قديم 06-30-2016, 05:18 AM
المشاركة 61
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عمر و ثلّة من رفاقي في الملت ، حضروا بمناسبة موسم عيساوة ، أنا أيضا أزور قراهم في مناسبات مختلفة ، أعراس ، أعياد ، مواسم ، يحتفون بقدومي هم وأسرهم ، أنا أيضا أحب أن يزورني أصدقائي و رفاقي ، عمّي رحّب بهم بروح مرحة ، أحسّوا بتفرّده ، بإنسانيته ، عاملهم كما لو أنهم رفاقه ، وحين غادروا فاتحني في الموضوع ، أبوك لا يعجبه أن تحضر رفاقك إلى المنزل ، أجبته : " أعرف هذا يا عمّي ، وتعرف أنت أيضا هذا ، ألا تتذكر أنّه لا يستحسن رفاقك عندما كنت في سنّي ؟ " ردّ و الابتسامة تعلو محيّاه ، " أذكر لكن يبقى أخي " عقّبت : " نعم هو أيضا أبي ، قد لا تعجبنا أشياء كثيرة ، لكنها موجودة ، وجب التعامل معها هكذا " . نعم، أبي لا يحبّ رفاقي ، و ربما لا يحبّ الكثيرين ، لكنه رغم ذلك يرحّب بهم ، يجالسهم ، يحدثهم ، بل يعجبون بثقافته الواسعة ، بمعارفه الغزيرة ، في ميادين كثيرة يفوتني في المعلومات ، لم يذهب يوما إلى المدرسة ، حتّى المسجد ربما تعلم فيه الحروف فقط ، لكن الإعلام أعطاه ثقافة واسعة ، يصاحب المذياع بإدمان غريب ، قد لا تكون علاقتي بأبي جيدة كما أريدها و كما يريدها أيضا ، لكن في الأخير هو يعرفني ، و أنا أعرفه ، أعرف كما يعرف أنّه يصعب لمثل تلك التفاهات البسيطة أن تؤثر على علاقة أب بابنه ، يجده دائما بالقرب عند الملمّات ، و أجده دائما بالقرب عند كل الصّعاب .

جاء الموسم الجديد ، عمّي غادر ، التحقت بدار الطالب ، أنا الوحيد من بين هؤلاء الطلبة الذي يدرس في الباكلوريا ، لست أدري كيف بقيت وحيدا ، اكتريت غرفة مع عمر ورفيقين آخرين ، فيها نمضي أوقات فراغنا ، كان عاما مملاّ جدّا ، حدث فيه حدث سياسي هامّ ، فوز جبهة الإنقاد بانتخابات الجزائر ، ثم الانقلاب على شرعية الصناديق ، كنت متتبعا لما حدث ، فازت الجبهة بالأغلبية المطلقة ، حاول العسكر لجم الفيس منذ فوزها بالانتخابات البلدية ، و وصل الأمر إلى اعتقال زعمائها ، لكن ذلك لم يمنع عبد القادر حشّاني من اكتساح الانتخابات البرلمانية ، هو حزب فتيّ و ديمقراطية فتية ، في دولة لم تعتد بعد على التعدّدية ، كان بن جديد هو من أراد للجزائر هذا التوجه نحو الدولة المدنية ، لكن نهم الإسلاميين و تحجّر العقيدة العسكرية حالت دون العبور إلى توليفة تعطي هذا البلد السّبق و الرّيادة في احترام الإرادة السياسية للأغلبية . تفكّك السفيات ليس إلا تحصيل حاصل ، فمنذ سقوط جدار برلين و الاتحاد صوري لا أكثر ، وحرب الخليج أعلنت وفاة السفيات رسميا ، مؤتمر مدريد قد يكون حدثا أيضا رغم كونه مجرد ذرّ للرماد في العيون ، حتى سلام لبنان الذي عقب حرب الخليج هو أيضا بني على أسس ملغمة ، وقف إطلاق النار بالصحراء لم يقدّم حلاّ جديّا للموضوع ، أمّا أنا فأحاول إيجاد طريقة لتمضية هذا العام بسلام ، فأنا الآن حامل للبطاقة الوطنية و أقترب من استكمال ربيعي التّاسع عشر ، أمامي دورتين فقط لاجتيازهما بعد أن تم الاستغناء عن دورة ثالثة ، إنه التغيير الذي يطال أغلب البنى السابقة ، دورة في فبراير والأخرى في يونيو رغم أن العطل بقيت دون تعديل ، هذا النظام تخضع له أقسام الثانوي لوحدها في البداية قبل أن يعمم بعد ذلك في كلّ المستويات .
الإدارة ، صعب جدّا لإنسان يؤمن بالحرية أن يحبّ الإدارة والإداريين ، منذ صغري أمقت الذي يعطي الأوامر حتى و لو كان أبي ، سوف لن أنجح في التواصل مع الإداري لانّني منذ البداية أرفضه رفضا مطلقا ، قد أظهر احتراما ، قد أرضخ ، قد أنافق ، لكن هذه كلها مجرد تكتيكات لتقليص الأضرار ، تغيبت ذات مساء اثنين أنا و حسن ، في الصباح كانت لنا الحراسة العامّة بالمرصاد ، اخترعت كذبة موفقة ، ذهبنا لشراء لوازم الرياضة في السوق الأسبوعي ، نظرت إلى المكلف بالغياب ، وجدت وجهه لا يبشر بكثير من الخير ، رغم ذلك انطلت عليه الكذبة حسب اعتقادي ، لكن الأمر يتعلق بطعم مدسوس من رجل عالم بملفات المشاغبين. بعد مدّة قصيرة فتحت شهيّتي لكسر القوانين ، وجدت نفسي متغيبا ، وقفت قبالة مكتب الحراسة العامّة ، وجدت الرّجل غائبا ، ذهب في دورة تكوينية ، تصدى لملفّي صديقي في السّنة الماضية ، طلبت منه ورقة الدخول ، قال :" الأمر لا يتعلق بي ، ربّما كنت في السنوات الماضية تفعل ما تريد ونحن نغض عنك الطرف ، لعلك تتعقل ، هذه المرة لن تلج فصلك دون أن يعبئ ولي أمرك التزاما يتعهد فيه باحترامك لقوانين المؤسسة و إلا أحيل ملفك إلى المجلس التأديبي ، تلك أوامر الحراسة العامة و الإدارة . " هذا الخطاب جديد على أذني ، فالسيد أعرفه و يعرفني جيدا ، طوال السنة الماضية لا يحكّر معي رغم معرفته أنّني أتغيب لأتغيب فقط ، من حين لآخر كان ينتظر أن أغادر الدّراسة ، لكنه لا يعلم أنّني أتغيب بكثير من الحرص على أن لا يؤثر ذلك على نتائجي .
ماذا أفعل ، هل أقصد أبي ، لا سيعاملونه بكثير من القسوة ، إذن فمدير دار الطّالب قد يداوي الجرح بلا نزيف ، من إدارة لإدارة ، مكانته ستجعلهم يتراجعون عن هذه الوثيقة التي ستمهد لعقوبات مشدّدة متى تم الوقوع في خطأ ما ، فهذا الوافد الجديد جانبه ليس آمنا ، بعد استجواب قصير وافق مدير دار الطّالب على طلبي ، قائلا : " أتمنى أن يتعلق الأمر بالغياب كما قلت " طمأنته : " الغياب فقط يا سيدي المدير " حزم حاله و مضينا إلى الثانوية ، دخلنا على صاحبي ، ردّها في وجهه دون حياء ، بل أضاف : "أنت مكتعرفش هذا ، دوز عليّ الجحيم العام الفايت " فاجأني الحارس العام بهذا الأسلوب ، لم أكن أعلم أنك تكنّ لي هذا البغض كلّه ، رغم أنّني أحترمك جيّدا ، و أقول دائما في نفسي ، هذا الرّجل يعي ما معنى أن تحسّ بالضّجر والملل كلّما أعطيتني ورقة الدّخول دون عقوبة .
في طريقنا إلى البلديّة كان مدير دار الطّالب و هو رجل يقترب من تقاعده ، رجل صارم ، يقظ ، حادّ الطباع ، قويّ الرّأي ، يجتر بمرارة : من تكون يا ابن اللّئيمة حتى تردّها في وجهي ، أنا بكلّ مكانتي وهيبتي تجرجرني هكذا ، كان غضبه عليهم أكثر من غضبه عليّ، أحسنت يا مدير دار الطالب ، كان بإمكانك بكلّ بساطة أن تطردني أنت أيضا من مؤسستك بسهولة وقد وجدت سببا لقرار كهذا ، يومها عرفت أنّنا لا نقدّر الرّجل حقّ قدره ، أحيانا لا تعرف الرّجال حتّى تخالطهم ، رغم سلوكه الميال إلى الطيش و الرعونة ، فالرّجل يملك في داخله حبّا لأبناء دار الطّالب ، صحح إمضاءه في البلدية و لم يفارقني حتّى تسلمت ورقة الدّخول ، غير أنه حذّرني ، هذه هي الأولى والأخيرة يا ولدي ، في المرّة القادمة اشرب حريرتك وحدك .
تمر الأيام برتابة قاسية جدّا ، حتى تلك الفسحة والمتعة اللتان أحس بهما عند الغياب أصبحتا من باب المحظور ، يومها تأكدّت أن الغياب هو ما كان يمنحني جرعة زائدة للاستمرارية ، للتحدّي ، الآن عرفت لماذا لا أستطيع الالتزام ، فلو كنت أصاحب الكنّاش كل يوم لوصل دماغي إلى سكتة ما ، أنا في حاجة إلى الترويح عن نفسي ، بحاجة إلى وقت مستقطع لمواصلة اللعب و إيجاد خطة أخرى .
ما العمل يا نورالدين ، أنت محاصر ، لا حلّ غير الإستكانة فأمامك موسم واحد و تحصّل شهادتك وبعدها يمكنك أن تدبر أمرك وتغير المكان والنّاس.
لم يبق غير أسبوع واحد و تأتي العطلة ، ياه ما ألذّ العطلة بعد هذا الحصار الجائر ، نحن في السّاحة ننتظر وصول أستاذ الطبيعيات و قد تأخر بدقائق معدودات ، رجل من درجة إنسان ، يا لك من أستاذ ، معك عرفنا آخر ما وصل إليه علم الأجنة و الصفات الوراثية ، معك عرفنا التوالد كما لم نعرفه من قبل ، معك عرفنا المستور في الخلايا ، معك لامسنا نكهة العلوم . مبعثيرن قبالة المختبر جاءنا الرجل ، أقيموا صفّا أمام القاعة ، نتحرّك بتثاقل ، واحد منّا يرتدي جلبابه و رأسه مدفون في قبّه ، قصير القامة ، لاعب مميز في كرة القدم ، مفتول العضلات ، يمارس الجيمباز بكثير من الدقة والانسيابة ، رجلاه ثابتتان في الأرض ، كان مستندا إلى سارية ، لعلّه مريض أو يحس ذاك اليوم بتعب في نفسيته ، الحارس العامّ قصده ، جرّه من غطاء رأسه ، بعثر عليه الطالب أدواته ، وصده صدّا عنيفا ، لم يبتلعها الرّجل بل أمره بالتوجّه إلى مكتبه ، أقمنا الصّف في انتظار وصول الأستاذ ، خطر خاطر لبعضهم ، سنتوجه عند المدير ، فزميلنا مريض ، وقد اعتدى عليه ، الجماعة عقلها عقل قاصر كما يقول لوبون ، تتحرك عاطفيا فقط ، ذهبنا جهة الإدارة مجتمعين ، لم نجد المدير هناك ، أنا أعرف أنّ أغلبهم ونحن في الطّريق إلى الإدارة يسأل نفسه لم جئت إلى هنا ، أنهى الحارس العام عمله ، دخل التلاميذ إلى أقسامهم ، توجه نحونا عند باب الإدارة ، سأل أحدهم : " ماذا يجري ، لماذا جئت إلى الإدارة " أجابه الطّالب : " لست أدري ، رأيت الجماعة متوجهة إلى الإدارة فرافقتهم ." رفع الحارس العام رأسه فلمحني ، تخطى الكثيرين وقصدني عند باب الإدارة : " لماذا جئتم إلى هنا ؟" أجبته ببرودة أعصاب : " لأنك اعتديت على زميلنا ، أنسيت بهذه السّهولة ؟" قال لي ببرودة أعصاب : " يمكنك التفضل إلى مكتبي ، فأنا بحاجة إلى التحدث إليك ." قلت بعصبية : " مرحبا ، أنا أنتظرك هناك ." تحدث بكلمات إلى الجماعة والتحقوا بفصلهم قبل أن أصل إلى باب مكتبه ، التحق بنا ، استقبل زميلي الثائر ، فسمعت من كلامه نبرة استعطاف و التذرع بالمرض ، و أنه ظن أن زميلا من زملائه هو من جره من قب جلبابه وغيرها من الأعذار ، لم يشفع له تزلفه وتملّقه ، بل أمره المسؤول بتعبئة التزام بعدم تكرار فعلته ، غادر المكتب متأبطا أدواته حاملا مطبوع الالتزام . " تفضل يا نورالدين " دخلت عليه و بدأ في سرد موّاله ، أنت عبّأت الالتزام و ملفّك شاهد على سلوكك المنفلت ، فلن أقبل منك اعتذارا و لن أغفر لك هذا الخطأ " أجبته و الغضب باد على كلامي : " عن أي خطأ تتحدث ، أنت من اعتديت على زميلي ، و أنت من يستحقّ العقوبة ." أراد أن يرهبني برفع صوته ، فعلا صوتي على صوته ، فتركني في مكتبه ، خرجت متسمرا عند باب مكتبه ، فلمحني أستاذي في تغزوت الذي علّمني اللغة الفرنسية ، أذهب و أجيء قرب مكاتب الحراسة العامّة ، قصدني : "ما بك يا نورالدين؟ أجبته : " عفوا أستاذي ، الأمر بسيط ، سأتدبر أمري " كان الرجل يراقبي من زاوية ما ، التحق بنا ، حدّثه أستاذي قائلا : " هذا تلميذي ، درسته منذ كان برعما صغيرا حتى قبل أن ألتحق بالسلك الإعدادي ، عندما كنت معلما في الابتدائي ، و أعتقد أنه نجيب و مجدّ ، و ربما حدث سوء تفاهم فقط ." ردّ عليه المسؤول : " أتعرف ماذا يقول تلميذك هذا ، إنه يسبّ بدون حدود ، هذا لا يعترف بشيء في الوجود كله ، من على شاكلته ليست المدرسة موطنه." كان كلامه محرضا لغضبي أن ينفجر ، توجهت نحوه عاقدا لكمتي ، حال بيني وبينه أستاذي ، خرج الحارس العام الذي أهان مدير دار الطالب ، يبعدني عنه ، و أنا لا أزال أصيح بما يجود به لساني : " من أنت في هذا الوجود كلّه ، سترى أن واحدا منّا فقط يمكنه الاستمرار ، أنت لا تعرف مع من تلعب، كلّ شي مقبول إلا الاحتقار والشّطط ." تعاون أستاذي و الحارس العام في إبعادي عنه ، حتى وصلت إلى باب الثانوية ، هناك أخذ أستاذي في ترشيدي : ألا تعرف بعد يا نورالدين عقلية المسؤول والإداري . يجب أن تخفّف من لهجتك ، يجب أن ..و يجب أن..." قبّلت رأس أستاذي و طلبت منه المعذرة إن كنت ظهرت له بمظهر غير ما ظنّه بي و تركته يلتحق بتلاميذه . قصدت دار الطّالب ، ارتديت أحذيتي الرياضية ، و رجعت أطوف حول المؤسسة لعله يظهر .
في اليوم التّالي جئت المدير فوجدته غير موجود أو لا يريد مقابلتي ، زميلي عبّأ الاتزام والتحق بالفصل ، أنا لا أزال أجوب الطرقات ، أعدّ لي دماغي سيناريوهات كثيرة ، لكن المدير أخيرا أرسل في طلبي ، دخلت إلى مكتبه ، وجدت الرجل هناك ، يتحدث المدير أكثر من خمسة عشر دقيقة و ختمها بأن أعتذر للمسؤول ، أجبته ببساطة : " ماهي جريرتي سيدي المدير ، أنا لا أعتذر عن شيء لم أقترفه ." تدخّل الرجل مرّة أخرى : " السيد المدير ، بلغني أنه يحرض التلاميذ على مغادرة المؤسسة قبل الموعد الرّسمي للعطلة " تغيب التلاميذ قبل الموعد الرسميّ للعطل بيومين أو ثلاثة تقليد يعرفه الجميع في المؤسسة ، فالأمر لا يحتاج إلى تحريض . عقّبت على كلامه : " أرأيت سيّدي المدير ، كيف تريدني أن أعتذر والرّجل لا يزال يحفر لي ، هذا غير معقول وغير مقبول . غضب المدير و كتب لي ورقة الدخول قائلا : " يكفي من هذا الكلام ، التحق بقسمك "



