احصائيات

الردود
1

المشاهدات
2720
 
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي


ماجد جابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
3,699

+التقييم
0.77

تاريخ التسجيل
Feb 2011

الاقامة

رقم العضوية
9742
06-12-2017, 12:44 AM
المشاركة 1
06-12-2017, 12:44 AM
المشاركة 1
افتراضي قراءة في كتاب "تطوان وحكايا أخرى"
قراءة في كتاب "تطوان وحكايا أخرى" للدكتور سميح مسعود، بقلم الناقد د. عبد المجيد جابر
صدور الكتاب:
صدر الكتاب مؤخرا عن " دار الآن ناشرون وموزعون" في عمان قبل أسبوع تقريبا.
عنوان الكتاب:
عنوان الكتاب"تطوان وحكايا أخرى" فالعنوانُ يتشكّلُ من جملة اسمية مكونة من خبر مرفوع، والخبر مبتدؤه محذوف تقديره "هذه".....ومن اسم معطوف وصفة وقد نجح الراوي في اختياره للعنوان، واستطاع أن يربط ربطا موفقا بين عنوانه ومحتواه، والعنوان "نظام دلاليٌّ رامز له بنيته السطحية، ومستواه العميق مثله مثل النّص تمامًا، من حيث إنّه حمولة مكثفة من الإشارات والشيفرات التي إن اكتشفها القارئ وجدها تطغى على النّص كله، فيكون العنوان مع صغر حجمه نّصًا موازيا (Paratexte)، ونوعا من أنواع التعالي النّصي (Transtextualité)، الذي يحدد مسار القراءة التٌي يمكن لها أن "تبدأ من الرؤية الأولى للكتاب"(1)
و"يمثل العنوان العبارة المفتاحية للنص، مهما كان النوع الأدبي، سواء كان قصة أو شعراً أو رواية أو مقالة، فالعنوان هو أول ما يفاجئ القارئ، وعليه فإما أن يجذب القارئ أو يبعده، أو يبقيه على الحياد مع نص قد يكون غنياً أو عادياً، إضافة لما في العنوان من دلالات معرفية ذات أبعاد مختلفة الأطياف، تكشف عن ثقافة صاحب النص، وغوصه في المكنون الفكري الذي يستلهمه أو يعيشه أو ينتظره، من الماضي والمعاش إلى الحالة المستقبلية، لذا أولى النقاد مسألة العنوان أهمية كبرى، وكانت له مكانته في الدراسات النقدية النصية.(2)
ولقد نجح المؤلف في اختياره لعنوان كتابه، فهو معبر تماما عن محتواه، فلقد زار المؤلف الكثير من المدن المغربية ووصفها وتحدث عنها بأسلوب أدبي شيق على طريقة الرحّالة، وركز على مدينة تطوان خاصة.
الجنس الأدبي للكتاب:
يندرج هذا الكتاب تحت صنف أدب الرحلات.
مفهوم الرحلة:
مفهوم أدب الرحلة: هو فن التعبير عن مشاعر تختلج في نفس الأديب المسافر عبر الآفاق تجاه كل ما يراه ويعايشه ويقرأه عن ملامح بلد أجنبي بعادات، وتقاليد سكانه، وخلفيته السياسية والثقافية والاجتماعية وأحداث يعايشها الأديب ومواقف تأثر بها، وهموم عانى منها في ذلك البلد الأجنبي طالت أم قصرت مدة إقامته فيها، والتعبير عن كل ذلك بأسلوب أدبي شائق يغري القارئ بمواصلة القراءة من أول لآخر سطر، دون ملل أو كلل. (3)
وأدب الرحلة "تشكيل لنص ذاتي/ شخصي، بخصوص الأنا والآخر، متكيفا في شكل معين، للتعبير عن رؤية معينة، انطلاقا من خطاب مفصح عنه في البداية ، أو مضمر في تضاعيف السرد والوصف والتعليقات" ( 4).
الهدف من الرحلة
الهروب من الشتاء القارس في مونتريال في كندا، حيث استقر هناك أخيرا بعد هجرته القسرية من مسقط رأسه حيفا.
ففي شتاء مونتريال كان الراوي يجد نفسه في عالم آخر في فصل الشتاء، يعتريه إحساس غريب... تجتاحه نوبة رهيبة من الضيق عندما تختفي الشمس لأيام طويلة بخلود زمني مثير، ومع الأيام صار أكثر تأثراً بالثلوج، اشتدت وطأته على حياته، وأصبح من المتعذر عليه صحِّياً تحمل معاناة الظروف المعيشية الصعبة في فصل الشتاء... برده القارس يُمسك على أنفاسه، يرفع ضغط دمه ويزيد من خفقات قلبه المتسارعة.
قرر ذات يوم أن يتعد عن مدينة مونتريال في أيام الشتاء الباردة، أسوة بما يفعله أهلها من المتقاعدين، وهم كثر، يهجرونها هرباً من البرد، ويقيمون لفترات طويلة في ولاية فلوريدا الأمريكية وغيرها من المناطق الدافئة الأخرى، وهكذا قرر أن يقيم في عمّان في فصل الشتاء، وأن يكثر من المكوث في منطقة البحر الميت القريبة منها، التي تمتاز بدفء مناخها شتاءً ونقاء هوائها، لكونها أكثر مناطق العالم انخفاضاً تحت سطح البحر، تفوق فيها كميات الأكسجين عن غيرها من المناطق الأخرى، لانسيابه بكميات كبيرة في المناطق المنخفضة.
وهكذا أخذ يشد الرحال إلى عمان في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام ويبقى فيها مدة أربعة أشهر، يقضي معظم أيامها في شقة على ضفاف البحر الميت، ويعود ثانية إلى مونتريال مع بدء فصل الربيع.
لكنه في شتاء هذا العام (2017) منح نفسه شيئا من التغيير بشد الرحال إلى المغرب، الذي زاره عدة مرات في سنوات خلت، أطال التجوال في أرجائه بأجواء مشحونة بالإثارة، خصَبت ذاكرته بأجمل الذكريات، تجول على مدى أيام طوال في مدن كثيرة شكلت الطبيعة فيها لوحات تشكيلية جميلة بتكوينات لونية مميزة، تبعث الأمل والإلهام في النفس.
تعرف في تلك المدن أثناء زياراته السابقة على أشخاص كثر من مواطنيها استقبلوه بحرارة واسمعوه حكايات قيمة، ساعدته في تدوين مشاهدات وملاحظات كثيرة عن مدنهم ملآى بمعلومات عن طبيعتها الساحرة وناسها وتفاصيل مآثرها العمرانية القديمة؛ بما تحمله من نقوش ورسوم زخرفية، وما يحيط بها من أسوار وقلاع وأبراج شُيِّدت في أزمنة ماضية.
شجعه على زيارة المغرب من جديد دعوة وصلت إليه من صديقه الدكتور سعيد خالد الحسن الأستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط، لإشهار كتابه الثالث من سلسلة "حيفا بًرقة البحث عن الجذور" في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، ودعوة أخرى تلقاها من القاص والإعلامي جعفر العقيلي مدير دار الآن للنشر والتوزيع الأردنية، ناشر كتابه لإشهار الكتاب في نفس المعرض، ووجد في دعوتهما فرصة لكي ينطلق الكتاب من الدار البيضاء لما فيه من تفاصيل سير مستمدة من بحثه عن حيفاويين عاشوا في الرباط وفاس ومكناس، دونها بمفرداتها ومعالمها الأساسية، في صور تجارب حياتية معبرة عن تحولات الحياة الفلسطينية في الشتات.
استجاب للدعوتين، ووجد في دعوتهما فرصة استثارت حنينه للسفر من جديد والهروب من برد مونتريال، كما أيقظت في داخله رغبة طالما أرد تحقيقها لزيارة بعض المدن المغربية التي لم يزرها من قبل، خاصة المدن التي تمتاز باعتدال مناخها شتاءً، لتجميع حكايا عن صميم واقعها الحالي وماضيها البعيد.( "تطوان وحكايا أخرى ص 5")
أهمية أدب الرحلة
أهمية أدب الرحلة، تكمن في المتعة والطرافة التي تتولد في نفس المتلقي، فهو يمثل قناة الربط وجسر العبور بين الأمم والشعوب، من خلاله يطلع الرحاّلة على حياة البشر وطرائق عيشهم، مسجلا ما لقي من طرائف إكرامهم وغرائب طيشهم. ومن ثمة فهو يطلع الآخرين على الكثير من النكت والأسرار، فالسفر مرآة التجارب والأعاجيب، وهو على الحقيقة مدرسة العلم والحياة التي يتخرج منها الرحالة، وقد اقتبس غزير المعارف والعلوم وتعرف على عديد الأعراق والشعوب.
"وفي جميع الأحوال ، يظل أدب الرحلات معبرا عن التنوع الثقافي بين البشر الذي يشمل العادات والتقاليد في الطعام والشراب والتفكير والمعتقدات، والنظم الاجتماعية، وهذا واقع ضمن الدراسات الإثنوجرافية ، التي تساعد على فهم مسار الحضارة الإنسانية ، إذ إن التنوع الثقافي يساهم بلا جدال في التغيير والتطور الإنساني في مجمله."(5 )
