قديم 04-28-2014, 10:51 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تمثلات ملكيادس: عن غابرييل غارثيا ماركيث
عبداللطيف عدنان
APRIL 27, 2014

أتمثل ملكيادس غابرييل غارثيا ماركيث كما تنطق إسمه قشتالية العالم القديم؟ أم غابرييل غارسيا ماركيس كما ينطقون إسمه في قشتالية الإمبراطورية، قارته الأم أمريكا اللاتينية؟ أم ماركيز كما يسميه من قرأه بالفرنسية أو الإنكليزية أو أي ترجمة نقلت عنهما؟
في ملكيادس أتمثل معلم سردية من نوع آخرغادر العالم بعد أن حوله إلى قارة مخيالية مدنها ميكسيكو سيتي، كارطاخينا، باريس، طوكيو والقاهرة وسكانها كواباتا، فوينطيس، كونديرا، نجيب محفوظ وخوان غويتسولو، قارة إسمها بكل بساطة ماكوندو، ما فتئت تتكون لتطير مع الريح وتترك الحكي للصالونات الأدبية والاتحادات الكتابية، والندوات الصحافية حيث يحل الحكواتيون الجدد، في تعبير ماركيث نفسه، على مستوى الكلام التلفزي مشاكل تستعصي عليهم على مستوى الإبداع.
أننعى هذا الحكواتي الساحر، الغجري الرحالة الذي كان يطل على الناس بالجديد ويترك لهم مهمة يكملونها بطريقتهم الخاصة؟ أم ننعي نهاية حقبة كان فيها الأدب هو المتعة وكانت الكتابة هي القراءة بدءا ومبدأ؟ مثل ملكيادس بالنسبة لسكان ماكوندو، كان غارثيا ماركيث بكل الانعكاسات الرمزية في تمثل الشخصية والشخص، في الحكاية وفي السرد، بوصلة لاستشراف معالم الطريق في عالم الحكي وهو في مرحلة البدء الذي يعاود دورته النيتشوية، تضاريسه مثل وديان أنهار ماكوندو التي كان يتأمل فيها جد أورليانو بوينديا بيض التكوين الماقبل تاريخي في زمن تنقص فيه الأشياء أسماءها. زمان الأشياء في مرحلة الإشارة. بدأ الحكاية كشرط للحياة. بيضا تركته شهرزاد وثيرفانتيس ليتفقس خوان رولفو وكورتاثر هذا المخيال الجديد الذي أكتشفه العالم بصوت قنبلة: الإنفجار الأدبي الأمريكولاتيني El boom Literario .
- مائة عام أم ألف ليلة أم أزل الحكاية؟