قديم 06-30-2016, 09:33 PM
المشاركة 62
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كانت نتائج الدورة الأولى غير مشجعة ، لم أصل إلى المعدّل و هذا نادر الحدوث في حياتي التعليمية و أطلق ناقوس إنذار يصعب تجاهله ، رغم أنّني غنمت خلال أعوام الثانوي بعض النقاط التي ستساعدني على الارتقاء بمعدلي ، وحالي أفضل من البعض الذين يرزحون تحت تأثير القروض ، إذ يجب عليهم استدراك وتعويض مافاتهم خلال الموسمين الماضيين ، إلا أن ذلك لا يمنع غصّة من الجثوم على صدري ، لا أحب الهزيمة ، وهذه المرة لا أستطيع حتّى تحديد مصدرها ، أين الخلل ، لا أعرف ، الأساتذة ممتازون ، الدروس لا تحسّ فيها صعوبة ظاهرة ، هذه النتيجة لا تمثّلني و لا أمثّلها ، هي غريبة عنّي .
الفلسفة ، هذا العام وجدتها في طريقي ، تصوّروا أن تجد الفسفة ذات يوم في طريقك ، تسامرها ، تغازلها ، تشاغب بين يديك كفتاة بريّة ، تخيّل أن تجد الكثير ممّا يبعثرك من محاسن هذه الّشقية ، رغم أنه مجرّد مدخل إلى الفلسفة ، لكنه كان عميق الأثر في نفسي ، تناول المقرر الفلسفة كموضوع ثم انتقل إلى موضوع العقل والنقل ، عرج على الشخصية و وقف عند الملكية . تصوروا مثل هذا المقرر ، الشخصية وعالم فرويد و وجودية سارتر ، الشغل والملكية و صراع البرغماتية الأمريكية مع الماركسية ، و نظرة على الفلاسفة المسلمين ، و قبل هذا كله تعرّف الفلسفة ، أظنه برنامج موفق جدّا ، و الفضل أيضا يعود لأستاذ الفلسفة في جعل حصصه نابضة بالحياة ، أعطت هذه المليحة الشقية مزيدا من الجاذبية .
لم تكن الفلسفة ببعيدة عنّي ، فربمّا تقام حلقات بين الطلبة على مر الأعوام الماضية تناقش الإشكالات الفلسفية ، و نتحاور انطلاقا من تصوراتنا ، و يغني البعض تلك النقاشات التي قد تكون حادّة أحيانا ، باستشهادات فلسفية و آثار الفلاسفة ، لكن أن تلامس الشيء كما هو ليس دائما كما لو أنك تلمحه من بعيد .
في مارس ، قصدت أكادير ربما لتعبئة ملف المنحة الجامعية ، في أيت ملول وعندما انشغلت بعبور الطريق ، كانت هناك سيّارة يقودها شخص أعرفه ، بل أ ريد أن أعرفه أكثر ، غفلتني سيّارته ، تسير بسرعة ، تبتعد منعرجة عبر حيّ سكني ، لا أزال أجري وراء السيّارة لعلّني أعرف أين ستقف ، لكن لا أعلم كيف هربت منّي ، لكن يكفيني هذا ، أنت تكون هنا في الجوار ، سأجدك ، إن عاجلا أو آجلا . ستجدني في طريقك ، ما كان عليك أن تعلنها حربا ، خمس نقاط من عشرين في المواظبة والسلوك ، تصوروا أن تصل بك الأيام أن تجد من ينقّط سلوكك ، هذه هي السنة الأولى التي أجد فيها المادّة في ورقة النتائج ، مادّة بلا مقرّر و لا أستاذ و لا امتحان ، مادّة تعطى فيها الصلاحية لشخص كهذا ليقرّر مصيرك ، ليقوّم سلوكك ، قلت لرفيق يوما و أنا أمازحه ، ما التقينا هذا العام إلا لألقّنك الأدب ، غضب غضبا عارما و ردّ عليّ : "أدّبني ربي و أحسن تأديبي" .

ثلاثة أشهر فقط أو أقلّ بقليل و تنتهي هذه الأعوام الثامنية ، الطويلة جدّا ، التي أتعبت خاطري ، فالصمود أمر مرهق جدّا ، ذات سبت من شهر أبريل جئت لزيارةعائلتي ، سألني أبي إن كانت الأمور بخير ، قلت نعم يا أبي ، كل شيء بخير وعلى ما يرام ، أضاف أبي ، دراستك ، مواظبتك ، أساتذتك ، أكّدت لأبي :" كلّ شيء عاد جدّا يا أبي ، لكن لماذا تسأل ." نظر أبي نحوي والخيبة تعلو ملامحه: " لماذا أسأل ، لأنك لا تصارحني ، لأنّك تغيرت يا نورالدين ، لأنك لم تعد أهلا للثقة ." فاجأني أبي بهذه الحدّة و قلت :" أنا لا أعرف ماذا تقصد يا أبي ، و ماتقوله غريب ." أفحمني أبي قائلا : " وتكذبني أيضا ، خذ هذا الاستدعاء ، واقرأه جيدا ، و عند ذاك ستعرف ما الذي أقوله ." حاولت أن أشرح لأبي ، لكنه غضب غضبا شديدا و أرعبه ما تحمله الرسالة . " السيد لعوطار محمد ، يؤسفني أن أخبركم أن ابنكم نورالدين لعوطار لايحترم المؤسسة وقوانينها ........... لذلك أدعوكم للحضور إلى المؤسسة للاطلاع على ملفه ، قبل أن تتخذ الإدارة الإجراء المناسب في حقّه . "
كان أبي محقّا في غضبه و كان محقّا في إصراره على مرافقتي إلى الثّانوية ، لكن قاومته بشدّة ، هذه حريرتي يا أبي ، أنا سأتصدّى لمشاكلي ، يدور و يدور ، و يعود مرة أخرى : " لا سأصطحبك لأعرف ماذا يجري ." طوال تلك الليلة والدموع تنزل من عيني بلا توقف ، أحسست بالغبن ، أحسست بالظّلم ، أحسست بأن الرجل مهما حاولت أن أبتعد عنه فهو لا يزال يحفر ، ستة أشهر وأنا أتفادى الصّدام معه لأنهي هذه السنة بخير ، لكنه لا يفتأ يحفر ." رغم ذلك يجب أن تتعقل ، إن الكيس من يتحكم في أعصابه يا نورالدين ، لا تنجرف إلى ما يريد ، لا تساعده على نفسك ، أخيرا اهتديت إلى الديبلوماسية ، لعلها تمضي ما بقي من العام في سلام ، سأفاتح ثلاثة من الأساتذة في الموضوع ، من جهة ليحاولوا ثنيه عن الاستمرار في مسطرته التأديبية و إن فشلوا و ردّها في وجوههم ، كانوا لي عونا على استمالة أعضاء المجلس التأديبي عند انعقاده ، ليقفوا في وجه أي قرار جائر.
دخلت مبنى الثانوية مفتعلا أعصابا باردة ، كعادتي أضحك مع هذا ، أرفع يدي لتحية ذاك ، وهكذا مضى اليوم الأول دون أقدم على خطوة ، لكنّني استفسر عن القوانين ، لأتموضع في الصورة كاملة . في اليوم الثّاني مساء ، وبينما كنت عند الفرنسية ، طرق طارق الباب ، خرج إليه الأستاذ تحدثا قليلا ، نطق الأستاذ " سي بغوبابل ، كيلكان باغمي فو أ دي بغوبليم أفيك لادمينيستغاسيون ، سيفغي نوغدين !" انتفضت لكأن عقربا لسعتني ، آه أنت لن تتركني أتصرف بحلم ، إذا لم يكن من الموت بدّ ، فمن العار أن يموت الإنسان جبانا . متسرّع أنت ، كان يجب أن أبحث عنك بجد ّ في أيت ملّول . أتقدم نحو الإدارة يظهر لي الحارس العام واقفا بقامته الطويلة وجسمه الثابت ، معه رجل في بذلة أنيقة شاربه الأسود الكث بارز في ملامحه ، أنت كلّك هنا ، غير معقول يا عمّي ، ما هذه الصّدفة الحسنة ، ما هذا يا رجل ، من غير ميعاد ، حضنني بين ذراعيه كما تحضن الأم رضيعها ، ضممته إلى صدري ضمّة البارّ لوالدته ، افترقنا لنعود من جديد، لمحت يد الحارس العامّ ممتدة ، هل أركلها برجلي ، أم أمدّ يدي ، أنا مؤدّب يا رجل ، سلمت عليه وهو ينطق: " يمكنك مرافقة عمّك . " خرجنا من الثانوية ، قدّم لي عمّي سيجارة ، قلت : " لا يا عمّي ، ربما لم أعد أدخن." قال:" منذ متى"، " قلت :" منذ يوم السبت ، حين أسمعني أبي ما لا تريده نفسي ." تبسم و قال :" أوقد السيجارة ، أمّا الحارس العام فأنا علّمته كيف يجب أن يحترم النّاس ولا يحتقرهم ، هذا فعلا بعد أن سمعت مالديه ، و وقفت على ثغرات في كلامه ، حينها حدثته أنّني سأذهب إلى الوزارة في الرباط ، متى حدث شيء لهذا الولد ، وذكرته أنك أمضيت ثمان سنوات هنا دون الوقوع في أية مشاكل ، فلماذا إذن في عام مصيري كهذا ؟ لمحت أنه يبتلع ريقه ، فخففت عليه ، وأعطيته عنواني ليتصل بي بدل أبيك متى وقع شيء ، لكنه في النهاية حدثني أن المشكل انتهى إلى غير رجعة . " دفعني عمّي وقال :"تنفّس و انشرح ، ماذا ينقصك ." نشرب القهوة حين سألت عمّي : " ما جاء بك هنا يا عمّي ؟ "

قديم 07-01-2016, 06:24 PM
المشاركة 63
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هو الزواج إذن يا عمّي و بمن بشقراء ، يعلم أن لا أحد سيقول له لا ، لكن من باب الاحترام جاء يقنعهم باختياره ، سواء تعلق الأمر بأبي أو بوالديه ، في قرارة نفسهم لا يوافقون ، لكن ما العمل ، هذا عبد السلام ، وهذه حياته ، فليقدها كيف يشاء ، هل كانوا مقتنعين بضرورة ذهابه إلى الخارج ، في تلك اللحظة أيضا جاء وأقنعهم باختياره وغادر ، هو الأمر كذلك اليوم ، ستقنعهم وستغادر ، لم تعد العلاقات العائلية بتلك المتانة ، و لم تعد ثقافة العائلة تهمّ أحدا ، كل يجدف في زاوية ، كل يخطّط لوحده ، حتى التواصل يكون مستعصيا بين أفرادها ، تغير رهيب يقع في صميم بنية المجتمع ، يساعد على عزل الفرد عن محيطه القريب ، عن أصوله عن ثقافته ، لا أظن الأشياء جاءت صدفة ، و لم تكن حتّى حركية عادية للتاريخ ، و لا حتى طفرة في العلاقات الاجتماعية ، أظنها مؤامرة كبرى لاستعباد بني الإنسان ، هو الإنسان كلمّا تم عزله سهل غسل دماغه ، وهذا ما تفعله الدعاية كلّ يوم . كلّما تم عزله أحس بالوحشة أكثر ، و كلمّا أحسّ بالوحشة سهل امتلاك فؤاده ، سهل اللعب على عواطفه ، سهل دغدغة مشاعره ، سهل استقطابه ، للانتماء إلى العالم الجديد .
أنا أيضا أنتمي للعالم الجديد ، أرى زواج عمّي من الشقراء فخرا ، و تفتحا و إيمانا بقيم المدنية ، أصبحت مواطنا عالميا ، تستميلني صورة مايكل جاكسون ، و أحب مادونا و صبرينا ، أنا أيضا أحبّ أن أتواصل بالهاتف مع النّاس ، وأذهب إلى المخدع الهاتفي الجديد الذي تم إنشاؤه في تالوين . نضرب الأرقام جزافا أحيانا لعلنا نلتقي مع فتاة ما و الآلة تبتلع الدراهم .
حصلت على الشهادة ، صاحبي نفسه هو من سلّمها لي ، و أيضا قدم لي العديد من النّصائح و التوجيهات و غيرها ...، يا للعجب هم النّاس ينقلبون مئة وثمانين درجة ، لماذا لم تكن هكذا منذ البداية و وفرت عليّ وعلى نفسك كل ذلك الشّد . حصّلت على نقط جيّدة في الدورة الثّانية ، لكن في قرارة نفسي أظنني لا أستحق تلك الشهادة ، نفس الشعور الذي صاحبني في الابتدائي ، وجدته في الإعدادي و ها هو يتكرر معي الآن في شهادة الثانوي . لكن مع ذلك وجب إظهار الاحتفال ، إظهار الانتشاء للأقربين و للأصدقاء ، تتلقى التبريكات ، و التهاني ، تتفاعل مع المجتمع تتشرّب الزّيف بإتقان ، تلعب دورك ، أصبحنا نلعب أدوارا ، نحن لا نعيش ، نحن نمثل ، نبجل الزيف ، نقدّسه ، في رحابه نخشى على دواتنا من حقيقتها ، نحاول أن نظهر على نمط آخر ، نزيد من المساحيق ..... لا أستطيع تحمل هذا يا أصحابي .



نهاية الفصل الثّاني

رمضانكم مبارك و تقبل الله منكم الصيام والقيام .

و عيد سعيد للجميع


انتظروا الفصل الثالث بعد العيد بحول الله .

قديم 07-07-2016, 12:34 AM
المشاركة 64
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الألفية الثالثة ليست إلا حلما فيما مضى ، كنّا نراها بعيدة لكأنها لن تأتي أبدا ، كنّا نظنها شيئا آخر غير الذي أعيشه اللحظة ، كانت بها الآمال العظيمة معلّقة ، كنت أرى فيها حلولا لكل ما يؤرقني آنئذ ، لكن تجبرك الأيام على الغفلة ، هكذا العمر يمضي ، تتلهى بشيء قد يكون جيّدا و قد لا يكون ، فتجد نفسك في طور آخر ، في حلّة مغايرة للّتي كنت بها ، و تتنافى تماما و ما كان يعتمل في دواخلك من آمال ، عام ألفين ليس مجرّد رقم ، و لن يكون ، فالعالم كله حمّله حمولة ما ، أعطاه رمزية الخلاص ، فيه ستينع الثمار و فيه سينضج وسيزدهر الرّغد ، منذ عام و أنا في الملت ، بزغ فجر الألفية في دياري ، كان المختار السّوسي يوم نفاه المعمّر إلى قريته في تزنيت و أبعده عن المراكز الحضرية حيث تجتمع الطبقة المثقفة المقاومة يومئذ يحس بنوع من الضجر الغريب ، وأنشد "يعزّ علي أن أرى موطني منفى " صدقت يا مختار أحيانا تكون الأوطان والمنافي سواء ، وهناك من يختار نهايته بنفسه دون أن يكون مجبرا عليها كما أنت ، هو الرّجوع إلى الوراء صعب جدّا ، هو التقهقر أمر معيب ، هو صنو الفشل ، هو رفيق الضعف ، فماذا يبقى غير الكتابة . رياح الخريف ، في هذا العام كتبتها ، كنت قد بدأت مقدمتها سنتين قبل الألفية ، لكن في هذا العام ، أحسست كما لو أنّه النهاية ، صعب جدّا أن ترى نفسك انتهيت ، هو الوقوف اختارته نفسي منذ زمان ، لكن النهاية مختلفة تماما ، الوقوف مجرد استراحة ، مجرّد سبات ، قد ينفرج يوما متى ظهر دافع حقيقي للمثابرة ، لكن هذا العام هناك شيء في داخلي لا يريد الاستمرار في لعبة التحمّل ، في هذا العام اعتلّت نفسي ، متضايق إلى أقصى الحدود ، ربما كانت رياح الخريف ستنحو منحى آخر غير ذلك الغارق في الذّاتية لولا أنها لم تكن مجرد تنفيس ، مجرّد ركوب على وجعي الماسك بتلابيبي ، بعض الأزمنة تمتص فينا لبّنا ، تغرقنا في رحاب اليأس المطبق ، أعرف أن شخصا متمرّدا لن يكون مصيره غير هذا ، أعرف أن إنسانا لم يتسلّح بالمرونة سيكسر ، هي النفس تنهار إن لم ينهر الجسد ، من جعل من نفسه هدفا لسياط السّخط عاجلا أو آجلا سيتبخر عزمه ، و يتلاشى عقال تماسكه ، رأسي يؤلمني على مدار الأيام ، و خرير يصدّع أذني، تذكرت المسنّ المصلوب على سرير تارودانت ، لا أحسّ الضيق ضيقا ، لا أحس الفرح فرحا ، لا أحس العياء عياء ، لا أميز بين الكثير من أحاسيسي ، ماهذا المصير المخجل يا نورالدين ، هل يعقل هذا ، أنت الجبل الذي تتكسر عليه العواصف ، الجبل الذي يقف في وجه الأعاصير ، الجبل الذي لا تؤذيه الزلازل و لا الفيضانات ، ماذا فقدت يارجل ؟ لاشيء تقول نفسي ، ماذا كنت تنتظر و لم يتحقّق ، لا شيء تعيد نفسي ، فلماذا إذن تنهار ؟ لا أدري ، ترد نفسي التّائهة التي لا تريد حتى هذه الأسئلة ، لكن الكتابة هي ما أفكر فيه ، أعرف أن الكتابة هي من تعطي الحياة للفرد حتى وهو في قبره ، أعلم أن كلّ الذين ماتوا وتركوا كتابا ، ظلّوا بعده يعيشون في أذهان النّاس ، هو وجود من نوع آخر ، ليس وجود فكرة فقط ، إنها الذات تتكرر في نسخ أخرى ، نحن لا نأخذ الأفكار من الكتب ، نأخذ رحيق الذات ، تلك الزبدة ، تلك المهارة التي تعلن بها الذات عن وجودها ، رياح الخريف لم أكتبها كمذكرات ، ولم أكتبها لجيلي ، فأنا أعرف أنّني لن أطبعها ، كتبتها فقط كثرات إنساني ، كتبتها لنفسي أعزّيها أن الوجود خدعة كبرى ، حتى أنها بعيدة عن نمط المذكرات و السيرة ، و إن كانت تحتوي بعضا مني . المذكرات لا أحبّها ، وأنا أعرف أنها لا تقدم صورة حقيقة عن الفرد و إن كانت تعطي إشارات مباشرة ، فلا يقدّم الحقيقة غير تلك اللمسة التي تتركها الشخصيّات في معترك النصّ . قرأت الرحيل للعربي باطما واحد من أبناء الغيوان الذي كتبه وهو على السرير يتنتظر الموت ، و قد علم أنه مصاب بالمرض الخبيث الذي لا علاج منه ، لم أستحسن مذكراته ، أحسست فيها أنه يكتب ليقول هذا هو باطما ، ليس هذا صحيحا ، أنت لست ذلك المهزوم الذي يتحدث ، أنت لست تلك اللحظات الباشّة التي انتقيتها من سيرتك ، أنت ذلك الصوت الرخيم الذي يتمازج مع الأوتار والإيقاع، حينا يرق ، و أحيانا يكون صاخبا و أخرى عاشقا و تارة تبدو منه الحيرة ، هكذا وجدتك ، لو استشرتني وأنت تكتب الرحيل ، ما تركتك تكتب كلمة واحدة ، حتى بعد شفائك النّسبي وخروجك من المستشفى عدت بكتاب جديد ، لم أقرأه ، ولا أظنني سأقرِأه و قد كان ذات يوم في المتناول . شكري يا شكري ، قرأت لك زمن الأخطاء ، و لم أجتهد لقراءة الخبز الحافي لأنّني أخاف أن تصدمني حقيقة أنه لن يعجبني رغم ما رافقه من ضجّة ، زمن الأخطاء رغم أنه كتب بكثير من الاحترافية إلاّ أنه ما طربت له نفسي ، لا أحبّ أدب السيرة لأن الحقيقة تجانبه ، الحقيقة في الغالب ليست قصديّة ، كلما أردت أن تعلن الحقيقة تغيب ، الرمزية هي رونق الأدب ، المجاز هو الحقيقة اللّغوية ، و هو ما يقدّم اللّمسة الفنية التي من خلالها تظهر تجربة الشخصية في الحياة . لا تعجبني الاستجوابات ، و إن كنت أتابعها بكثرة ، لكن لا أحس فيها الحقيقة ، علم ما يتحدث عن نفسه ، إن كنت فنّانا ففنك يحكيك ، فلا تلوث حقيقتك الفنية بجمل مجاملة أو بإصرار على إظهار الذات ، هي الذات مزيج يا صاحبي ، العروي ربما أعجبتني أوراقه ، سيرة ذهنية لبطل اختاره خارج ذاته ، يعطيه متسعا لإضفاء سمات الذات على الشخصية ، المباشرة تقتل الذات فينا ، تغلقها ، لا تعطيها سبلا لإظهار مهارتها ، إنها ساعة امتحان، فالطالب ليس تلك اللحظة التي يجلس فيها مع ورقة تقول له كن أنت الآن ، الذات تلقائية التصرف ، الذات لا تحب القيود .

