قديم 11-03-2011, 04:02 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

جبرا إبراهيم جبرا

(ولد في 1920[1]، توفي في 1994) هو مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي، فلسطيني من السريان الأرثوذكس الاصل ولد في بيت لحم في عهد الانتداب البريطاني، استقر في العراق بعد حرب 1948. انتج نحو 70 من الروايات والكتب المؤلفة والمترجمه الماديه، وقد ترجم عمله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة. وكلمة جبرا آرامية الاصل تعني القوة والشدة.
ولد في بيت لحم درس في القدس وانكلترا وأمريكا ثم تنقل للعمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزي وهناك حيث تعرف عن قرب على النخبة المثقفة وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية مثل السياب والبياتي. يعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجا وتنوعا إذ عالج الرواية والشعر والنقد وخاصة الترجمة كما خدم الأدب كإداري في مؤسسات النشر. عرف في بعض الأوساط الفلسطينية بكنية "أبي سدير" التي استغلها في الكثير من مقالاته سواء بالانجليزية أو بالعربية. توفي جبرا إبراهيم جبرا سنة 1994 ودفن في بغداد.
أعماله

قدم جبرا إبراهيم جبرا للقارئ العربي أبرز الكتاب الغربيين وعرف بالمدارس والمذاهب الأدبية الحديثة، ولعل ترجماته لشكسبير من أهم الترجمات العربية للكاتب البريطاني الخالد، وكذلك ترجماته لعيون الأدب الغربي، مثل نقله لرواية «الصخب والعنف» التي نال عنها الكاتب الأميركي وليم فوكنرجائزة نوبل للآداب. ولا يقل أهمية عن ترجمة هذه الرواية ذلك التقديم الهام لها، ولولا هذا التقديم لوجد قراء العربية صعوبة كبيرة في فهمها[2]. أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية يمكن أن تقدم صورة قوية الإيحاء للتعبير عن عمق ولوجه مأساة شعبه، وإن على طريقته التي لا ترى مثلباً ولا نقيصة في تقديم رؤية تنطلق من حدقتي مثقف، مرهف وواع وقادر على فهم روح شعبه بحق. لكنه في الوقت ذاته قادر على فهم العالم المحيط به، وفهم كيفيات نظره إلى الحياة والتطورات.
أدبه
  • في الشعر لم يكتب الكثير ولكن مع ظهور حركة الشعر النثري في العالم العربي خاض تجربته بنفس حماس الشعراء الشبان.
  • في الرواية تميز مشروعه الروائي بالبحث عن أسلوب كتابة حداثي يتجاوز أجيال الكتابة الروائية السابقة مع نكهة عربية. عالج بالخصوص الشخصية الفلسطينية في الشتات من أهم أعماله الروائية "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" و"عالم بلا خرائط" بالاشتراك مع عبد الرحمان منيف.
  • في النقد يعتبر جبرا إبراهيم جبرا من أكثر النقاد حضورا ومتابعة في الساحة الثقافية العربية ولم يكن مقتصرا على الأدب فقط بل كتب عن السينما والفنون التشكيلية علما أنه مارس الرسم كهواية.
  • في الترجمة ما زال إلى اليوم جبرا إبراهيم جبرا أفضل من ترجم لشكسبير إذ حافظ على جمالية النص الأصلية مع الخضوع لنواميس الكتابة في اللغة العربية كما ترجم الكثير من الكتب الغربية المهمتمة بالتاريخ الشرقي مثل "الرمز الأسطورة" و"ما قبل الفلسفة".
مؤلفاته

1- في الرواية
2- في الشعر
3- الترجمة
  • هاملت - ماكبث - الملك لير - عطيل - العاصفة - السونيتات لشكسبير
  • برج بابل - أندريه مارو
  • الأمير السعيد - أوسكار وايلد
  • في اتظار غودو صأمويل بيكيت
  • الصخب والعنف - وليام فوكنر
  • ما قبل الفلسفة - هنري فرانكفورت
3- دراسات
جمعت أعماله النقدية في كتاب بعنوان " اقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال "

قديم 11-03-2011, 04:03 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جبرا إبراهيم جبرا

