد نال جزائه الأوفى على يد أبنائه..
لكن الأبناء كان لديهم رأي أخر.. أنبلا قتله رجال السلطة.. أنبلا شهيد الفكرة التي ذرعها في عقول طائفته.. وجثته الخالية من الدماء تمويه عبقري من سلطة شعبنا لصرف التهمة إلى أبنائه!..
رحل أنبلا ولم ترحل معه فكرته ولا من يدعمها ..
تم حظر التنظيم وقبض على العديد من أبناء أنبلا .. لكن الباقون لجأوا إلى الأقبية والمغارات .. ومن يومها سماهم شعبنا بالظلاميين .. تعاقبت عدة قيادات بعد أنبلا وحملت أعباء التنظيم بعد المؤسس .. وطبعاً كانت على علاقة ما بفريمان .. وبعد رحيل فريمان لم تنقطع العلاقات بين بني الأصفر والظلاميين .. فريمان ترك المخطط لمن يتولاه من بعده وهكذا يترك كل خلف الملف كاملاً لمن وراءه .. والأيام تمضي وتطوي معها الحقائق وتلقي على الأذهان غبار النسيان ..
نسى شعبنا من هم الظلاميين .. وانقرضت أجيال عاصرت المأساة وظهرت أجيال لا تعرف عن الظلاميين إلا مجرد الاسم .. فقط رجال السلطة هم من حملوا عبء مكافحة الظلاميين.
هنا يأتي الجزء الثاني من المخطط الشيطاني .. تعكير صفو العلاقة بين شعبنا وسلطته..
كل يوم يمر كان يباعد الفجوة بين رجال السلطة وأبناء الشعب الطيب المطحون .. ويقربهم من الكلاب المسعورة المتربصة تحت الأرض..
ومن هنا استطاع الظلاميين الظهور من جديد كفصيل مضطهد من فصائل شعبنا المطحون .. ووجد من يصدقه ويتعاطف معه .. ويتظاهر من أجله مدافعاً عن حقه في الخروج للنور ..
ووجدوا كذلك مصدراً جيداً للطعام !

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-30-2016, 11:25 AM
المشاركة 17
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(12)


أغلق نوسام عينيه محاولاً التركيز..
و تبادل رجال الفريق ب النظرات المترقبة.. لابد من عمل شيء.. الأمور تتفلت مرة أخرى.. ورسالة شعبنا واضحة.. تخلوا عن الظلاميين.. أو نكشف للعالم حقيقتكم ..
ـ " صلوني بدشرم .."
طلب ب ـ 2 رقماً .. ثم تناول نوسام السماعة .. كان هناك صخب شديد عبر الهاتف نظراً لجو الاعتصام في قاع المدينة .. وطلب نوسام من دشرم أن يهدئ الجموع حتى يستطيع التحدث ...
ـ " الأمر خطير يا دشرم .. عما قريب لن نستطيع دعمكم .."
ـ " إذن فقد ضعنا .. ضعنا .."
ـ " ليس بعد .. هناك دائماً حل بديل .. أنتم تملكون قاع المدينة وتحيط بكم وكالات الإعلام تحت سمع وبصر العالم .. أعلنوا دولتكم الخاصة وسنعترف بها ومن وراءنا العالم كله سيعترف بكم .."
ـ " ولو قرروا مداهمتنا ..."
ـ " سنتدخل قطعاً لدعم حقوق المعارضة.."

***

كان السيد الأعظم للشعب الأصفر ينتظر على الهاتف..
دخان الغضب يتصاعد من منخاريه مثل تنانين الأساطير.. والحقيقة أن نادر كان ينتظر تلك المكالمة بفارغ الصبر لكنه كان يتعمد إذلال ذلك الوغد المتعجرف الذي حسب نفسه مرشداً وملهماً للعالم أجمع... وحينما قرر أخيراً أن يرد على مكالمته وجد المسئول الأكبر عن شعب بني الأصفر واضحاً جداً.. لا يملك وقت للمراوغات السياسية.. لقد نضج لحمه على نار الانتظار.. طلب منه مباشرة وقف المهزلة التي تحدث .. وتسليم الشعب الأصفر كل المستندات الموثقة التي تثبت أن ثمة علاقة بينهم وبين الظلاميين وفي المقابل الدعم الكامل لنادر من الشعب الأصفر.... ورد نادر الرد الذى ظل يحفظه لفترة طويلة .. وينتظر بفارغ الصبر اللحظة المناسبة لقوله..
ـ " شعبنا لا يقبل أي تدخل في الشأن الداخلي .. الوثائق والمستندات سيتم نشرها على الملأ في محاكمة شعوبية.."
ـ " أنتم لا تعرفون حقيقة ما تواجهون.."
ـ " ولا أنتم..."
وانتهت المكالمة .. لكن نادر اشتم رائحة الشياط المنبعثة من محدثه عبر الأثير ..
قال له جلال :
ـ " سيجن جنونهم.."
ـ " لذا علينا أن نحتاط جيداً للخطوة التالية.."
ـ " ماذا تتوقع؟ "
ـ " علينا أن ننتظر أولاً لعبة الخصم.. وبناء عليها سنتحرك "
ولم يمض وقت طويل حتى طلبت سلطة الشعب الأصفر رسمياً عودة رجلها نوسام إلى الوطن وإنهاء مهمته الرسمية..
وكان هذا القرار في ظاهره إعلان هزيمة لنوسام.. لكن نادر لم يفرح بهذا الخبر.. وطلب من جلال أن يكون يقظاً هو ورجاله كما لم يكونوا من قبل!..

***

حينما ركب نوسام طائرة العودة كان قد ترك خلفه ثلاث مهام للثلاثي الأثير لديه .. الفريق ب ..
فريق الضباع ..
فبينما هو يربط حزام مقعده .. توجه ب ـ 1 إلى شرق المدينة .. لتصفية يسرم ..
و ب ـ 2 إلى منزل السيد سليمان لتصفيته .. أما ب ـ 3 فكان الشرف والمجد من نصيبه سيتولى طعن الشعب الأسمر في قلبه النابض ..
نادر ..

