احصائيات

الردود
9

المشاهدات
8467
 
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي


ماجد جابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
3,699

+التقييم
0.77

تاريخ التسجيل
Feb 2011

الاقامة

رقم العضوية
9742
10-30-2011, 12:17 AM
المشاركة 1
10-30-2011, 12:17 AM
المشاركة 1
افتراضي القاصة ابتسام شاكوش في روايتها ( الوجه المكسور )
القصة كجنس أدبي وفني موضوع جديد في الأدب العربي وهذه الظاهرة تتجسد في آداب الشعوب، لأن بداياته ترجع إلى القرن التاسع عشر والسنوات التي سبقت السبعينات لم تخل من القصص الفنية الناجحة مع تطور التيارات الأدبية في الآداب العالمية فحاولت القصة والرواية العربية أن تجد لها مكانا" فأخذ كتاب القصة والرواية يجيدون التعامل مع قضايا أمتهم .
وكما أرست قصص الخمسينيات والستينات قواعد قوية للكتاب ، كي يكون بمقدورهم وبذكاء وضمن أيدلوجية معينة التعامل مع طبيعة مضمون قصصهم ، وفي الوقت نفسه بدأوا بالبحث عن أنسب الأشكال والأطر للخروج بقصة ناجحة سائرة جنبا" إلى جنب مع القصة العربية والعالمية .
وهاهي القاصة السورية ابتسام شاكوش تمتشق قلمها الساحر ، ليخط روائع القصص والروايات الهادفة ، تعالج فيها هموم شريحة كبيرة من المسحوقين والمعذبين في المجتمعات العربية، فشخصيتها الريسة تعاني الآلام في الأسرة أو في القرية أو المدينة ، هذه الفئة ألهبها سياط من يملك المال ، وأدماها ظلم الأهل والخلان ، فلا مراعاة لعواطفها ولا قيمة لمشاعرها ، ولا إحساس بوجودها.
والكاتبة ابتسام شاكوش لها يد فنان في تحليل النفوس وتشخيصها بأسلوب عذب سهل ممتع ،وتحسن استخدام عنصر التشويق الذي يشد القارئ ، وتلتحم كل عناصر الرواية في عملها ، لتتشكل حبكة فنية في ثنايا رواياتها وقصصها ؛ فنظفر بمضامين أخلاقية تسمو بالفرد وبالنفس الإنسانية المعذبة ، لنتتبع نتفا من رائعة ابتسام ، والتي بعنوان : الوجه المكسور :
وقبل أن نلج في التفاصيل ، لابد لنا من الوقوف قليلا عند اسم الرواية ، وهو ( الوجه المكسور )، ألا توافقني عزيزي، أن هذا الاسم موح بالألم والعذاب والضنك ؟
لنستمع لها وهي تصف حياة بؤس الشخصية التي تخاطب من أحبت ، لكن عناد الأسرة وتفككها نتيجة للطلاق الذي حصل بين الأم والأب يحرمانها ممن أحبت ، وفي نهاية الأمر تجبر الشخصية بطريقة أو بأخرى على الزواج ممن لا تحب ، فتدب الفوضى ، ويحدث الصراع والفشل المحتوم ؛ لتعيش الشخصية حياة بؤس وألم يسكن القلب ويخيم على المشاعر والأحاسيس.
( ومنذ تلك اللحظة وأنا أعيش في حرم محكمة كبيرة، في حضرة... حضرة من يا حسن؟ حضرة القاضي، كل من حولي قضاة: أعمامي أولادهم، جدّي، جدتي، جيرانهم، كل كبير له الحق أن يكون قاضياً وأنا المتهم المحاصر دائماً بالأدلة، أدلتهم قاطعة، حججهم دامغة، ليس هنالك متسع للدفاع عن النفس، ما علي سوى الاعتراف بذنوب لم أرتكبها ) .
كلمات القصة موحية ، فالشخصية الرئيسة ، تئن من سهام الأسرة ، وسياط المجتمع ، فكأن القاصة فنانة تجيد استخدام الألوان المناسبة ، لتصنع بريشتها قطعة فنية غاية في الدقة والجمال تسر الناظرين .
فقريبها الكهل يحاول استدراجها في دمشق: (إن الإنسان إذا عضه الجوع، تعلل بالصبر، فإن لم يقدر، حاول الحصول على الزاد من أي طريق، قد يسرق، قد يتسول، قد يجد كسرة خبز في القمامة يأكلها فتسد جانباً من حاجته، أما إذا عضته الحاجة إلى الحنان، فمن أين يتسول الحنان؟ ومن ذا الذي يرمي بفضلات عواطفه في القمامة ليلتقطها ذو الحاجة؟ )
والكاتبة تنتقد نفوس كثير من الموظفين ، فالمراجع لا يحظى بمعاملة حسنة غالبا في دوائرهم ، الخمول والكسل يدب في أوصالهم ، ولكن تدب فيهم الهمة والروح عند مراجعة حسناء لهم ، والويل كل الويل ، لمسكينة لم يهبها الله مسحة جمال أو تقدم بها العمر ، فسوف تعاني الأمرين ، ولن تمرّ معاملتها مرور الكرام، ولن تكتمل بسهولة معاملة الموظفين لها أو في تجديد عقد عملها ، والحظوة كل الحظوة للجميلات الموظفات أو المراجعات ، فلهن الاحترام وجمال التقدير وسرعة الترفيع ، وذنبهن مغفور.وأطلقت عليهن الراوية اسم (الهندات ) . ، ونلاحظ سهولة العبارة ، والتصوير الفني ، فلقد شبهت الجوع بإنسان يعض ، وهذه الشخصية تلحّ بإحساس مرهف على شيء ينقصها وقد حُرمت منه ، هي ظمآى للحنان ، والقاصة نجحت في تصوير الشخصية من الداخل ، فنحن أمام رجل ثري يريد أن يشبع رغباته ، كريم في الظاهر عند حاجته ، يسعى لأن يخدش العفاف ويتلذذ به ، بخيل في الواقع ، تتجلى فيه كل معاني الأنانية .