المصدر: الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور

حسب المصادر الفلسطينية الموثوقة. ولد جبرا إبراهيم جبرا مسعود في بيت لحم يوم 28/8/1920. لكنني عندما اطلعت على جواز سفره العراقي، رأيته مسجلاً من مواليد تركيا 1919. وهو أمر غريب لأن مكان الميلاد يكون، في الأوراق الرسمية، محدداً باسم قرية أو مدينة لا اسم دولة. فضلاً عن أنني، شأن الكثيرين، أعرف منه شخصياً أنه مولود في بيت لحم، كما أنه أشار في معظم كتبه إلى أنه مولود عام 1920, ولا أدري سر هذا التدبير الإداري العراقي.
درس جبرا في مدرسة طائفة السريان في بيت لحم خلال المرحلة الابتدائية، ثم في مدرسة بيت لحم الوطنية، فالمدرسة الرشيدية في القدس التي أتاحت له التعرف على "الأستاذة" الكبار من أمثال إبراهيم طوقان واسحق موسى الحسيني وأبى سلمى (عبد الكريم الكرمي) ومحمد خورشيد (العدناني)، ثم التحق بالكلية العربية في القدس. وخلال هذه الفترة كان قد تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز، إضافة إلى لغة السريان التي هي طائفة أسرته.
ويذكر في "البئر الأولى" وقائع طريفة مما جرى له في مصر التي سافر إليها، ليتوجه منها بحراً إلى بريطانيا حيث التحق بجامعة كامبردج، وحصل منها على الماجستير في النقد الأدبي عام 1948. إلا أننا نستطيع القول إنه وصل إلى هذه الجامعة أديباً، فقد بدأ كتابة القصة القصيرة في فلسطين، ونشر بعض نتاجه المبكر في مجلات نوعية مثل "الرسالة" و"الهلال" المصريتين، و"الأمالي" اللبنانية. ولكن أهم ما أنجزه في تلك المرحلة المبكرة، هي الرواية التي كتبها باللغة الإنجليزية عام 1946 بعنوان "passage in the Silent Night" وقد حملها معه إلى كامبردج مطبوعة على الآلة الكاتبة، ووزع نسخاً منها على زملائه في الجامعة. ولم تصدر طبعتها الأولى إلا بالعربية، عام 1955، وكان قد أعاد كتابتها بالعربية وهو يدرس في جامعة هارفارد. وقد كتب لي هذا بخط يده على النسخة التي أهدانيها، وقد أعطى الرواية بالعربية اسمها الشهير "صراخ في ليل طويل".
بعد دراسته في كامبريدج وهارفارد توجه إلى العراق لتدريس الأدب الإنجليزي. وهناك تعرف على الآنسة لميعة برقي العسكري التي شكلت انعطافاً في مسار حياته. فقد تزوجا وانجبا ولدين، هما سدير وياسر، وحمل جبرا الجنسية العراقية التي ما كان لها أن تفصله عن جنسيته الفلسطينية التي حافظ على لهجتها، إلا من كلمة هنا أو هناك باللهجة العراقية، حتى آخر لحظة في حياته. وكان لجبرا شأن كبير في الحياة الثقافية العراقية، حيث أنشأ مع الفنان الكبير جواد سليم "جماعة بغداد للفن الحديث" عام 1951. وكتب مقدمة المجموعة المبكرة "أغاني المدينة الميتة" للشاعر بلند الحيدري. وأثرت صداقته في بدر شاكر السياب الذي أطلع من جبرا على فصول من كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر، وهو مما أسهم في اقتناع السياب بالمدرسة التموزية في الشعر. وإلى ذلك كان لنتاج جبرا نفسه من رواية وقصة قصيرة ورسوم ونقد وترجمة أثر كبير في الأجيال العربية المتلاحقة.
نال جوائز وأوسمة عربية ودولية كثيرة ونقلت أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والإيطالية والسلوفاكية والصربية وغيرها.
وذات يوم جاءه طرد بريدي من لندن، فوجد فيه ثلاث نسخ من ديوانه "لوعة الشمس" ولكن.. باللغة العبرية. وكان المترجم الذي قام بهذا العمل، من غير استشارة جبرا، قد سطا على صورة الغلاف، فكان غلاف النسخة العبرية هو ذاته الذي يزين الطبعة العربية الأولى.
كان أبو سدير يشكو، في أيامه الأخيرة، من طنين حاد في الأذنين. وكتب لي مرة أنه أصيب بدوار ووقع أرضاً. ثم علمت أنه دخل العناية المركزة. ويوم الأحد 11/12/1994 أغمض عينيه إلى الأبد. تاركاً زهاء خمسة وستين كتاباً بين مؤلف ومترجم.
القصة والرواية
أصدر جبرا مجموعة قصص واحدة، بعنوان "عرق". وأصدر ست روايات، هي "صراخ في ليل طويل" و"صيادون في شارع ضيق" و"السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" و"الغرف الأخرى" و"يوميات سراب عفان".
كما أصدر، بالاشتراك مع د. عبد الرحمن منيف، رواية بعنوان "عالم بلا خرائط" وقبل أن يرحل كان يعمل على قصة قصيرة ـ طويلة تدور حول موضوع فلسفي، لكنه لم يوضح طبيعة ذلك الموضوع في رسائله.
كتب الشاعر توفيق صايغ، صديق عمر جبرا، مقدمة نوعية لمجموعة "عرق" بحيث يبدو التطرق إلى هذه المجموعة تكراراً لما كتبه الشاعر الراحل نظراً لإحاطته الدقيقة بالأسئلة التي كانت تؤرق جبرا، وتؤرقه بطبيعة الحال، وهي تتصل بالمدينة، والغربة الداخلية، والحب، والفن، والفقر، والسأم والبطالة والفراغ، والزمالة والرفقة، وينتهي توفيق صايغ من هذه الأشياء كلها إلى أن "الفن الذي يلجأ إليه البطل حين يرفض المدينة ويهجرها، سيكون هو الأداة لإحياء المدينة، طريق الفن التي يسلكها ليعبر الأرض البوار". وقد أضاف جبرا، في طبعة لاحقة، حوارية إلى هذه المجموعة اعتبرها قصة بعنوان "بدايات من حرف الياء". ويلاحظ في قصصه أنها مقدمات لروايته أو استمرار لها. حتى أن "قصة "المغنون في الظلال" مثبتة كفصل مستقل في روايته "صيادون في شارع ضيق". وليس معنى هذا أنه يخلط بين الجنسين الأدبيين. ولكنه يدرج مختلف أشكال نتاجه، بما فيها الشعر والرسم، ضمن مشروع كبير ينطلق من موقع أوتوبيوغرافي ثم يصل الذات بالعالم من خلال الأسئلة النظرية والاشتباك العملي. وربما كانت هذه الصبوة الكونية لدى جبرا، وراء تحرير معظم رواياته من التحديد الجغرافي منذ "صراخ في ليل طويل" التي أسهب الناقد الكبير مارون عبود في التعبير عن افتتانه بها، ملاحظاً أن الكاتب وإن لم يحدد المدينة التي تدور فيها الأحداث، إلا أنها تذكره بمدينتين: القدس وحلب. أما د. محمد عصفور، وهو ناقد فلسطيني متميز من تلاميذ جبرا، فقد تابع الرحلة الداخلية في هذه المدينة من أقصاها إلى أقصاها، بما يذكرنا برحلة بلوم في رائعة جيمس جويس "عوليس"، ليستخلص من أحداث الرواية رؤيا تتصل بفهم العالم والسعي إلى تغييره. على النقيض من ذلك، ظاهرياً، تبدو رواية "صيادون في شارع ضيق" تؤرخ درامياً للتحولات العميقة التي تشهدها المدينة العربية ـ بغداد، تحديداً ـ إثر نكبة فلسطين. وقد اهتم النقاد بالعلاقة بين جميل فران، بطل الرواية، وبين تجربة جبرا الشخصية، إلا أنه وظف هذه التجربة ليرصد واقعاً مركباً على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية. وسيصعد بهذه التجربة إلى ذروة نوعية في "السفينة" التي أفاد فيها من المدرسة القوطية في الأدب. حيث يمكن "اصطياد" عدد من الشخصيات ووضعهم في مكان محدد ضمن فترة زمنية محددة. فهؤلاء ركاب السفينة، فيهم العراقي والإيطالي ووديع عساف الفلسطيني المسيحي الذي لم يخلصه نجاحه التجاري وتفوقه الاجتماعي من ذكريات سقوط فلسطين وسقوط زميله شهيداً بين يديه. وقد كانت ثنائية العراقي الفلسطيني تلازم جبرا درامياً بما يتجاوز الفصام إلى عملية التوحد. فهو العراقي، نجم المجتمع الناجح، المثقف، المسيطر، ولكنه في الأعماق، ذلك الفلسطيني المسيحي الخليط من فلاح ومدني والمجروح وطنياً إلى حد أن أصبح الجرح شخصياً. وهذا سيظهر أوضح ما يكون في "البحث عن وليد مسعود"، رائعة جبرا التي حار في شأنها ناقد هام مثل د. فيصل دراج، فقد يأخذ عليها البطولة الكاملة المعطاة لوليد مسعود "والكمال ينبئ بالغياب" على حد تعبير د. دراج، إلا أنه يعود فيؤكد أهمية هذه الرواية في أسئلة الكينونة والهوية ومعنى التفوق. واختفاء وليد مسعود، الفلسطيني المسيحي طبعاً، من العراق لغير ما سبب هو أمر يحير معارفه جميعاً. لكن الجذر موجود في فلسطين. وقد برع جبرا في استخدام الموروث الديني وتوظيفه في نسيج هذا العمل. كما أفاد من الاسم الأصلي لأسرته: مسعود. فالبحث عن وليد مسعود هو البحث عن جبرا بن مسعود، وهو ما يعيدنا إلى قول توفيق صايغ حول هجران المدينة لإعادة إحيائها عبر الفن. فوليد مسعود لم يطلق بغداد، ولكنه ابتعد عنها ليعرف كيف يراها ويرى نفسه داخلها بعينيه الفلسطينيتين.
أما "الغرف الأخرى" فهي أكبر من أن تكون "نزوة كافكاوية" كما ذهب الناقد المعروف فاروق عبد القادر. ولكنها تكثيف لاغتراب المثقف، وربما الإنسان العادي، المدعو إلى استبدال شخصيته ليتمكن من معايشة عالم ليس راغباً في معايشته أصلاً. فهذا رجل مدعو إلى محاضرة بوصفه شخصاً آخر مختلفاً عنه اسماً واختصاصاً. الإغراء كبير والضغوط كثيرة. وهو لا يريد أن يكون إلا نفسه. وبشيء من التأويل الذي تحتمله مسيرة جبرا الروائية، يمكن أن نلحظ الفلسطيني الذي يعترف الآخرون بقدراته كشخص ولكنه ينشد الاعتراف به كاملاً. باسمه وهويته وهمومه المختلفة. إن امّحاء المكان ـ بالمعنى الجغرافي للكلمة ـ في هذه الرواية يعيد إنتاج السؤال عن جدوى المكان إذا كنت مسكوناً بهاجس مكان آخر، المكان الأصل الذي تم اقتلاعك منه في وضح النهار. وستغيب ملامح المكان الجغرافية أيضاً في رواية "يوميات سراب عفان" لتدخل اللغة والتاريخ وعلم النفس عناصر مؤثرة في بنية العمل. فسراب عفان، كان اسمها الأصلي "مي". ولنا أن نقيم علاقة طباقية بين المي (الماء؟) والسراب. ثم ان كنيتها تحيلنا إلى الخليفة الثالث عثمان. أما بطل الرواية نائل عمران، وهو كاتب مرموق. فاسمه الأول يذكرنا بنائلة بنت الفرافصة وهي أحب زوجات الخليفة عثمان إلى قلبه. وهكذا تندمج الشخصيتان نائل وسراب ليأخذ هو جانباً من أنوثتها (الأنيموس) وتأخذ هي جانباً من رجولته (الأنيما) وليس في ذلك نشوء جنس ثالث ولكنهما الرجل والمرأة وقد اتحدا ليكونا جسداً واحداً. وغني عن القول أن جبرا سيجد في تراث سراب عفان جدة مسيحية فلسطينية. واشتباك سراب مع نائل مناسبة لطرح أسئلة تتعلق بالثقافة والتماهي وعقدة التملك وثنائية الشرق والغرب فضلاً عن السؤال الفرويدي المتصل بفارق العمر بينهما. فسراب في مقتبل الشباب ونائل في العقد السادس من العمر. أما رواية "عالم بلا خرائط" فلا نستطيع أن نستخلص صوت جبرا منها مجرداً، ولكننا نلاحظ تعويم المكان، فهو بلا خرائط. وليست عمورية التي تدور الأحداث فيها إلا مجال الحلم والتخييل الذي شغل كلاً من الكاتبين الكبيرين جبرا وعبد الرحمن منيف.
الرسم فلسطيني والتنظير عراقي
يذكر زوار بيت جبرا في بغداد، منذ ثلاثة عقود بل تزيد بالتأكيد، أن صورة زيتية كانت تستقبلهم لشاب في العشرين يداعب حصاناً. كانت تلك واحدة من رسوم جبرا الأثيرة، وقد أطلق عليها اسماً موحياً "سدير والحصان". وسدير هو الابن البكر لجبرا. وقد تخيله شاباً في العشرين منذ أن كان طفلاً.. وسيكبر سدير ويتزوج وينجب. وذات يوم تأتي طفلته القمورة، ديمة فتأخذ الرسمة إلى بيت أبيها: إنها صورة أبي ويجب أن تعود إليه...!
هذه الواقعة المثبتة تشير إلى دلالات ملموسة. فالرسم عند جبرا، وهو متحمس للزيتي، يأخذ طابع الرؤيا. وإلى ذلك لم يفارق تلك المسافة الواقعة بين الواقعية والتعبيرية. ثم أن علاقته بالرسم قديمة. فقد فتح عينيه في بيت لحم والقدس على بعض الأديرة التي كانت تشجع استنساخ الصور وتكبيرها لأسباب دينية. وقد كتب جبرا رسالة في هذا المعنى للفنان إسماعيل شموط مشيراً إلى جرف حجري ظل محتفظاً به منذ الطفولة. وفيها رسم منحوت لفنان من حيفا اسمه عبد الله عجينة: "إنه موضوع فلسطيني". وقد بدأ جبرا الرسم، كما يقول في تلك الرسالة، قبل 1948، وبالزيت. وظلت تلك الرسوم في بيت لحم مع أنه لم يقدمها في معرض فردي أو جمعي. ويعيد جبرا الفضل في تعلمه الرسم إلى الفنان الحيفاوي الكبير جمال بدران الذي لفت اهتمامه إلى الزخرفة وتشكيل الألوان. إلا أن وعيه التشكيلي حقق نقلة نوعية حيث تعرف، كما يقول إسماعيل شموط "عن كثب على فن التصوير والرسم".
وفي بغداد، لم تكن الحيوية الثقافية التي أشاعها جبرا مقصورة على العمل الكتابي. بل ان إسهامه في تأسيس "جماعة بغداد للفن الحديث" كان ذا أثر ملموس في تطوير هذا الفن على مستوى العراق. والواقع أن جبرا في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته قد أولى الرسم والتصوير اهتماماً كبيراً على المستوى النظري بصورة خاصة. فبعد كتابه الذي أصدره عام 1961 بالإنجليزية "الفن في العراق اليوم"، عاد فأصدر بالعربية كتاباً حقق شهرة كبيرة بعنوان "جواد سليم ونصب الحرية" وذلك عام 1974. ثم أصدر عام 1983 بالإنجليزية كتابه "جذور الفن العراقي" وعاد فنشره بالعربية بعد عامين، ليصدر عام 1985 كتاب "الفن والحلم والفعل". حتى ليمكن القول إن حضور جبرا لمعرض فنان عراقي كان يعني تزكية لهذا المعرض. بمعنى أنه كان فناناً ومنظراً محكماً. وإذا كانت رسومه الشخصية تدور في الفلك الواقعي التعبيري، فإن دعوته النظرية كانت تشمل مختلف المدارس وكان انحيازه إلى الجديد لا حدود له. وان كان ـ وهذا شأنه في النقد الأدبي أيضاً ـ يعطي الأولوية للإبداع بما هو إبداع. ومن الطريف أن رسوم جبرا الشخصية ذات لهجة بصرية فلسطينية، لكن تأثيره الأساس كان في الفن العراقي. ومع أن الفن، بما هو موهبة ومهارة، لا جنسية له، إلا أن الرسالة الفنية ذات جنسية بالضرورة. ولقد فتنت بغداد، والعراق عموماً، حس الباحث الفنان في جبرا فكان ما كتبه في هذا المجال بمثابة بعض الوفاء لوطنه الثاني.
الشاعر التموزي
أصدر جبرا إبراهيم جبرا ثلاث مجموعات شعرية. وعندما جمعها في ديوان يشتمل على الأعمال الشعرية الكاملة، عام 1990، أضاف إليها مجموعة فيصبح نتاجه الشعري المنشور في حياته على النحو الآتي: تموز في المدينة ـ 1959. المدار المغلق ـ 1964. لوعة الشمس ـ 1979. سبع قصائد ـ 1990.
ولكننا نستطيع أن نضيف مجموعة لم تصدر في كتاب، ولم تضمها الأعمال الشعرية الكاملة. ولكنه نشر معظمها في مجلة "بيادر" التي كنت رئيساً لتحريرها في تونس. ونشر بعضها الآخر، على ما يبدو، في مجلات وصحف مختلفة. وقد أعطى هذه المجموعة عنواناً طويلاً نسبياً "قصائد بعضها لليل وبعضها للنهار".
وإذا كانت المقدمة التي كتبها جبرا لمجموعة بلند الحيدري عام 1943، إيذاناً بالدعوة إلى التجديد، فإن المقدمة التي كتبها لمجموعته "تموز في المدينة" كانت بمثابة مانفستو للشعر الحديث. يقول: "إن إدخال نغمة جديدة على فن قديم يعتمد على الموسيقى التقليدية، أمر يحتاج إلى جرأة كبيرة، له القدرة والبراعة، وأنا قد لا أملك الأخيرتين، ولكنني مندفع في سبيلي مهما اعترض عليه الناس".
وكانت القصيدة الحرة هي السبيل. فهو، كما قال، يعنى بالوزن ولا يعنى. ولكن هذا كلام ملتبس. فقصيدة جبرا خالية من الوزن. وإذا اتفق لبعض السطور الشعرية ـ التي يسميها أبياتاً من باب المناكفة مع التقليديين ـ أن أتت موزونة فإن ذلك على سبيل المصادفة. ولكنها مصادفة مدروسة إذا جاز التعبير. فقد كان معنياً بمنح قصيدته حالة من الموسيقى التي لا تشكل التفعيلة مفتاحاً لها. كما أكد "أنني أمقت النعوت، فالحالات العاطفية من حزن أو فرح أو غضب أو يأس، يجب أن تثار بالألفاظ المجسدة، ومصادر الأفعال أيضاً أرفض استعمالها على وجه الإجمال". أما على مستوى الرؤيا الشعرية، فيمكن القول من غير مبالغة إن جبرا هو واضع ركائز القصيدة التموزية العربية. والتموزية نسبة إلى تموز، إله الخصب القديم في بلاد الشام وما بين النهرين. وقد قتله الخنزير البري، أو إله الشر "موت"، لكنه سرعان ما انبعث من جديد في الصيف فكانت شقائق النعمان هي دمه المتجدد. ومع أن اللحظة التموزية، في مستواها الميثيولوجي، هي لحظة زراعية مرتبطة بالتربة، إلا أن تموزية القصيدة العربية ركزت على المدينة التي تميت البطل الباحث عن الحياة له وللجموع، فينتصر عليها بعودته ظافراً. ويجب ألا نغفل عما تركته الثقافة المسيحية بمحمولاتها الرمزية الخاصة بالفداء، في هذه المدرسة الشعرية. وقد وجد جبرا في موضوع الاستشهاد الفلسطيني مادة لتعميق المعاني التموزية في شعره. ويلاحظ أن مجموعته الأولى قد حفلت بعدد غير قليل من القصائد ذات الصلة المباشرة بالتراجيديا الفلسطينية. لكن مجموعة "المدار المغلق" سترث التموزية من المجموعة الأولى لتعمق فيها الرمز المسيحي. وفي هذه المجموعة قصيدة نوعية بعنوان "لعنة بروميثيوس" مكرسة لاستلهام ثورة الجزائر.
أما فلسطين التي لا يمكن أن تغيب عن روح جبرا، فإنها تطل من خلال قصيدة "مارجيروم في بيت لحم" وكذلك في "ما بعد الجلجلة" وفي مجمل الإحالات والرموز المسيحية التموزية. وهذا ما ينسحب على مجموعة لوعة الشمس الذي جعل جبرا قصيدتها الأولى تحية إلى القدس "مدينة المعراج والجلجلة". أما قصائده بعد ذلك فهي في معظمها قصائد حب. ولكننا ندرك أن الشعر الحضاري يفيض عن موضوعه المحدد ليمسّ الهموم الإنسانية على مختلف المستويات.
بين إبداعات جبرا، كان الشعر موضع إشكال. فحين يتحمس الراحل الكبير توفيق صايغ له إلى حد إعلانه أنه لو كان في جزيرة منقطعة وكان له أن يقتني كتاباً واحداً لاختار "تموز في المدينة"، نرى من جهة ثانية شعراء كباراً جادين يبدون حيرتهم من شعر جبرا الذي ظل محكوماً بالمعاني والموضوعات، مع أنه المبشر بالثورة والتجديد وإطلاق حرية اللغة إلى أبعد مدى... ولكن مهما كان الرأي في شعر جبرا فلا أحسب أن هناك من ينكر دوره في دفع الشعر العربي الحديث خطوات نوعية إلى منطقة الحداثة.
السيرة والسيناريو
وضع جبرا كتابين في السيرة الذاتية، هما "البئر الأولى" و"شارع الأميرات" ونستطيع أن نضيف إليهما الكتاب المكمل "حوار في دوافع الإبداع" وهو سلسلة حوارات أجراها معه الناقد العراقي المعروف ماجد السامرائي. فكشف عن مناطق في دخيلته من شأنها أن تضيء شخصية جبرا في طريق دراسية.
كان لكتاب "البئر الأولى" وقع السحر على القراء. وترجم إلى الفرنسية والإيطالية وسمعت أنه ترجم إلى الانجليزية مؤخراً. لم يكتب جبرا في هذا الكتاب سيرة متصلة كالتي كتبها ميخائيل نعيمة عن جبران، أو د. طه حسين عن نفسه في "الأيام". ولكنه التقط لحظات نوعية في طفولته تكشف البيئة والثقافة والوعي الاجتماعي والتربوي وترصد براءة اكتشاف الموجودات المحيطة بابن العاشرة بين القدس وبيت لحم. ومع أن الكتاب فصول مستقلة، إلا أنه معطى بأسلوب يحرض القارئ على إكمال ما بين الفصل والفصل، بحيث يقع في النهاية على ما يشبه رواية النوستالجيا. بل إن بعض النقاد تعاملوا مع هذا الكتاب والذي تلاه "شارع الأميرات" بوصفهما روايتين، أو رواية من فصلين. وكان لشارع الأميرات نكهة مختلفة، حيث تدور فصوله وقد أصبح جبرا شاباً يدرس في بريطانيا، ثم كاتباً معروفاً. فكان الكتاب بمثابة شهادة، متممة لما بدأه في روايته "صيادون في شارع ضيق" عن بغداد ما بعد الحرب العالمية الثانية. وجاء الحوار الذي أجراه معه ماجد السامرائي ليضع الكثير من النقاط فوق الحروف. وإذا كنا مع الكتابين السابقين في مقاربة مع نص روائي ساحر، فإن الحوار مع ماجد يضعنا أمام حالة شبيهة بالسيناريو السينمائي أو التلفزيوني على مبدأ الاسترجاع. فقد كان ماجد يسأل وجبرا يفتح ذاكرته فنرى على الورق عالماً مركباً من العلاقات الثقافية والمعرفية والإنسانية. وليس هذا غريباً على كاتب موسوعي تعامل مع أجناس فنية وأدبية مختلفة، بما فيها السيناريو السينمائي. فقد أصدر في هذا المجال كتابين، هما "الملك الشمس" و"أيام العُقاب". والسيناريو الروائي الأول يتناول شخصية الملك الآشوري العراقي نبوخذ نصر، أما الثاني فيتناول معركة اليرموك وعبقرية القائد الصحابي خالد بن الوليد. ونعرف كذلك أن جبرا كتب الحوار لفيلم "عمر المختار" الذي أخرجه بنجاح كبير، السوري مصطفى العقاد. وطبيعي أن يكتب جبرا المعاصر عن شخصيات تاريخية بهدف قراءة الحاضر. فهو صاحب رؤيا عربية إنسانية تغذيها التراجيديا الفلسطينية بأسباب الثورة والدعوة إلى الوحدة الوطنية. من غير أن يغفل عن الأسئلة الوجودية التي تؤرق قائداً مثل نبوخذ نصر يحلم بالقبض على المستحيل. إلا أن النزعة التنويرية عند جبرا تحثه على الشرح والتفسير. فقد كان ينصح بالتقاط هذا المشهد أو ذاك، وفق هذا النوع من الإنارة أو ذاك. أو ببطء التصوير، أو سرعة الإيقاع، علماً بأن السيناريوهين لم يتحولا إلى فيلمين سينمائيين. ولعله كان يتعامل معهما بوصفهما روايتين على نحو ما. فقد وصف كل سيناريو منهما بأنه روائي. وأدرج ـ على الصفحات الأخيرة لكتبه ـ سيناريو "الملك الشمس" بين أعماله الروائية.
الترجمة والنقد
كان لابد من الربط بين الترجمة والنقد في مسار مشروع جبرا الثقافي، لتلازمهما في المهمة التنويرية التي نذر نفسه لها. وإنه لأمر لافت أن هذين النشاطين قد شغلا أكثر من نصف مجمل مشروعه الثقافي. وإذا استثنينا كتبه النقدية التي أشرنا إليها في مجال الفن، فإننا نذكر، على أمل ألا يفوتنا شيء، عناوين كتبه النقدية الأدبية الفكرية، كما يلي: "الحرية والطوفان ـ 1960" و"الرحلة الثامنة ـ 1967" و"ينابيع الرؤيا ـ 1979" و"تمجيد الحياة ـ 1989" و"تأملات في بنيان مرمري ـ 1989" و"معايشة النمرة ـ 1991". وتحفل هذه الكتب بمراجعات نقدية لروايات ومجموعات شعرية عربية وعالمية لتدخل عالم المعرفة في مسارين: الأول هو مسار الحداثة ومعاركها في الساحة العربية من خلال قراءات نوعية لأعمال أدونيس ويوسف الخال وتوفيق صايغ وغيرهم. وإعادة قراءة شعراء ذوي شعبية لكنهم كانوا مقروئين غالباً بعين تقليدية فأعاد جبرا اكتشافهم من منظور الحداثة، مثل الجواهري ونزار قباني وعبد الرحيم والشعر الفلسطيني الحديث. ونلاحظ أنه لم يتطرق لبعض الشعراء العراقيين من أمثال عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف.
أما المسار الثاني فهو تنويري بحت. يضع في حسابه أنه متوجه إلى جمهور قد لا يكون مطلعاً بالضرورة على أحدث المدارس الأدبية في العالم. بل كثيراً ما يكون مشكوكاً في فهم هذا الجمهور للمصطلحات الأدبية المستعملة. فكتب مقالات قد تبدو في وقت لاحق أنها مدرسية أو ما أشبه. لكن القارئ المتابع يدرك فائدتها الميدانية. فهو لم يتحرج من التعريف بالمونولوج والديالوج والبرولوج والمدرسة القوطية والأسلوب الباروكي والأليغوريا. كما أنه "يشرح" بعض الأعمال الصعبة كما فعل مع رواية وليم فوكنر الخالدة "الصخب والعنف". وضمن هذين المسارين كان مشروع جبرا واضحاً: "في صلب التراث.. في صلب الحداثة" ـ وهو عنوان وضعته أنا لأول حوار نشره ماجد السامرائي معه في مجلة "بيادر" وقد سعدت بماجد الذي تبنى هذا العنوان فثبته في كتابه حوار في دوافع الإبداع، وليس معنى ذلك أن جبرا كان توفيقياً أو وسيطاً. ولكنه باختيار الحداثة التي قطعت مع الماضي كان معنياً باستنقاذ كل ما هو مضيء في هذا الماضي. وقد شدد جبرا على حرية المبدع وتخففه من الحسابات التي تقع خارج الإبداع من جهة، وتخلصه من سلطة الثقافة السائدة من جهة ثانية. وقد يؤخذ عليه أحياناً ـ ولا سيما في سنواته الأخيرة ـ أنه كان يجامل أحياناً. ولكن القارئ الحصيف يدرك متى يكون الكلام جاداً ومتى يكون مجاملة. إلا أن جبرا كان يحرص بشكل عام ألا يثبت في كتبه تلك الكلمات العابرة التي يقولها من باب الإخوانيات. وقد لاحظت عتاباً من نوع ما، أبداه رياض نجيب الريس لأن جبرا لم يضع في أي من كتبه نص المقدمة التي كتبها لمجموعة رياض "موت الآخرين". وكانت هذه المقدمة موضوع نقد من أدونيس أدى إلى فتور بين هذين المبدعين الكبيرين. ولكن رياضاً نفسه صرح في مقابلة تلفزيونية متأخرة بأنه لا يعتبر مجموعته "موت الآخرين" شعراً جيداً. وهذا يعني أن جبرا كان يعرف ما يفعل عندما استبعد مقدمته لتلك المجموعة. لكن هذا لا يعني أن ما لم يصدر في كتاب لجبرا هو دون المستوى. إذ ربما يكون الموت قد سبقه إلى تثبيت نتاجه كله في كتب، ولا أدل على ذلك من مقدمته الباهرة التي تعد مقالة نقدية نوعية لأعمال الشهيد غسان كنفاني المسرحية.
وقد كان الهاجس التنويري هو الدافع الأساس لمشروع جبرا في الترجمة كما هو في النقد. ويستوي في ذلك ما ترجمه من فكر أو إبداع. وسنلاحظ أن ما نقله إلى العربية من نصوص إبداعية ـ باستثناء الشكسبيريات ـ كان قليل العدد نسبياً. فقد ترجم رائعة صموئيل بيكيت "في انتظار غودو". هذه المسرحية التي كان لها أثر كبير في مسرح العبث وفي المسرح عموماً، بل وفي أسئلة المثقفين بشأن الحاضر والميتافيزيقا. وكان طبيعياً أن يكون جبرا المنحاز إلى الحداثة في طليعة المثقفين العرب الذين يهتمون بهذا العلم النوعي. تماماً كما كان طبيعياً أن يكون هو، ولا أحد غيره، من ترجم رواية وليم فوكنر "الصخب والعنف" وزوّدها بمقدمة وضع فيها خلاصة رؤيته لهذا الكاتب الأمريكي الصعب. وفكك الرواية بحيث أصبح فهمها ممكناً عند الكثيرين الذين كانت ستعسر عليهم بالتأكيد. وقد تأثر شهيدنا غسان كنفاني بترجمة جبرا لهذه الرواية، وظهر ذلك واضحاً في روايته "ما تبقى لكم". واختار جبرا أيضاً اثنتي عشرة قصة أمريكية وإنجليزية، فترجمها ضمن كتاب "أيلول بلا مطر" بعد أن قام بالتعريف اللازم بكل كاتب. وشغفته الكتابات الموجهة إلى الفتيان فترجم اثنين من أشهر النصوص العالمية في هذا المجال. هما رواية "الأمير السعيد، وحكايات أخرى" لأوسكار وايلد. ومجموعة من حكايات الفرنسي "لافونتين". أما سمة الكتب التي ترجمها خلال مسيرته. فهي الفكر والفلسفة المتصلة بالعملية الإبداعية. وقد كان رائداً في ترجمة فصل "أدونيس أو تموز" من كتاب الغصن الذهبي للسير جيمس فريزر. كما ترجم أيضاً:
ما قبل الفلسفة لهنري فرانكفورت وآخرين.
آفاق الفن ـ ألكسندر إليوت.
الأديب وصناعته لعشرة نقاد أمريكيين.
الحياة في الدراما ـ أريك بنتلي.
الأسطورة والرمز ـ لعدد من النقاد.
قلعة أكسل ـ أدمود ويلسون.
مقالات حول الشاعر الأمريكي ديلان توماس لأربعة عشر ناقداً.
ألبير كامو ـ لجيرمين بري. وقد نقل في هذا الكتاب، الشذرات المقتبسة من كامو، عن الفرنسية مباشرة.
برج بابل ـ أندريه بارو.
إلا أن إسهامه المدوي كان في الشكسبيريات. حيث ترجم المآسي الكبرى: مأساة هملت، مأساة الملك لير، مأساة مكبث. ثم أضاف إليها مأساة كريولانس ومسرحية العاصفة ومسرحية الليلة الثانية عشرة وخمسين سونيتة. وكعادته، لم يكتف جبرا بالترجمة الباهرة التي قيل فيها أنها لا تقل عن ترجمة بوريس باسترناك الروسي لأعمال وليم شكسبير. بل استقصى كل مسرحية ترجمها، وكذلك السونيتات، واستقرأ المصادر والمراجع. وترجم مختارات من الدراسات المكتوبة عن هذه الأعمال، فضلاً عما كتبه شخصياً وثبته داخل الكتب التي اشتملت على المسرحيات. ولم يكتف جبرا بهذا الجهد الجبار، بل ترجم بعض الكتب النوعية المتخصصة بشكسبير مثل "شكسبير معاصرنا ـ ليان كوت" و"ما الذي يحدث في هاملت ـ لجون دوفرولسون" و"شكسبير والإنسان المتوحد ـ لجانيت ديلون". وقد اعترضته مشكلات خلال ترجمة شكسبير، أساسها بعض الترجمات غير الدقيقة التي سبقه إليها بعض الرواد فأصبح الخطأ وكأنه هو الأصل. من ذلك اسم "أوتلو" الذي تحول عند الشاعر الكبير خليل مطران وغيره إلى "عطيل". وعالج الأمر جبرا بأن أبقى على الاسم الخطأ ـ بسبب شيوعه ـ مع الإشارة إلى الصحيح في مقدمته. لكن الأخطاء الأقل شهرة لم تبق على حالها. فقد نقل المترجمون اسم "دزدمونة" بأنه "ديدمونة"، فأعاد الاسم إلى نطقه السليم. وكثيراً ما كان يفسر موقعاً غريباً لجملة شكسبيرية من السياق العام، فيضعها في إطارها التاريخي. من ذلك أن أم هملت وصفت ابنها ـ في إحدى الطبعات ـ بأنه بدين. وهذا لا يتماشى مع شخصية هملت. ففسر جبرا ذلك بأن شكسبير كان يراعي، في أحد العروض، أن الممثل كان بديناً، وكان هذا الممثل عزيزاً على الملكة اليزابيث، فوضع تلك الإشارة على لسان أم هملت ليظهر الوضع طبيعياً.
ومع ذلك فإن ترجمة جبرا لم تنج من النقد. فقد أشاد بها الناقد الكبير غالي شكري بما هي أهل، إلا أنه لاحظ أن جبرا، في حالات قليلة، لم يكن دقيقاً. وهذا ما ذهب إليه الشاعر العراقي سركون بولص الذي انتقد جبرا لأنه حذف جملة على لسان عطيل، هي: "ذلك التركي.. الكلب المختون". وفي رأيه أن جبرا هرب من هذا السطر لأن فيه غمزاً طائفياً من الإسلام. كما أخذ عليه ما يعتبره عدم التمثل الكامل لروح شكسبير في السونيتات. وضرب مثالاً على ذلك، فلم يكن مقنعاً. لقد كانت ترجمة جبرا هي:
.. فإلى يوم القيام حين تبعث من ترابك
في هذا القصيد ستحيا، وفي أعين العشاق تقيم.
أما ترجمة سركون بولص فهي:
لذا، ستحيا، حتى انبعاثك يوم القيامة
في شعري هذا، وتبيت في عيون العشاق.
والقارئ المنصف يرى أن ترجمة جبرا أقرب إلى الروح الانجليزية بانخطافاتها وجملها المتوازية. بينما كانت ترجمة سركون ـ وهي جميلة ـ أقرب إلى البيان العربي العباسي.
ذلكم هو جبرا إبراهيم جبرا. ابن مسعود التلحمي، الوفي للعراق.. والرمز النوعي في الثقافة العربية خلال القرن العشرين. إنه بحر في العمق وصخب الروح ووداعة المشهد. متى نعطيه بعض ما يستحق. وهل تشفع لي هذه المحاولة العجلى عن تقصير كبير؟.. لا أدري.. ورحمه الله.

