قديم 09-15-2010, 02:17 AM
المشاركة 11
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
• الأفعال في السورة:

لم يأت في السورة من الأفعال إلا ثلاثة: "أعطى"-"صلى"-"نحر".

لكنها على قلتها مثلت من المقولات الصرفية والتركيبية عددا كبيرا:

1- الفعل الصحيح: نحر

2- الفعل المعتل: أعطى.

3- الفعل المضعف: صلى.

4- الفعل المجرد: نحر.

5- الفعل المزيد: أعطى.

6- الفعل اللازم: صلى.

7- الفعل المتعدي إلى مفعول واحد: نحر.

8- الفعل المتعدي إلى أكثر من مفعول: أعطى.

فلله درها من سورة.... والله أسال أن يعفو عما كان من خطأ أو تقصير...... وصلى الله على محمد صاحب الحوض والكوثر وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

المراجع:


مقتطف من بحث "عجائب القرآن في النحو والبيان"- عن منتدى أهل الحديث

كتاب مباحث في إعجاز القرآن . أ.د. مصطفى مُسلم. دار القلم.





//

قديم 09-15-2010, 02:18 AM
المشاركة 12
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً



الأستاذ: محمد إسماعيل عتوك

الباحث في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن



الصبر في اللغة معناه: حبس النفس وتثبيتها، وضدُّه: الجزع. قال تعالى:﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾(الكهف:28). أي: احبسها وثبتها. وهو نوعان: صبر على المكروه، وصبر عن المحبوب. والأول يعدَّى إلى المفعول بـ{ على }، والثاني بـ{عن }. تقول: صبرت على ما أكره. وصبرت عمَّا أحب. والأول هو الأكثر استعمالاً، ومنه قوله تعالى:﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾(المزّمِّل:10).

وقال تعالى في مدح الصابرين:﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة:177). وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾(الزمر:10).

وقول لقمان يوصي ابنه:﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17) هو أمر بالصبر على ما يصيبه من المحن جميعها دون تخصيص. وقوله:﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ إشارة إلى ما تقدم، ممَّا نهاه عنه، وأمره به، ويدخل فيه الأمر بالصبر على المحن كلها.

وأما قوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾(الشورى:43) فهو حثٌّ على الصبر على المكروه، والمغفرة لمن تسبب فيه، وأكَّد ذلك بقوله:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. أي: إن الصبر على أذى الغير، والمغفرة لمن عزم الأمور؛ كقوله تعالى:﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾(البقرة:237). وقوله تعالى:﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾(الشورى:40). وهذا إذا كان الجاني نادمًا مقلعًا. أما إذا كان الجاني مصرًّا على البغي، فالأفضل الانتصار منه، بدليل الآية قبلها، وهي قوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾(الشورى:41)؛ فإن هذا يقتضي إباحة الانتصار من الجاني.

وقيل: سَبَّ رجلٌ آخرَ في مجلس الحسن، فكان المسبوبُ يكظم ويعرق، ويمسح العرق، ثم قام فتلا الآية:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، فقال الحسن: عَقِلَها، والله، وفهمها! لِمَ هذه ضيَّعها الجاهلون ؟!

وأما { اللام } في قوله تعالى:﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ ﴾(الشورى:41)، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ ﴾(الشورى:43) فهي مثل { اللام }، التي في قوله تعالى:﴿لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾(آل عمران:157). وقوله تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾(البقرة:103).

ويجوز في هذه { اللام } أن تكون الموطِّئة لقسم محذوف، و{ مَنْ } شرطية، وجواب القسم في الأول قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ﴾(الشورى:41)، وفي الثاني قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه.

ويجوز أن تكون { اللام } لام الابتداء، و{ مَنْ } موصولة في موضع المبتدأ، والخبر في الأول قوله تعالى:﴿ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴾، وفي الثاني قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. والإشارة بـ{ ذلك } إلى ما يفهم من مصدر{ صبر وغفر }، والعائد على الموصول المبتدأ من الخبر محذوف. أي: إن ذلك منه { لمن عزم الأمور }، لدلالة المعنى عليه.

وخبر الموصول يجوز اقترانه بـ{ الفاء }، لشبهه بالشرط في دلالته على الإبهام. ويجوز عدم اقترانه بها. والفرق بين الموضعين: أنك إذا قلت:{ مَنْ يأتيني فله درهم }، استحق الدرهم بمجرد إتيانه. وذلك بخلاف قولك:{ مَنْ يأتيني إن له درهمًا }.

فإذا تأملت ذلك، تبيَّن لك أنه لا وجه للمقارنة بين قوله تعالى:﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17)، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43)؛ لأن الأول أمرٌ بالصبر على المصائب، والثاني حثٌّ على الصبر عليها، وكلاهما من عزم الأمور.. قال تعالى:﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾(الأحقاف:35). فالصبر في الآيتين صبر واحد.. وإذا كانت الآية الثانية قد أكِّدت بـ{ إن }، وبـ{اللام }، دون الآية الأولى، فلأنها جمعت بين الصبر، والمغفرة؛ ولأنها جاءت مؤكَّدة بـ{ اللام } في أولها:{ لَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ }. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾(المنافقون:1).



يتبع ...

قديم 09-15-2010, 02:18 AM
المشاركة 13
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ومن المعلوم في علم البلاغة أن للمخاطب ثلاث حالات عندما يُلقَى إليه خبرٌ مَّا:

أولها: أن يكون خالي الذهن من الحكم. وفي هذه الحالة يلقَى إليه الخبر خاليًا من التوكيد. ويسمى هذا الضرب من الخبر ابتدائيًا.