والكاتبة تنتقد شريحة من الرجال ممن تعودوا على طرق باب الفحش باستخدامهم الأساليب التي في ظاهرها رحمة ، وفي باطنها لؤم وفحش وأنانية ، يريدون متعة أنفسهم ، يتظاهرون بالطيبة ، والطيبة منهم براءة.
قريب أمها الكهل عبدو يحاول استغلالها في دمشق ، حاول أول الأمر إيهامها بمساعدته لها في الحصول على وظيفة ، حاول دعوتها للمطعم أو لشراء الملابس لها ،وعندما فشل من ذلك أركبها بمركبة رخيصة وتركها بدون تذكرة.( تلفت حولي للمرة الأخيرة، غاب صندوق جدتي( عم عبدو ) وتركني أعاني القهر والخوف وسط هذا الزحام، طوال عمري أترك وسط الزحام لأضيع وأحتار في البحث عن مخرج، وحين أجده وأعود، لا تفرح عودتي أحدا)
(أقفلت باب غرفتي بالمفتاح واستلقيت على السرير، أصارع الخزي الذي اكتسحني كالعاصفة، هنت وبلغ بي الهوان أن ينظر إلي ذو العين الطافية وكأنني عاهرة، بائعة هوى، أي صنف من البشر أنا؟ لماذا أحيا؟) وتستخدم الكاتبة الكناية ( فكنت بصندوق جدتي عن الكهل عم عبدو وأخذ هذا الكهل بتهديدها بأن بيتها مرهن له وقد انتهت مدة رهنه.. كل هذا من أجل إخضاعها.
(يمن على بسكن البيت الذي يفترض أن أرثه منك، يطلق المزيد من عفاريته, يخيّرني بين العيش في سراديبه المظلمة، عشيقة عاهرة، وبين التشرد ) تعرض عليه الزواج الشريف للخروج من هذا المأزق ويعرض هو عليها العشق والعهر.
وتضطر للذهاب والعيش عند عمتها التي لا تحبّ أحدا، وجدتها العصبية الكذوب تظهر خلاف ما تبطن ،المتباهية بأبنائها ، الأنانية الجامدة في عواطفها..
وتبين الكاتبة سبب انفلات كثير من الفتيات بسبب قسوة الأب والأخ والفقر، وتصف مشاعرهن البائسة بعد كل جولة من الانحراف ، وهي تصور وتبيِّن لنا أن الحرمان وفقدان الحنان في كثير من الأوقات يدفع إلى الانحراف، فتقول: (كان لهؤلاء البنات في شبابهن المنصرم من سيطرة الأب وطغيان الأخ ولسعة الفقر دوافع قوية للانفلات وأنا؟ من يضغط علي؟ لا أحد، من يرحمني ويحيطني برعايته؟ أيضاً لا أحد، من يحبني؟ من يكرهني؟ أيضاً لا أحد، لا قيود تقيدني لأبحث عن.. )
وعندما يأت زائر عند جدتها فمكانها القبو (أهداني جدي من قبره الكثير من الهدايا: جبران والمنفلوطي، أرسين لوبين وآجاثا كريستي، كتب كثيرة في العلوم والدين والطب، مجلات متنوعة المواضيع، صار القبو ينطوي على أسعد أوقاتي، حيث أحلق مع جبران، وأحبس أنفاسي في مغامرات أرسين لوبين، أسرح مع ميخائيل نعيمة أتأرجح بين الرعب والمتعة والخيال، أتخيل نفسي بطلة كل قصة...)
وعندما تئن من قسوة الحياة ولهيب سياط من حولها ، ولؤم تعامل جدتها معها تتذكر والدها وتلوذ إليه بأفكاره، وهنا تلجأ الكاتبة إلى فنية استخدام الحوار الداخلي أو ما يُعرف بالمنولوج الداخلي ، فتقول : ( كم سأحبه لو جاء، سأهديه فرحي بلقائه المرتقب، وأهديه دموعي، تعال يا أبي، كن رحيماً بي، كن قاسياً اضربني، اشتمني، أدبني، أفرغ على رأسي كل ما يعتريك من ضغوط الحياة، كن أبا لي يا أبي، أنا لا أصدق ما تقوله عنك أمي وأمها....)
والكاتبة رومانسية في تفكيرها تعشق القرية التي كرهتها والدتها وتصف جمود المدينة :( في القرية ما عدت أحتاج النسك والصوامع، ألفت الحياة الاجتماعية بكل أبعادها، ببساطة أهلها وحميمية علاقاتهم، الكل يلقي السلام، الكل يتعاون في أعمال الحقول، يهدي بعضهم بعضاً من نتاج كرومهم بلا تكلف ولا منة،...)
وأحيانا تلوذ الكاتبة إلى الرمزية عندما تنتقد الجيوش العربية وعجزها ، فهاهي تقارن بين العم ناجي الذي عفا عن سائق قطعت سيارته خط الهاتف وبين أعمالها الناجحة في تزيين وتجميل بيت جدتها بأنواع الورد والرياحين ومساعدتها للمزارعين وقراءتها الذاتية...فتقول: (استمع إليه، أقارن بين نصره الوحيد، وانتصاراتي المتتالية في يومي كله....).