سأعود إلى الملت ، هنا ولدت وهنا وجدتني الألفية الجديدة ، هنا أكتب رياح الخريف التي لن يقرأها أحد ، لست كاتبا كما يحب البعض أن يكون ، أنا مجرد أنا ، وجدت رغبة في الكتابة فبدأت أكتب النهاية لمقدمة عمّرت السنتين ، وعند إنهائها بدأت مقدمة لأخرى ستكون بطلتها فتاة لن تكون إلا رفيقة بطل رياح الخريف ، في ذهني مركب من الحيوات تريد الظهور ، لكن الكتابة تتعبني ، الالتزام يقتلني . لذلك بعد كلّ فترة لابد من الابتعاد ،هكذا أنا ، لا أستطيع الوفاء بالقدر الكافي لشيء مقنّن .
أبلغ الآن سبعا وعشرين سنة و بعض السينتات ، وكنت تركتكم عند التاسعة عشر و بعض السينتات أيضا ، هي ثمان سنوات إذن أوصلت روحي إلى النهاية ، جعلت نفسي مريضة ، جعلت منّي إنسانا يريد فقط أن يكتب ، إنسانا اكتفى من العالم الخارجي ، حتّى هؤلاء الصبيان الذين أمثل كلّ يوم أمامهم كمدرّس ، رغبتي في تدريسهم تذوي يوما بعد يوم ، لولا إيماني بالواجب لاستحليت الجلوس على المكتب مطأطئا رأسي الفوار ، تاركا دموع عيني تنزف.

ثمان سنوات بدأتها بفرحة النّجاح البادية على ملامحي للأقربين ، و توجّس رهيب يملأ قلبي من المستقبل ، لست المهنة ما يؤرقني كما هؤلاء العالمين بما يريدون في أنفسهم ، يريد منصبا وأجرة و يريد أن يبني بيتا وأسرة وسيارة و امتلاك قدرة على الاصطياف ، أليست هذه الموضة الجديدة التي تسكن العالم الجديد ، أليس هذا منتهى الحلم الأمريكي ، ما أتعس الإنسان حين تكون تلك القشور أغلى أمانيه ، أين الإنسان فينا إذن ، عشّ تبنيه حتّى العصافير ، شهوة بطن و فرج يمتلكها كل حيوان ، وسيلة تنقّل ، منذ الزمن الغابر و الأقدمون يركبون البحار ، أين أنت أيها الإنسان ، الفنون بدورها أضحت تجارة ، كل شيء يباع و يشترى ، يقول عبد الهادي ازنزارن حين سألوه لماذا اقلعت عن إبداع أغان جديدة ردّ ساخرا:" ملاّك السوق يريدون أغنية في ثلاثة دقائق ، أنا أعزف التقاسيم عشرة دقائق وأنتقل إلى الموال خمسة دقاق ، و أغنّي الأغنية في لحنين مختلفين فتصل الأغنية إلى ثلاثين دقيقة ، هؤلاء لا يبحثون عن الفن ، أنا لا أملك ما يريدونه ." العلم أيضا احتكره أباطرة السوق ، أين القيمة ؟ أين البعد الإنساني ؟ حملت شهادتي لأنخرط في معمعة العالم الجديد محاولا التوفيق بينها و بين رغبتي في أن أعيش إنسانا . أريد أن أدرس في مراكش يا أبي ، أبي يعترض ، ليس حبّا في علوم الاقتصاد اخترت مرّاكش ، ليس لأن الكوكب هناك ، ليس لأن إبراهيم هناك ، ليس هذا و ذاك ، بل فقط أريد بصيصا من الحريّة ، منذ غادرت منزلي أعشق الحريّة ، لا أستطيع أن أعيش في بيت عمّي عبد الله في أيت ملول ، و هذا ما يريده أبي ، لأنّه لا يستطيع تحمّل مصاريف إضافية من جهة ، و رغبته في أن أكون محاصرا من جهة أخرى ، هم يؤمنون أن الحرية جناية في حقّ الإنسان ، لذلك يجب تكبيله ، وجب وضعه في إطار . حاولت إقناعه لكنّه رفض . حسنا تأبطت وثائقي و رحت أكادير ، وجدت هناك المئات من أمثالي يحرّرون معلوماتهم ، في كل مدرّج توجد لجنة مخصّصة بتقييد التلاميذ في شعبة ، أذهب وأجيء بين البيولوجيا والفزياء ، هل أختار الطبيعيات أو الفزياء والكمياء ، الطبيعيات رهان مضمون ، أرى نفسي بيسر سأنتزع الشهادة الجامعية ، مشكل اللغة لن يكون عائقا كبيرا ، ستتآلف و المصطلحات المفرنسة ، لكن الآفاق في الجيولوجيا والبيولوجيا تبدو محدودة ، أو هكذا بدا لي يومها ، أيضا لا أحب الأشياء السّهلة ، لو كانت الرياضيات مفتوحة في وجهي لما أصابني التّشتّت ، لكن أخيرا وقع اختياري على الفزوياء والكمياء ، على الأقل هنا تبقى الرياضيات حاضرة بقوة ، و لو أنّني أعاني مع الفزياء في الثّانوي ، فكنت أخصّص قرابة أسبوعين قبل الامتحانات للفزياء وحدها ، و لا أراجع إطلاقا الرياضيات و الطبيعيات ، لكن ما العمل ، تبقى الفزياء محكّا حقيقيّا لي و مادّة تستحق جهدا لا مناص من تجشّمه .
ما أن ألتقي بواحد من أصدقائي إلا و يحدثني عن مدرسة المعلمين ،سألت أبي عن رأيه فما كان موافقا ، سألني عن مدرسة المهندسين وعن كلّية الطّب ، قلت أمّا الطّب ففي البيضاء و لن يلجها إلا من كانت نقطه أكثر بكثير من نقطي ، أمّا المهندسين فشعبتي لا تؤهّلني لها ، حتى لو قبلوا شهادتي فأيضا نقطي لا تسعفني . هناك مدارس و معاهد أخرى فتحت يومئذ أبوابها لاستقبالنا ، كالمدرسة الوطنية للمعادن ، و معاهد الزراعة والبيطرة وغيرها كثير ، فهذه الشهادة هي مفتاح المستقبل ، ومن ضيع فرصة الاختيار في الصيف فسيفوته القطار ، في الخريف ستكون التخصصات كلها قد اكتفت من الصيد و ستدخل في سباتها العميق حتّى الموسم القادم . ليست وحدي من يعيش في دار الغافلين ، فالكثير من أبناء الضواحي مثلنا ، لا يعرفون الأبواب المفتوحة في وجوههم ، و لا حتّى الوظائف التي يمكنهم الالتحاق بها ، ولا حتّى كيفية الولوج إلى العديد منها ، ثقافة المسارات هذه ، لن تجد المدرسة تعلّمها لك ، فأنت ربما ستنازعهم في أماكن يريدونها لأنفسهم ، لماذا نعلّمهم فن المسارات الوظيفية ، كنت دائما أتساءل لماذا لم ندرس القانون في التعليم الثانوي على الأقل ، لماذا يتمّ تجاهل هذه النقطة من طرف الفاعلين التربويين والحقوقيين و الهيئات السّياسية ، هناك جهل مطبق بالقانون ، يؤدي إلى الكثير من التجاوزات . مدرسة المعلمين هي المؤسسة الوحيدة التي قدّمت لها طلبي بعد الجامعة ، حتى و أنا أقدّم الطّلب لست مقتنعا أنّني سأكون معلّما ، ما جاء ببالي أن أكون معلّما يوما ، إن كنت سأمارس التدريس فربما كنت سأختار تدريس الرياضيات في الإعدادي أوالثانوي ، أما أن أمارس التعليم الابتدائي فهذا لم يدر في عقلي ولو للحظة في عمري . أيضا أنا لست متعجلا إلى العمل ، أراني لا أزال صغيرا على ذلك ، بل لا أزال مراهقا حتّى في أفكاري ، لست قادرا بعد على المسؤولية ، أليست المسؤولية هي ما يجعلنا أشقياء ، أليس الشقاء رديف هذا التكليف المملّ ، المسؤولية التزام ، هذا ما يخيفني أكثر .
لماذا لا يتوقف هذا ، قلنا ذات يوم أن الباكلوريا تعطي انشراحا ، تعطي قوة للعقل والنفس ، تعطي شعورا بالرّضا ، هذا بهتان يا إخوتي ، وجدت أنها البداية ، أتذكرون يوم ذهب معي والدي إلى تغزوت ، أو إلى تاركا ، أو إلى بيت الحاج ، هي البداية في كلّ مرة ، بدايات لاتحس فيها نهاية لأن بداية أخرى هناك في الانتظار ، لم يتركونا نستمتع بشهادتنا التي أبلينا فيها عمرنا ، أعطوا إشارة الانطلاق ، مجرد صفارة و استأنف الجميع الركض، أنت هكذا ستبقى أيها الإنسان ، بعد كل بداية بداية ،لا تسأل عن النهايات ، لاتسأل عن النتيجة ، بل انطلق مع المنطلقين ، ضع رقبتك بين الرّقاب و اصدح تقدّم يا قاطع الرؤوس ، يقولون في بلدتي ، إذا كان النّاس يتخاطفون على الظفر بالثعابين فلا تتقاعس في اختيار أكبرهم حجما . عجيب هذا العمى ، هذا الهوس ، هذا الجنون المبجّل في العالم الجديد .
مضت العطلة في طرفة جفن ، منذ هذا الموسم ستزداد سرعة الزمن ضعفا أو ضعفين ، لست أدري أهو الكبر يجعلنا أكبر من الأيام فتبدو زهيدة صغيرة نعبرها بخطواتنا العملاقة كما نعبر الدقائق لمّا كنّا صغارا ، أم هو جنون الزمن أيضا فما عاد يلتفت إلى الوراء بل عضّ في كسوته يرادف الخطوات في سباق مع الملايين .

هكذا استوطنت أيت ملول في بداية الموسم الجديد ، منها أذهب إلى الجامعة في الحافلة ، هي الظروف غير مريحة و لا أريد الخوض في تفاصيلها أكثر ، بل سأبقى في رحاب الجامعة ، هذا الفضاء الرّحب ، كلّية العلوم و كليّة الآداب متجاورتان ، أحيانا أزور كلية الآداب التي لايزال تلامذتها في عطلة ، ألتقي هناك مع لحسن ، رغم أن هذا هو موسمه الثاني شعبة اللغة الأنجليزية لكنه لا يزال في السنة الأولى ، هو أيضا آثر التصدّق ببعض سنوات عمره ، أخوه اختار معهد التكنولوجية التطبيقية ، صديق أخيه ، واحد من رفاقنا في دار الطّالب ، في السنة الثّالثة فزياء ، قدّم لي العديد من الكتب ، نورالدين سيغير حياته ، سيراجع و سيثبت للجميع أنه قوي ، في الحقيقة لا أملك الخيار ، عند الفزياء لا أفهم شيئا ، عند الكمياء الأمر لايختلف كثيرا ، عند الرياضيات الأمر مختلف بعض الشيء على الأقل لا يبدو ما أدرسه غريبا ، صعب أن تكتشف أن معلوماتك في الفزياء نقطة في بحر ، بل لا وجود لها مقارنة و ما تتعلمه ، هذا يتعب روحي ، فأنت هنا تنطلق من معادلات في الترموديناميك لا تعرف أصلها من فصلها لتبرهن علاقات أخرى دون أن توضع في الصورة تماما ، تخبط غريب في المناهج ، يملأ الدكتورالسبورة و يمسحها ليملأها من جديد ، يتحدث و يكتب لساعة و نصف السّاعة ، ينزع الميكروفون من وزرته و ينسحب من المدرّج ، تمضي الحصة الموالية عند أستاذ آخر لا يقوم إلا بما فعله سابقه ، في الليل أحاول فك الرموز دون جدوى ، لكن لا يجب الاستسلام ، فبمجرد أن تستسلم فهذا يعني الضياع بكلّ المقاييس ، حصص التمارين نكون فيها بعدد أقلّ ، فإذا كان المدرّج يكتظ بخمسمئة طالب ، فأقسام التمارين لا يتجاوز فيها العدد ثلاثين فردا ، لكن المعضلة ليست هنا ، فبرنامج الدروس ليس هو ذاته برنامج التمارين ، أو على الأقل لا أرى رابطا بينهما ، نورالدين لا يقشع شيئا ، حتى أن تفهم خطوات حلّ المسالة بعد إنجازها فهو غير متاح . لكن لا بديل أمامك إلا إعادة المحاولة ، هذا تحدّ ليس سهلا أمام من يحب أن يفهم كلّ شيء منذ الوهلة الأولى ، يطمئننا الطلبة القدامى ، في الأشهر الثلاثة الأولى لن تفهم شيئا ، لكن بعد ذلك ستكون في الصورة ، هذا الجواب لا يقنعني ، إذا ملأت الدفاتر بأشياء لا تفهمها فكيف سيأتي الكشف ذات يوم لوحده ، الآن عرفت لماذا وجدت العاقل و أخته يشاركاني المدرّج ، فتاة كهذه لا أظنها ستهزم لولا صعوبة الاندماج في جو الجامعة ، لكن يعزّيني أن دادسي تمكّن من المرور إلى القسم الموالي ، إذن الذكاء وحده ما يفعل فعلته ، يجب يا نورالدين أن تستنفر دهاءك كلّه ، لا يجب أن تركن إلى تطمينات الغير ، لا مناص من الوجود الحقيقي ، أخ العاقل هو من يشاركني هذا القلق ، هو أيضا يريد التواجد بقوّة في الجامعة ، هو أيضا له حظه من الذّكاء . هم ثلاثة إخوة في نفس الفصل ، أعرف أن صغيرهم يملك من الدّهاء ما يجعله ينافس .