وثانيها: أن يكون مترددًا في الحكم، طالبًا أن يصل إلى اليقين في معرفته. وفي هذه الحالة يحسن توكيده له، ليتمكن من نفسه. ويسمى هذا الضرب طلبيًّا.

وثالثها: أن يكون منكرًا له. وفي هذه الحالة يجب أن يؤكد الخبر بمؤكِّد، أو أكثرَ، على حسب إنكاره قوةً وضعفًا. ويسمى هذا الضرب إنكاريًا.

ومثال الحالة الأولى قولك للمؤمن: محمد رسول الله .. ومثال الحالة الثانية قولك للمتردد في إيمانه: إن محمدًا رسول الله.. ومثال الحالة الثالثة قولك للمنكر الخالي من الإيمان: إن محمدًا لرسول الله.. والله إن محمدًا لرسول الله.

وعلى الحالة الثانية يقاس قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(لقمان:17).. وعلى الحالة الثالثة يقاس قوله تعالى:﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾(الشورى:43).

هذا ما أردت توضيحه وبيانه والله الهادي سواء السبيل !


//

قديم 09-15-2010, 02:19 AM
المشاركة 14
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ





بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني

للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية

قال الله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ (إبراهيم 18)

ضرب الله تعالى هذه الآية الكريمة مثلاً، شبَّه فيه الأعمال التي تكون لغير الله تعالى برماد، اشتدت به الريح في يوم عاصف، فطيرته، وفرقت أجزاءه في جهات هبوبها، ولم تبق له على أثر، ولا خبر. كذلك تعصف رياح الكفر، والأهواء الفاسدة بالأعمال، التي تبنى على أساس غير صحيح، فتفسدها، وتجعلها مع أصحابها طعمة للنار.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى، لمَّا ذكر أنواع عذاب الكافرين في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية أن الأعمال، التي لا يقصد بها وجه لله تعالى هي أعمال باطلة، لا ينتفع أصحابها بشيء منها في الآخرة. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم؛ لأنهم لا يجدون إلا العقاب الشديد، وكل ما عملوه في الدنيا يجدونه ضائعًا باطلاً، وذلك هو الخسران المبين.

ولفظ ﴿ مَثَلٍ ﴾ عند الزمخشري وغيره مستعار للصفة، التي فيها غرابة. وارتفاعه في مذهب الجمهور على الابتداء، خبره محذوف، تقديره عند سيبويه والأخفش: فيما يتلى عليكم، أو يقصُّ عليكم. وجملة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾مستأنفة على تقدير سؤال؛ كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وعليه يكون تقدير الكلام: صفة الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد. كقولك: صفة زيد، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مَبذولٌ.

ومذهب الفراء: أن﴿ مَثَل ﴾مبتدأ، خبره﴿ كَرَمَادٍ ﴾. والتقدير عنده: مثل أعمال الذين كفروا كرماد. وفي تفسير ذلك والتعليل له قال الفرَّاء:” وقوله:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ أضاف المَثَل إليهم، ثم قال:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ ﴾. والمَثَل للأعمال “.

وحكى ابن عطية عن الكسائي والفراء أن المعنى على إلغاء لفظ ﴿ مَثَل ﴾، وأن أصل الكلام: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾، بإسقاط لفظ ﴿ مَثَل ﴾، فيكون كقوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39).

ولكن ظاهر قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ. ومَثَلُهم هو المماثلُ لهم في تمام أحواهم وصفاتهم. أي: المطابق، أو المساوي. وهو كقولنا: مَثَلُ زيد، عملُه قبيحٌ. فالعمل القبيح- هنا- لا يعود على زيد؛ وإنما يعود على مَثلِ زيد. وهذا يعني أن لزيد مثلاً يماثله في تمام أحواله وصفاته. وهذا المَثَلُ قد يكون عمروًا، أو بكرًا، أو غيرهما. وكذلك قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ، يماثلهم في تمام أحواهم وصفاتهم. وعليه تكون الأعمال المشبهة بالرماد في قوله تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾هي أعمال مَثَلِ الذين كفروا بربهم، لا أعمالهم هم، خلافًا للأعمال، التي في قوله تعالى:﴿ أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾من آية النور. ويمكن ملاحظة الفرق بين الآيتين من خلال المقارنة بينهما:

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39)

﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾(إبراهيم 18)



يتبع ....

قديم 09-15-2010, 02:20 AM
المشاركة 15
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا. والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم. وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ ﴿ مَثَل ﴾في مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى، ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!

وعليه يكون قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾مبتدأ، خبره جملة:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾من المشبه، والمشبه به. وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.

وأما الفرق الثاني بين الآيتين فإن المراد بقوله تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾- في آية النور- العموم، ويندرج في عمومه كل من كفر من الأمم السابقة، والأمم اللاحقة إلى يوم يبعثون. أما قوله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾- في آية إبراهيم- فالمراد بـهم الكفار من الأمم السابقة؛ ولهذا جاء ذكرهم مقيدًا بقوله تعالى:﴿ بِرَبِّهِمْ ﴾، تمييزًا لهم من غيرهم. فأولئك مثل لهؤلاء، وقد ورد ذكر بعضهم في سورة إبراهبم قبل هذه الآية على لسان موسى- عليه السلام- وذلك في معرض خطابه لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم من الأمم المكذبة:

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾(إبراهيم:8- 9)

وبعد أن حكى الله تعالى عن الرسل- عليهم السلام- اكتفاءهم في دفع شرور هؤلاء الكفار بالتوكل على ربهم، والاعتماد على حفظه ورعايته، حكى سبحانه وتعالى عن بعض المتمردين في الكفر أنهم بالغوا في السفاهة، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة؛ وذلك قوله تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾(إبراهيم:13-17)