قديم 10-30-2011, 12:59 AM
المشاركة 2
محمد عبدالرازق عمران
كاتب ومفكر لـيبــي
  • غير موجود
افتراضي
* نعم أتفق معك ( الوجه المكسور ) هو كناية عن ( المرآة المكسورة ) التي تتراءى لنا من خلال قطعها المتناثرة العديد من المشاهد والصور بعدد شظاياها المحطمة .. وهذه القصة بحسب ما فهمت من عرضك عبارة عن تعبير أدبي عما نعيشه فعلا .. ففي واقع الأمر نحن في الغالب نتزوج ونتعايش مع من لا نحبهم بإختيارنا الحرّ نتيجة للنفاق الإجتماعي الذي تناولته السينما المصرية قديما في قصة ( أرض النفاق ) ليوسف السباعي ـ إن أسعفتني الذاكرة ـ .. بل نعيش مع أولئك الذين فرضتهم علينا المواضعات الإجتماعية ولذا تجدنا متعطشون أبدا للحب والصدق والإخلاص بمعانيها الحقيقية .. قراءة جيدة وعرض موفق .. شكرا لك .. مودتي .

* ويأتيك بالأخــــبار من لم تزوّد .
( طرفة بن العبد )
قديم 10-30-2011, 04:40 PM
المشاركة 3
سها فتال
كاتبة وأديـبـة
  • غير موجود
افتراضي
شكر الله لك أستاذ ماجد على هذا التحليل الفني الراقي
القصص والروايات هي من أحب فنون الأدب إلى القراء
وعندما يستطيع القاص أو الراوي سبر أغوار المجتمع
وتجسيد واقعهم في قصصه ورواياته
يكون قد كسر الحاجز بينه وبين القراء
فيجدون أنفسهم هم أبطال الروايات تلك والقصص
وهذا ماجسدته الكاتبة في روايتها
عندما عكست واقع شريحة كبيرة من النساء في مجتمعاتنا
وجسدت أنت هذا في تحليلك الرائع للقصة
فهو واقع كائن لامهرب منه
بارك الله فيكم على هذا العرض القيم
وننتظر منكم المزيد


قديم 10-30-2011, 09:05 PM
المشاركة 4
عمرو عامر
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكرك أستاذنا القدير ماجد جابر على أفكارك النقدية الرائعة كما أشكر صاحبة القلم الماتع الأستاذة ابتسام شاكوش على فنها القصصي الهادف، وعى أسلوبك السهل الجميل ،وعلى الجهد المثمر.


قديم 10-31-2011, 08:19 PM
المشاركة 5
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
* نعم أتفق معك ( الوجه المكسور ) هو كناية عن ( المرآة المكسورة ) التي تتراءى لنا من خلال قطعها المتناثرة العديد من المشاهد والصور بعدد شظاياها المحطمة .. وهذه القصة بحسب ما فهمت من عرضك عبارة عن تعبير أدبي عما نعيشه فعلا .. ففي واقع الأمر نحن في الغالب نتزوج ونتعايش مع من لا نحبهم بإختيارنا الحرّ نتيجة للنفاق الإجتماعي الذي تناولته السينما المصرية قديما في قصة ( أرض النفاق ) ليوسف السباعي ـ إن أسعفتني الذاكرة ـ .. بل نعيش مع أولئك الذين فرضتهم علينا المواضعات الإجتماعية ولذا تجدنا متعطشون أبدا للحب والصدق والإخلاص بمعانيها الحقيقية .. قراءة جيدة وعرض موفق .. شكرا لك .. مودتي .
تحيّاتي
أشكر لك أستاذنا القدير وأخي وعزيزي محمد عبد الرازق عمران مرورك الكريم ، وعذب كلماتك ، وتشجيعك المتواصل .
ومنابر علوم اللغة ومشاركوها بحاجة لتشجيعك.
بوركت ، ووفّقك الله.

قديم 12-02-2011, 07:26 PM
المشاركة 6
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه قصة قصيرة للقاصة ابتسام شاكوش ، ولي عودة للتعليق عليها بعون الله بطريقة تخدم من يهوى الكتابة في فن القصة .