***

وحينما أقلعت طائرة نوسام وهو يمنى نفسه بالنتائج الطيبة كان رجله ب ـ 1 يمارس دور السائح المبهور بشرق المدينة .. وإلى جواره كان المعلم فوزي صاحب المقهى يمارس دور مرشده السياحي .. كان قد توقف به أمام صنبور ماء علاه الصدأ وبدأ يتكلم بحماسة :
ـ " هذا صنبور الحاج حنفي .. من الأثار المهمة التي يقصدها السائحون من كل بقاع العالم للشرب من مياهه العذبة .. هل تحب أن تشرب؟"
ازدرد ب -1 لعابه بصعوبه وهو يتأمل الصنبور الصدئ قائلاً :
ـ " يكفيني أن ألتقط له بعض الصور .. "
ـ " الصورة بعشرة ترللي أخضر فقط يا خواجة .."
وهكذا وقف ب-1 بجوار الصنبور وهو يشير بإبهامه للكاميرا التي أعطاها للمعلم فوزي كي يلتقط له بعض الصور التذكارية..
ـ " هل يمكنني مشاهدة المكان الذي حدثت فيه المواجهة الكبرى مع الظلاميين؟"
فتل المعلم فوزي شاربه في فخر وانتشاء ثم أشار له كي يتبعه قائلاً :
ـ " لكن زيارة هذا الأثر وحده بخمسين ترللي أخضر.."
ـ " لا بأس يا معلم (فزوي ).."
ـ " فوزي يا خواجة.."
وهكذا أمضى ب-1 يومه في التسكع والتقاط الصور هنا وهناك وعينه المدربة تدرس كل شبر من الأرض .. صحيح أن المعلم فوزي سلبه كل المال الذي معه لكنه كان يعرف أنه قريب جداً من هدفه ..
ـ " هذه ماسورة الصرف الصحي التي تسلقها الظلامي الملعون إياه.. الصورة هنا بمئة ترللي أخضر.."
وضع ب-1 يده في جيب سرواله ثم تنهد قائلاً :
ـ " الحقيقة لم يعد هناك المزيد .."
قال المعلم فوزي بتلقائية وهو يشير للساعة التي يرتديها ب-1:
ـ " كم تساوي ساعة اليد هذه ؟"
نظر ب-1 لساعته في جزع ثم رفع طرفه للمعلم فوزي قائلاً بذعر:
ـ " إنها تساوي ألف ترللي وحدها أيها الجشع .."
ـ " إذن يمكنك التقاط عشر صور لماسورة الصرف الأثرية .."
ـ " إذن خذ الساعة أيها الجشع واصطحبن للسطح ..."
على سطح البناية التي تسلقها يسرم يوماً ما وقف ب-1 يلتقط بعض الصور وقد ارتدى جلباب المعلم فوزي وإلى جواره كان الأخير قد حشر نفسه حشراً في ثياب الأول وحاول عبثاً بوجه محتقن غلق أزرار السراويل القصير لكن كرشه ظل عائقاً أمام تحقيق آماله ..
كان ب-1 يسبح تقريباً في ثياب المعلم فوزي وهو يتحرك يمنة ويسرة لالتقاط الصور :
ـ " هل أنت مرتاح الضمير يا معلم (فزوي) بتلك المقايضة؟"
شهق المعلم فوزي وتمعر وجهه صائحاً :
ـ " هذا جلباب أثري ورثته عن جد جد جد جدي.. أحمد الله أنني وافقتك على مبادلته بتلك (الهلاهيل)!"
ـ " أنت جشع .. ليست هذه أخلاق أولاد البلد..."
هنا لمح ب ـ 1 سمكة قادماً فتهلل وجهه :
ـ " مستر سمكة تعال انقذني أرجوك ..."
غمز سمكة للمعلم فوزي كي ينسحب ثم التفت إلى ب-1 :
ـ " الحمد لله أنني وصلت في الوقت المناسب.. لقد وقعت في يد من لا يرحم.."
ثم مال عليه هامساً بلهجة خطرة :
ـ " لقد خاطرت بنفسك حينما ولجت في شرق المدينة بدون تنسيق سابق معي"
تشبث ب-1 بساعده متوسلاً :
ـ " لاعليك يا مستر سمكة.. لم يعد هناك وقت.. هل يمكنني الاعتماد عليك؟.. "
شمر سمكة عن ساعديه وهو يقول بلهجة جادة :
ـ " جئت من أجل رأس الظلامي؟.."
ابتسم ب ـ1 في افتعال ورتب على عاتق سمكه قائلاً :
ـ " أنت رجل لماح يا مستر سمكة.. اعتقد أننا سنصل لاتفاق.. هه؟"
رفع سمكه حاجبه الأيمن قائلاً :
ـ " كم ستدفعون؟ "
ـ " ألم يكفيك ما حصلت عليه من مال سابق.. دون أن تحقق لنا شيئاً على أرض الواقع. "
ـ " أنا عند كلمتي.. ولم أحدد لكم الوقت الذي سأنفذ فيه ما طلبتموه.."
أحمر وجه ب ـ1 وهو يصيح :
ـ " أنت مخادع إذن.. لقد خدعتنا جميعاً "
ـ " وأنت تخلط الشغل.. لا علاقة بين المقاولة التي تعاقدنا عليها سابقاً.. وبين المقاولة الجديدة.. "
فكر ب ـ1.. عليه أن يجاريه.. بالنسبة إليه كان سمكة لا يعدو كونه نصاباً يلعب على كل الحبال.. قال له بغيظ :
ـ " المال بعد أن أصل للظلامي .."
ـ " وما الضامن ؟.. "
تحسس ب-1 رقبته قائلاً :
ـ " رقبتي تحت رحمتك .. "
هرش سمكة في قفاه مفكراً .. ثم قال بعد برهة :
ـ " كنت أعتقد أن رقبة ذلك الظلامي تساوي أكثر .. لكن حالياً يمكنني أن أقنع برقبتك .."
وفي لحظة خاطفة حال بينهما جيش من رجال السلطة المتحمسين أحاطوا بالضبع ب -1.. طرحوه أرضاً وكبلوا حركته تماماً وهو بعد لم يفق من الصدمة .. ثم حمل حملاً خارج المبنى ليجد حشد حاشد من أبناء شعبنا جاءوا ليشيعوه باللعنات .. ميز وجوه عديدة مألوفة .. من وجه جلال رجل السلطة الأول.. إلى المعلم فوزي إلى.. سمكة..
سمكة الذي اكتشف لأول مرة أنه ليس مجرد نصاب يبيع أي شيء مقابل المال..
ثم صمت أذنيه أصوات عواء جماعي حاد .. ظن في البداية أنها أصوات أبواق سيارات السلطة .. ثم تبين له أنها زغاريد تعبر عن شدة الفرحة على طريقة نساء شعبنا ..
كان يوماً مشهوداً من أيام شعبنا..