وفن الرحلة أيضا عون للجغرافي؛ عبر المعاينة المرئية التي يقوم بها الرحّالة وما يصفه بدقة من أحوال البلدان وتضاريسها ومعالمها، وأيضا هي عون للمؤرخ في معرفة الجديد عن تاريخ البلدان والأقاليم، والتثبت مما ورد إليه من معلومات تاريخية، (فيصف الراوي جغرافية وموقع بلدة شفشاون على سبيل المثال، حيث على أبواب شفشاون، توقفت الحافلة ونزل منها مع بقية الركاب، نظر حوله في كل الجهات، ورأى ششوان في منظر بانورامي جميل، متربعة في موقعها على سلسلة جبال الريف تطل مزهوة بغابات كثيفة على امتداد أطرافها تتزيَّن بأنواع كثيرة من الأشجار، خاصة أشجار الفلين والأرز والشوح، وتكثر فيها الشلالات وعيون الماء، وتشابكات الأعشاب الخضراء على امتداد مساحات واسعة.
هاله منظر ششوان بتفاصيل تضاريسها الجميلة، سحره طابعها الأندلسي وجدران بيوتها المطلية باللون الأزرق، وجدها مدينة مشحونة بالإثارة، تضيف في دلالات منظورة لوحة تشكيلية جميلة للبحر الأبيض المتوسط، ملفعة بأمواجه الزرقاء. (تطوان وحكايا أخرى، ص 110-111)
وأدب الرحلة يستنطق قلوب أهل المناطق التي يزورها الرحّالة، ومن أمثلة ذلك ما يكنٌّه المغارب من حب لفلسطين وأهلها، ويتجلّى ذلك في الترحاب الذي صادفه المؤلف والتمسه بكل مشاعره من أهل المغرب ومن أمثلة ذلك حُسن الاستقبال وأصالة الضيافة التي قام بها حامد بن إدريس وعائلة وابنته نعمة وكل العائلة، ولنستمع لبعض ما صرّح به الرّحالة د. سميح في كتابه: " لتقيت في صباح اليوم التالي مع زميلتي نعيمة بن إدريس، ولحسن حظي فإنها تقيم حالياً وتعمل بالرباط، بعد أن تخلت عن الإقامة في مدينة مونتريال الكندية، قدَّمت لها نسخة من كتابي الجديد الجزء الثالث من سلسلة "حيفا بُرقة البحث عن الجذور"، الذي ذكرتُ فيه أسرتها واستضافة والدها لي في بيته طيلة وجودي في الرباط، تماشياً مع عادات وتقاليد الضيافة التي يتوارثها المغاربة من جيل إلى أخر.
لزمت الصمت وهي تتصفح الكتاب، ثم نظرت لي وقالت بنبرة جادة:" لقد أنهيت كتابك خلال فترة قصيرة."
أجبتها: "أجل، خلال ستة أشهر، وكانت بداية تأليفه في الرباط، وكل ما فيه عن فلسطينيي الشتات."
استقرت عيناها على الصفحات التي كتبتها عن والدها وأمها وعمها، وفي لحظة عبَّرت لي عن استغرابها لإقامتي في الفندق، كاشفة في الوقت نفسه بكلمات مؤثرة عن حزن والدها لعدم نزولي ضيفاً عليه في بيته، خاصة وأنه ابتهج لوجودي معه لفترة طويلة من الوقت أثناء زيارتي الماضية قبل ستة أشهر.
بيَّنتُ لها أنني شعرت بسعادته عندما استضافني في بيته، وكنت ألاحظ مدى سعادته،عندما أحدِّثه - بناء على طلبه- عن لمحات من الحياة في فلسطين ما قبل النكبة، بمختلف مشاهدها وأحداثها وأوجاعها، وكثيراً ما عبَّر لي عن اهتمامه ببحثي عن الجذور، واعتبر ما أقوم به مهماً لتعريف الأجيال الصاعدة بالمكان والأحداث والإنسان عن أيام بلدي الماضية، لتعزيز الانتماء وإبقاء الذاكرة الجمعية الفلسطينية حيَّة على مدى الأيام.
بعد فترة وجيزة اتجهت مع نعيمة إلى بيت أسرتها الواقع في منطقة أكدال، وتحديداً في شارع فرنسا رقم 12، استقبلتُ من والدّيها بمنتهى اللطف، رحَّبا بي في حرارة، وسرعان ما عاتبني والدها بحرارة الصداقة التي تجمعنا لنزولي في الفندق، شكرته على حفاوة الاستقبال، ووعدته أن أحل ضيفاً عليه في مرة قادمة، وفي الحال قدَّمت له نسخة من كتابي الجديد، وهدية عبارة عن حجر من القدس طلبه مني أثناء زيارتي السابقة للرباط .
ضم الحجر بين يديه، ثم قبَّله عدة مرات، وبلَّله بدموع سالت من عينيه من شدة التأثر.
قال وهو يضغط بيديه على الحجر: "إنها أثمن هدية أحصل عليها في حياتي."
وأضاف: "صحيح أنني جيولوجي وتشكيلات الصخور ضمن اختصاصي لكونها جزءاً أساسياً في تركيب القشرة الأرضية، وقد تعاملت معها بالبحث والتنقيب طيلة عملي قبل التقاعد، لكن هذا الحجر من نوع صخر مقدس أريد دفنه معي عند مماتي."
أثارت كلماته في نفسي أعذب الأحاسيس، وجدتها تتجاوز حدود المجاملات العادية التي تغيب بغياب مناسبة قولها، لأنها مجبولة بمضامين وطنية، يكشف فيها عن مشاعره وشوقه بعاطفة متدفقة لزهرة المدائن العربية.
هكذا عبَّر حامد بن إدريس بمشاعر جياشة عن حبه للقدس، كان يتحدث بكلمات مؤثرة، وهو يلوَّح بيديه اللتين كانتا تتحركان أمامه وكأنه يرسم بها بيوتاً وأزقة على اتساع مدارات متشابكة من حي المغاربة في جنوب شرق القدس القديمة الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي، أخلاه من سكانه المغاربة، وأقام مكانه ساحة عمومية قبالة حائط المبكى. (تطوان وحكايا أخرى ص 26-26)
والرحلة تزخر بالمعارف والثقافة والاستكشاف، ففي زيارة الراوي لمدينة ورززات، يقول: "في فجر اليوم التالي تابعنا السفر عبر الصحراء إلى مدينة ورززات، عدنا في البداية إلى مدينة الريصاني، ثم انحرفنا يساراً في طريق طويل، واصلت فيه الحافلة المسير دون توقف، حدثني جاري محمود طيلة الرحلة عن جوانب مهمة من تاريخ المغرب، طاف بنا الحديث في مجالاتٍ كثيرة، ثقافية غالبيتها تبيِّن عشقه للشعر العربي.
بعد ذلك ذكر لي في سياق حديثه عن حيثيات معلومات مهمة عن مدينة ورزازات، أكد فيها على مكانتها كمدينة مهمة للسينما العالمية، جذبت أشهر المخرجين والممثلين منذ عام .193، صوَّروا فيها مئات الأفلام العالمية حتى الآن، صُوِّر أولها فيلم موروكو قبل تسعين عاماً، وكانت بطلته الممثلة والمغنية الأمريكية الألمانية الشهيرة مارلين ديتريش، ومن أفلام ورزازات المهمة فيلم أوتلو للمخرج والممثل العالمي أورسن ولز، وقد صُوِّر في نهاية الأربعينات، وفيلم لورنس العرب بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف، وقد صُوِّر في بداية الستينات من القرن المنصرم، وغيرها من الأفلام العالمية الأخرى. (تطوان وحكايا أخرى ص 65)
و"ترجع أهمية أدب الرحلة إلي أنه وسيلة رائعة لاستكشاف طبيعة الوعي بالذات والآخر الذي تشكَّل عن طريق الرحلة، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرَّحالة، والانتباهات التي ميَّزت نظرتهم إلى الدول والناس والظواهر والأفكار. فأدب الرحلة، على هذا الصعيد، يشكِّل ثروةً معرفيَّةً كبيرةً، ومخزناً للمشاهد والقصص والوقائع والملاحظات، فضلاً عن كونه مادة سرديّة شائقة تحتوي على الطريف والغريب والمُدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفسٌ تنفعل بما ترى، ووعي يُلِمُّ بالأشياء ويحلِّلها ويراقب الظواهرَ ويتفكَّرُ فيها.(6)
فرحلة د. سميح هذه تستكشف طبيعة الوعي بالآخر فيجد أن هناك علماء أسبان معارضون للتعصب ضد العرب، فعندما توجه الراوي إلى موقف الحافلات في وسط مدينة تطوان، وصعد إلى أول حافلة متجهة إلى شفشاون، التي تبعد حوالي ساعة من مدينة تطوان، بعدها أخذ يقرأ في كتاب الإسباني/ المراكشي "خوان غويتيسولو"، حيث تتبع على نحو دقيق خط سير مادته السردية، التي تستشرف دلالات كثيرة ضد الاحتلال والاضطهاد وحرمان الإنسان من حريته الفطرية، وتفسح المجال لامتداد أفكاره نحو آفاق لا متناهية من التأويلات، تحمل معاني مباشرة عن سبتة ومليلة وجزر المغرب المحتلة، وحتى تتعلق بكل المحتلين والمضطهدين في الأرض بما فيهم أبناء بلده في فلسطين المحتلة. (تطوان وحكايا أخرى ص 110)
