السحابة الباردة التي كانت تمطر في ذلك الريف رحلت, مطرها الأخير وأنا بعيدة كان صامتا, وسكراتها الهادئة لم تعلن أكثر من ذلك, ما إن وصلت إلا وقد امتصتها التربة, لأجد جسدا باردا بلا روح أقبُّله في شيء كبير لا يوصف, شيء أكبر من أنني أبكي أو أتنفس, شيء تلعثم لديه لساني حتى عن قول الوداع أو.. أو أن أقبّلها في حرارة ..
العجيب في الأمر أنني عندما غادرت, عائدة لمدينتي , كان الرمال المُمتد على طول الطريق يمتص مني بعض الحزن, وكأنه يقول لي وأنا أسمر نظراتي به وهرباً إليه, أنا الرحيل, كان يقول لي الجسد الذي تبكيه مضموم، لدي وروحه مازالت تحبك, لكنها سلمت أمرها وصعدت, كما عاشت في غربة وماتت في غربة وهي في مسقطها, كان يحسسني بشيء يخفض الحزن قليلاً ويمنحني بعض من الاطمئنان,
ما كُنت أدري إن للرمال سحراً , لكنني عندما التفت له, قصر التنهيدات ووسع مساحة ما بالجوف, كان ينسيني لحظات أستحضرها حين فوات الأوان, أبوح بها للجدار الذي نحت كل الملامح, وتعانق نظراتي الزوايا, تجتمع في داخلي أشياء كثيرة, أنا لا أتقن وصفها, لكنها كانت تمارس ضغطاً قاسياً, كانت الطاولة حينها تتكلم والسرير يتكلم والباب, الصوت الخافت المبحوح الذي يودعني شيء فشيء كان ولم أحس به ارتفع صوته, كان أكثر وضوحاً من كل مرة, كان يشكل الصورة المتعبة وهي في ضحكة تلاشت في الأيام الأخيرة لكنها كانت على ذات السرير فلا يكون بوسعي إلا الحُزن.
تنتقل نظرتي لسرير مجاور, تتوسدها ذكرى أخرى, عندما كُنت أحضر لديه وأوقظ صاحبته النائمة تمطر فرحاً, فأرى ما سمعت عن دموع الفرح, كان أصدق تعبيراً من صوتها المُتعب الذي لا أستطيع سماعه, من صوتها الذي أعطته للفقد الكبير حتى تآكل في غربة أحباب, من صوتها الذي لم يبح بحاجته للحنان عندما رأى أن صوت الرياح أعلى منه, عندما تكبد من أسماء عشق مناداتها السفر الطويل والمجيء القصير الذي لا تكفي ساعاته المعدودة ليتمرن الصوت, وعندما يبدأ النطق يجد الحقائب قد حُزمت ..
في الرمال حنان, وفي تشكل خيوطه وارتفاعها وانخفاضها وامتداده, يجدد الذكرى بلطف وهو قريب من السماء الصافية في بُعد النظر, يعمق رائحة الراحلين, فأتذكر شال رأسها وتجاعيد وجهها وقميصها الخفيف وجلستها العجوز دون أن تسمع حواسي الحشرجة ..
فإذا أردت تخفيف وطأة الفراق أمتطي السفر في طرق أرصفتها الرمال طولا وعرضا , فالرمال التي جلبت الخوف مرات, كانت بالأمس لي كعشب يسر الناظرين لكن بلون التراب, فلقد نفضت ما بي وودعتها قبل دخول تعتيم المساء .
سلمى الغانمي