ليست ماكوندو إلا عتبة لقارة جديدة يقودنا إليها ملكيادس: العالم الجديد في معمور الحكاية والسرد. غابرييل غارثيا ماركيث الذي كان يكره شخصية كريستوفر كولومبوس، في اقتباس لتعبير للكاتب سلمان رشدي، يكتب رده على العالم القديم بسردية أخرى هي مائة عام من العزلة. يذكّر العالم القديم، ونحن من ضمنه، بالأخص يذكرنا نحن، أنه في البداية لكل حكاية خالدة كان هناك رقم. لازمة الرقم تحاور النسبي أكثر من المطلق. لا تحدد وإنما تفتح باب الاحتمال على مصراعيه. رقم لا يعبر المسافة الزمنية وإنما يدعو لترحال عمودي وفقري، دياكروني وسانكروني. رقم لا يقتل الوقت في اللحظة، ولا يمحو الفضاء في النقطة. ماكوندو زمكان، حكائي- سردي، للعبور. قد تكون مائة سنة من حياتها هي خمسمائة سنة من مقاومة تعسف العالم القديم الذي أراد تحقيق طوباويته بسقاط أسمائه البالية والمترهلة على أشياء العالم الجديد النابضة بحياة مختلفة، مرتكبا أكبر جريمة في تاريخ الإنسانية وهي تطليق دوال هذا العالم من مدلولاتها الأولية. مائة عام من العزلة تمد خط حوار مفتوح، السخرية والتهكم من القوالب ومثالياتها هي لكنته الخاصة، حوار مع دون كيخوطي دي لا منتشا.غابرييل غارثيا ماركيث ومغيل دي ثربانتيس حكواتيان ينتميان لما سماه جيل دولوز بالمثقف الطبيب الذي يشخص أمراض مجتمعه. مغيل دي ثربانتيس رسم أجمل لوحة كاركاتورية لما كان في بال الملوك الكاثوليك الإسبان من هلوسات حمى التبشير المقدسة وإحياء أمجاد الإمبراطوريات الأروبيات الأم بواقعيتها والكثير من خيالاتها. ثربانتيس نسف واقع مشروع تاريخي بلغة الحلم والخيال. قوض فكرة عن إسبانيا بتشخيص حالة جنونها الحضاري في جنون دون كيخوطي وحلم يقظة سانتشو بانثا. الكاتب الإسباني، الفاشل جدا بمقاييس معاصريه، ينسف بناء الواقع الأول بما فيه لغته التي كرسها النحوي القشتالي أنتونيو دي نبريخا. بدون كيخوطي وطريقة كلام دون كيخوطي واجه ثرباتيس الكولونيالية الإسبانية في قلعتها الأكثر امتناعا: اللغة.
خمسمائة سنة بعد ثربانتيس يشرّح كاتب آخر من بلد سمّي على كولومبوس تداعيات جديدة لتعسف العالم القديم تحمل اسم الكولونيالية الجديدة. طوباويته الرأسمالية. رسالته التبشيرية الاقتصاد الليبرالي الجديد. ضحاياه من العالم الجديد آلاف من عمال يونايتد فروت تحمل جثثهم في عربات القطار ويرمى بهم في البحر. عدد الضحايا في مائة عام من العزلة يبالغ في العدد الذي حدده الجد للحفيد. لكن الرقم مجاز يجتاز الحد الزمني يعبر من يونايتد فروت وأراكتاكا إلى ‘تشيكيتا’، التي تبيع لنا موز كولومبيا بأرخص الأثمان، وكل بقعة في الأرض تحولت لمنجم وسوق. وكما شخص ثيربانتيس دون كيخوطي ورسمه غوستاف دوري، أبطال هذا التعسف الجديد يشخصهم ماركيث في جنرالات يعمرون أكثر من مائتي سنة ويترجم تشخيصهم بكل أليغورية فنان كولومبي آخر هو التشكيلي فريناندو بوطيرو.
ومثل مؤسس الرواية الحديثة الذي كتب بلغة السوقية التي كان يتكلمها المورسكيين والمدجنين، يعبث كاتب الرواية التي حققت أكبر المبيعات بعد الكتاب المقدس في النسخة الإسبانية بلغة الإمبراطورية ورطانتها. غرثيا ماركيث كتب بقشتاليته الخاصة غير آبه بقواعد النحوي الإسباني ألاركوس يوراش، لأن سحر واقعه لا يتناسب ودغمائية النحويين.
مائة عام هو كذلك رقم يضيف عمرا جديدا للحكاية. هو امتداد جديد لزمنية الحكاية. هو رجوع لماضي السرد الأزلي مع ألف ليلة وليلة. أليست صفحات مهملة من كتاب الحكي العربي الأول هي ما عثر عليه طفل كولومبي في قرية بعيدة في الساحل الشرقي، ليقرأها باندهاش وتصيبه الحمى التي لن تفارقه إلى حدود الثامن عشر من أبريل من هذه السنة في ميكسيكو سيتي وهي حمى الحكي؟ كانت هذه الحكاية واقعية أم شطحة خيال عربية لا يهم، ولسببين: أولهما أن غارثيا ماركيث أشار في أكثر من مناسبة إلى تأثير امرأة أخرى في مهنته ومهنيته كحكواتي هي شهرزاد. إن كان السبب الأول يجد ما يزكيه في مائات الأطروحات في الأدب المقارن التي تناولت الموضوع، فالسبب الثاني يمنح لهذه الحقيقة شرعية من داخل عوالم ماركيث نفسه: وهي أنه داخل الأدب ليس هناك من خيال دون أرضية واقعية. أن يدين صاحب الحب في زمن الكوليرا لألف ليلة وليلة هي طريقة أخرى يكرر فيها ماركيث ما قاله إبن قارته الكاتب خورخي لويس بورخيس: هناك فقط ألف ليلة وليلة، وبعدها مجرد نسخ وتكرار.
وكما أن مائة عام هو زمنية رجوع لماضي السرد هو كذلك زمنية إبحار في حاضر ومستقبل السرد. الكتاب مثل أحد أبطاله، ملكيادس بالذات، يضعك في أدغال الجديد ويترك لك حق الإكتشاف والمغامرة بطريقتك الخاصة. مائة عام من العزلة كما قلت أعلاه بوصلة في الحكاية والسرد نعثر من خلالها على طريقنا نحو خوليو كورتاثار وخوان رولفو وبرايسي تشينيكي وكارلوس أونيتي وكارلوس فوينطيس. طريق مشي فيه سيرخيو راميريث كما مشى فيه إلياس خوري، مشى فيه سانتياغو غامبوا كما مشي فيه لوكليزيو. طريق السردية والسردية المضادة واللاسردية وسرديات بديلة. الرقم هو الزمن الأزلي في رحلة الآدب تقتسمه القراءة والتجربة، وليس مدة الدرس في برنامج أكاديمي إسمه، أكيدا أضحك ماركيث، الكتابة الإبداعية.
- الواقع العجائبي، أم الواقعية السحرية أم فقط الواقع؟
هل أتمثل ملكيادس إبن لويسا ماركيث وعامل التلغراف بقرية أركتاكا غبرييل إليخيو غرثيا الذي كان يكتب الشعر ويعزف الكمان بمهارة ويقرأ كل ما يقع بين يديه ونقل لإبنه عدوى الأدب؟ يقر الكاتب أن الأم التي ظهرت شخصا واقعيا في رواية وقائع موت معلن Crùnica de una Muerte Anunciada ، أفضل ناقد بالنسبة له، لأنها تفكك شخصيات رواياته بسهولة توازي تعقيده في تركيبها. أما الأب فيترك للقارئ رسم ملامحه في خوبينال أوربينو بطل الحب في زمن الكوليرا Amor en los Tiempos del Cùlera El. أم هو حفيد العقيد نيكولاس ريكاردو ماركيث الذي شارك في الحرب الأهلية التي قادها البطل الأسطوري رفاييل أوريبي أوريبي الذي بنى عليه شخصية العقيد أوريليانو بوينديا في مائة عام من العزلة؟ من ملكيادس غير هذا الطفل الذي رحل والداه إلى ريوهاتشا وتركاه في بيت كله نساء، مع جد لا يأبه بخمسين سنة من فارق العمر بينهما ويحكي له عن الحرب الأهلية ومجزرة عمال شركة الموز كما لو كان حدثا يافعا. من الكاتب الحكواتي رائد الواقعية السحرية غير هذا الحفيد الذي كانت جدته تكلم أموات العائلة كما لو كانوا في الغرفة المجاورة أو على مائدة الطعام؟ في الواقع المعاين لبيت العائلة بأراكتاكا تتشكل معالم حكائية ماركيث التي سيعرفها النقد ويعرّفها باسم الواقعية السحرية. بين أراكتاكا وبرنكيا وكرطاخينا كان العالم الذي تتشكل حقيقته بين الخرافة والواقع كما جاء في تعبير الكاتب الكوبي ليثاما ليما. العالم الذي كان ينقله ماركيث دون وعي مقصود للوصفات السحرية التي بهرت قراءه حول الأرض، لأنه كان الواقع وكفى. يقول في أكثر من مناسبة أن واقع أمريكا اللاتينية سحري ولكن فقط بالنسبة للأوروبيين الذين يحددون الواقعية في تعريفات جيوغرافية وفي ثمن الطماطم.
أين السحري من الواقعي في فضاء الفنادق التي تسكنها بائعات الهوى؟ هل هي هذه الأمكنة التي اقتطنها الحكواتي في مرحلة الحالم المتسكع في بوغوتا، الذي ترك دراسة القانون واشتغل كصحفي، وكان يجدها فيها مجاله المفضل لأنها صخب الليل الذي يعتبره ضرورة اجتماعية كإنسان وهدوء النهار الذي يساعده على الكتابة كأديب؟ هل مكان كهذا يكسب بعدا سحريا في الصورة المجازية لقلب العاشق الذي تسكنه أكثر من امرأة لكل واحدة حجرتها الخاصة كما جاء في الحب في زمن الكوليرا، محكية ستظهر بعد عقود إسمها ذاكرة عاهراتي الحزينات Memoria de mis Putas Tristes.
في الطرقات المغبرة، في حر الظهيرة على مرفإ ميناء يصادف الكاتب الشخصية ولا يتخيلها. بعد الواقع تتنقل الشخصية بين الأقنعة كملكيادس السرمدي الزئبقي: تنفلق، تتزاوج، تتوالد، ترحل وتعاود الظهور. أينما تحل تحلل الفضاء الواقعي ليستحيل معها في ماكوندو جديدة تمتد من أمريكا الوسطى إلى قرن الكونو سور بالأرجنتين. هي العقيد أوريليانو الذي يرافق سيمون بوليبار في متاهته، ويعيش تفاصيل مقتل سنتياغو ناصر في موته المعلن، هي هذه السردية التي تهاجر في اصطلاح جيل دولوز بين الرواية والقصة القصيرة وبين الجنس الكتابي الذي لايراه ماركيث غير جنس أدبي آخر بكل استحقاق، وأعني جنس الروبورتاج الصحفي
ترحال الشخصية من ترحال الشخص. من غابرييل إلى غابو تمتد خريطة هجرات كتابية في الميولات والاتجاهات والأساليب؟ هل هو غير ملكيادس: هذه الأقنعة المتغيرة، المتلونة، الكرنفالية التي تنسف الحدود بين الأجناس والأنواع السردية. كتابة ماركيث تفاجئ وتحضر. سرديته الدائرية ليست إلا دورة فلكية نوعية في الكتابة. منذ حواره مع بلينو أبولييو ميندوسا في رائحة الجوافة El Olor del Guayaba كان الروائي واضحا في تحديد، والذي ليس سوى تبديد، الخطوط الفاصلة بين الواقع والأدب. كان جليا في الكلام عن مشروعه الكتابي كحيز رمادي بين الكتابة الصحفية والكتابة الخيالية. يقول ويكتب ويصرح في أكثر من مناسبة أن نوات الكتابة هي الواقع. الفانتاستيك يوجد فقط في والت ديزني. يقول ويعيد كذلك إن الصحافة جنس ادبي آخر، وأن التحقيق الصحفي ليس سوى قصة قصيرة.
كتابة الواقع. أو المعادلة الإبداعية حيث نعثر على مفتاح بفهم به لإجراء الحكاية ومشروع السردية سيعرّفها درس الأدب بمدرسة ماركيث. في المعادلة قد نرى، ما وجد فيه البعض تدنيا في الأسلوب الأخير، نهاية الدائرة التي تعلن عن بداية جديدة. غابو لم يغادر حيز معادلة الواقع والسحرية. قد تكون مجموعته القصصية جنازة الأم الكبرى ومجموعة إرينديرا ورواية مائة عام من العزلة هي الواقعية السحرية في نسختها بالبصمة المحلية والتي وقعها سارد أمريكي آخر من العيار الثقيل وأعني الكوبي أليخو كاربينتي. قد يكون ماركيث قد عاد بنا في مجموعة إثناعشر قصة في الترحال Doce Cuentos Perigrinos وذاكرة عاهراتي الحزينات إلى الأصول الألمانية لهذه الواقعية السحرية.
في نفس المعادلة نرى السردية الحكائية البديلة في كتابه الأخير لم أحضر لأقدم خطابا vengo a decir un discurso no Yo . نعيش سحر الحكاية، بمفعول المحلول الذي تناولناه جرعا منذ مرحلة ما قبل وقائع موت معلن، في مقالات تحكي عن مواقف في الأدب والسياسة والصداقات. قصص قصيرة شخوصها هي آلبارو موتيس وخوليو كورتاثار وبارغاس ليوسا زمكانها قد يكون في منزل قديم في كوبا يتحول لمركز مؤسسة سينمائية أو مقصورة في قطار رحلة ليليلة بين باريس وموسكو. إنها الكتابة الصحفية الأدبية، هذه السردية التي أعلن عنها ماركيث منذ رواية أخبار اختطاف Noticias de un Secuestro . هي الكتابة التي تلامس باروكية أليخو كاربنيتي دون أن تقع في تعقيد ليثاما ليما. هي هذه القشتالية التي تتحرر من قواعد النحو الصارمة، الجملة الحوارية التي تحاول جاهدة محاكاة العامية، ضعف يعترف به ماركيث وامتياز يصم به خوليو كورتاثار. كتابة تقتنص القارئ لتحسسه أنها تخاطبه شخصيا. أسلوب ماركيث قبالا وتلمود من نوع خاص. لهذا كان من السهل تمثل الواقع في واقعية رواياته. كان من السهل معاينة المعادلة المقلوبة في الواقع الذي يحاكي الفن. ألم يصرح له ماركوس أن نموذج ثورته التي أعلنها على لوردات البترول في المكسيك من أدغال شياباس موجود في مائة عام من العزلة وخريف البطريق. ألا تتبنى عناصر الفارك FARC وفرق ثورية أخرى على طول القارة أسامي مثل بوينديا وملكيادس وأركاديو.
- الرواية أم السينما؟
هل أتمثل ملكيادس هذا الأمريكي اللاتيني من جيل الإنفجارالأدبي الذي لم يجد في الظاهرة غير اجثثات رخيص لكتاب أمريكا اللاتينية من قبورهم تحقق به دور النشر الأروبية مزيدا من المبيعات؟ هل أتمثله في المبدع الذي كان يكره باريس لأنها لم تكن بالنسبة له باريس يوسا أو كورتاثار، وإنما باريس الطقس البارد، وزمن انتظار العقيد الذي لا يكاتبه أحد.و لأنها فضاء التعسف العنصري الذي عاناه من شرطي خاله جزائريا؟ أم اتمثل ملكيادس هذا الروائي العالمي الذي ترجم لكل لغات الأرض وكان يزدري النقاد؟ حين استفسره إبنه عن الرمزية المحلية والميتولوجية للديك في رواية لا أحد يكاتب العقيد El Coronel no tiene quien le escriba كان جوابه الديك هو الديك. جواب يعبر بالواضح عن موقف من الآلة النقدية لكاتب كان يكتب بشفرات فقط الأصدقاء يستطيعون فكها. موقف يذكرنا بدرس بورخيس الخالد أن الأدب قراءة بالدرجة الاولى وأن الأدب بأكثر ما يربح مع القارئ الجيد يخسر مع الكاتب الرديء.
هل أتمثل ملكيادس هذا الروائي الذي كتب الكثيرون الرواية ليكتبوا مثله؟ الروائي الذي انتحله رينالدو أريناس من باب السخرية من محاكم التفتيش الكاستروية، وسرقت منه إيسابيل أليندي بالأسلوب الإنشائي لتلميذة مدرسة من باب التسلق والشهرة بأسرع الطرق. الروائي الذي دخل في عراك يدوي مع بارغاس ليوسا. الكاتب الوحيد من العالم الذي رفض توقيع عريضة الاستنكار على النظام الكوبي حين اعتقل الشاعر هيبيرتو باديليا، ولكنه الشخص الوحيد الذي اقنع كاسترو بتغيير لباسه إلى الزي المدني. أم أتمثل ملكيادس هذا الأب الحنون لأسرة من أربعة أفراد تحترم حرفته لدرجة أن العطلة التي حضر لها بمشقة ألغيت بعد مسافة نصف ميل من البيت، حين داهمته فورة السطور الاولى لرواية بيت العائلة؟ باقتناع الجميع يعود أدراجه للبيت وينزوي بلباسه المفضل،بدلة الميكانيكي، ودون أي علم بأي طريقة كانت زوجته مرسديس تدفع أجر البيت وتضع وجبة الطعام فوق المائدة، يعكف يوميا على كتابة رواية ظل جنينها يتكون لمدة تسع عشرة سنة. بعد ثمانية عشر شهرا يطلع بروايته الحلم بعنوان ليس بيت العائلة كما كان في الفكرة وإنما Cien Aûos de Soledad.
أم هو ملكيادس السينما؟ هل أتمثل غارثيا ماركيث السينمائي في طريقة الكتابة في تتبع وتأطير الشخصيات وفي بؤرة النظر داخل السردية. في كتابة السيناريو والكتابة التي تحاكي السيناريو؟ يسأله بيلينيو ميندوسا عن تحديد نقطة البدء في كتابته، فيجيب: ‘المشهد’. إنه الكاتب الذي راوده الحلم يوما أن يصبح مخرجا سينمائيا، وسخر بعض سنوات عمره من التدريب في استديوهات روما مع رفاق أصبحت لهم فيما بعد توقيعات في سينما القارة اللاتينية مثل فيرناندو بيري. إنه كاتب السيناريو الذي يرى في الواقعية الجديدة الإيطالية السينما الأكثر واقعية وإنسانية. الذي وجد في جنرال فرانسيسكو روسي صورة من جنرالاته. الكاتب السينمائي الذي وضعه صديقه فديل كاسترو على رأس مؤسسة السينما الأمريكو لاتينية الجديدة ليشرف على ورشات تدريبية في كتابة السيناريو في أكثر من بلد برؤية تراعي للقارة خصوصيتها.
إنه ماركيث عكس العديد من الروائيين كان يؤمن بحكمة السينمائي الفرنسي روبير برويسون، بأنه لا يمكن لأي فن أن يأخذ مكان فن آخر، ويتردد كثيرا في بيع حقوق أعماله للسينما. بعد مدة من الرفض يبيع حقوق مائة عام من العزلة للسينما فقط ليدخل السينما في محنة تعديل واقتباس لا يمكن أن تخرج منها. عدّل وقائع موت معلن فرانسيسكو روسي، مخرجه المفضل. ونقل للسينما لا أحد يكاتب العقيد رائد التعديل الأول في القارة، المخرج المكسيكي آرتورو ريبستيين، والذي استطاع نقل فورة البوم السردية إلى اللغة السينمائية، وعالج بالصورة المتحركة نصوص خوان رولفو وخوسي دونوسو وكذلك نجيب محفوظ برواية بداية ونهاية. نجاح المخرج المكسيكي في نقل أسلوبيته الواقعيته يضاهيه نجاح المخرجة هيلدا إدالغو في نقل ساحريته للسينما بتعديل كتابه عن الحب وشياطين أخرى Del Amor y Otros Demonios . أمام هذا النجاح هناك الإخفاق الكلي في نقل رواية الحب في زمن الكوليرا، حين لم تسعف كرنفالية الألوان والشبقية وفحولة خابيير برديم، أو صوت المغنية شكيرا، المخرج الإنجليزي مايك نيويل في نقل حكاية عوالمها تنتمي للأدب وسرديتها تتحقق فقط في الكتابة.
إنه غبرييل غرثيا ماركيث، الروائي الذي لم يكتب قط سيناريو عن روايته وكتب سيناروهات اخرجها كبار السينمائيين في القارة اللاتينية مثل توماس غوتيريث آليا وخوسي لويس أغراس وخورخي علي تريانا. السارد الأيقونة الذي عبر عن هم قارة وعبرت من خلاله القارة عن ما يشكل خصوصيتها التاريخية والحضارية. الذي نقل عوالمه الشكلية والجوهرية ، الذي نقل لا أحد يكاتب العقيد . الحكواتي ذو النفس الفولكنوري بشخصياته التي قد تتجاوز العشرين شخصية في رواية واحدة. ماركيث هو كذلك موجة سينمائية في أمريكا اللاتينية. هو كذلك تيار في السينما العالمية. أنه سينما إمير كوستورتزا البوسني. دون مائة عام من العزلة ما كان ليتحقق إنجاز سينمائي متفرد أسمه زمن الغجر.