وفي ظل هذا المصير، الذي انتهى إليه هؤلاء الكفار من الأمم الغابرة جاء التعقيب مثلاً، يصوِّر الله تعالى فيه أعمالهم على طريقة القرآن المبدعة بصورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فقال سبحانه:

﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾(إبراهيم:18)

فجمع بين أعمالهم، وأعمال من جاء من بعدهم من الذين كفروا بربهم في هذا التمثيل العجيب؛ إذ بأولئك الكفار الغابرين تضرَب الأمثال لكل من ماثلهم ممَّنْ جاء بعدهم من الكفار اللاحقين، في كفرهم بالله سبحانه وبآياته، وإنكارهم للبعث، ومحاربتهم لرسله- عليهم السلام- وصدهم عن سبيله، ولكل مَنْ كانت أعماله مماثلة لأعمالهم من غير الكافرين بربهم.

ومن المعلوم أن الكفار المتأخرين قد سلكوا في الكفر والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، ومنهم كفار مكة، الذين أخبر الله تعالى في قوله مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:

﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾(فاطر:25)

وكما حكى الله تعالى عن الفئة الضالة من الأمم السابقة قولهم لرسلهم:

﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾(إبراهيم:13)

كذلك أخبر سبحانه عن كفار مكة، فقال تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:

﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ (الإسراء:76)

ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك سنته في رسله وعباده، فقال:

﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾(الإسراء:76)

وتقتضي سنة الله تعالى في عباده أن يحكم على الفرع بحكم الأصل، فيما تكون فيه المماثلة. فإذا كان الأصل محكومًا عليه بالهلاك، وعلى أعماله بالفساد، فكذلك الفرع.

وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:

﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:38)

فقوله تعالى:﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾عبارة تجمع الوعيد والتهديد، والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. والمعنى المراد: مضت سنة الله تعالى فيمن سلف من الكافرين بالهلاك، فيصيب الآخرين مثل ما أصاب الأولين.

وكما يطلق لفظ { المَثَل }على الفرع، كذلك يطلق على الأصل، ومن ذلك قوله تعالى في حق كفار مكة:

﴿ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الزخرف:8)

أي: مضى حالهم، الذي كانوا عليه من الكفر والتكذيب والإهلاك، وخلفه حال مماثل له؛ هو حال كفار مكة، وغيرهم. والأول أصل، والثاني فرع، والعلة الجامعة بينهما: الكفر والتكذيب، والحكم: الهلاك. والمعنى: أن كفار مكة سلكوا في الكفر، والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم.

ونظير ذلك قوله تعالى في حق فرعون وجنوده:

﴿ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ﴾ (الزخرف:55-56)

أي: فلما أغضبوا الله سبحانه بأعمالهم القبيحة، انتقم منهم، بأن أغرقهم أجمعين. وهذا الانتقام قد جعله سلفًا يتعظ به الغابرون، ومثلاً يعتبر به المتأخرون، ويقيسون عليه أحوالهم. وقد قال الله تعالى محذِّرًا:

﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾(المرسلات:16- 18)

وإذا كان الأولون محكومًا عليهم بالهلاك، فمن باب أولى أن تكون أعمالهم محكومًا عليها بالفساد وعدم النفع. تأمل ذلك في قوله تعالى:

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف:138-139)

أي: هم وما يعبدون هالك لا محالة، وأعمالهم ذاهبة مضمحلة. وهؤلاء القوم- على ما قيل- كانوا من العمالقة، الذين أمر موسى- عليه السلام- بقتالهم. وقال قتادة: كانوا من لَخْمٍ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا قالوا:

﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾

فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ.

ونظير قولهم هذا قول جهال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمَّى: ذات أنواط، يعظمونها في كل سنة يومًا- فقالوا:”يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قتلتم- والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى:

﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾

لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه “. وكان هذا في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين.



يتبع ...

قديم 09-15-2010, 02:21 AM
المشاركة 16
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ونظير هؤلاء المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم:

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾(التوبة:53- 54)

وغير هؤلاء كثير.

وقوله تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾الأعمال فيه جمع: عمل. والعمل يطلق على كل فعل، يكون من الإنسان بقصد، فهو أخصُّ من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الإنسان، الذي يقع منه فعل بغير قصد. وقد ينسب إلى الجماد. والعمل قلما ينسب إلى ذلك؛ ولهذا قال تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾، ولم يقل سبحانه:﴿أَفْعَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾.

أما الرماد فهو ما بقي بعد احتراق الشيء. وفي لسان العرب:” الرمادُ: دُقاقُ الفحم من حُراقة النار، وما هَبَا من الجمر فطار دُقاقًا. وفي حديث أم زرع: زوجي عظيم الرماد. أي: كثير الأضياف؛ لأن الرماد يكثر بالطبخ“. ولهذا كان تنكيره في الآية منبِئًا عن ضآلته وخفته، بخلاف ما لو كان معرَّفًا.

وتشبيه الأعمال بهذا الرماد الضئيل الخفيف ينطوي على سرٍّ بديع من أسرار البيان القرآني؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار، وإذهابها لأصل هذا وهذا؛ فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا؛ كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه، التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا. فأثرت النار في أعمال أولئك، حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.

ولو شبهت هذه الأعمال بلفظ آخر غير الرماد، كالتراب مثلاً، فقيل:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَتُرَابٍ ﴾، لما أفاد ذلك ما أفاده لفظ الرماد من معنى الخفة، والاحتراق، وعدم الانتفاع، والعجز عن الاستدراك.