***

وبينما نوسام يتمطى متململاً في مقعده بالطائرة وهو يرمق السحاب عبر زجاج الطائرة.. كان رجله ب ـ 2 على وشك فقدان عقله .. لقد ظن أنه أطلق الرصاص من مسدسه الكاتم على أكثر من ثلاثة سليمان حتى الأن .. لقد اكتشف اكتشافاً مهماً المنزل مسكون بالأشباح..!
أشباح كلها تشبه السيد سليمان!.. تباً ....!
هناك من يعبث به .. وعليه أن يوفر ذخيرته لـ ... لكن صفعة عاتية هوت على قفاه أطارت من عقله كل ما تعلمه من فنون الاغتيالات .. استدار ضاغطاً على أسنانه و الزناد فعبرت رصاصاته الفراغ .. لقد تلقى صفعة من شبح .. ومرقت الرصاصات من إحدى النوافذ محطمة الزجاج بدوي مكتوم .. ثم أصدر مسدسه التكة المميزة التي تعنى أنه بحاجة إلى تلقيم .. ولم يكن هذا هو الوقت المناسب أبداً لهذا المقلب .. فمهما بلغت سرعته في تلقيم مسدسه فلن تبلغ سرعه السيد سليمان الذى طرحه أرضاً وبرك فوقه مثبتاً إياه وهمس في أذنه بحقد :
ـ " أنا لم أتمكن من إكمال عشائي بسببك أيها الحيوان .. هذا يبرر غضبى منك بالطبع .."
الضربة التالية لم يتمكن ب ـ 2 من معرفة مصدرها هل هي قبضة خصمه أم ركبته أم رأسه .. المهم أن الكهرباء انقطعت فجأة في عقله وساد الظلام من حوله ولم يعد يعبأ بأي شيء بعدها .. فما ألذ الغيبوبة في تلك الأوقات..

***

لكن ب ـ 3 كان قد أعد خطة عبقرية للتسلل إلى مقر المسئول الأول ..
هناك معلومة مهمة لدى الضبع الثالث متعلقة بهذا الشعب وهو اعتقادهم أن رجال الشعب الأصفر أحلى من نسائهم ..
وبما أن مسألة الشذوذ مستبعدة ههنا فكان على ب ـ3 أن يجري عملية تحول ظاهري.. بالفعل كانت التجربة فريدة من نوعها .. النظرات الحيوانية التي ظلت تطارده وهو في طريقه لمقر المسئول الأكبر لشعبنا جعلته يكتشف جانب جديد من مواهبة كان مخفياً عنه..
الأن هو صحفية تابعة لمجلة عالمية تدعى هيلين باركر .. جاءت لتسجيل حوار صحفي مع المسئول الأكبر عن شعبنا ..
وبعد أن استطاع النفاذ عبر رجال الحراسة المنتشرة والتوغل في قلب مقر المسئول الأول .. وجد نفسه يتحرك وحيداً في ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر يفضي إلى باب ضخم مزدان بالنقوش الذهبية .. ابتلع ريقه وقال لنفسه : لا يفصلك عن قلب هذا الشعب سوى هذا الباب التحفة.
حينما صار على بعد متر من الباب انفتح تلقائياً .. ثم برز من وراءه جلال وعلى جانبيه رجلين من رجال السلطة .. ابتسم الضبع ابتسامة
فاتنة جعلت شفتي جلال ترتعشان .. هيلين تؤدي عملها بنجاح ..
ـ " دقائق قليلة وتقابلين فخامة السيد المسئول الأكبر .."
ثم تنحنح مرتبكاً وهو يشير للضبع بكفه ناحية الباب :
ـ " فقط هناك إجراء أخير .."
حاول ب ـ 3 أن يكظم غيظه .. قال بصوته الذي صار رفيعاً رقيقاً وهو يلوح بأصابعه بحركة عابثة :
ـ " بكل سرور.."
هنا تنحى جلال جانبا وبرز من خلفة مجموعة من النساء المتشحين بالسواد .. لم ير ب ـ 3 فريق أمني بهذا الشكل من قبل .. لقد احتاج إلى عدة ثوان حتى يدرك أن هؤلاء المتشحات بالسواد هم مجموعة منتقاة من نساء شعبنا الأسمر .. وابتسم جلال في رقة موضحاً :
ـ " مجرد تفتيش ذاتي بسيط .. كوني متعاونة مع أخواتك .."
ـ "أوبس!!"
وفي لحظة وجد الضبع الثالث نفسه داخل غرفة جانبية محاط بحشد النسوة الذين رمقوه بنظرات تقذف الشرر وقد صنعوا حوله دائرة ..
ـ " ماذا بك أيتها الشابة ؟"
ـ " مسكينة تبدو مضطربة .. لا تخافين .."
كانت الكلمات تصدر من النسوة دون أي انفعال يذكر على الملامح ..
ملامح جامدة ونظرات ميتة ..
ـ " أخلعي أيتها الشابة .. لا داعي للخجل ههنا .."
لم يشعر ب ـ 3 بمثل هذا الرعب من قبل .. الضبع لا يملك قلباً يرتجف ولا مشاعر .. فما الذي جرى له ؟ لقد صار أنثوياً أكثر من اللازم وحان الوقت كي يفعل شيئاً ليخرج من تلك الورطة القاتلة..
لكنه كان لا يدرك طبيعة ما يواجه ؟
بعد أن نزعوا شعره المستعار وأشياء أخرى لا داعي لذكرها جاء دورالقباقيب لترتفع إلى عنان السماء .. ومع صيحة البدء انهالت عليه القباقيب الخشبية ..
ظل يصرخ حتى تدخل جلال ورجاله وأحاطوا معصميه بالأغلال .. لكنه وجد الوقت ليقول شيئاً ممزوجاً بالدماء :
ـ " يا إلهي .. لقد استدرجوني ..!"
فهمها الأحمق متأخراً جداً .. ورفع جلال جهاز اللاسلكي إلى فيه وأخبر القائد أن العملية (صيد الضباع ) قد تمت بنجاح ... وانتفض نوسام في مقعده وقد أيقظه إعلان الطيار دخول الطائرة المجال الجوي لوطنه .. وابتسم نادر مغمضاً عينيه في ارتياح بعد أن اطمئن.. لقد رحل نوسام وسقط فريقه ولم يعد هناك سوى خطوة واحدة ..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 03-30-2016, 11:26 AM
المشاركة 18
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(13)