الحصار


أدار الذراع القصيرة دورة كاملة فانسحب زجاج النافذة إلى الأعلى وانفصل فضاء السيارة العابق بالعطور الثقيلة عن الفضاء الخارجي، استوى جالساً وتنفس بعمق، غصت رئتاه باللزوجة، أسند ظهره إلى المقعد ملقياً برأسه إلى الخلف وتمنى.. تمنى من أعماقه ألا ينتهي الدرب، وألا يصل موكب السيارات التي تزفه مع عروسه إلى القرية، شبك أصابع كفيه وراح يداعب بسبابته سحجة متوضعة على ظاهر كفه الأيسر.
انتصب جدار صلب فصل بين تفكيره وبين أحداث الساعات القادمة اعترته قشعريرة مفاجئة غسلت كل الوصايا والتنبيهات التي تلقاها قبل قليل من أمه وتركته يهوي في فراغ سحيق، لام نفسه حيث ما عاد ينفع اللوم لماذا أذعن لهم وتركهم يخطبون له هذه الفتاة كأن الأمر لا يعنيه؟ قالوا له استرح فاستراح، وتركهم يختارون ويقررون ويعقدون صفقات الأثاث والثياب وكل شيء وهو يقف على هامش اجتماعاتهم يغالب الخجل.
عبر بفكره زجاج النافذة وهرب بعيداً، راح يبحث في كنه، وفلسفة ما يحيط به قرر: العالم يتألف من ثلاثة أقاليم لا رابع لها: الثوابت المتحركات، والناس التي تسعى بينها.
الشجرة مثلاً ثابتة في مكانها أمام البيت المنفرد القائم على يمين الطريق المعبد والبيت ثابت أيضاً، فارس يركب السيارة المتحركة والعروس...
شهق خائفاً: العروس؟ من أين جاءته هذه المصيبة؟ ولم العروس؟ اختارها... بل اختارتها أمه وأخذته للتفرج عليها وإبداء الرأي، ذهب مدفوعاً بإلحاح أمه وفي نيته أن يرفض محتجاً بأن العروس لا تناسبه وحين رآها رأى سميرة سمراء قصيرة القامة، نحيفة ذات عينين صغيرتين هزّ رأسه بالموافقة رداً على سؤال أمه.
يبدو أن ما رآه يومذاك كان وهماً، ها هي سميرة، تجلس بجانبه منذ ساعة، وقد تعملقت وبدا وجهها أبيض فاقعاً، واتسعت عيناها حتى صارت شبيهة ب...
شبيهة بمن؟ لا... لا... لا شيء البتة، فارس إنسان نظيف، ضميره طفل نقي، ليس له ماض يؤرقه، ولا شوكة تخز وجدانه، فلتتسع عينا سميرة ما بدا لها، لن تجرؤ أبداً على النظر إلى وجهه، سيكون الرجل وتكون الغنمة الوديعة، بل القطة الصغيرة المُذنبة.
كان يحدث نفسه في سره ويسرد بياناته ومخططاته، غير أن ركبتيه كانتا في صمم عن كل ذلك، لم تسمعا ما دار في خلده، ولا انتبهتا إلى انتفاخ صدره وشموخ أنفه، ها هما تصطكان من الخوف، حاول التغلب على خوفه فتحدث إلى أمه وابتسم لخالته، ضحك لعمته فشرق بريقه، وعصفت به عاصفة من السعال والعطاس، تسابقت النساء لنجدته فهذه ترقيه وتلك تُصلي لإبعاد العين الحاسدة عنه، توقف الغناء وسكتت الزغاريد مما زاد في ارتباكه وأغرقه في بحر من العرق، جيء بكأس من الماء فأخذ منها جرعات صغيرة، أحس بلوزتيه تتلاصقان حتى تعذر عليه بلع الماء، وما أنقذه من تلك المعضلة سوى وصول السيارات والبدء بمراسم الوداع حتى انتهى به المطاف إلى جوف هذه السيارة.