"إنّ الرّحلات من أهم الفنون الأدبیة بحیث إنّها تحوي بعض المعلومات المهمة التي لا یمکن الاستغناء عنها لأحد من الأدباء والمؤرخین والجغرافيين وغیرهم، فمطالعتها لازمة لکل من یودّ الكتابة أو الدراسة عن إحدى الفترات التي کتبت فیها تلك الرّحلات. فإن أدب الرحلات العربية يمثل جوانب مهمة من جوانب الحياة العربية والإسلامية في مختلف نواحيها سواء في ذلك الجانب السياسي والاجتماعي والديني والفكري وأيضا الأدبي، وقد برز كثير من الرحالة العرب وقاموا برحلات طويلة وألفوا كثيرا من الكتب صوروا فيها ما شاهدوه في هذه الرحلات وصوروا مشاعرهم وآراءهم وكانت هذه الكتب وثائق هامة تصور الحياة في تلك الأزمان.
فهي منابع ثرية لمختلف العلوم، یمکن أن یقال إنّها بحر من المعارف والاکتشاف وسجل حقیقي لمظاهر الحیاة المختلفة ومفاهیم أهلها علی مرّ العصور، بحیث یقدّم فیها الراحل أحوال المجتمعات، وعادات النّاس، و تقالیدهم، وملابسهم، وأطعمتهم، وأشربتهم وشعائرهم الدینیة، بأسلوب أدبي. (7)
ومن المعلومات المهمة التى احتواها كتاب د. سميح مسعود خلال رحلته تلك تعرفه على فكر عالم اسباني محايد بعيد عن النظرة الاستعمارية وهو الإسباني/ المراكشي "خوان غويتيسولو" الذي بدأ الراوي في قراءته كتابه وهو متجه لزيارة تطوان، حيث أخرج من حقيبته كتاب "اسبانيا في مواجهة التاريخ..فك العقد" بنصه العربي المترجم، وهو من أهم مؤلفات الإسباني/ المراكشي "خوان غويتيسولو"، الذي أهداه له نزار الفرقاني في مدينة مراكش، أخذه بقراءته صفحة تلو أخرى، شدّه كثيراً لفرادته في ربط الإنسان والمكان والزمان على اتساع مدارات حضارية واسعة، مجبولة بتفاصيل أندلسية، يتحدث عنها مؤلف الكتاب بتقدير كبير.
لاحظ الراوي تركيز الكتاب على الدور الحضاري للمسلمين خلال حكمهم في ديار الأندلس، يتحدث عنهم في هذا الجانب بإعجاب شديد، ويمتدح مقدراتهم الإبداعية وعطاءاتهم الكثيرة في حقول العلوم والآداب والشعر والفكر والفلسفة والموسيقى والعمارة، يتشعب الكتاب فيها بنواح عديدة، ويلامس مسالك كثيرة مليئة بالدهشة، ويدعو في إطار الواقع الدولي الراهن، إلى إرساء دعائم تقارب بين العرب واسبانيا، بحكم العوامل التاريخية والحضارية والجغرافية، وهدفه في كل هذا إسدال ستائر الحقد والعداوة، وفتح صفحة علاقات إنسانية جديدة، والجدير بالذكر أن هذا العالم الجليل الاسباني قد أنصف العرب وتوفّاه الله الأسبوع الفائت وكتبت عنه الصديقة نعيمة بنت إدريس في صفحتها على الفيسبك:
"خوان غويتيسولو توفي اليوم في مراكش, حيث كان يعيش منذ عقدين من الزمن. كاتب ملتزم, كان يؤثر نظريات النص و barthiennes bakhtiniennes والنقد من الواقعية. لقد كتب من بين أمور أخرى: أراضي نيجار, دون جوليان, خوان بدون الارض, makbara, barzakh و فضائل الطائر الوحيد. وقد تم توظيفه على عدة جبهات، منها: سراييفو, الشيشان وفلسطين. كان عضواً في لجنة الرعاية في محكمة راسل حول فلسطين.
فلترقد روحه في سلام."
وعلى أية حال، فان الكتاب من الندرة بمكان، يحتوي بين دفتيه على أفكار عن الأندلس لم يجدها الراوي عند غيره، ويكفي وصفه طرد العرب والمسلمين من اسبانيا كارثة حضارية كبيرة، أفضت إلى فقر ثقافي وحضاري لبلده اسبانيا، وتشويه صورتها بالتعصب وكراهية الآخر.
ويرى الراوي أن المؤلف"خوان" المراكشي قد وُفِّق بتأليف كتاب غير مسبوق، أنصف فيه العرب والمسلمين بالعزف على أوتار الزهو بهم بسخاء وعاطفة، وتدوين دلالات عميقة متشابكة عن مآثر حضارتهم في الأندلس، وامتداد تأثيرها على تمدن اسبانيا والعالم الغربي، ومن محاسن الصدف تعرفه على هذا الكتاب، وقراءته وهو في طريقه إلى مدينة تطوان، التي احتلتها القوات الاسبانية مع مدن المنطقة الشمالية من المغرب لما يزيد عن أربعين عاماً في القرن الماضي، وبهذا تيقن أن أفكار"خوان غويتيسولو" المدونة في الكتاب لا تهتم برد الاعتبار إلى الأندلسيين فحسب، بل تدين أيضاً مرحلة من تاريخ بلده تم فيها استعمار واضطهاد الغير، تعج بصور مشاهد وأحداث استعمارية كثيرة في شمال المغرب. (تطوان وحكايا أخرى، ص 105)
و'الرحلات بمثابة مصادر شاملة سجلت فيها جوانب متعددة فيما يخص الجوانب الحضارية على امتداد أزمنة متتالية، فالرحلة تتطلب اتساع المعارف وتنوعها، لأنها تستخدم الجغرافيا، وتستند إلى التاريخ عند التعرض لوصف المسالك والمدن والمعالم وبدايات الأمور، بل ورصد الظواهر الاجتماعية غير المألوفة لديهم، وكذلك الاقتصادية، ويتبعها السياسية بنسب متفاوتة وعرض ذلك بزي الأدب وطابعه."(8)
ومثال على استخدام الجغرافيا واستناد السيرة على التاريخ حوار الراوي مع عثمان عند أسوار المرينية خارج سبتة ومحاولة مولاي إسماعيل استرداد المدينة والحديث عن الإدريسي:
" جلست معه في مطعم يطل على المضيق، حدثني بكلمات استلها من خبايا الذاكرة، عن المحاولات المغربية لاستعادة سبتة، منها محاولة المولى إسماعيل في القرن السادس عشر الميلادي؛ لاستعادتها من قبضة الاحتلال الاسباني، وأكد في سياق حديثه أن المغرب يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من ترابه الوطني، ولا يعترف بشرعية الحكم الإسباني عليها وعلى مليلة وكل الجزر الجعفرية.
طال حديثه عن سبتة واحتلالها، ثم توقف فجأة عندما سألني عن أبي عبد الله محمد الإدريسي، قائلاً: "هل تعلم بأن سبتة مسقط رأسه."
أجبته: " نعم، أعلم ذلك، وهذا فخر لمدينتكم؛ لأنه أحد مؤسسي علم الجغرافية في القرن الثاني عشر، كما كتب في التاريخ والأدب والشعر، ودرس الفلسفة والطب والنجوم في جامعة قرطبة، كما درس أيضاً في جامعة القرويين في فاس." (تطوان وحكايا أخرى ص 110)
أهمية أدب الرحلات من الناحية الأدبية
عندما نلفت النظر إلى ما كتبه د. سميح في كتابه نجد فيه الطابع الأدبي، وهي تعني برصد الواقع ونقل "الصور والمشاهد على نحو يحقق التأثير الوجداني، أو ينقل الأحاسيس والعواطف التي يجدها في نفسه من يجتلي تلك المشاهد والآثار والصور، وهذا البعد هو الذي يملأ النفس متعة وتأثيرا، ويجعل للرحلة سمة أدبية بدلا من أن تقف عند حد التسجيل والتدوين وجمود.(9)
فإن الأهمية الأدبية تتجلى في كون كثير مما أورده د. سميح في كتابه يأخذ سبيله إلى عالم الأدب كأنموذج من أرق النماذج على الوصف الفني الحي المتميز بشيء من جماليات الأسلوب، والابتعاد عن الترف اللفظي والطلاء السطحي، ويمتاز بالتعبير السهل المستقيم الزاخر بغنى التجربة والصدق الفني.
ونلحظ بوضوح فيه النزعة القصصية "إن وجود النزعة القصصية في الكتاب، وما فيه من حوادث ومواقف تستحث الرحلة على التسجيل، وصياغة هذه الحوادث في أسلوب قصصي يعتمد عنصر التشويق في كثير من الأحيان، والرحلة في حد ذاتها قصة إن لم تتوافر فيها خصائص القصة، فهي تشاركها في بعض خواصها. فإن أدب الرحلة فن يقترب من فن القصة، إن بعض الرحالين جنحوا إلى سرد "القصص التي عاشوها أو سمعوا بها، وكان سردهم لهذه القصص بعفوية وحيوية، قربت الرحلة من عالم القصة... (10)
يتبع