أنا في تارودانت ، لم أذهب إلى الجامعة اليوم ، لا يتعلق الأمر بشهيّة غياب ، أنا لا أتذوّق شيئا لتفتح شهيّتي له ، أنا هنا كما العديدين من أبناء تارودانت . تارودانت ، مدينة صغيرة رغم أنها ضاربة في القدم ، تالوين دائرة من دوائرها ، هي إقليم مساحته كبيرة ، قد تكون أكبر إقليم في البلاد كلها ، نحن الرّودانيون جئنا إلى مركز تكوين المعلمين ، منذ الصباح الباكر غادرت أيت ملول ، حتى قبل بزوغ النور ، السابعة والنصف كنت أمام المؤسسة الجديدة ، طفت عبر اللوائح ، عرفت القاعة التي سأختبر فيها ، في كلّ قاعة هناك لجنتان ، لجنة للمزدوجين ولجنة للمعربين ، إما أن تختار اللغة العربية فيكون تكوينك قاصرا على اللغة العربية و المواد التي تدرّس بها ، أو تكون مزدوج التوجه فتتلقّى تكوينا في االلغتين العربية والفرنسية و كلّ المواد ، سبق أن اخترت التكوين المزدوج ، ليس لانّني أحبّ الفرنسية ، بل لكون حظوظ الانتقاء فيه تفوت العربية بضعفين أو ثلاثة . المعربون لن يتجاوزوا ثلث الناجحين في أحسن الأحوال . أضف إلى ذلك أفضّل أن أمتحن في اللغة الفرنسية أكثر من العربية ، لا أحب القواعد ما ظهر منها و ما بطن ، لا أحب التفعيلات و بينها و بيني ألف حجاب . رغم ذلك لم أتعامل مع هذا الامتحان تعاملا جدّيا ، لم أراجع شيئا و حتى لا أعرف بالضبط في ماذا سنمتحن. أذني تستمع إلى الكثيرين منذ الصباح ، سنمتحن في هذا و في ذاك ، ما أكثر المثرثرين في كلّ مكان ، يضعون الاحتمالات ، إذا سألوك لماذا اخترت أن تكون معلّما ، كيف يجب أن يكون الجواب، كذا و كذا ، و إذا استفسروا عن هذه فيجب أن........ ، وإن استفهموا عن تلك فعليك أن تكون ...، طبخ هؤلاء دماغي ....أنا أنتظر دوري لا أكثر و أنتم لا تكفّون عن الثرثرة ، يا عمّي احفظ معلوماتك لنفسك و اتركنا بسلام . الامتحان لن يستغرق أكثر من نصف ساعة تكون فيها أمام اللّجنة و تنسحب مغادرا منتظرا أن تعلق لوائح الناجحين .
وصل دوري عندما فكرت الّشمس في الغروب ، كنت آخر من استقبلته اللجنة في ذلك اليوم ، واحد من أبناء تالوين ودعته اللجنة للتو ، سرقت عيناي النقط التي دونها مستجوبه ، عندما استويت قبالة اللجنة قام المكلف بالرياضيات ليدخن سيجارة ، بقيت مع أستاذ اللغة الفرنسية ، وفي الطرف الآخر لجنة المعرّبين تعصر واحدا من المترشحين ، استفرد بي أستاذ اللغة الفرنسية ، قرأت له نصّا من اختياره بصوت مرتفع ، وبدأت أسئلته عن الفهم ، وعن المصطلحات وعن التراكيب والصرف و ختاما قال لي أن أتحدث عن التكنولوجيا و المجتمع لأن النص في الأصل كان يتحدث عن الربوت ، بعد أن أنهيت مداخلتي ، ابتسمت في وجه الأستاذ و ودّعته شاكرا . ما توقّعت يوما أن يصير مستقبلي رهينا بشيء ما أحببته ، أحيانا تصرفاتنا كما مساراتنا لا تخضع للمنطق .عندما خرجت من القاعة كان الليل قد أسدل ستائره ، توجهت إلى المحطة و من هناك إلى أيت ملول ، فالجامعة تنتظرني في الصباح .
حلقات الجامعة هي السّلوة الجديدة في حياتي ، هذا يجتمع حوله بعض الطّلبة كما كنّا نجتمع على الحكواتي في سوق تالوين ، في ساحة الجامعة يبسط الطالب عرضه عن القضية الفلسطينية ، يعرّج على الفصائل فصيلا فصيلا يأتي على ذكر الأعلام علما علما ، يذكر بالتواريخ تاريخا تاريخا ، ترفع علامات النصر من طرف المحيطين به كلّما كانت رائحة قرابة مذهبية بين المخاطبين و الاسم ، و يرمى بالعمالة هؤلاء المخالفين ، في حلقة أخرى وجدت القوميّين يمجّدون تاريخ العروبة و رموزها يرمون الآخر بالعمالة و يرفعون شارات النصرعند ذكر رموزهم ، وجدت القاعديين من اليسار ينامون والثورة رفيقتهم ، منهم من يعلنها حربا مع السّماء ، و منهم من يكتفي بالثورة على الامبريالية و الاستبداد ، فالإنسان في نظرهم يصنع قدره فلماذا الخنوع ، لكن وجدت فصيل العدل والإحسان هو المسيطر على اتحاد طلبة المغرب ، منظمون و مهيكلون ، و كلمتهم تعلو و لا يعلا عليها ، إن نظموا حلقة جمعت الألوف ، و إن ساروا ردّدوا التكبير ، لم أسمع تهديدا بالعنف المباشر إلا على ألسنتهم ، رغم أن الفصائل اليسارية أيضا قد تمارس العنف اللّفظي والجسدي أيضا ، لكن أذني سمعت التهديد بالعنف في حلقة ضخمة للعدليين ضد طالب انبرى في تحليله لعكس لما يروّجون له ، فأسكتوه و عندما طالب بحقّه في التعبير هدّدوا بتعنيفه . أحيانا تحسم الخلافات بين الفصائل الطّلابية بالعنف ، لكنه لم يصل يوما إلى عنف منهجي ، يكون فيه العنف هو الغاية ، فجلّ ما تريده الفصائل هو الحفاظ على ذاتها و وجودها . هنا في الحلقات وجدنا القيادات يستهزأ بها ، تفضح السّياسات حتّى و لكأنك تستغرب من أين يأتي هؤلاء بمثل تلك التسريبات والأنباء . أحاول أن أوازن بين حضور الحصص و معرفة ما يروج في أوساط الفصائل ، أنا لست ذلك اللامبالي ، الذي يعتبر الجامعة مجرد مكان للتعلّم وحسب ، و لست أيضا من أولئك الذين يتمذهبون بسهولة، و يسيرون مع الموجة أو يقفون ضدّها ، يجب أن أعرف هؤلاء و أولئك و طبعا لن أذوب في هؤلاء ولن يجرفني أولئك ، قد تكون سلبية بالمعنى الاجتماعي ، لكن لا بأس من وجود شخص على شاكلتي يؤمن بذاتيته أكثر من فكرة أخرى بعيدا عن هوس الأنانية .

بينما كنت أبحث عن السّبل المثلى للاندماج في الجامعة ، كانت هناك لائحة معلّقة بتارودانت تقول لي اذهب إلى بنسليمان فمدرسة المعلمين سترحب بك هناك ، ليس سهلا أن ألبي طلب من دعاني ، فكابرت بعض الشيء ، رفاقي في الجامعة طردوني من المدرّج و حالوا بيني و بين دفاتري ، تركتهم هناك و ذهبت إلى الملت ، أخبرت أبي بما استجدّ طالبا منه رأيه ، رمى الحمل كلّه عليّ قائلا : " أنت و ما تريد " إذن آن الأوان لتتخذ قرارك بنفسك يا نورالدين ، الجامعة أريدها كما أريد لؤلؤة لكن سأفارقها كما فارقت لؤلؤة ، أتعرفون لماذا ، يوم فارقت لؤلؤة اخترت بدلا عنها ذاتي ، سأفارق الجامعة و سأكون مرّة أخرى قد اخترت ذاتي ، فأنا أحب الحرية ، تخيل شخصا يفرّط في الحبّ من أجل نفسه ، من أجل دلال الذات والحفاظ على سموّها و رونقها ، سيكون سهلا أن يترك الجامعة من أجل الحريّة .
ودّعت عمّي و شكرت ربّي أن باعد بيننا بدون حرج ، خالتي أعطتني بطّانية ، تستغرب أن أذهب إلى مكان أجهله و لا أحمل معي غير حقيبة ملابسي ، في الحافلة التقيت مع واحد من أبناء الملت ، كان يشتغل في أكادير و لم ينجح مشروعه ، كنت أزوره في أسايس ، لم أكن أعلم أنه سيغادر ، كانت صدفة جميلة ، تسامرنا الليل كلّه و في الصباح وجدنا أنفسنا في بنجدية ، بينما كنّا في الطريق إلى سوق الجملة لمحت الطريق المؤدّي إلى بيت خالتي ، في سوق الجملة و جدنا على الأقلّ خمسة من أبناء الملت يعملون في مطاعم الحوت ، هناك تركت رفيقي وعدت أدراجي إلى حيث تسكن خالتي ، وجدت عندها أمّي، إنها تحتفل بمولودها الجديد ، خالي لم يعد يشتغل عند نسيبه ، بل اكترى محلاّ ليمارس فيه الخياطة . في اليوم التّالي توجهت إلى بنسيلمان ، مجرد زيارة خاطفة ، لا تبعد عن البيضاء بأكثر من خمسة و أربعين كيلومترا جهة الرباط ، قد تبعد بنفس المسافة عن الرباط . توجد بين المدينتين و إن كانت تبتعد عن الساحل بعشر كيلومترات ، مدينة صغيرة خضراء ، تحسب على الشّاوية و هي محاذية للمعمورة ، غابتها أنبتت البلّوط ، ترابها يسودّ لونه خصوبة عكس التّراب السّوسي الكاكي .
عدت إلى بنسليمان يوم التّسجيل كنّا أكثر من مئة طالب في السّنة الأولى ، كلّهم من سوس عدا ثلّثة قليلة من أبناء مرّاكش التحقوا بنا لاحقا ملءا للمقاعد الشّاغرة ، أبناء أكادير وتزنيت و بويكرا و تارودانت ، أبناء الجنوب يتكوّنون في غرب المغرب . في السنة الثانية يوجد فوج آخر من أبناء الراشدية شرق المملكة ، سمة أبناء سوس هي الهدوء والكياسة و البرغماتية ، سمة أبناء الراشدية هي البطولة والمشوخ ، طباع الأمكنة غريبة جدّا . نحن هنا تسعة ممّن تتلمذوا في تالوين ، واحد منّا اختار التصرف لوحده بينما الثمانية تكتلوا لمواجهة المصير ، أعرفهم جيدا ، معي الآن ثلاثة من أبناء دوزرو الذين سرقوا مصباحي ، اثنان من أولاد برحيل ، واحد من تابيا و آخر كنت ألتقيه كثيرا في منزل ابراهيم . لاستكمال التسجيل وجب تعبئة بعض الأوراق في البلدية ، واحد من أبناء دوزرو كان متوترا ، لم تستحسنه نفسي منذ الأزل ، يبدو من الّذين يحبّون التحكم في الأمور، اسمه حسن ، يرتدي ملابسه بكثير من التّناسق ، ابن عمه من الذين يكثرون في الكلام ، و الآخر انخرطت معه في الحديث يدعى حجّوب ، كان كلامنا مجرّد كلام ، ندخّن سيجارة و نتبعها أخرى ، نقهقه بدون سبب ، كلّما علت ضحكاتنا أثارت استفزاز الآخرين ، تدخّل الأنيق بكثير من العصبية : " هل أنتما من بني آدم ، هذا اللّيل بسط أستاره ، و نحن لم نجد بعد مسكنا نأوي إليه ، و لم نتسلّم بعد وثائقنا و أنتما تكركران عبثا ." كلّهم سيتوجهون إلى البيضاء لإحضار أمتعتهم و منها غدا سيلتحقون بالرباط لاستكمال وثائق التسجيل ، ابنا أولاد برحيل أحضروا كلّ لوازمهم ، أنا أحضرت معي بطّانية خالتي من أكادير ، و مخدّة عند خالتي الأخرى من البيضاء ، افتعلت الجدّية و قصدنا بيتا لاكترائه ، توافقنا عليه ، كلّ أعطى نصيبه ، غادرنا من سيبيت في البيضاء ، بقيت في المنزل مع البرحليّين . صبحا توجهنا إلى الرباط لنعود أدراجنا ونقدّم الوثاق للإدارة ، الأنيق أحضر أمتعته ، وقفت سيارة أبيه بباب المنزل ، فاجأني حسن عندما سوّى أفرشته ، هنا بجانبي ستنام ، سنشترك أفرشتي حتّى تجد حلاّ ، ما أغباك يا نور الدين ، لا تحكم على النّاس أحكاما مسبقة ، اعتذر نيابة عن رفاقه في نفس اليوم عن سرقة مصباحي قبل ثمان سنوات ، ضحكنا و هكذا بدأت دورة الأيام في موطننا الجديد ، بعد مدّة قصيرة جاء خالي و قدّم لي ما أحتاجه لشراء أفرشتي بعد أن حدّثه أبي في الأمر ، جاءتني نجدة أخرى من عمّي في المهجر ، أصبحت مسيطرا على وضعي.

قرب الباب في حي فيه مسكنان مأهولان ، جلست مع حجّوب و نسمات البرد تصفع وجوهنا ، السّيجارة لا تفارق شفتيّ ، سكن حديثنا، بعد برهة همست :" أحسّ بالضيق يا حجّوب " ردّ عليّ : "كلّنا كذلك ، إنها الغربة " صارحته : "قد يكون الأمر يتعلق بالغربية ، لكن أنا مغترب عن بيتي لعمر طويل ، لا أظن الأمر متعلّق بها ، أنا يا حجّوب شخص أحب الوضوح في بعض الأشياء ، و أوّلها أن أعرف موضعي في هذا البيت ، نعم قد أكون أعرف هؤلاء جميعهم لالتقائي بهم في ظروف معينة ، لكن لا أخفيك أنّني لست مرتاحا جدّا إليهم ، قد لا يظهر ذلك من تصرفاتي التي أضبط إيقاعاتها رغما عنها ." نفث حجوب الدّخان و قال : " لكي تعرفني أكثر ، أنا أحبّ ، هي في موطني ، لا تزال بالثانوي ، أشتاق إليها كثيرا يا نورالدّين ." بعد بوحه الشفيف قلت :" أنا أيضا أحبّ يا حجّوب ، هي أيضا هناك في تالوين ، لا تزال تدرس في الثّانوي . تنتظر رسائلي متى تنهمر عليها ، ربما تشتاق إلي كثيرا ." منذ تلك اللحظة انضمّ حجوب إلى لائحة أصدقائي ، فتى قصير القامة ، واسع المعرفة ، أدبيّ التوجّه ، مدرك للحياة بألوان معانيها ، فيلسوف محبّ للحياة ، غالبا ما تجد الشّخص المتفلسف يتوسّل النقد السّلبي منهجا ، هنا حجوب فيلسوف ناقد تملأه الإيجابية ، رفيق هائل للعديدين ، أحسّ في أحيان كثيرة أنّه يفوتني بمراحل في قدراته المعرفية و التواصلية و قدرته على الاستمتاع بالحياة ، صديق أنت يا حجّوب . حسن منظم للغاية ، جدّي الطّباع ، لكنه إنسان حقيقي ، يضاهي حجّوب في انسانيته ، أخطأت كثيرا حين كنت أظنك متكبّرا في تالوين يا حسن ، أنا لا أستطيع أن أعتبرك صديقا ، و أنت تعرف ذلك ، و أظنك لن تعتبرني صديقا ، أنا أراك يا حسن ، قدوة ، مثال ، رمز ، قيمة ، أنت ياحسن أكبر منّي ، وأنا أعترف و شديد الاعتراف . أمضيت مع رفاقي هناك أيّاما جميلة ، كلّهم رائعون ، هي الروعة في الحياة ذلك الاختلاف الذي يجعلها ملوّنة ، و كل لون يعطيك ذوقا ، يشعرك بإحساس مختلف .
في مدرسة تكوين المعلّمين وبرنامجها المكثف ، وساعاته الممتدّة ، تحسّ خلالها الكثير من الملل ، خاصّة أن البرنامج مكرّر للغاية ، لا تحس فيه جديدا ، مجرد مراجعة لكل المعلومات السّابقة ، مادّة واحدة تحسّ فيها نسمة هي علوم التربية ، هناك تتعرف المدارس التربوية الغربية ، هناك تتعرف على الإنسان في مراحله الأولى ، كان الأستاذ فيلسوفا ، يفلسف الدروس أكثر ، يدخل أعماق الشخصية الإنسانية ، يربط الجانب الوجداني بالمعرفي والحس ـ حركي ، أنا أيضا هذا العام سأبدأ مع رفاقي في ممارسة الرياضة ، ليلا نتوجه إلى ملتقى طرق بالحي الذي نسكنه ، يكون فارغا تماما من السيارات ، فالحي لا يسكنه غيرنا ، قبالتنا يوجد منزل الجيلالي ، فتى من أبناء بنسليمان يدرس في الباكالوريا ، فتى لا يحمل طباع المدينة ، يمارس معنا كرة القدم ، هنا اكتشفت أنّني أستطيع أن أكون لاعبا لكرة القدم أيضا ، اكتشفت أن جسمي تعتريه صلابة و خفّة ومهارة ، اكتشفت أنّني لا أصاب بالعياء بسهولة ، اكتشفت أن تسديداتي باليمنى كما اليسرى قويّة وصلبة و دقيقة ، لم أكن أمارس الرياضة في تالوين إلا في السّاعات المحددة في المدرسة ، هنا عرفت أن الإنسان متى أراد شيئا يمكنه مزاولته ، قد لا يكون عبقريا لكنه سيكتسب أغلب المهارات. موشو درست معه في الباكلوريا ، قصير صلب ، مدافع في فريق الداخلية في تالوين ، يحبّ الجيمباز ، مرتّل ماهر للقرآن الكريم ، أصبعه يحمل خاتم خطوبته ، سيتزوج في بحر هذا العام ، تسجل في نادي التيكواندو ، يحصّل أحزمته بيسر . التحق به حمّاني الذي كنت ألتقيه في منزل إبراهيم ، طويل و جسمه رياضي ، ثقافته جيدة ، طباعه متفتحة بلا قيود ، يحمل الكثير من صفات أبناء العالم الجديد ، قريب منّي و أنا قريب منه ، مع ابن تابيا المولع بالدراما المصرية ، نشاهد على التلفاز رأفت الهجّان مع المبدع محمود عبد العزيز ، و أفلام شادية و عادل إمام و فاتن حمامة و أحمد بدير و يحيى الفخراني و غيرهم كثير ، مصر أرض الفنون ، و أرض الأدب ، و أرض النيل ، أرض الأهرامات ، أرض الحضارة ، لكن لن يطول الأمر كثيرا ففي هذه الفترة ستظهر الملسلسلات المكسيكية المدبلجة ، ستأسر الجميع و تسحب البساط من تحت أقدام أرض الكنانة ، إنه العالم الجديد ، سيطبع التلفزيون بصمته القويّة انطلاقا من هذا العام و سينحصر دور السّينما ، سترى تصفيفات الشّعر و آخر صيحات الملابس من هناك تبدأ ، سترى الحياة أمامك ترتدي حليّ الثّقافة الجديدة . ثقافة العالم الموحّد تحت لواء أمريكا و الشركات الكبرى .
نحن من سيربي الأجيال ، ماذا نحمل من العزيمة و ماذا نحمل من القوّة للعبور بالأجيال هذه الأودية الهادرة ، ليس الأمر أكثر ممّا نحن عليه في مجمعنا ، أنا و حجوب نغني شعار الرفض ، موشو و رفيقه و حسن اختاروا التيار المحافظ ، حمّاني يقود التيّار المنفتح . في هذا البيت ستسمع الآذان في فناء المنزل كل فجر ، تسمع أشرطة لدروس دينية في غرفة موشو ، تتسلّل البهجة والتفاؤل من غرفة حمّاني ، و هنا في غرفتي يسود هدوء ممزوج بكثير من التأمّل ، ثلاث غرف في هذا البيت تمثل العالم الخارجي . تمثل غياب الرؤية تمثل جوّا مضطربا ، تمثل ولاءات غير متجانسة ، تمثل حالنا ، قد يسود التوتر بعض الأيام ، قد يبتغي كلّ تيّار الاستفراد بالرأي ، تحدث بعض المشاحنات أحيانا، تحدث نقاشات قد تكون حادّة ، لكن نحن أبناء وطن واحد وجب التّساكن و التّعايش ، أذكر يوما غضب فيه موشو ، تحدّاني بمبارزة خارج البيت ، قد يكون أقوى منّي ، لم أستجب لاستفزازه ، ليس لأنّني أخافه ، ليس لانّني جبان ، لكن وجدت نفسي مستصغرا لهكذا تصرّفات ، ظهر لي يومها ضئيلا جدّا ، لماذا نتعارك يا موشو ؟ و جدت الأمر لا يستحقّ ، حسن هنّأني على موقفي ، في اليوم الموالي اعتذر موشو عن سلوكه .