وتأمل هذه الكاف في قوله تعالى:﴿كَرَمَادٍ ﴾، كيف جعلت هذه الأعمال في مرتبة أدنى من مرتبة ذلك الرماد الضئيل في حقيقته وصفاته، ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها. ولو قيل:﴿ أَعْمَالُهُمْ مِثْلُ رَمَادٍ ﴾، لما أفاد التشبيه هذا المعنى، الذي ذكرناه؛ لأن لفظ المِثْل يجعل الممثَّل، والممثَّل به في مرتبة واحدة؛ لأنه لفظ تَسْوِيَة، فيقتضي المساواة بينهما في تمام الصفات.

أما قوله تعالى:﴿ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ﴾ فهو كناية عن سرعة هذه الريح وقوتها. يقال: اشتدَّت الريح. أي: أسرعت بقوة. وتعدية الفعل بالباء، دون تعديته بعلى يفيد أن هذه الريح حملت الرماد، وأسرعت الذهاب به، وبددته في جهات هبوبها؛ بحيث لا يقدر أحد على الإمساك بشيء منه، بخلاف قولنا: اشتدت عليه؛ فقد تشتد الريح عليه، وهو ثابت في مكانه، لا يتبدد.

ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود, يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به أصلاً.. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك, فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددًا.فكما تعصف الريح الشديدة بالرماد، وتذهب به في جهات هبوبها؛ كذلك تعصف رياح الكفر والنفاق بالأعمال، التي تكون لغير الله جل وعلا، وعلى غير طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى:

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾(الفرقان:23)

و﴿الرِّيحُ ﴾- على ما قيل- هي الهواء المتحرك، وتجمع على: أرواح ورياح. وعامة المواضع، التي ذكر فيها لفظ ﴿الرِّيحِ ﴾بصيغة المفرد في القرآن، فعبارة عن العذاب. وكل موضع ذكر فيه بصيغة الجمع فعبارة عن الرحمة؛ إلا في قوله تعالى:

﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾(يونس:22)

ورويَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول، إذا هبَّت الريح:” اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا “. وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء؛ كأنها جسم واحد. وريح الرحمة متقطعة؛ فلذلك هي رياح.. وأفردت مع الفلك في آية يونس؛ لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة، ثم وصفت بالطِّيب، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب.

أما العَصْفُ في قوله تعالى:﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ فهو اشتداد الريح، ووَصْفُ اليومِ به- وهو زمانُ هبوبها- من إضافة الموصوف إلى صفته. والعصْف، وإن كان للريح، فإن اليوم قد يوصف به؛ لأن الريح تكون فيه، فجاز أن يقال: يوم عاصف؛ كما يقال: يوم بارد، ويوم حار، والبرد والحر فيهما.

وقرأ ابن أبي اسحق وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن:﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيْحِ﴾، على الإضافة. وذلك- عند أبي حيان- من حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، والتقدير: في يوم ريح عاصف.

وقيل: إن عَاصِفًا صفة للريح، إلا أنه جُرَّ على الجِوار. وفيه أنه لا يصِحُّ وصفُ الريح به، لاختلافهما تعريفًا وتنكيرًا. وقرأ نافع وأبو جعفر:﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيَاحِ﴾، على الجمع، وبه يشتد فساد الوصفية.

والعَصْفُ يقال لحطام النبت المتكسر. وقيل: هو ساق الزرع. وقيل: هو ورق الزرع. وبهما فسر قوله تعالى:﴿وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾(الرحمن:12). وقال تعالى:﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴾(الفيل:5)، تشبيهًا بذلك.

وقيل: العَصْفُ: السرعةُ. وعصفت الريح تعصِف عَصْفًا. أي: اشتدَّ هبوبُها. وهي ريحٌ عاصِفٌ وعاصِفةٌ. أي: شديدة الهبوب. وعصفت بهم الريح، تشبيهًا بذلك. أي: ذهبت بهم، وأهلكتهم. ومثل ذلك قولهم: الحرب تعصف بالقوم.

وقوله تعالى:﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾(المرسلات:2) يعني الرياح الشديدة القاصفة للشجر وغيره.

فتأمل هذه الألفاظ الثلاثة:( الرماد، والريح المشتدَّة، واليوم العاصف ) التي تتكوَّن منها عناصر الصورة في المشبه به، تجد كل لفظ منها يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به. يضاف إلى ذلك ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق.

وقوله تعالى:﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ﴾ تبيينٌ لوجه الشبه، واستحضار للكافرين جميعًا؛ ليشهدوا هذا الموقف، الذي يتعرَّون فيه من كل شيء. فإذا ما قدموا على ربهم يوم القيامة، لا يقدرون على الانتفاع بشيء مما كسبوا في الدنيا من أعمالهم عند حاجتهم إليه. أي: لا يجدون له أثرًا من ثواب، أو تخفيف عذاب؛ كما لا يقدر أحد على الانتفاع بشيء من ذلك الرماد، الذي اشتدت به الريح في اليوم العاصف، وكان جزاؤهم النار؛ كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله:

﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾(هود:16)

وقيل: المراد بقوله تعالى﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ ﴾: التعميم. أي: لا يقدرون في الدنيا والآخرة على شيء مما كسبوا. ويؤيده ما ورد في الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعة؟ قال:” لا ينفعه؛ لأنه لم يقل: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين“.



يتبع ....