قديم 06-12-2017, 12:47 AM
المشاركة 2
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
ونلحظ في الكتاب تنوعا في الأسلوب من السرد القصصي إلى الحوار إلى الوصف وغيره، ولكن أبرزه أسلوب الكتابة القصصي، المعتمد على السرد المشوق بما يقدمه من متعة ذهنية كبرى، فأدب الرحلة "خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها الأدب العربي، تهمة قصوره في فن القصة، ومن غير شك من يتهمونه هذه التهمة لم يقرءوا ما تقدمه كتب الرحلات من قصص عن زنوج إفريقية وعرائس البحر وحجاج الهند وأكلة لحوم البشر وصناع الصين وسكان نهر الفولجا وعبدة النار والإنسان البدائي والراقي مما يصور الحقيقة حينا ويرتفع بنا إلى عالم خيالي حينا آخر" (11)
فمن العناصر القصصية الشخوص في هذه السيرة وبطلها هو الراوي، والمكان يتمثل في المدن التي زارها ويتسع فضاؤه ليشمل كل المغرب وجزءا من اسبانيا وكندا والأردن ...، والزمان عام 2017 أثناء زيارته للمغرب، والحوار كحوار الراوي مع سعيد واتصاله به وهو في تطوان، ومنه في الكتاب:
" بعد تعرفي على المدينة، بدأت بالبحث عن أبي بكر بنونة، وللأسف! لم أوفق بالعثور عليه، لإقامته خارج مدينة تطوان، وسرعان ما اتصلت هاتفياً بصديقي سعيد، أخبرته عن زياراتي لعدد من المدن المغربية، وكشفت له عن صور من تلك الزيارات التي تراكمت في ذاكرتي بكثير من الانفعالات والمشاعر الجميلة، وبينت له بحماسة ظاهرة عن أهمية استكمال تلك الصور بحكايا عن طلبة نابلس، الذين حققوا تواصلاً حميماً مع فلسطين ما قبل النكبة.
وهنا وجدتني أسأله: "كيف يمكنني الحصول على المعلومات التي تهمني من "أبي بكر بنونة؟"
أجاب قائلاً: "أعدك أن نزوره معاً بعد إشهار كتابك في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، إنه صديقي، وسوف أتواصل معه لتحديد موعدٍ، للقاء به قريباً في تطوان." (تطوان وحكايا أخرى ص 108)
ونرى أن الراوي اعتمد على المشاهدة والحكاية فغلب في رحلاته الطابع القصصي والروائي. ففي كتابة الرحلة يقترب كثيرا من فن الرواية والقصة فنجد في قراءتها لذة ومتعة. كما نرى في سطور كاتبنا سميح الأسلوب المشوق القصصي الجميل.
فأدب الرحلة عناصره تقترب كثيرا من عناصر القصة بحيث توجد فيه عناصر أساسية مثل السرد، والحوار، والوصف وغيرها وهو يجمع بين المتعة والفائدة.
الأبيات الشعرية في أدب الرحلات:
وكاتبنا كان كثيرا ما يلجأ الرحالة إلى الاستشهاد بأبيات شعرية تبرز أدبيته، سواء كانت من نظمه وهذا يثبت قدرته الشعرية والنثرية معا، وأحيانا أخرى يستعين بأبيات غيره مما يؤكد سعة إطلاعه ودقة معلوماته. فدفعه بالاستشهاد بالشعر في المواقف المختلفة أثناء رحلته، ولاسيما عند فراقهم لموطنهم، وتوديعهم للأهل والأصحاب، وعند ملاقاة العلماء أو الحنين للوطن وربوعه، أو عند الاقتراب و يستعين بالشعر ليعبر عما يختلج في نفسه من مشاعر حركتها مشاهداته وملاحظاته،
ومن أمثلة استشهاد الراوي بشعر غيره ما قرأه الراوي على هلال بن عاشور وعزيز ورشيد في الدار البيضاء:
" وفي الحال قرأت لعلال وعزيز ورشيد ثلاثة أبيات من رباعيات الخيام:
يا نديمي قد آن موت النديمِ
فاذكرّني ذكر الصديق القديمِ
وابكيّني بدمع بنت الكروم
وقرأت عليهم ثلاثة أبيات من مسرحية "الشاكنتلا":
حَل الهوى قلبُ الفتاةِ، وللهوى إذا حل فعلٌ بالفؤادِ عجيبُ
أباها الكَرى، والسهدُ أولى بمن غَدت وفي عينها، ملءُ الفؤادِ حبيبُ
إذا اعتلّ قلبٌ بالغرامِ، فداؤه عضالٌ، وما غيرُ الحبيبِ طبيبُ(تطوان وحكايا أخرى 17)
ومثاله أيضا:
"استغرقت رحلتي إلى مدينة تطوان نحو ساعة، وما أن وصلتها حتى تذكرتُ الشاعر السوري فخري البارودي الفلسطيني الأصل، الذي ذكر تطوان في قصيدته "بلاد العرب أوطاني" التي تعد من أشهر الأناشيد العربية، ومن كلماتها:
بلادُ العربِ أوطاني من الشامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يمنِ إلى مصرَ فتطوانِ
فلا حدٌ يُباعدنا ولا دينٌ يفرقنا
لسان الضاد يجمعُنا بغسانٍ وعدنانِ
ومن شعر الراوي الذي استشهد به في حنينه لمدينته حيفا في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لجامعة محمد الخامس بسلا، في حديثه عن "تجربته في البحث عن الجذور الحيفاوية":
وبناء على طلب الحضور يردد الراوي أبيات شعر من نظمه قالها متغنيا في حيفا:

