قديم 05-31-2012, 08:23 AM
المشاركة 741
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بلاغة الاستهلال في روايات عبد الكريم غلاب

رشيد بنحدو
تكتسي الجمل الأولى في المحكي الروائي أهمية مزدوجة: فهي، من جهة أولى، تمثل جسرا نصيا يتم فيه شروع القارئ في الانتقال ذهنيا من عالم الأشياء، إلى عالم الكلمات، أي من عالم الحقيقة إلى عالم التخييل. وغالبا ما يرافق هذا الانتقال -الذي يمنح الذات القارئة وجودها الفعلي بعد أن كانت موجودة بالقوة فقط- إحساس غامض لديها بالعسر والارتباك قد يثنيها قبل الأوان عن مواصلة القراءة. ويرجع ذلك إلى أن القارئ، لحظة بداية اقتحامه للنص، يكون بعد مشدودا إلى عالم حياته اليومية، وأن مبارحته له، باعتبارها تخطيا لهوية وجودية حقيقية، لن تكون إجراء عاديا ولا بسيطا.
ثم هي، من جهة ثانية، تمثل عتبة استراتيجية يتم فيها شروع النص نفسه في التخلق والوجود كخطاب متصل، أي في المرور من مجال الواقع إلى مجال الخيال، من الما قبل إلى الما بعد، وذلك بوساطة محفل سردي سيمكن هذا النص من الانبساط التدريجي كديمومة خطابية في فضاءي الكتابة والقراءة.
ونظرا إلى ذلك، فقد بدأ النقد في الأعوام الأخيرة يولي الجمل الأولى في النص الروائي منتهى الاهتمام، حيث حدد أشكالها المختلفة باختلاف البنية التلفظية الشاملة التي تندرج فيها، وعين وظائفها المتنوعة بحسب الجمالية الروائية التي يستند إليها هذا النص. لا جمله الأولى فحسب، بل كذلك جمله الأخيرة بما هي فضاء ختامي يستأذن فيه المحكي القارئ في الانصراف عنه، فينغلق على صدى أو ذكرى نص سيظل عنوانه رمزا كنائيا يشهد عليه.
وإسهاما في توضيح هذه الأهمية المزدوجة، سأفحص في روايات عبد الكريم غلاب(1) جملها الأولى فقط التي استهلت بها ملفوظها الحكائي، والتي سأدعوها "مطالع" (كترجمة لـ "incipits")، حيث سأسعى إلى تنميط أشكالها وتحديد وظائفها ودلالاتها وتحليل رهاناتها، دون اهتمام الآن بجملها النهائية التي أدعوها "مقاطع" (كترجمة لـ "clausules" أو "explicits" أو "exipits").
ومن باب الاستطراد الذي لا يفتقر إلى الملاءمة، يجمل الإلماح إلى أن الخطاب النقدي والبلاغي العربي القديم قد عني بـ"مطالع" النص الشعري، (أو "ابتداءاته" و"استهلالاته" و"افتتاحاته")، من حيث انتهاجها لآثار أسولبية، ذلك أن "حسن المطالع والمبادئ دليل على جودة البيان، وبلوغ المعاني إلى الأذهان، فإنه أول شيء يدخل إلى الأذن، وأول معنى يصل إلى القلب، وأول ميدان يجول فيه تدبر العقل"(2). ووعيا من النقاد بأهمية الترابط العضوي بين المطالع والمقاطع -حيث تصوروا "أول الشعر مفتاحا له وآخره قفلا له"(3)- فقد اشترطوا في كل "من نظم شعرا أو ألف خطبة أو كتابا أن يفتتحه بما يدل على مقصوده منه، ويختمه بما يشعر بانقضائه، وأن يقصد ما يروق من الألفاظ والمعاني لاستمالة سامعيه"(4).
* * *
بين الماقبل والمابعد:
تكتنف مطلع "سبعة أبواب"، مثل كل استهلال روائي، مشكلة الحد الذي ينتهي عنده. وهي المشكلة التي تنحل من تلقاء ذاتها بالاستناد إلى نص المطلع نفسه. بالفعل، تعلن نهاية المطلع عن نفسها بالتحول من صيغة الخطاب التي تميز عتبة الرواية ("لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن، ولذلك لم أكن لأتهيب السجن كما يتهيب الأطفال باب المدرسة لأول مرة، ولم أباغت بالسجن يصدر حكما من فم القاضي أو رئيس الشرطة، كما يباغت الخارجون عن القانون حينما لا يتوقعون نتيجة ما يرتبكون، بل إني كنت أسعى إليه عن عمد وسبق إصرار كما يقول رجال القانون" (ص 9) إلى صيغة سردية خالصة تنفتح بقول السارد-المؤلف/ "واقتربت محنة عشرين غشت، وابتدأت تتجمع نذر الكارثة في الآفاق"(ص11). فكأن هذا الاقتراب إيذان بالابتعاد عن روح التعليق التي تطغى على الخطاب، وهذا الابتداء مؤشر على انتهاء نبرة التقرير التي تطبعه.
ولعل الانطباع الفوري الذي يرتسم في ذهن المتلقي، لدى مباشرته اقتحام مطلع الرواية، هو أن هذه، باعتبارها جوهرا نصيا في طور الوجود، أي في بداية تخلقها، تحيل على جوهر آخر غير نصي يتمتع بوجود قبلي، وذلك بدليل أن ابتداءها بهذا الملفوظ: "لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن" يفيد ضمنيا بأن السارد قد عرف السجن من قبل مرات عديدة. وهذا يعني من جهة أن السارد -ومعه القارئ المفترض- ما يزالان متعلقين على نحو وثيق بعالم سابق على السرد والكتابة هو عالم الواقع، ويعني من جهة أخرى أن ملفوظ المطلع هو ذلك المجاز النصي الذي يعبر فيه كل من السارد والمسرود له من عالم الواقع ذاك إلى عالم التوقع، أي عالم التخييل الروائي، مما يجعله في موقع التخم.
وكما هو شأن سائر المطالع، فإن هذا العبور قد تم بنوع من العسف والعنف. فالنص لا يدشن محكيه مثلا بإعداد القارئ لاقتحام عالمه بتعابير مثل "يحكى أن …"، بل يحتال في اقتلاعه من واقعه وقذفه بقسوة إلى واقعه الخاص. وسيكون هذا القارئ في آن واحد ذات التجربة التي سيعيشها -بحكم رجحان تماهيه مع الأنا المتلفظة- وذاكرة لما عاشه، بحيث إن الكلمات التي سيشرع في قراءتها، من دون أن تكون له بعد مرجعية أخرى غير مرجعية العالم الذي يكتنفه والذي سيبارحه بعد حين، تفترض أن بينه وبين النص تجربة مشتركة تتعلق بعالم الممكن والمحسوس.
فلئن كان هذا المطلع يحتل، مثل كل مطلع، موقع التخم كما تقدم، أي "الحد بين الصمت والكلام، بين الماقبل والمابعد، بين الغياب والحضور"، فإن هذا "لا يعني الحد بين العدم والوجود، [ لأن ] أي عمل أدبي لا ينبني على العدم. فلا يمكن للشروط التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية والفكرية والنفسية واللغوية التي تسبقه أن تكون فراغا"(5). بالفعل، تعلن "سبعة أبواب" عن انخراطها في التخييل بواسطة متوالية خطابية استهلالية ذات نبرة مزدوجة تختص بها عادة لغة التأملات والخواطر: نبرة استطرادية ("كنت إذن أعرف المصير وأسير في طريق السجن راضيا مطمئنا. وقد دهشت حقا إذ مرت مناسبات مهمة لتصفية الاستقلاليين والمثقفين والعاملين، ولعزلهم خلف الأسوار العتيدة أو وراء الأسلاك الشائكة والمراكز المنعزلة. ولكنني رغم الدهشة كنت أو من بأن دوري آت لا ريب فيه" (ص 10)، ونبرة تقريرية ("وكانت الشهور المشحونة بالتيارات تتجمع في الأفق لتنذر بالكارثة، تؤكد أن المصير هو باب السجن" (ص 9). وتبرز هذه المتوالية الخطابية على خلفية ضمنية من الإشارات المادية المشتركة بين القارئ والنص، والتي تدل على مناخ تاريخي واجتماعي ما، وتحدد بالتالي عتبة إدراك معين. فإضافة إلى كونها فضاء يتحقق فيه "أثر الواقع" بامتياز-مما يعني أن النص يوحي منذ مطلعه بأنه ما يزال مشدودا إلى ما قبل النص-فهي (أي تلك المتوالية) فضاء يعكس سياقا سياسيا محددا في لحظة تاريخية محددة كذلك، ألا وهما "ثورة الملك والشعب" في غشت 1953، ومساهمة المؤلف- السارد في إشعال فتيل تلك الثورة، وهو ما قاده إلى السجن، إيمانا منه بضرورة الالتزام بقضية الوطن واتخاذ موقف ضد قوى النكوص والخيانة.
ولا ريب في أن ما يقوي أثر الواقع في المطلع هو أن السارد لا يباشر فقط وظيفة الحكي، بل يتجاوز ذلك إلى التورط في الأحداث المحكية، مستعملا ضمير المتكلم. فهو إذن سارد "داخل-حكائي" (intradiégétique) حسب اصطلاح Gérard Genette(6) أي مشخص في المحكي. وقد خولته هذه الصفة تبئير السرد على ذاته دون سواه من الشخصيات أو الأماكن أو الأزمنة. فزيادة على إهماله تحديد مكان الحدث المحكي في المطلع وزمانه -مما يعني تأجل سيرورة الانتقال من الواقع إلى المتوقع- فهو يستأثر بامتياز البروز على حساب باقي الشخصيات، متخذا من نفسه بؤرة لخطابه. ألا يتعلق الأمر في "سبعة أبواب" بـ"ذكريات تصور تجربة حية عاشها الكاتب فعلا، وهي تجربة السجن ستة أشهر رهن التحقيق أيام الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي لتحرير الوطن المغربي من سيطرته" كما ورد في غلاف الكتاب؟ لذلك، فهو الأنا الساردة والأنا المسرودة في آن واحد، مما أعطى لخطابه نسبة عالية من قابلية التصديق. فكأن مهمته تتعدى السرد الموضوعي لتجربته إلى الإدلاء بشهادة منزهة عن الافتراء والمغالاة. فهو بمثابة "شاهد أو مؤتمن على أسرار أو ملاحظ يحول حضوره النص إلى محاكاة للواقع غير مشكوك في أمانتها"(7).
يتضح إذن أن ما يميز هذا المطلع، بسبب إحالته على عالم جاهز موجود قبل فعل الكتابة، وبحكم طبيعة محفله السردي ونوعية سجله التلفظي، هو كونه فضاء ينبض بآثار الواقع الذي يبدو أن المحكي يتردد في مبارحته من أجل ارتياد آفاق السرد التخييلي. لذلك، ليس غريبا أن يستنفر في المتلقي كفاية قرائية إحالية، تجعله منجذبا بقوة نحو الأنا المتلفظة إلى حد التذاوت معها، وأن يضطلع بالتالي بوظيفة تحقيق التواصل بين النص وهذا المتلقي، التي تزدوج بوظيفة مناورته من أجل إغرائه باقتحامه، خاصة وأن توسل المطلع، وكذا المحكي كله، بضمير المتكلم، كفيل بتحويل القارئ من ذات مستهلكة للنص إلى ذات منتجة له ومتورطة فيه.