كان الظلاميون يعانون في اعتصامهم بقاع المدينة ..
لقد تخلى عنهم الحلفاء .. وصاروا بأنيابهم العارية في مواجهة حاسمة مع سلطة شعبنا .. صار الطعام شحيحاً نادراً... عدد الحمقى الذين يمرون من قاع المدينة من شعبنا سهواً أو عتهاً صار قليلاً ... صار الظلاميون يقتتلون حول جثث ضحاياهم .. وشاهد دشرم عدداً منهم يسقط تحت وطأة الصراع على الطعام... فتبادل العطشى النظرات مع زعيمهم فأومئ لهم وهو يزدرد لعابه فهجموا على إخوانهم الذين سقطوا وارتووا من دمائهم حتى ثملوا .. الظلامي يشرب من دم الظلامي .. لابد أنه أقسم أن يدفع شعبنا الثمن غاليا .. هنا علا صوت ضجيج مميز فأجفلت الجموع وامتقعت الوجوه ...
عربات السلطة تحاصر قاع المدينة ..صرخ دشرم مستبقاً الجموع :
ـ " اثبتوا يا حمقى ... لن يستطيعوا مداهمتكم .. النصر سيكون حليفنا في النهاية .. لأن الخير دائماً ينتصر.."
تبادل الظلاميون النظرات الحائرة .. لكنهم تعلموا أن القائد دائماً على حق وأن متابعته فيها النجاة والنصر .. قائدنا لا يخطئ أبداً .. لذا فقد تكتلوا من حوله مزمعين الموت دونه .. وهو من القلب يوجههم صارخاً :
ـ " لا تنسوا قضيتكم .. إننا نقاتل من أجل هدف نبيل .. ولن يتخلى عنا الله .. الله معنا .. شعوب العالم تشاهدكم الأن أيها الأبطال وأنتم تستبسلون في سبيل قضيتكم ..."
هنا وكزه أحد معاونيه هامساً في أذنه :
ـ " لقد فر المراسلون حاملين كل الكاميرات .."
امتقع وجه دشرم وهمس في رعب :
ـ " هل دبرتم لنا مخرج.."
ـ " هناك واحد دائماً.."
ازدرد لعابه متمتماً :
ـ " البركة في الشباب إذن. "
ثم عاد ليزعق بصوت حاول أن يكسبه بعض الحماس :
ـ " إن شعب الظلاميين أقوى من الظروف .. أقوى من المحن ... مهما تخلى عنا الأصدقاء فالله معنا .. وهو ناصرنا ..."
كانت عربات السلطة قد حاصرت قاع المدينة من كل الجوانب وفي السماء حلقت طائرات السلطة فوق رؤوس الظلاميين ورفع جلال مكبر الصوت وبدأ يهتف عبره :
ـ " عودوا إلى القاع .. عودوا إلى الكهوف ... ولن يمس أحد بأذى ..."
التفت دشرم إلى الجموع وصرخ فيهم :
ـ " نعود مرة أخرى للجحور ... حتى يتسنى لهم غلق الفجوات علينا ويتحول القاع إلى قبر أبدى لشعبنا ... الموت دون ذلك .."
وتصايح الظلاميين :
ـ " الموت دون ذلك .. الموت دون ذلك ..."
خفض جلال مكبر الصوت ونظر إلى رجاله الذين يحاصرون قاع المدينة .. وهز رأسه في يأس :
ـ " لم يتركوا لنا أي خيار ..."
هنا برز الدكتور العوادلي كعادته مثل غراب البين ورفع كفه معترضا.. نظر له جلال متقززاً فرفع سبابته في وجهه قائلاً :
- " هذا اسـ .. استعمال مفرط للـ ..للقوة .."
تقلص وجه جلال وهو يصيح :
ـ " ماذا تقول ..؟ أنا لا أسمعك جيداً ..!"
ورفع يده بإشارة إلى قاذفي اللهب كي يستعدوا وهو يرمق الظلاميين الثائرين... لأول مرة هو لا يحب ما سيقوم به.. ولا يدري لماذا ؟..
ربما لأنهم كانوا قديماً يستعملون النار لإفزاع تلك الكائنات وردها للقاع لا بقصد إحراقهم.. لكن قد يأتي الحرق تبعاً .. لكنه اليوم سيصب اللهب مباشرة على الجموع الغفيرة المحتشدة .. لكن من قال أنهم سيصمدون عند إطلاق أول قذيفة لهب .. لا شك أنهم سيفرون للقاع .. ومن أعماق قلبه تمنى أن يفعلوا ..
وتقدم قاذفي اللهب في تؤدة وعند مسافة مناسبة صوبوا القاذفات منتظرين إشارة البدء من قائدهم جلال .. الظلاميون يضطربون حول دشرم .. والأخير يصرخ فيهم أن اثبتوا .. موتوا رجالاً ...
العوادلي يصرخ :
ـ " أنا احتج .."
و جلال يفتح فمه ليعطي أمر الاطلاق ..و..
هنا هبت عاصفة عاتية جعلت الجميع ينحني والغبار يعمى الوجوه .. وهبطت طائرة عليها علم شعبنا وإلى جوارها شعار المسئول الأول .. هبطت في ساحة خالية وراء العربات المحاصرة وقفز منها نادر في خفة وعدا ناحية جلال الذى هتف في دهشة واستنكار:
ـ " القائد بنفسه .. هذه مخاطرة قصوى .."
لكن نادر انتزع منه مكبر الصوت والتفت يواجه جموع الظلاميين متجاهلاً اعتراض جلال ...
ـ " إلى كل المعتصمين في قاع المدينة ... إلى كل المعتصمين في قاع المدينة .. اسمعوا هذا الكلام جيداً .. أنتم لم تخلقوا للظلام .. لكن تم دفعكم إليه دفعاً .. والذين دفعوكم إليه تخلوا عنكم .. ونحن لن نتخلى عنكم .. لأنكم منا .. لكن تم تشويه فطرتكم عمداً .."
انعقد حاجبي جلال مستنكراً .. في حين تبادل الظلاميون النظرات المستغربة .. هم لم يسمعوا أبداً مثل هذا الكلام من قبل .. دشرم كان يغلي من داخله .. هو الوحيد الذى يعرف ما الذى يرمي إليه نادر ..
ـ " لا تسمعوا هذا الكلام الفارغ .. الظلام هو أصل الأشياء .. والنور أمر عارض .. أنتم الأصل .. أنتم أصحاب الحق .."
وعاد صوت نادر يتردد :
ـ " ماتزال هناك فرصة يا إخواننا ... أننا لن نطالبكم بالعودة للجحور .. بل نطالبكم بالانضمام إلينا على السطح .. فقط تخلصوا مما علق برؤوسكم من أفكار ظلامية .. عودوا إلى أدميتكم .. تصيرون منا ونصير منكم .. أنتم لم تخلقوا لمص دماء إخوانكم .. أنتم بشر .. بشر .."
وساد الصمت تحت وقع الكلمات ..
حتى دشرم لم يجد ما يقله ...
ـ " من قرر أن يغادر الظلام للأبد وينضم إلى إخوانه... فليغادر قاع المدينة .. توجد حافلات ستحملكم إلى مصحات تم إعدادها لإعادة تأهيلكم من جديد .. ومن يبقى فقد أختار الظلام إلى الأبد ... "
وخفض نادر مكبر الصوت وهو يلهث في انفعال وتبادل النظرات مع جلال الذى هز رأسه في عدم فهم واقترب منه وهو يتمتم :
ـ " ماذا تتوقع ...؟"
بلل نادر شفتيه بلسانه قبل أن يهمس بصوت مبحوح :
ـ " لا أعرف .. أقسم لك يا جلال أنني لا أعرف ..."