حيفا هُنا
إني هُنا
البحرُ يجمعُ
بيننا
واللوزُ
والزيتونُ
والقمرُ
..
حيفا
هُنا
إني هُنا
آتي إليكِ اليومُ
أعتمرُ
خمسون عاماً
وهذا اليومَ أنتظرُ
خمسونَ مرت
غزاها الشيبُ
والكبرُ.
ويقول الراوي: "تفاعل الطلبة مع الشعر، وسألني أحدهم عن جانب الغزل في شعري، تفاجأت لسؤاله وبينت له أنني دونت في ديواني قصائد متنوعة، تشكل مهاد لوحات شعرية، تنسحب على مجالات كثيرة بما فيها الغزل، وتفاجأت بإصرار الطلبة على سماع قصيدة غزلية لي، وبناء على إلحاحهم، اخترت قصيدة نظمتها قبل عدة سوات، وعنوانها "حيفا" أيضا، ومن أبياتها:
حيفا
يا عِشقيَ الأزلي
ها أنا أعود إليكِ
على أجنحةِ الغيومْ
ها أنا ذا عندكِ
أدسُ قلبي في شاطئِك
وأنسى المنافي البعيدة
أتهجى كل شيءٍ فيكِ :
البحر والموج والريح والشجرْ
همس الندى في الصباحْ
ومزاريب الشتاءْ
ومرايا معلقة بأجنحة الرياحْ
ملآى بأشرطةٍ من صُورِ الذكرياتْ
تُعيد للقلب دقاته في زحام الحياةْ
وتعيدُني للوراءْ
أرى فيها كل ما أشاءْ
رعشة أيامي الماضياتْ
وأمكنةً منسولةً من وجوهِ الأنبياءْ
أطوفُ حولها
صباحَ مساءْ
آهٍ،يا مدينتي
من مثلك تعلو جدائِلهُا فوق أروقةِ السماءْ
وتنسلُّ من صدرها الحاني خيوط الضياءْ؟
آهٍ، يا مدينتي
كلما آتيكِ أزدادُ فيكِ زهواً وعشقا
تدبُ فيّ الحياة ْ
وأمضي فيك في كل الطرقات ْ
عيناي تبحثان عن بيتي القديم ْ
ألقاه في زي الحدادْ
أطوفُ حولهُ سبعًا في كل الجهاتْ
ألملمُ من خباياه بقايا أيامي
ملآى بأحلى الذكرياتْ
وأستنشقُ منه نسماتٍ تطيلُ الحياةْ
أسمع حوله ارتجاف صوت أمي المنغومْ
لا يضل عني
يلاحقني يوقظني
وأرى أمي
تحضنني
تخبئُني بعينيها
وابتسامةً تطلُ منها على اتساع المدى
ها هنا ارتعشت أمي في زمن مضى
وبدأت أحبو أنا
أبصرتُها ها هنا
وتهجيت وجهها حبًا وعشقا
ها أنا الآن أعود إلى بيتي من جديدْ
بعد أعوامٍ
وأعوامْ
هو فَرحتي
لهفتي المشتهاةْ
يرفرف قلبي حوله
يوغلُ في الشجون
أحسُ من عبقهِ بكل ما مضى
أرجعُ للورا
أعيدُ تشكيلَ وجوهِ من كانوا هنا
وضاعوا في دروبِ الهوانْ
أنسجُ أشرعةً
أمِدُّها على اتساعِ البحار
أعيدهُمُ بها
إلى حُضن حيفا
بخطو ريحٍ جَموحٍ
دونما انتظار.(تطوان وحكايا أخرى ص 125-127)
وأدب الرحلة نوع من السيرة الذاتية لما فيه معلومات مختلفة عن حياة راويه. فالرحلة تتأثر بشخصية كاتبها، فهو لا يهتم بإيراد الحقائق فقط بل التأثير في قارئها أيضا، فيتأثر هذا بشخصيات راويه الرحالة، وطبيعة مزاجه، ونفسيته من خلال ما سجله. فيقدم جانبا من سيرته ذاتية وذلك من خلال سرد كل ما يتعلق به في رحلته،
ومثال ذلك الأبيات السابقة التي انشدها للطلبة عن حيفا عندما تلقى سؤالا من أحد الطلبة مفاده: "ماذا كان شعورك بصفتك شاعر عند زيارتك حيفا لأول مرة بعد النكبة؟."
فأجات: " زرتها بعد نصف قرن بعد النكبة، زرت منزل أسرتي الذي وُلدت فيه وأبصرت الدنيا، وعشت فيه باكورة أيامي، أنام وأصحو على مقربة من أنفاس والديّ الدافئة، أمضيت ساعات في ساحته، وقد نفدت قواي، طفت حوله والأبواب موصدة، وغصة في القلب تُدميني، أوغلت في ذكرى أيام صباي في تلك اللحظة، تذكرت أبي وأمي، والكثيرين من أبناء جيلي، ونحن نلهوعلى شاطئ حيفا، ونسطر على رماله خطواتنا الأولى."
واستطرد قائلاً:"غمرني الحزن عندما وجدت منزل أسرتي بيتاً للأشباح، نخرت السنون أحجار حيطانه، حاله حال البيوت العربية الأخرى، التي أصبحت مجرد أطلال،ومن وحي تلك اللحظات التي لا تُنسى نظمت قصيدة بعنوان "حيفا"
بناء على طلب الحضور ردد الأبيات السابقة على مسمعهم .(تطوان وحكايا أخرى ص 125)