قديم 05-31-2012, 08:23 AM
المشاركة 742
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تنصص الواقع:
لعل ما يؤشر على نهاية المطلع في "دفنا الماضي" هو ذلك التحول الواضح من سجل الوصف إلى سجل السرد(8). فالرواية تفتتح متخيلها بمطلع وصفي طويل يبتدئ بمستهل الفصل الأول: "كان حي المخفية بمدينة فاس مقر عائلة (التهامي)، وهي عائلة بورجوازية موسرة من هذه العائلات التي كان لها حظ من مال وحظ من جاه وحظ كبير في التشبث بالتقاليد والمحافظة على الوقار في المجتمع الضيق الذي تعيش فيه. وهو مجتمع لا يخرج عن الحي الذي تسكنه العائلة" (ص 7)، وينتهي بمستهل الفصل الثاني: "كان الحاج محمد يخرج من منزله في الصباح الباكر إذا لم ترهقه شدة البرد وغزارة الأمطار، فقد ألف منذ كان شابا أن يشهد الحي وهو يفيق من نومه وهدوئه، تنبعث الحياة هادئة ناعمة في أوصاله كما تنبعث اليقظة في أوصال الرجل وهو يتمطى فيه فراشه ويتسلل من نومه" (ص 13). ويسعفنا فحص هذين الحدين النصيين على تلمس الانتقال من سجل إلى آخر. فهما، رغم ائتلافهما في الابتداء بفعل مشترك، يختلفان بسبب المضمون الدلالي والوظيفي لهذا الفعل في كل من الحالتين: فإذا كان الملفوظ الأول يبتدئ بـ "كان" بما هو فعل كينونة خالص يصف فضاء الحي بالمقر الذي يحتضن شخصيات الرواية، فإن الملفوظ الثاني يبتدئ بـ "كان" بما هو فعل ديمومة محض يسرد حدثا تعودت على فعله شخصية الحاج محمد، وهو خروجه مبكرا كل صباح للتمون، مما يجعله، بتعبير Genette، ملوفظا "إعاديا" (itératif)، أي "يقص مرة واحدة حدثا وقع مرات عديدة"(9).
ويعتبر هذا التحول اعتياديا في رواية واقعية مثل "دفنا الماضي". فهي، قبل شروعها في السرد، و "لأسباب تتعلق بالتثبيت الإحالي وببروتكول القراءة"(10)، تنصب على عتبتها الإطار المرجعي الذي سيتحقق فيه ما يدعوه Claude Duchet "تنصص الواقع"، أي تحوله إلى نص حكائي بوساطة خطاب وصفي يحدد صورة المكان والزمان والشخصية، وذلك بحسب "إجراءات مشفرنة تنظم طقوس المرور من واقع (العالم) إلى واقع آخر (النص)، على نحو يتم به تجهيز الفضاء (قبل الحكائي) بما يكفي من الكثافة والعمق ليكون للقصة ماض ونقط تثبيت وإحالات تضمنها. هذا في الوقت ذاته الذي يوحي فيه هذا الفضاء بأنه موجود من تلقاء نفسه كامتداد لواقع جاهز وانقطاع عنه في آن واحد"(11).
وتؤلف هذه الإجراءات بلاغة استهلالية تتكفل مباشرة بالجواب عن أسئلة النص المحورية: من يفعل الحدث أو ينفعل به؟ أين يقع؟ ومتى وقع؟
-ففي الوقت الذي يشرع فيه صوت السارد في التلفظ (يناظره شروع مسرود له في التلقي)، تبدأ في التخلق صورة الشخصية التي ستشكل سناد الحدث الأولي. ففي المطلع تصوير مسهب لعميد عائلة التهامي الحاج محمد يهم هيئته البدنية ومظهره الخارجي بحسب الفصول وسلوكه "المستوفي لشروط الوقار والاحترام" (ص 11).
-كما تتحدد في المطلع صورة المكان الذي ستظهر على خلفيته الشخصية هذه، سواء كان هذا المكان حيزا جغرافيا رحبا هو حي المخفية بفاس الذي تستوطنه عائلات "اكتسبت حظا من الثراء وحظا من الجاه" (ص 7)، أو كان قصرا بهذا الحي "توارثته عائلة التهامي(…) تحالف عليه القدم والبلى (…) وتعاقبت على سكناه أجيال" (ص 8)، أو كان فضاء رمزيا يعكس قيم "التشبث بالتقاليد والمحاكمة والمحافظة على الوقار" (ص 7).
-أما الزمن، فيطابق زمن القصة الذي يمكن لملمة عناصره انطلاقا من قرائن نصية غير مباشرة منبثة في النسيج الوصفي للمطلع.
ويقوم بتحبيك هذا الإطار، الذي "يصور نموذجا متناهيا لعالم غير متناه"(12)، سارد "خارج-حكائي" (extradiégétique) بلغة Genette(13) أي غير مشخص في المحكي. وهذه الوضعية تسمح له بمعرفة كل شيء عن كل شيء، مما يبرر تقصيه في تصوير الحي وسكانه وعاداتهم وقيمهم وكذا القصر ومعماره وسكناه ونمط حياتهم اليومية على نحو يشبه الوصف الإثنوغرافي للمجتمع، وذلك في أسلوب تسجيلي ينبئ بطبيعة الجمالية الروائية التي ستستوحيها لغة السرد.
ومن ثم، فإن هذا المطلع يضطلع بوظيفة تخصيصية بما هو فضاء تتحدد فيه السمات الأسلوبية الخاصة التي ستطبع الرواية ككل، ومن ثم ستبني بلاغته الكتابية الخاصة، القائمة على الشفافية والمباشرية والنزوع إلى التصوير والتشخيص، تنضاف إليها وظيفة تأطير الحدث (الذي سيتبلور في الفصول اللاحقة) من حيث مكان وقوعه وزمانه وكذا فاعله أو المنفعل به، لكن أبلغ وظائفه أثرا في تحديد إنتاجيته ومقروئيته هي بدون شك وظيفة التجنيس. ففي عتبتها أعلنت الرواية عن انتسابها المطلق إلى الجمالية الواقعية، ذلك لأن "المطلع، بما هو فضاء استهلالي، يدرج النص ضمن نمط جنسي جمعي. ففي بدايته، يتخذ النص، بطريقة خفية أو معلنة، موقفا من نموذج يصدر عنه نموذج الرواية الواقعية أو الرواية السيكولوجية أو الرواية الجديدة…، نموذج يلعب دورا إحاليا بالنسبة للروائي وللقارئ معا. لذلك ليس المطلع بريئا ولا يمكنه أن يكون بريئا بحكم إحالته على هذه النموذج"(14).
تجذر مزدوج:
تباشر رواية "المعلم علي" سيرورة تخلقها بحوار طويل بين شخصية علي وأمه فاطمة، سيمتد إلى حد مستهل الفصل الثاني الذي يتراكب فيه السرد والوصف: "على باب المطحنة، كان يقف تحت سقيفة من صفيح دقت على خشبة مهترئة، يحاول أن يتقي بها المطر المتهاطل كأنما ينصب من أفواه القرب. عيناه زائغتان تتلفتان ذات اليمين وذات الشمال كأنهما تبحثان عن مستقر. فكره منفعل مشتت لا تنعكس عليه أضواء الصباح ولا يتسم بهدوئه…" (ص 15).
وأن تبدأ الرواية متخيلها بمطلع حواري، فهذا يعني أنها لا تدشن كينونتها على أساس خطاب وصفي يعين الخلفية الزمكانية لوقوع أحداثها وتحرك شخصياتها، أو خطاب سردي يصوغ بنيتها الحدثية، وإنما تدشنها على أساس خطاب خارجي جاهز تسعى إلى مزايلته، وهو الواقع:
"- أفق يا بني، أفق. فقد اضاءت الشمس مشارف السطوح.
- خو…خو…
- أفق يا علي، مالك أصبحت ككيس رمل لا تطيق حراكا…
- أوه…
ندت من علي وهو -يشير بيده متأففا- غارق في نومه العميق، وكأنه في أول ليله…"(ص - ص 5-6).
ولا غرابة في أن يتسم سعيها هذا بنوع من التمحل والتكلف هما من سمات جميع المطالع الروائية. فهذا المطلع يوحي بأن الرواية بادرت إلى مفارقة "ما قبلها" بافتعال حوار بين شخصيتين دون سابق إشعار يبرره ويضفي عليه شرعيته. لذلك، فهو "يجسد صعوبة كل بداية، أي التوتر الناجم عن هذا الرهان: أن يكون الواقع، في ذات اللحظة التي ينزاح فيها عن هذا الواقع لينخرط في الخيال"(15).
والرواية، بمطلعها الحواري هذا، تقذف القارئ رأسا وبمنتهى السرعة إلى غمرة الحدث في طور وقوعه، أو لنقل، بتعبير استعاري، إن القارئ، في هذه الحالة، يركب الرواية وهي في معمعة انطلاقها. فلم يتم إعداده لاقتحام الرواية بخطاب تمهيدي ينقله تدريجيا إلى عالمها الخاص، ولا تم تجهيز النص قبلا بمشهد موصوف أو بصورة للشخصية أو بإطار للحبكة. ولا شك في أن السارد، بسكوته عن ذلك، أراد الإيهام بحكاية مشروع فيها ترسم صورة عالم ما يزال يشد الرواية إليه مثلما يشد النعاس شخصية علي إليه . فكأن ترجح علي بين اليقظة والنوم ترميز إلى تردد الرواية بين الخروج من عالم الواقع والدخول إلى عالم المتخيل:
"… ويهمهم غاضبا وما يزال النعاس يشده إليه:
-… ما يزال الليل يسدل ستاره على الدنيا وهي توقظني كما لو كنت مذنبا أساق إلى مصيري…"(ص 6).
وهو كذلك مصير الرواية (بل مصير كل الروايات) الذي يتقرر في مطلعها، أي قدرها كجوهر ذي تجذر مزدوج: تجذر في الواقع وتجذر في الخيال!
تكمن أهمية هذا المطلع "المباشر"(16) إذن في كونه "يقطع حدثا بدأ من قبل، مما يثير سؤالا أساسيا يتصل بـ"ما قبل القصة الذي لم يكشف عنه، ولكن النص يفترضه. وهذا النمط المطلعي يجر القارئ مباشرة (أي دون توسط أو تدخل ما) إلى الخوض في الحدث"(17)، وفي كونه يباشر وظيفته خاصة. فبخلاف الروايتين السابقتين، اللتين تقومان على سنن حكائي نسقي يتألف من عناصر ومتواليات سردية تتسم، صراحة أو ضمنا، بإحكام الرصف والتركيب -وهو ما يدعوه Roland Barthes بـ"السنن التأويلي"، أي "مختلف العناصر الشكلية التي بواسطتها تتمحور الحبكة وتتوكد وتتوضح ثم تتأجل لتنكشف أخيرا"(18)- فإن رواية "المعلم علي" تكسر أحد عناصر هذا السنن بابتدائها بمطلع يوحي بانفتاحاها على حبكة تكاد أن تكون جاهزة، مما يجعله يزاول وظيفة تسريع إيقاع تشكل الحبكة الروائية.
من عالم الأشياء إلى عالم الكلمات:
ينحصر مطلع "صباح ويزحف الليل" بين ملفوظ سردي ووصفي في آن مستهل بـرن الجرس" (ص 5) وبنية حوارية مستهلة بـ "-أرأيت؟ لقد كان من الغموض بحيث لم أفهم شيئا مما يقول.- ومع ذلك حاولت، ولعلني أدركت…" (ص 5). ويتمثل بلحظة ارتفاع الستار في العرض المسرحي إيذانا بنهاية الصمت والسواد وبداية انتقال الممثلين (وكذا المتلقين) من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال. فكأن رنين الجرس هو تلك الضربات الثلاث على أرضية الخشبة التي تعلن عن افتتاح اللعبة المسرحية. بالفعل، يضطلع الملفوظ المطلعي بوظيفة الوصل (embrayage). فبوساطته، تتحقق سيرورتان متزامنتان: دخول القارئ عالم التخييل الروائي وخروج الشخصيات الروائية (التلميذات) إلى عالم الاستراحة: "ولفظت الأبواب الصغيرة إلى الساحة الكبيرة مجموعات من رايحين الجنة تعبق من أردافهن حيوية ونشاط ونزق، يتدافعن في حماس كما لو كن ينطلقن لأول مرة من أقفاص يدخلنها فرحات، ويخرجن منها مستبشرات" (ص 5). وإذا كانت السيرورة الثانية تتم بنوع من التلقائية والاعتيادية، بحكم تكرر رنين الجرس "ثماني مرات في اليوم" من غير أن "يفقد أبدا حدته" (ص 5)، فإن السيرورة الأولى تتم بنوع من العنف والفجائية، بحكم عدم التمهيد لها بما يضمن تلقائيتها، من غير أن تفقد أبدا خاصتها غير البريئة. فقد دشن القارئ دخوله عالم التخييل ذاك باصطدامه العنيف بعتبة نصية مشفرنة هي ملفوظ العنوان. فبخلاف عناوين روايات عبد الكريم غلاب السابقة، وهي "سبعة أبواب" و"دفنا الماضي" و"المعلم علي" ذات الشفافية والمباشرية الواضحتين، فإن العنوان "صباح ويزحف الليل" يكتسي كثافة قوية تتطلب من القارئ كفاية تفكيكية وتأويلية خاصة. لكن دخوله الفعلي والكامل لن يتم إلا بعبوره لعتبة نصية أخرى تنقله من عالم الأشياء إلى عالم الكلمات، من عالم الواقع إلى عالم النص، ألا وهي المطلع، بما هو متوالية قصيرة من الجمل (صفحة واحدة) ذات اكتفاء دلالي ذاتي.
وكسائر العتبات، فهذا المطلع ذو وجهين: أحدهما ناظر شطر متخيل النص، والآخر ناظر شطر عالم الواقع. إنه مزدوج الاتجاه: فهو في آن واحد يفتح عالما ويغلق عالما آخر، يميز داخلا هو النص عن خارج هو ما قبل النص أو اللانص. فكأنه "بوابة المدرسة الفاصل (ة) بين عالمين (ص 7).
فهو، باعتباره مغلقا، يمثل ذلك الحيز الذي تنقطع فيه الرواية عن عالم الأشياء المحسوسة الذي استمدت منه لوازمها التكوينية، أي فضاء المدرسة والأشخاص الذين يتحركون فيه وكذا الكلمات التي تتكفل بتحقيق عمليتي الوصل والتواصل، وهو العالم الذي يحدد الإطار المرجعي الذي سيضمن محكيها ويوجهه.
أما باعتباره فاتحا، فهو (أي المطلع) يمثل ذلك الحيز الذي تشرع فيه الرواية نفسها على مغامرة التخييل والتخريف، فتولي ظهرها لعالم الأشياء المحسوسة ذاك، بحيث تصبح المدرسة فضاء نصيا، أي وهميا، ويتحول الأشخاص إلى شخصيات ورقية، وتفقد الكلمات تصديقيتها.
بهذا المعنى، فقد تحقق في المطلع نوع من التبادل الرمزي الضروري بين مقول العالم ومقول النص. فبمجرد ما شرعت الرواية في الحكي، توارى الواقع. فكأن المطلع جملة صغرى مقتطعة من جملة كبرى جاهزة كتبها العالم، منها يمتح شروط وجوده.