قديم 11-03-2011, 04:05 PM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عن: جبرا إبراهيم جبرا
شارع الأميرات» لم يعد يجيب
نجوان درويش
لم يتوقع أحد أنّ تفجير بيت جبرا إبراهيم جبرا في بغداد سيحمل كل هذه الرمزية، ويستدعي كل هذا الشجن. ليست القصّة ضياع متعلقات نصف قرن من الثقافة العراقية، ونصف قرن من حلم المنطقة العربية، ضمّها بيت إحدى أبرز الشخصيات الفنية والأدبية العربية في القرن العشرين. الأمر يتعدّى ذلك، ونحتاج إلى وقت لاستيعابه، مثلما نحتاج إلى وقت لاستيعاب ما حدث لنا وللعراق منذ احتلاله. كل ما استطعته في الأيام الماضية كان استجماع شجاعتي لأتمكّن من النظر إلى صورة البيت كما نشرت بعد التفجير. البيت الذي دخلناه من كتابات صاحبه، ولا سيما «شارع الأميرات» (الجزء الثاني من سيرته) ومن خلال ما ذكره معاصروه وأصدقاؤه. أبدى بعض هؤلاء، في السنوات الأخيرة، قلقاً على محتويات البيت الذي رأوا فيه متحفاً صغيراً للحياة الأدبية والفنية في بغداد خلال القرن الماضي.
فكّرت في أن رؤية بيت جبرا بعد التفجير تشبه أن يرى المرء صورة يده المقطوعة. وعاد إلى الذهن مشهد من «صراخ في ليل طويل» (باكورة جبرا الروائية التي كتبها في القدس بالإنكليزية عام 1946). يد امرأة جميلة تخرج من تحت أنقاض بيت فجّرته العصابات الإرهابية الصهيونية، في نهاية غير متوقعة لقصة حب معاصرة في أجواء قدس الأربعينيات، كما حلم بها جبرا.
تفجير بيته العراقي يُعيدنا إلى أصل قصّته الفلسطينية
جبرا الذي اتّسمت شخصيته وأدبه بقدر من الكوزموبوليتية، يمتلئ عالمه بالإحالات والصور المحلية، التي تعود جذورها إلى بيت لحم، ولا سيما الرؤية المسيحية. لا شك في أن لطفولته وصباه في بيت لحم والقدس أثراً حاسماً. في إنتاجه الشعري والسردي، نجد ذلك التشبّث بمتعلقات المكان الفلسطيني. وهو ما تلخّصه جملة وضعها في مطلع أعماله الشعرية: «فلتكن هذه فروع زيتونة أخرى في جبل الزيتون، زرع بذرتها في زمن مضى/ فتى كان كثير الرؤى ولم يملك في حياته سوى الحب والكلمات».
وإن كانت الآراء النمطية اعتادت تهميش إنتاجه الشعري لمصلحة قيمته كروائي وناقد ومترجم، فإنّنا نجد في شعره مقترحاً مهماً حتى اللحظة. ورغم تفاعله العضوي وتأثيره في الثقافة العراقية واختياره العراق وطناً وأفقاً للإنتاج والحلم... بقي جبرا اللاجئ الذي تشاء قوة المفارقة أن تعيدنا إلى أصل قصته الفلسطينية بتفجير بيته العراقي.
هل كان مترجم شكسبير وفوكنر، والمعرّف بالتيارات الأدبية والفنية في الغرب، يتخيّل أن الأوراق والصور التي بقيت منه، ستُحرق وتُبدَّد في زمن احتلال أنغلوسكسوني جديد للعراق؟ العراق الذي بدا له حصناً وملاذاً بعد نكبة فلسطين. هل سيصدّقنا إن قلنا له إنّ حروب الغزو والنهب أقوى من الكلمات والصور؟ سنفزع إلى واحد من كتبه حتى لا نصدّق نحن، حتى تستمر كذبة الإيمان بمستقبل لهذا العالم.

************************
وليد مسعود معاصرنا، أو الحداثة حتى الرمق الأخير
حطام منزل جبرا في حي المنصور البغداديمسيرة أدبيّة استثنائيّة، لمثقّف نادر جمع بين الشعر والرواية والنقد الفنّي والترجمة... وكان من علامات عصر وجيل في مسار الإبداع العربي. جمع جبرا أيضاً بين القدس وبغداد التي احترقت فيها ذاكرته قبل أسابيع
نوال العلي
جاء أمر الكتابة عن جبرا إبراهيم جبرا كمفاجأة سارّة ومربكة، كأنّ الاستدارة إلى الخلف ممنوعة بقدر ما هي مرغوبة. استعادة الكتب التي ربتنا، وكنّا كلما قرأنا لمبدع، وقعنا في هواه وحلمنا أن نسمّي أول طفل باسمه. وجبرا كان أكثر من اسم مغوٍ وآسر. قراءة جبرا في سن مبكرة هي دخول في دوامة البحث عن وليد مسعود. حالة أشبه بالبحث عن التوازن. ذلك النوع من التوازن الذي يخلخل المشي، ومن ثم الارتباك فالسقوط، ثم البحث عن توازن مرة أخرى. مع ذلك، لم ييأس جبرا من البحث في الفنون المختلفة عن حالة تقريبية. التوازن كلّه كلمة تقريبية ما زالت تفي بالغرض: «كيف تجد توازنك الذهني أو النفسي أو الاجتماعي من دون أن تشعر بأنك تقف من الإنسانية على طرف بعيد؟» (ص13).
يمثل وليد مسعود حالة «جبراوية» نموذجية راقبناها في جلّ أعمال صاحب «يوميات سراب عفان». وغالباً ما استندت هذه الحالة إلى مطارحة مفهوم الاغتراب من كلّ مكان وفي كل موضع. وهي حالة تقترحها سرديات جبرا، منطلقةً من التجربة الجمعية أولاً إلى الفردية ثانياً، على عكس من الاغتراب كما كتبه فرانز فانون في «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء». جبرا الفلسطيني التلحمي المولد، الذي غادر بلاده بعد النكبة، ثم استقرّ في بغداد، ينطلق من وجود القضية في حياة الفلسطيني كمحرّك أساسي للأحداث. هو لا يستخدم الكليشيهات، ولا نلمح في أعماله عين الحنين المتهافتة، ولا هو بكاتب للتاريخ الفلسطيني. وجد جبرا الفلسطيني نفسه خارج المكان، على رأي إدوار سعيد، فحياته كلها خارجية الهوى، وخارج التجربة الجمعية الأصيلة. ليكون الاغتراب على مستويين فردي (النفي عن المكان تعطيل لترعرع الفرد في حاضنته الجغرافية وبالتالي الثقافية) وجمعي (تعطيل بلوغ الثقافة المحلية وصيرورتها). وما كان يفعله جبرا روائياً وشاعراً وتشكيلياً هو التعامل مع هذين المستويين ومقاومة ذلك التعطيل.
لكن هذا لا يعني أن جبرا إبراهيم جبرا كرّس أدبه للقضية الفلسطينية فقط. اكتسبت رواياته طابعاً إنسانياً مثلما هي حال الأعمال العظيمة. فقد وضع شخوصه في مآزق إنسانية وأخلاقية وفلسفية كما في «السفينة» و«الغرف الأخرى». وكان الحب والجنس موضوعاً أساسياً وأثيراً لديه. حتى إنه شارك صديقه الكاتب البعيد عن عوالم الحب عبد الرحمن منيف كتابة روايتهما «عالم بلا خرائط» رواية عن الحب بامتياز.
ولتوضيح تعلق أعمال جبرا بأثر الاغتراب الفردي والجمعي (يمكن مراجعة بحث د.حماد أبو شاويش الاغتراب في رواية «البحث عن وليد مسعود»)، نأتي سريعاً على ذكر حبكة «البحث عن وليد مسعود» كأبرز أعمال جبرا. تبدأ الرواية باختفاء مسعود بعد استشهاد ابنه مروان، واقتناعه التام بضرورة الالتحاق بالثورة. ورغم أنه ينتمي إلى طبقة بورجوازية يكتشف أن الحياة ممحلة وأن الخلاص يبدأ من الداخل، من صميم الذات. إذاً فبنية حركة العمل هي من الانكسار الجمعي إلى الفردي، إلى المقاومة الجمعية مرة أخرى، لكن المهم هنا أنها مقاومة تحدث داخل الذات.
وربما تكون ترجمات جبرا الشهيرة، رغبة تندرج تحت هذا الإطار. قدم جبرا إلى العربية «الصخب والعنف» لفوكنر، و«في انتظار غودو» لبيكيت، وأعمال تي اس اليوت، وطبعاً كتاب يان كوت «شكسبير معاصرنا». من دون أن ننسى نصوص شكسبير «هاملت» و«عطيل» و«ماكبث» و«الملك لير» وغيرها. كأن المثقف والكاتب الذي فُرض عليه الاغتراب والنفي، قرّر أن يستفيد ـــــ بل أن يستمتع ـــــ بوجوده في الثقافة واللغة الإنكليزية التي أتقنها تماماً وبها كتب عمله الروائي الأول «صيادون في شارع ضيق» (1960) الذي عرّبه محمد عصفور. ويمتد ذلك إلى التأثر بتلك الثقافة في كتابته، فمن الوارد أن يكون جبرا قد تأثر بثلاثية بول أوستر لدى كتابته «يوميات سراب عفان» (1985) التي تتشابه قليلاً في حبكتها مع ذلك العمل، من خلال التلاعب على علاقة الشخصيات بالمؤلف. وإن لم يكن أوستر فاتحاً لهذا التلاعب، فإنّ برانديللو سبق الاثنين في عمله «ست شخصيات تبحث عن مؤلف».

على أيّ حال، بدا تأثّر جبرا بالثقافة الإنكليزية جلياً في كتابته للشعر. كان صاحب «تموز في المدينة» (1959) و«المدار المغلق» (1964) و«لوعة الشمس» (1978) أحد الشركاء المؤسسين لتجربة مجلة «شِعر» الشهيرة، رغم اختلافه مع طراز القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهما. كان ينتمي، شأنه في ذلك شأن «الشعراء التموزيين» كما سمّاهم، إلى «الشعر الحرّ» بمفهومه الأنكلوسكسوني: الشعر المتحرر من الوزن والقافية، إنما القائم على الترابط المنطقي والدلالي بين جمله وأبياته.
لقد كان جبرا مثقفاً شاملاً بحق. لم يقلّ انتماؤه للعراق عن انتمائه لفلسطين، إن لم يربُ عليه. ومنذ أن حلّ وحتى وفاته ودفنه في بغداد، كان حجراً راسخاً ومؤثراً في حراك الثقافة هناك. بل إن بيته المليء بكنوز الفن في حي المنصور في بغداد الذي تفجّر بما فيه من رسوم جبرا وكتبه وثروته الفنية، كان مزاراً ومتحفاً يرتاده كثيرون. يشهد على ذلك الناقد العراقي حاتم الصكر الذي وصفه بأنّه «فريق من الكتّاب في رجل واحد». كما أنّ له مراسلات بديعة مع بدر شاكر السياب وكتب في التشكيل العراقي، ولا سيّما عن جواد سليم. غير أنّ علاقة جبرا بالتشكيل ليست علاقة الناقد بالفن، إنها بالأحرى علاقة الفنان بالفن.
أحد مؤسّسي مجلة «شِعر»، رغم اختلافه مع القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج
التشكيل كان في دم جبرا وعلاقته به قديمة قبل العراق. بعدما عاد جبرا من دراسته في «كامبريدج» في بريطانيا سنة 1944، أسس في القدس «نادي الفن» الذي كان له أثر رغم قصر عمره على فناني فلسطين تلك الحقبة. ومن أعماله الشهيرة التي ناقشها كمال بلاطة في كتابيه «الفن الفلسطيني حقل المجهول» و«غارة جوية».
سيرة جبرا منذ ولدنة الفتى السرياني الأرثوذكسي في بيت لحم وحتى انهمار الغارات الجوية، ومسار حياته بعدها نجده مكتوباً في سيرتين هما «البئر الأولى» (1986 ــ الريّس) و«شارع الأميرات» (1994 ــ المؤسسة العربية للدراسات). ضمّت الأولى حياته في فلسطين قبل النكبة. أما الثانية فكما يشير اسمها إلى شارع في بغداد، فتحكي عن حياته في العاصمة العراقيّة. حياته لم تخل من الفجائع الشخصية، إحداها موت شقيقته الذي ترك في نفسه أثراً بالغاً. حتى إنه اعتبر أن المأساة هي سبب الفن، بل كل أسبابه.