- قراءة ماركيث: بلور الذاكرة

أم أتمثل ملكيادس في ترتيب زمني خاص؟ في شوارع مدينة الرباط الليلية التي كان يتسكع فيها طالب في شعبة الأدب الإسباني متأبطا رواية ما من رواياته التي كان يقرأها كما لو كانت رقائق مقدسة. في علاقات عاطفية كانت عوالم الرواية تساعد على تحمل عنفها في واقع يرفض الحب بالواضح والمشفر. في مونوغرافية السنة الأولى من الجامعة عن الفضاء في مائة عام من العزلة، إلى السيناريو التطبيقي في الإخراج التلفزي بتعديل قصة يوم كباقي الأيام من مجموعة جنازة الأم الكبرى ستة سنوات بعد ذلك. أم في الحوارات الساخنة داخل أستديوهات التلفزة الإسبانية بمدينه هيوستن بتكساس حيث كان يرد على استفسارات الزملاء الأمركولاتينيين الاستشراقية بمحاضرات عن بورخيس وكورتاثار وماركيث.
في ذات محاضرة يتحدث بورخيس عن القراءة كذاكرة خاصة، وأنه يعاود قراءة دون كيخوطي من باب استرجاع لحظات من طفولته ليس إلا. الآن، وأنا في قارة أخرى من الأدب بعيدة كل البعد عن ماكوندو، يحكم أقاليمها كتبة عموميون بالمعنى المجازي والمباشر، ويختزل فيها الأدب بصوت أقلية في العرق والجنس تنتظر دورها في الكلام، أظنني أقرأ ماركيث داخل معادلة بورخيس. اليوم أتمثل ملكيادس في زمنية خاصة لم أجدها حتى وأنا أتجول شوارع كرطاخينا ذات زيارة بمناسبة زواج صديقة كولومبية. وجدت إسم غابو وأسماء شخصيات رواياته على المحلات والمطاعم. نفس الشخصيات التي صورت لي عالما طالما قضيت ساعات مستلقيا على صخر الساحل الأطلسي في الرباط احلم بالتجوال في عوالمه. بعد ما يزيد عن عقد تجولت في ذاك العالم لكني لم أعثر على عوالمه.
فهمت حينها أن غابرييل غرثيا ماركيث أكبر من قارة. اليوم أفهم أنه ترحال أبدي في الزمن.

هيوستن في 18 أبريل 2014
عن القدس العربي

قديم 04-29-2014, 01:58 PM
المشاركة 22
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
غارسيا ماركيز.. الكتابة والإدهاش
*أمير تاج السر
عن الجزيرة نت
تقول الكاتبة التشيلية المعروفة إيزابيل أليندي في حوار معها عن غابرييل غارسيا ماركيز بعد رحيله "إن قراءة روايات ماركيز كانت تمنحني متعة بلا حدود، لكنها لم تكن تدهشني إطلاقا، كوني مواطنة من أميركا اللاتينية*ولدت وعشت فيها زمنا، ذلك ببساطة شديدة أن ماركيز كان يكتبنا نحن اللاتينيين، يكتب حياتنا كما نعيشها بكل ما فيها من خير وشر".
هذا الكلام قد يكون صحيحا، وأيضا يحمل شيئا من المبالغة في رأيي، فالعوالم شبه البدائية مثل عوالم أميركا اللاتينية وأفريقيا وبعض الجزر المستقلة هنا وهناك بسكانها ومجتمعاتها المحدودة، خاصة في عصر ما قبل التقنيات الحديثة -التي كانت في حد ذاتها معجزة واختصرت العالم بشدة- لا بد أن توجد فيها الكثير من الأساطير التي شكلت وجدان الناس، وانزاحت إلى حياتهم اليومية المعتادة.

لا بد من وجود خرافات ما يعتقد البعض في حقيقتها، وبالتالي لن تدهشه إذا ما قرأها في رواية، أو شاهدها في شريط سينمائي، ولكن يمكن أن تدهش شخصا آخر لا يعرف عن تلك العوالم شيئا. وسيسعى ذلك الغريب إلى مزيد من المعرفة بالبحث عن*مكامن الدهشة تلك، وبالتالي يصبح الإدهاش هنا بابا سهل الفتح، تخرج منه المعرفة لمن أرادها.
"كنت وسأظل وفيا لعشقى لغابرييل غارسيا ماركيز، ومعظم من كتبوا أدبا في أميركا اللاتينية وإسبانيا، وفيا لخيالهم الذي يأخذ من بيئة بدائية شبيهة ببيئتي"
الغجري "ملكيادس"، في رواية "مئة عام من العزلة" مات في أحد الأيام واختفى عن الحضور إلى "ماكندو"، لكنه ظهر ذات يوم بعد أن عاد إلى الحياة، ليحكي عن ذلك العالم الغامض الذي زاره وعاد. هذا شيء مدهش وبعيد عن المنطق بالتأكيد، لكنه لن يكون مدهشا للذين يعتقدون في إمكانية حدوث ذلك، من سكان المجتمعات المغلقة، في الأرياف وبلاد العالم الثالث كما ذكرت.
وأذكر أن هذا المعتقد كان سائدا في القرى في السودان في فترة ما، فحين كنا صغارا نزور قريتنا في الشمال نستمع*كثيرا لمثل هذه القصص من سكان القرية، وكيف أن*شخصا ما عاد من الموت، ليجول ليلا في البلدة، وربما يؤذي أحدا، وبالتدريج ومن كثرة تردد مثل هذه القصص، تتشكل*في الوجدان ما أسميها مقاومة الدهشة، التي ستسيطر بعد ذلك.
أذكر أيضا تلك المرأة الغريبة التي كانت تقيم في بيت من القش قريبا من منزل أهلنا في القرية، وتحتفظ بحياة منعزلة تماما، ظلت محورا للتخمين. كنا نراها في النهار عادية جدا، تصافح الناس وتتحدث معهم، ويمكن أن تدخل بيتا لدقائق وتخرج، ويمكن أن تستلف ملعقة من ملح أو سكر.
لكنها تشتعل بحياة أخرى في الليل، حيث نسمع صياحها وضحكاتها، ونسمع أو يخيل إلينا أننا نسمع أصواتا أخرى تحدثها، ونرضى بما يقال عنها، وهو أنها متزوجة من جني يزورها في الليل، ويظل هذا الرضى مسيطرا على عقولنا إلى أن تختفي الدهشة تماما.
لقد استوحيت حياة تلك المرأة وقصتها الغريبة في روايتي "اشتهاء"، وأنا على يقين بأن الذي سيندهش -إن كان ثمة اندهاش سيحدث- ليس القارئ الذي عايش مثل تلك الحكايات، ولكن قارئا بعيدا قد تسوقه المصادفة لقراءة الرواية.
وعلى نفس نهج قصة تلك المرأة التي كان اسمها "بنت عيسى"، توجد كثير من القصص التي تهم الكُتاب، ويمكن أن يستلفها الخيال ويطور منها ويعيد إنتاجها قصصا مدهشة، ستدهش البعض كما ذكرت، ولن تدهش من اعتاد على مثلها.
كنت وسأظل وفيا لعشقى لغابرييل غارسيا ماركيز، ومعظم من كتبوا أدبا في أميركا اللاتينية وإسبانيا، وفيا لخيالهم الذي يأخذ من بيئة بدائية شبيهة ببيئتي، وسأردد ما قالته إيزابيل أليندي "إنني لم أكن أندهش بقدر ما كنت أستمتع بكل كلمة أقرأها، وكل مشهد بديع يصوره*أحد مثل ماركيز".
ستدهشني أشياء أخرى، تدهشني اللغة المستخدمة، المفارقات، المواقف التي فيها طرافة، وأيضا الفكرة التي ينبني عليها النص. ولطالما قلت إن النص الناجح هو في البداية فكرة صغيرة تتكون بلا إرادة من الكاتب، وتمتلك القدرة على النمو الخارق، ومن ثم السيطرة على كل حواسه حتى يخرجها نصا.
أيضا الشخصيات بكل ما فيها من نزق وحكمة، وقار أو ابتذال،*هي شخصيات حقيقية، موجودة وما على الكتابة الجيدة سوى أن تنفض عنها غبارها، وتهندمها وتوظفها في النصوص، وقطعا ستملأ الوظيفة بلا جدال.
"الإدهاش يأتي من توظيف الطرافة بهذه البراعة. لا يوجد هنا كاتب يلوي ذراع ذهنك ووقتك حتى تقرأ ما يكتب، ولكن يوجد ساحر صاحب نداء غامض، يناديك، وتلبي النداء طائعا"
حقيقة لن أنسى من كتابة ماركيز*شخصيات مثل المصور الفوتوغرافي في رواية "الحب في زمن الكوليرا" الذي انتحر وهو في ثمانينيات العمر، لأنه لم يرد أن يشيخ، وهنا يأتي الإبهار*من كون الرجل كان شيخا بالفعل.
شخصية أخرى مثل الغريب في رواية "وقائع موت معلن"، الذي جلس على مقعد أمام المنزل، مرهقا ويود أن ينام، ومرت فتاة جميلة، فقال لصاحبة المنزل: سأنام قليلا، وحين أستيقظ، ذكريني بأنني سأتزوج هذه الفتاة.
الإدهاش هنا يأتي من توظيف الطرافة بهذه البراعة. هنا لا يوجد كاتب يلوي ذراع*ذهنك ووقتك حتى تقرأ ما يكتب، ولكن يوجد ساحر صاحب نداء غامض يناديك وتلبي النداء طائعا.
لقد ذكرت مرة في حديثي عن سيرة ماركيز التي كتبها بعنوان "عشنا لنحكي"، أو لعله عنوان شبيه بذلك، تختلف ترجمته عن الإسبانية من مترجم لآخر، أن تلك السيرة بالرغم من كونها سيرة حقيقية للكاتب، إلا أنها لم تستطع الإفلات من بهاراته وكتابته بطريقته المعروفة في شد القارئ، مهما كان انشغاله.
إذن ماركيز كان يدهش من لا يعرف عوالمه أو العوالم الشبيهة بعوالمه في العالم الممتد، ويمتع الكل ممن يعرفون عوالمه أو لا يعرفونها. أنا مثل إيزابيل أليندي، عشت سنوات قراءتي الأولى مع المتعة الماركيزية.
وحتى الآن أعود من حين لآخر لروايتي المفضلة "الحب في زمن الكوليرا" أقرأها بنفس المتعة التي قرأتها بها في الثمانينيات من القرن الماضي. ولا أستطيع أن أتخيل أن ذلك الحكاء العظيم هو نفسه الذي شاهدت علبة على طاولة قيل إنها تحمل رماده. بالنسبة لنا نحن عشاق الأدب، والمرضى بجرثومته، فإن القراءة بلا ماركيز، تبدو ناقصة كثيرا.
_______________
روائي وكاتب سوداني

قديم 05-02-2014, 06:46 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عندما تُصبح العُزلة ثمنَ الشّهرة
وداعاً غابرييل غارسّيا ماركيز
محمّد محمّد الخطّابي '
may 1, 2014
عن القدس الغربي

بعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين، في بلد إقامته المكسيك، غيّب الحمام يوم الخميس 17 نيسان (ابريل) الجاري(2014) ‘غابرييل غارسيا ماركيز′ أحد أكبر الرّوائيين في القرن العشرين، الحاصد أو الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب عام 1982 ، كان صاحب الأعمال الإبداعية الرّوائية الكبرى في العالم الناطق باللغة الإسبانية، والآداب العالمية، مثل ‘مائة سنة من العزلة’ التي قال عنها بابلو نيرودا أنها من أعظم الروايات التي كتبت في اللغة الإسبانية بعد ‘دون كيخوته دي لا مانشا’ لمغيل دي سيرفانتيس، و’الحبّ في زمن الكوليرا’ والكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ ‘ويوميات موت معلن’، و’الجنرال في متاهته’، و’خريف البطريرك’ وسواها من الأعمال الإبداعية العديدة في مختلف المضامين، والمجالات الأدبية الأخرى.
ولد ماركيز في ‘أراكاتاكا’ في 6 مارس 1927 التي كانت ضيعة، أو قرية مغمورة في الكرايب الكولومبي، والتي تحوّلت في روايته الشهيرة ‘مائة سنة من العزلة’ إلى ‘ماكوندو’، حيث تترعرع، وتتعايش، وتتآخى ،وتتعانق الحقيقة، والخيال، والأسطورة، والخرافة، والأحلام، والرّغبة، والتطلّع، لقد فتحت آداب ماركيز الباب على مصراعيها للإبداعات الأدبية في أساليب جديدة مبتكرة، كان كذلك من أبرز وأهمّ كتّاب ‘البّوم’ الأدبي الشهير للرّواية الإسبانية- الأمريكية في العالم أجمع،ومن أشهر كتّاب موجة ‘ الواقعية السّحرية ‘في الآداب الأمريكية اللاتينية ،التي إنتشرت وإشتهرت منذ السبعينيات من القرن المنصرم .
من سار على الدّرب وصل
كان ماركيز يوقّع كتاباته الأولى وهو بعد غضّ الإهاب، طريّ العود في المعهد الذي كان يتابع فيه دراسته، باسم مستعار وهو ‘خبيير غارسيس′ ولم يكتب بإسمه الصّريح حتى عام 1947 عندما إلتحق بالجامعة الوطنية ببوغوتا لدراسة الحقوق، حيث طفق يكتب- بمساعدة صديق عمره، ورفيق دربه في الإبداع الكاتب الكولومبي الكبيرالرّاحل ألفارو موتيس – في جرائد ‘الأونيفرسال’ و’الهيرالدو’ وأخيرا ‘الإسبكتادور’، ثمّ تمّ إيفاده عام 1955 كمراسل من طرف هذه الصحيفة إلى أوربا، وبشكل خاص إلى جنيف، وروما، ثمّ أخيرا إلى باريس حيث بدأت تتفتّح له أبواب الشّهرة والمجد الأدبيين.
وبعد إنتصار الثورة الكوبية عام 1959 إنتقل غارسيا ماركيز إلى ‘لاهافانا’، حيث بدأت ميولاته اليسارية تتفتّق، وأقام صداقة متينة منذ ذلك الإبّان مع قائد الثورة الكوبية فيديل كاسترو، ولقد إستمرّت هذه الصداقة لسنوات طويلة جدّا،وفي عام 1961 ثمّ إيفاده إلى نيويورك مبعوثا من طرف ‘الوكالة اللاتينية للصّحافة’، وفي هذه التواريخ بدأ كتابة روايته المعروفة ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’، ثمّ سرعان ما عاد أدراجه إلى المكسيك وهو البلد الذي سيصبح مكان إقامته الثانية بعد بلده كولومبيا، وفي المكسيك كان يكتب سيناريوهات للسينما إلى جانب الرّوائي المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس، ومن أشهر الأفلام التي أعدّها ماركيز للفنّ السابع فيلم ‘الدّيك الذّهبي’ عن قصّة للكاتب المكسيكي المعروف خوان رولفو. ثم طفق بعد ذلك في نشر فصلات ،أو أجزاء مستقلّة من عمله الإبداعي الروائي الكبير الذائع الصّيت ‘مائة سنة من العزلة’ في كلّ من بوغوتا، وليما، وباريس، وقد ظهرت الطبعة الأولى من هذه الرواية في ‘بوينس أيريس′ بالأرجنتين، والتي حققت له نجاحا أدبيا باهرا وسريعا، ثمّ إنتقل ماركيز للإقامة في مدينة برشلونة إلى غاية 1975. وبعد هذا التاريخ عاد إلى المكسيك، وصار يقاسم اقامته بين العاصمة الأزتيكية، وبين مدينة ‘كارتاخينا دي إندياس′ الكولومبية، والعواصم الأوربية، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية.
إعترف غابرييل غارسّيا ماركيز بأنّ شهرته الأدبية لم تكن نتيجة الأعمال الكلاسيكية الكبرى التي كتبها، وإنما جاءته هذه الشّهرة عن طريق الأغاني الشعبية المنتشرة في البّحر الكاريبي، وهي عبارة عن قصص مغّناة مصحوبة بالطنبور والأكورديون، تتحدّث عن البطولات، والمغامرات، والإنتفاضات، والنكبات، والفواجع التي عرفتها شعوب المنطقة التي ينتمي إليها،التي كانت على الدّوام ملتهبة بالأحداث والتطوّرات، والتقلّبات والتي كان لها تأثير كبير على حياته وكتاباته .
ويقول ماركيز عن روايته ‘مائة سنة من العزلة’ التي حصل بها على جائزة نوبل في الآداب عام 1982، إنّه على الرّغم من التقريظ والإطراء اللذين حظيت بهما هذه الرواية، إلاّ أنّ كتبه الأخرى خير منها، وكان هذا التصريح في الواقع مناورة من ماركيز لتوجّيه عناية وإهتمام القرّاء والنقّاد إلى بقية أعماله الأدبية الأخرى، كمّا أنّه كان تعبيرا عن طموحاته، وتطلّعاته إلى مواصلة طريق النجاح، والشّهرة الواسعة التي أصبح يرفل في أثوابها.
وقال ماركيز إنّ رواية ‘مائة سنة من العزلة’ قد تحوّلت إلى حاجز، أو نقطة إنطلاق، أو شهادة أساسية بالنسبة لباقي إبداعاته الأخرى، وهو لم يكن بودّه أن يحدث هذا، إذ بالنسبة إليه، فإنّ أحسن كتبه وأقربها إلى نفسه هو ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ ..!.

البدايات والمؤثّرات
وحول تأثيراته الأدبية يقول ماركيز: ‘إنّ الرّوايات التي تروى في سواحل كولومبيا الكاريبية لها نظرة خاصّة ومباشرة للواقع، وهذاهوأكبر منهل إغترفت منه ويظهر تأثيره جليّا في معظم كتبي’. وأشار أنّ أولى قراءاته الجادّة كانت في معهد مدينة ‘سيباكيرا’ (تبعد عن العاصمة بوغوتا بحوالي خمسين كيلومترا والتي توجد بها أكبر كاتدرائية للملح في العالم وهي من أهمّ المعالم السياحية الغريبة في كولومبيا اليوم) حيث تابع دراسته حتى مستوى الباكالوريا، وأنه قرأ في أوقات الفراغ كلّ الكتب التي كانت موجودة في مكتبة هذا المعهد، حيث إعتكف وإكتشف ‘ويليام فولكنر’، و’فيرجينيا وولف’ و’إرنست هيمينغواي’، إلى جانب العديد من الكتّاب الآخرين الكبار من مختلف الجنسيات والثقافات، ومن الكتب التي قرأها ويذكرها جيّدا في هذا المعهد ‘ألف ليلة وليلة’ حيث كان لهذا الكتاب تأثير كبيرعليه كذلك، ظهر بشكل واضح في روايته ‘مائة سنة من العزلة’ حسب بعض الدارسين.

كتاب أمريكا اللاتينية
هذه الرّواية، قال عنها الكاتب المكسيكي الكبير الرّاحل كارلوس فوينتيس أنّه في عام 1965عندما وصلته نسخة من الصّفحات الأولى منها وهو في باريس، جلس دون تفكير وكتب: (لقد قرأت كتاب أمريكا اللاتينية). إنّها تبدو للقارئ، وكأنّها رواية مغامرات، حيث تمتزج فيها البطولة بالأسطورة. كما أنّها تبدو للقارئ غير النابه وكأنّها قصص ألف ليلة وليلة في صيغتها الأمريكية التي تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ إستقلالها إلى الوقت الحاضر.هذه اللعبة التي تتطلب بعد التراجع والتقهقر غيرالمعلن عنهما في النصّ تشير إلى هذه القارّة في بعض عهودها الغابرة، وهكذا نجد تكهّنات تشحذ الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة وقرن أوعصر الأضواء، ويشطّ أو يشطح ‘ماركيز′ بخياله، في إحدى شخصوص الرّواية وهو ‘مكياديس′ العالم الكيماوي، ولقد إعترف ماركيز أنه قد إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي الشهير والمثير ‘ميشيل دي نوسترداموس′ وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، ربما لذلك يموت مرّتين، ويحتمل أن يولد من جديد ليدلّنا ويرشدنا كيف ستجد ‘ماكوندو’أو ‘أراكاتاكا’ (أي أمريكا اللاتينية) منفذا أو مخرجا من الموت الذي يحكم به عليها ظاهريا ماركيز في نهاية الرّواية. فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرجال في المنطقة لإستيطانها ،وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال مثل المرّات السابقة لإستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فسادا. من جهة أخرى ‘مكياديس′ يمكن أن يموت ويولد لأنّه يقطن ويسكن أوّلا وأخيرا في القارة الأمريكية ،حتى وإن كان يجرى في عروقه الدم الأجنبي ،إنه لا يفرق أو يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت في هذه المنطقة، أيّ في أمريكا التي لا يموت شيء فيها موتا تامّا أو كاملا أو نهائيا، كما أنّه لا يولد أيّ شيء فيها بالتمام أو في شكله النهائي.
بعد النجاح الباهر الذي حققته هذه الرواية، فإنّ ماركيز يرجع نجاحه الأدبي إلى أنه يتمتّع منذ البداية بنظرة واضحة، وهي أنّ عالمية الأدب تكمن في قدرة الكاتب على رؤيته، ونقل وتصوير العالم الداخلي الخفيّ للكاتب نفسه، ويقول: ‘إنّ الوسيلة الوحيدة ليصبح المرء كاتبا عالميا هو أن يكتب عن قريته الصغيرة’. ويتّفق ماركيز في هذا مع القاصّ المكسيكي المعروف ‘خوان رولفو’ ومع الفنان المكسيكي الكبير ‘روفينو طامايو’، ومع يحيى حقّي، وتوفيق الحكيم، والطيّب صالح، وغسّان كنفاني، ومحمد شكري وسواهم من كبار الكتّاب الآخرين.
ويؤكّد ماركيز أنه عندما أدرك الشهرة الواسعة أصبح يشعر بالعزلة، لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف ماذا وكيف يفكّر الآخرون حوله. وقال صاحب ‘مائة سنة من العزلة’ أنّه كان يشعر بالعزلة أكثر من أيّ وقت مضى، فالشّهرة في رأيه يمكنها أن تكون رائعة لو كانت مثل صدرية يمكن للمرء أن يخلعها عنه متى شاء، ويعود لأرتدائها متى شاء، وإلاّ فإنّها تصبح شيئا مضنيا ومتعبا للإنسان عليه حمله 24 ساعة متوالية في اليوم. وقال ماركيز أنّ أخطر ما يمكن أن يجنيه الإنسان من الشّهرة هو الهجوم، والمضايقات التي يتعرّض لها ضدّ حياته الحميمية الخاصّة بإلحاح متواصل ومتثاقل حتى أمسى أمرا لا يطاق لدى بعض الكتّاب والمشاهير، ويغدو ثمنها في الأخير العزلة القاتلة.