***

نظر ذلك الظلامي إلى قدميه ثم رفع طرفه إلى السماء صارخاً :
ـ " ماذا تنتظرون يا حمقى ...؟"
ثم انطلق يعدو ناحية خلاصه ... وخلفه انفصل ثان .. وثالث .. ورابع ..
وأمام عينيه الملتاعتين رأى دشرم العشرات والمئات يلوذون برجال السلطة متفلتين من بين يديه .... لكن لا .. هكذا صرخ صارخ بداخله ... كان ينظر إلى نادر الذى تهلل وجهه وهو يتابع صفوف الظلاميين تغادر قاع المدينة ناحية الحافلات ...
وتمتم دشرم من بين الخلص من رجاله وعينه تركز على واحد بعينه :
ـ " الذى تدعو إليه قد يقتلك .."
قالها ثم انفصل عن رفاقه والتحم بصفوف المغادرين .. الصفوف تقترب من عربات السلطة حيث يقف جلال ورجاله وحيث يقترب نادر في عدم حرص قاتل من الصفوف ملوحاً لهم بقبضته في تأييد .. وانتبه جلال لذلك فرفع كفه صائحاً :
ـ " حذار أيها القائد .."
هنا قفز دشرم من بين الصفوف واثباً ناحية نادر الذى ارتفع حاجباه في دهشة وهو ينظر في عيني دشرم الناريتين وأسنانه الحادة تلمع و.. واكتسى وجه نادر بصرامه لا حدود لها وضم شفتيه وهو يرفع مكبر الصوت ويهوى به على رأس دشرم .. وتوقف المشهد كله في لحظة ... الكل تجمد في مكانه .. جلال .. رجال السلطة .. الظلاميون المغادرون ..
نادر يقف ممسكاً بمكبر الصوت وهو يرمق دشرم الذى سقط عند قدميه وقد زاغت عيناه وتدلي لسانه خارج فمه ورأسه يدور ...
ـ " هل أنت بخير ..؟"
قالها جلال وهو يندفع ناحية نادر على حين لوح العوادلي بقبضته في الهواء محتداً :
ـ " أنا احتج على هذه الطريقة العنيفة في التعامل مع الـ..."
ببطء التفت إليه نادر .. نظرته جعلت العوادلي يبتلع لسانه أخيراً ..
وخرجت كلماته تنضح :
ـ " لم تمتد يدى إلى أي ظلامي من قبل.. لكنه كان يستحق ..."
***
لم يغادر كل الظلاميين بالطبع ..
كانت ماتزال هناك مجموعة مؤمنة بالفكرة قررت أن تختار الظلام مرة أخرى .. وكان نادر ورجاله يعرفون أن المرحلة القادمة لن تكون بالسهلة أو اليسيرة .. الطائفة الجريحة لن يهنأ لها بال حتى تنتقم من شعبنا .. وعلى شعبنا أن يكون متيقظاً في تلك المرحلة الحرجة .. مرحلة كفاح جرثومة زرعت في قلب شعبنا النابض .. مرحلة كفاح قد تستمر لأيام .. لأسابيع .. ربما لأعوام .. المهم ألا ينسى شعبنا مع مرور الأيام من عدوه ومن وليه وأن لا يستدرج مرة أخرى إلى فخ الظلاميين..

***

قهرنا الظلاميين على سطح الأرض وحان وقت تطهير القاع حيث البؤر التي بها يقبعون ومنها يشنون غاراتهم على أبناء شعبنا ..
قاد جلال الذي صار مسئولاً عن سلطة شعبنا حملة شعواء على الفجوات التي تعج بالظلاميين ..
لأول مرة يلج رجال السلطة إلى القاع ويواجهون الظلاميين في عقر دارهم ولم تكن المواجهة بالأمر الهين .. كان القاع مفاجئة مفجعة لرجال السلطة ..
عالم مظلم كئيب عطن الرائحة.. وبين الحين والحين تتعثر قدم في جثة جافة خالية من الدماء.. ويزداد رجال السلطة احتقاناً ويعصف بهم الغضب .. سيمزقون أي ظلامي يجدونه.. لكن أين هؤلاء الشياطين؟..
عشرات بل مئات الأنفاق المعقدة تحت الأرض تمتد لمساحات الله أعلم بمداها..
حصاد سنوات من العمل المضني في الظلام.. بالتعاون مع بني الأصفر..
لقد وجد رجال السلطة أثناء البحث في الأنفاق بعض الملفات السرية التي تتحدث عن تاريخ العلاقة بين الظلاميين والشعب الأصفر وقد تم إخراج تلك الملفات وسمحت السلطة بنشر بعضها على عامة شعبنا فيما بعد..
لكن السؤال الذي كان مطروحاً.. هل ماتزال هناك وسيلة اتصال بين الظلاميين وبين الشعب الأصفر..
ومتى يستطيع شعبنا تطهير كل تلك الأنفاق وسدها ؟..
كان لابد من قرار حاسم لتلك المعضلة .. رفع جلال جهاز اللاسلكي إلى فمه وعرض وجهة نظره على الطرف الأخر .. قيادة شعبنا ..
ـ " لابد من سد تلك الفجوات على من فيها .."
جاوبه الصمت من الطرف الأخر .. هو يعرف رقة قلب القائد الجديد لشعبنا
لكن في مثل تلك الظروف .. لابد من طرح المشاعر جانباً ..
ـ " لا فرق بين قتل الظلاميين وحرقهم وبين عزلهم عن الخارج فيموتون جوعاً .."
نحن نحتاج لعشرات السنين حتى نسيطر على كل تلك الأنفاق ..
هنا جاء الرد الحازم من القائد :
ـ " بالطبع أنا لست مشفقاً على حثالة الظلاميين .. أنا أفكر في خطتك تلك وفي نتائجها .. هل حقاً نستطيع عزل الظلاميين عن العالم الخارجي في باطن الأرض ؟"
ـ " هذا كان ممكناً حتى في العهد البائد .. لكن بني الأصفر ما كانوا سيسمحون بذلك .. أما الأن .."
ـ " الأن فقط يمكننا أن نعرف كيف يتصل الظلاميين بالشعب الأصفر .."
لم يفهم جلال مراد القائد.. لكنه تساءل :
ـ " نبدأ الأن في سد تلك الأنفاق؟ "
ـ " بلى.. لكن بالماء.. الماء طهور يا جلال كما تعلم.."
ابتسم جلال وهو ينهي الاتصال ثم التفت إلى رجاله قائلاً :
ـ " لأول مرة سنقهر الظلاميين بالماء لا بالنار.."