إلى هذه المهمات الصعبة كلها التي وضعها جبرا لنفسه، أضاف النقد والدراسات في الأدب والتشكيل، فكتب «الفن والحلم والفعل» و«الأسطورة والرمز» وغيرها الكثير. وجبرا معاصرنا أيضاً، أعماله ليست من النوع الذي يهترئ، وتعتقد أنك أحببته مراهقاً ولن يعود بمقدورك إعادة قراءته مثل كتّاب كثر ما زالوا أحياء. إنّها أعمال تنتمي إلى الحداثة التي قال عنها يوماً «الحداثة العربية التي نشدتُها، وعشت بها، لم تكن يوماً هدفاً لمسعى تبلغه، فتستريح. الحداثة تطلّع مستمر، وأهميته في استمراره الذي لا ينتهي إلا حين يطبق الظلام على الكون والإنسان».
حاتم الصكر يتذكّر
كنت أمازحه: بيتك معلم يزوره السياح، مثل آثار بغداد. فما إن يفتح لك الباب، وتسير فى ممر ضيق يؤدي إلى صالة واسعة مفتوحة على غرفة أخرى إلى اليسار، حتى تحس بأنك في متحف. لوحات لجواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن... منحوتات لمحمد غني وإسماعيل فتاح... على يمينك رفوف الكتب كلها إهداءات بخط أصحابها: السياب والبياتي وإحسان عباس وسهيل إدريس... وصور له مع أبرز أصدقائه، كعبد الرحمن منيف ويوسف الخال وتوفيق الصايغ...

http://www.4shared.com/document/ZGM3HeKc/____-__.html

قديم 11-03-2011, 04:09 PM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عن جبرا إبراهيم جبرا
....السيرة الذاتية تعدّ إضاءة (بانورامية) تضيء الذات المبدعة من الداخل والخارج على السواء، لأن الأديب يقف على أحداث متعددة، ووجوه متنوّعة، وعلى تجارب ومعاناة وثقافات أسّست العلاقة معه، أو أثّرت في مكوّناته المعرفية، فاستمدّ منها نسع الإبداع، وعبّر عنها بالكلمة الموحية، والعبارة الدالّة التي سجّلها بقلمه الخصب، على دفاتره الخاصة، التي وصلت إلينا، لنطالع فيها وجهيه اللذين يبدوان ـ في النهاية ـ ناصعين، على الرغم مما هبّ عليهما من نسائم وعواصف.‏

ومع نزوع بعض الكتّاب العرب إلى تسجيل تجاربهم في سِيَرٍ ذاتية، فإن أصحاب هذا الجنس الأدبي يحاولون دائماً أن يوجدوا المسوّغات التي دفعتهم للبوح والاعتراف، وإنارة الماضي، "ولا يقتضي ذلك بطبيعة الحال أن يكون ما يذكرونه، هو السبب الحقيقي، والدافع الأصيل".(1).‏

ومع أن "جبرا" يلمّح في بداية "البئر المهجورة" إلى رغبة كامنة في داخله لكتابة سيرته الذاتية منذ شبابه، فإننا لا نشك في الدافع المباشر الذي سوّغ به كتابة السيرة، فهو الأديب المبدع والفنّان المتعدّد المواهب، وقد حثّته السيدة "هايدي لويد" عام 1945، "حين كان يجلس معها في ـ فلسطين ـ جلسة ودٍّ وصفاء، يتناولان القهوة "إذ قالت بشيء من الإغراء":‏
ـ حدثني عن حياتك!... يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياةً مبعثرة.‏
ضحكتُ عندها، وقلت:‏
ـ حياة مبعثرة؟ أنا لست بطل الأبطال، إن كنتِ لا تعلمين.‏
ـ لا.. لا.. أنا لا أعني ذلك النوع من الحياة، ولكن تجربتك الفيزيائية، النفسية، الذهنية، علاقاتك العاطفية.‏
وبلمح البصر، عاودني خليط من أحداث طفولتي، ومراهقتي وسنواتي في إنكلترا، بتداخل وتسارع عجيبين. قلت:‏
إذا كان ذلك ما تقصدين، فسأفعل، ولكن ليس الآن، لأن القصة طويلة جداً.‏

ـ إذن انتظر أن أقرأ سيرتك الذاتية يوماً ما.‏
ـ أخشى أن يطول انتظاركِ..."(2).‏
إن "جبرا" في سيرته الكاملة "يتفرّد عن كثير من السير الذاتية، ليس على الصعيد العربي فحسب بل على العالمي أيضاً،
إذ أن قليلاً من الكتاب من يفرد لطفولته كتاباً خاصاً، بل إنمعظمهم يميلون إلى تجنّب ذلك أو إهماله.. وقد جرت عادتهم إذا ركّزوا على أحداث طفولتهم أن ينظروا إليها بعين النضج الذي أدركوه مع تقدّم السن..".(3). ولم يكن "جبرا" كذلك، وإنما ترك طفولته تأخذ مجراها، وغالباً ما نظر إليها بعيني طفلٍ، وتعامل معها بعقلية البراءة..‏


لقد هيأ لنا "جبرا" بأسلوب الأديب أن نستشفّ من سيرته الآثار التي تركت بصماتها على فنّه وفكره، فسفح أمام أعيننا صور الأحلام التي دارت في مخيّلته، وفي هذا مصدرٌ هام يلقي مزيداً من الضوء على سيرته الأدبية، ونتاجه الفكري، واهتماماته المتعدّدة المتنوعة.‏

إن "جبرا" الذي غدا الأديب المتميّز في منظور القرّاء والنقاد على السواء، ترك بين أيدينا حياته وفكره وإبداعاته، وقد رسمها بقلمه، ومشاعره في لوحات "بانورامية"، ثلاث، أتت على مراحل حياته، وجعلها في كتابين (البئر الأولى) و(شارع الأميرات)، وقد أمهله القدر حتى طبع الأخير الذي رأى النور قبل رحيله عن عالمنا بأسبوع واحد، وكأن فارس الإبداع لم يرحل عن الساحة الأدبية إلاَّ بعد أن ثبّت عليها راياته بيديه.‏

أولاً ـ المرحلة الفلسطينية ـ الطفولة والصبا:‏
إن أول ما تناهى إلى سمع الفتى حين وفد على الحياة، كانت ألحان النواقيس، تعزفها أجراس كنيسة المهد في "بيت لحم" المدينة المقدسة عام 1920، وما إن تفتحت عيناه على الموجودات من حوله، حتى ارتفع بالنظر إلى السماء الزرقاء، التي تحيط بقباب المدينة ومناراتها، التي باركها الله بالسيد المسيح، فكان نظره محلّقاً دائماً إلى الأعالي، وقليلاً ما ينزل إلى الأرض، وكأنه يتنبأ بأنه سيغدو في مستقبل أيامه طائراً يحلّق في الأجواء، ويحمله الأدب على أجنحة لا زوردية، تتناسب مع روعة أرض القدس، وحاراتها القديمة، التي انتقل إليها مع أسرته، ودرس في كليتها العربية، كما أنها تتواءم مع روعة فلسطين وجمالها، التي غادرها يافعاً للدراسة في بريطانيا، ولم يكن يعلم أنه لن يتمتع بالإقامة فيها طويلاً، لأنه سيهجرها بحلول نكبة عام 1948، فيطير الطائر الجميل، وهو يحمل وشيها في منمنمات وعيه ولا وعيه، ولم تستطع فاتنات الإنكليز في لندن، ولا في جامعتي "إكسترا"، و"كمبردج"، ولا شقراوات "جامعة هارفرد" الأمريكيات أن يزلزلن شيئاً من الجوى الذي ظلَّ يحمله للوطن في حلّه وترحاله، وبقي مقيماً معه حتى الرمق الأخير.‏

تعلّق الفتى منذ حداثته بالكتاب، فعشق المطالعة، وتأثّر بأفكار طه حسين وسلامة موسى من الكتّاب العرب، ثم تطلّع بأنظاره إلى آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها، فأقبل ينهل ما وسعه من "إليوت، وفرويد، ويونغ، وسارتر، وكامو، وإيليا اهربنورغ، وشكسبير، وفوكنر، وغوته، وفلوبير، ودستويفسكي، وبايرون، وهيوم...".‏

لقد كان له مع هؤلاء وأمثالهم وقفات في استلهام فنهم الروائي، وإبداعاتهم النقدية، التي استفاد منها في النقد الذي جرّبه على شعر بدر شاكر السياب، وأدونيس بصورة خاصة، ويوسف الخال وتوفيق صايغ ورياض نجيب الريس وسواهم بصورة عامة، فكان أحد رموز الشعر الحديث بما طرحه من مصطلحات أشهرها "المنهج الموضوعي الجديد"، و"المعادل الموضوعي"، و"وحدة القصيدة العضوية"، حيث دعا للرجوع إلى التراث المشرقي، واستخدام الرموز، والانفتاح على العصر، وتجاوز الشعر التقليدي الذي مضى زمنه وانقضى، وعندما أهدى إليه أخوه ديوان "الملاح التائه"، للشاعر (علي محمود طه)، كإنتاج جديد من الشعر المعاصر، تصفّحه، فشعر بالامتعاض لأنه لم يجد فيه سوى "هراء وتنغيم أطفال، ومبتذلات القول كلها اجتمعت في تلك القصائد التي عُدّت يومها آية في التجديد والخلق"، (4).‏

وحين وضعوا بين يديه ديوان (أحمد شوقي) الذي بويع أميراً للشعراء العرب في القرن العشرين، عاودته الخيبة "كانت خيبتي بالمرارة نفسها، لتلك المنمنمات العثمانية التي ما عادت تجربة الحرب الطاحنة تتحمّلها"(5)، لأن هذا لا ينسجم مع منظور الشاعر المتفتح على الحياة.‏

لقد تبصّر "جبرا" في الصورة الشعرية الأوروبية، مع قلّة من أترابه، لكنه وجد نفسه ـ معهم ـ منبوذاً من قبل شعراء العمود، كما يقول "جبرا": لقد أصبحنا يومئذٍ ـ وإن كنا قلّة غريبة لم يعترف بنا أحد بعد ـ جزءاً من عصريات (الجمال) السطحي فيه ـ شيئاً مذموماً أقرب إلى (جمال) الزهور الشمعية المصطنعة، التي لن يقبلها ذوق لا يجد متعته إلاَّ في توتّر التجربة، وزخم الحسّ والعنف والمأساة"،
(6).‏

على الرغم من أن "جبرا" جسّد في رواياته العالم البرجوازي، وأجواءه وطقوسه، وعلاقات أفراده...
إلاَّ أنه في نشأته لم يكن كذلك، فحياة الأسرة في مرحلة طفولته التي رسمها في سيرته الذاتية "البئر الأولى"، رصدت حياته حتى الثالثة عشرة، ولما كان العنوان علامةً بارزةً في تحديد النصّ، والكشف عن مجموعة الدلالات المركزية المنبثقة منه؛ فإن "جبرا" قد عمد إلى الإيحاء والترميز، نظراً لما للبئر من موقع حسّاس في النفس، ينمّ عن معايير معيّنة في اختياره لتركيب وصفي، جمالي ودلالي معاً، يوحي بالانخفاض والعوز والعمق والسجن والرطوبة والدونية والتحتية والرهبة، وقد كان يؤكّد على هذه الدلالة كلما استعاد في طفولته شيئاً من خوفٍ أو حزنٍ، فحين هزَّ زلزالٌ فلسطين، وصفه الأديب الكبير بعيّني طفلٍ صغيرٍ، في رواية "البحث عن وليد مسعود": شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة، لقد خضّ الأرض كما لو خضّتها ريح غريبة رهيبة، كنت جالساً على الأرض مع غيري من الأطفال في المدرسة الصغيرة، فحسبت الريح الهادرة هزّت البنيان القديم هزّاً عنيفاً، ولمّا انطلق الصبية مذعورين إلى الخارج، انطلقت معهم، ورأيت الحجارة تتساقط كتلاً من أعلى المبنى العتيق المقابل، وتتكوّم أمام عيني في ركام أبيض مريع، واتجهتْ أبصارنا من الخرابة التي نحن فيها نحو كنيسة المهد نستنجد الله لإنقاذنا، وسمعت بعض الكبار يقولون: "إن كان هذا يوم القيامة، فهل يستهدفنا الله تحت الأنقاض، ليقيمنا من تحتها مرة أخرى!". وفضلا ًعن ذلك، فإن العنوان يرمز إلى الذاكرة التي اختزنت في "بئرها" ما يمدّها بنسغ الإبداع وقد "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات

. أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد"(. وهذا ما جعل "من الذاكرة (البئر) أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى. تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء"، (9). وأكّد على ذلك مراراً مركّزاً على لفظ "البئر" ومدلولها: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر. إنها البئر والعين التي تمدّني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أنها ستستمر في منع الجفاف والعطش".(10).‏

ولقد رأى في (البئر) ما يرمز إلى حياة الناس الواقعية، والدينية: أما الواقعية فهي مستمدّة من حياة الناس في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت البيوت لا تُسكن إذا لم تكن في بئرٌ: "هل توجد بئرٌ في حوش الدار؟ هل هي عميقة؟ وفي حالةٍ جيدة؟ هل ماؤها طيب؟ أم أنها لم تنزح من طينتها منذ سنين؟".(11).‏

أما المدلول الديني فقد استمدّه من التراثين: الإسلامي، الذي ورد في "سورة يوسف"، في القرآن كريم، والمسيحي، في قصة الملك البابلي "دانيال"، "حيث يتحوّل البئر في كل من القصتين إلى نقطة تحوّل نحو السمو والرفعة، بدلاً من أن تكون النقطة التي تنتهي عندها الحياة". (12).‏

إن مؤشرات المرحلة الأولى تنمّ عن حالة الفقر و الحلم التي وسمت حياة الطفل، وقد تغلغلت منمنماتها في ثنايا رواياته، وحظيت بيت لحم ـ مهد الطفولة، ومرتع الصبا ـ بنصيب وافر من استذكاراته التي شهدت تشكيل أولى التجارب والرؤى والأصوات، فاختزن‏ الصبي منها ما "يمرّ به كل يوم، يعاينه، أو يتلذّذ به". (13).‏

ارتبطت مدينة المهد في وعي الصغير بـ(المسيحية) رمز المحبة والسلام، كما ارتبطت بـ"الفقر والعوز"، فكان يرى الملاكين الصغار لا يجدون فيها ما يرغّبهم في العيش، فيندفعون نحو شاطئ البحر، ينتظرون السفن التي تحملهم، وبأيديهم مناديل الوداع، ميمّمين شطر المهجر الأمريكي. شأنهم في ذلك شأن إخوانهم، من ذلك الرعيل المهاجر، من أبناء بلاد الشام:‏

"كان أثر الهجرة بادياً بوضوح، في مطلع العشرينيات في خلوّ الكثير من البيوت والمباني من أصحابها، وفي حالة الإهمال أو التداعي التي تعاني منها مئات المنازل والكروم المحيطة بالبلدة، غير أن مركز "بيت لحم"، كحاضنة لمهد المسيح أعطاها تميّزاً من نوع فريد، وهيأت لعددٍ كبير من أهلها مورداً سياحياً من الصناعات اليدوية المقرونة بمقدسات المسيحيين والمسلمين، فكانت تستورد كمياتٍ كبيرة من الأصداف الخام لتحويلها... إلى مسابح وصلبان ومصغّرات لكنيسة المهد، وقبة الصخرة، إضافة إلى العلب، والأطر النفيسة، التي كانت ترصّع بالصدف، ويقبل على شرائها الزوّار الأجانب".(14).‏

تمثل "بيت لحم" الطبيعة الأولى البكر في مخيّلة "جبرا" فتظلّ ترافقه طوال حياته، لأنها طفولته، التي يسترسل في وصفها، ويرسمها في الربيع، فيستلهم عشياتها، وتتحول سماؤها إلى فضاءات جميلة تغطيها أسراب السنونو التي تفد "في العشيات تعبر الفضاءات اللازوردية، وقد وفدت من جديد إلى الأرض التي تحبّها... عشيات الربيع في بيت لحم. أينما كنا نلعب أو نغني. نروي الحكايات، كانت تصخب بجحافل السنونو، وتعبث وتلهو وتدور وتشفّ عن أسطح البيوت، ثم تعلو السماوات الرحاب، نتابعها وهي تغير وتنعطف وتستدير، ثم تغيّر وجهة طيرانها... وتملأ الأجواء فرحاً وبهجة، نتلقّى فعلها في أنفسنا دون ما وعي، فيشتدّ صخبنا، ونمعن في الركض والقفز ونرفع أصواتنا في الغناء والصياح.."(15).‏

ولا تمثِّل "بيت لحم" في الذاكرة مكان الطفولة، ومهد المشاعر الدينية فحسب، وإنما غدت مع أختها الكبرى "القدس" الوطن الصغير "فلسطين" تتبوأ في فن الروائي مكان القلب الذي يمدّ السرد الروائي بالنبض، ويضخّ إلى باقي أجزاء الجسد الدم الموّار، الذي يساعد على الحياة والأمل "أما القدس فهي من أكثر المدن حضوراً في رواياتي، ولا تكاد تخلو رواية من ذكر هذه المدينة"(16
). إذ تلحّ عليه ذكراها بمرارة بعد ما غادرها إلى بغداد، بُعيد النكبة، حيث وجد نفسه منفياً محاصراً، وهو في ميعة الصبا. لذلك لم تثر بغداد لديه ـ في البداية ـ ماكان يرسمه القلب لها من سحرية المدن الشهرزادية: "في ذلك اليوم الأول من تشرين الأول عام 1948، حين وصلت إلى بغداد، لم يكن السبب أنني رأيت لندن وباريس والقاهرة ودمشق، لقد نسيت أسفاري وماعدت أستطيع أن أذكر ملامح أي مدينة في العالم سوى مدينة واحدة أذكرها... أذكرها طيلة الوقت، تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها. تحت أشجارها المجرّحة، وسقوفها المهدّمة، وقدآتي إلى بغداد، وعيناي ما زالتا تتشبثان بها ـ القدس ـ...".(17).‏

إن "القدس" ظلّت مقيمةً في قلبه، مظللةً بالأمل والحاجة. فالبيت الذي سكنت فيه الأسرة في حارة
(جورة العناب) خلّده في روايته (صراخ في ليلٍ طويل)، وقد جعله مقرّ بطل روايته (أيمن) الذي وصفه بتعابير الطفولة: "عندما كنت صغيراً أسكن مع أبي وإخوتي الثلاثة، في غرفةٍ مربعةٍ ضيقةٍ لها شباكٌ صغيرٌ واحدٌ، لا زجاج له. لا أظننا كنا نتذمر كثيراً، فليس جيراننا بأحسن حالاً منا، ولا أقرباء لنا ساكنين في بيوتٍ أحسن من بيتنا، فلا داعي هناك للحسد. كنا قانعين بنصيبنا. لم يشعر أحدٌ منا عن وعيٍ بزراية حالته، وفساد الهواء الذي يتنفسه... أما الشجار فقد كان من التقاليد الراسخة، فقد كنا نتشاجر بحماسةٍ هائلةٍ، ثم نتصالح فيعود الوئام بيننا مع الكثير من المحبة والرقةِ"(18).‏