قديم 05-31-2012, 08:24 AM
المشاركة 743
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ولا شك في أن عبد الكريم غلاب، كغيره من الروائيين، قد واجه على عتبة روايته هذا المشكل: "من أين أبدأ؟"، أي معضلة ضمان الانتقال من الماقبل إلى الما بعد. ذلك أن "صباح ويزحف الليل"، باعتبار ترجحها بين العالم الواقعي، المفترض فيها تصويرها له، والعالم النصي الذي تشرع في بنائه واقتراحه للقراءة، قد نظمت في مطلعها سيرورة اقتحامها لذلك الفضاء النوعي الذي سيكون فضاءها الخاص، وفق بروتكول قرائي ينهض على بلاغة الاستهلال. فمن هو يا ترى ذلك الصوت الباطني المجهول الذي سيتردد صداه من مطلع الرواية ("رن الجرس" ص 5) إلى مقطعها ("حملت حقيبتها القديمة. أمسكت بيده. خطت خطواتها ثابتة جريئة صارمة إلى الشارع" ص 240)؟ إنه حتما وبداهة صوت السارد، سارد ذي رؤية خلفية صريحة. فهو، بحكم اختلاقه للمحكي، موجود في كل مكان، عارف بكل شيء، وقادر على كل شيء. إنه يشارك -ويشرك القارئ- شخصياته أحوالها وتقلباتها ويستبطن سرائرها. ورغم أنه سارد خارج-حكائي، أي غير مندمج في القصة، فهو يضفي على سرده حميمية استثنائية توحي بتماهيه، أي السارد، مع المؤلف، ومن ثم توحي بانشداد المطلع إلى عالم الحقيقة. فلنلاحظ كيف أنه، رغم كونه ذا رؤية خلفية، يتخلى عن حياده المفترض، فينساق عنوة وراء نوع من التأويل الوجداني الواقعي لدلالة رنين الجرس وما يعبر عنه من "شوق" و"أمل" و"جاذبية" و"سحر" الخ. والكلمات جميعها مقتطفة من نص المطلع. وهذا الإجراء خوله حرية رصد الأشياء والأحوال بكل تلقائية، وكأن به حنينا خفيا إلى الاندماج في نسيج القصة وتاثيره في ما جرياتها وتأثره بها. فهو لا يكتفي بعرض مكونات الديكور من أماكن وشخصيات وأشياء كما تبدو لحواسه، بل يصهرها بوجدانه ويتولاها بخياله، بحيث يصبح السرد فيضا لذاتية السارد على تلك المكونات، ويصبح الوصف إسقاطا لنفسيته واستيهاماته عليها. مما يعني أنه، أي السارد، بعد مشدود إلى ما قبل النص، الطافح بمشاعر الألفة والأنس الممكنة، بما هو "عالم فسيح عريض حافل مثير ينتهي عند باب آخر" (ص 7) هو أيضا باب ذو صلة بالواقع، أي باب البيت.
فضاء البين بين:
ففي "شروخ في المرايا"، ينتهي المطلع حيث يبتدئ الفصل الثاني بتحول واضح في "التبئير" (Focalisation)، أي في طريقة انتظام المحكي حول "وجهة نظر" محددة، إشارة إلى نوعية إدراك المحفل السردي للعالم المسرود. فالرواية تفتتح ملفوظها الحكائي بقول السارد: "كانت الأقدار معي مجازفة مرتين: حينما بشرت القابلة والدي بأن طفلا جديدا أبصر الحياة، وحينما رأيت اسمي من بين أسماء الناجحين في إجازة الحقوق. ميلادان كانا عثرة من عثرات الحياة، رغم أن الحياة لا تعترف بذلك. ما زلت أتحداها" (ص 5). ولأنه يستعمل ضمير المتكلم، محققا بذلك تطابقا تاما مع إحدى شخصيات الرواية، فإن خطابه ذو "تبيئير داخلي"، بحكم كون معرفته بالأحداث محددة بمعرفة هذه الشخصية لها ومتكافئة معها. لكنه تبئير داخلي "ثابت"، ما دام السارد يجعل من ذهنه بؤرة لتصور الأشياء، ومن وعيه مركزا لاتخاذ القرارات. غير أن هذا السارد سرعان ما سيخضع، ابتداءً من الفصل الثاني، لتقلبات عدة ستجعله في الأخير لا يتعرف على وجهه في المرآة الصافية، فيشرخها، مما يعني تحول خطابه إلى تبئير داخلي "متبدل"(19).
وفي بداية هذا المطلع، يعود السارد، بالاستذكار، إلى اثنتين من لحظات حياته الماضية: ولادته ونجاحه في الامتحان، هما أيضا لحظتان أساسيتان من حياة الرواية ذاتها: مجيئها إلى العالم، عالم الكتابة (وكذا القراءة)، ونجاحها في استهواء قارئها المفترض. فمن هو هذا السارد -الشخصية الملغز الذي يسعى إلى فرض نفسه على مخيلة القارئ بهذا النزق، أي بتعمد السكوت عن توسيم نفسه باسم يحدد هويته، وبعدم التضايق من افتعال خطاب أنا- مركزي متوتر يتذرع منذ البدء بلغة البوح التلقائي والتأمل الفلسفي والتحدي الوجودي؟ لا ريب في أن الرواية، باستهلالها المفخخ ذلك، تسعى إلى وضع قارئها في حالة ترقب قصوى لما سيحدث من بعد، مما يفيد اضطلاع مطلعها بوظيفة التشويق: "ففي حافتها، انكشف انتظار المحكي والتشوق إليه، وفيها كذلك، انجلى الأثر المنتج في المتلقي وتقدير إنجاز سردي"(20).
ولئن كانت اللحظتان الأوليان موصوفتين بكونهما مجازفتين ("جازفت الأقدار معي، أو أخطأت لا أدري. ولكن الذي أدريه أني أصبحت هكذا نتاج مجازفة" ص 6)، فإن اللحظتين الأخريين لا يمكنهما أن تكونا ثمرة الخطأ أو المجازفة. ذلك أن نجاح هذا المطلع في استمالة القارئ إليه مرهون باستراتيجية مهيأة تحرص على عدم تكرار البدايات الروائية المقولية، تلك التي تعوزها الصفات الفردية المميزة. ومن جهة أخرى، فرغم أن المطلع عتبة تنبض بآثار مرور السارد (وكذا المسرود له) بتعسف وتمحل من صورة الغياب إلى صورة الحضور -وهو ما قد يوحي بالمجازفة- فإن هذا المرور لا يعني أبدا الانقطاع عن الواقع. فالإفادات القليلة التي يقدمها السارد عن نفسه وعن المكان والزمان تنبئ بالوجهة الإحالية-التخييلية التي سيتخذها المحكي، تلك التي "ستجعل القارئ يرى، مع السارد، الواقع وهو ينجلي شيئا فشيئا أمام ناظره"(21)، واقع الرواية الخاص. وبهذا الإجراء، الذي ينتمي إلى ما يمكن تسميته بـ "بلاغة الانجلاء"(22)، يستطيع القارئ، في آن واحد، أن يشاهد العبور السري للرواية من نصيتها المرجعية إلى مرجعيتها النصية، وأن يعاين حركة السارد ذاتها التي سيشرع المحكي بواسطتها في التخلق والانبساط في فضاء القراءة والتأويل.
تبدو عتبة "شروخ في المرايا" وكأنها إذن نتاج ذلك "البين بين" حيث ينتهي نص ويبتدئ نص آخر. وهو ما يؤشر على توزعها بين كونها نصا "متعديا"، أي مجاوزا ذاته إلى مرجع محتمل، وكونها نصا "لازما" أي محايثا لذاته. إنها ثمرة مراوحة خفية بين الكتابة عن واقع جاهز (فهي رواية أطروحة بامتياز تتجاوز فيها الأفكار وتتناحر القيم) وكتابة هذا الواقع، أي أسلبته.
* * *
ما هو الحد الذي ينتهي عنده المطلع الروائي؟ ما هي وظيفة (وظائف) الجمل الأولى في النص؟ بأية إجراءات يتوسل الروائي لينقل ملفوظه الحكائي من خارج النص إلى النص؟ هل هناك أساليب جاهزة وملائمة لتوصيل المتخيل؟ كيف يتم تنصص الواقع؟ هذه بعض الأسئلة التي شكلت مدار قرائتي المتقاطعة لمطالع روايات عبد الكريم غلاب.
ويمكن القول إن هذه المطالع اتسمت بسمات مشتركة تكفلت متضافرة بصياغة استهلالية خاصة.
-فهي، ككل المطالع الروائية، تحمل في ذاتها آثار كونها امتدادا لعالم موجود قبلا وكونها انزياحا عنه. ففيها تحقق نوع من التناص بين جوهرين مختلفين، لكن متكاملين، تجسد في تفاعل النص الروائي مع نص الواقع، هذا التفاعل الذي سرعان ما سيخبو بمجرد ما يتجاوز السارد الوجه الأول لعتبة محكيه ليمر إلى وجهها الثاني، لا السارد وحده، بل كذلك المسرود له، حيث سيتم عبوره من النص الأول إلى النص الثاني بالسيرورة ذاتها.
-انتقالها بعنف وتعسف بين النصين. فالجمل الأولى تمثل تلك العتبة التي يشعر فيها الروائي بالتردد والارتباك. فهو، لدى مواجهته الصفحة البيضاء، يكون بعد مشدودا بأكثر من وثاق إلى عالم الحقيقة. لكن نداء هذه الصفحة ملحاح وإغراءها لا يقاوم! فهل من حيلة أخرى إذن سوى افتعال مرور عنيف ومباغت من اللانص إلى النص؟
-احتواؤها على مبادئ إنتاجيتها النصية. ففي متوالياتها الاستهلالية تقرر مصير الروايات. فهي جميعا شفافة في مستوى شفافية الواقع الذي تسعى جاهدة إلى تصويره، لا أثر فيها لأي أسلبة متكلفة ولا لأي تكلف أسلوبي، مما ينبئ بطبيعة السجل الجمالي (هنا: الواقعية) الذي ستستمد منه هذه الروايات عناصر صوغ متخيلها.
-تضمنها، بالتلازم مع هذه الخاصية، لاشتراطات مقروئيتها. فالروايات، باستيحائها الجمالية الواقعية، قد جهزت في مطالعها قارئها المفترض، فحددت أفق انتظاره والميثاق الذي سيبرمه معها.