جاءت عطلة دجنبر ، توجهت إلى أكادير هناك التقيت بعمّي و ركبنا الحافلة باتّجاه الملت كانت الحافلة تسير ببطء في زحمة ، أنف الحافلة يشتم دخان الشاحنة أمامها ، ذات توقف مفاجئ صدمتها حافلتا ، جبهتي تلقت صدمة أخرى من المقعد الأمامي ، عمّ الضّجيج الحافلة ، أخليناها في ثوان ، ينتظر السائقان وصول رجال الأمن لتدوين المحضر ، عمّي ينخرط في تنظيم المرور إثر الفوضى التي صاحبت الحادث ، اقتربت من فتاة أعرفها ، طالبة في كلية أكادير ، رفيقة لؤلؤة ، أحدّثها و الخجل يربكها ، أتحدث إلى رفيقتها لتسترجع توازنها، أسألهما عن الكليّة والدّراسة ، ثم سألتها عن لؤلؤة فتبسمت ، حملت لي جديدها الذي أعرفه ، عمّي أوقف سيّارة أجرة و ناداني لأساعده على حمل حقائبنا ، لن ننتظر استكمال الإجراءات ، ودّعت الفتاتين و رحنا إلى بيتنا .
ليلة رأس السنة ، كان عمّي يهاتف زوجته كل نصف ساعة ، يريد أن يهنّئها بميلاد العام الجديد ، لم تقبل التهنئة إلا عندما دقّت رنّات منتصف الليل حسب توقيت جينيف ، عندها تحرّرنا و بإمكاننا أن نطوف مراقص أكادير ، نزور العالم الجديد ، حين تتغير ألوان ملابسك بمجرد الدخول إلى العلبة ، حين ينطلق الضّباب الكثيف من سقف المرقص مغطّيا الأجساد الممسوسة ، حين ندور في حلقات حلزونية على إيقاعات الروك حين ترى الجسد منخرطا في طقوس حضرة بطعم مختلف ، حين تنسى من أنت و إلى أين تسير ، حين يختصر الكون في علبة .

شددت الرحال إلى بنسيمان بعد الليلة الصاخبة ، و بقيت هناك خمسة أشهر ، حتى عطلة الربيع قضيتها هناك عكس رفاقي ، حين غادر الجميع البيت أحسست بنشوة عارمة ، لأول مرة في حياتي سأعيش لأيام مع نفسي ، ساتحدث إلى كياني والصمت يلفي ، أسمع صدى الغرف ، أحس طقطقة الباب ، أسمع همس النوافذ ، سأسامر نفسي حتّى أشبع منها ، أدخل للغابة و أعود ورجلاي مسودّتان بتراب التّرس ، أتناجى و أشجار البلوّط ، أبحث عن الوادي الذي ارتبطت به روحي ، لا أثر له هنا ، حتّى إن وجدت شعبة كانت جافة ، هي السّهول على حدّ البصر ، لا أثر للجبل ، لكن الأشجار و الأعشاب تعطي رونقا للمكان ، لا أثر لدوار كما سوس ، بين دوار و دوار دوار ، هنا يظهر لك مسكن في خلاء ، و تسير حتّى تظن الكون خال تماما ليظهر لك بيت آخر ، هنا تفقد نظرية ابن خلدون رونقها ، هنا العزلة تخيم على النّاس ، يعيشون مع ذواتهم ، يذوبون في رحاب الانبساط الممتد ، الآن عرفت لماذا النّاس هنا تغلب المتعة على طباعهم ، فكلّما دخلوا المدينة أحسّوا نشوة الجماعة واحتفلوا بشبق . في عيد الأضحى جئت موطني ، زرت عمر صديقي في بيته ، كنت أراسله بانتظام و هو في عامه الأخير بتالوين ، غادر الدّراسة و لم يكمل سنته ، كان مريضا لفترة ، فاعتزل المدرسة ، جميع رفاقي هناك يكاتبونني ، حاولت أن أحول بين عمر و فعلته لكنّني فشلت ، كما حاول جميع رفاقه أيضا . هذه رسالة عمر يوم انقطع عن الدراسة .


قديم 07-07-2016, 01:57 PM
المشاركة 65
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد .
تحية طيبة وعطرة من شابّ جديد في قالب آخر ، انتقل من تلميذ إلى عاطل ينتظر فرصة عمل ، إلى شقيقه و صديقه نورالدين الذي سيتحول مستقبلا إلى موظف ـ معلم ـ .
أمّا بعد : فإنني أبلغ لك أعز و أجمل ما لديّ من سلام و تحية و بكل تقدير و احترام ، و أتمنى أن نبقى هكذا دوما إخوة في المستقبل ، ولا يتغافل أحد منّا عن الآخر سواء بالرسائل أو الزيارات ، و أطلب من العلي القدير أن يجمع شملنا و يوفقنا في عملنا دراسيّا كان أو غيره ، بالنسبة لي و الله يعلم ما يوجد في قلبي وعقلي أن شوقي لك يزداد في قلبي أضعافا أضعافا .
أخي ، شكرا لك على رسالتك و على نصائحك النبيلة السّارة التي تعبر عن مدى متانة صداقتنا الفريدة ، حتى أنّني لحد الآن لم أر مثلها رغم معاشرتي لمجوعة من الأصدقاء ، لكن يا أخي فات الأوان لكل ما كتبته في رسالتك وهذه المرّة نهائيا ، لأنّني انقطعت عن الدّراسة بل أصبحت عاطلا وهذا نتيجة المرض و الملل ، كنت في المنزل يوم السبت 17 ـ 04 ـ 1993 لشراء بعض الأدوية التي كنت في حاجة إليها ، لكن يوم الأحد ليلا كبّلني المرض و أصبحت مهدّدا بالموت المحقّق ، الليل كلّه أتوجع وأتألم والقيء لا يكاد ينقطع ، في الصباح وجدتني أختي في حالة مزرية فهالها ما رأت أسرعت إلى أمّي و أبي ، أمّي تنتحب و عويلها يملأ البيت ، أبي توجّه عند ابن عمّي الذي شغل سيارته فورا و مضيا بي إلى تسغليت قرب تاهلا ، امراة هناك تكوي بومزوي و بوصفار بالنار ، ، كوتني " الدّكتورة " أقعدني هذا المرض ثلاثة أيام و بدأت أتعافى شيئا فشيئا ، لكنّ العائلة لاتريد أن أكون بعيدا عن عنايتها وهكذا اتفقنا على مغادرة الدّراسة .......
نورالدين ، أنا الآن أنتظر الشّفاء التّام و بعد ذلك سأتوجه عند أجبّو في البيضاء ، الذي كلّفته أن يجد لي عملا ملائما ، أتمنّى أن لا يقلقك وضعي ، فالأوضاع تتغير مع الزمن ، و الله وحده يعلم أين الخير ، أمّا الإنسان فلن يفعل أكثر من قبول القدر .
أخي ، عليك بالصّبر على هذه الأخبار و اعتبرها شيئا طبيعيا ، كنت أريد أن أسألك إن كان "وحقي" أرسل لك رسالة ، وهذا عنونانه : ..... أتمنى أن تقوم بمراسلته فهو صديق نبيل يسأل عنك دائما ، وهذا عنوان أجبو أيضا .....

و السّلام .

هي الرسائل ما يجعلنا نعيش ، حين تحس الغربة والملل و يضيق صدرك ، تجد ظرفا هناك في انتظارك ، يملأ جوفك أملا ، يجعلك تحسّ أنك لست معزولا ، أنك تعني شيئا في هذه الدنيا الفسيحة التي تصرّ على أن تجعلك تتناهى عند اللاشيء ، عند زيارتي لعمر التقيت هناك العديدين ، سهرنا الليل كلّه حتّى الصباح . من هناك توجهت إلى بنسيمان ، دخلت البيت الجديد الذي اكتريناه قبل عطلة العيد ، منزل لا يعرف الهواء إليه سبيلا و رائحة قنوات الصرف تزيده اختناقا ، لن نقضي فيه غير أيام الامتحانات ، لم يستطع البيت الأول أن يحافظ علينا مجتمعين ، موشو و رفاقه تخلّوا عنّا و التحقوا بعصبتهم المذهبية ، اتفق الباقون على الانتقال إلى هذا البيت الزّنزانة ، حيث يسكن شباب آخرون من ماسّة ، كاد ابن تابيا يختنق في الليلة الأولى لكونه يعاني من الحساسية ، و بعدها ما بات في ذلك المرقد ، أنا أيضا لمرّتين استفيق بعد جهد جهيد ، و قد أثقل علي بوغطّاط ، أحسّ لكأنّ صخرة وضعت عليّ تخنقني و لا أستطيع الحركة ، أصرخ بلا صوت نائما لا أحد يسمعني ، ليست قلّة الأكسجين وحدها ما بعثرني ، بل لأكثر من ستّين ساعة لم أذق طعم النّوم ممّا أصابني بالإجهاد، في الصباح قمنا إلى الامتحانات .
في الملت أمضيت صيفا مريحا ، بدأت علاقة عاطفية جديدة بعد أن تزوجت تلك التي تبهج دنياي ، سلوى انتقلت منذ زمان مع أسرتها إلى المدينة و لم أعد أسمع عنها خبرا ، في تالوين أيضا هناك أخرى تنتظرني ، كنت أتخبط في علاقات كثيرة ، سرعان ما ينبطح قلبي ، عطش ما يجعلني أنجرف ، خواء ما في أعماقي يجعل الأنثى تصيبني بسهامها بسهولة ، هنّ عديدات فعلا لذلك سأطوي ملفّاتهن من اللّحظة ، هو ذلك الجانب من السيرة مقلق للكثيرين ، و إن كان له تأثيره البالغ ، شيء واحد أعرفه أنّني ما جلست مع بنت يوما و في نيتي أن أتلاعب بعواطفها ، رغم حرصي الشّديد ، أوجعت الكثيرات منهنّ ، و هذا يخزني وخزا مقلقا .

العام الثاني مصيري ليس كسابقه ، هذا العام مخصّص لمنهجية الموادّ و وجب هضمها ، و أيضا نخرج فيه إلى مدارس المدينة وننجز دروسا عملية ، كان درسي الأول قصيدة في اللغة الفرنسية ، أعددت وثائقي ، وصل الموعد ، قمت إلى السبورة ، زملائي يتخذون مقاعد في الخلف ، يؤطّرني أستاذ اللغة الفرنسية والمعلّم المطبّق ، قرأت القصيدة و شرحت مفرداتها و تم التّجاوب معي في أسئلة الفهم وتم ترديد القصيدة و تذوقها بشكل جميل ، لا أزال أحفظها إلى اليوم ، هي قصيدة تحتفي بالأم في عيد الأمّهات ، حين أنهيت درسي ، توجهت عند الأستاذ المؤطر والمعلّم المطبّق ، أشبعاني نقدا وانتقادا حتّى ظننت أنه لا يوجد مجرم على وجه الأرض أكثر منّي ، أين المشكلة ، إنها المذكرة ، ورقة التحضير ، كانت تحتوي أخطاء فادحة في الإملاء ، طيب ، شفويا أنت ناجح ، لكن كتابيا أنت فاشل بامتياز ، آلمني أنّني أعطيت الورقة لحجّوب ليصحّحها و كذا لزميلنا الثاني في الغرفة ، و كلاهما يحسنان اللغة الفرنسية ، غريب أن لا ينتبها لكلّ تلك الأخطاء ، أيضا ارتكبت خطأين على السّبّورة ، أحسست بانقباض كبير ، أحسست يومها أنّني لا أصلح لشيء ، لكن ما العمل ، النّاس في بلدتي ينتظرون منّي أن آتيهم معلّما و قد دبّ الحماس في الكثيرين يعلّمون أبناءهم بجدّ ، أسرتي ، عائلتي ، أصدقائي ، خصومي ، فتياتي ، ماهذا يا نورالدين ؟ أنت مجرّد فاشل لا أكثر ، حتى أنّني ذات يوم فكّرت في وضع حدّ لحياتي ، أحيانا ترى الدّنيا كلّها واقفة في وجهك ، لا شغل لها إلاّ أن توجعك ، لكن مع الدّروس الأخرى استرجعت بعضا عافيتي ، حتى وصل الأمر بالأستاذ نفسه أن نوّه بي و شجّعني ، هي الأيام هكذا ، لا تستقر على حال أليس هذا ما قاله عمر في رسالته .
في هذا العام اكتريت أنا وحجّوب غرفة قريبة من مدرسة المعلّمين ، خلف المقهى المطلّ على الشارع العامّ توجد ، حقيقة هي ملتصقة بالمقهى ، فصاحب المقهى في غرفة من تلك الغرف المصطفّة في هذا الفناء الواسع يسكن ، مدخل الفناء يوجد جهة زنقة أخرى . انفصلنا عن كوكبة تالوين ، والتحق بنا ذلك التاسع الذي فضل السباحة لوحده في السنة الأولى ، فتى فارع الطول ، فيلسوف من نوع خاص ، حتّى لكأنه يؤمن بأنه يعاني خللا نفسيا ، لكنه رغم ذلك حافظ لأبياته ، يعرف ماذا يريد و لا يترك شيئا للصدفة ، أنا و حجّوب تملأنا السذاجة والتهوّر و نحب الفوضوية ، صاحبنا منظم جدّا ، لذلك فنحن لا نشترك إلا النوم هنا وإعداد الأطعمة ، أنا و حجوب متسامحان ومتساهلان إلى أقصى الحدود . أذكر يوما تخاصم فيه حجوب و زميلنا لم أر حجوب غاضبا مثل ذلك اليوم ، أصلا أنا من ضمنت رفيقي لحجّوب ، هو عمل إنساني و في ذات الوقت معين لنا على مصاريف الكراء ، يومها وقفت في وجه و غضبت غضبا مريعا ، أنا أعرف حجوب تمام المعرفة أنه لن يظلم الرّجل ، نحن لا نظلم أحدا ولا نستصغر أحدا ، نحن صنف يتحدى من يراه أهلا لذلك و لا نتحدى المسالمين أو الضعفاء . رفيقنا فهم نفسه وانسحب ذات يوم دون أن يقطع علاقته معي رغم أنّني أعربت له عن أسفي العميق على تصرفاته ، و صارحته أنّني أقف إلى جانب حجوب ظالما كان أو مظلوما .
هي الأيام هكذا ، جاءنا طالب آخر ، فيلسوف آخر ، يقرأ بنهم لسلامة موسى ، في هذا العام قرأت كتيبين ، قبل السقوط لفرج فودة ، والإديولوجيا الباردة لكوسطاس بابيانو ، حجوب لديه مكتبة في بيته ، قرأ العديد من الروايات والعديد من الكتب ، كنت أقول لزميلنا الذي تخاصم مع حجّوب ، يوما ستقرأ لي كتابا حقيقيا ، كنت أكتب بعض المقالات في دفتر خاص ، و كنّا نقرأ جريدة لوبنيون ، و خاصة ملحق الشباب فيها . نرتاد مقهى الجوهرة ، هناك نتفرج على مباريات الدوريّات الأوربية و إقصيات كأس العالم ، هناك شربنا الكثير من كؤوس القهوة المرّة . نتابع الموسيقى الغربية في برنامج فضاء الروك الذي تبثه القناة الثّانية مع حمّاني . في هذه السّنة ، أحضر حجّوب قيثارة من تالوين ، يحبّ العزف ، تعلمت منه الكثير و أصبحت أصابعي تنتقل عبر التربيعات و تداعب الأوتار ، حجوب يحبّ الموسيقى الشرقية ، معه تعرفت على أمّ كلثوم و وردة و ميّادة و ماجدة الرومي ، وعبد الحليم ، أنغام الزمن الجميل .