يتذكّر "جبرا" ـ
بعد أن تحسّن وضع الأسرة ـ البيت الذي أشار على أبيه ببنائه، بعد أن اختار مكانه بنفسه ـ قبيل النكبة ـ فوق جبل "القطمون" الذي يطلّ على الحيّ اليهودي، فكان كثيراً ما يقف في شرفته ويشاهد "أزواجاً من الفتيان والفتيات يصعدن إلى الباب، ويدقون الجرس.‏

كانوا يقولون إنهم ينجذبون بقنطرة المدخل، وأزهار الجارانبوم التي تكسو الدرج الحجري الأبيض، والنوافذ العالية، بأعمدتها الثلاثية ـ في الطابق الثاني ـ التي كانت حين تعكس الشمس تتصاعد كالشعلة الملتهبة فوق الوادي".(19)، وعلى الرغم من ابتعاد "جبرا" عن القدس فإنها لم تفارق ذاكرته، فلا تزال ضحكات أطفالها يتردّد صداها في سمعه. إنه يذكرها "كآدم يذكر الجنة. فالصبي إذ ينمو، تنمو المدينة في كل زاوية من زوايا نفسه... وصباه إنما هو انعكاس لمئات الطرقات والبيوت والحوانيت والأزقّة والأشجار والبقاع المزروعة التي تخضّر في الربيع، وتصفّر في الشتاء، والصخور المنتشرة في كل مكان، والتي تؤلف المدينة.. أين تنتهي الذات، ويبدأ الموضوع؟ هنا شارع بكى فيه الولد وجاع، وضحك، وعشق فتاة لا يعرف اسمها لأنها ابتسمت له من غير قصدٍ، وركض فيه. في المطر. في الظلام. مع إخوته. مع والديه. مع العشرات من أصدقائه الذين ما زال يسمع في ذهنه أصواتهم المتجاذبة. بين مباني الشارع. مثل هذا الشارع. هل يمكن أن يبقى امتداداً هندسياً موضوعياً مجرّداً؟؟".(20).‏

قديم 11-03-2011, 04:11 PM
المشاركة 15
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تكملة : عن جبرا ابراهيم جبرا
إن الذكريات الأولى في القدس ستظلّ حتى نهاية العمر تمدّه بموحيات الإبداع. يذكرها بتفاصيلها الدقيقة، من مشاركته في إضراب عام 1939، ومعاينته بناء الكلية العربية التي درس فيها، ولا ينسى ما عاناه مع أهله من الإرهاب الصهيوني الذي تعرضت له المدينة، حين "شرع اليهود في تدمير القدس الجديدة، مبتدئين أولاً بنسف المقرّات الحكومية، ومن أشهرها نسف جناح السكرتارية العامة للحكومة في فندق الملك داود، ونسفهم أيضاً بعد إعلان التقسيم في تشرين الثاني عام 1947 لمنازل العرب ليلاً، ولاسيما في حي القطمون الذي كان مجاوراً حي "راحافايا"، اليهودي، حيث سكن فيه مع أسرته بعد رجوعه من لندن".(21).‏

ويتذكّر معلميه العرب الذين درّسوه في القدس، وقد غدوا أعلاماً في الفكر و الأدب والشعر، أمثال الشاعرين: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، و الأدباء محمد خورشيد (محمد العدناني)، صاحب (معجم الأخطاء الشائعة)، وإسحاق موسى الحسيني، وحسن الكرمي، صاحب برنامج (قول على قول) في إذاعة لندن.‏

ومع تسارع الأحداث ودموّيتها، تعود الأسرة إلى بيت لحم،
ولكن سرعان ما تحلّ النكبة، فتلقي بـ"جبرا" إلى بغداد، ليحطّ رحاله في ربوعها، وتغدو المدينة العربية الثالثة دار إقامته الأبدية. إذ كتب للجسد أن يوارى في ثراها، بعد أن وشّى الأندية والكتب والأمسيات بألوان قشيبة لا تبهت ألوانها على مدى الزمن.‏

و"جبرا"، الذي حمل فلسطين في جوارحه لم ينسَ يوماً الطغيان الصهيوني الذي كان شاهداً عليه ولن تغادر أنفه رائحة اليهودي "تزكم الطفل بالعفن والعطن الغريبين، وأمه توصيه وإخوته بالحذر من اليهود"، "
إنهم يسرقون الأطفال في أعيادهم ليذبحوهم، ويمزجوا دماءهم في عجين خبز الفطير
، وقبّة "راحيل"، ستبدو دوماً للطفل ذلك الحدّ الفاصل بين المعلوم والمجهول. بين الألفة الغربة، ولن تغادر الطفل حتى شيخوخته صورة الحاخامات، وأصداء ولولتهم الغريبة في القبّة التي تمتدّ بعدها الطريق إلى القدس. إلى عالم الغوامض والأسرار.‏

وستبدو القدس ـ بعد بيت لحم ـ قوام البعد الفلسطيني في عالم الطفل، وما سيؤول إليه، فمنذ الانتقال إلى دار (فتحو) في بيت لحم، وإذ يشرف "جبرا" مع أخيه "يوسف" على أضواء القدس، يقول الأخير: إنه ضياء مدينة القدس يريد الله لها أن تتوهج في وسط الظلام الذي يملأ الدنيا".(22).‏

ضمّت المرحلة الحلمية الأولى تطلّعات الفتى الأدبية المبكّرة في التغيير والتطوير، والتي تجلّت في رؤيته الشعرية التي التقت ـ فيما بعد ـ مع جماعة مجلة (شعر) اللبنانية "أيام كنا صغاراً ـ قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى في أوائل الأربعينيات ـ كان الشعر لنا غناءً وطرباً، وكنا نتصارع بأبيات الشعر من خلال الريح، ومن بين الأشجار، ومن على القمم. كان الشعر صنو البراءة. إنه صنو تجربة الفردوس، لا تجربة الجحيم. ـ ولعلني هنا أتحدّث كفلسطيني عرف النكبة ـ فالشعر
صرير أسنان وصراخ ألم.
الجحيم فلاة منبسطة يمشي المرء إلى ما لا نهاية دون أن يرى شيئاً، لا شجرةً، ولا طيراً. غربان تسفّ وتحلّق وتختفي ـ أحياناً ـ والسير وعرٌ ومستمرّ، والشعر صرير أسنان، وقرح في القدمين، والمصيبة هي أن غير الشعر لا يستحق الكتابة، فحتى النثر، إذا لم يكن بالمنطويات الشعرية، فهو ثرثرة باطلة.‏

وهكذا بلغنا نقطةً ما عدنا نستمرئ عندها الكلام الموشّى سطحاً. الفارغ قلباً، وفي هذا بلغنا مرحلة تشبه مرحلة الذوق التي‏ بلغتها أوروبا في العشرينيات الأولى من هذا القرن".(23).‏

إن "جبرا" في المرحلة الفلسطينية كان مشروعاً شعرياً واعداً، بإرهاصات مبكرة، عانى منها معاناة كبار المبدعين في العالم، كمعاناته من الأزمة (اللفظية) التي عبّر عنها بـ(أزمة الكلمات) فوقف عند الفرق بين رؤية الشاب لها، ورؤية المحترف، فالأول: "يرى الكلمات شابةً نقيةً لم تتهرّأ ـ بعد ـ بالاستعمال، ولكن الكاتب الحساس يرى بعد مرّ السنين أن هذه الكلمات التي هي وسيلته الأولى والأخيرة، أخذت تفقد نضارتها وطاقتها، وجعلت تتهرّأ وتتهافت بين يديه. أغلب الظن أن النضج يفوق أحياناً مقدرة المرء اللفظية، إلاَّ إذا استطاع أن ينمّي الطاقة اللفظية مع نموّه وتفكيره وتعبيره. هل بدأنا نشكّ في أن ألفاظنا أصابها الوهن، في حين أن تجربتنا اشتدّت تأجّجاً وعنفاً، وكانت النتيجة قطيعة بين الاثنتين؟... ربما.‏

الغريب أن الإنسان كلما كبر، استهجن التعقيد والغموض والإبهام، وتوخّى الوضوح والمباشرة، وأحياناً البساطة، ولكن رغم ذلك فإن الوضوح والمباشرة، والبساطة تختلف لديه عما كان يتوخاه منها في كتاباته الباكرة". (24).‏

لقد كان الشعر في مرحلة التفتح الأولى حلم الشاعر، ونور غده الذي يستشرف معه الحياة الجديدة، والنفاذ من خلاله إلى الكون، كان مدخله الذي يلج منه إلى عوالم الأدب والثقافة التي يطلّ منها على الإبداع، بأبهى صوره وأجمل رموزه التراثية "لكن صدمة الشعر الغربي ـ الإنكليزي على وجه التحديد ـ التي هزّت كيانه، وصبغت حدقته، وأيقظت قدراته الخلاقة، خاصة لتشابكها مع بقية خيوط النسيج الإبداعي للفنون التشكيلية والموسيقية، مما طبع "جبرا" منذ بدايات حياته على الاستغراق في التجربة الجمالية الكلية قبل تأمّل قسماتها المتميزة في الأجناس الأدبية المختلفة، ومحاولة تحقيقها في إنتاجه، وهو يصف لنا هذا الوله الشعري بالحياة".(25). قائلاً في "معايشة النمرة": "عشرينياتي الأولى، على ما كنت منهمكاً في مطالعته، وعلى ما كنت متعلّقاً به من حركات الرسم و النحت منذ النهضة الأوروبية، حتى ماتيس، وبراك، وبيكاسو، كان الشعراء بعض صانعيها، ومحفّريها ومالئيها، ما افتتنت با مرأةٍ، وما عشقت جسداً أو حجراً، وما أُخذت بفكرة، وما أحببت لوناً، أو خطاً، أو زهرة في الغابات، بين الصخور، على ركام الخرائب مع أروع المباني، إلاَّ وكان في الشعر هؤلاء المبدعون (ويعدّد عشرات منهم)، الدافع الأعظم لعواطفي، لإدراكي، لنفاذي إلى قلب الأشياء جميعاً. كم كان الشعر خلاقاً ورائعاً يومئذٍ!".‏

إن عشق الشعر ـ هو عشق لشعرية الحياة، والتماس ينابيعها في الشرق والغرب على السواء، ولقد اكتشف ابن الثامنة عشرة ـ بعد إلمامه باللغة الإنكليزية ـ جماليات الرومانسية الإنكليزية، ممثلةً في أشعار (كيتس) الذي ترجم له (أغنية إلى بلبل) و(أغنية عن إناء إغريقي)، وقد لمس فيهما طاقات تعبيرية هائلةً من العواطف تبدّت له أهميتها في حالات : الحب والجمال والحرية.... كما لمس مثل ذلك لدى (شيلي)، الذي أغرم به في باكورة شبابه إلى درجة العشق.‏

ولمّا كان اهتمامه الأول منصبّاً على الشاعرية الحلمية القائمة على التجديد، فإن رؤاه الأخرى للأدب والفن عامة، لم تكن ترضى بغير التجديد أيضاً، وقد أدرك "أن ما هو قائم ينبغي تغييره من دون أن يتوقّف طويلاً أمام الجديد المنتظر، وكانت له بصيرته التي تدفعه طليقاً إلى الجديد، بل كان له جموحه، الذي يحضّه على اقتفاء آثار جديدٍ غير مسبق، وربما كان هذا المزاج الجامع سبباً في الاحتفال بالثقافة والفن إلى حدود التقديس، حيث الثقافة ـ كما الفن ـ تذهب إلى إصلاح البشر، وتقف فوقهم، وإذا كان البحث عن الجديد قد حقق لقاء "جبرا" مع الرواية واللغة والشعر الحديث، فإن الجموح المنشدّ إلى جديدٍ غير مسبق، فصل بين الجديد والتاريخ، ووسّد الجديد الجامح زمناً إنسانياً كونياً لا وجود له، ومع أن "جبرا" في روايته اللاحقة "صيادون في شارع ضيق"، سيحدّد المكان والزمان، فإن التجريد لن يهجر "مثقفه المتعالي"، الذي يُرى اسماً ولا يرى كوجود ممكن التحقيق.".(26).‏

لقد كان هذا التجديد محور رؤية "جبرا" بعد عودته من إنكلترا إلى القدس وعمله في التدريس في المدرسة الثانوية التي درس فيها بعد أن تحوّل اسمها إلى (الكلية الرشيدية)، وظهر ذلك في روايتيه اللتين كتبهما بالإنكليزية: الأولى (الصدى والغدير)، ولم ينشرها، والثانية (صراخ في ليل طويل)، التي كتب أصولها في القدس عام 1946 ثم نقلها إلى العربية، ونشرها أول مرة في بغداد عام 1955.‏

إن لفلسطين في ذاكرة "جبرا" ولهاً لا يعادله وله آخر. وكانت كما قال عنها: "أشبه بشاعرية بصرية يستسلم لها المرء عفوياً"، ولقد كان هذا الوله في السنوات التي يسافر فيها إلى الخارج، تاركاً مكانه الأمومي المتصل برحم الأرض التي شهدت مراتع طفولته وصباه،
وكان للنكبة أثرها البارز في تعميق الجرح الفلسطيني في الذاكرة الحية، فتداخلت في رواياته، ولوّنت أجواءها بألوان الحب والمأساة.‏

ثانياً ـ المرحلة الأوروبية ـ الغذاء الفكري والثقافي:‏

بين مرحلة الحلم والطفولة الشعرية التي رصدتها "البئر الأولى" وبين إقامته بعد النكبة في بغداد التي رصدتها سيرته الثانية "شارع الأميرات" هناك مرحلة التأسيس الأدبي والفني التي شكّلت شخصية "جبرا" الأدبية والفنية والفكرية، وكانت فترة خصبة من التحصيل الذي أغنى ذائقته وفكره في جامعتي "إكسترا وكمبردج". وحفزّت طموحه الثقافي للتزوّد من المعرفة، فكان على الرغم من إصابته بالرمد في تلك المرحلة نهماً للقراءة، جاداً في التعرّف إلى روّاد الأدب الأوروبي المعاصر، حيث كان لعدد منهم تأثيرٌ كبير على حياته وفنه وأدبه. الأمر الذي ساعده على شق طريقه الذهبي في الدراسة والعطاء الأدبي والترجمة، وقد حقّقت له الدراسة في "لندن" كثيراً من أحلامه، فهناك عرف المهندس الفرنسي "فرديناند دولسبس" الذي استطاع بما أوتيه من درايةٍ وحذقٍ، إقناعَ والي مصر سعيد باشا بضرورة حفر قناة السويس، التي تجمع بين بحرين كبيرين حقّق بها لقاء الشرق بالغرب، وقد ربط "جبرا" بين "دولسبس" العبقري وبين إنسانيته، أو خصوصياته كما رسمها بعناية في "شارع الأميرات"، حيث ركّز على صورة الرجل الكهل ا لذي تجاوز الرابعة والستين من عمره، وأحب فتاة في الحادية والعشرين، تزوجها، وأنجب منها أحد عشر ولداً.‏

وتعرّف "جبرا" إلى الأديب الإنكليزي "لورانس داريل" الشاعر، في مطلع حياته، ثم الروائي الأكثر شهرة في العالم ـ فيما بعد ـ صاحب "رباعية الإسكندرية" ورسم صورةً جميلةً لهذا المبدع الإسكندراني الذي تأثر به عددٌ من روائيي العرب، أمثال "فتحي غانم"، في "الرجل الذي فقد ظلّه"، و"نجيب محفوظ"، في "ميرامار"، و"غسان كنفاني"، في "ما تبقى لكم"، و"غادة السمان"، في "بيروت 75" و"ليلة المليار"، و"جبرا" نفسه في "السفينة".‏

لقد كانت المرحلة الإنكليزية رحلة الغذاء الفكري الذي فتح أمامه أبواب الثقافة والحداثة والمعاصرة، وأطلعه على آراء أساطين الفن، وأعلام الأدب في أوروبا، مما أيقظ في نفسه وعياً جديداً صقلته فاجعة النكبة، وزادته قناعة وإصراراً على الالتزام بالتغيير والتطوير، والثورة والحرية، والإصرار ـ نقدياً ـ على وحدة القصيدة العضوية، والتركيب الدرامي، والمؤثرات الأجنبية، من دون اللهاث وراء الصراعات الغربية، والاعتقاد بأن طريق الحداثة يحتاج إلى تمهيد وتعبيد، وتجربة وممارسة ووعي، ترافقه نهضة شاملة، وخلاص من التبعية والتخلف، والتعبير عن روح متوثبة تستوعب العصر وتستلهم التراث العربي، وهذا كله يستلزم الاهتمام بأسلوب الخطاب الفكري عامة والأدبي خاصة، وضرورة تجديد الكتابة العربية، والانفتاح على الإبداع الإنساني، وقد حمّل "جبرا" المثقف والفنان، مسؤولية القيام بدور المجدّد، وطالبه بالبحث عن أسلوب يستطيع من خلاله تصوير محنته، والتفريق بين أزمة الإنسان، وأزمة الأسلوب، بين محنة الأمة، ومحنة الفكر.‏

لقد احتضنت العاصمة الإنكليزية وعيه الفكري، كما احتضنت شبابه الغضّ، فقدّمت إليه أجمل فتياتها في صداقات وزمالة، داخل الجامعة وفي أماكن النزهة، وقد أتى على جانب من هذه العلاقات في ثنايا سيرته وانطباعاته عن المرحلة اللندنية، كعلاقته المتميزة بـ(غلاديس) الفتاة التي أحبها في سنوات الدراسة، وولع بها كأنثى، وعاشقة شعر: "في أوائل العشرينات من عمري، أيام الحرب العالمية الثانية، كنت أذهب من كمبردج إلى لندن، و(هي) التي كانت تأتي من جامعة (إكسترا) في جنوب غرب إنكلترا، وأنا وهي نحمل كتب الشعر، وأذكر منها قصائد دانتي. "اذكرني وأنا في أنفاق الـ"أندر غراوند"، وقطارات المترو، وأنا أقلّب صفحات ذلك الكتاب الصغير الحجم، المطبوع طبعاً كثيفاً ناعماً، انتقل من قصيدة إلى أخرى... خرائب لندن التي كانت تسبّبها الغارات الألمانية المتواصلة، انتشرت في كل مكان، وأنا أجد "حياة جديدة" في قصائد "دانتي" التي كتبها في مطلع شبابه حباً بـ"بباتريس" وأقرأها على "غلاديس" في شوارع المدينة الكبرى، وما كان أروع ضياعنا في طرقاتها وظلماتها".(27).‏