كانت العروس تقاوم حصاراً شدّ حباله بقوة حول إحساسها مصدره مثانتها التي امتلأت فأرسلت بأول إنذاراتها منذ ساعة، لكن سميرة ما كانت تجرؤ على الإفصاح أمام أمها الدائمة السخط والغضب، حسبت أن أمها لا بد أن توجه لها تلك النظرة الصفراء التي تقدح شرراً، فكتمت ألمها وأطرقت خوفاً وحياءً، لكن الحصار ما كان ضاغطاً عليها بمثل شدته الآن، إن نبض أوردتها يزيد من عنف الضغط على مثانتها فتدق في صدغيها أجراساً ذات رنين أحمر حار، حاولت اصطناع ألم ما في مكان آخر من جسدها يشغلها عن الإحساس بالحصار الرهيب، راحت تقرص باطن فخذها بأصابعها لكن لا فائدة، لفت ساقاً على ساق للحفاظ على تماسكها فانتبه فارس، هذه حركة وقحة هكذا علمته أمه لا تأتي بها سوى المستهترات، وظنه أن عروسه طيراً أزغب، بل إن ما أعجبه فيها هو ذلك الحياء الذي جعلها تتعثر بذيل ثوبها حين جاء منزل أهلها لرؤيتها ونظرتها التي لا ترتفع أبداً عن الأرض، هكذا أراد، أمام امرأة كهذه ستتفجر رجولته طوفاناً بلا حدود ولسوف...
أجفل فارس، انتفض بشدة حين أمسكت العروس بركبته، ولفت أصابعها المتشنجة على فخذه، لأول مرة في حياته تلامسه يد امرأة، تفتحت خلايا جسده وبدأ العرق يجري غزيراً بارداً من مساماته، تقبضت عضلات ساقه في محاولة للهرب وما تجرأ على الحركة، فكر، تمنى لو يمد يده فيبعد يدها عنه، تمنى لو ينهرها موبخاً، فكر وفكر، زاد من عنف حركة بسبابته على ظاهر كفه يعالج السحجة حتى أزاح عنها قشرتها المتقرنة فأدماها.
زاد تمسك العروس بركبته طرداً مع زيادة الضغط على أعصابها ودعمت تلك الزيادة بيدها الثانية التي تمسكت هي الأخرى بفخذ فارس مستغيثة مستنجدة، وبقي لسانها في مكانه يلجمه الخجل.
كانت السيارات قد تركت المدينة وسلكت الدرب الذي يسلكه فارس كل يوم في ذهابه إلى العمل وإيابه، نظر إلى البعيد، إلى المنزل المنفرد، ركز نظره جيداً، تبدو الشجرة أمام البيت في نقطة المنتصف بين زاويتيه، أرجع البصر إلى ساقه المحاصرة بأصابع العروس فتمنى.
تمنى لو تنقلب إحدى السيارات بمن فيها فيتوقف العرس، تمنى لو يموت لو تموت العروس، عشرات الأماني الساذجة تصارعت في خياله لكن... لا فائدة نظر مرة أخرى إلى البيت المنفرد، كانت السيارة التي تقل فارساً تحاذيه والشجرة تغطي زاويته الشرقية فتحجبها بكاملها عن العيون.
عاد فارس ليتمنى، تمنى لو أن الموكب توقف فجأة في المدينة ونزل سائقوا السيارات ليتشاجروا، سينزل هو باعتباره الشخص الأهم في العرس ولكن لن يصلح بينهم، بل سيتخذ طريقاً في جوف أحد الأزقة المظلمة ويختفي عن الأنظار ريثما تنتهي الجلبة وتعاد العروس إلى منزل أهلها.
سحب ساقه بضعة ميلمترات، راحت ضربات قلبه تزداد عنفاً حتى خيل إليه أن صدره لن يلبث أن ينشق، بعض الناس يصاب بأزمات قلبية مفاجئة لو أن ذلك يحصل الآن لأحد المدعوين، لو أن ذلك يحصل لفارس نفسه سيغير الموكب اتجاه سيره ويتجه إلى أقرب مشفى، سيدخلونه غرفة تزدحم بالأجهزة الدقيقة ليعيش بين جدرانها آمناً، سيوثقوه بالأربطة الطبية والأنابيب، ولن تستطيع ألف عروس زحزحته عن سريره.