***

في البداية لم يفهم الظلاميين ما يحدث..
ظنوا أن رجال السلطة تراجعوا عن مطاردتهم وبدا بعضهم يتنفس الصعداء.. سنبدأ من جديد..
لكن عزروت لم يبد مرتاحاً.. إنه يشم رائحة الخطر عن بعد كأي ظلامي يحترم نفسه كذلك هو الرأس المدبر للظلاميين حالياً بعد سقوط دشرم .. وإليه انتقلت عهدة المحافظة على بقاء الطائفة..
وقد أقسم على ذلك بروح انبلا نفسه..
ـ " هل تسمعون؟ "
قالها عزروت فصمتت الأصوات وسكنت الحركات..
والكل منصت..
هل هذا الصوت الخافت الذي يتصاعد شيئاً فشيئاً صوت هدير؟
وبدا الرعب يكتسي الوجوه وهم يتخيلون ماهية الخطر القادم..
هنا نهض عزروت صارخاً :
ـ " إنهم يصنعون لنا مقبرة مائية .."
ورددت الأنفاق الممتدة إلى ما لا نهاية صدى ضحكته الساخرة! ..
ـ " تضحك وهم يغرقوننا! .."
قالها له أحدهم والذعر يكسو ملامحه.. التفت إليه وهو يلهث في جشع :
ـ " بهذه السهولة يا رفاق .. إن هذا لأمر معيب .."
ـ " أنت تعرف لنا مخرجاً من تلكم الأنفاق يا عزروت ؟"
ـ " نعم .. فقط اتبعوني ..."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 04-02-2016, 09:39 AM
المشاركة 19
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(14)

في قفص الاتهام وقف دشرم ويسرم يرمقان جموع الشعب التي جاءت تتأملهم كأحد عجائب الدنيا التي لم تعد سبع الأن .. كانا يبتسمان في بلادة وكأن شيئاً لم يكن .. نحن لم نتآمر مع بني الأصفر عليكم .. ولا كنا ننوي معاملتكم كخزين للطعام .. لم نكن نرغب إلا في بصيص من نور .. هه .. لماذا لا تصدقون يا حمقى .. تباً للدعاوى المغرضة التي أدخلت الشيطان بيننا!..
المحاكمة كانت في أكبر ميادين المدينة وتم نصب منصة للقضاء في مقابلة قفص الاتهام .. حشد ضخم من رجال السلطة جاء ليحكم السيطرة على الجموع الثائرة من أبناء شعبنا كي لا يفتكوا بالأسيرين..
هنا هاجت الجموع حينما وصل القضاة للمنصة..
ـ " أعدموهم.."
ـ " أعدموهم.."
احتاج الأمر لعدة قرعات على المنصة كي يعود الهدوء..
ورمق كبير القضاة قفص الاتهام ثم أعلن بدء المحاكمة..
همس يسرم وهو يحاول منع ساقيه من الارتجاف:
ـ " هل سيعدموننا حقا يا أبي؟"
قال دشرم من بين أسنانه :
ـ " الشعب الأصفر لن يسمح بهذا.. تجلد.. ولا تغتر بكل هذا الجو المشحون .. في النهاية سيجلسون مع سلطة الشعب الأصفر للتفاوض .."
ارتسم تعبير بائس على وجه يسرم وهو يرمق جموع شعبنا ونظرات الكراهية تبض من عيونهم .. قال في أسى:
ـ " أنا لا أفهم سر كل هذا البغض لنا.. ونحن لا نحمل لهم إلا الخير!.. كل الخير!.."
أطبق دشرم على قضبان القفص الباردة ورفع بصره للأفق هامساً :
ـ " هذا ما دأب عليه ذلك الشعب البغيض المستعبد منذ فجر التاريخ .. لم يفهموا دعوة أبينا أنبلا الذي جاء ليحررهم من نير الاستعباد .. لم يفهموا سر النكبات والكوارث التي حلت عليهم منذ اليوم الذي استشهد فيه أنبلا .. ولست أظنهم سيفهمون .. لكن عدالة السماء قادمة .."
التفت إليه يسرم متلهفاً:
ـ " هل لديك إلهام ما؟.."
توهجت عينا دشرم وهو يمسح بحنو على قضبان القفص .. وترقرق الدمع في مقلتيه وهو يتمتم :
ـ " بل منام .. لقد زارني الأب المؤسس أنبلا في المنام وأخبرني أن الله سيكون في عوننا ما تمسكنا بدعوته.. وأننا سنخرج من السجن وسنعود ملوكاً على رقاب الشعب الأسمر .."


***

وكان هناك ذلك الاجتماع العاجل حول الطاولة المستديرة حيث تحاك المؤامرات ضد شعبنا ..
ماذا بعد الضربة الموجعة التي تلقاها المتآمرون ودمرت مخططات القرن؟ لقد وضعوا هناك الخطة البديلة التي سيتم تنفيذها في المرحلة القادمة .. خطة سوداء تنبئ عن مدى سواد قلوب واضعيها ومدى الحقد الذى به يضطرمون ...
نسيت أن أخبركم أن العوادلي كان حاضراً لذلك الاجتماع فقد تم استدعائه هو أيضاً للترتيبات القادمة.. وكانت الدماء قد عادت لوجهه المنهك الشاحب حينما علم أن المرحلة القادمة تقتضي بقائه في بلاد الشعب الأصفر بعيداً عن الخطر حيث الهواء النقي الخالي من التلوث والأمان التام واحترام الإنسان.. كان متحمساً جداً وهو يحك صلعته منتظراً التعليمات الجديدة..
ـ " لابد أن يركع الشعب الأسمر .."
ـ " لابد أن تزداد الدماء في الشوارع .."
ـ " لابد أن ندعم الظلاميين من طرف خفي .. داخلي وخارجي .."
ـ " لابد أن .. وأن .. وأن .."
هنا اقتحم القاعة شاب نحيل وصرخ في وجل :
ـ " الظلاميون يجتاحون المدينة .."
نظر إليه سيد الشعب الأصفر في مقت ثم تساءل في برود :
ـ " أي بني .. عن أي ظلاميين تتحدث ..؟"
بالخارج كان المشهد أسرع من أن يوصف .. عشرات الفجوات في قاع المدينة تنضح بكائنات غريبة شاحبة واسعة العيون تلعق شفاها باستمرار في شبق .. كان كل مواطن في شوارع المدينة يواجه واحداً .. يصرخ في هلع ثم الأنياب الحادة تنشب في عنقه والدماء الحارة تنفر من وريده العنقي ..
الجنون يجتاح العديد من مدن الشعب الأصفر..
هذا ليس عنواناً لفيلم رعب من تلك التي يدمنها الشعب الأصفر ويصدرها لشعوب العالم.. بل هذا هو الواقع المرير الذي استيقظ عليه الشعب الأصفر بعد نوم عميق..
شعب يصرخ ودماء الحياة تفارق جسده مستغيثاً بسلطته..
ولا مجيب..