ذكريات مضيئة
وعن أيام طفولته وشبابه يقول ماركيز، إنّ أحلى وأجمل وأسعد سني عمره كانت خلال طور الدّراسة . وهو يتذكّر في هذا القبيل رحلة قام بها على ظهر مركب عبر نهر ‘ماغدالينا ‘، ثم في قطار قديم نحو ‘بوغوتا’ ليجتاز اختبار الحصول على منحة دراسية، كان عمره آنذاك 13 سنة فدنا منه رجل وطلب منه كتابة قطعة شعرية لإهدائها لخطيبته كان ماركيز قد غنّاها مع مجموعة من الطلبة ‘السّواحلييّن’ (نسبة للقاطنين على السّاحل الكولومبي) المتّجهين كذلك مثله إلى العاصمة بوغوتا بحثا عن منح دراسية، وتابع ماركيزحديثه قائلا: ‘بعد مرور أيام على هذا الحدث رآه الرجل نفسه الذي كان قد طلب منه على متن القطارالقطعة الشعرية إيّاها ،وهو واقف في طابور طويل أمام مبنى وزارة التربية والتعليم في بوغوتا تحت شمس حارّة وحارقة ليتقدّم لامتحان الحصول على منحة دراسيّة، فسأله: أنت، ماذا تفعل هنا..؟ وحينما ذكر له السّبب قال له الرجل: دع عنك هذا وتعال معي، فقد كان هو المدير العام للمنح بالوزارة. وهكذا خصّه بمنحة على الفور لمتابعة دراسته في معهد ‘سيباكيرا’ الآنف الذكر، وقد شكّل ذلك أولى خطواته في درب الصّحافة والأدب والشّهرة الواسعة.

غابو: إرث وطني
في عام 1999 أصيب ماركيز بسرطان لمفاوي سرعان ما تجاوزه وشفي منه، وفي عام 2001 فقد أخا له يدعى ‘غابرييا إليخيو ماركيز′ الذى حزن عليه حزنا شديدا، كان وقتئذ بصدد إعداد مشاريع أدبية لكتابة العديد من الكتب بعد ‘مذكراته’ أو ‘سيرته الذاتية’ التي نشرها عام 2002 تحت عنوان ‘أعيش لأروى’، والتي كان قد حقق بها مبيعات ضخمة في العالم الناطق باللغة الإسبانية وخارجه. ولكنّه ظل صامتا لم يعرف عنه شيء طوال هذه السنين حتى بلغ الخامسة والثمانين من عمره في مارس من عام 2012، حيث نشرت العديد من الصّحف والمجلات في مختلف بلدان العالم صوره وهو في المكسيك مع زوجته، وأقربائه،وأحبّائه، وخلاّنه، وأصدقائه، وذويه، في هذا البلد الأزتيكي الذي عاش فيه ماركيز أكبر قسط من حياته، كالعديد من الكتّاب الآخرين من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية مثل بلديّه وابن جلدته ‘ألفارو موتيس′، و’أغوستو مونتيرّوسو’، و’إدواردو غاليانو’، و’فرناندو فاييّخو ‘وسواهم وهم كثير . يقول عنه أحد أصدقائه المقرّبين وهو الكاتب الكولومبي ‘بلينيو أبوليّيو ميندوسا’: ‘كان غابرييل غارسيا ماركيز هوّ ذاته، ولكنّه لم يكن غابو المعهود (لقبه من باب التلطيف بين أصدقائه) الذي يعرفه الجميع،كان يبدو كما لو كان غائبا عن المكان، كان قد فقد تلك الشرارة المتّقدة، والشّعاع اللاّمع الذي كان يتلألا في عينيه باستمرار.
كان ‘غابو’ يبدو غريبا غير عادي، وأضحى الحديث عنه في بلده كولومبيا يكاد أن يكون محظورا أو محرّما، فهو يعتبر إرثا وطنيا لا يمكن لمسه أو الدنوّ منه’..!. (أنظرالمقالات الثلاث التي نشرت لي مؤخرا في ‘القدس العربي’ حول هذا الكاتب الكبير وهي:’مائة سنة من العزلة: يوميات قرية أسطورية’ عدد 7369 بتاريخ 27 شباط (فبراير) 3013 . و’غابو ..صحافيا’ عدد 7384 بتاريخ 16-17 آذار (مارس) 2013. و’ماركيز هل فقد ذاكرته..؟ عدد7153 بتاريخ 14 حزيران (يونيو) 2013).
‘ كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- (كولومبيا).

قديم 10-13-2014, 12:00 PM
المشاركة 24
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الى اي نمط كتابي تنتمي رواية مائة عام من العزلة حسب رأيك؟
الى الواقعية السحرية ؟
ام الى الخيال السحري؟

قديم 04-20-2015, 09:38 AM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي الرّواية التي ملأت الدّنيا وشغلت النّاس..! : بقلم محمّد محمّد خطّابي
فى الذّكرى الأولى لرحيل صاحب مئة عام من العزلة: الرّواية التي ملأت الدّنيا وشغلت النّاس..!
محمّد محمّد خطّابي
april 19, 2015
عن القدس العربي

غرناطة ـ «القدس العربي»: منذ رحيل صاحب رواية «مئة عام من العزلة» الكاتب الكولومبي الشّهير غابرييل غارسّيا ماركيز بتاريخ 17 نيسان/ابريل من العام المنصرم 2014 نشرت العديد من الكتب والمقالات والدّراسات التي لا حصر ولا عدّ لها حول هذا الرّوائي المثير دائماً للجدل قيد حياته، سواء في معايشاته الخاصّة، أو في رواياته أو تصريحاته أو مع أصدقائه وخلاّنه وكبريائه وخيلائه وعناده والمشاكل الصحيّة التي كانت تنتابه قبيل وفاته بخصوص الضّعف الذي كان قد أصبح يعاني منه في ذاكرته في الأعوام الأخيرة من عمره، (أنظر مقالي حول هذا الموضوع في «القدس العربي» بعنوان «غابرييل غارسيا ماركيز ..هل فقد ذاكرته؟» (العدد713بتاريخ 14حزيران/يونيو2012) أو إلقاء الأضواء على مهنته القديمة والمتجدّدة دائما وهي تعاطيه الصّحافة في ربيع عمره .
غابرييل غارسّيا ماركيز منذ أن رحل عن عالمنا لم تتوقف الأوساط الثقافية، ودور النشر في إسبانيا، وفي بلده كولومبيا، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة الأمريكية، ومختلف بلدان العالم عن تنظيم لقاءات وتظاهرات وملتقيات ومناظرات حول أدبه، وإبداعاته ورواياته وكتبه، وإعادة طبع بعضها، كما لم يتوقف الحديث عن خطاباته التي جمعت قبيل رحيله في كتاب مستقلّ تحت عنوان «لم آت لألقي خطاباً» وكان آخر كتاب نشر عنه يحمل عنوان «غابو..صحافياً» وقبله بقليل كان قد صدر عنه كذلك كتاب آخر تحت عنوان «غابو رسائل وذكريات» من تأليف صديقه الحميم بيلينيو أبوليّو ميندوسا (أنظر مقالي في «القدس العربي» حول هذا الكتاب العدد 7356 بتارخ 12 شباط/فبراير 2013)، أمّا كتاب «غابو صحافياً» فقد كان قد صدر قبل وفاته في كلٍّ من كولومبيا والمكسيك في آنٍ واحد عن دار النشر «صندوق الثقافة الإقتصادية»، كما كانت قد صدرت طبعات أخرى من هذا الكتاب في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وإسبانيا بعد ذلك. وكان الكاتب والناقد الإسباني خوان كروث قد إعتبر هذا الكتاب عند صدوره كنزاً ثميناً لا نظير له في عالم الخلق، والإبداع الصّحافي والأدبي على حدّ سواء، ولقد تمّ توزيع أو إهداء الطبعات الأولى منه في حياة الكاتب بالمجّان، ثم بيع بأثمنة متفاوتة بعد مماته، فالأمر كان يتعلق بواضع أشهر روايةٍ كتبت في القرن العشرين، وهي «مئة عام من العزلة» التي بيع منها منذ صدورها أوّل مرّة عام 1967 ملايين النّسخ حتى اليوم.
وحريٌّ بنا بهذه المناسبة، والحالة هذه أن نلقي نظرة متأنّية على هذه الرّواية التي حقّقت من الشّهرة، والذيوع، والإنتشار ما لم تحقّقه أيّ روايةٍ أخرى من رواياته، أو روايات زملائه، وخلاّنه، وأصدقائه من الكتّاب الآخرين سواء في موطنه كولومبيا، أو في أيّ بلدٍ من بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى

رواية ملأت الدّنيا وشغلت النّاس

ماذا إذن في هذه الرّواية التي ملأت الدّنيا وشغلت الناس؟ وما هي أهمّيتها، وقيمتها بالنسبة لباقي أعمال ماركيز الإبداعية الأخرى؟ وماذا تخبّئ بين صفحاتها أو تخفي بين دفّتيها؟ وماهو سرّ أو سحر نجاحها، وشهرتها، وذيوعها وإنتشارها، ونقلها إلى مختلف لغات الأرض؟ (ترجمت إلى 37 لغة بما فيها اللغة العربية).!
الواقع أنّ رواية «مئة عام من العزلة» تعتبر من أشهر، وأبهر روايات «غابو» الذي توّج بها رحلته الطويلة في عالم الخلق، والعطاء، والإبداع بجائزة نوبل في الآداب عام 1982، لقد كتب ماركيز هذه الرّواية في المكسيك ونشرها في بوينوس أيريس ولم يكن يتجاوز عمره آنذاك التاسعة والعشرين. وكان أوّل نقدٍ كتب حول هذه الرّواية بقلم الناقد المكسيكي إيمانويل كاربايو عام 1967 عندما قرأها وهي بعد مطبوعة على الآلة الرّاقنة، ولم تكن قد صدرت بعد، لقد ذهب هذا الناقد في ذلك الوقت إلى القول: «إنّه وجد نفسه أمام واحدةٍ من أعظم الرّوايات في القرن العشرين» ولم يخطئ .
ولد غابرييل غارسيا ماركيز في أراكاتاكا وهي إحدى القرى الكولومبية الصغيرة المغمورة عام 1927، وخرج من قريته عام 1930، ومن كولومبيا عام1954 إلاّ أنّه ظلّ وفيّاً لقريته، وللذكريات التي عاشها هناك. وعندما بدأ يكتب قصصه، ورواياته قفزت شهرة هذه القرية إلى مختلف أنحاء العالم، ونطقها الملايين بفضل إبنها البار. ونظراً للحرارة المرتفعة المعروفة عن هذه القرية، فإنّنا نجد هذا الحدث ينعكس على معظم قصص ماركيز، وهو يرمز إلى هذه القرية في العمل الأدبي الإبداعي الكبير باسم «ماكوندو».