التفت إليها إلى العروس كانت عيناها جاحظتين، تبثان وهجاً غريباً عجز عن تفسيره، ووجهها المحتقن تشوبه زرقة أتت على ألوان زينتها فبدت كأنها... كأنها...
انهار جدار الوهم فجأة وانكسرت صورة سميرة، جاءته وصال من عمق الماضي مهرولة لتحتل ساحة إحساسه بالكامل، مدّ أصابع الخيال في ظلمات الرعب يلملم بها حطام الحاضر المتشظي، يحاول إصلاح ما انكسر كانت الصورتان قد تداخلتا حتى عجز عن الفصل بينهما، وبقيت وصال بوجهها القاسي الشبيه بهذا الوجه وعينيها الجاحظتين وأنفاسها المتحشرجة الصادرة عن جسد معروق ضخم يجثم بكامله فوق ولد نحيل لا يفقه من أمور الكبار شيئاً، تقوم بحركات غريبة اغتالت صرخة الخوف في صدره وقذفت به إلى إحساس يشبه إحساسه الآن ورجفة في أوصاله كهذه التي يحسها الآن وصال، تلك الأرملة الشابة التي حمّلت ضميره الإثم منذ بداية حياته وجعلته يعيش في عزلة، كارهاً الناس والحياة ظاناً السوء بكل أنثى، باحثاً عن وميض الشبق في كل العيون الواسعة المستديرة.
تمنى لو أنه في منام فكل مناماته لا تخلو من مثل هذا الكابوس الذي ما فتئ يراوده منذ سنين ويضغط على أنفاسه حتى تمتد يد أمه الرحيمة، فتوقظه بحنان يفتح عينيه على وجهها الوديع ويحمد الله أن ذلك ما كان سوى أضغاث أحلام.
الضغط المنبعث من مثانة العروس ما عاد يُحتمل صار يدق مساميراً غليظة في رأسها فيبعث ألماً شديداً في أوصالها عضت على شفتيها في محاولة لابتلاعه لكن المثانة الممتلئة تكاد تنفجر بما فيها، تمنت لو تستطيع نقل شكواها لأحد وليس حولها سوى العريس وسائق السيارة، راحت تتمسك بعنف أكثر بساق العريس التفتَ فارس رأى وصال مرة أخرى تمزق حجاب الزمن وتحتل وجه العروس، فجأة شعر بتيار كهربائي عنيف يضرب أسفل ظهره ويشل إحساسه أمام عينيها الضارعتين الجاحظتين.
كان البيت المنفرد قد أصبح خلف السيارة في البعيد البعيد تشبثت العروس بركبته أكثر تمشت بأصابعها المرتجفة على فخذه، ما زال موكب السيارات يمشي متمهلاً مطلقاً الأبواق، الزغاريد تعلو الحصار يشتد وصال تفحُّ على صدره بجسدها العاري الثوابت تهتز، تتحرك، آمن فارس أن الثابت الوحيد في حياته ليس وجه وصال وطفل يحاول التملص بجسده من ثقلها وبروحه من لعنتها.
رمى رأسه للخلف وتراخت يداه أطلقت العروس صرخة استغاثة حادة ثاقبة جعلت السائق يجنح بسيارته إلى أقصى اليمين من الإسفلت مشيراً إلى الموكب بالتوقف.
جيء بماء بارد نظيف ليغسل به وجه العريس، كان الخوف وقوة الصدمة والشؤم الذي بدأ بأولى تباشيره على الحياة الزوجية متمثلاً في هذه الإغماءة مبررات كافية منحتها النسوة للعروس حين شاهدن السائل الدافئ يبلل ثوبها الأبيض ويجري في قاع السيارة.