قديم 05-31-2012, 08:24 AM
المشاركة 744
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الموقع الرسمي لـ عبد الكريم أحمد غلاّب:

http://www.abdelkrimghallab.com/ar.html

قديم 05-31-2012, 08:25 AM
المشاركة 745
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سيرة عبد الكريم غلاب.. الصوت الشخصي وصوتالجماعة
كاتب ارتبطت عنده الكتابة بالنضال
الرباط: د. شرف الدين ماجدولين
الذات والوطن عند عدد من الزعماء والمفكرين العرب مظهران لماهية واحدة، ذلك ما كان عليه الأمر عند علال الفاسي، ومحمد المسعدي، وكاتب ياسين، وساطع الحصري، وعبد الكريم غلاب وغيرهم من الكتاب والقادة الذين ارتبط لديهم الأدب والفكر بالنضال من أجل التحرر والتحديث والديمقراطية وتحقيق نهضة وطنية شاملة.
تبدو الكتابة عن الذات عند الكاتب والسياسي المغربي عبد الكريم غلاب، جزءا من قدر الكتابة عموما، وهاجسا لا يكاد ينفصل عن هموم التعبير عن ذاكرة الوطن، وتحولات مساره، وتطلعات أجياله. ذلك ما تُنبئنا به ظاهريا على الأقل دراسة الناقد «حسن بحراوي»، التي اختار لها عنوان «جدل الذات والوطن» الصادرة عن: دار جذور للطباعة والنشر، الرباط، 2005.
ويأتي الكتاب الحالي ليسلط الضوء على جانب مهمل من تجربة غلاب السردية، متمما في هذا السياق الجهود التحليلية التي أنجزها العديد من النقاد المغاربة والعرب، ممن انصرفوا لدراسة المنجز الروائي والقصصي لـ «غلاب»، وتحليل منتوجه الفكري، مثل: إبراهيم الخطيب، ونجيب العوفي، وعبد الحميد عقار، وحميد لحميداني، و«صالح جواد الطعمة». ويتعلق الأمر بالبحث في جماليات الكتابة السير ـ ذاتية عند غلاب، وإضافاتها النصية لرصيد هذا النوع العريق من السرد العربي، وإسهاماتها الفنية والخطابية في بلورة مكانة معتبرة للأدب الشخصي في مسار الكتابة السردية المغربية الحديثة، بهدف الوصول إلى تمثل حيز الجدل الخفي بين «الأنا» ومجالها المرجعي متمثلا في المجتمع والثقافة والتاريخ والفضاء الحاضن.
وهو الأمر الذي يتم تحقيقه عمليا بتعبير الكاتب من خلال: «تحقيق نوع من التطابق المنتج بين مكونين أساسيين في العملية الإبداعية، في إطار من التناغم الإنساني الذي ينسب العلاقة بين الفاعل والمنفعل، ويؤكد طرفي تلك المعادلة التي تنخرط فيها الكتابة لدى غلاب: تذويت الوطن وتبييء الذات» (ص7).
يشتمل الكتاب على أربعة فصول، فضلا عن تمهيد وخاتمة. خصص كل فصل لنوعية محددة من الخطاب «السيرـ ذاتي»، ترتبط بمرحلة عمرية معينة، وبتجربة حياتية خاصة. هكذا أفرد الفصل الأول لسيرة «الطفولة والصبا»، وتناول فيه الناقد المرحلة الممتدة من سنة 1918 تاريخ ميلاد الأديب المغربي، إلى سنة 1937 موعد هجرته إلى مصر، وهي الفترة التي خصصها السارد لوقائع النشأة الأولى بمدينة فاس، وبدايات اكتشاف العالم المديني الصغير، وصلات الصبي بمحيط الأسرة و«الكتاب» و«الحارة»... وهي الوقائع التي انطوت عليها سيرة مفردة حملت عنوان: «سفر التكوين» (1997).
أما الفصل الثاني فخصصه «حسن بحراوي» للسيرة «التعليمية» حيث تناول بالتحليل نص «القاهرة تبوح بأسرارها»(2000) وهو النص الذي يرصد الفترة الممتدة من مغادرة «غلاب» للمغرب سنة 1937، وحتى عودته إليه بعد مرور إحدى عشرة سنة من الإقامة المتواصلة في مصر، شهد خلالها تحولات ثقافية حاسمة، وخطوبا سياسية بالغة الخطورة، وتعرف فيها إلى رموز أدبية وفكرية طبعت المشهد الثقافي العربي لعقود عديدة من أمثال طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين، كما انخرط في أجواء النقاش السياسي الحامي الذي احتضنته فضاءات الجامعة والنوادي الثقافية والصالونات الأدبية ودور النشر والصحافة، وغيرها من مراكز التنوير التي ازدهت بها القاهرة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
هذا بينما خصص الفصل الثالث من الكتاب للسيرة «السجنية» من خلال نص «سبعة أبواب» الذي تناول فيه غلاب تجربته في الاعتقال على عهد الاستعمار التي استمرت ستة أشهر، بما هي تجربة شديدة الخصوصية طبعت ذاكرته ومساره الحياتي، وكان لها بالغ الأثر في تعاطي شخصية المناضل السياسي الذي مثله مع الاختبارات العديدة التي شهدها المعترك السياسي المغربي طيلة عقود طويلة من التجاذب بين الحكم والمعارضة. ويجدر التنويه في هذا السياق بنص السيرة السجنية الذي كان هو أول نص ذي طبيعة سيرة ذاتية كتبه غلاب، حيث صدر مطلع سنة 1965، قبل كل نصوص السير الأخرى التي أرخت لمساره الحياتي.
وختم «حسن بحراوي» كتابه «جدل الذات والوطن» بفصل عن «سيرة الشيخوخة» كان هو الرابع والأخير من الكتاب، تناول فيه بالتحليل نص «الشيخوخة الظالمة» (1999)، وهو نص فريد في نوعه في سياق السير العربية المعروفة بانحيازها لفترات الطفولة والشباب وتمجيدها لمحطات العنفوان، بينما يبدو النص الحالي شاذا من حيث «فرحه» بخريف العمر، واحتفائه بأفول الزمن، وهدوء السريرة، بعد التخلص من شهوات «الشهرة» و«المركز». إنه أشبه ما يكون بمديح لمرحلة «المراجعة التأملية» التي غالبا ما تركت من قبل الكتاب خارج دائرة الضوء. ومحاولة لاستبطان مفارقات الوعي والسلوك في شيخوخة مجازية، من قبل ذات لا تكف عن بث الإحساس بتجدد اليفاعة.
والحق أن هذه الدراسة التي قدم حسن بحراوي جزءا منها ضمن الحفل التكريمي الذي أقامته مؤسسة «سعاد الصباح» بالتعاون مع الجامعة الأميركية ببيـروت، لعبد الكريم غلاب، تبدو في شقها الأعظم محاولة لإضفاء منطق ذهني/تركيبي على نصوص السير الذاتية التي لم يخضع فيها «غلاب» مساره الحياتي لاسترجاع يراعي منطق التعاقب والاسترسال، وإنما كان ينطلق دوما من أحداث كبرى في حياته ليسلط الضوء على التفاصيل والتحولات التي أحاطت بها، ومدى تأثيرها على شخصيته الفكرية، واختياره السلوكي، كما أن الدراسة غلبت عليها في أحايين كثيرة نغمة الحكي واستعادة الوقائع، بحيث بدت أشبه ما تكون بملخص لنصوص السير المختلفة، واختزال لها في صور محددة يحكمها الجدل والترابط.
والظاهر أن الإضافة النقدية الأساسية في هذه الدراسة تتمثل أساسا في استخلاصها لجملة سمات فارقة لطبيعة السرد الذاتي لدى «غلاب»، من مثل سمة «التوازن التصويري»، قرينة «الصدق» و«الموضوعية»، التي ميزت نصوصه عما سواها من سير المشاهير، خصوصا السياسيين منهم، حيث غالبا ما تطغى نبرة التمجيد، وتصوير رحلة «الصعود» العبقري، والطهرانية. يقول الكاتب في هذا السياق: «نجده ـ أي غلاب ـ يتجنب الإشادة بصفاته الشخصية... مبتعدا عن ذلك التقليد الشائع في إبداء الإعجاب بالنفس والتنويه بما حققته منجز. واستعاض عن ذلك بممارسة النقد الذاتي والصدع بالعيوب ونقاط الضعف الإنسانية» (ص 124).
ولعل السمة الإيجابية الثانية التي تستثير الانتباه بصدد هذا المعنى ذاته، مزج السارد (غلاب) بين صوته الشخصي وصوت الضمير الجمعي، وجعله من التفاصيل الشخصية مجرد منفذ إلى نوع من التاريخ السياسي والاجتماعي، حيث ينتقل الحديث من دائرة الزمن الشخصي إلى نسق من الوقائع الغيرية المنفتحة على الأفق القومي الجماعي.
تلك كانت أهم المضامين التحليلية التي اشتملت عليها دراسة الناقد حسن بحراوي عن عبد الكريم غلاب، سعى من خلالها إلى الكشف عن التشكيل السردي لنصوص السيرة الذاتية لهذا المفكر المغربي البارز، بالقدر ذاته الذي استهدف فيه التعريف بالمحطات المركزية في حياته وتفاصيلها الحميمة، والوقوف، من ثم، على سماتها الجمالية، وسجاياها الفنية والأسلوبية. مما جعل من كتاب «جدل الذات والوطن» ترجمة نثرية بالغة التأثير لتحولات مسار أدبي ثري، وتجربة حياتية مثيرة بتفاصيلها وتقلباتها المدهشة، لا يمكن إلا أن تعد بسفر ذهني عذب، يدعو لمعاودة القراءة مرات عديدة.
==
مقابلة تلفزيونية:
http://rawafednet.blogspot.com/2012/02/blog-post_05.html

قديم 05-31-2012, 08:26 AM
المشاركة 746
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شهادات عن التجربة الإبداعية للروائي المغربي عبد الكريم غلاب،سيرة واحدة.. متعددة
نشر بتاريخ: 27/12/2011


أصدرت مؤسسة منتدى أصيلة، كتابا جديدا يؤرخ للمسيرة الإبداعية للكاتب والروائي المغربي المعروف عبد الكريم غلاب، تحت عنوان “عبد الكريم غلاب: الأديب والإنسان”. ويضم الكتاب شهادات ودراسات لنخبة من الكتاب والنقاد المغاربة وهم: محمد العربي المساري، أحمد المديني، محمد بوخزار، علي القاسمي، مبارك ربيع، عبد العالي بوطيب، حسن بحرواي، محمد غز الدين التازي، مصطفى يعلى، أنور المرتجي، هشام العلوي، رشيد بنحدّو، الحبيب الدائم ربي، محمد المسعودي، حسن المودن، محمد أقضاض، ابراهيم أولحيان، عبد اللطيف محفوظ، عبد الرحيم العلام، محمد يحيى قاسمي. والكتاب من إعداد الناقد المغربي عبد الرحيم العلام.
واعتبر محمد بنعيسى في توطئة الكتاب أن لاحتفاء مؤسسة “منتدى أصيلة في موسمها الثقافي الدولي الثالث والثلاثين، بالأستاذ عبد الكريم غلاب، أكثر من معنى ورمزية. لقد دأبت أصيلة، على الاحتفاء برموز الثقافة والفكر والأدب والفن. من المغرب وخارجه، لكن الاحتفاء في هذه الدورة بالأستاذ غلاب، له نكهة وطعم خاص، لاعتبارات عديدة ومتضافرة فيما بينها. ومع ذلك، فالمتمعن في الموقع المرموق الذي تحتله شخصية عبد الكريم غلاب، وطنيا ونضاليا وسياسيا وفكريا وأدبيا وإعلاميا، لابد وان يثيره، منذ الوهلة الأولى، تعدد شخصية الرجل وتنوع حضوره وعطائه، بما يكسب شخصيته الفذة أبعادا إنسانية وريادية مؤثرة، في عديد المجالات والميادين التي انخرط فيها المحتفى به.
كل ذلك، إذن، يجعلنا أمام علم ومفكر وأديب ورجل إعلام. ويقول بنعيسى “ويكفي، أن نتأمل التجربة الوطنية والنضالية والسياسية المديدة للرجل، وكذا مشروعه الفكري والنقدي والأدبي والصحفي، وغزارة إنتاجه في مختلف مجالات التعبير والرأي التي كتب فيها غلاب وأبدع، لكي نلمس عن كثب مدى شموخ هذا العلم، ومدى قيمة إنتاجه الثقافي عموما”.