كما يقدم راوي السيرة بعض الأحيان أخبارا نادرة عن الأدباء والكتاب.
وحفظ كاتبنا بعض المعلومات القيمة وصانها كيلا تضيع فأهميتها واضحة جلية، ومثال ذلك بحثه واستفساره عن طلاب من تطوان وفدوا إلى نابلس في عشرينيات القرن المنصرم للدراسة في مدرسة النجاح، فأول زيارته لتطوان، يرى الراوي:
أن مدينة تطوان قد ارتبطت فيما مضى بعلاقة متميزة مع مدينة نابلس الفلسطينية، وقد كتب عن هذه العلاقة قبل سنوات، وبين أنه بسببها درس في مدرسة النجاح بنابلس مجموعة من طلبة تطوان في عشرينات القرن الماضي.
وفي سياق هذه المعلومات الفريدة من نوعها، لاتصالها بمدينة نابلس من أيام زمن مضى، حاول مراراً البحث عن أثرٍ لطلبة مدرسة النجاح في المغرب، وتسنى لي مؤخراً معرفة معلومة أولية عنهم، استقاها من صديقه سعيد خالد الحسن، عندما زاره في الرباط، عرف منه اسم أربعة إخوة منهم، رحلوا عن دنيانا، وهم: "الطيب بنونة، وإدريس بنونة، وعببد الكريم بنونة، ومهدي بنونة"، وعرف أيضاً اسم شقيقهم " أبي بكر بنونة" من سكان تطوان، أكد له سعيد بأن أبا بكر يتمتع بذاكرة وقَّادة، ويُلم بكل شاردة وواردة عن أيام أخوته في نابلس، ولديه وثائق كثيرة عن تلك الأيام، وعن أسرته العريقة المعروفة بالوطنية والعلم ونشر الوعي والمعرفة. .(تطوان وأشياء أخرى ص 107- 108)