لقد قضى "جبرا" في جامعة (اكسترا) سنته الأولى، وفيها تعلّم الرقص، وعرف معنى الحب، ونكهة الجسد الأنثوي الذي ((كان عاصفاً كالريح، وجارفاً كالسيل، فضاؤه الحقول الخضراء، والأشجار البواسق، يضجّ بالجسد كما يضجّ بالروح"(28).‏

لقد أتاحت له الحياة في (اكسترا) أن يقيم علاقات عاطفية مع أكثر من فتاة في وقت واحد فـ(غلاديس نوبي)، التي طلب إليه صديقها "ستيف دنكرلي" أن يتخلّ لـه عنها لأنه سيتزوجها، ما يلبث أن يضحي له الصديق بها، فيحملها على دراجته، ويقدّمها إلى "جبرا" "وما حدث بقية ذلك النهار، والليلة التي أعقبته لا يمكن أن يروى بسهولة، فقد كان كالحلم، بعضه رعب، ومعظمه لذة، وكله أشبه بالمستحيل"، وسيبلغ التعبير المجازي ذروته حين يشبه "جبرا" شفتي "غلاديس" بفلقتي فاكهة باردة ندية، تذوبان ولا تذوبان على شفتيه.‏

و"برناديت" الأنثى ذات الستة عشر ربيعاً، عرف لذائذ جسدها الجارفة ولياليها المؤرقة، أما "جين هادسون"، التي تعرّف عليها في أحد البارات، فقد رأت في "جبرا" ـ بعد أن شهدت معه عروض المسرح الشكسبيري ـ "هاملت" العربي، كما تخيّلت نفسها "أوفيليا": "وقضينا أياماً في أحراش شكسبيرية ملأى بشموس متفجّرة".‏


أتى "جبرا" على بعض العلاقات العاطفية بروح الأديب، وبشيء من التفصيل، "ولم يتحرّج من ذكر الأسماء النسوية ممن كان على علاقة بهن، مع التنويه بطبيعة تلك العلاقة المادية القائمة على حضور الجسد، والخارجة عن نطاق الهوى العذري، في حين نراه يتحرّج من ذكر اسم الطالبة العراقية التي أحبّته، وكانت بينهما رسائل متبادلة؛ استردّتها بعد زواجه من "لميعة" وقدّمت له هديةً ثمينةً، دلالةً على نبلها، كما يتعمّد إغفال اسم تلك السيدة العراقية التي تعرّف عليها في "باريس" وهو في هذا إنما يحاول أن يعبر عن حال المرأة في كل من البيئتين، إذ أن تصريحه بأسماء النساء في إنكلترا إنما هو تعبير عن الحرية الكبيرة، التي تتمتع بها تلك المجتمعات، بينما يتحرّج من ذكر أسماء النساء العربيات، لأن التقاليد والأعراف لا تسمح بذلك، عاكساً حرصه على تجنّب كل مامن شأنه خدش الحياء، شأنه في ذلك شأن أغلب كتّاب السيرة الذاتية العرب، لم يستطع تجاوز القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمع. فالمجتمعات العربية كانت تضع المرأة في عزلة تكاد تكون شبه تامة، فضلاً عن الجهل والقسر، فالأديب هنا يعكس حالة المرأة في بيئته ويؤرخ لحيّاتها في ذلك العهد، وشكل الحياة التي عاشتها، وعاشت معها في المجتمعين"(29).‏

وكانت زيارات العمل أو السياحة التي كان "جبرا" يقوم بها من حين إلى آخر إلى العواصم الأوروبية والمدن الأمريكية ذات أثر كبير في إغناء ثقافته، وقد تركت في نفسه انطباعات لا تنسى، فـ"باريس" التي قصدها صيف عام 1951 سائحاً، حفرت في نفسه معالم فنها، وثقافتها، فتملّى من (قوس النصر) و(برج إيفل) وحدائق (التويليري) ففرح وبكى لدى رؤيته لوحات الانطباعيين وسواهم في متحف (أورانجري) "أيّ فرح عارم هزّني حتى النخاع! وكما هو شأني كلما فاجأني الجمال، شهقت وفاضت عيناي وأحاول يائساً كبح دموعي...‏

هكذا كان حالي حين رأيت لأول مرّة لوّحات مونيه، وديفا، ورينوار، وبيزارو، وسيزلي، وسيزان، وفان غوخ، والآخرين.".(30). ولقد وجد "جبرا" في باريس ذلك النبع الذي يروي فكره، ويعطي تجربته بعداً أكبر، بعد ذلك الجوع الثقافي الذي أصابه منذ مغادرته "كمبردج"، "كنت في حركة دائبة، ألعب دور المتلقّي الذي أصابه النهم بعد سنوات من جوع ثقافي منذ مغادرته "كمبردج"، وكنت بدأت أشعر أنني أستنفذ خزيناً ذهبياً لابدَّ من إعادة ملئه، وهاهي المدينة التي تعطيك وتعطيك بقدر ما بوسعك أن تأخذ وتلتهم، وعشقي للفنون هنا ما يغذّيه ويشحذّه كل يوم بمزيد من اللهفة والمتعة".(31).‏

وما أحسّ به في "باريس" من المتعة والحرية والفن، كان نقيض ما أحسّ به في (أمريكا) التي وصفها بـ(العالم الجهم المكتظ بالبشر)، حين قصدها مع زوجته في زمالة دراسية في جامعة (هارفرد) وما اختزنه في نفسه لها تمثّله الغرفة التي نزلا بها "شقتنا تتألف من غرفة كبيرة واحدة مع حمام، ومطبخ صغير بسيط التأثيث... والكنبة الزرقاء التي نجلس عليها في النهار ـ بالإضافة إلى ثلاثة كراسي كبيرة مريحة ـ تتحوّل في الليل بفتحها إلى فراش، إلاَّ أنه فراش غير مريح، فكّنا ساعة النوم نرفع منها الحشايا والوسائد، ونرتّبها على الأرض فراشاً عريضاً، كنّا راضين به في الجنة السحرية التي اقتطعناها أخيراً لأنفسنا في عالم جهم، مكتظّ بالبشر"، (32).وواضح أن النصّ "يجسّد الوضع النفسي للشخصية من خلال علاقتها بالمكان، فعلى الرغم من ضيق الشقة ووقوعها في بناية ضخمة ذات الشقق العديدة والمكتظّة بالبشر. إلاَّ أنها تتحوّل بوجود‏

(لميعة) إلى جنة سحرية ضمّت الزوجين لأول مرة"(33).‏

وبقدر ماكان وصفه لباريس ومعالمها حيوياً، جمالياً وإنسانياً، كان وصفه لمعالم أمريكا خالياً من تعابير التعاطف الإنساني، كما في وصفه لشارعين من شوارع نيويورك هما الصورة الحية للحياة في أمريكا. حيث التباين الواضح بين الفقر والتخلف، والغنى الفاحش للمجتمع الأرستقراطي. فشارع "برودواي" في الحي الشعبي، "طريق متعرّج يقطع الشوارع المستقيمة الأخرى حسبما يشاء، كثير الألوان والأنوار، بادي القذارة، يتعاقب فيه النور والظلام... تملؤه المطاعم الرخيصة التي تضجّ برنين الأشواك والسكاكين، والصحون بين أيدي رجال ونساء كهول جلست الوحشة على وجوههم، وفي الأماكن التي تفضّلها، تجد أغلبية النساء المتوسطات العمر، عجيبات القبعات، في ثرثرة لا تنتهي، وفي هذا الشارع. في خفاياه التي لا يتاح إلاَّ للمريدين معرفتها، تجتمع النفايات الغربية، والمجرمون، والعائشون على ضعف الإنسان، الفقراء والدمامة ألفت للنظر من غيرهما، أمتعة رخيصة، وعواطف رخيصة، وإلى جانب هذا وذاك عدد من أحسن مسارح الدنيا".(34).‏

أما الوجه الآخر للمجتمع الأرستقراطي الأمريكي، هو الشارع الخامس "ففث أفينو"، "شارع متلألئ النظافة، جميل الدكاكين، شاهق العمارات، يمشي على أرصفته نفر من أجمل حسان الدنيا وأشدّهن أناقة، وتباع فيه أغلى الأمتعة، وأشدّها إغراءً للنفس، وهو مستقيم منظّم، شديد القسوة، عديم المبالاة إلاَّ بمن أوتي كثيراً من المال أو وافراً من الحزن".(35).‏

وكما أُخذ "جبرا" في "باريس" بجماليات الأمكنة، وسكر بسحرها، فإن للمدن الإنكليزية ـ في نفسه ـ نكهتها الخاصة باعتبارها المدن الأولى التي عرفها بعد فلسطين، وعرف فيها لذاذات الحب، ولذاذات الأدب، وظلّ يقيم لها في ذاكرته المكانة الأولى بين المدن الأجنبية، فمن "أكسفورد" كان يتملّى تمثال الشاعر الرومانسي (شيلي) عارياً غريقاً تبكيه ربّة الشعر، وفي "ستراتفور أون أفون"، كان يجذبه مسقط رأس "شكسبير"، وفي داره التي قضى فيها "جبرا" يوماً رائعاً، تحايل على أمين الدار، واقترف المحظور بأن كتب اسمه على خشبة إحدى النوافذ قرب اسم الشاعر "بايرون"........‏

لقد عدَّ "جبرا" "ستراتفور..." كعبته التي يحجّ إليها، فتكرّرت زياراته إليها لحضور عروض مسرح شكسبير التذكاري "ذهبت إلى ستراتفور حاجّاً مرة أخرى، لأشاهد في أسبوع واحد ثماني مسرحيات، وذلك بأن أتردّد على المسرح كل يوم، فكنت كل صباح أقرأ نصّ المسرحية التي سأشاهدها في ذلك المساء، وكانت آخرها، وتتويجاً لها (مأساة هملت)، وبقيت نسختها التي قرأتها يومئذٍ محفوظةً عزيزةً بين كتبي، بشيء من (سنتيمنتالية المحب)".(36).‏

في (كمبردج) وغيرها من الأكاديميات الأوروبية عاين "جبرا بنفسه اهتمام الغرب بأعلام العرب وتراثهم الأدبي والفكري، وتوقّف مندهشاً أمام الاحتفاء الأوروبي البالغ بالرموز العربية والإسلامية، في الأدب والطب والاجتماع والفلسفة و التصوّف، فقادته تلك الدهشة وذاك الاحتفاء إلى مراجعة حساباته الأدبية والفكرية والفنية، فانطلق ـ رغم تعلّقه بالحداثة وتمسكه بالتجديد ـ يمعن النظر في الجذور التراثية للأمة العربية، ورأى فيها جوهر الذات الذي تتحقّق فيه الهوية القومية التي تمنح العربي خصوصيةً وتميّزاً، وتمنعه من أن يكون بوقاً لنظريات الغربيين، أو ببغاءً يردّد مقولاتهم التي لا تعتمد على جذور تراثية كالتي عند العرب.‏

لقد التفت "جبرا" ـ مثلاً ـ إلى المتنبي التفاتة العربي الغيور، فاستقرأ في شعره تراثاً أصيلاً، وطالع في شخصيته أديباً فذّاً، مناضلاً يقرن القول بالفعل، ويمدّ الجيل الجديد بالأسباب المحفزّة للتطور والتغيير، فنبّه إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالماضي وعطاءاته، ودعا إلى استلهامه والإضافة عليه، بغية تحويل التراث وأعلامه إلى محفزات للإبداع، وبصورة خاصة حين تكون العودة إلى الجذور مشبعةً بقضايا العصر الراهن وأساليبه، وأشار ـ منطلقاً من بعث الثقة في النفس ـ إلى ما يزخر به التراث العربي السردي من خصبٍ، كألف ليلة وليلة، التي وجد فيها الغربيون كنوزاً لا تنضب، وعدّها المثقف الأوروبي مثالاً للسحر والمتعة. وطمح الروائي الغربي إلى إيجاد نماذج مماثلةً لها، يحتذي فيها هذا العالم الجميل المكتظّ بالمثل التي يجسّدها الحب والخير والجمال والحرية والأمل، والثقة بالنفس، وتتجلّى فيها الإنسانية المطلقة.‏

لقد أخذ "جبرا" على الفكر العربي المعاصر عدم التفاته إلى ألف ليلة وليلة، واحتفائه بها، كالغربيين، وتجاهل تراكيبها وأفكارها وصورها، ومجتمعاتها وعلاقات أفرادها، وأهوائهم النفسية ورغباتهم الجنسية، وعوالم الملوك والسادة والعبيد، والجواري، وغير ذلك من الجوانب الكبيرة التي تقدّم للنقد العربي والأدب المعاصر مادة زاخرة بعطاء لا ينضب "وإذا ما تذكرنا أن الرواية العربية المعاصرة، تركّز اهتمامها على الجوانب السيكولوجية، وتضيف إليها الاهتمامات التركيبية، ندرك لماذا تصبح "ألف ليلة وليلة"، مهمّة مرة ثانية، وخاصة بالنسبة إلينا، وكونها أدباً شعبياً يزيد من قيمتها، فهي تمثل فوران المخيّلة الإنسانية على نطاق الأمة بأكملها، فهو فوران بلا حدود". (37).‏

إن المرحلة اللندنية صقلت أفكار "جبرا" ورسّخت وعيه بقيمة التراث، وضرورة استلهام قيمه الجمالية والتعبيرية، فأخذ، مثلاً ـ بعد عودته من كمبردج ـ على (فن المقامات) التي نالت إعجاب المعلمين العرب، أنها كانت أدباً للخاصة، ولم تكن بأيّ حال أدباً للعامة، بسبب لغتها المعجمية التعليمية، وهذا ما جعل الغربيين ينأون عنها بأصارهم، ويفضّلون عليها ألف ليلة وليلة، لاحتوائها على ما يثير الدهشة الإنسانية، التي لا يمكن أن تثيرها المقامات، التي تفقد رونقها في الترجمة والنقل... بينما تظلّ الليالي مثار الدهشة وينبوع السحر، وملهمة الأديب ومثيرة القارئ العادي والمثقف.‏

ومن الطبيعي أن يتحوّل الإعجاب في نفس "جبرا" إلى عشق انصّبت عليه جهوده، فالليالي الشهرزادية أبدعتها الجماهير العربية، التي تحيا بالكلمة، وتنتعش بها، رغم ما تعرّضت له من جوع وطغيان، أظهرتها السيرة الشعبية على حقيقتها: تحبّ وتكره وتجوع وتشبع، لكنها تظلّ محافظة على حيويتها، ووسائل عيشها وهذا ما جعل عالم الليالي "يتسع ويترامى ويغتني ويتشعّب أحداثاً، ويزداد شعراً، ويفيض بشراً، ويتعمّق في ذاتها ويجسّد رموزها، حيث اختزنت ذلك الجوهر الغامض الذي عصيَ على الظلام مهما تكاثف".(38).‏

حرية الفكر:‏

شكّلت المرحلة الأوروبية، و(اللندنية)، على وجه الخصوص، جانباً هاماً من شخصية "جبرا"، الثقافية، وكوّنت استقلاله الفكري، فكان أنموذجاً مثقفاً متفرّداً، فاعلاً غير منفعل، ومؤثّراً فيما حوله، فـ"جبرا" الذي لوحظ عليه تأثّره بالفكر القومي السوري (39) في مطلع شبابه،كاد ينقطع للترويج لحرية الثقافة، وحرية الأدب والأديب معاً، فصارت الحرية هاجسه الأول، وربما كان للمجتمع الأوروبي بعلاقاته الاجتماعية مع نسائه، وصلاته الأدبية مع مثقفيه، ومسارحه، الدور الرئيسي في هذه الحرية التي كان من أهم سماتها رفضه للالتزام الذي رفضته مجلة (شعر) ـ فيما بعد ـ وهو أحد كتّابها ـ على الرغم من انطلاقها من الوجودية السارترية، واتخاذها أرضية تبني عليها تطوّرها الفكري، وتطلّعها إلى حيّز (ليبرالي) واسع، استوحته من أفكار حزب (سعادة) القومي السوري، الذي يريد للأدب والثقافة والفنون أن تعبّر عن الحرية الوجودية (40).‏

إن من أولى معطيات تلك المرحلة الأوروبية، وتأثيراتها على فكره، انحيازه "للمشروع الليبرالي من خلال بعض أبطال رواياته، و.... أكثر شخصيات "جبرا" التي بدت بدايات يسارية تنتهي إلى الليبرالية، وهذا يعني في دلالته العميقة ضرورة الليبرالية، لمجابهة التخلّف والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة، ومع... تفريقنا بين الليبرالية كما في أحزاب وقوى، والليبرالية كما فهمت بشكل عام، أي الديمقراطية، فإن المسألة الديمقراطية تبقى هي الأساس.‏

قد يكون عهد الليبرالي غير ممكن التحقّق في هذه المنطقة، ولكن التخلّف، والإشكال الحضاري الذي تعيشه المنطقة لا يمكن حلّه إلاَّ بالديمقراطية. إن تصلّب عود الدولة القطرية التي تزيّف كل شيء، لا يمكن تعريتها إلاَّ عن طريق توكيد الحرية والثقافة والحداثة، أي بوساطة المشروع الديمقراطي، الذي قد يتخذ أشكالاً ومضامين مختلفة، حسب القوى التي تحمله، فرغم فشل بعض المشروعات الليبرالية إلاَّ أن ذلك يؤكّد ضرورة الإصرار على الديمقراطية، أقصد الحرية والكلام والإبداع".(41).‏

جسّد "جبرا" بعض هذه الرؤية في روايته العربية الأولى "صيادون في شارع ضيق"، التي بدأ كتابة سطورها الأولى في أمريكا، حيث سلّط الأضواء فيها على "الشرائح الإقطاعية الأرستقراطية التي حكمت العراق في الخمسينيات، وكشف عن بذور انهيارها التي تحملها في داخلها، فقد انفصل قسم منها تحت تأثير الحضارة الغربية، ونتيجة انتشار التعليم فيها، وهي تبرز أيضاً بداية تبلور وعي الحداثة، ويصرّ على لعب دوره في التغيير، كما تصور هشاشة هذا البديل، وضياعه المسبق ورخاوته وضعف حسّه التاريخي، كما يبرز في النموذج الماركسي، وفيها نرى بداية دخول الجيش مسرح الفعل الاجتماعي، ونرى الأرضية المعقدة للواقع الاجتماعي العربي. إن العلاقات العشائرية والإقطاعية، إضافة إلى الكبت الجنسي، والتشرذم الاجتماعي، ممثّلاً بالأقليات القومية والدينية، والتي هي مع قيم غرب متحضر، هي التي تسود عالم هذه الرواية.‏

وهو من خلال ذلك كله، يبرز صلابة الواقع إزاء هشاشة من يتصدّون لـه، ويؤكّد تعاطفه مع التغيير، مصّراً على الحداثة والفعل والصلابة ـ وهي لا تكفي، بل قد لا تعني شيئاً من دون وعي مطابق وحقيقي ـ كبديل هذا الواقع".(42).‏

إن عالم "جبرا" الفكري والثقافي والنقدي تمثّل في أبهى صوره من خلال الأفكار التي زوّدته بها المرحلة الأوروبية الأولى من حياته، وصبّه في كتابه الفكري الأول "الحرية والطوفان". فكان الـ(منيفستو) الأول لـ "جبرا" المسكون بالحرية، و"العلامة الفارقة في الأدب والفن والنقد ـ هل أقولها ـ السياسة. بل لعل من الضروري أن نشرح ماذا تعني عندما نقول إن "جبرا" يبحث في السياسة، في "الحرية والطوفان"... فهو لا يخوض غمار معركة مباشرة من هذا النوع؛ وهو فقط يبحث في جزء من الكتاب، وفي أهمّ جزء فيه، عن مدى الخطر الذي يهدّد الكاتب في حال لو انفجر السدّ، وغمر الطوفان كل قيم الفنان الحقيقي.‏

قديم 11-03-2011, 10:13 PM
المشاركة 16
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ابرز احداث طفولة جبرا:
ـ في حديث معه طلبت منه سيدة عراقية ان يحدثها عن حياته بقولها!... يقولون إنك عشت وما زلت تعيش حياةً مبعثرة.‏
- أفردلطفولته وحتى 12 سنة كتاباً خاصاً وهو ما يشير الى خصوبة تلك الطفولة وغناها في الاحداث الدرامية .
- عنوان سيرته ( البئر) والذي هو علامةً بارزةً في تحديد النصّ، وكشف من مجموعةالدلالات وهو يوحي بالانخفاض والعوز والعمق والسجن والرطوبة والدونيةوالتحتية والرهبة، وقد كان يؤكّد على هذه الدلالة كلما استعاد في طفولته شيئاً منخوفٍ أو حزنٍ.