قديم 09-15-2010, 02:21 AM
المشاركة 17
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وقال تعالى في البقرة:

﴿ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ﴾(البقرة:264)، وقال هنا:

﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ﴾

فقدَّم﴿ عَلَى شَيْءٍ ﴾ في الأول، وأخرَّه في الثاني، لأهمية كل منهما في آيته؛ وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة.

وقال تعالى:﴿ مِمَّا كَسَبُوا ﴾، فعبَّر عن العمل بـالكسب؛ لأن كسب الرجل هو عمله، وعمله هو كسبه. روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:” أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده “، فعبر عن كسب الرجل بعمله.

والكسب- كما قال الراغب في مفردات القرآن- هو ما يتحرَّاه الإنسان، ممَّا فيه اجتلاب نفع، وتحصيل حظٍّ؛ كاكتساب المال. وقد يستعمل فيما يظنُّ الإنسان أنه يجلب منفعة، ثم استُجلِب به مضرَّة.

أما قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾فهو إشارة إلى ضلالهم. أي: ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة، من ضلالهم، مع حسبانهم أنهم على شيء، هو الضلال البعيد عن طريق الحق والصواب. وهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف إلى بعيد؛ حيث يستحيل العثور على شيء منه !!

وفي وصف الضلال بالبعيد إشارة إلى كفرهم؛ وهو كقوله تعالى في الآية الثانية والثالثة من سورة إبراهيم:

﴿ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾(إبراهيم:2-3)

والضلال هوالعدول عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم؛ عمدًا كان، أوسهوًا. قليلاً كان، أو كثيرًا، ويضادُّه الهدى. فإذا كان عن عمد وقصد- وإن كان قليلاً- فهو كفر، وحينئذ يوصف بالبعيد.. تأمل ذلك في القرآن، تجده على ما ذكرنا، إن شاء الله!

محمد إسماعيل عتوك



//

قديم 09-15-2010, 02:22 AM
المشاركة 18
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ



الكاتب: ياسين بن علي

قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151)}.

وقال سبحانه في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)}.

أوجه العظمة والروعة في هاتين الآيتين كثيرة وفيرة منها:

1. في الآية الأولى قال الله سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الآية الثانية قال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.

"فقدم رزق الآباء في الآية الأولى على الأبناء: [نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]، وفي الثانية قدم رزق الأبناء على الآباء: [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ]؛ وذلك لأنّ الكلام في الآية الأولى موجه إلى الفقراء دون الأغنياء، فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم لا أنهم يخشونه، فأوجبت البلاغة تقديم عدتهم بالرزق تكميل العدة برزق الأولاد. وفي الآية الثانية الخطاب لغير الفقراء وهم الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر، لا أنهم مفتقرون في الحال، وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى، فوجب تقديم العدة برزق الأولاد فيأمنوا ما خافوا من الفقر. فقال: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم أي أن الله جعل معهم رزقهم فهم لا يشاركونكم في رزقكم فلا تخشوا الفقر". (1)

2. قال الله سبحانه في الآية الثانية {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}، فجاء هنا بلفظ الخشية دون الخوف؛ لأنّهم فوق توقّعهم لمكروه الفقر عظّموه، ودليل تعظيمهم له وتهويلهم أمره أنّهم أقدموا على قتل أولادهم، فناسب هنا التعبير بالخشية دون الخوف لبيان تعظيم الأمر عندهم.

3. في الآيتين نجد لفظة "الإملاق" ولا نجد لفظة "الفقر"، ورغم أنّ العرب تستعمل لفظة الإملاق للدلالة على الفقر إلا أن بينهما بعض الفروق:

فالإملاق من أملق أي افتقر، وهو جاري مجرى الكناية لأنّه إذا أخرج ماله من يده ردفه الفقر؛ فاستعمل لفظ السبب في موضع المسبب. قال الزمخشري: "ومن المجاز: أملق الدهر ماله: أذهبه وأخرجه من يده. وأملق الرجل: أنفق ماله حتى افتقر". (2)

والفقر"يستعمل على أربعة أوجه: الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك عام للإنسان ما دام في دار الدنيا بل عام للموجودات كلها، وعلى هذا قوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} [فاطر/15]... والثاني: عدم المقتنيات... الثالث: فقر النفس... الرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك) (3) وإياه عني بقوله تعالى: {رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}[القصص/24]، وبهذا ألمّ الشاعر فقال: ويعجبني فقري إليك ولم يكن ... ليعجبني لولا محبتك الفقر". (4)

وقد ناسب في هذا السياق استعمال لفظة "الإملاق" دون "الفقر"؛ لأنّه سبحانه وتعالى قد تكفّل في الآيتين برزق الآباء والأبناء، فنجد في الآية الأولى قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الآية الثانية قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، وهذا يفيد ضمان الرزق بعد أن تكفّل به الحقّ سبحانه. ولما كانت الحاجة الضرورية ممتنعة بعد أن تكفّل الله سبحانه وتعالى بسدّها، فلا يتصور الفقر إذن إلا من جهة سوء التصرف في الثروة وإن قلت أو سوء توزيعها؛ ومن هنا جاء استعمال لفظة "الإملاق" لأنّها تفيد إخراج ما في اليد من مال أي أنّ الرزق موجود تكفّل به سبحانه إلا أنّ صرفه وإنفاقه وتوزيعه وإن قلّ يعود إلى الأبوين أو إلى النظام الذي وجدا فيه. فالفقر في حقيقته هو المسبّب والإملاق هو السبب. فيكون المعنى: لا تقتلوا أولادكم من فقر أو خشية فقر أنتم سببه (بسوء تصرف أو سوء توزيع)؛ لأننا تكفّلنا برزقكم وما تلدون. والله أعلم.