فوائد أدب الرحلات
يعرف قارئ الأدب الرحلة – وهو مستريح في غرفته – عن بلاد أجنبية. وثقافتها، وهيئتها الاجتماعية، وأخبار أهلها وجغرافيتها ومناظرها الجميلة.
خاصة إن كان الرحال كاتبا قديرا كما هو الحال عند د. سميح، فالقارئ كأنه يرى هذه الأشياء رأي العين، ويحسب نفسه مرافقا للرحالة. وبالإضافة إلى ذلك يتمتع بأدبه وأسلوبه..وينقل لنا الراوي أخبارا يجهلها الكثير من الناس في زمننا هذا:
"ويخبرنا الراوي عن مؤتمر "الدار البيضاء الذي عقد في شهر كانون الثاني/ يناير "1943 أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي يعرف باسم مؤتمر"آنفا"، حيث أوضح الراوي أن انعقاد المؤتمر قد تمً بحضور رئيس الولايات المتحدة فراكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل، وعن القوات الفرنسية الحرة شارل ديغول وهنري جيرو، واعتذر ستالين عن الحضور بسبب القتال الدائر في مدينة ستالينغراد.
وجلسات المؤتمر هذه انعقدت في فندق آنفا في الدار البيضاء، تم فيه مناقشة مجريات الحرب العالمية الثانية، ورسم إستراتيجية للحلفاء في المرحلة التالية من الحرب، ومن بهوه القديم تم الإعلان عن "إعلان الدار البيضاء" الذي دعا إلى استسلام دول المحور غير المشروط، وهو إعلان تاريخي رحبت به كل دول العالم.
وأن المكاسب الذي حققها المغرب من عقد المؤتمر، أن المغرب تلقى وعداً من الحلفاء بنيل استقلاله بعد نهاية الحرب، وشكل ذلك الوعد ضغطاً سياسياً على فرنسا، ونال المغرب استقلاله في عام 1956.
وفي سياق حديث مسؤول الفندق عن المؤتمر، يتفاجأ الراوي عندما أخبره أنه تم في عام 2013، عقد مؤتمر في الدار البيضاء للاحتفال بمرور 70 سنة على انعقاد المؤتمر القديم، تحت شعار "مؤتمر آنفا 1943: 70 سنة من التعاون المغربي الأمريكي" وقد تم تكريم جيمس روزفلت، حفيد الرئيس الأمريكي السابق فراكلين روزفلت الذي حضر المؤتمر. وأثار مسؤول الفندق دهشة الراوي أيضاً عندما ذكر له معلومة لم يسمع بها من قبل، مفادها أن المغرب هو أول دولة في العالم اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عند استقلاله، وقد تم ذلك في عهد السلطان المغربي محمد بن عبد الله الملقب باسم محمد الثالث، وعُين قنصل أمريكي في المغرب عام 1801، في عهد الرئيس توماس جيفرسون، كاتب وثيقة الاستقلال والرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية.(ينظر:تطوان وأشياء أخرى ص 119- 120)
ويقول أليوت مخاطبًا البشر: ارتحلوا… انطلقوا أيها الرحالة، فأنتم لستم نفس الأشخاص عند بدء الرحلة!
اللغة
إن اللغة التي كتب بها الكاتب لغة الوصف لغة قوية متماسكة فيها حلاوة العبارة وطلاوتها بما تحمله من صور فنية عذبة تتوالى فيها الانزياحات الجميلة التي تثير انفعال المتلقي وتولد في خلده الدهشة، فالراوي يفصِّل لنا بشكل دقيق خط سير الرحلة ومعالمها ويقرب لنا الصورة وكأنها مشهد من مشاهد الأفلام الوثائقية للأماكن، ويرصد الجانب التاريخي، فيجعل المتلقي أمام صورة عبرت نهر الزمن لتصل أمام ناظر المتلقي بهذا الجمال كله، فالوصف الدقيق يعبر عن يوميات لا تخلو من مزجها بتاريخ المنطقة، ولكنه يعطي للمكان حقيقة فعلية، وهو يعيش تفاصيل الصورة من عدة زوايا مختلفة الرؤى، يصف لنا الصورة بروح مشوقة خلّابة مستعيداً دائما شريط ذكرياته، وهو ينقلنا بين الماضي والحاضر بأسلوب مشوق وجذاب.
و شخصيات الرحلة المرافقة للكاتب لها حضور بارز، ونجد عند الكاتب الاهتمام بقوة اللغة الواصفة والساردة للأحداث وحسن اختياره للألفاظ المعبرة والمدهشة، وذلك لما يتميز به أدب الرحلات من الإثارة والإدهاش، من خلال رؤية الإنسان للإنسان أو من خلال رؤيته للعالم المحيط به من نباتات وجمادات وفنون للعمارة والمدينة والأرياف والأدغال والأضواء والجبال والطبيعة وشروق الشمس وغروبها في مناطق محددة بشكل عام.
ولحالة الطقس في الكتاب حضور ملفت للانتباه، وذلك لأهمية مواصلة الرحلة، وكذلك الولوج لبعث وبث صورة من المعاناة النفسية تارة وبث الوصف المعبر عن الجمال تارة أخرى.
وقد اهتمّ الراوي بطباع الناس وطبقاتهم وألوانهم وانتماءاتهم وصفاتهم ولغاتهم.
وذكرعلماء تلك البلدان، وتحدث عن مدارسها وفنادقها وساحاتها وحدائقها ومساجدها وجامعاتها ومكتباتها، وعن الأدباء والعلماء والعمران.
لقد صوَّر د. سميح الطبيعة بتضاريسها من جزر وجبال وسهول ووديان وأنهار وهضاب. ونقل أخباراً ومشاهد وأوصاف وتعليقات وملاحظات موجزة، ثم عمد إلى تهذيبها وصوغها بأسلوب جميل، وشرع في سرد حكاياته وقصصه صاغها بأسلوبه الجميل، وقد اعتمد على النظر فيما يكتبه ويرويه، كما اعتمد على السمع، وعلى قراءة ومطالعة الكتب والأخبار.
فكاتبنا د. سميح أديب وشاعر ومكتشف؛ لذلك جاءت كتاباته سجلاً وافياٌ ودقيقاً وعميقاً عن انطباعاته حول حياة أهل المغرب والمدن التي زارها، ومظاهر سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية إلخ..