***

كان يجوب بسيارته الشوارع التي فرشت بالجثث..
بالمعنى الأصح كان يفر بعد أن انتهى أمر المدينة..
كان أخر رجال السلطة فراراً بالمدينة.. رباه متى يصل للطريق السريع ويلحق برفاقه الفارين.. الأن يدرك مدى حماقته حينما تحرك ضميره وأخره عن اللحاق بهم.. الأن يدرك أنه تأخر أكثر من اللازم حينما رأى الهول الذي سبب تلك المذبحة يدركه..
حشد من الظلاميين يقودهم عزروت بنفسه..
لم يكد يلمحونه حتى علا صياحهم الحاد.. وانطلقوا خلفه كأسراب الجراد..
صرخ الشرطي وهو يدور بسيارته ليفر بجلده .. كان يجهل قدرات الظلاميين الخارقة في العدو على الأقدام..
ضغط على أسنانه وهو يلمح بعض أجساد الضحايا من بني شعبه الأصفر ترتجف على قارعة الطريق ولم تفارقها الروح بعد.. كانت هناك أيادي تشير إليه مستجدية لكنه لا يجرؤ على التوقف أو حتى مجرد الالتفات.. سمع صوت التهشم المميز للعظام فأدرك إنه دهس بعضهم وهو يدور بسيارته.. وكانت تلك هي الخدمة الوحيدة التي قدمها رجل السلطة لأبناء شعبه.. أن جعلهم يموتون بسرعة..
كان يأمل في مصير مختلف..
لكن بعض الظلاميين طار وهوى بثقله على سقف السيارة الذي انبعج من أثر السقطة بدوي مقيت.. وتعلق أخر بباب السيارة.. صرخ الشرطي كأنما مسه ألف شيطان وأدار المقود..
كيف استطاعوا الوصول إليه؟.. رباه.. كان عليه أن يزيد من سرعة السيـ...
ودارت السيارة حول نفسها مرة أخرى ليطير الظلامي الذي اعتلى سطحها ويرتطم بإخوانه المطاردين.. وانسحق الأخر الذي تعلق بالباب تحت إطار السيارة وهي تدور.. هنا تكالب عليه الظلاميين من كل حدب وصوب.. وشعر الشرطي بجانب العربة يرتفع لأعلى.. تأمل الوجوه الشاحبة التي تتأمله من وراء الزجاج في جشع
وصرخ مستجدياً.. هنا دوى صوت قيادته عبر المذياع :
ـ " ماذا لديك يا جيسون؟.. جيسون.. لماذا لا ترد؟ "
كان يبكي.. ومازال النداء يتردد.. عندما تذكر أن لديه مسدساً..
ـ " جيسون.. أجب.. هل أنت بخير؟ "
نظر للمذياع في حقد ثم إلى الوجوه الظلامية التي ترتطم بالزجاج الذي بدأ يتشرخ و..
استجمع أنفاسه وصوب المسدس جيداً وضغط الزناد..
وأمام أعين الظلاميين المتعطشة انفجر رأسه وتناثر الدم على الزجاج هدراً..
ـ " جيسون.. "
يصرخ عزروت صرخة الجنون وهو يرقص وسط بركة من الدماء..
ـ " جيسون.. "
يتقاتلون على جثته داخل العربة الكل يرغب في مزقة من دمه المهدور قبل أن..
ـ " جيسون.. ماذا يجري عندك.."
رفع عزروت جهاز الاتصال إلى فمه وهمس بصوت لاهث من فرط النشوة :
ـ " ألم تفهموا بعد.. لقد قامت قيامتكم "

***

نوسام حمل بندقية الصيد على عاتقه وتأكد من أن الزوجة والأطفال بأمان في قبو بيته ثم أمر رجال الحرس بحصد أي كائن يتحرك على بعد نصف كيلو من مقر بيته.. والتفت إلى مجموعة تحمل قاذفات اللهب وقال بصوت أكثر التهاباً :
ـ " جاهزون لحفل الشواء؟"
ـ " جاهزون سيدي .."
وأعطاه الرجال التحية في نفس الوقت الذي دوت فيه الطلقات .. امتقع وجهه متمتماً :
ـ " لقد وصلوا .."
ثم حانت منه التفاتة إلى صورة جدارية ضخمة لجده الأكبر فريمان وهو ينظر إليه بتلك النظرة القاسية المتفحصة التي طالما أثارت رعبه.. وهمس للصورة بصوت مبحوح :
ـ " إنني الأن لأتساءل عن مدى حكمتك..."
وفي نشرة المساء خرج السيد الأعظم لبني الأصفر ليعلن الحرب على كائنات الظلام التي تسللت لأراضي الشعب الأصفر بمؤامرة ما.. بعدها ظهرت على الشاشات قوات حاشدة تحمل قاذفات اللهب وتلوح للشاشات في أمل.. مع سيل من التعليمات الصادرة من سلطة بني الأصفر :
ـ " اللهب هو السلاح الفتاك الذي يقهر مخلوقات الظلام .. تأكد من أنك تحمل واحداً في دارك .. سيتم توزيع قاذفات اللهب بحسب القرب والبعد من المناطق المهددة .."
تأمل العوادلي قاذف اللهب الذي أعطوه إياه في حجرته بالفندق..
عليه أن يصوب تلك الفوهة للباب وحينما يشعر بأي حركة مريبة
يضغط على ذلك الزناد و..
هذه الطرقات الخشنة على الباب لا يمكن أن تكون لخدمة الغرف.. وهذا الفحيح لا يمكن أن يكون مصدره صنبور المياه..
تذكر وطنه الآمن في تلك اللحظة وعض شفته متحسراً..
الآن تأتيه فاتورة الحساب عبر الأميال..
صوب قاذف اللهب للباب وصرخ وهو يضغط الزناد..
صرخ وقد أصابه جنون الحريق..
وصرخ أكثر ولسان اللهب يمتد ليلتهم أثاث الغرفة..لقد صنع لنفسه جحيمه الخاص على الأرض.. وتوقف العوادلي عن الصراخ المذعور..
الذي يذوب جلده بهذه الطريقة لا يجد وقتاً للصراخ أصلاً..
وبعد دوي الانفجار المتوقع لخزان الوقود اقتحم الظلاميون الغرفة ليجدوا وجبتهم مشوية..
العديد من المقاطعات تحولت لقطعة من اللهب من فرط استخدام تلك القاذفات بروح الجنون والذعر .. وخرج المسئول الأكبر لشعبنا الأسمر ليعلن في هدوء مستفز :
ـ " على قيادة الشعب الأصفر ضبط النفس والسعي للحوار مع الظلاميين .."
لابد أن السيد الأعظم لبني الأصفر قد هشم شاشة المرئي بعد تلك الكلمة الحارقة أكثر من قاذفات اللهب ..
سيحتاجون لأيام وشهور حتى يفهموا ..
ماذا حدث وكيف حدث؟..
وكان هذا في الحقيقة؛ هو كل ما يحتاجه شعبنا..