ويتضمن هذا الكتاب، شهادات عن شخصية الأستاذ عبد الكريم غلاب، في تلويناتها وأبعادها الإنسانية والفكرية، فضلا عن دراسات وقراءات وتحاليل في مجمل إنتاجه الأدبي والنقدي، إبرازا للدور الكبير الذي قام به الأستاذ غلاب، باعتباره كاتبا وأديبا ملتزما بقضايا أمته ومجتمعه، في التأسيس لأدب مغربي حديث، وفي إثراء المشهد الأدبي المغربي والعربي بكتابات منتظمة في أجناس أدبية: الرواية والسيرة الذاتية والمذكرات والقصة القصيرة والرحلة والنقد...
وقد تم تزيين صفحات هذا الكتاب بصور من شريط ذكريات المحتفى به، في توهجها، وفي كشفها عن مدى ما يتميز به الراحل من وضع اعتباري لافت، في أبعاده الوطنية والنضالية والسياسية والمهنية والإبداعية”.
وفي شهادة الأستاذ محمد العربي المساري، الذي يعد من أحد أصدقاء الأستاذ عبد الكريم غلاب، قال المساري في مقالته الافتتاحية، إن عبد الكريم غلاب ولد “سنة 1919 بمدينة فاس، ثم التحق بالقاهرة حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي من جامعتها. ويمكن رصد مسار حياته عبر ثلاث فترات هي فترة التكوين في فاس والقاهرة، وثانيا فترة النضال السياسي بعد 1948، وثالثا غلاب الأديب في فترة الانفجار التعبيري عبر القصة والرواية. وبهذه الفترة يبدأ فصل في حياة غلاب له بداية علمت ما بعدها”.
ويضيف المساري، متحدثا عن الأستاذ غلاب “في فترة التحصيل بكل من فاس والقاهرة، كان الفتى عبد الكريم يعد نفسه للحياة، بالتزود من المعارف المتاحة، حيث اجتاز مسارا لم يكن له فيه اختيار سوى أن “قوة الدفع كانت أقوى من قوة الارتداد إلى وراء”، كما يقول عن فترة وجوده في القاهرة، وهو مندمج في المجتمع المصري الشاب في الجامعة والمكتبة والشارع. وكدأب خلانه من أفراد جيله، كان يمزج التحصيل بنشاط أدبي جمعوي يملأ به وقته الثالث، فيقارع القلم، ويغشى المنتديات، معبرا عن رغبة مبكرة في أن يسجل اسمه ضمن فئة تمتزج عندها “الأوقات الثلاثة” جميعا. حدثني انه وهو تلميذ في القرويين، سمع بمبادرة في تطوان لإحياء الذكرى الألفية لأبي الطيب المتنبي، الذي كان قد دعا إليها الأستاذ الطريس، فكتب مقالا لمجلة “المغرب الجديد” التي كان يصدرها المكي الناصري في عاصمة الشمال، حيث تناهى إلى علمه أن المجلة التطوانية كانت بصدد إصدار عدد خاص بالمناسبة. وقد يكون هذا أول مقال دبجه، ولكنه وصل بعد إقفال العدد فلم ينشر. وفي فترة القاهرة لم يكن يصرفه التحصيل العلمي عن الكتابة والقراءة والاشتغال بالشأن العام.
في القرويين كان يتنفس السياسة، والحركة ما زالت بعد في طور التأسيس، تحثها على السير إلى الأمام مبادرات شاعر الشباب علال الفاسي. ويؤدي غلاب ضريبة انجرافه وراء التيار المؤسس للحركة، فيرتاد السجن لأول مرة، وفي حقبة التحصيل في القاهرة (من 1937 إلى 1948) يملأ رئتيه هواء السياسة ممزوجا بالثقافة، على إيقاع حركات طه حسين الخارج من معركة هي من العلامات الأولى في مسار الموجة الليبرالية العربية، وكذلك على إيقاع الصراع بين الوفد وخصومه، والسجالات التي كانت تملأ صفحات مجلة “الرسالة” التي كان يصدرها الزيات، والبرلمان والشارع والمحاكم.
وهنا ينفتح وعي الشاب غلاب على ما كان يعتمل في عاصمة جعلتها الظروف قائدة التنوير في المنطقة كلها. وفي ذلك الخضم، يختار غلاب أن يقوم بدور سياسي فنجده عضوا في “رابطة الدفاع عن مراكش”، ومشاركا في إعداد عريضة الشباب المغربي في القاهرة للمطالبة بالاستقلال، في نفس الوقت الذي أعدت فيه وثيقة 11 يناير 1944 المعروفة، وبذلك صنف نفسه ضمن المعسكر الذي ركب أهوال معركة كان مرسوما لها أن تطول. وتطابقت انشغالات الطلاب المغاربة المهاجرين مع الأصداء التي كانت تصل من الوطن.
بعد 1948 تابع غلاب وهو في الرباط المسار الذي ارتسم لديه بوضوح، حيث أدرك أن استقلال المغرب هو القضية، وأن هذا الاستقلال لن يكون إلا ضمن مشروع متكامل يستحضر وحدة النضال في أقطار المغرب العربي، وهذا هو العلم الذي حمله من القاهرة حيث كان قد تم اختياره أمينا عاما ل “مكتب المغرب العربي” حينما انعقد المؤتمر التأسيسي في فبراير 1947. وهكذا ما أن عاد إلى المغرب حتى ارتسم في ذهنه بوضوح أن مكانه هو طليعة النضال من أجل الاستقلال، بهوية مغاربية، وافق عربي.
تقوت عنده هذه الهواجس، وهو يصنع لنفسه مكانا بين العاملين في سبيل القضية الوطنية العامة. واختار بالذات أن يكون موقعه هو الواجهة الثقافية التي أنشأها الحزب، فكتب في “العلم”، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة “الرسالة” المغربية. وفي هذه الفترة ارتسم مسار غلاب في ثلاثية هي الصحافة والسياسة والأدب.
وهكذا نجده في غمرة مهام المرحلة، ضمن رديف للجنة السرية البديلة للجنة التنفيذية للحزب بعد القمع الذي كان في سنة 1952، وخالجه في تلك الفترة مشروع كتاب “الأوضاع الاجتماعية في المغرب” الذي كتبه سنة 1954 ولكنه لم يطبع.
وفي نفس الاتجاه تابع غلاب طريقه، بعد 1956 مازجا بين السياسة والصحافة. مناوبا بين هذه وتلك. دخل دواليب التسيير الإداري والسياسي وزيرا مفوضا في الخارجية لدى تأسيسها وذلك لفترة قصيرة عاد بعدها إلى التحرير في “العلم”. وظل الحس الأدبي يمارس قوة جذب ملحة، مثلما كان شأن عبد المجيد بن جلون وعبد الكريم بن ثابت. وانساق غلاب في أمواج الصحافة والسياسة، تصنع جدول أعماله متطلبات الحضور في مهام ما بعد الاستقلال، ماضيا في مسيرته على إيقاع مسيرة الحزب الذي انتمى إليه، فيكتب في السياسة: الاستقلالية عقيدة ومذهب وبرنامج، ثم الإصلاح القروي”.
أما محمد أقضاض، فاعتبر أن عبد الكريم غلاب من “الكتاب المغاربة الأكثر إنتاجا والأكثر تنوعا في هذا الإنتاج، فقد كتب في التشريع وفي التاريخ وفي الفكر وفي الأدب والنقد، وفي السرد من رواية وسيرة ذاتية وقصة قصيرة”.
الاتحاد-محمد نجيم

قديم 05-31-2012, 08:27 AM
المشاركة 747
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مفهوم الشعر عند عبد الكريم غلاب
المصدر: محمد يحيى قاسمي
تعتبر الأبحاث والدراسات التي اهتمت بنقد الأستاذ عبد الكريم غلاب قليلة ؛ إن لم نقل منعدمة (1) ، بالرغم من أن حجم كتاباته في النقد أوفر وأغزر مقارنة بحجم إنتاجه في القصة والرواية .وهو أمر يؤكد هيمنة الدراسات الحديثة في مجال السرديات من جهة ، وعزوف الباحثين والدارسين عن نقد الشعر في المغرب بعامة ،ونقدالمحتفى به بخاصة . وهو الجانب الذي نحاول معالجته من منطلق مفهوم الشعر.

وتعميما للفائدة أرى أن أثبت في هذا المقام المصادر المتضمنة للمفاهيم النقدية التي سطرتها أنامل الأستاذ غلاب سواء في مؤلفاته ، أو مقالاته ، أو في تقديمه لبعض الدواوين .
فعلى مستوى المؤلفات فيمكن أن نذكر : - نبضات فكر (1961) - في الثقافة والأدب (ط 1- 1964) - رسالة فكر (1968) - دفاع عن فن القول (1972) - مع الأدب والأدباء (1974) - الثقافة والفكر في مواجهة التحدي (1976) - عالم شاعر الحمراء (1982).

أما على مستوى المقالات فيمكن العودة إلى ما فهرسه (صالح جواد الطعمة) في كتابه (عبد الكريم غلاب : بيبليوغرافيا بأعماله وما كتب عنه في مصادر عربية) (1993) ، أو إلى ما أثبته صاحب المقال ضمن أطروحته ( النقد الشعري في المغرب ) ، وهي مرقونة بكلية الآداب بوجدة .
والمقالات المفهرسة هي نفسها التي شكلت متن المؤلفات المذكورة .

أما على مستوى التقديم فيكفي الإشارة إلى تقديم الأستاذ غلاب لديوان الحرية للشاعر عبد الكريم بن ثابت باعتبار مثل هذه المقدمات شكلا من أشكال الخطاب النقدي .

نعترف في البداية – كما اعترف الأستاذ عبد الكريم غلاب نفسه - بصعوبة تحديد مفهوم للشعر عنده لأسباب منها :
- أنه لا يمكن أن نخصص لهذا الغرض مداخلة مثل هذه محكومة بالزمن والمناسبة . فمفهوم الشعر عند المحتفى به تلزمه أطاريح تستدعي وقتا كافيا لقراءة إنتاجه قراءة متأنية موضوعية .
- وتعود الصعوبة ثانيا إلى وفرة ما كتبه الأستاذ غلاب في الموضوعتنظيرا وممارسة ، وهو أمر يدعو ثانية إلى استقراء مؤلفاته العديدة والمتنوعة للإمساك بالخلفيات الفكرية والإبستمولوجية التي تتحكم في مفهومه للشعر .

وأمام المناسبة الكريمة لا مفر من تذليل الصعوبات المذكورة لنقدم قراءة نتمنى ألا تكون مسيئة للموضوع لأنه يستحق وقتا أوفر ، وقراءة فاحصة ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك .

إن مفهوم الشعر من منظور الأستاذ غلاب ينطلق من مفهوم مركزي يعتبر : الشعر معاناة وتجربة ذاتية ، ولكن على الشعراء جعلُ هذه المعاناة في خدمة قضايا الوطن والعقيدة والقومية والإنسانية. والشعر بهذا المفهوم ينبغي أن يكون صادقا وأصيلا، صادقا في التعبير وتوعية الجماهير ، وأصيلا في اختيار الموضوعات التي تعكس حياة الشعوب بأفراحها وأحزانها في أي فترة من فترات الزمن، وفي أي بقعة من بقاع الأرض .كما ينبغي أن تنسجم فيه أدواته الفنية من لغة وصورة وموسيقى .وإذا توافرت هذه العناصر مجتمعة لا بد من شرطين لنجاح العملية الشعرية وهما الحرية والجمهور،إذ بدونهما لا معنى لوجود الشعر .

ويمكن تفريع هذا المفهوم المركز إلى فروع نتبينها كما يلي :

أولا - الشعر ذات واقعية :

قبل أن ينظر للشعر كيف ينبغي أن يكون ناقش الأستاذ غلاب الرومانسيين والرمزيين من خلال سؤال مهم هو : ماذا نختار من المذاهب الأدبية ؟ وصبت أغلب أجوبته في اتجاهين ، يدعو في الأول إلى اعتناق المذهب الواقعي ؟ ويحارب في الثاني أتباع الرومانسية والرمزية .

يقول في دعوته لاعتناق المذهب الواقعي : << إن رسالة الشعر يجب أن تنصرف إلى تصوير حالة المجتمع ، وإلى نقل الصور الحية ، لأن المجتمع يطفح بالصور الإنسانية التي لا يستطيع أي فنان أن يمر أمامها دون أن تدفع به إلى استخدام موهبته في تصويرها ، وإبراز أثرها مما يدخل في رسالة الشعر .. الشعر الذي يحيا مع الناس ، ويحس بإحساسهم ، ويصور جوانب من حياتهم>>2.

والحياة التي يعنيها (عبد الكريم غلاب) ليست تلك التي يحياها الشاعر في برجه الخاص، فقد لا يكون لها أي أثر في توجيه الشاعر ، ولكنها – كما يقول – حياته وسط الأحياء الذين يعيش معهم، ويبادلهم المنفعة لإكمال عناصر الحياة في المجتمع الخاص 3 . وفي عبارة هذا الأخير إشارة صريحة إلى تبني المذهب الواقعي ، وإشارة إلى التعريض بالرومانسيين والرمزيين الذين يخالفون الواقعيين .

لم يعد الشعر – في نظر غلاب – عملا سلبيا أو تعبيرا عن عواطف فردية .. وحياة عاطلة ، ولم يعد يعتمد على التهويمات الرومانطيقية أو اللمسات العاطفية أو التلوين اللفظي بمقدار ما يعتمد على الفكر والعقل والتحليل والتوجيه . إنهفي معناه الحقيقي يعتمد على التعبير الجميل عن أدق الانفعالات الإنسانية والقومية والوطنية ، والنضال عن طريق الكلمة السامية في سبيل الخير والحياة الأسمى والجمال الأرفع >> 4.

وفي رأي (غلاب) أن الشاعر الذي يعيش مع خيالاته أو الذي اصطلح على إدراج شعره في الموجة الرومانسيةقد يقول شعرا لأنه معبر عن الذات ولكنه يظل بعيدا عن الآخرين إلا حينما يعبر عن إحساس الحالمين من أمثاله ، وتلك شريحة باهتة نجدها في المجتمعات التي لا تواجه الحياة بكل أبعادها وصراعاتها 5 . يقول : << والشعر .. لا يعني أن الشاعر يستند في ترنمه إلى ذات نفسه – ولا شيء غير هذه الذات – وإنما يستند انطلاقا من ذاته إلى تجاربه في الحياة ، مع الواقع الحلو أو المر الذي يعيشه داخل نفسه …>> 6.

إن الشاعر بهذا المفهومهو الذي يرتبط بالحياة اليومية للمجتمع ، ويصف هموم الناس ، ويعيش معهم مشاكلهم . فالوطن - في نظره - في حاجة إلى من يزيح عنه كابوس العبودية والظلم، لا من يبكي وينتحب ويجتر أوهام الذات .

ثانيا – الشعر فضاء إقليمي :

يقول الأستاذ غلاب : << إننا نعتقد بأن إقليمية الأدب تكاد تكون من ضروريات الأدب الحي ، لأن الأدب الذي لا يعكس طابع إقليمه معناه أن صاحبه لا يشعر بما حوله ، ولا يتفاعل مع طبيعة بلاده ، ولا مع التيارات التي تتقاذف المجتمع الذي يعيش فيه ، وسيكون إنتاجه مجرد اجترار لمحفوظاته فقط ، ولا صلة بواقع الحياة ، وهو بالتالي غير قادر على البقاء والاستمرار في إطار المحلية >> 7 .