أسلوب كتابة الرحلة:
وأدب الرحلة عون للباحث الأدبي ( الناقد ) في الوقوف على بنية الأسلوب ، والسرديات في عصر تسجيل مدونة الرحلة ، لذا فإن التعامل مع أدب الرحلات من المنظور النقدي يكشف الكثير من الرؤى والفنيات الأدبية والأسلوبية .
يعمد الرحّالة إلى تضمين الرحلة بعضاً أقوال العلماء والأشعار، ويرى في ذلك تأكيداً لكلامه، كما يشيع في الرحلة الحوار، والمشهد القصصي فيها مستمر، والوصف من أدواتها الرئيسة، ومن أجل إضفاء الحيوية، وإبعاد الملل، وإثارة التشويق لدى القراء، اعتمد كتاب الرحلات على خلط الجد بالهزل، ونثر عناصر الفكاهة في كتبهم.
وفي الختام إننا ندعو المتلقي في أي مكان وزمان الغوص في هذا الكتاب لاكتشاف الكثير من المتعة والإثارة، والتعرف عن قرب على مدن ومناطق وأمكنة جميلة كجمال الوصف عند الكاتب، ونوجه له شكرنا البالغ على تقديمه لمثل هذا العمل وتضمينه مائدة القارئ، وندعوه على رصد المزيد من الرحلات الجميلة، التي يقوم بها ضمن نشاطه الثقافي الحافل بالعطاء والحافل بالكثير من التنقل والترحال الذي يعتبرا جزءاً لا يتجزأ من عمله المخلص في خدمة الثقافة والفكر وإثراء الأدب واللغة؛ ونحن نتطلع إلى مزيد من الإصدارات القادمة في أدب الرحلات بما يعود بالنفع لصالح وطننا والأمة.



أن الحمد لله رب العالمين



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قراءة في كتاب "تطوان وحكايا أخرى"
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قراءة في كتاب " اختراع الشعب اليهودي " ياسر حباب منبر رواق الكُتب. 4 03-16-2023 06:19 PM
قراءة في كتاب "الإنسان بين الجوهر والمظهر" ياسر حباب منبر رواق الكُتب. 9 01-03-2021 03:07 PM
قراءة في كتاب "على درب الأندلس" للدكتور سميح مسعود ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 3 05-31-2020 08:50 PM
افتتاحية رواية كتاب "إضاءات في كتاب "حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور" ل د.سميح مسعود" بق ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 0 10-12-2016 03:45 AM
قراءة في كتاب " سعادتنا وهمومنا من صنع أفكارنا" للدكتور عبد الله شحادة ايوب صابر منبر رواق الكُتب. 8 03-03-2013 09:22 AM

الساعة الآن 07:36 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.