في هذا الموسم كتبت العديد من الرسائل إلى عمر دون ردّ ، فقسوت عليه في الرسالة الأخيرة ، كان يجب أن تقدر ظرف صديقك يا نورالدين ، ما كان عليك التسرّع ، فمن شيمك العفو ، ألا تتذكر يوم تخاصمت معه في تالوين ، كنتما غريمين حقيقيين ، هل نسيت عندما جاء يوما يستفزك منشدا الأشعار ، يريدك أن تسمع و تنصت ، يريد أن يقول لك من تكون في هذه الدّنيا ، يريد أن يوصل لك رسالة ، أن الهناء وصفاء الذهن أحسن من اللّوز والجوز ، يريد أن يقول لك راحة البال والخلوة أحسن من حلاوة قد تعكرها الأحداث ، يريد أن يقول ليس مثلنا يتخاصمان ، يريد أن يقول ، و لو أنّك بعيد ، فأنت قريب ، يريد أن يقول ،لا أستطيع أن أتجاهل وجودك ، فإمّا أن نعود كما كنّا أو نعلنها حربا حقيقية ، أمّا التجاهل فلن يكون ، في ذلك اليوم نفسه عانقته وقلت له ، أتظن وحدك من يملأ الشوق جوفه ، هي الصداقة ، شيء غريب ، تقول بطلة رواية أندري روبير "لا أعتقد الحبّ يصل إلى درجة الحقيقة لكن تبقى الصّداقة أقرب إلى الحقيقة ."
ردّ علي عمر بهذه الرسالة :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد .

صديقي العزيز

تحية من قلب فاض بالشوق إليك و آلمه المرض كما الفراق عنك ، في هذا اليوم المشرق من شهر رمضان المبارك آخذ قلمي لأعبر لك عن الفرحة التي تغمرني و أنا أكتب لك هذه السطور القليلة والمقلقة ، والتي تعبر عن حالة صديقك و كيف أهملت مراسلتك .
الحقيقة هي كما يلي يا صديقي، كان فراقنا في عيد الأضحى و كنت المسافر أولا وبعدك بعشرة أيّام ، سافرت بدوري إلى البيضاء رفقة أجبّو ، وبقيت هناك أربعة أشهر عملت خلالها خمسة عشر يوما فقط ، المشكلة لا تتعلق بقلة فرص الّشغل ، بل هو المرض ما قهرني ، رجعت إلى أورير بمناسبة زواج ....... ..... أنت تعرفها ، حضرت العرس وانتهى الأمر بذهابها إلى بيت زوجها . باختصار بقيت هنالك شهرا ونصف الشهر تقريبا قمت خلالها بزيارة مشعوذ آخر بأولاد برحيل ، حرقني حرقا كما العادة و أعطاني أعشابا متنوعة ، لكن حالي ازدادت خطورة ، فبطني منتفخ و لا أستطيع المشي و لا الجلوس و لا النوم ، ذهبت رفقة والدي إلى أكادير و من ثم أرسلني طبيب إلى مستشفى ابن رشد في البيضاء ، في البداية ظنّوا أن بطني يرشح ماء ، وبعد فحوصات أخرى اكتشفوا أن معيي الغليظ هو المصاب ، أجريت عمليّة جراحية و بتروا من معيي جزءا ، و جعلوا ثقبا على مستوى بطني ، و أصبحت منذ ذلك اليوم أحمل معي كيسا فيه أقضي حاجتي ، صديقك في حالة مؤسفة جدّا يا نورالدين ، لا أزال أتابع العلاج هناك ، خمسة أيام أقضيها في البيضاء من كلّ شهر و أعود إلى بلدي أولوز.

سلم على كافة الأصدقاء و كل أبناء تالوين .

صديقك المريض .

كانت الدّموع تنزل من عينيّ و أنا أكمل الرسالة ، كم أنت صعبة أيتها الحياة .
حان وقت الوداع يوم تسلّمت ديبلومي إيذانا بتطليق بنسيلمان ، كانت الامتحانات النظرية في المتناول و كذلك كانت العمليّة ، أحبّني مجموعة من التلاميذ في مدرسة ابتدائية معهم أجريت الامتحانات العملية بحضور لجنة المراقبة التربوية ، كتبوا لي مجموعة من البطاقات تشي بعلاقة عاطفية حميمة بين التلاميذ ومعلّمهم ، عيونهم كما عيناي كادت تسترسل في الدموع لولا أنّني ارتأيت أن أبدّل جوّهم بنشيد الوداع حفاظا على إشراقة وجوههم البريئة و حروفها الجميلة .
وصلت بيتي وهنّأني أبي و أمّي وجميع إخوتي ، و ارتسمت ملامح البهجة في قلوبهم ، كم هو جميل أن تزرع الحبور في وجوه من تحبّ. بعد استراحة قصيرة ذهبت عند صديقي في أولوز ، كانت لحظة صادمة حقّا حين وجدت عمر هيكلا عظميّا و قد أكل المرض وسامته ، و غارت عيناه في وجهه ، ماذا فعلت ياعمر لتكون هذه هي النّهاية ؟ لم المصائب تختار خصوبة الأرواح النبيلة مرتعا لجبروتها ؟ أي شيء فعلت لتستحقّ هذا المصير ، رغم ذلك عمر يواسي مصابي ، بضحكته الباشة ، بابتسامته النبيلة ، بروحه الطّاهرة ، وجدته يمتلئ أملا في الحياة ، وجدته مؤمنا بقدره ، وجدته مسلما حقيقيّا . يحكي عمر عن معاناته حين تشتد عليه الحال ، أرى الشموخ يتدفق من عينيه الذابلتين ، أرى عزّة نفس صامدة ، أرى الموت يحتلّ بدنه ببطء شديد ، أرى و أرى ، و ماذا سأرى إلا صديقي ينهار دون أن أستطيع فعل شيء يعيده إلى فتوّته ، عمر عجز الطبّ عن مداواتك ، عجز الكلّ عن رفع الألم عنك ، ماذا بقي ياعمر؟ يقول بإيمان : " الأمل في الله كبير " ما أروعك يا صديقي ، يا لحظي العظيم أن أحظى بصديق يواسيني في مصابه . حافظت على رباطة جأشي وتحاشيت أن أحسسّه بصدمتي ، و رفعت من معنواته المرتفعة أساسا ، حتّى غاب عن أنظاري فبكيت و بكيت طالبا من الله أن يريحه من عذاباته ، بعد أيام قليلة رجعت إلى بيته مرّة أخرى ، ضحكنا ضحك طفلين ، لحسن حظي كلّما جئته يكون في مزاج جيد ، فيستقبلني بروح مرحة يقوم برجليه الواهيتين يشاركني الطريق إلى باب بيته ، يعانقني مودّعا ، لست أدري أهو الوداع الأخير ، ربما تمنيت أن يكون الأخير ، و فعلا كان الأخير ، بعد أيام قليلة جاءني خبر وفاته .

قديم 07-08-2016, 01:12 PM
المشاركة 66
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في تاركت بدأت حياتي التعليمية ، على بعد عشر كيلومترات من تالوين ، وعشرين عن الملت ، دوار بارد جدا ، تتجمد مياهه شتاء وتصبح زجاجا لامعا ، أبيت في جلباب صوفي طوال فصل الشتاء ، زميلي في المسكن بيضاوي ، لطيف ودود ، عشير جيّد ، تتشقق يداه و رجلاه من البرد ، يدهنها كلّ يوم قبل النوم بمرطّبات الجلد ، مهنة التعليم متعبة ، تهيّئ كلّ ليلة على الأقل عشرة أوراق لتستطيع تقديم دروسك بشكل مقبول ، أدرّس المستوى الخامس ، زميلي يدرّس المستوى الأول هو معرّب التكوين ، منذ البداية اخترت الاتزام ، رغم أن الأمر ليس سهلا ، لكنّني ملتزم بشكل جيّد ، أعدّ دروسي جيّدا و أقدمها أيضا بكثير من المسؤولية ، في هذا العام تزوجت أختي أقام لها أبي عرسا في عطلة دجنبر ، حضرت العائلة كلّها ، كان أبي يريد تزويجي أيضا لكنّني رفضت ، كان همّي الأول أن أجعل إخوتي لا يعانون في مسيرتهم التعليمية ، صلاح الدّين التحق بالإعدادي ، عبدالفتاح يدرس في المستوى الخامس ابتدائي ، عبد الناصر التحق هذا الموسم بالمدرسة ، نعيمة هناك في أكادير لا تزال تحارب ، رشدية غادرت المدرسة ، أختي أمينة الآن عروس تزف لزوجها . أبي تسجّل في لائحة الرّاغبين في أداء مناسك الحجّ ، يتمنّى أيضا أن يرافق جدّتي ، لكن لا يملك ثمن مقعدين ، كنت أكتب لعمّي عبدالسّلام عساه يدفع حصة جدّتي ، أبي يتمنى أن يدفع عمّي الحصّتين معا ، أكتب له رقم الملايين اللازم للمنصبين ، يرغمني أبي على تحويل المبلغ إلى العملة السويسرية ليعرف عمّي المبلغ بوضوح ، يتناسى أبي أن عمّي يضرب الأرقام في السماء ، لكن طمعه في تلبيّة ندائه تجعله مصرّا، انتظر أبي طويلا وصول الملايين ، و لمّا استيأس دفع حصّته مفرغا جيوبه . كان هذا قبل أن أحصّل على راتبي الذي لم يأتني إلا في مارس ، عندها قدّمت نصف حصيلة الستّتة أشهر لأبي ، اشترى بها مولّدا كهربائيّا ، ومدّ الأسلاك في ربوع منزلنا ، أطعمت الجميع من مرتّبي ، لم أترك منه ريالا واحدا ، يومها كانت احداهن تحدثني عن شراء قطعة أرض لأبني فيها مسكني في تالوين أو في فيلاج يوفّر ظروف حياة جيّدة لي و لأبنائي ، أخطأت الحساب يا فتاة ، هكذا قلت لعمّي في زيارته الأخيرة ، عندما سألني ما بال الجميع في هذا البيت مكتئب :" ألأنّني لم أحضر سيّارة ، السيّارة إذن أحسن منّي ." شرحت لعمّي : " الأمر ليس كذلك ، أنت لم تحضر السيّارة لأنها ترهقك في السفر ، وتفضّل الطائرة ، أنا أعرف هذا ، أيضا أبي ليس هذا ما يجعله يبدو متجهّما ، فقط هو يريد أن يحسّ أنك فعلا في الخارج كما باقي المهاجرين ، يبنون مساكن جديدة ، يشترون المقاهي ، و غيرها من المشاريع ، نطق عمّي : " أيخاف أبوك أن أسأله عن الأرض مستقبلا ، أنا تركت له كلّ شيء ، أنا لن أعيش هنا " كان غاضبا حقّا . عرفت أنه لن يفهمني أو لا يريد أن يفهمني ، غيرت الموضوع ، أنا أفهمك يا فتاة ، و لكن من الصّعب أن تفهميني ، فغيرت الموضوع . عرفت يومها أنّنا لا نملك طموحا جارفا للحياة ، كدت أجيبها بصلافة كما فعل عمّي ، لكن لا أستطيع أن أجرحها ، لأنّني عرفت و تيقنت أنّني على الطريق الخاطئ ، و كنت أعرف دوما أنّني على الطريق الخاطئ ، والزمن الخاطئ و الظروف الخاطة ، كنت أعرف أن الوجود خدعة كبرى.
أتدرون لماذا لا أحب الالتزام ، لأنه كلّما التزمت بشيء ، تضيفه شيئا آخر ، فآخر، فآخر، والمحصّلة المزيد من الضغط ، المزيد من الانبطاح المزيد من فقدان الحريّة . يكفيني هذان الالتزامان ، التعليم والسّعي في تعليم إخوتي في ظروف جيّدة ، هكذا قدّرت و هذا هو النهج الذي سرت عليه ، ذهب أبي إلى الحجّ و أكمل مناسكه ، عند عودته ابتهجت الملت و ذبحنا و أطعمنا ، و استقبلنا الدواوير المجاورة ، و استقبلت جميع زملائي في المجموعة المدرسيّة . حلّت عطلة الصّيف و لم أوفّر درهما واحدا ، أبي يقول: "جميل أن تشتري لإخوتك لاقطا فضائيا ليتابعوا القنوات الفضائية " جميل يا أبي صحيح ، انتظرت حتّى جاءني مرتب الشهر الأخير ، و اشتريت لهم ما أرادوا ، وغادرت إلى مراكش و منها إلى تغدوين ، و منها إلى أعالي قمم الأطلس ، هناك و جدت أختي ، تقوم هي و زوجها الذي يشتغل إمام مسجد في الملت بزيارة لأهل زوجها ، بقيت هناك بضعة أيام ، رجعت إلى تغدوين ، فيها يوجد الكثير من المراكشيين المصطافين يمرحون في عيونها الشافية و مياه وادي الزّات ، أمضيت هناك فترة وتسلقت الجبل مرة أخرى و منه عدنا جميعا إلى الملت منتظرا مجيء راتب الشهر الأول من العطلة ، جاء الراتب و به أمضيت بقية الصّيف و به أيضا دفعت أثمنة كنانيش إخوتي من نعيمة إلى أصغرهم ، وحين التحقت بأولوز حيث سأشتغل هذا الموسم بعد مشاركتي في الحركة الانتقالية وجدت المدير لم يحضر لي مرتب الشهر الباقي من عطلة الصّيف ، عند عودتي فاتحت أبي في الأمر فغضب منّي غضبا شديدا ، و قدّم لي بعض الأوراق النّقدية و رجعت إلى أولوز لتبدأ دورة حياة أخرى .