غير أن المذهب الواقعي الذي ينادي به الأستاذ عبد الكريم غلاب لا يعني بالضرورة أن يكون عن طريق الأسلوب الواقعي في الشعر ؛ ولا يعني كذلك الانصراف إلى التعبير عن المجتمع المغربي فقط، وإنما يعني الدعوة إلى تركيز الجهود لإنتاج أدب قومي وإنساني في الوقت نفسه . ولا يعني ذلك ثالثا أنهيدعو إلى أدب إقليمي ضيق ، وإنما يدعو إلى البحث عن أسس حضارية تخرج الأدباء إلى ما يسميه بالمحيط الإنساني . 8

ثالثا : الشعر فضاء إنساني

إن الأستاذ غلاب لا يدعو إلى إقليمية أدبية ، وإنما يدعو إلى المساهمة في رسم هذه اللوحات الكبيرة للأدب التي يشارك في رسمها جميع أدباء العالم ، كل واحد منهم يرسم فيها ما يقع عليه نظره، وما تنفعل له نفسه 9 .

فهذا المفهوم يعمد فيه غلاب إلى النظر في الشعر من زاوية الرؤية الإنسانية ، ومن خلال علاقته بكل بيئات العالم ، فلكي ننتج شعرا مغربيا لا بد أن نمتلك حسا إنسانيا ، وإذا كان بعض الشعراء في أمم أخرى يعرفوننا ببيئاتهم عن طريق ما ينشرونه من إنتاج فيكون من اللازم – في نظره – أن نعرفهم بالبيئة المغربية عن طريق إنتاجنا الشعري .

هكذا أصبح الشعر في ظل الإنسانية ؛ بعيدا عن الإقليمية الضيقة، وظل مقياس الروعة في الشعر محصورا في مقدار ما ينطوي عليه الأثــر الشعري من قوة مستمدة من واقع البيئة التي ليست بالضرورة محلية (أي مغربية) ، بل هي إنسانية عالمية تتجاوب مع جميع رسالات الآداب الإنسانية العالمية ، وتتعاون معها وتتفاعل وتتكامل . وبحكم هذا التعاون والتفاعل والتكامل بين أبناء الإنسان في كل مكان من الأرض ، فإن الحدود المكانية للمجتمع لا ينبغي أن تكون حدودا عقلية بالنسبة للشاعر . كما أن اتصاف الشعر بالواقعية والإنسانية يفرض عليه أن يكون شعرا إنسانيا حقا ، يعبر حدوده مكانيا ، ويتجاوزها ليصل إلى كل مكان في الكرة الأرضية .


وللخروج بالشعر من قوقعة الحدود المكانية للمجتمع يشترط الأستاذ غلاب ، أربعة عناصر أساسية لبلوغ دائرة الإنسانية العامة ، وهي : - الصدق - والالتزام - والوعي - واختيار الموضوعات .

العنصر الأول : الصدق

يعتبر الصدق أو الحقيقة الشرط الأساس لتحمل أعباء مسؤولية الرسالة الإنسانية العالمية للشعر ، وهو نقطة الانطلاق للشعر الإنساني . فـعلى قدر هذه الحقيقة وهذا الصدق يكون الشعر الوطني شعرا إنسانيا ، وبغيابهما يظل الشعر وطنيا محليا ، فاقدا لكل انفتاح على الإنسانية أو العالمية . وهو في هذه الحال لا يقوم برسالته الشعرية خير قيام ، وعندئذ يفوته الركب المتفوق الذي يقود قافلة الآداب العالمية إلى الأمام ، ويبقى هو يتعثر في مسيرته البطيئة يجر خطواته جرا ثقيلا .

والصدق لا يتأتى إلا إذا اندمج الشاعر في المجتمع ليستطيع التعبير عن الحياة الإنسانية بما فيها من آمال وآلام ، ومن الأحسن – كما يقول (أحمد زياد) – أن ينفعل الشاعر مع واقعه ومع أحاسيسه انفعالا صادقا ليأتي بالصور الشعرية الفنية التي ترسم الصور في غير مبالغة ولا تهويل . 10

والشعر – في ظل الشعر الإنساني- لا يكون رائعا إلا إذا كان صادقايصور إحساسات تفاعلت فيها عناصر المشاهدة والملاحظة ، ويكون على العكس من ذلك خافتا وباهتا كلما صدر عن نفسية مصطنعة تقـلـد ولا تبتكـر . 11

وتبعا لذلك فإن الصدق في التجربة الشعرية يساهم بأكبر نصيب في تشخيص أماكن الضعف في الشعوب التي ما زال فيها ضعف ، ثم إنه قادر على أن يكيف نفسية الشاعر بكيفية خالية من كل أثر للتصنع أو التكلف . وتبعا لذلك أيضا ، فإن الشعراء لا يقولون إلا الحق ، ولا يلجون إلا باب الصراحة الواضحة ، والصدق المجرد في تصوير وسائل الحياة ومظاهرها تصويرا صادقا . 12

إن علاقة الصدق الشعري بالواقع ( الإنساني ) مباشرة ، ويمكن أن يتحقق الشاعر من صحة التطابق فيها . والشعر الواقعي الصادق هو محك الشعر الإنساني الخالد ، وبدون هذا الصدق يبقى الشعر باهتا ومحليا إقليميا ، لا يرقى إلى درجة الشعر الإنساني .


العنصر الثاني - الالتزام :

وهو في نظر غلاب الشرط الثاني في العملية الشعرية لبلوغ دائرة الإنسانية ، والشاعر الملتزم – على حد تعبيرههو الأديب الواعي بمسؤوليته الفكرية والأدبية .. ولا يمكن إلا أن يكون ملتزمابقضايا أمته ووطنه وبالقضايا الإنسانية جمعاء 13. << وهو ينبع من ذات الأديب نفسه ومن تقديره لرسالته ، ومن اندماجه في الحياة والناس ، ومن استيحائه من مجتمعه ومن معرفته الخاصة للخير وقدرته على الدفاع عنه ، ومن تمييزه للجمال وقدرته على إبرازه ومن اشمئزازه من الشر وقدرته على النضال ضده ، ومن ممارسته للحياة مع الناس ، وقدرته على الإيحاء إليهم ، ومن أسلوبه في التعبير والأداء وقدرته على النفاذ إلى ضمير مخاطبيه>> 14.

والالتزام بهذا المعنى هو أن يتخذ الشاعر موقفا من الشؤون التي تعرض أمامه ، ولا بد من أن يصدر حكمه فيها ، لأن الحياد في مثل هذا القيام ليس ممكنا ولا مرغوبا فيه . وبعبارة أخرى يجب على الشاعر أن يصبح مكافحا من أجل مثل عليا ينشدها ، ويسخر لها مواهبه وقواه ، شأن غيره من المكافحين .

ولا يقف مفهوم الالتزام – في نظر غلاب – عند اتخاذ المواقف أو الانصهار مع حياة الشعوب، فقد تتوافر هاتان الخاصيتان في الشاعر ، فلا يكون واقعيا ؟ ولا تكون واقعيته إنسانية ؟ والالتزام بهذا المعنى يلزمالشاعر بالابتعاد عن الطبقية ، والشعر بهذا المعنى لا يكون شعرا صحيحا إلا إذا كان مرآة للحياة العامة ، لا مرآة لنوع خاص من الحياة .

وهذه إشارة لمفهوم الطبقيةفي الإنتاج الأدبي التي تعني أن عوامل البيئة تستطيع التأثير على بعض الشعراء من الطبقة الأرستقراطية مثلا ، فيكيفون إنتاجهم تكييفا خاصا ، فيخرجون شعرا رائعا ، يصورون فيه هذه البيئة في مستواهم العام ؛ وفي مستواهم الخاص .

العنصر الثالث – التوعية :
إن غاية الشعر عند الأستاذ غلاب هي أن يعيش على نشر الوعي في كافة الميادين. فإذا كان الشعر مسؤولا وجب عليه – في نظر ( غلاب ) – أن ينـزل إلى الجماهير الكادحة ليحركها ويوقظها ، ويبعث في جوانبها الحركة والتمرد ، والأمل والحياة . 15

والتوعية ليست من مسؤولية الأحزاب السياسية وحدها ، ويخطئ كل الخطأ – في نظر أتباع الواقعية – من يظن أن السياسة هي التي تستطيع وحدها أن توقظ الوعي في الجماهير أو تعبئها ، بل الشعر – كما يقول (زياد) هو الذي <<يستطيع أن يوقظ الوعي في الجماهير وأن يعبئها>>. 16

والصلة الوثيقة التي تربط الأدب بالواقع هي التي خولت لوظيفة الشعر أن تكون وظيفة كفاح ونضال، إلى جانب أنها وظيفة توعية ، ومعنى هذا أن الشعر أصبح أداة من أدوات إعداد الأمة إلى خوض معركة الحياة .

العنصر الرابع - الموضوع :

الموضوع في الشعر هو المنطلق بالنسبة لغلاب ، ولكن المضمون هو ما يستطيع الشاعر أن يضفيه على موضوعه . فالسر إذن ليس في الموضوع بمقدار ما هو في الشاعر نفسه، ومن هنا لا يتنكر غلاب لبعض الموضوعات التي تسمى تقليدية أو للأبواب التي حصرها النقاد القدامى في الشعر العربي باعتبارها أبوابا تقليدية قديمة مستهلكة . ومن هنا أيضا لا يدعو غلاب الشعراء إلى أن يلتصقوا بالموضوعات القديمة التي يعدها كثيرون مستهلكة ، ولكنه يدعوهم إلى أن يعطوا لموضوعاتهم مضامين جديدة مهما كان الموضوع ..قديما مستهلكا ، يقول : << فالموضوع لا يستهلك الأدب ولكن الذي قد يجعله مستهلكا هو الأديب نفسه ، وقد يجعل منه رغم قدمه غير مستهلك >> 17.

إن اختيار الموضوعات الشعرية ضروري حسب غلاب ، وهذا الاختيار سيصطدم مع شعراء المناسبات الذين يتصيدون الفرص للإنتاج 18 . فشعراء المناسبات لا يتخذون خطة عامةتؤدي إلى غاية معينة ، بل يكتفون بالسير مع الصدف والمناسبات. ولذلك فإن معظم الشعر الذي ينظمه هؤلاء لا يستطيع - كما يقول (عبد الكريم غلاب) -أن ينسبه القارئ - الذي لا يعرف عمن صدر - إلى المغرب والى شعـراء المغرب ، ومن ثم كان هذا الشعر لا يمثل إقليمه ولا البيئة التي صدر عنــــها . 19

و(عبد الكريم غلاب) الذيرفض شعر المناسبات جملة وتفصيلا يعجب بالمتنبي وأبي تمام وابن الرومي أولا لأنهم <<حاولوا أن يصرفوا المدح من الشخص إلى التعبير عن قضية أو فكرة ، فكان المدح أو الهجاء أو الرثاء عندهم إطارا لفن رفيع من فنون التعبير الشعري ، ينسيك الإطار وأنت تقرأه لأنه يضعك أمام شعر حقيقي لا يضيره أن عنوانه - مثلا - مدح سيف الدولة أو المعتصم>>20 .

ويعجب بالشاعر أحمد زكي أبي شادي ثانيا لأنه - في نظره - <<يستطيع أن يخلق من المناسبة العابرة ميدانا للشعر الإنساني الخالد بما ينفحه من عقله وعاطفته ، وما يولد فيه من معان إنسانية لا تمس شخصا معينا ولا تتصل بحادثة خاصة ، وذلك ما يخرج بشعره عن شعر المناسبات الذي ألفـناه عند كثير من الشعراء يتعبهم فلا يستطيعون أن يخرجوا به عن معـناه الضيق إلى المعنى الإنساني العام>> 21.

كيف نفسر - إذن - موقف رافض لشعر المناسبات يقبل شعر شاعرين واحد من القديم وواحد من الشرق لأنهما يخلقان – في نظره – من المناسبة ميدانا للشعر الإنساني ؟ .

لا نملك تفسيرا لهذا الموقف سوى أن نقول : إن (غلاب) يميز بين الشعر المرفوض والشعر المرتضى. فهو يقبل بشعر المناسبات الذي يعود نفعه على الإنتاج بصورة عامة وعلى الأمة جمعاء ، ويرفض شعر المناسبة الذي يهم فردا أو هيئة .