العرب والعربيّة في مئة عام من العزلة

يتعرّض ماركيز في هذه الرّواية، التي تنتمي إلى مدرسة الواقعية السّحرية التي ميّزت الأدب الأمريكي اللاتيني خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، للمهاجرين العرب الأوائل (مسلمين ومسيحيين) الذين وصلوا إلى أراكاتاكا (ماكوندو) في الرّواية، وعن مهن التجارة التي كانوا يزاولونها، وعن البّاعة المتجوّلين، وبائعي الحليّ والمجوهرات، وهو يستعمل في تسميتهم مصطلح «الأتراك» وهو مصطلح غير دقيق (سمّوا كذلك فقط لأنّهم عند هجرتهم كانوا يحملون جوازات سفر مسلّمة لهم من طرف الدّولة العليّة العثمانية التركية) وتبدو في الرّواية بعض العادات والتقاليد العربية، فـ «شارع الأتراك» سيصبح في الرّواية فضاءً سيعرف تغييرات، وتحوّلات واضحة سيكون لها تأثير على معظم سكان ماكوندو التي يقول عنها ماركيز أنّها: «سرعان ما تحوّلت من ضيعة صغيرة إلى قرية نشيطة ذات دكاكين وأوراش للصّناعات التقليدية، وإلى طريق تجاري دائم من حيث وصل العرب الأوائل» الذين تعاطوا التجارة والمقايضة وأحدثوا في القرية تنظيماً إجتماعياً أساسياً، وحياة ثقافية، وحملوا معهم «ألف ليلة وليلة» وقصصها العجيبة وخيالها المجنّح (قرأ ماركيز هذا الكتاب في السّابعة من عمره). إنّ وصول هؤلاء المهاجرين إلى القرية وإنتشار مفهوم التجارة فيها قد يكون تلميحاً، أو رمزاً لوصول الاسبان إلى ما سمّي فيما بعد العالم الجديد، أو اسبانيا الجديدة، أو أمريكا.
تجدر الإشارة أنّني بعد قراءةٍ متأنيّة لهذا العمل الإبداعي الرائع- خلال وجودي في كولومبيا- قمت بإجراء إحصاء دقيق للكلمات العربية أو التي تنحدر من أصل عربي الموجودة فيه، فإذا هي كلمات عديدة جدّاً لا حصر لها مبثوثة هنا وهناك في هذه الرّواية منها على سبيل المثال: القطن، المسجد، السّوسن، الضّيعة، الجلباب، المخزن، العقرب، الكحول، الكافور، القطران، الزّيت، المسك، السّوط، الياسمين، الزّهر، الخزامى، البركة، السّاقية، اللقّاط، الزعفران، الزّناتي (التي إستقرّت في الاسبانية بمعنى الفارس المغوار نسبةً إلى القبيلة الأمازيغية بالمغرب «زناتة»)، الكيل، الثرثرة، الشّراب، القاضي، القائد، البابوش (عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى، ولقد فوجئ العديد من المثقفين والكتّاب الكولومبيين بذلك عندما ألقيت محاضرةً حول» مئة عام من العزلة» لماركيز باللغة الاسبانية منذ بضع سنوات خلال أمسية أدبية «بنادي نوغال» الشهير ببوغوتا، إذ يصعب في كثير من الحالات ردّ بعض الكلمات العربيّة أو ذات الأصول العربية التي إستقرّت في اللغة الاسبانية منذ قرون إلى أصلها أو أثلها العربي.

فصول مستقلّة

ويشير الناقد إمانويل كاربايو إلى أنّ ماركيز بأعماله الرّوائية المبكّرة قد أقام إلى جانب روائيين آخرين أسس وقواعد الرواية الجديدة في هذه القارة، وقد نال إعجاب القرّاء، والنقّاد إلى جانب كتّاب مثل الراحل كارلوس فوينتيس وماريو برغاس يوسا الذين إنطلقوا من التزامهم باللغة ثمّ عمدوا إلى التحليل العميق لواقع الإنسان الأمريكي اللاتيني، وعالجوا بذكاء أساطير وإرهاصات العالم الذي نعيش فيه، وتعكس أعمالهم حياة قارّة بأكملها.
ويشير الكاتب أنّ الروائييّن الذين يعتبرون إخوة كبار لماركيز وهم كاربنتيير وكورتاثار ومارشال ورولفو أمكنهم كذلك خلق فنّ روائي جيّد على مستوى القارة. وأنّ أوّل قصّة كتبها ماركيز لم يكن عمره يتجاوز 19 سنة ونشرها بعد ثماني سنوات وهي «تساقط الأوراق» صدرت في بوغوتا عام 1955، ثم تلتها رواية «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وهي رواية قصيرة أو قصّة مطوّلة أنهى كتابتها في باريس عام 1957، ثم «السّاعة النحسة» التي حصل بها الكاتب على أوّل جائزة أدبية عام 1961، وفى عام 1967ظهرت له «مئة عام من العزلة»، التي تعدّ من أجود الرّوايات التي شهدتها اللغة الاسبانية في القرن المنصرم.
لقد قدّم ماركيز «للرواية الاسبانوأمريكية» ما قدّمه وليم فولكنر» للرّواية الأمريكية». أنّ قصصه القصيرة هي بمثابة فصول مستقلة لم تجد مكانها في رواياته، أو ربما كتبت لتنير حياة بعض الشخصيات، أو تفسير بعض أحداث هذه الروايات الأكثر إنتشاراً في العالم، وهي قصص مكتوبة بطريقة تقليدية تجعل بينها وبين الماضي حدّاً بواسطة الصّمت الذي يغدو في أعمال ماركيز صوتاً مدويّاً صاخباً مثل كلماته مئة عام من العزلة نفسها التي هي سرد لتاريخ شعب.

التاريخ والأدب

إنّه أوّل ما يثير الانتباه بعد إغلاق كتاب «مئة عام من العزلة» هو عدم تسلسل أحداثها التاريخية، ولكنّ هذا النوع من عدم التسلسل بدلاً من أن يصبح عاملاً يلغي قيمة الرّواية يجعلها تتوفّر على بعض الخصائص التي أهّلتهأ لتحتل مكاناً خاصّاً بين الأعمال الروائية التي نشرت بعدها، فعلى خلاف الرّوائيين الآخرين المعاصرين لماركيز، إنه في هذه الرّواية يسعى ويحقق مبتغاه في البحث عن الأصالة بواسطة سبل قد تبدو للوهلة الأولى في الظاهر رجعية، وهذه السبل بدلاً من أن تتّجه نحو المستقبل فإنها تسير في إتجاه معاكس للتاريخ وللأدب بغية اكتشاف الماضي، هذا الماضي الذي أسهمت العزلة والوحدة في تنقيته، وتجليته، وتصفيته وأصبح يكاد يكون مجهولاً ولكنه في الوقت نفسه هو جديد بالنسبة للقارئ مثل صحيفة اليوم التي بين يديه، فهناك يعثر على ما كان يبحث عنه منذ 1955 عندما صدرت قصّته «تساقط الأوراق»، فكأنك تلتقي مع رجال يعيشون في الخيال، وهو هنا نوع من البناء إنطلاقاً من الهدم ، الحبّ، القهر، والقسوة، والمعاناة. رجال وعالم يقفان في الرّصيف المقابل للمعتقدات الإجتماعية والأعراف الموضوعية والأفكار السياسية والمعتقدات الدينية. والمحسوبية والمنفعية، وأخيراً المخدّرات التي تجعل الحياة ممكنة ومستمرّة في مجتمع مّا، كما هو الشأن في قصّة «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وفي «الساعة النحسة» فقد كان من المستحيل الجمع بين التاريخ والشخصيات. إنّ غارسيا ماركيز أمكنه أن يجد في قرية ماكوندو وهو الإسم الذي يرمز إلى اسم قريته الحقيقية أراكاتاكا، رجالاً وطرائق عيش والصّلات التي تربطهم بعوالم سابقة لوجودهم. في الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الشخصيات إلى أناس أنانييّن، وأصدقاء وصوليين لا تهمّهم سوى المصالح المادية الآنية، فقرية ماكوندو هي (الفردوس الأرضي) والفرصة المناسبة الوحيدة المتاحة والممنوحة للإنسان ليحقق أحسن أمانيه. في الفردوس لا يمكن لأعداء الرجال إستغلال
الفرص لتحطيم وإفساد السعادة التي يوجدون فيها، إنّ (مؤسّسة ماكوندو) التي توازي فكرة أمريكا، حيث أمكن للأوربييّن منذ «الاكتشاف» تعزيز مواقفهم فيها، واستقدموا معهم في الوقت ذاته عنصر الاستمتاع بالحياة وكذا زرع بذور الشرّ والكراهية والتحطيم، التي ستترك القرية فيما بعد شبيهة بقرية متحجّرة أو مصنوعة من حجر. ومثلما ذهب الرّوائي المكسيكي كارلوس فوينتيس عندما قرأ مئة عام من العزلة فوصف هذه الرواية بأنها «كتاب أمريكا اللاتينية». يرى إمانويل كاربايو كذلك أنّ هذه الرّواية بالفعل هي بمثابة «كتاب مقدّس» في وصاياه أو عهوده القديمة والجديدة الذي يحكي فيها تماشّياً مع قواعد الفنّ تاريخ شعب مختار، في قرية ماكوندو منذ البداية إلى حلول الكارثة، منذ أن وطأ هذه الأرض الغرباء الوافدون، وجعلوا من هذه الضّيعة قرية أسطورية حتى اللحظة التي يهيمن فيها النمل على الأرض، ويلتهم آخر وليد من آخر رجال هذه الذريّة والسّلالة.

روايةٌ تشحذ الخيال

الرواية تبدو للقارئ إنطلاقاً من منظور آخر، وكأنّها رواية مغامرات، حيث تمتزج فيها البطولة بالأسطورة. كما تبدو بالنسبة للقارئ غير النّابه وكأنّها قصص ألف ليلة وليلة في صيغتها الأمريكية التي تلخص تاريخ أمريكا اللّاتينية منذ إستقلالها إلى الوقت الحاضر.هذه اللعبة التي تتطلب بعد التراجع والتقهقر غير المعلن عنهما في النصّ تشير إلى هذه القارّة في بعض عهودها الغابرة، وهكذا نجد تكهّنات تشحذ الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة، وقرن، أو عصر الأضواء ويشطح ماركيز بخياله، فـ «مكياديس» هو العالم الكيميائي في العصر الوسيط، ولقد إعترف ماركيز أنّه قد إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي المعروف ميشيل دي نوسترداموس وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر ربّما لذلك يموت مرّتين، ويحتمل أن يولد من جديد ليدلنا ويرشدنا كيف ستجد ماكوندو منفذاً أو مخرجاً (أيّ أمريكا اللاتينية) من الموت الذي يحكم به عليها ظاهرياً ماركيز في نهاية الرّواية. وهذه الخلاصة تتصادف بشكل يثير الإنتباه في البداية، فمئة عام من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرّجال في المنطقة لإستيطانها، وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال مثل المرّات السابقة لاستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فساداً. من جهة أخرى مكياديس يمكن أن يموت ويولد لأنه يقطن ويسكن أوّلاً وأخيراً في القارّة الأمريكية، حتى وإن كان يجري في عروقه الدم الأجنبي، إنه لا يفرق أو يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت في هذه المنطقة، أيّ في أمريكا التي لا يموت شيء فيها موتاً تامّاً أو كاملاً أو نهائياً (فلنفكّر في النظام الإقطاعي والمذاهب الليبرالية) كما أنّه لا يولد أيّ شيء فيها بالتمام أو في شكله النهائي.
رواية «مئة عام من العزلة» تطرح معضلة وهي: إلى أيّ حدّ ينبغي للرّواية وباقي الأغراض الأدبية الأخرى أن تعكس الظروف الواقعية وفي هذه الحالة للبلدان السّائرة في طريق النموّ؟ أو إلى أيّ حدّ يجوز لنا إذا وضعنا في إعتبارنا أنّ الرواية هي في يد الرّجال المتدرّبين مثل الأوروبيّين والأمريكيّين بأن نذهب ونقدّم للقرّاء صورة بنيوية وجمالية حسب ما يحدث في المختبرات الأدبية الأكثر تقدّما في البلدان التي تعيش وتستمتع بالإمتيازات التي يوفّرها لها العصر الحاضر؟ إنّ إجابة ماركيز تبدو مقنعة، فإنّ «مئة عام» تقول: «إن التطوّر والنموّ الإقتصادي لا ينبغي لهما أن يصبّا بالضرورة في رواية طيّعة أو في رواية تتجاهل الواقع والإطار التاريخي للقارّة».