- حين هزَّ زلزالٌ فلسطين، وصفه الأديب الكبير بعيّني طفلٍ صغيرٍ، فيرواية "البحث عن وليد مسعود": شهدت الزلزال وأنا طفل في السادسة، لقد خضّ الأرض كمالو خضّتها ريح غريبة رهيبة، كنت جالساً على الأرض مع غيري من الأطفال في المدرسةالصغيرة، فحسبت الريح الهادرة هزّت البنيان القديم هزّاً عنيفاً، ولمّا انطلقالصبية مذعورين إلى الخارج، انطلقت معهم، ورأيت الحجارة تتساقط كتلاً من أعلىالمبنى العتيق المقابل، وتتكوّم أمام عيني في ركام أبيض مريع، واتجهتْ أبصارنا منالخرابة التي نحن فيها نحو كنيسة المهد نستنجد الله لإنقاذنا، وسمعت بعض الكباريقولون: "إن كان هذا يوم القيامة، فهل يستهدفنا الله تحت الأنقاض، ليقيمنا من تحتهامرة أخرى!". وفضلا ًعن ذلك، فإن العنوان يرمز إلى الذاكرة التي اختزنت في "بئرها" ما يمدّها بنسغ الإبداع وقد "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤىوالأصوات.

- . أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلتتنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد"(. وهذا ما جعل "منالذاكرة (البئر) أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى. تجارب الطفولة التي هيأكثر من حصيلة ذكريات خاصة،فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلىالتجارب الأولى من حياة المرء"

- أكّد على ذلك مراراً مركّزاًعلى لفظ "البئر" ومدلولها: "طفولتي ما زالت هي ينبوعي الأغزر. إنها البئر والعينالتي تمدّني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أنها ستستمرفي منع الجفاف والعطش"..‏

- إن مؤشرات المرحلة الأولى تنمّ عن حالة الفقر و الحلم التيوسمت حياة الطفل، وقد تغلغلت منمنماتها في ثنايا رواياته، وحظيت بيت لحم ـ مهدالطفولة، ومرتع الصبا ـ بنصيب وافر من استذكاراته التي شهدت تشكيل أولى التجاربوالرؤى والأصوات، فاختزن‏ الصبي منها ما "يمرّ به كل يوم، يعاينه، أو يتلذّذ به".

- ارتبطت مدينة المهد في وعي الصغيربـ(المسيحية) رمز المحبة والسلام، كما ارتبطت بـ"الفقر والعوز"، فكان يرى الملاكينالصغار لا يجدون فيها ما يرغّبهم في العيش، فيندفعون نحو شاطئ البحر، ينتظرون السفنالتي تحملهم، وبأيديهم مناديل الوداع، ميمّمين شطر المهجر الأمريكي. شأنهم في ذلكشأن إخوانهم، من ذلك الرعيل المهاجر، من أبناء بلادالشام:‏
- إذ تلحّ عليه ذكراها بمرارة بعد ما غادرهاإلى بغداد، بُعيد النكبة، حيث وجد نفسه منفياًمحاصراً، وهو في ميعةالصبا.

- إن "القدس" ظلّت مقيمةً في قلبه، مظللةً بالأملوالحاجة. فالبيت الذي سكنت فيه الأسرة في حارة(جورة العناب) خلّده فيروايته (صراخ في ليلٍ طويل)، وقد جعله مقرّ بطل روايته (أيمن) الذي وصفه بتعابيرالطفولة: "عندما كنت صغيراً أسكن مع أبي وإخوتي الثلاثة،في غرفةٍ مربعةٍ ضيقةٍ لها شباكٌ صغيرٌ واحدٌ، لا زجاج له. لا أظننا كنا نتذمركثيراً، فليس جيراننا بأحسن حالاً منا، ولا أقرباء لنا ساكنين في بيوتٍ أحسن منبيتنا، فلا داعي هناك للحسد. كنا قانعين بنصيبنا. لم يشعر أحدٌ منا عن وعيٍ بزرايةحالته، وفساد الهواء الذي يتنفسه... أما الشجار فقد كان من التقاليد الراسخة، فقدكنا نتشاجر بحماسةٍ هائلةٍ، ثم نتصالح فيعود الوئام بيننا مع الكثير من المحبةوالرقةِ".‏

- إن الذكريات الأولى في القدس ستظلّ حتى نهاية العمر تمدّه بموحيات الإبداع. يذكرها بتفاصيلها الدقيقة، من مشاركته في إضراب عام 1939، ومعاينته بناء الكليةالعربية التي درس فيها، ولا ينسى ما عاناه مع أهله من الإرهاب الصهيوني الذي تعرضتله المدينة، حين "شرع اليهود في تدمير القدس الجديدة، مبتدئين أولاً بنسف المقرّاتالحكومية، ومن أشهرها نسف جناح السكرتارية العامة للحكومة في فندق الملك داود،ونسفهم أيضاً بعد إعلان التقسيم في تشرين الثاني عام 1947 لمنازل العرب ليلاً،ولاسيما في حي القطمون الذي كان مجاوراً حي "راحافايا"، اليهودي، حيث سكن فيه معأسرته بعد رجوعه من لندن"..‏

- ومع تسارع الأحداث ودموّيتها، تعود الأسرة إلى بيتلحم،ولكن سرعان ما تحلّ النكبة، فتلقي بـ"جبرا" إلى بغداد،ليحطّ رحاله في ربوعها، وتغدو المدينة العربية الثالثة دار إقامته الأبدية. إذ كتبللجسد أن يوارى في ثراها، بعد أن وشّى الأندية والكتب والأمسيات بألوان قشيبة لاتبهت ألوانها على مدى الزمن.‏

- و"جبرا"، الذي حمل فلسطين في جوارحه لم ينسَيوماً الطغيان الصهيوني الذي كان شاهداً عليه ولن تغادر أنفه رائحة اليهودي "تزكمالطفل بالعفن والعطن الغريبين، وأمه توصيه وإخوته بالحذر من اليهود"، "إنهم يسرقونالأطفال في أعيادهم ليذبحوهم، ويمزجوا دماءهم في عجين خبزالفطير، وقبّة "راحيل"، ستبدو دوماً للطفل ذلك الحدّ الفاصل بينالمعلوم والمجهول. بين الألفة الغربة، ولن تغادر الطفل حتى شيخوخته صورة الحاخامات،وأصداء ولولتهم الغريبة في القبّة التي تمتدّ بعدها الطريق إلى القدس. إلى عالمالغوامض والأسرار.‏

-كان للنكبة أثرها البارز في تعميق الجرحالفلسطيني في الذاكرة الحية، فتداخلت في رواياته، ولوّنت أجواءها بألوان الحبوالمأساة.‏

إن ولدي مسعود هو جبرا فيكون جبرا يتيم الام وهو حتما تعرض للكثير من الصدمات والخوف والالم من هجمات الاحتلال كما يصفها ثم هناك معاناة من التنقل والهجرة ثم النكبة.

مأزوم وسبب ازمته انه فلسطيني تعرض للخوف والقهر والفقر والسجن والنكبة، والمنفى، مع احتمال ان يكون يتيم الام ..لكن لاغراض هذا البحث سنعتبره

مأزوم.

قديم 11-05-2011, 12:42 PM
المشاركة 17
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وألان مع سر دخول الرواية التالية قائمة أفضل مئة رواية عربية:

3- شرف --------------- صنع الله إبراهيم


محمد مشهور يكتب عن رائعة صنع الله ابراهيم

"شرف"
انها ليست رواية انها دفتر أحوال مصر د. على الراعى

شرف كلمة تعنى الكثير لكل من يسمعها. وعن الشرف تدور هذه الرواية الممتعة لصنع الله ابراهيم

الرواية مقسمة لأربع أجزاء

الجزء الأول حدوتة أشرف أو شرف كما تناديه والدته يدخل السجن بعد قتله للخواجة الذى حاول انتهاك عرضة وداخل السجن يتعرف شرف على دنيا جديدة بقوانين جديدة
صنع الله ابراهيم هو ملك التفاصيل تكاد تجزم عند قرآتك للقسم الأول أن أكيد المؤلف كان مسجون قديم نسج رائع بين الشخوص و الأماكن

الجزء التانى حكاية الدكتور رمزى المسجون فى قضية رشوة ماينفعش أعتبر الجزء دة روايه هو جزء وثائقى أكتر منه أدبى فى هذا الجزء يكشف الدكتور رمزى جرائم الشركات متعددة الجنسيات وخاصة شركات الأدوية فى حق العالم التالت وشعوبة بأسلوب يدعك تصاب بالأحباط من كل هذا الفساد والجرم

الجزء التالت مسرحية قام بتأليفها الدكتور رمزى لعرضها داخل السجن فى أحتفال 6 أكتوبر وفى هذة المسرحية يعرض صنع الله ابراهيم كم الجرائم التى تمت فى حق مصر و شعبها من أول ناصر مرورا بالسادات نهاية بمبارك بمختلف التحولات التى مرت بها مصر عبر تلك السنوات

الجزء الأخير يرجع بينا المؤلف داخل السجن ليكشف الوجه الأنسانى للمساجين و بعذوبة شديدة يكشف لنا مشاعر المساجين خاصة اللى بقالهم كتير مساجين
وكعادة صنع الله ابراهيم تنتهى روايته بلا نهاية محددة نهاية مفتوحة للغاية

ال (شرف) ليس فقط له منظور جنسى و لكن أى فساد مسكوت عنه هو أيضا ضياع للشرف

==
رواية شرف :
يتحدث الكتاب عن اشرف عبد العزيز سليمان او شرف كما الفت الأم ان تناديه يعيش في حي فقير من أحياء القاهرة وينتمي لأسرة كبيرة ..يحلم بان تصير له غرفته الخاصة ولا يعود يتشارك غرفة النوم نفسها مع كل افراد العائلة ..
وله معرفة دقيقة بكل ماركات الاحذية والملابس والنظارات الشمسية والعطور وووووووووو وحتى باسعارها
مع انه لم يتملك شيء منها في حياته

يقضي اغلب وقته خارج المنزل مع اصحابه ... وله معرفة جيدة باللغة الانكليزية الخاصة بالشارع والاغاني كأغلب فتيان جيله

وفي ليلة غضب الدهر عليه قرر ان يخرج بمفرده فوجد رجل أجنبي معه بطاقتي سينما دعاه للحضور معه
ثم دعاه الى بيته وبعد ذلك حاول الخواجة ان يمد يده الى ساقه ويتحسس فخذه .......
ولم يسمح له بذلك شرف ونشب شجار عنيف انتهي بان قتل شرف الرجل ...

وهنا تبدأ احداث القصة بدخول شرف الى السجن ..ومعاناة السجن وكيفية الحياة ..ونوعية الشخصيات المختلفة التي يلتقيها ونوعية المساجين وكيف ان اغلب من هم في السجن الاسماك الصغيرة ..ولا يدخله المتهمين الحقيقين في تلك القضايا الكبيرة من فساد واستيراد لحوم فاسدة ومخدرات ووووو

وكيف ان الفساد والسرقة تمتد لتطال كل المرافق التابعة للدولة
وكيف ان هم كل موظف هو كيف يسرق وكم ينهب ...

وعلى قولة المصريين " ياما في السجن مظاليم "

تجربة جديدة نتعرف بها عن الحياة خلف القضبان دون ان ندخله ..
وانشاء الله لا أحد يدخله

==
شرف – لمحة عن الكتاب:
1. القسم الأول :

بطل الرواية (أشرف عبد العزيز سليمان- المولود سنة 1974م) الملقب بـ (شرف) طالب جامعي شاب يعرف (قشرة) عالمه الحديث دون أن يكشف ما وراءها من عوالم، طري العود مدلل أهله، يدخل السجن فتجعل منه التجربة على محك الحقيقة، وقد دمغته لأنه لمس عمقها الجلي الإشراق. أدخل السجن بجريمة قتل رجل استرالي اسمه (جون)، وضبط مرتدياً (سلسلة غالية جداً) تعود ملكيتها إلى القتيل، وفي الحقيقة أن المجنى عليه هو الذي خلعها وألبسه إياها، وبالتالي تحولت دليل إدانة ضده (جاهد الشاب في دفع مهاجمه الذي كان يفوقه قوة، ونجح في شلّ حركته إلى أن شعر به يحاول تجريده من ملابسه، وهو يلهث، فأمده العدوان بقوة جديدة).... ويستمر الرواي في دقة بليغة ليرسم السبب الحقيقي الذي دفع بـ (البطل المحوري) دخوله السجن.. (لم يتمكن جون من تفادي الزجاجة، وأصابته الضربة بالذهول فجمدت حركته. ولم يلاحظ شرف الدماء التي سالت على وجهه، لم يلحظ شيئاً على الإطلاق ولا حتى يده القابضة على شظية مدببة من حطام الزجاجة كانت مستمرة في الارتفاع والهبوط فوق الرأس الأشقر المخضب بالدماء- الرواية ص22)، وتحت تعذيب لم يستطع تحمله اعترف بجريمة لم يقترفها بقصد وعمد، وإنما دفاعا عن كينونته.. من بعد أن كانت له حرية لم يعرف نعمتها، إذ صادرته الحمية فصيرته مدافعا عن كينونته الحقيقة وشرفه الذي لم يهدر إلا بعد أن دخل السجن في جريمة دفاعه عن قيمه، وأخلاقه. و (شرف) يدون الصور الخفية بدقة متناهية.. ما وراء القضبان من عوالم سريتها الغامقة صارت حكرا على سجون الناطقين بحرف الضاد وكتابه.. رواية تنفلت من معجزة الخوف، لتبوح بالفجيعة المريرة المفتقدة على الرغم من أنها مازالت قائمة تثقل كاهل الإنسان وتقيده بجملة مفاهيم بالية مسماة في السر، وفي العلن مساومات من أجل العبور.. نظرة من القاع العميق إلى السطح، نظرةُ الفوارق في الاختلاف، أو الاختلاف في الفوارق.. نظرةُ السجين إلى الطليق عاريا مكشفا، ووحيداً.. نظرة إلى الفساد الإداري المتراكم في كل مرفق من مرافق الحياة، بالرشوة التي تصل إلى القضاء بواسطة محامين متمرسين، وتصل الرئيس بواسطة المرؤوس.. ثمة فوارق تعرضها الرواية. العتمة ودكنتها، يقاس كل ذلك السطوع. فثمة فساد إداري مقيت في أرفع مراكز الدولة... تتسلم رشاوى لتمرير الأدوية والأغذية الفاسدة، صفقات غايتها المال، مخلفة ورائها تخريبا متعمدا في الإنسان، وبنيته لأجل أن تتقلص إنسانيته. تستغله أبشع استغلال، فنعهد الروائي مدافعا فيها عن هوية إنسان انتهكته الأطماع الكبرى، وأقصته العزلة القاتمة عن دوره الحقيقي كإنسان له هوية وجود فاعل، (إذا كان شرف موجوداً بجسده بين الجدران الأربعة، فإن روحه كانت ترفرف في الخارج طول الوقت، ليلاً ونهاراً، فهو من سلالة شعب عظيم فضل دائما أن يكون مستعبداً كي لا يحرم من الحرية، والتطلع إليها- الرواية ص171).