والموضوعات الجديرة بالاهتمام – في نظر أتباع الواقعية – هي التي تتصل بالحياة العربية والإسلامية والعالمية العامة ، مثل مأساة فلسطين ، وميلاد فكرة القومية العربية وفكرة توحيد المغرب العربي .. الخ

أما إذا استهلكت هذه الموضوعات ، فينبغي على الشعراء أن يبحثوا عن أخرى ، بل أصبح لزاما على الشاعر ، وواجبا في حقه – كما يقول ( زياد ) – إن أراد إرضاء شعوره الخاص ، وشعور قرائه – أنيحدث المناسبة ويخلقها خلقا ليذكر الناس بأحوالهم ومعاناتهم . 22

قديم 05-31-2012, 08:27 AM
المشاركة 748
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رابعا : الشعر ثقافة :

لكي يكون الشاعر شاعرا لا يمكن أن يكتفي منه بأن يتقن علوم اللغة كالنحو والصرف والاشتقاق أو علوم الوزن كالعروض والقافية أو علوم الأدب كتاريخ الحركات الأدبية والشخصيات الأدبية وعلوم البلاغة والنقد أو صنعة كتابة الرواية والقصة . ولكن يجب إلى جانب علوم الآلة هذه أن يكون مثقفا واسع المعرفة مسايرا لنمو العلوم والآداب . 23

إن الأدب والشعر -حسب غلاب -في حاجة إلى ثقافة ، والشاعر الذي لا يستند على رصيد هائل من الثقافة لا يمكن أن يكون شاعرا ولو كانت عنده المؤهلات الذاتية للشعراء كالذكاء وحسن الملاحظة وسرعة البديهة وقوة الاختزان ورهافة الحس . 24

خامسا: الشعر طبع وصنعة :

إن الصناعة هي أساس جودة الأدب ..وأن الكتابة فن كسائر الفنون لا تحتاج إلى الموهبة فحسب، ولا إلى معرفة اللغة وعلوم العربية فحسب ولكنها تحتاج أكثر من ذلك إلى إتقان صناعة الكلمة. 25

والواقع أنه لا يوجد تناقض بين الطبع والصنعة وبين الموهبة والتعلم.كلاهما ضروري للشاعر وأحدهما لا يغني عن الآخر. 26

الموهبة إذن ضرورية ولكنها في حاجة إلى صناعة لتخرج من نطاق النظر إلى مجال الواقع. 27

سادسا: الشعر حرية : الحرية بالنسبة للشاعر بصفة خاصة أو الأديب بصفة عامة هي الهواء الذي يتنفسه فيسري في فكره وفنه سريان الهواء الطبيعي في جسده . يقول غلاب :<<وما نشأ أدب وما نما في غير هواء الحرية . والأديب عندما يخلو إلى قلمه لا يفكر في الحرية ، لأنه لا يمكن أن يخلو إلى قلمه إذا لم تكن هناك حرية يستطيع معها أن يخلو إلى هذا القلم ، وإذا احتاج إلى التفكير في الحرية عندما يخلو إلى قلمه فذلك هو الخنق الذي يمنع الأديب عن أن يتنفس>> 28.

والدولة في نظر غلاب مسؤولة عن هذه الحرية من ناحيتين : أما الأولى فهي أن الدولة هي التي تمنح هذه الحرية أو على الأصح لا تمنعها . ( فمسؤوليتها كائنة بين الحاء والعين ) .وأما مسؤوليتها من الناحية الثانية فمن واجبها أن تهيئ الجو لنشر الشعر وذيوعه ، فلها أن تيسر سبل النشر وسبل القراءة، تدفع الشعراء والأدباء عامة إلى الإنتاج ، وتدفع القراء إلى الاستهلاكعن طريق وسائل النشر والدعاية للأدب إنتاجا وقراءة ومشاهدة . وعن طريق تيسير الطباعة والنشر من الترخيص أو الإعفاء من الضرائب التي تثقل كاهل الأديب . وعن طريق إنشاء المكتبات في المدن والقرى والأحياء، أو عن طريق إنشاء مكتبات متنقلة في الأسواق حتى يروج الكتاب. 29
يقول الأستاذ غلاب: <<والدولة التي تجد الكتاب فيها أغلى من الخبز هي دولة لا تقدر الحياة الفكرية بل إنها تضع في طريق الحياة الفكرية صعابا لا تستطيع هذه الحياة أن تتخطاها >> 30

سابعا : الشعر أداة :

الشعر في نظر غلاب فن يعتمد على أدوات أساسية في التعبير في مقدمتها : اللغة والصورة والموسيقى . 31

أما اللغة فمعناها الكلمة الجميلة التي تحتاج إلى عملية انتقاء .. وانتقاء الكلمة ليس سهلا .. ومعنى هذا أن الشاعر لكي يختار ألفاظه في حاجة إلى ثروة لغوية واسعة وإلى دقة في الحس اللغوي تمكنه من اختيار اللفظة الشعرية الجميلة المعبرة .32

واختيار اللغة لا يعني الالتجاء إلى القاموس أو إلى الغريب، ولكنه يعني الاختيار على أساس الأداء النفسي للمفهوم الشعري ، يقول : << الشيء الذي يتفق مع لغة الشعر المعبرة عن أحاسيس الشاعر ومفاهيم الشعر هو ما يستطيع الشاعر أن يشحن به الكلمة مستمدا من مشاعره وإحساسه فينقلها من مفردة قاموسية إلى مفردة شعرية>>33.

وأما الصورةفوسيلة الشاعر لأداء الفكرة أو التعبير عن العاطفة . وهذه الوسيلة لا تدرك بالفطرة ولا بالطبع ولا تدرك بتعلم أصول الكلام اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية ولكنها تدرك بالممارسة والمجاهدة كما تدرك كل الصناعات الفنية التي تعتمد على الذوق إلى جانب التجربة .

وتأتي الموسيقى باعتبارها عنصرا أساسيا في الشعر ، وهي صنعة لا موهبة أو فطرة وما لم يستطع الشاعر أن يتقن هذه الصنعة لا ينتظر منه أن يكون شاعرا . 34

والأستاذ غلاب إذ يعتبر الموسيقى عنصرا أساسيا في الشعر فهو يهدف إلى أمرين :
- أولهما : ألا يقيد الشعراء بقيود لا يحاد عنها أو يجبَ الجمودُ عندها كما يقول فلا تتطور مع تطور الشعر .
- ثانيهما : أن التطور ليس معناه إلغاء كل القيود بدعوى الحرية . فتلك فوضى في نظره .
ويضع غلاب أمام المجددين في موسيقى الشعر العربي شروطاهي :
- ألا يكون عملهم صادرا عن تبرمهم – فقط - من الأوزان والقوافي باعتبارها قيودا تقيد إنتاجهم ، أو باعتبارهم لا يتقنون هذه القيود فيجب إذن التخلص منها .
- أن تتوافر في هؤلاء المجددين ثقافة واسعة بالشعر العربي والشعر الإنساني وبالموسيقى القديمة والحديثة ليعرفوا إلى أي مدى يعتمد الشعر على أصول فنية لا يستطيع التخلص منها .
- لا يمكن أن يصبح تجديدهم في الموسيقى أصولا تحتذى إلا إذا قبلها الذوق العام للشعراء والنقاد، ويكافح أصحابها من أجل بقائها . 35

نستخلص من الأدوات التي يشترطها غلاب للشعر أن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا بمجرد المواهب الأولية : الموهبة - الذوق - الإحساس والشعور ، وأن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا بمجرد إتقان علوم اللغة أو البلاغة ، فلا بد من أن يتقن صناعة الشعر ليكون شاعرا حقيقيا.

ثامنا : الشعر تلقي :

الشاعر الذي لا يجد متنفسا لا يمكن أن يعيش ، والمتنفس هو القارئ بالمعنى الكامل للقراءة أي القارئ الواعي المتفهم الناقد المناقش المحاور ، يقول الأستاذ غلاب : << إن الكاتب الذي لا يضمن القراء لا ينتج إلا إذا كان يعيش في عالم المثاليات أو في عالم الذين يكتبون القصيدة لينقشوها على الأحجار مثلا كعمل فني لا يهدف إلا إلى الفن نفسه >> 36 .

والشعر في نظر الأستاذ غلاب ما يزال يشكو من قلة القراء ذلك بأن المواطنين في هذه البلاد إما أميون بالمعنى الأولى للأمية ، وإما أميون فكريا بمعنى أنهم لا يحسون بالحاجة إلى أن يطوروا فكرهم وثقافتهم ، ومن ثم لا يقرؤون ولا يحسون بالحاجة إلى القراءة >> 37 .

وعلى الرغم من هذه الشكوى الصاخبة فإن الأستاذ غلاب يتفاءل خيرا بالشعر فيقول : << وما نظن أن قيمته كفن تعبيري ستنقص إذا قل مستمعوه في الأسواق والمهرجانات والاحتفالات ، ولكن قيمته ستزداد بين قرائه الذين يخلون إليه كما يخلو الشاعر إلى نفسه ويقرؤونه بنفس الروح الذي أملاه على الشاعر . لا خوف على مستقبل الشعر العالمي والعربي رغم صخب الأحداث التي يعيش فيها العالم لأن الشعر كفن قولي رفيع ما زال يدرك رسالته ويستطيع أن يقوم بها >> 38 .

ومن الصدف العجيبة أن يستعير الشاعر أحمد هناوي هذا التفاؤل الحسن ليخرج أكثر من مجموعة شعرية تحمل هذا الشعار : (لا خوف على أمة ما دام فيها الشعر والشعراء) .

تقويم عام :

لا أسمح لنفسي في هذا المقام ، وهذه المناسبة الكريمة بتقويم هذا المفهوم الذي سطرته أنامل الأديب عبد الكريم غلاب ، فهو نفسه لم يلزم الشعراء بهذا المفهوم ، يقول :<<لا أريد بالطبع أن أفرض هذا التصور على شاعر ما ، ولا أن أجعل منه دروسا نقدية أحكم بها على هذا الشعر أو ذاك ، ولهذا فأنا لا أحاكم على أساسها الشعر الحديث في المغرب>> 39.

ولكني أمنح لنفسي إبداء ملحوظة عامة هي أن مفهوم الشعر عندالأستاذ غلاب ينبعث من واقعية لها خصوصياتها الفكرية ولا أقول السياسية .

والملحوظة السابقة قد تختلف في منظورها مع بعض الآراء التي حاولت أن تجعل من فكر الرجل فكرا سياسيا ، يقول الأستاذ فطري مثلا:<< والالتزام السياسي ..هو الذي نجده في معظم إنتاجات غلاب الأدبية مما جعل هاته الإنتاجات تصبغ بالصبغة السياسية في كثير من الأحيان حتى أصبحت آثار السياسة غير خافية في مختلف الفنون الأدبية التي كتب فيها>> 40 .

قد نتفق مع الأستاذ فطري فيما يتعلق بفكر غلاب بعد الحماية ، وبإبداعه بعد الاستقلال ، لكننا نتحفظ في تبني رأيه بخصوص اصطباغ نقد الأستاذ غلاب بصبغة سياسية فيما قبل ذلك . إننا نعتبرها واقعية . فالفترة السابقة لعهد الحماية كانت تفرضسلطة الواقعية حسب تعبير عبد القادر الشاوي . وهي التي جعلت واقعيته اختيارا أساسيا في مواجهة التأثير الثقافي الغربي – الاستعماري ، وذلك ما حدد توجهها إلى الواقع .<<والحال أن الأصل في تكون سلطة الواقعية على صعيد الأدب المغربي الحديث .. يعود إلى هذا الاختيار وإلى هذه المرحلة بالذات >> 41

قديم 05-31-2012, 08:29 AM
المشاركة 749
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صياغة الفكر روائياً


* الاحد// 29 / 4 / 2007/ د . علي القاسمي / المغرب


قراءة عاشقة في" شرقية في باريس " للأستاذ عبد الكريم غلاب



صياغة الفكر روائياً:
سعدتُ بمطالعة هذه الرواية الفذّة وهي مخطوطة قبل أن تُطبَع وتُنشر؛ إذ حمل المخطوطةَ إليَّ السيد أحمد غلاب، ابن المؤلِّف البار بأبيه والذي أشرف على أعداد الرواية للنشر. حملها إليَّ كما يحمل المرء هدية فاخرة إلى صديقه. وضعتُها بجانب فراشي لأقرأ شيئاً منها قبيل النوم وأنا مستلقٍ في سريري، ظناً مني أنها مجرّد عمل سرديّ يساعد على جلب الخدر والنعاس إلى عينيّ. ما إن شرعت بقراءتها حتى وجدتني أعدّل وضعيّتي في الفراش لأواصل القراءة قاعداً وبعينين متسعتين اتساع الفضاءات الرحبة التي تحرّكت فيها شخوص الرواية الاستثنائيين، وجرت فيها أحداثها المشوّقة، ودارت فيها حواراتها الفكرية السامقة. ولم أضع الكتاب جانباً حتى أتيتُ على آخره قبيل الفجر.