المصدر: موقع مجلة الزيتونة

(1) ينظر: (أسرار البيان في التعبير القرآني)، للدكتور فاضل السامرائي.

(2) ينظر: (أساس البلاغة)، ص604

(3) ليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من دعاء عمرو بن عبيد.

(4) ينظر (المفردات)، للراغب الأصفهاني، ص397



//

قديم 09-15-2010, 02:22 AM
المشاركة 19
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا


محمد إسماعيل عتوك
باحث في الإعجاز البياني للقرآن

قال الله عز وجل في حق اليهود :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾( الجمعة : 5 )
أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لأحبار بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به عموم اليهود، مَثَّلهم فيه في حملهم للتوراة، وعدم انتفاعهم بها بحمار يحمل أسفارًا. فكما أن الحمار لا ينتفع بما في تلك الأسفار من العلوم النافعة، ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ؛ كذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم نبذوها وراء ظهورهم، وتركوا العمل بها، واقتنعوا من العلم بأن يحملوها دون فهم، وهم يحسبون أن ادخار أسفارها، وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها، وتحقير من لم تكن بين أيديهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾( آل عمران : 187 ).
ووجه ارتباط الآية بما قبله أنه تعالى، لمَّا أثبت في الآيات السابقة التوحيد والنبوة، وبيَّن سبحانه في النبوة أنه ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾( الجمعة : 2 )، أخذت اليهود ذلك ذريعة لإنكار سعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث إليهم، فعند ذلك نزلت الآية.
والمشهور عن اليهود أنهم كانوا ينتظرون مبعث الرسول منهم ؛ ليجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل، ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾( البقرة : 89 ). أي : يطلبون الفتح بذلك النبي المنتظر، ويقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث،﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾( البقرة : 89 ).
وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون ذلك النبي المنتظر من العرب، لا من اليهود. فقد علم الله تعالى أن اليهود قد فرغ عنصرهم من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية، وأنهم لم يعودوا يصلحون لحمل الأمانة ؛ لأنهم زاغوا وضلوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة والهداية، فأزاغ الله قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى، وكتب عليهم الضلال أبدًا لفسقهم. وفي ذلك يقول الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾( الصف : 5 ).
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله تعالى، وانتهى دورهم في حمل أمانته، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال، ولم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة، التي لا تحملها إلا القلوب الحيَّة، البصيرة، المدركة، الواعية، المتجردة، العاملة بما تحمل، والعالمة لما تحمل ؛ ولذلك مثَّلهم الله تعالى بالحمار الذي يحمل أسفارًا.
ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ مثل، وقوله :﴿ مَثَل الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ مثل آخر، وبين المثلين وجه شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه ؛ وهو عدم الانتفاع بما من شأنه أن يُنتفَع به انتفاعًا عظيمًا لسمو قيمته، وجلال منزلته.. وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ؛ ولذلك ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾.
وقد أوضح الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر، فقال :﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(البقرة : 146 ). فأخبر سبحانه أنهم يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في كتابهم بأنه النبي الموعود ؛ كما يعرفون أبناءهم، بحيث لا يلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم. وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلاً منهما يتعذر الاشتباه فيه، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم رسالته، ولم تنفعهم معرفتهم به.
فبنوا إسرائيل﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾. أي : كُلِّفوا أن يقوموا بحقها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾. أي : لم يفوا بما كلفوا به، ولم يعملوا بموجبه ؛ لأن حملَ التوراة يبدأ أولاً بالفهم والفقه والإدراك، وينتهي ثانيًا بالعمل ؛ لتحقيق مدلولها في عالم الضمير، وعالم الواقع، ولكن سيرة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم، وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدَّروا هذه الأمانة حقَّ قدرها، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثَمَّ كان مثلهم في ذلك ؛ كمثل الحمار يحمل أسفارًا.. بل كانوا أسوأ حالاً من حال ذلك الحمار ؛ لأن الحمار لا فَهْمَ له ولا فقه ولا إدراك، فهو لا يدري : أسفرٌ على ظهره، أم صخر، أم غير ذلك ؟ وهؤلاء القوم لهم قلوب وعقول ؛ ولكنهم لم يستعملوها فيما ينفعهم ؛ بل استعملوها فيما يضرهم، فأوَّلوا التوراة، وبدلوا فيها، وحرفوا ؛ ولهذا كانوا :﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾( الأعراف : 179 ).
وفي التعبير عن تكليفهم العمل بما في التوراة، وعن تركهم لذلك التكليف بقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ إشعارٌ بأن هذا التكليف منه جل وعلا لهم، كان عهدًا مؤكدًا عليهم، حتى لكأنهم تحملوه ؛ كما يتحمل الإنسان شيئًا قد وضع فوق ظهره، أو كتفيه، ولكنهم نبذوا هذا العهد، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده.
فقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾ ليس من الحِمل على الظهر، وإن كان مشتقًّا منه ؛ وإنما هو من الحَمالة، بفتح الحاء، بمعنى : الكفالة والضمان. ومنه قيل للكفيل : الحَميل. و﴿ ثُمَّ ﴾ في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ أداة عطف للتراخي الرتبي ؛ فإن عدم وفائهم بما عُهِدَ إليهم أعجب من تحملهم لهذه العهود ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾( الأحزاب : 72 ).
والأسفار واحدها : سِفْرٌ، بكسر السين، وهي الكتب الكبار الجامعة للعلوم النافعة، على ما تشعر به صيغة التنكير﴿ أَسْفَارًا ﴾. وأوثر لفظ السِّفر، لما فيه من معنى الكشف. وقد قيل : سُمِّيَ السِّفر سِفرًا ؛ لأنه إذا قرىء يسفِر يسفر عن الحقائق. أي : يبيِّنها ويوضِّحها. وقيل : يعني كتابًا، بلغة كنانة. وقيل : الكتاب بالنبطية يسمَّى : سِفْرًا. والسَّفَرَةُ، محركةً : الكَتَبَةُ، جمع : سافِر، وهو بالنَّبَطِيَّة : سافرا. والسَّفَرَةُ : كتَبَةُ الملائكة الذين يحصون الأعمال. قال الله تعالى :﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾( عبس : 15 ). وما بأيديهم هو الأسفار.
وجملة ﴿ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ حال من الحمار ؛ لكونه معرفة لفظًا. أو صفة له ؛ لأن تعريفه ذهني، فهو في معنى النكرة، فيوصف بما توصف به على الأصح. ونسب أبو حيان للمحققين تعيُّنَ الحالية في مثل ذلك. ويؤيد الوصفية قراءة ابن مسعود :﴿ كَمَثَلِ حِمَارٍ ﴾، بالتنكير.
ثالثًا- ولسائل أن يسأل : لماذا قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ ﴾، فمثَّلهم بالحمار، ولم يمثِّلهم بالإبل، فيقول :﴿ كَمَثَلِ الإِبِلِ ﴾، مع أن المشهور عن العرب أنهم يستعملون الإبل في حمل أثقالهم وأمتعتهم، وكانوا يسمُّونها : سفينة الصحراء ؟ ويجاب عن ذلك بأن الله تعالى جعل الإبل آية من آياته، ودعا إلى النظر في خلقها نظر تأمل وتفكر واعتبار، فقال سبحانه :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾( الغاشية: 17 )، وجعلها أيضًا من شعائر دينه، فقال سبحانه :﴿ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾( الحج : 36 ). وأهل الكفر والضلال لا يحسُن أن يمثَّلوا بما جعله الله تعالى آية من آياته، وشعيرة من شعائره ؛ وإنما يمثَّلون بما هو مَثَلٌ للسَّوْء، وليس هناك مثلٌ أسوأ من مَثَل الحمار في هذا المقام، يمثَّلون به، فكان هذا التمثيل إشعارًا بكبر مقت الله تعالى لهم، وغضبه عليهم.
وأما لفظ ﴿ الْحِمَارِ ﴾ فيقع على الذكر والأنثى، ويجمع على : حمير، وحُمُر. ويستخدم منذ القدم فــي حمل الأمتعة وحرث الأرض، وهو شديد التحمل والصبر. وتخصيصه- هنا- بالتمثيل به ؛ لأنه كالعلَم في الجهل والبَلَه والضلال، وأنه مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك هو في استعمال العرب، والحديث الشريف. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا ».