قديم 12-15-2011, 08:02 PM
المشاركة 7
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
* نعم أتفق معك ( الوجه المكسور ) هو كناية عن ( المرآة المكسورة ) التي تتراءى لنا من خلال قطعها المتناثرة العديد من المشاهد والصور بعدد شظاياها المحطمة .. وهذه القصة بحسب ما فهمت من عرضك عبارة عن تعبير أدبي عما نعيشه فعلا .. ففي واقع الأمر نحن في الغالب نتزوج ونتعايش مع من لا نحبهم بإختيارنا الحرّ نتيجة للنفاق الإجتماعي الذي تناولته السينما المصرية قديما في قصة ( أرض النفاق ) ليوسف السباعي ـ إن أسعفتني الذاكرة ـ .. بل نعيش مع أولئك الذين فرضتهم علينا المواضعات الإجتماعية ولذا تجدنا متعطشون أبدا للحب والصدق والإخلاص بمعانيها الحقيقية .. قراءة جيدة وعرض موفق .. شكرا لك .. مودتي .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكر لك أستاذ محمد عبد الرزاق عمران أفكارك النقدية الرائعة ، ومرورك العذب .

قديم 01-10-2020, 03:02 PM
المشاركة 8
ابتسام شاكوش
أديبـة سـوريـّــة
  • غير موجود
افتراضي رد: القاصة ابتسام شاكوش في روايتها ( الوجه المكسور )
شكرا لكم على هذا الاهتمام

قديم 01-11-2020, 01:20 PM
المشاركة 9
بتول الدخيل
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: القاصة ابتسام شاكوش في روايتها ( الوجه المكسور )
تحليل رائع استاذي الكبير ماجد
والاستاذة الكبيرة ابتسام شاكوش رائعة في قصصها

باقة ود

تدري وش صاب الخفوق!!..فيه بعض آثار شوق..وبه جروح وبه حروق..وبه سوالف لو تروق!!.وبه نزيف بالحنايا ..من فراقك .. يا هوى قلبي الصدوق

قديم 05-31-2020, 08:26 PM
المشاركة 10
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: القاصة ابتسام شاكوش في روايتها ( الوجه المكسور )
تحليل رائع استاذي الكبير ماجد
والاستاذة الكبيرة ابتسام شاكوش رائعة في قصصها

باقة ود

بارك الله فيك وفي مرورك الكريم وتعليقك الجميل أستاذة بتول الدخيل، ومنابر علوم اللغة ترحب بك وبقلمك الجميل...باقات ورد وتحاياي.



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: القاصة ابتسام شاكوش في روايتها ( الوجه المكسور )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
... الوجه الأخر .. الجيلالي محمد منبر البوح الهادئ 5 05-05-2013 09:27 PM
الرمح المكسور محمد حمدي غانم منبر القصص والروايات والمسرح . 2 03-09-2013 06:44 AM
مولودة جميلة في دفتر ابتسام الأبيض ريم بدر الدين المقهى 13 11-03-2012 11:27 PM
قصص قصيرة للقاصة ابتسام شاكوش من مجموعاتها القصصية ( الشمس في كفي ) ماجد جابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 6 12-30-2011 07:03 AM

الساعة الآن 03:42 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.