لقد سيطرت هذه الرواية تماماً على جميع حواسي ومشاعري وفكري وقلبي، بفضل عنصرين توافرا لها, وهما لا يجتمعان عادة في رواياتنا العربية. وهذان العنصران هما: أولاً، الحكاية الشائقة المرويّة بأسلوب مشرق سهل ممتنع مطرّز بتقنيات سردية رفيعة المستوى شديدة التنوع، وثانياً، المضامين الفلسفية والسياسية والاجتماعية والنفسية المثيرة للخلاف الفكري والتي تجعل من القارئ، دون أن يدري، طرفاً في حوار ثقافي راقٍ يتطلّب منه التأمُّل العميق، بل الشكّ في مسلماته وبديهياته ومعتقداته، قبل أن يتقدم بإجاباته بكثير من التردد والوجل وبشيء من الأمل في أن إحساسه يصيب الهدف. إنها عمل إبداعي يرمي إلى صياغة الفكر صياغة روائية، والقارئ يستل منها نفسه بصعوبة شخصاً مختلفاً لا كما دخل رحابها.

سهرتُ ليلة كاملة مع تلك الرواية، لا لأنني كنتُ أتلذذ بحلاوتها العسلية فحسب، بل لأنني كذلك كنتُ أتعلّم منها أشياء كثيرة أجهلها، ومَن طلب العِلم سهرَ الليالي. لقد حملتني هذه الرواية على بساط سحري إلى باريس وجالت بي في ساحاتها الفسيحة، وشوارعها المشجرة المليئة بالتماثيل الفنيّة البديعة والمقاهي الزاهية والمطاعم الفاخرة، وفي حدائقها الغنّاء ومنتزهاتها الفارهة، وفي معالمها السياحية، ومتاحفها الشهيرة، وجسورها التاريخية، ومسارحها النابضة بالحياة؛ لتقودني، بعد ذلك كله، منوّماً تنويماً مغناطيسياً إلى مدرّجات جامعة السوربون، لأتعلّم من جديد فيها على يد أستاذ بقامة عبد الكريم غلاب، وأشارك في حوارات فكرّية هادفة يناظرني فيها عدد من طلاب الدراسات العليا القادمين من أقطار مختلفة وذوي ثقافات متباينة.
ولا يكتفي المؤلِّف بمرافقتك إلى أشهر متاحف العالم في باريس، وهو اللوفر، بل يدلّك على أعظم الأعمال الفنية فيه ويسلط عليها ضوءاً يجعلك تراها بعينين جديدتين. وقفتُ مرات عديدة أمام لوحة الموناليزيا في ذلك المتحف، ولكن لم أشعر بابتسامتها تنساب برقة ونعومة إلى شغاف القلب كما شعرتُ بذلك وأنا أقرأ رواية " شرقية في باريس ". تقول سامية، بطلة الرواية، بعد أن ذهبت حزينة إلى "اللوفر" وشاهدت ابتسامة الموناليزا:

" توقفت قدماي أمام " ليوناردو دافنشي" قادم من إيطاليا ليتربع على عرش الفنانين العالميين وهو يقدّم " الموناليزا"، توقّف تاريخ الفن بعد الموناليزا، ابتسامة تحدّت كل ابتسامة، ارتسمت على وجه امرأة، ارتسمت على الوجه الصبوح في صباه وفتوته، لتعلّم العالم الباكي كيف يبتسم، انتظرتُ طويلاً حتى يخفّ الازدحام، أريد أن تمنحني ابتسامتها لتطرد أحزاني في صفاء وهدوء. تحرّك الركب وما أدري كيف يستمتع متذوق وسط ركب من الزائرين، ما أظن أحداً منهم رحل وفي قلبه الجوكاندة، تصلبت في مكاني لحظات أحسبها طالت محاولة أن أستشف مصدر الابتسامة الخالدة: من العينين المتفتحتين في براءة الطفولة وسحر الجمال؟ من الشفتين المضمومتين المتفتحتين في طهارة مَلَك تدعو إلى قبلة برئية؟ من الخدين الأسيلين في نعومتهما الهادئة؟ من كل ذلك، من غير ذلك، كانت الابتسامة الخالدة.
" وقفت مذهولة كأني أشاهدها لأول مرة، ما أدري كم طال وقوفي؟ لا أدري ما كنتُ أفعل بنفسي؟ كنتُ مأخوذة، حتى مرّت بجانب جميلة لعوب ابتسمت في وجهي ضاحكة:
ـ تحاولين تقليدها بابتسامتك؟ يمكن أن تنجحي...مع الأسف ليوناردو رحل. رنّت ضحكتها. غيبها الزحام، أسعدتني بمعابثتها، أشعرتني أن ابتسامة الجوكندة طبعت ظلالها على وجهي.
" مدينة لك يا جوكاندة، منحت وجهي ظلاً من وجهك.
" منذ متى لم تبتسم شفتاي وعيناي وخداي وقلبي في مرارة الوحدة والعزلة، إلا مع وجه متفتح بابتسامة خالدة..."(ص 112ـ113).

ويستمر عبد الكريم غلاب في رسم ابتسامته الأخاذة بالكلمات، بالحروف، بالأصوات، بإيقاع اللغة، بأنغامها العميقة، مشكّلاً عبارات رشيقة، سريعة، مرحة، تضاهي ضربات ريشة ليوناردو الناعمة على وجه الموناليزا ليمنحها لوناً ومعنىً. ثم يتحول بك ليقدّمك إلى رائعة بكاسو " آنسات أفنيون" , ويمشي معك قليلاً ليقف أمام لوحة " الحاضرة" للرسام الهولندي الشهير "فان كوخ" , وعندما تخرجان من متحف اللوفر تجد أن شهيتك للفن قد تفتحت مثل زهرة عباد الشمس بعد أن يغمرها الضوء، فيدعوك إلى وليمة دسمة في متحف الشمع، أو في معارض الرسامين المنبثة في شوارع باريس.

قديم 05-31-2012, 08:29 AM
المشاركة 750
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
خلاصة الحكاية:
بإيجاز مخلّ، تدور رواية " شرقية فيباريس" حول فتاة من أسرة مسلمة محافظة في سوريا، اسمها سامية، تأخذ في مراسلة شابفرنسي بالبريد الإلكتروني من إحدى مقاهي الإنترنت (أو الشابكة، كما اصطلح علىتسميتها مجمع اللغة العربية بدمشق). ثم ترحل هذه الفتاة إلى فرنسا لمواصلة دراستهاالجامعية في السوربون، وتلتقي بذلك الشاب الفرنسي، تقع في غرامه، يطلب يدها،يصطحبها إلى أهلها في سوريا، ينطق بالشهادتين، دون أن يعرف من الإسلام إلا اسمه ومنالقرآن إلا رسمه، وسط زغاريد أمها وأخواتها وجاراتها، يعودان إلى فرنسا، ينضمّ هوإلى حزب سياسي عنصريّ، يكثر تغيّبه عن بيت الزوجية بحجة اجتماعات ليلية، تتغيرتصرفاته اتجاهها، تكثر المناقشات بينهما حول قضايا خلافية، يأخذ بالإعراب عناحتقاره للأجانب، يزداد الجدل بينهما، يصفعها، يقع الطلاق، تتفاقم معاناتهاالنفسية، تفكّر بالعودة، ولكنها لا تحتمل نظرات الشامتين، فتقرر البقاء ومواصلةدراستها. تدرس في مجموعة بحث في السوربون تضم طلبة من أقطار مختلفة من أفريقياوآسيا وأوربا، وتتدارس المجموعة موضوعات فلسفية واجتماعية ونفسية واقتصادية، هدفهاإيجاد الشروط اللازمة لإيجاد تنمية بشرية في الأقطار النامية (أي المتخلِّفة) وإقامة حوار بين الثقافات والأديان والبلدان، من أجل رفاه الإنسان وترقية حياته. ويقع الأستاذ الفرنسي في حبّ الطالبة الشرقية المطلَّقة لا بفضل ملاحتها فحسب وإنماأيضاً بفضل خلفيتها الحضارية وقيمها وجرأتها في طرح أفكار تتسم بالأصالة والجرأة،فيتزوجها، ومن خلال معاشرته لها يكتشف سمو ثقافتها الإسلامية فيتفهمها وينجذبإليها.

بيد أن المؤلِّف الأستاذ عبد الكريم غلاب لا يسرد الأحداث بشكلخطّيّ، كما فعلتُ أنا في خلاصتي المبتسرة للرواية، وإنما يستخدم تقنيات سرديةمتنوعة أهمها الاسترجاع، وتيار الوعي، والتحليل النفسي المعمق، ويُكثِر من التلميحبدل التصريح، والإشارة بدل العبارة، ليشحذ ذكاء القارئ الذي يُشارك في عمليةالإبداع من خلال ملأ الفراغات والبياضات في الرواية، وإبداء الرأي في القضاياالفكرية التي يثيرها المؤلّف المتمرس الذي يمتطي صهوة الكتابة فارساً لا يُشق لهغبار.

رواية فريدة:
في تقديري أنه ليس في وسع أي كاتب آخر أن يكتب مثلهذه الرواية ما لم يمتلك مخزوناً معرفياً فخماً يضاهي ما للأستاذ عبد الكريم غلابمن فكر أصيل، وعلم جمّ، ونضال سياسي رائد، وخبرة صحفية شاسعة منقطعة النظير، ورصيدروائي هائل. وقد تغلّب المفكّر عبد الكريم غلاب في " شرقية في باريس" على الروائيعبد الكريم غلاب نفسه. فقد جمعت هذه الرواية بين عواطف الشباب المنبهرين بالدردشةفي مقاهي الإنترنت وبين الأفكار الناضجة لعمالقة شيوخ الفكر. وأحسب أن "شرقيّة فيباريس" تشكّل منعطفاً متميزاً في مسار الرواية العربية، وستكون نموذجاً يحذو حذوهالروائيون في المشرق والمغرب لإنتاج روايات مضمّخة بأريج الثقافة والفكر والأدبالرفيع.

الرواية والحوار بين الثقافات:
تصدر هذه الرواية في وقت يشتدفيه " الصدام بين الحضارات " كما يصفه المنظر الأمريكي هنتغتون، وتتعالى فيه دعواتالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة إلى " تصدير الديمقراطية " على الطريقةالأمريكية بقوة العولمة والسلاح، وتتفاقم فيه معاناة المهاجرين من دول الجنوبالبائسة إلى دول الشمال المترفة، فيطرح المؤلِّف، بجرأةِ المناضل السياسي الرائد،وثقة المفكِّر الكبير، مفهومَ الحوار والتفاهم بين الثقافات، وهو مفهوم ينبثق منرؤية معمّقة لجوهر الإنسان وغاية وجودة، ويجسّد روح ثقافتنا الإسلامية بتوجههاالإنساني وعالميتها ووسطيتها وتسامحها وقيمها. ويختار المؤلِّفُ جامعةَ السوربونميداناً لهذا الحوار.

لنقتطف حواراً بين سامية الشرقية وبين أندري الفرنسيالذي انتمى إلى حزب عنصري متطرف بعد زواجهما بسنتين وأمسى الزواج على كفعفريت:

" ...
لم انتزع من نفسه كراهيته للشرق...
ـ لو لم يكن في الملتقىلما التقينا.
ـ أنتَ أناني..
ـ الحضارة علّمتني أن أكون كذلك
ـ كارثةالعالم أن حضارته أنانية لم يستطع أن يتنازل عنها. تعلّمتُ من أساتذتي أن الخطأ خطأالإنسان، لا خطأ الحضارة.
ـ الإنسان صانع الحضارة.
ـ الحضارة صانعةالإنسان.
ـ أخطأت يوم صنَعَتْهُ هكذا أنانياً.
ـ لا صنعته سوياً فانحرف
ـالانحراف، هو الآخر، شيء جميل..
ـ ما لم يرمِ بحضارةٍ ما إلى الهاوية. أن تدمرحضارة فتلك هي الهاوية.
ـ ربما لتبقى حضارة واحدة هي السائدة.
ـ ومَن يمنحهاالسيادة؟ ومَن يؤكِد أنها لا تدمّر نفسها وهي تدمّر الأخرى؟
..."
ويحس القارئمن هذه العبارات القصيرة المتلاحقة الجارية المحملة بأفكار من وزن ثقيل أنالمتحاورَين قد بلغا قمة الصراع العنيف اللاهث. وفي ذات الوقت يجد القارئ نفسهطرفاً في النزاع الفكري، وأنه مطالب بإجابات وتفسيرات وشروح. فكل عبارة تحتاج إلىكتب عديد في العلوم الإنسانية لاستيعاب مفاهيمها وقيمها.

إن وزارات الثقافةفي أقطارنا العربية مدعوة لترجمة هذه الرواية الرائعة إلى اللغات العالمية وتحويلهاإلى فيلم سينمائي تُشارك به في المهرجانات السينمائية الدولية، مساهمة منها فيالحوار بين الثقافات، وتحسين صورة المسلمين في الغرب، ومن أجل أن تدحض ما يدور علىألسنة كثير من المواطنين من أن السياسات الثقافية العربية تشجّع وتدعم عمداًالثقافة الرخيصة الزاخرة بالأغاني الهابطة العارية والألعاب الرياضية الشعبية وتقيملها الفضائيات المتعددة، على حين تُستبعد البرامج الثقافية الحقيقية، وذلك لإلهاءالشباب والإبقاء على التخلّف الفكري.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 33 ( الأعضاء 0 والزوار 33)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 10:22 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.