يتبع ...

قديم 09-15-2010, 02:22 AM
المشاركة 20
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
لقد شبه الله تعالى الذين كلفوا بالتوراة (وهم اليهود) ولم ويحملوا هذه الأمانة بالحمار الذي يحمل فوق ظهر كتباً دون أن يفهم ما فيها أو يستفيد منها

وإنما شبِّه هذا المتكلم بالحمار يحمل أسفارًا ؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة، وأتعب نفسه في حضور الجمعة. والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. فالجامع بينهما هو عدم الانتفاع.
وعن علي بن الجعد قال :« سمعت شعبة، يقول : مَثَل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية، مَثَل الحمار عليه مِخْلاةٌ، لا عَلَفَ فيها ». وقال حماد بن سَلمَة :« من طلب الحديث، ولم يتعلم النَّحْوَ. أو قال : العربية، فهو كمَثَل الحمار تُعلَّق عليه مِخْلاةٌ، ليس فيها شعير ».
ومن تجنُّب العرب لذكر الحمار مجردًا أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح باسمه، فيقولون : الطويل الأذنين. وقد عُدَّ في مساوىء الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركبه استنكافًا، وإن بلغت منه الرِّجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعًا، وتذللاً لله تبارك وتعالى. وقالوا في وصف الحمار : إذا وقفته أدلى، وإن تركته ولَّى، كثير الرَّوْث، قليل الغَوْث، لا تَرْقَأُ به الدماء، ولا تُمْهَر به النساء. وقالوا : الحمار حيوان وقِح شهْواني شبِق لدرجة أنه لا يرعوي عن مواقعة أنثاه في قارعة الطريق، على عكس غيره من الحيوانات ؛ كالجمل والخروف.
ويشتهر الحمار من بين الحيوانات كلها بصوته العالي الذي يُعَدُّ من أقبح الأصوات وأوحشها، ويسمَّى صوته : نهيقًا، وأوله شهيق، وآخره زفير. وقد وصفه القرآن الكريم بأنه أنكر الأصوات على الإطلاق ؛ لما يسببه من إزعاج وأذى. قال تعالى على لسان لقمان الحكيم يعظ ابنه :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾( لقمان : 19 ).
والغضُّ من الصوت هو التنقيص من رفعه وجَهارته، وهو أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه، ورفعه يؤذي السمع، ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء داخل الأذن. وقد شبِّه الرافعون أصواتهم في الآية السابقة بالحمير وأصواتهم، ولم يؤت بأداة التشبيه ؛ بل أخرج ذلك مخرج الاستعارة. وهذا أقصى المبالغة في الذم، والتنفير من رفع الصوت.
وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به. قال الحسن رضي الله عنه :« كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرُدَّ عليهم بأنه لو كان خيرًا، فُضِّل به الحمير ». وقال سفيان الثوري رضي الله عنه :« صياح كل شيء تسبيح ؛ إلا نهيق الحمير ». وعن صهيب- رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« إذا نهق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ». وفي الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا سمعتهم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله ؛ فإنها رأت ملكًا. وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان ؛ فإنه رأى شيطانًا ».