التحقنا بأقسامنا ، عيّنني مدير المجوعة المدرسية في أقرب فرعيّة إلى مركز أولوز ، حيث يوجد البيرو الذي حبسني فيه القائد أيام طفولتي ، جميع أطفال أقارب عمر يرتادون هذه المدرسة ، هنا إذن جاءت بي الأقدار ، لا يفصلني عن قبره الكثير ، أكاد أشتمّ رائحته في كلّ موضع ، تعود الذكريات تباعا ، عندما أذهب إلى المركز يأسر عيني ممرّ يؤدّي إلى بيته ، أمّه مرارا ذرفت الدموع وهي تلمحني من بعيد ، لم أجرؤ يوما على زيارة منزله ، فقط أجلس أحيانا مع أبيه وأخيه في مركز أولوز حيث توجد محلاّتهم ، هناك يبيعون الخشب و القصب ، أخوه الصغير قريب إلى عمر في صورته و شخصيته ، لتستمرّ يجب دائما مسح فترة من عمرك ، و إن بقيت هناك ستضيع ، أجبّو عندما يعود من البيضاء يزورني في المدرسة ، و كذلك يفعل العديد من رفاق عمر ، عشيري مرة أخرى بيضاوي ، أدرّس المستويين الثالث والرابع عربية و فرنسية ، قسم مشترك ، كانوا أطفالا رائعين حقّا ، مجدّون مجتهدون و متميّزون ، روابط غريبة تلك التي تنشأ بين المعلم و أطفاله ، كما كنت في تاركت أصبحت هنا ، كنت هناك المنشط الوحيد ، أعيش مع الأطفال ، أعلّمهم المسرح والأناشيد ، أقيم بينهم مسابقات ثقافية و رياضية ، في نفس الوقت كنت صعب المراس متى تهاون أحدهم في واجباته ، خليط غريب ، قسوة و شدة ، عطف و لعب ، كنت طفلا حقيقيا .
عشيري هذه المرّة لم يفارقني طيلة السّنة ، هشام في السنة الماضية تركني لفترة وحيدا ، التحق بمعلّم آخر أرسل زوجته إلى موطنه ، هشام أيضا متمذهب ، هي المذهبية تحتاج دوما إلى شريك ، المذهبية تقتل فيك الفرد ، تجعلك تميل إلى الجماعة ، هي بحاجة دائما لمن يشدّ أزرك لتستمر ، هي ثقيلة على الفرد وحده ، إنها مثل كرة القدم ، تحتاج دوما لمن يلاعبك و تلاعبه ، الكرة لن تمارسها وحيدا ، الفريق فيها ضرورة ، الآن عرفت لماذا لا أستحلي كرة القدم ، إنها سلوك اجتماعي ، أحسست عذوبة حين سكنت لوحدي ، يرافقني المدير بين الفينة والأخرى إلى مسكني ، يتهاطل عليّ شباب الدوار ، أغلبهم كنت أعرفه في تالوين ، جوّ أحتاجه كثيرا. عبد العزيز أيضا متمذهب ، لكن بدرجة أقلّ ، يقول لي دوما حين نناقش موضوعا ، إن دماغك هذا سيستقيل منك يوما ، أنت تعذبه أكثر ، تدخله متاهات غريبة ، خذها بلطف ، و لا تبحث عن أشياء لن تفيدك في شيء ، هو مذهبيّ و لكنه برغماتي أكثر، لطيف جدّا ، حاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية .
آن الأوان لتضيف التزاما آخر يا نورالدين ، بداية تخلّص من التدخين ، نجحت بسهولة في الأمر حتى بدا لي يومها أن كلّ شيء ممكن ، الخطوة الثانية هي القراءة ، لا يجب أن تبقى حياتك كلها مجرّد انطباعات ، خذ من تجربة الآخرين و تعلم الأفكار ، الخطوة الموالية والحاسمة كفاك من الهوى و التزم التديّن .
خطوات أنجزتها بكثير من الحرفية ، هذا العام بالضبط سأبدأ في تعرف ينابيع الحركات الإسلامية ، سأقرأ لراشد الغنوشي ، و سيد قطب و عبد السلام ياسين ، و محمد قطب ، و القرضاوي ، سأتعرف على المهدي بن عبود ساقرأ بعض الكتب الدينية رياض الصالحين للنووي ، فقه السيرة لرمضان البوطي . سأقرأ بعد ذلك للمهدي المنجرة و سأتعرف أكثر على عابد الجابري و ضريف في محاضرات مسجّلة تقدمها النقابة ، سأستشعر دور المؤسسة ، ومعاني الدّيموقراطية والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي ، سأفكر بطرق أخرى ، أقوم بمراجعات عديدة ، علاقة قوية تربطني ببعض مدرّسي مدرسة الملت أيضا ، واحد منهم يحبّ القراءة باللغة الفرنسية ، نصحني بقراة بعض كتبه ، عنده تعرفت على الإتجاه الفرنكفوني في الكتابة المغربية ، فاطمة المرنيسي "أحلام النساء " سمية نعمان كسّوس " ماوراء الحشمة" أيضا أعطاني روايتين الأولى مجرّد قصة راعي بقر ، الثانية من الروائع العالمية لألان باتون حول الميز العنصري في جنوب أفريقيا . الإدمان غريب ، حين كنت مدخّنا كنت شرها جدّا ، حين بدأت القراءة ، كنت شرها أيضا ، ألا تعرفين يا نفسي الوسطية يوما ، لا أستطيع ، لا أعرف معناها الحقيقي ، كلّنا ندّعي الوسطيّة ، و كلنا لا نعرف متى نتطرّف ، إدمان شيء ما لصيق بالذات و لو تعلّق الأمر بفرقعة الأصابع ، هي الحياة هكذا تسير.
في الموسم الموالي ، عملت في فرعية أخرى هناك التقيت شابّا آخر ، عملة أخرى ، يكتب بعض الخواطر ، أسمعني بعضا منها ، هو يقرأ بالعربية ، معه قرأت رحيل باطما ، و زمن الأخطاء لشكري ، و في هذا الموسم دفعت ملفّي لاجتياز الباكلويا من جديد شعبة الآداب ، لأستطيع التسجيل في الجامعة ، لم أذهب للامتحان ، حاولت أن أراجع المقرّر ، بدا لي الأمر مربكا ، رغم أن قريبي إدريس يحضر من تالوين أحيانا إلى أولوز ليسلّمني المقرّر ، هو واحد من أبناء موسى ، تجمعنا علاقة قوّية ، ابن بلدي البار ، فيلسوف ناعم ، معه قرأت مؤلفي المقرّر ، الريح الشتوية لمبارك ربيع ، و أوراق العروي .
ربيع زميلي قرأ أغلب رويات إحسان عبد القدّوس ، وجدتني لا أميل إلى الرواية العربية و من الآن فصاعدا لن أقرأ في الرواية العربية إلا القليل القليل ، و سأختار فقط بعض كتبات جبران لأن أجنحته المتكسّرة لمست في نفسي وترا غريبا ، لذلك كلّما جاء في طريقي جعلته مؤنسا هو و توفيق الحكيم . العقّاد أيضا آسر فلم أفرّط في قراءة عبقريّاته .
عليّ ، صديق آخر ، رجل سوسيّ الطباع ، رحابة صدر و اعتزاز بالنفس دون غلو ، متسامح كريم ، متزوج يجعلك تحب الزواج ، قريب جدّا إلى نفسي ، رائع الصّحبة أنت ياعلي ، هو و ربيع يحبّان الرياضة ، معهما سأجد نفسي أضيف إلتزاما آخر ، ممارسة الرياضة بشبق حقيقي ، هي السنوات لا تخلو من عيوب ، في هذا العام اشتبكت مع معلّم رابع و صلنا على اثره إلى رجال الدّرك ، لم يكن السبب إلا عدم قبول الإهانة .
في هذه السنة زارني عمّي حملته على درّاجتي النّارية إلى أيت مبارك حيث أدرّس ، سبعة كيلومترات عن أولوز ، طريق طينية ، كلّما سقط المطر أصبت بركا مائية ، طينها شديد التزحلق ، وجدت عمّي هادئا جدّا ، شيء في الرجل لجم حيويّته ، لست أدري ما به ، يحاول التظاهر بين الحين والحين بأنه مرح ، لكنه شيئا يكبّله ، لا يبدو عليه الحزن ، و لا القلق ، لكن وجهه غابت عنه إشراقته المعهودة . لست أدري إن كان رمضان هو ما قهره أو ماذا . غادر إلى سويسرا و كانت هذه آخر مرة يزورنا فيها و يذهب ، في المرة القادمة ، سيعود ليستقرّ في الملت .
في الموسم الموالي رجعت إلى تكركوست حيث قضيت الموسم الأول في أولوز ، هذه المرّة لن أسكن في بناية المدرسة مع عزيز ، اخترت السّكن في مركز أولوز مع واحد من أبناء تكديرت قرب تاركا ، سي محمد ، في هذا العام يسكن معي أخي عبد الفتّاح الذي انتقل إلى الإعدادي ، سي محمد أيضا معه واحد من اخوته يدرس في الإعدادية ، اكترينا منزلا في أولوز ، وهكذا بدأنا العام الجديد ، سي محمد مهما وصفت فلن تجد له مثيلا في تعقّله في مرحه في حياته في رزانته في كلّ شيء ، قد يعتبرني صديقا ، لكنّني أعتبره أكثر من ذلك ، نموذج حي للإنسان الذي يملك فن الحياة ، الحياة ليست مكتسبات فقط ، ليست تصنعا ، ليست خبثا ، ليست ذكاء ، ليست دهاء ، إنها فن العيش، إلى الوقت الذي عاشرت فيه سي محمد لم أكن أعلم أن الحياة فن ، رجل حياته قصيدة ، حياته لوحة ، حياته نغمة ، بسيط جدّا ، راق جدّا ، يمتلك موهبة التّصرف في كلّ المواقف . جميل أن يجعلك القدر تعيش بعض أيّامك مع من يحسن فن العيش .
في هذا العام سأركز على الروايات الفرنسية تحديدا ، قرأت لجيمس هادلي شاز العديد من الروايات البوليسية المترجمة إلى اللغة الفرنسية ، قد تصل إلى أربعة عشر رواية ، و كذلك أمارس الرياضة بهوس شديد أصبحت أتفنّن في كرة القدم بالرجل اليسرى ، أمارس الكراطي في نادي أولوز ، أصبحت رياضيّا حقيقّيا و مبارزا عنيدا ، لكن الأمور لا تسيردائما كما يشتهيه الإنسان ، ذات ليلة من ليلي شهر مارس ،ذهبت لإقاف المحرك الجديد الذي اشتراه أبي في الموسم الماضي ، نستعمله في ضخ الماء و أيضا في إضاة بيتنا ليلا ، وجدت المصباح هناك منطفئا ، فضلت إسكاته دون العودة إلى المنزل لإحضار المصباح الجبيّ ، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا ، مددت يدي في الظلام أحاول إيجاد المحرك الذي يزعجني هديره القوي ، مع أول لمسة أحسست لسعة في أطارف أصابعي ، و صفير ينطلق من المحرك ، أزعجني الصفير ، فرجعت أدراجي بحثا عن مصباح جيبي لأرى ماذا حل ّبه ، عند دخولي البيت تفقّدت يدي أين أظافر أصابعي ، لكأن جنّيّا اقتلعها ، أمعنت النظر ، عظم أصابعي ظاهر كما لو تم تقشيره ، عجبا أين الدّماء ، إنها لم تجد طريقها بعد ، لم تعرف بعد دمائي أن يدي أصيبت ، أيقظت صلاح الدين ، و أحضرت المصباح من عند أمّي و أوقفنا المحرّك ، سكبت الكثير من الكحول على أصابعي التي بدأء تنزف بغزارة ، بعد رتوش خفيف على مظهري ، قمت إلى أساكي بمعية أخي صلاح الدين ، يدي تتقدمني و قد لففتها في قطعة قماش كما لو أنّني في قاعة ملاكمة ، دمائها أحس بها عند مرفقي ، بين الحين والحين أنتظر أن يغمى عليّ من كثرة الدماء النازفة ، لحسن حظي وجدت هناك ناقلة متوجهة نحو أكادير ، ركبتها هابطا قبالة المركز الصّحي في أولوز ، هناك وجدت ممرضا من معارفي ، الطبيب أيضا يعرفني ، أسعفوا يدي التي انتفخت أصابعها الثلاثة المصابة ، لم يسلم غير الخنصر و الإبهام ، ركبت سيارة الإسعاف إلى مستشفى تارودانت ، دخلنا المستشفى قرابة الثانية صباحا ، في قسم المستعجلات يهنّئني الطبيب ، لحسن حظك العظام لم تتكسر ، مرة أخرى فتحوا جراحي و الألم يعتصرني ، أعادوا تضميضها ، فإلى قسم الجراحة ، صلاح الدين عاد مع سائق سيارة الإسعاف إلى أولوز ، و منها سيعود إلى البيت ، أنا بقيت هناك لإجراء العملية .
كان حدثا مؤلما حقا كتبته بتفاصيله الدقيقة ، ربما يوما سيرى النور كقصة قصيرة ، كتبته بيدي اليسرى لأن يمناي كانت عليلة لمدة غير يسيرة ، حتى عندما استأنفت عملي كنت أيضا أكتب على السبورة باليسرى حتى نهاية الموسم . هذا الحدث كان من الأحداث الرئيسة التي جعلتني أكتب .

انتهى الموسم إذن بنهاية الامتحانت ، لم يتبق غير توقيع محضر الخروج في نهاية يونيو ، كنت في الملت أخطّط إلى أين سأسافر في هذا الصيف ، في الموسم الماضي كنت في زاكورة و أكادير ، في صيف آخر كنت في البيضاء ، هذا الموسم لم أقرر بعد أين ستكون وجهتي ، هذه فرصة للتركيز و عند توقيع المحضر نهاية السنة الدّراسية ، سأكون قد اتخذت قراري . كان اليوم جمعة ، و أنا أتهيأ للذهاب للصّلاة ، إذ دخل علينا عمّي عبد السلام فجأة ، فرح جدّي فرحا عظيما و كذا جدّتي ، تعاظمت الحركة في البيت ، أمّي ستعيد طبخ طعام الغداء ، فهذا عبد السلام قد جاء ، يجب أن يكون الغداء على قدّ المقام ، يسلّم عليهم عمّي بكثير من الحرص بل الخجل ، بل شيء غريب ، يقوم إلى خارج البيت دون سبب ، ربما سيدخّن سيجارة ، يعود في طرفة عين ، يشارك في الكلام حينا ، يغيب حينا ، أسمع منه جملا غير مفهومة ، يخرج أبي لأداء الصّلاة بعد أن شربنا الشاي مع الحلوى ، أقوم أنا أيضا للالتحاق بالمسجد ، عمّي يفاجئني أنا أيضا سأذهب إلى المسجد ، يقصف رعد باطش والسماء ملبدّة ، نحن في طريقنا إلى المسجد يهطل مطر قطراته بدينة ، أسرع في خطاي ، عمّي يفتح يديه للسماء و وجهه تصفعه القطرات ، ينطّ كطفل صغير ، يبتهج بانتعاش الجو في يوم شديد الحرارة ، نؤدي الصّلاة ، يلتفّ حوله أهل القرية ، أسحبه برفق ، الغداء في انتظارنا ، يودّعهم على أمل اللّقاء ، يأخذ يدي يتفرس في أصابعي ، هذا هو ما تحدث عنه في الرسالة ، أنا أعرف سبب هذا ، أتذكر لمّا كنت تضرب الحمار بعنف ، كنت تسلخه بلا رحمة ، ما كنت تعرف أنه سينتقم منك .نتناول الغداء ، يخرج من جيبه ورقة نقدية سويرية ، يكمّشها ، يرسلها بعيدا ، هذه مزورة ، يخرج مرة أخرى ، يعود ، أترى يا أبي هذا أنا ، يشير إلى رأس يشبه الروبوت ، غالبا الأوربيون يضعون صور الأموات في أوراقهم النّقديّة ، لكن هذه الورقة خصّصوها لي ، أنا أملك سرّا بنكيا " تو سي نوردين ، لو سكري بونكير " أومأت رأسي المنزلق في غياهب الملكوت ، يقوم مرة أخرى حتّى قبل إنهاء الطّعام ، نسي حذاءه ، يمشي هكذا ، قمت أنا أيضا إلى غرفتي ، آه لو كنت أدخّن لملأت جوفي دخانا ، يعود يقتحم الغرفة عليّ ، تعال يا نورالدين ، أصاحبه ، أنا لن أعود هناك ، سأبقى في بلدي ، سأتزوج ، أتعرف فلانة ، كان أبوها اقترح علي حتّى قبل ذهابي إلى سويسرا أن يزوجني أختها الكبرى ، الآن سأتزوج هذه ، أتعرف مقهى فلان ، سأعمل فيه إنه الآن مغلق ، أنا من سيفتحه ، أنا أتقن العمل في المقاهي أحمل ديبلوما أوربيا ، انتبه ، شممت رائحة ثعبان ، إنه هناك كم هو كبير ، أين يا عمّي ؟ لست أدرى أين ذهب ؟ يدخن سيجارة أخرى ، يرميها بعيدا ، أحسن ما فعلت يا نورالدين تخلصك من هذا الويل .

لا ينقص هذا البيت من كلّ الخيرات غير الجنون ، يا لخراب أبناء موسى ! كان الأمر كابوسا مرعبا ، تصوّر أن تحس يوما بظهرك محميّا و لو خداعا و زورا ، فنحن نخدع أنفسنا أكثر ممّا نخدع الغير ، تستفيق و تجد نفسك مكشوفا عاريا مسلوتا ، كل العوادي لن تقف إلا عندك ، كلّ السهام متوجهة نحوك ، يا رحمااان ارحم ، يا لطيف مزيدا من اللّطف ، كان الوقع شديدا علينا جميعا ، كان الخطب عظيما ، كان و كان ، والحقيقة ليست أكثر من أن عبدالسلام مجنون . كنت أعلم منذ زمان أنّني الأقرب إلى الجنون ، حتى ربيع سألته عائلته ذات يوم مع من تسكن ، فردّ عليهم ، أسكن مع أحدهم ولكن لم أحسم بعد من المجنون فينا ، أنا أم هو ، أنا أيضا في هذه اللحظة يا ربيع ، لست أدري من المجنون أنا أم عمّي ، هو الجنون راحة للمجنون و لو أن المعاناة تظهر عليه ، لكنه طامّة كبرى لدويه ، أي لغة ستفقه ياعمّي ، أنا لم أتعلّم بعد لغة المجانين ، أي أسلوب تريد أن نتبع في التّواصل ، أي منطق تستحليه ، من يعلم .
كانت لحظات رهيبة حقّا ، لكن ما العمل ؟ من كان يملك مفاتيح أسرار الكون فليختر منه ما يريد ، هي الحياة تتغير ، هي الأوضاع تتغير يا عمر . لو أنك هنا يا عمر لأصابك من الدّهول ما أصابني ، فأنت تعرف الرّجل ، ولكن ربما اتّفقتماعلي ، واحد تزوجه القبر و آخر ضمه الجنون إلى عشّه ، لكن صبرا صبرا ، أنا أتحمل عنكما ما لا تطيقانه ، حتى وإن كسر ظهري فسأكون شهيد شهامة ، المجانين هم في طرقي ماذا أفعل ، عبد الهادي انزارن واحد منهم ، مارادونا هو أيضا منهم ، كانطونا أيضا . فمن غيري يحب المجانين ، لنا بعض صفات مشتركة ، شيء في جيناتنا يحب الجنون. لو أصبت بالجنون ما أذهلني الأمر ، فأنا في طريق معبدة إليه منذ الصّغر ، لا يحكم منطق حياتي ، ذاتي لا تحبّ اللّجام ، أليس هذا هو الجنون بعينه .
قال سي محمد يوم حكيت له مصابي : مع الأسف حياتك كلّها ستتغير ، صدقت يا سي محمد ، أنت خير من يعرفني ، حياتي أصابها إعصار ، طوفان ، قل ما شئت إنه التسونامي .

رغم ذلك في العطلة كلّها لم أفارق عمّي ، أشتري له سجائره ، أنام بجانبه ، أضاحكه ، أخرج معه إلى أساكي ، يشرب قهوته ، ذهبت معه إلى أكادير ، في زيارة خاطفة ، انتشى على الكورنيش ، إلى أن أصبح متعافيا بنسبة كبيرة ، أستطيع أن أقول تسعين بالمئة ، لأن عشرة بالمئة من الجنون توجد في الجميع كحد أدنى . أصبح الرجل يعرف ما أصابه ، يعرف أين وصلت به الأمور يسترجع بعض الذكريات ، بعض الفرص الضائعة ، بعض و بعض ، وكلّما أحسست أنه يبالغ في البوح و سيتنقل إلى جلد الذات غيرت الموضوع ، أعطيه فسحة بين الفينة والأخرى يختلي فيها بذاته ، كان شغلي الشّاغل طوال ثلاثة أشهر و حين جاء موعد الذهاب إلى أولوز ، ألححت عليه بمرافقتي لكنّه رفض ، اقترحت عليه أن يزورني من فترة لأخرى فقبل . أراسل طليقته ، قسوت عليها في كثير من الرّسائل ، حتى خبرت الكثير من معاناته و تركتها تواصل حياتها .