تطويع الأسلوب

إنّ وجهة نظر ماركيز لا يمكن أن يعاتب عليها، لأنّه لا ينكر فضل هذه الرّواية الجديدة، ولا الإكتشافات القائمة في التقليد الأدبي الأمريكي اللاتيني، وهكذا يمكن أن يقدّم بإرتياح للقرّاء عملاّ أمريكياّ، وهو عمل لا يمكن أن يغبط تلك الأعمال التي تكتب في أماكن أخرى من العالم. أنّ «مئة عام من العزلة» تعتبر من أدقّ وأعمق وأجود الروايات، إلاّ أنّه إلى أيّ حدّ يمكن إستعمال هذا الوصف دون أن ينأى عن الحقيقة؟!
إنّ البنية، والتاريخ والشخصيات والأسلوب والجوّ الذي تدور فيه الرّواية كلّ ذلك يفي بدقّة متناهية بالغرض، فالرّواية إستعراض في أرقى مظهره للحياة، والألم، والمعاناة، والموت، والأمل، حيث الخيال والعبث وكلّ ما يمكن أن يتخيّله المرء يغدو أمامه حقيقة ماثلة.
ماركيز بعد كتابته لهذه الرّواية يمكن أن ينام هانئ البال مطمئنّ الخاطر حتى وإن كان هناك إحتمال مؤدّاه أنّ هذا العمل الأدبي قد يقصي الكرى عنه كالأرق الذي كانت تعاني منه ماكوندو وستظلّ كذلك ما تبقىّ لها من الأيام. ويشير كاربايو إلى أنّه بعد أن أعاد قراءة نقده الأوّل لهذه الرّواية الذي نشره عام 1967، ينبغي له أن يتنبّه إلى «أنّ التنبّؤات، أو قراءة الغيب في الأدب يمكن أن يبتعد وأن ينأى عن الصّواب». ففي هذا العرض توقّع الناقد أنّ ماركيز مثل رولفو وغيره من الذين بعد كتابتهم لعمل جيّد وممتاز قد يلوذون بالصّمت، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدث مع ماركيز، فقد إستمرّ في الكتابة والإبداع، فمن سنة 1967 إلى اليوم نشر كتباً كثيرة جديدة.
ويشير الناقد أنّه مع ذلك ليس متيقنّاً من أنّ ماركيز قد كتب بالفعل أعمالاً جيّدة كما هو الشأن في حينه بالنسبة لمئة عام من العزلة، وأقلّ منها مرتبة «الكولونيل ليس لديه من يكاتبه» وهو يرى في أعماله بعد سنة 1967 نوعاً من الحنين نحو عالم ضائع لا يمكن إسترجاعه. إنّ ماركيز الذي جاء بعد «مئة عام» ليس مكتشف أقطار، ومناطق ومواطن أدبية جديدة في عصرنا، إنه كاتب وصاحب أسلوب قويّ ومميّز ذو مقدرة وطواعية رائعة، ونكهة لذيذة في مطبخ الأدب ممّا يفضي بالقارئ المبتدئ إلى الوقوع في الخطأ وعدم التمييز بين «اللقطة» وبين المعاودة والإستمرارية. هناك فقط روايتان بعد مئة عام من العزلة وهما «يوميّات موت معلن» و»الحبّ في زمن الكوليرا» يمكن وصفهما بأنّهما عملان رائعان، إلاّ أنهما ليستا روايتين ممتازتين، وهذان العملان في سيرة أيّ روائي آخر أقلّ موهبة من ماركيز يستحقّان الإهتمام والإعجاب، أمّا عند ماركيز بالذات فهما عملان يمكن قراءتهما بمتعة، ولكن ليس بالمتعة التي يجدها القارئ عند قراءته لأعمال أخرى رائعة للكاتب وفى مقدمتها «مئة عام من العزلة».
إنّ غارسيا ماركيز اليوم يبدو لنا وكأنّه يكتب قبالة مرآة، ويوحي لنا بأنّه يتوقف بعد كلّ برهة لينظر إليها ويتأمّل نفسه مليّاً وليهنّئها كلما كتب جملة أو فقرة أو إستعارة أو مجازاً، لا يعاتبه ولا يحاسبه أحد على ذلك، إنّه قد ترك وراءه التواضع وهو اليوم يمشي مرحاً، وصبباً في خيلاء وشموخ، نظراً لما حقّقه، وأدركه من نجاح وإنتشار وشهرة واسعة.

كتاب أمريكا اللاّتينية

قال الكاتب المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينتيس إنّه تعرّف على غابرييل غارسيا ماركيز لأوّل مرّة عن طريق الكاتب الكولومبي(الذي إختطفته يد المنون مؤخّراً كذلك) الفارو موتيس الذي أهداه في الخمسينيات من القرن الماضي إحدى رواياته الأخيرة منبّها إيّاه بولادة كاتب كبير. ويشير فوينتيس أنه في ذلك الوقت كان يشرف على مجلة «المكسيك الأدبية» التي نشر فيها نصوصاً مطوّلة عبّر فيها عن إعجابه بأعمال ماركيز الأولى التي وقعت بين يديه. وعاد فوينتيس عام 1963 من جولة في أوروبّا وكان ماركيز في المكسيك، ومنذ اللحظة الأولى كان إعجاب فوينتيس بماركيز كبيراً «لخفّة روحه ومعارفه الواسعة» ثمّ توالت لقاءاتهما، وإكتشاف مصالح متبادلة بينهما. وهكذا دامت صداقتهما سنين طويلة ممّا شكّل سيرة ذاتية مشتركة. ويشير فوينتيس في هذا القبيل إن فصولاً كثيرة ممّا كتبه ماركيز وفوينتيس يمكن خلطها وتبادلها وإستعمال بعضها الآخر تحت عناوين متباينة مثل «ضائعون في سوروسكو» و»ربيع براغ» و»شهادات سيّدات عصور مضت» و»ألف آحاد في سان أنخيل» و»إرتباك صوتين» و»شخصيّات ونصوص» و»العقيد غابلات» الذي تاه عنه في «موت أرتيميو كروث» ثم عاد فوجده من جديد في «مئة عام من العزلة»، وفي فصل آخر موثوق بخيوط ملوّنة وهو «الجنرال في متاهته». ويشير فوينتيس إلى أنّه في عام 1965عندما وصلته نسخة من الصّفحات الأولى من «مئة عام من العزلة» وهو في باريس جلس دون تفكير وكتب: «لقد قرأت كتاب أمريكا اللاتينية» .
وإسترجع فوينتيس ذكريات عاشها إلى جانب الكاتب المبدع الذي يفضّل أن يسمّيه «غابو» فقط والذي قال له ذات مرّة «إنّنا نكتب الرّواية الأمريكية اللاّتينية نفسها، فصل كولومبي كتبته أنت، وفصل مكسيكي كتبته أنا، وتولّى خوليو كورتاثار كتابة الفصل المتعلق بالأرجنتين، وكتب الفصل التشيلي خوسّيه دونوسو وأمّا الفصل الكوبي فكتبه أليخو كاربنتيير.
ويشير فوينتيس إلى أنّ ماركيز رافقه على إمتداد حياته إعجاب، وحبّ، أصدقائه وخلاّنه وهم جميعاً وعلى رأسهم فوينتيس نفسه إحتفلوا بنجاحاته، وصفّقوا له بصدق وحرارة، وعلّق ماركيز على هذه التصفيقات ذات مرّة قائلاً: «ليتها كانت أصواتاً في صناديق الاقتراع «..!
وقال فوينتيس ذات يوم: «إنّه يتمنّى له مئة عام ومئة أخرى»، وعن الأوّل الذي سيرحل منّا نقول كما قال هو نفسه عن كورتاثار: «ليس صحيحاً.. إنّه لم يمت، فهناك دوماً أصدقاء يذكرونه وهم لا ينتهون». وبعد رحيل فوينتيس المفاجئ لابدّ أنّ ماركيز كرّر متحسّراً الكلمة نفسها التي سبق أن قالها هو نفسه عن كورتاثار. وبعد موت ماركيز بعدهما لا جرم أنّنا نكرّر اليوم ما قالاه هما الإثنان معاً…! (أنظر مقالي حول هذا الموضوع في «القدس العربي» بعنوان «وداعاً كارلوس فوينتيس..غابت شمس المكسيك السادسة» العدد7129 بتاريخ 17أيار/مايو2012).

محمّد محمّد خطّابي

قديم 04-20-2015, 11:25 AM
المشاركة 26
خالد العاطفي
كاتـب وأديـب سعـودي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جهد رائع منك ..
استاذي القدير ايوب صابر
استمتعت بتواجدي
في هذا القسم
تحية وتقدير لك

على قيد الحياة .أمل وعمل وقصة أخرى ..!!
قديم 05-11-2015, 08:00 AM
المشاركة 27
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
غَابرْيِّيلْ غَارْسِّيَا مَارْكِيزْ في فَضَاء الوَاقِعِيَّة السِّحْرِيَّة
محمّد محمّد خطّابي
may 10, 2015

غرناطة – «القدس العربي» يعالجُ كتاب «غابريّيل غارسّيا ماركيز في دائرة الواقعيّة السّحريّة»، الصّادر مؤخّراً للزّميل مصطفى الحمداوي، موضوعاً ساحراً مسحوراً، وهو «الواقعيىة السّحرية في أدب أمريكا اللاّتينية»، وبشكلٍ خاصّ عند صاحب «مئة سنة من العزلة» الذي مرّت ذكرى رحيله الأولى في 17 أبريل/نيسان الماضي2015، (أنظر مقالي حول هذا الموضوع في «القدس العربي» العدد 8080 بتاريخ 20 أبريل 2015)، لقد سبق لي أن زرتُ الضّيعةَ، أو القريةَ، وأخيراً المدينةَ الصّغيرة التي وُلِد وعاش وترعرع فيها ماركيز في كولومبيا (أراكاتاكا)، (حوالي 40000 نسمة) التابعة لإقليم «ماغدالينا» الكاريبي، التي أصبحتْ في ما بعد مَاكُونْدُو، في روايته الكبرى الآنفة الذكر، وذلك خلال عملي وإقامتي في هذا البلد الجميل، والتي أصبحت اليوم مشهورةً في مجموع بلدان أمريكا اللاتينية، وعلى الصعيد العالمي بفضل إبنها البار الذّائع الصّيت الذي تحوّل منزله (مسقط رأس الكاتب) فيها إلى متحفٍ دائم، وغدت أراكاتاكا بالتالي محجّاً جذّاباً يتقاطر عليه عشّاقُ الأدب، وإبداعات ماركيز على وجه الخصوص من كلّ حدب وصوب.
لقد راعني، وبهرني المجهود المحمود الذي بذله المؤلف في إخراج هذا الكتاب إلى النّور والظّهور. واستمتعتُ، وأنا أقرأ بعضَ أسْطُرِه التي تحاول أن تستكنه وتستبطن أغوارَ هذه الحركة الإبداعية السّحرية عند ماركيز، التي تنحدر من غياهب التّاريخ السّحيق لسكّان القارة الأمريكية الذين عشقوا الحريّة والحياة الكريمة، وهاموا بالطبيعة وتسربلوا بسحرها، فالواقعيّة السحريّة.. مشاعر وأحاسيس واستقراءات وحكايات وقصص وأساطير وأمثال مأثورة، وأقول سائرة وأشعار متواترة، وتراث متوارث وأحلام، وبعض أضغاث أحلام عاشها وحلّق في فضاءاتها الفسيحة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً السكّان الأصليــــّون لهذه القـــارّة في شقّها الجنوبي (السُّفْليِ) كما يحلو أن يطلق عليه أحدُ أساطينها الذي اختطفته يد المَنُون مؤخراً (13 أبريل 2015) وهو الكاتب الأروغوائي إدواردو غاليانو الذي أوليناه حقّه في كتابي «ذاكرة الحلم والوشم..».