قيل : إن سبب قبحه يكمن في قلة حركته وعدوه، خلافًا للحصان الذي اشتهر بكثرة حركته، وشدة عدوه، وخفة صوته ؛ ولهذا سمِّيَ صوت الحمار نهيقًا، وسمِّيَ صوت الحصان صهيلاً. قال تعالى :﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾( العاديات : 1 ). والضَّبْحُ هو صوتٌ بين الصهيل والحمحمة، لا يزعج الإنسان ؛ كما يزعجه النهيق. وقد اكتسبه الحصان بفضل عدوه ؛ لأن العدو يذيب الشحوم المتراكمة حول الأحبال الصوتية، بعد أن تتعرض تلك الأحبال للإحْماء والشدِّ من خلال رياضة العدْو، فيَشْبَه ذلك شدَّ أوتار المعازف ؛ لكي تحصل على صوت عالٍ ذي نبرة رفيعة جميلة.
وأما صورة الحمار فهي صورة كريهة في القرآن والسنة، ولكراهتها حرِّمت علينا لحومها. جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله :« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل ». وروي عنه أيضًا :« أكلنا زمن خيبر الخيل، وحُمًر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي ». وفي مجمع الزوائد عن بن مسعود- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« إن نفس المؤمن تخرج رشحًا، وأن نفس الكافر تسيل ؛ كما تخرج نفس الحمار ».
رابعًا- فهل بعد ذلك كله يوجد مَثَلٌ أسوأ من هذا المَثَل الذي مَثَّل الله تعالى به أولئك اليهود في جهلهم وضلالهم وتكذيبهم بالتوراة والقرآن ؟ ولهذا ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾. و﴿ بِئْسَ ﴾ لفظ جامع لأنواع الذمِّ كلها، وهو ضد ﴿ نِعْمَ ﴾ في المدح، وهما جامدان، لا يتصرفان ؛ لأنهما أزيلا عن موضعهما. فنِعْم منقول من قولك : نَعِم فلان، إذا أصاب نعمة. وبِئْس منقول من بَئِس فلان، إذا أصاب بؤسًا. فإذا قلت : بِئْس الرجل، دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه. وإذا قلت : نِعْم الرجل، دللت على أنه قد استوفى المدح الذي يكون في سائر جنسه. وعليه فإن هذا المثل قد دل على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر أمثال السَّوْء. وفيه تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب، أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه، ويعمل بما فيه من أمر ونهيٍ ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق أولئك اليهود. فهو تنديد باليهود، وفي الوقت نفسه تحذير لعامة المسلمين من أن يكونوا كاليهود، في عدم الانتفاع بما فيه دواء من كلِّ داء، وشفاء لما في الصدور.
ومن هنا قيل : هذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، أو العلم، فترك العمل به، ولم يؤده حقه، ولم يرعه حق رعايته.. روي عن ميمون بن مهران أنه قال :« يا أهل القرآن ! اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم »، ثم تلا هذه الآية.
وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ فاعل ﴿ بِئْسَ ﴾، وقد أغنى ذكره عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو مثل القوم المكذبين، فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير ؛ لأنه قد سبقه ما بيَّنه بالمثَل المذكور قبله في قوله :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من أساليب القرآن البديعة وتفنُّنانه في النظم.
وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إخبار عنهم بأن سوء حالهم، لا يرجَى لهم منه انفكاك ؛ لأن الله تعالى حرَمَهم اللطف والعناية بإنقاذهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم دون نظر، وجحودهم لآيات الله تعالى دون تدبر.
قال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعب، فقال : أسلم كعبٌ في زمان عمر. أقبل، وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال : يا كعبُ ! أسلم. قال : ألستم تقرؤون في كتابكم :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، وأنا قد حملت التوراة. فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلاً من أهلها، يقرأ هذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾( النساء : 47 ).
فقال كعب : يا رب آمنت ! يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع، فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين ».
خامسًا- بقي أن نشير إلى أن أكثر المفسرين يجعل التشبيه في هذا المثل من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول ؛ كالتشبيه في قول الشاعر :
كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول
والظاهر مما تقدم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي المركب ؛ فهو تشبيه صورة مركبة من عدة أجزاء بصورة أخرى مثلها، ووجه الشبه مركب أيضًا من مجموع كون المحمول كتبًا نافعة، وكون الحامل لها حمار لا علاقة له بها، بخلاف ما في البيت السابق ؛ لأن العيس في البيداء يمكن أن تنتفع بالماء، لو حصلت عليه. أما الحمار فلا ينتفع بالأسفار، ولو نشِرت بين عينيه. وفي ذلك إشارة أيضًا- كما تقدم- إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كليَّة أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل بها، فنقلها الله تعالى إلى قوم أحق بها وبالقيام بأعبائها.



//


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ( 2 ) الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ~
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الإعجاز فى القرآن سرالختم ميرغنى منبر الحوارات الثقافية العامة 6 07-07-2019 11:10 AM
الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ماجد جابر منبر الحوارات الثقافية العامة 11 06-10-2012 07:51 PM
الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ~ أمل محمد منبر الحوارات الثقافية العامة 670 11-01-2010 07:01 PM
الإعجاز العلمى .. والعجز العلمانى محمد جاد الزغبي منبر الحوارات الثقافية العامة 18 10-30-2010 12:21 PM

الساعة الآن 04:17 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.