قديم 07-09-2016, 03:20 AM
المشاركة 67
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عبد الفتّاح في الإعدادية يتغيب في الموسم الثّاني ، تسرّعت بعض الشّيء يا أخي ، كنت أنتظر منك أن لا تتمرد إلى هذا الحدّ منذ الإعداديّة ، كان عليك أن تنتظر حتى تصل للثّانوي كما فعلت ، التقيت بحارسه العامّ ، و أوصيته أن يتّصل بي كلّما تغيب ثانية ، فاتحته في الموضوع و حاولت استكشاف أسباب تغيبه ، فحدّثني عن ضعفه في اللّغة الفرنسية كما الرياضيات ، لذلك سأسير معه خطوة خطوة في هذه الدروس ، كلّ درس يقرأه أراجعه معه مساء ، بعد ذلك وجد السّبيل إلى مسايرة المقرّر ، و تحسّنت نتائجه ، في النّادي أمارس الكراطي ثلاث حصص في الأسبوع ، بقيّة وقت فراغي ، أمضيه مع مجموعتنا ، بورخا معلّم مثلنا ، شخص تملأه الفكاهة ، نحن ننصت وهو منشط الجماعة ، أسلوب مميز ساخر ، السخرية فن جميل ، يسخر دون أن يؤذي ، يقظ ، جدّيّ إلى أقصى الحدود ، هو أوّل من يبني داره في كوكبتنا ، حين يضحك يمارس الفكاهة تحسبه شخصا منفلتا ، لكنه مؤدّب للغاية ، قريب إلى نفسي بدرجة كبيرة ، يستحقّ لقب صديق مخلص ، حين فكرت في الانتقال إلى الملت حذّرني أنها مغامرة عقيمة ، رغم كلّ ما قدّمت له من معطيات بدا غير مرتاح لقراري الذي قد يبدو ردّ فعل أكثر ممّا هو فعل حقيقي ، كان بالإمكان أن أنتقل إلى الملت منذ السنة الأولى التي قضيتها في تاركت ، لكن منذ البداية لا أريد أن أعمل في قريتي ، هو شعور يعم كافّة أبنا المنطقة ، لن تجد فيهم من يهرول إلى مسقط رأسه ، يختارون مدارس تكون قريبة من مواطنهم ، يزورون أقرباءهم كل أسبوع أو مرة كل خمسة عشر يوما ، هكذا أفعل أنا أيضا ، لكن على عكسهم ، فأنا مرتبط جدّا بالعائلة ، ظروفي تفرض عليّ ذلك و كذلك تربيتي ، ربّما أبي قدّم أقصى ما لديه حين وصلت إلى وظيفة ، يريد معيلا حقيقيا وليس فقط معينا أو موجها أو من يتدخل وقت الأزمات ، أنا أعرف ما يسرّ و ما يظهر ، يريد شيئا غير موجود في الدّنيا كلّها ، يريد من ابنه أكثر ممّا يحتملّه ذهنه و مرتّبه و مقوماته و قدراته ، أبي ليس وسطيّا كما يعتقد ، ربّما أنا أيضا ساهمت كثيرا في جعله مدلّلا ، أنا بارّ أكثر من اللازم ، أتدخل لمعالجة الكثير من تصرفاته ، أعوّض إخوتي عن حنان أبوة قد يفتقدونه ، رغم أنّني ساكتشف لاحقا أنّني لا أستطيع إعطاهم القدر الكافي من الحنان ، فجعلتهم ربما أكثر دلالا ، هي التربية ، أصعب ممّا نتخيله ، وخاصّة عندما يكون هناك شيء غير مفهوم وغير قابل للسيطرة عليه ، أبدّل الخطط كثيرا منذ زمن بعيد ، عساني أصل إلى الجو الذي أراه مناسبا لهذه الأسرة ، كي تستطيع النموّ ، هذا لا يعرفه أصدقائي ، فلذلك خطوة ذهابي إلى الملت لم تكن إجراء انعكاسيّا لعودة عمّي ، رغم أن ردّ الفعل في الفعل قائم ، أنا اخترت أسرتي كواجب ، يعني أنه عندما يكونون في الحاجة إلي سيجدونني بالقرب ، هذا خيار منذ الزمن الغابر ، حتى في طفولتي كنت دائما حاضرا و بقوة ، نورالدين رقم صعب داخل الأسرة كلّها ، يكاد يكون رجل المنزل الذي يتحمّل هبل الجميع ، قد أكون عصبيا في بعض الأحيان ، لكنّني أكثر قدرة على التحمّل منهم جميعا إلاّ أمّي طبعا ، جاء عمّي و أنا أرى النتيجة ماثلة أمام عينيّ ، الرجل مريض ، يحتاج إلى عناية ، و أكثر من ذلك أبواه غير قادرين على تحمّل شخص بعقله وما أدراك بمن فقد صوابه ، أعرف أنه سيعذبهم جميعا ، سيرهقهم شرّ إرهاق ، لأن جنونه ليس كلّيّا ، فهو في منزلة بين المنزلتين ، ينطلق من شي مألوف لتخرجه استنتاجاته إلى السّراب ، يضحك الآن وتقول هذا هو عبدالسلام ليغضب في اللحظة ذاتها ، كلّ هذا ظهر منذ التحاقه بالشغل ، مقاول يسفلت الطريق الرابطة بين أساكي وإغرم ، طرق تمرّ بالملت ، هو التحق بالعمل كتقني دون أن تشفى جراحه ، الالتزام ولّد عنده الضغط ، والضغط جعله يفقد مرونته ، فاضحت العصبية و الانفعال والمزاجية تطغى على سلوكه ، كلّما أصرّ على العمل ازدادت حاله سوءا ، لهذا كنت أرغب في مجيئه إلى أولوز ، كنت أريده أن يبتعد عن الضّغط ، حتى ضغط الأسرة ، و ناس الدّوار، أريده أن يستنشق عبير الحرية ، لم يسعفني في مرادي . حاولت مرارا وتكرارا أن أمحو فكرة العمل من ذهنه ، لم أوفق ، والداه لايزالان يتصرّفان معه عاقلا ، إن قال لهم قوموا قاموا ، و إن أجلسهم جلسوا ، أذكر فرحة أبي يوم عرف أنّي عدت إلى الملت ، رغم معارفه الكثيرة والغزيرة ، ففي عمقه خوف مزمن أن نتركه ونذهب ، فقدان الثّقة بشكل رهيب ، هي المعارف لا تعطينا شخصيّتنا ، هي الذات فقط من يستطيع التّحكم فينا ، مهما عرفت فسلوكك لا يستجيب لمعارفك و لأفكار ملأت بها ذاكرتك ، هوالسلوك نابع من الذات ، والسلوك مؤشر قويّ على حقيقة الذات ، إنه الموقف ، المواقف هي من تقول من أنت . أبي هكذا ، لن أستطيع تغييره ، ولن يستطيع شخص آخر تغييره ، شكيم اللّسان ، ينفعل لأتفه الأسباب ، قد يؤلمك أمام من لا تريد ، ينفلت لسانه ، عندما تتحدث عن فكرة ما ، يقحم الذات في الأفكار فيضرب الأمثال بنفسه ، أعرف أنه عاجلا أو آجلا سيصبح مع عمّي كفأر وقطّ ، تصوّر أنك تناقش مجنونا بالمنطق ، فكلاكما مجنون ، لن يفهمك و لن تفهمه ، أبي لا يعرف منذ القدم إلا الصّرامة ، و عوّد ذاته عليها ، فكيف سيكون متفهما و هو يلامس السّتّين ، هوالعمر يظهر عيوبنا ، يجعلك تتعرى أكثر من راقصة الستريبتز ، فقط هي تظهر محاسنها و الزمن يظهر قبحنا ، وخاصّة حين تكون الظروف عصيبة ، أو فيها ضغط ما ، أو قلّة حيلة ، هي الدّنيا جحيم حقيقي للبعض ، موباسون التقيته هذا العام ، سأجد فيه الرجل العارف بالنفسيّات المهزومة ، قطب من أقطاب التيار الطبيعي من الواقعية الفرنسية ، وجدت الرجل يغوص بعمق غريب في السلوك الإنساني ، يحبك القصة و يهتم بالتفاصيل الصغيرة ، يمرمد أبطاله ، يعذبهم عذابا أليما ، النهاية عنده مؤلمة لن يكون إلاّ مجنونا آخر سينضاف إلى مجانيني ، منه سأنطلق إلى زولا و ستوندهال و بلزاك ، أمرمد نفسي أنا أيضا دون أن أعرف ، بل أعرف ، فعلى الأقل ، قال لي عزيز أنّ عقلك هذا سيستقيل منك يوما ، هي الحياة هكذا ، لن يسلم منها إلا من أخذها بمرونة ، سأذهب إلى بيتي ، ليس لانّني أملك عصا موسى ، و ليس لانّني سأجد الحلول ، سأذهب إلى هناك فقط لأحاول بلسمة الجراح والحيلولة دون ارتطام الأواني الزجاجية . كنت أعرف أنّني مغامر لا أكثر ، لكن ماذا ستفعل ، أن تفعل خير من أن تتفرج عن بعد ، هكذا بدا لي الأمر يومها ، قد لا تكون الحقيقة هكذا ، فلكل ذات حقيقتها ، و وفقها تأتي تصرفاتها .
كوكبتنا أيضا تضم شبابا آخرين ، بعضهم خارج المهنة ، ولكن لا تستطيع دوما الإحاطة بكل شيء ، لأنك ستجعل النصّ مترهلا أكثر ، سينفلت و تطغى عليه البانورامية ، خذ البعض فقط و معذرة للذين يستحقون الذّكر هنا ، و ما أتيحت لهم الفرصة ، زملائي في تكركوست وحدهم فقط يستحقّون الصفحات ، أصدقائي في الملت أيضا ، لكن ما العمل ، ليس كلّ شيء متاحا. و ربما جاءت الفرصة ذات يوم و وجدتم أنفسكم في الطليعة .
هكذا جئتك بلادي ، أصلحت بعض مرافق منزلنا ، و سبق أن جهزته بالطاقة الشمسية للإضاءة ، و سبق أيضا أن طلبت من أمّي أن تختار لي زوجة ، هي رفضت و قالت :" أنت من سيختار " كنت أفكّر أن أضرب عدّة عصافير بحجرة واحدة ، تؤسس أسرة ، و في ذات الوقت تعتني بالجميع ، عمّي أيضا يفكّر في الزواج ، أحاول أن أقترب منه فيبتعد ، أريد أن أرى هذه الفتاة يا عمّي ، يسوّف و ذات يوم قال لي لن تراها ، عندما رأيته مصرّا على الزواج ، وجدّتي تؤازره و جدّي لا قرار له ، و أبي ضاعت صلابته ، أجّلت مشروع زواجي ، خطوة خطوة يا نورالدين ، ذات يوم سافرت إلى وارزازات لإحضار ورقة تأمين درّاجتي و في نفس الوقت للتنفيس عن نفسي وقد أنهيت الإصلاحات المتاحة ، اصطحبهم عمّي جميعا ليخطب فتاته ، حتى جدّتي الأخرى الجارة كانت معهم ، عندما وصلوا إلى الدّوار المعلوم ، اكتشفوا أن لا وجود للفتاة و لا الخطوبة ، افتعلوا زيارة واحد من معارفهم ، ورجعوا محسين بخيبة عارمة ، أتعلمون لماذا جئت إلى هنا ، متى غفلت يا نورالدين سيقع شيء ليس في الحسبان .
عمّي يحدّثني بعصبية كبيرة ، ضاع عمّي الذي تركته هنا في الملت الموسم الماضي ، رغم ذلك أتحيّن فيه الفرص حتّى بدأ يثق بي ، عند ذاك رافقته لزيارة الطبيب في تالوين ، ونحن في طريقنا إلى المستشفى ، كلّما لمح كيسا بلاستيكيا خطفه بسرعة وكمّشه ولفه ليضعه تحت حجارة ، لا أعاتب عليه فعلته ، وأنا عارف أنه يعيش أيضا عالما آخر غير الذي نشتركه ، الطّبيب بعد استقبالنا ، منحني ورقة لمرافقته إلى تارودانت قسم الأمراض العقلية والنفسية ، عندما خرجنا من المستشفى أصبح شخصا آخر ، يا عمّي سنذهب إلى تارودانت ، زيارة خفيفة ، ما بك ؟ لم يستجب و لن يستجيب ، بل يسب الأطباء ، أنت لا تعرف ماذا فعلوا بي في سويسرا ، هؤلاء المجانين ، أنت لا تعرف تلك السموم التي كانوا يقدمونها لي ، حاولت مرارا لكنه لا يستجيب ، لا يزال يمارس عمله كتقني ، يأتي كلّ أحد مغبرا كما لو أنه يسبح في التراب ، حالته مؤلمة جدّا رغم ذلك مصرّ على أن يعمل ، مصر على عدم الذّهاب إلى المستشفى ، بين الجنون و العقل يعيش ، صعب جدّا أن تعرف هذا المنطق . أنا أيضا أحاول الاندماج في الملت ، أدرس في فرعية جدّتي من أمّي ، أزورها و رأسي تؤلمني أنثر البهجة في وجهها المتدفق بالطيبوبة ، أرى فيها رونق البساطة والروح المؤمنة ، ما أطيبك جدّتي ، أجاري زملائي الجدد في هبلهم رغم أنّني أحسست أنّي كبرت على هذا ، رغم ضيقي الشديد وروحي التي تريد أن تغادر ، فانا أجابه عالمي بمسؤولية ، بروح مرحة ، أزور أولوز ، التقيت هناك بمجنون آخر عاشق للسينما ، عند ربيع وعلي ، شاهدنا التيتانيك جماعة ، شريط غريب حقّا ، إنها النهاية المأساوية ، لكن بعد كل بداية بداية ، لا تشغل نفسك بالنّهايات ، هكذا قرّرت ، أحيانا لا نملك من الحلول إلاّ التعايش مع ذواتنا مع نواقصنا مع أمراضنا مع واقعنا ، متضايق نعم ، زرت الطبيب أعطاني بعض المهدئات و بعض الفيتامينات ، أزور بورخا و سي محمد و أذهب عند عزيز ، عند لمودن و حسن ، في الدوار بين الفينة والفينة أخالط ناس الدّوار ، رغم أنّني أحس بنهايتي وأكتب رياح الخريف ، لكن من العار أن نسلّم أنّنا انتهينا .


هذه نهاية الجزء الثالث من هذه السيرة و الوقت مبكر جدّا لكتابة الأجزاء الأخرى ، لذلك هنا سأتوقّف .

و شكرا على تحمّلكم نزقي و قلقي .

قديم 09-02-2016, 01:42 PM
المشاركة 68
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اشكرك استاذ ياسر
لقد كتبت بغزارة واتقان حتى انني لم اجد الوقت الكافي لقراءة ما كتبت ساعوذد لقراءة كامل الفصول الثلاث من جديد ولعلنا نطرح بعض الأسئلة حول حياتك وما احتوته سيرتك والمجال مفتوح هنا لكل من يرغب في محاورة الاستاذ ياسر او طرح الأسئلة عليه انتظارا الي باقي الفصول.

راجيا ان يكون هذا اللقاء قد ساهم في تحفيزك للكتابة بهذا الشكل الجميل ولعل هذا يكون مثالا يحتذى لباقي الزملاء الذين نود ان يباشروا في كتابة سيرتهم هنا وان احتاج الامر استفزازهم ببعض الأسئلة فلا مانع ...

من ناحيتي أنا في خضم كتابة فصل حول مرحلة التكوين وهو امر وجدته صعبا وفوق العادة لانه لا يعتمد على الذكريات وانما يعتمد على المعلومات الوقائع والخيال لما جرى في تلك المرحلة ، لكني اتصور بأنني تمكنت أخيرا من إنجاز المهمة وسوف انتقل لاستكمال القسم الثاني من سيرتي والذي يغطي السنوات من بداية المدرسة 1960 وحتى بداية احتلال الضفة الغربية حزيران 1967 .


قديم 12-13-2016, 02:21 PM
المشاركة 69
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اين وصلت استاذ ياسر في تدوين مذكراتك؟ وهل تنوي استكمال الموضوع؟

قديم 09-08-2017, 05:41 PM
المشاركة 70
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرحباً استاذ ياسر

اين وصلت في مشوارك الادبي ؟ وهل كان لمشاركتك في المنتديات والحوارات الأدبية اي اثر في نضوج تجربتك ؟ وهل فكرت في نشر اي مجموعة قصصية ؟

 

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب مفتوح .... فتحية الحمد منبر البوح الهادئ 4 02-15-2022 12:59 PM
لقاء مفتوح مع الأستاذ سامر العتيبي ...أسطـورة الفـن التشكـيلي ايوب صابر المقهى 5 04-18-2014 03:14 PM
من فمك نكتب سيرتك: لقاء مع الاستاذ نبيل احمد زيدان ايوب صابر المقهى 27 11-21-2012 02:46 AM
قلبي مفتوح على جرح !! حسام الدين بهي الدين ريشو منبر البوح الهادئ 4 02-08-2012 11:26 PM
بوفيه مفتوح عبدالسلام حمزة منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 5 10-22-2010 03:09 AM

الساعة الآن 05:16 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.