رُولْفُو والواقعيّة السّحريّة

ظهر هذا الفنّ الإبداعي الجميل (الواقعية السّحرية) وتفتّق، وانبثق عند العديد من الكتّاب، والمبدعين في أمريكا اللاتينيّة الآخرين أمثال الكاتب المكسيكي المعروف خوان رولفو، الذي يُطلِق عليه بعضُ النقّاد (بأبي الواقعيّة السحريّة في أدب أمريكا اللاّتينية)، وميغيل أنخيل أستورياس وكارلوس مونسيفايس، وكارلوس فوينطيس وأوكتافيو باث، وأليخو كاربنتيير، وماريو برغاس يوسا، وخُورخي لويس بُورخيس، وخُوليو كُورتاثار، وإيرنيستو ساباتو، وألفارو مُوتيس، وإيسابيل أليندي، هذه الرّوائيّة التشيليّة التي خرجت من مِعطف ماركيز نفسه، وسواهم كثير.
يعتبر هذا الكتاب إرهاصاً مُبشّراً، وإعلاناً مبكّراً للتعرّف على كاتب فذّ، شقّ طريقه في عالم الأدب والكتابة، بعزيمةٍ وإرادةٍ، وروحٍ عصاميّة صلبة في متاهات دروبنا الحياتية الوعرة، وبين آجامٍها ومشاقّها، وأهوالها. يطبع هذا الكتاب لغة عذبة ومُيسّرة، وأسلوب مَرِحٌ مُريح، كتاب ينفذ إلى أعماقك، ويحرّك فيك مشاعرَك، ويُدغدغ لواعجَك، وفضولك، إنه يؤول بهذا الصّنف من الإبداع الفطري الجميل إلى ينابيعه الأولى الصّافية، لأنّ ديدنه هو محاولة استعادة تجسيم مفهوم الواقعية السّحرية لدى ماركيز، (الذي يعترف صراحةً لنا أنّه تلقّن بعض أسرار، ومكامن هذا الفنّ الإبداعي عند رولفو، وذلك عندما أهداه أحدُ أصدقائه الحميمييّن، وهو مواطنه الرّاحل الكاتب والشاعرالكولومبي ألفارو موتيس كتابيْ رولفو «بيدرو بارامو»، و»السّهل الملتهب» وقال له: «خُذْ تعلّم»..! الشّيء الذي جعل ماركيز يقول فيه، وعنه في ما بعد عن اقتناع شهادته التاريخية، والاعتراف له بقصب السّبق والتفوّق في هذا المجال :»ثلاثمئة صفحة من مجموع أعمال رولفو رفعته إلى مقام سوفوكليس»، كما ظهرت هذه الحركة لدى سواه من المبدعين من مواطنيه، وبني طينته، وأبناء جلدته في أمريكا اللاتينيّة وتقريبها من القارئ بشكلٍ خاص بعد الطفرة أو (البُّومْ) الأدبي الشّهير الذي عرفته هذه القارّة منذ النّصف الثاني من القرن المنصرم.

عناقُ الواقع بالأسطورة

ولكن ما هي في العُمق الواقعيّة السحريّة..؟! لكي تتّضح لنا صورة هذه النّزعة الأدبية بوضوح، دعنا نبحث، وننقّب عنها عند أحَدِ أبرز أقطابها، ومُبدعيها الكبار، وهو خوان رولفو نفسه، إذ يميّز الأدب الأمريكي اللاتيني طابع خاص، وهو ما يُطلق عليه بـ»الواقعية السّحرية» وهي ضربٌ من الأدب تظهر فيه الأحداث السّحرية الخيالية وسط أحداث واقعية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة.هذه النزعة عُرِف بها بالفعل خوان رولفو، والتصقت بأدبه، وإبداعاته على قلّتها قبل أن يشتهر بها غابرييل غارسيا ماركيز، إلاّ أنّه عندما سُئل ذات مرّة حول ما إذا كان هو مُخترع هذا التيّار الأدبي في أمريكا اللاتينية، وعن معناه، قال رولفو: «إنّ صاحب هذا التيار هو الكاتب الإيطالي ماسّيمو بونتيمبلي (القرن التاسع عشر)، وهو بمثابة مفتاح يعيننا على فهم، واستساغة أو استيعاب الأدب الإيبروأمريكي. ويعتقد رولفو رّغم تأكيده على أنه ليس من أنصار التعميم، أنّ هناك بعض الخصائص المشتركة في أدب القارة الأمريكية، خاصّة في البلدان التي كان فيها وجود مكثّف للسّكّان الأصليين. لهذه الظاهرة مبرّراتها التاريخية، فالجماعات السكّانية الأصلية في القارة الأمريكية تتّسم بهذه الخاصّية. إذ أنّ هناك صراعاً قائماً بين معتقداتها القديمة المتوارثة والمذهب الكاثوليكي، وهؤلاء السكّان لم يقعوا قطّ تحت تأثير هذا المذهب كليّا. فمعتقدهم القديم ما زال قائماً يتجلّى في مختلف طقوسهم الاجتماعية، وفي العديد من مظاهر حياتهم اليومية.

الواقع الرّائع

ويرى رولفو أنّ السِّحر عند الهنود هو نوع من السّلوك يقدّمون من خلاله نوعاً من التعبير عن الإذعان للطبيعة وقوّاها. والسّحر بالنسبة لهم كذلك استكناه للماضي وبحث عنه. إنّ هذا الحيّز أو المكان الذي يحتلّونه ويعيشون في كنفه لا وجود لشيء فيه سوى الماضي. فالهنود- مثل الفراعنة- يعتبرون الموت عودة إلى الأصل، وهذا ما يفسّرعدم خوف الهندي من الموت، وهذا أيضا سرّ احتفائه به في العديد من المناسبات، بل أنّ هناك يوماً في العام عندهم يُسمّى بيوم الموتى. وهكذا يتلقف الكاتب هذا العنصر القائم بين الواقع والسّحر، ومن هنا يستمدّ هذا التيّار اسمَه. ويضرب رولفو مثلاً بالكاتب الكوبي أليخو كاربنتيير الذي تالّق في هذا الجانب كذلك، فأوجد مصطلحا آخر في هذا الصدد وهو «الواقع الرّائع» إلاّ أنّ رولفو يوثر، ويفضّل مصطلح «الواقعية السّحرية»، نظراً لما يتضمّنه من عودة إلى ماضي السكّان الأصلييّن. فالأدب في أمريكا اللاتينية وثيق الصّلة، ولصيق بهذا المفهوم، إذ أنّ هذه الظاهرة غالباً ما تجد مواضيعها في الأسطورة، والخرافة، والتاريخ، والسّحر، والغيبيّات بمعانيها الواسعة الطقوسيّة، والجماليّة وفى الإستاطيقا، وينهلُ أصحابه من الينابيع الأولى لشعوب هذه القارّة .

مَا… وَمَنْ نحن؟

ويحاول أصحاب هذا الاتجّاه الإجابة عن التساؤل التالي: مَا… وَمَنْ نحن؟ (للعاقل ولغير العاقل)، فيشير خوان رولفو بخصوص أحد أبطاله في قصّته المعروفة «بيدرو بارامو» إلى أنّه دائمُ البّحث عن الماضي في « أناه» وفي جذوره السُلاليّة التي يجسّدها في طفولته التي تمثل أسعدَ سني عمره، وأرغدَ مراحل حياته.
وفي نظر رولفو فإنّ الحضارة الغربيّة على الرّغم من الضغوط التي مارستها على المواطن الهندي، فإنّها في الواقع لم يكن لها تأثير كبيرعلى السكّان الأصلييّن، فقد تركت هذه الحضارة الهندي في منتصف الطريق، ولم تفلح في المسعى الذي بدأته منذ خمسمئة عام ونيّف في طمس شخصيته، وتشويه صورته، وإتلاف تاريخه، وبعثرة عوائدة، وتقاليده، وعاداته، وإقامة قطيعة بينه وبين ماضيه.
الشّعور بفداحة الموقف، وتجسيم الجمال، والاستبطان الجوّاني عن طريق الحُلم بعيون غير مُغلقة، والتحليق في عوالمه الفسيحة، هذا الصّنف من الإبداع يدفع القارئ إلى التأمّل، وإعمال النظر، والعودة إلى الينابيع الأولى، والرّجوع إلى الجذور البعيدة والأحلام، وبقايا الأوشام التي تتراءى للنائم في ما يرى في أحلامه، تتغلغل في متاهات الماضي الغابر وثنايا الزّمن الذي ولّى، ومضى وانقضى، وذهب لحال سبيله، ولكنّ آثاره وتأثيراته، وانطباعاته ما زالت بادية للعيان، وما انفكّت باقية راسخة في مخادع القلوب وعالقة بين طيّات الألسن.
كتاب من هذا القبــــيل – على صغر حجمه- يتحتّم على القارئ أن يقـــرأه بلطفٍ وتأنٍّ ..عليك أن تحتال وأن تتحايل عليه، كلمات وحروف ومشاعرسحرية حالمة هائمة تحملك على راحتها، وتعانق الواقع المعاش قديماً، وتغوص بك في فضاءات أحلام أثيرية فسيحة لا تحدّها حدود، ولا تقيّدها قيود.

الدّائرة والفضاء

ولئن عتبتُ على صاحب الكتاب شيئاً، لقلت إنّ الذي استرعى انتباهي فيه بضربٍ من الشّدوه هو «عنوانه»، فالعنوان يعتبره غيرُ قليلٍ من الكتّاب والنقّاد من الأهميّة بمكان، إذ هو مفتاحَ الدّخول، أو كلمة السرّ في عالمنا العنكبوتي المتشابك المعاصر، أو عبارة «إفتح يا سمسم» في الحكاية الألفليليّة إيّاها المعروفة، أو مصباح ديوجين في حِلْكة الليل، لقد كانت أمنيتي أن يستبدل المؤلف كلمة (دائرة الواقعية السحريّة) التي توحي بالضّيق والانسداد والانغلاق والقيد والمحدودية والاستدارة بكلمة (فضاء الواقعية السّحريّة) التي تُوحي بفُسحة الأحلام والانفتاح والسّعة والتحليق والتفكير الطّلــــيق والإقلاع والسَّفَر والتّجوال والتّرحال، والانطلاق في ســـرمدية شساعة هذا الكون الأثيري اللاّمحدود، وفي طيّات التاريخ الحافل البعيد زماناً ومكاناً لأجداد أجداد أصحاب هذا الصّنف من الأدب الإبداعي السّحري الجميل، الذين لم يستعملوا، ولم يعرفوا لا في تاريخهم، ولا في ثقافتهم، ولا في حضارتهم (لاعند المايا، ولا الأزتيك، ولا الإنكا، ولا المُوشيك..) «العَجَلَة « قطّ سوى «عجلة» التقويم أو حَجَر الشّمس لحساب الزّمن، أو «الدوائر» الهندسية، والمعمارية، والمصوغات الذهبيّة .
ويحضرني وأنا على مشارف الصّفحة الأخيرة من هذا الكتاب التعبير البليغ، والتعريف الرّائع الذي سُقته، واستعملته في العديد من المناسبات عند تعرّضي لهذا الموضوع في آداب أمريكا اللاّتينية، والذي قاله ذات يوم قُطْبٌ من أقطاب الواقعيّة السّحريّة في القارّة الأمريكية كذلك، وهو الكاتب الأرجنتيني المعروف صاحب كتاب (الألف) أولى الحروف العربيّة الذي وضعه عنواناً جميلاً لأوّل مُؤلَّفٍ له، ولفاتحة باكورة أعماله، إنه المبدع ذُو الرّأي الثاقب والأدب البديع والبّصيرة النافذة خورخي لويس بورخيس، عندما قال: «الواقعيّة السّحريّة هي أن تحلم ذات ليلةٍ أنّك كنتَ تتجوّل في حديقةٍ غنّاء… وعندما تستيقظ في الصّباح تجد في يدك وردة…» .

محمّد محمّد خطّابي


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: مائة عام من الغزلة : ما الذي جعلها واحدة من اروع الروايات .. نظرة معمقة
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نِعَم الهداية و التوفيق و العصمة و الاستقامة د محمد رأفت عثمان منبر الحوارات الثقافية العامة 0 03-21-2016 03:39 PM
القصص النبوية قتل مائة نفس أ محمد احمد منبر الحوارات الثقافية العامة 2 01-09-2016 07:29 PM
من اعظم الروايات - رواية قلب الظلام the heart of darkness لجوزف كونراد - نظرة معمقة ايوب صابر منبر الآداب العالمية. 3 04-17-2014 08:47 PM
ورشة عمل: اروع مائة رواية عربية تحت اضواء النقد ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 3 12-28-2011 11:05 PM

الساعة الآن 03:17 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.