***

وبعيداً بعيداً .. عن كل ذلك الصخب..
كان هو جالساً يستمتع بهواء البحر المشبع باليود ..
ظل يتابع الجريدة من وراء منظاره الداكن .. ولأول مرة منذ فترة طويلة شعر بالراحة والطمأنينة تتسرب إلى نفسه القلقة التواقة إلى كل ما هو جديد من أخبار تخص شعبنا ..
" المرحلة القادمة ستكون أصعب ما يكون على شعبنا .. وأمنه وسلامته سيكونان على المحك .."
" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذا عهدي لك.."
ولأول مرة منذ تداعي تلك الأحداث .. وجدت بسمة دافئة سبيلها إلى وجهه الصخري الصارم..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 04-02-2016, 09:40 AM
المشاركة 20
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

خاتمة



ـ " كانت تلك هي قصتكم مع الظلاميين.."
قلتها وأنا أمسح العبرات من وراء عويناتي .. ثم وضعت رزمة الأوراق تحت إبطي اعتمدت على الأرض بكفي كي أنهض.. نفضت كفيا و ألقيت نظرة على الصبية المتحلقين .. كانت عيونهم متسعة وأنفاسهم متلاحقة من فرط الانبهار.. لوحت لهم بكفي مبتسماً :
ـ " شكراً على حسن استماعكم .. يمكنكم العودة للعب الكرة.."
واستدرت لأنصرف فنهض الصبية وتشبثوا بي وانهالت علي أسئلتهم :
ـ " ماذا حدث لبني الأصفر بعدها ؟"
ـ " يمكنكم معرفة هذا من خلال متابعة نشرات الأخبار؟"
ـ " أين ذهب السيد وسام ؟ والمسئول الأسبق عن شعبنا ؟"
ـ " لا يهم أين ذهبوا.. المهم أنهم سلموا الراية ليد أمينة .."
ـ " من أنت أيها العم الرائع ؟"
استدرت إليهم ببطء .. كانت عيونهم تشع ذكاءً..
رفعت طرفي إلى الأفق وغمغمت :
ـ " أنا... أنا الذاكرة التي تحيا بها الشعوب .."
ـ " ما هو دورك في القصة؟.. حدثنا أكثر عن نفسك .."
ابتسمت وشرد بصري بعيداً.. بعيداً.. وسمعت الجواب في عقلي قبل أن تهمس به شفتي :
ـ " ليس الأن!"
وتركتهم وعدت أواصل طريقي شاعراً بالطمأنينة تتسرب إلى نفسي..
فقد تركت خلفي صبية .. بذاكرة رجال ..

***

جلست أحتسي الشاي الذي أحضره لي صاحب دار النشر الذي وعدته منذ عامين بقصة ملحمية جيدة.. الحمد لله لم يمت كما توقعت لكن..
ترى هل ستروق له؟
رفع عينيه عن الأوراق وتمتم :
ـ "رائع كعدي بك.."
ابتسمت في ارتياح.. لكنه قطب جبينه مردفاً :
ـ " لكن أنت تعرف أن السوق هذه الأيام له متطلبات أخرى.. منذ عامين كان يمكن لمثل ملحمتك تلك أن تحقق أعلى مبيعات.. لكن حالياً.."
وقطع عبارته مشيراً إلى عدد من المطبوعات المتناثرة على مكتبه في إهمال.. مررت بعيني على عناوين بعضها فكدت أصاب بالفالج..
" التنين الأزرق " " في صحبة الأرواح " " توقعات الأبراج للعام الدراسي الجديد " ... لم استطع المواصلة..
جذبت قصتي برفق من أمامه ففهم أن رسالته قد وصلت.. قال متلطفاً :
ـ " يمكن أن ننشرها لك مع بعض التعديلات و..."
نظرت إليه بثبات..
ـ " ما زلت أذكر كلامك عن الذكريات التي لم تعد ملكاً لي ويجب أن تطلع عليها الأجيال القادمة لترسخ في وجدانها.. الذكريات التي لم تعد ملكاً لصاحبها هي ليست ملكاً لرغباتك من باب أولى"
ابتسم قائلاً :
ـ " هذه ليست وجهة نظري.. بل وجهة نظر السوق في وقتها.."
ـ " فهمت.."
واعتدلت قائماً وعادت قصتي تحت إبطي الدافئ..
ـ " إلى أين يا رجل.."
تحاشيت النظر إلى وجهه وأنا أجيبه :
ـ " لقد اكتشفت اكتشاف خطير بخصوص قصتي.."
ـ " أنها بحاجة لبعض التعديلات.."
ابتسمت له مكشراً عن أنيابي قائلاً :
ـ " لا.. لقد اكتشفت أنها لم تنتهي بعد.. "
ـ " ماذا بعد؟ ألم نقضي على الظلاميين.."
ـ " لا بعد.."
نظر لي في عدم فهم.. لم أدر لماذا بدا لي وجهه في تلك اللحظة متبلداً كوجه وحيد القرن.. قلت له موضحاً وإن كان لا يستحق :
ـ " الظلامي ليس فقط من يحيا تحت الأرض ويعيش على امتصاص دماء الأخرين.. هناك ظلاميين يعيشون بيننا في النور يرتدون البزة الأنيقة.. وربطة العنق المنمقة ويتكلمون من أنوفهم.. ويؤدون لأعدائنا نفس الغرض.. بأساليب مختلفة.."
ضيق عينيه محاولاً أن يستشف ما وراء كلامي :
ـ " من تقصد؟ "
نظرت لبزته الأنيقة وربطة عنقه المنمقة ثم إلى مطبوعاته.. وابتسمت..
وحينما استدرت مغادراً سمعته من خلفي يبرطم..
ـ " متى ستنتهي قصتك (الجملي) تلك؟.."
طبعاً رددت عليه دون أن التفت الرد الذي مللتموه جميعاً..
ـ " ل.. ي.. س.. ا.. ل.. آ.. ن"

***
تمت
عمرو مصطفى
القاهرة
4 جمادى الأولى 1437
13 فبراير 2016

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ليس الآن...............
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سيري الآن...الآن إبراهيم ياسين ومضات شعرية 8 09-18-2021 10:55 PM
الآن عبدالحكيم ياسين منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 6 10-09-2018 08:00 PM
حتى الآن .. !! محمد الشهري منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 196 05-21-2013 01:35 AM
الآن ندى اليعقوبي منبر البوح الهادئ 1 09-03-2011 09:23 AM
وقع الآن......... هشام زيد منبر البوح الهادئ 22 03-21-2011 01:51 PM

الساعة الآن 02:58 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.