رواية (شرف) نبرة عالية لكلمة عصر احتاج التغيير كأمر واقع من بعد أن تفاقمت الأخطاء، المتراكبة فوق بعضها البعض، فالخطأ يلد مثله، ولا يمكن أن يصلح إلا ببناء جديد على أسس سليمة.. رواية مشوقة تسرد أحداثا حقيقية مقنعة.. رأيناها تطوف بين الأسطر التي تحمل وجه الكاتب الحقيقي لتعكس أوقاتا عصيبة تشكل فيها العالم المقصي عن النظر، العالم المحجوب المغيب تحت اسم القانون، حيث تنتشر في تلك الأقبية أوراما سرطانية أكثر شراسة وفتكا بالمجتمع، ومنه تخرج إليه منظمة تحت مسميات تفلت من القانون أو تحت وصاية سدنته.. أقبية لم تك غامضة على روائي مثل (صنع الله إبراهيم) ذلك العالم الذي غمض على الغير فيه ما كل في العالم من حرية رغم تقنينها، وتعتيرها، ورغم صغر مساحة العالم الضيق الذي اتسع عميقا من عمق المجتمع فكشفه الرواي من الداخل.. حيث لا ممنوع أو محجوب داخله، بل تخله كل الموبقات، والآفات الاجتماعية وتنتشر فيه جميع أنواع المخدرات المحلية والمستوردة، تحت بصر الرقيب، وهو المستفيد الأكيد من كل تلك.. فالحارس هو الذي يهرب إلى عمق السجن.. الأفيون، الهيرويين، الحبوب المخدرة، وكل شيء.. حيث هناك شراكة متعاقبة، وشبكة منظمة هدفها الكسب المادي، وتخريب أغلى المثل في الإنسان، الظلام الداجي يعرف كل حاضرة تجري (إضافة إلى الأنباء المحلية وخلفياتها، كان الشيخ عصام يحتفظ بأرشيف كامل لكبار موظفي وزارة الداخلية من أول تاجر في إنتاج السجون وزميله الذي خرج من الوزارة بعشرة ملايين من الجنيهات من وضع اليد على الأراضي، والثالث الذي كون شركة أمن ضمت أربعمئة من قيادات الشرطة ولم يدفع فيها مليما واحداً مكتفيا باسمه إلى أن أعد مشروعا وهميا لأسكان الضباط ودفع من صندوق الشرطة 4 ملايين جنيه ونصف لمكتب استشاري واشترى متر الأرض بسعر 30 قرشا وباعه بـ43 جنيها للضباط و150 جنيها للمستثمرين، وزميل الذي شارك بعدة ملايين في شركة صرافه وشركة تسفير عمالة للخارج وطبعا في شركة الأمن إياها، والثالث الذي اختلف مع زميل له على عمولة صفقة سلاح، فهاجم بيته بالصواريخ- الرواية ص223)..

فمن داخل السجن يطل (شرف) على العالم بكل ما فيه، ويرى ما لم يستطع رؤيته.. يتابع أدق الأخبار وأشنع الأفعال، وعلى الرغم من إقصائه البعيد يعرف (تمسكه بحقوقه التي تنص عليها مصلحة السجون، وهي قطعتان من اللحم الأحمر لا الجلد، في اليوم لا في الأسبوع- الرواية ص107)، ويكشف الاستغلال الشنيع للمسجونين كأيدي، مهدورة الجهد، لصالح السجان (هناك مساجين آخرين يعملون في حظيرة مواشي يملكها، بها خرفان، وبط، ودجاج. وان المفروض أن يتقاضى الواحد منهم ثلاثة جنيهات من المأمور نفسه طبقا للوائح لكنهم لا يحصلون على شيء- الرواية ص131)..

بعين مفتوحة حرص الكاتب على توثيق ما يحدث، كمصور محايد، يترك القارئ ليكوّن استنتاجه (لم نلبث أن علمنا بنتائج التحقيق: أسفر عن مجازاة رقيب الدور بالحجز في الثكنة ثلاثة أيام لعدم قيامه بواجبه في الحيلولة دون وقوع الاعتداء، وجوزيَ الضابط (علي بلبل) بالإنذار لعدم قيامه بتفتيش عنبرنا بنفسه، وبدقة الأمر الذي ترتب عليه وجود ممنوعات مثل المشرط ومفصلة الباب- الرواية ص135)...

القسم الثاني:

أما في القسم الثاني من الرواية يجعلنا نقرأ ما جاء في محتوى كيس الأوراق.. استطاع (شرف) الاطلاع عليها متعاونا مع ضابط السجن، لتعمق معنى (الشرف) بكل دلالاته، كيس أوراق حاول صاحبه السجين (الدكتور رمزي بطرس نصيف) أن يخفيه عن الأعين، لأن محتواه من أوراق قصاصات جرائد، وأشبه بالمذكرات وثق فيها ألاعيب شركة كوش العملاقة السويسرية للأدوية.. المؤسسة الخطيرة ذات اليد الطولى المتحكمة من (بازل) بما تريد التحكم به، فالقصصات توثق ما كان يحمل الأفق من أكاذيب، وصار ضحية الشرف كل من لديه المثل العليا، وبقية الأوراق شهادة العامل بعمله، والدال بمدلوله..

إن رواية (شرف) عنيت الشرف المهني لكل موظف مهما كان موقعه في السلم الإداري لأية دولة في العالم، من بعد أن التفت المثقف نحو الخلل؛ بأن تخلف ما حوله نتيجتهُ الفساد الإداري الذي يصوره (صنع الله ابراهيم) في مجمل عطاءه الروائي بأنه السوسة التي تنخر البلدان، وتجعلها في صور متخلفة، وأن تلك السوسة تصل بأطماعها لتؤسس مؤسسات عبقرية شرسة تطول ما تريد، وتهيكل ما تطمح عبر مناهج ذكية للوصول إلى غاياتها... (إن كوش صارت مصدر خطر على استقلال أي بلد. فنفوذها أقوى من الحكومات وهي غير مسئولة أمام أية جهة في أي مكان. وهي تتحكم في أموال هائلة وبوسعها أن تنقل ما تشاء من هذه الأموال من أي بلد وإليه. الأرباح يمكن تصويرها على أنها خسائر، والأصول تباع، كل هذا دون أن يعرف أحد أو يتبينه بسبب السرية المضروبة على حساباتها. كيف يمكن لأي حكومة أن تتحكم أو تسيطر على كيان مثل هذا يشبه (سمك الجيلي): موجود في كل مكان وليس موجودا في أي مكان؟ أعدت على سمعها ما اقترحه أحد المدراء من ضرورة التفكير في شراء أو استئجار بعض الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية طالما أن حكومتها عاجزة عن حل مشاكلها- الرواية ص334).

ومثلما سخر (سرفانتس) من أدب الفروسية، نقرأ كيف اقتنص صورا لوجوه زعامات عربية تجملت بالخطب الثورية، لتظهر بأجمل الصور، ويكاد يقول بأن ذلك لم يكن ينطل على قارئ تلك الدمى المتشابهة الأدوار ذات الوجوه المريضة بالنرجسية البليدة، مهما أوغلت بالتنكر.. (ربما لا يعرف الكثير عن وحشية صدام وساديته والجرائم التي ارتكبها في حق العراقيين، العرب منهم والأكراد. في سنة 1979م وفي اجتماع لزملائه في قيادة حزب البعث أمسك برأس صديقه (عدنان) وجعل يخبطه في الحائط حتى تفجر منه الدم. لقد رأيت جانبا من هذا الاجتماع في فيلم فيديو أذاعته cnn. صدام في بدلة بيضاء جالسا خلف منصة مرتفعة مطلا على قاعة امتلات بالجالسين وينادي إسما وراء اسم، فيصيح الواحد منهم (والله العظيم أنا مو خاين سيدي) لكنهم يقتادونه للإعدام- الرواية ص328). وأدرج مع الأوراق نصّاً مبدعاً لعرض كامل للعرائس (دمى) الذي أقيم داخل السجن بمناسبة ذكرى الانتصار العظيم في حرب أكتوبر 1973م، أعده وأخرجه الدكتور (رمزي بطرس نصيف)، حيث قال فيه ما لا تتحمل مسؤليته أية نشرية عربية. وأدرج بجرأة منقطعة النظير كل ما يخافه الرقيب، لأنه قوَّل الدمى كل ما استطاعت قوله، ففضحت من افتضح وعرّت من عريّ، بأداة تقنية لم تكن غريبة على المؤلف لأنه أدخل في إحدى روياته السابقة (سيناريو فيلم عن بيروت)، وتعمد بفطنة العارف أن يدخل ما أراده في رواية (شرف) كما ذهب إليه مقصد استاذ النقد العربي الحديث الدكتور محمد غنيمي هلال (إذا لا يسوق الرواي أفكاره وقضاياه العامة منفصلة عن محيطها الحيوي، بل ممثلة في الأشخاص الذين يعيشون في مجتمع ما، وإلا كانت دعاية، وفقدت بذلك أثرها الاجتماعي وقيمتها الفنية معا[4]).

القسم الثالث:

أما القسم الثالث من الرواية فهو مواصلة ما يحدث وراء الحيطان المتراصة، وما بينها. حيث ينتخب (شرف) لمتابعة أحد أدعياء الدين، ونتيجة لتعاونه مع الضابط السابق للسجن (كمرشد) يتغير مكانه من مجاورة دلو البول حيث كان إلى زنزانة أخرى تجمعه مع ناس أكثر خطورة من المجرمين السابقين، وتبدأ معه مشاوير لم تخطر على باله، وبعد عن خطابات العارف العليم الدكتور(رمزي): (هل تعرفون أن 60 بالمئة من ثمن الدواء في مصر يذهب إلى الموزع والمستورد، وأن الدواء الذي تدفعون فيه ثلاثة جنيهات ستدفعون فيه عشرين بعد تطبيق الجات، وهل تعرفون بأن 55 بالمئة من الأطفال مرضى بأكبادهم وأن عدة أفراد لا وطن لهم ولا ضمير كدسوا ثروات بالملايين من أجل استيراد الأطعمة الفاسدة ورش المبيدات. هل تعرفون أنهم يبيعون السرطان لعشرين مليون طفل.. اشربوا هذا بطعم البرتقال، وكلوا هذا بطعم الفراولة، الحسوا هذا بطعم الأناناس والشكولاته والملح والخل والكاري والكباب والخراء.. مياه غازية وكولا ملونة وشكولاته وحلوى وأعصرة ومربات وغزل بنات عبارة عن مكسبات طعم ورائحة ولون أي أمراض تدوخ أطفالكم طوال العمر إلى أن يقصفه السرطان بعد أن يصابوا بالفشل الكلوي من جراء المياه الملوثة أو الطرش أو الغباء بسبب التعرض للرصاص المنبعث السيارات أو يرحمهم الرحيم فيقعوا في بالوعة مجاري أو تدهمهم سيارة- الرواية 478)، واستبدلت بنصائح السفاح (ليس هناك أسرار في السجن).. شيئا فشيئا يستدرج إلى حمل ما يحملون مقابل عدة سكائر، ويرى بأم عينه كيفية أولئك العتاة في الإدمان يأخذون ما أدمنوا عليه. وتنتهي الرواية حين يقترب (سالم)، محاولا الاقناع وتبرير السلوك الشائن.. ليبدأ أول الهبوط، حيث لم يعد للشرف الذي يحمله شرف من معنى..

رواية أعطت معلومات ودونت تاريخاً لن يعبره الزمن الحاكم مهما حاول الطمس، ومهما ابتكر من عوارض وكوارث، إذ تكللت بالنصر كونها تأخذ من إنسانية الإنسان كل الوقت والمال، لتعطي رأسمالا قيما في كيفية انتصار الحكومات على محكوميها، وليس على غيرهم.. خاصة المحكومات الغنية بالثروات، والموقع الاستراتجي..

قديم 11-05-2011, 12:49 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الواقع المرعب في رواية شرف
رواية : صنع الله ابراهيم
قراءة : محمدالأحمد
رواية (شرف ) إحدى العلامات الروائية الجريئة التي أضافها الروائي المصري (صنع الله ابراهيم)، الى المكتبة الروائية العربية. اتسمت بموضوعية جلية اعطت هويتها لاجل ان يبقى الكاتب الملتزم مزاحما احقية الرواية على الراوي ذاته... بكل تاريخه الشخصي، وسلوكه. فتكون الكتابة هي الحقيقة التاريخية الوحيدة التي لا تقبل التزوير، من بعد ان (انتزعت القلة المستغلة منا الروح، الواقع مرعب، وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب ان يغمض عينيه او يصمت، لا يستطيع ان يتخلى عن مسؤوليته لن اطالبكم باصدار بيان يستنكر ويشجب فلم يعد هذا يجدي لن اطالبكم بشيء فانتم ادرى مني بما يجب عمله، كل ما استطيع هو ان اشكر مرة اخرى اساتذتي الاجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة واعلن اعتذاري عن عدم قبولها لانها صادرة عن حكومة لا تملك فينظري مصداقية منحها وشكراً ).
الكتابة هي الثبات في المواقف لان مبدعها العبقريارتضى ان يكون فاضحا لكل خلل بشري كالانتهاك والاستغلال، والظلم... يخطها الاديب الواعي لذاته في حركة التاريخ، وعمق نظرته المحايدة، ليكون الدرس المتكامل الذي يجعل البشرية تتخطى اخطائها، وكوارثها الاستنزافية للأقتصاد والعقل.

لمع اسم (صنع الله ابراهيم) بعطاء تواصل بالواقعية الموضوعية. فروايات مثل رواية (تلكالرائحة)، رواية (اللجنة)، رواية (نجمة اغسطس)، رواية (بيروت.. بيروت)، رواية (وردة)، ورواية (ذات).. كل منهما جعلها تعطي القاريء كشفاً دقيقاً لما حوله من انتهكات بالغة من الصعب عبورها، وهو يسلط عليها الضوء كاحد عباقرة الفن الروائيا لعالمي.. بكل عصوره، ومدارسه.. بقيت الرواية الحقيقية عصية الكتابة لن تحقق ذاتها الا باضافة جديدة جادة... كالذي نقرأهُ في (شرف) حيث لبنة اخرى في الجراة، وموضوعا جديداً فاضحا لكل العيوب المخفية تحت اسم القانون، وطائلته.. خاصة مشرعيه وسدنته. فالواقع اكثر بشاعة من الخيال، وما جرى ابلغ حدة، واشمل اتساعاً (لقد انحدرت الواقعية في مستوياتها الدنيا الى صحافة، الى اطروحات، الى وصف علمي- وباختصار الىلا فن. اما في المستويات العليا فقد تجاوزت على ايدي اعظم كتابها امثال بلزاك،وديكنز، ودستوفسكي، وتولستوي، وهنري جيمس، وابسن، وحتى زولا، حدود نظرياتها، وخلقت عوالم من صنع الخيال، ونظرية الواقعية هي في نهاية المطاف استطيقيا سيئة لان كل الفنون خلق، وهي عالم بذاتها قوامه الايهام والاشكال الرمزية- رينه ويليك )، فبقيت الواقعية التي انتهجها المبدع الراوي عبر سلسلة حقائق، اعطه الشروع نحو جديد لم يكن نهج احد غيره.


المصدر: الانترنت

قديم 11-09-2011, 12:13 PM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صنع الله إبراهيم



(مواليد القاهرة 1937) روائيمصرى يميل إلى الفكر اليسارى ومن الكتاب المثيرين للجدل وخصوصاً بعد رفضه استلام جائزة الرواية العربية عام 2003 والتي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة.


- سُجن أكثر من خمس سنوات من 1959 إلى 1964 وذلك في سياق حملة شنّها جمال عبد الناصر ضدّ اليسار.


تتميز أعمال صنع الله إبراهيم الأدبية بصلتها الوثيقة التشابك مع سيرته من جهة، ومع تاريخ مصر السياسي من جهة أخرى. من أشهر روايات صنع الله إبراهيم رواية "اللجنة" التي نشرت عام 1981، وهي هجاء ساخر لسياسة الانفتاح التي أنتُهجت في عهد السادات. صوّر صنع الله إبراهيم أيضاً الحرب الأهلية اللبنانية في روايته "بيروت بيروت" الصادرة سنة 1984.


حصل صنع الله إبراهيم على جائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2004.



رواياته
  • اللجنة
  • نجمة أغسطس
  • بيروت بيروت
  • ذات
  • وردة
  • أمريكانلي
  • التلصص
  • العمامة والقبعة
  • الجليد
قصصه القصيرة
  • تلك الرائحة
بالإضافة إلى سيرته الذاتية مذكرات سجن الواحات.



==

صنع الله إبراهيم

المصدر : مدون شاعر البيداء

هل هناك من يجهله ، صفعة على وجه النظام الفاسد ، رواياته أشبه بدش ماء بارد في ليل الشتاء القارص يجعلك تنتبه منتفضا ، أو أشبه بطلقات موجهة في مقتل لنظام فاسد

أعمالهجديرة بالاحترام ومواقفه أشد احتراما ، موقف بطولي سجله باعتذاره عن قبول جائزالدولة قائلا : ببساطة أعتذرعن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك –في نظري- مصداقية منحها.

ورفض من قبل جائزة من الجامعة الأمريكية،أعماله قليلة ولكنها درر تضيء سماء الرواية العربية بدءا من اللجنة وانتهاءبأمريكانلي مرورا بشرف ، وذات وتلك الرائحة ، لروايته طعم خاص ومذاق تشتم منه رائحةصنع الله إبراهيم فورا حتى لو لم يكن اسمه موجودا على الكتاب ، تبهرك ثقافتهواطلاعه ومتابعته الذكية للأحداث ويبهرك أكثر أسلوبه الفني الرائع في السرد ومزجالأحداث السياسية بقالب روائي فني شيق ، لا يمكنك ان تمل وأنت تقرا له ولا يمكنك أنتبدأ في كتاب لصنع الله إبراهيم وتدعه من يدك قبل أن تكمل قراءته للنهاية : هذا هونص الكلمة التي ألقاها في ختام مؤتمر الرواية والمدينة .

الكلمة التي ألقاها الروائي صنع الله إبراهيم في ختام "مؤتمر الرواية والمدينة"

لست قادرا على مجاراة الدكتور جابر في قدرته على الارتجال ولهذا فقدسطرت بسرعة كلمة قصيرة أعبر فيها عن مشاعري. وصدقوني إذا قلت أني لم أتوقع أبدا هذاالتكريم. كما أني لم أسع يوما للحصول عليه. فهناك من هم أجدر مني به. بعضهم لم يعدبيننا، مثل غالب هلسا الأردني وعبد الحكيم قاسم المصري ومطيع دماج اليمني وعبدالعزيز مشري السعودي وهاني الراهب السوري… والبعض الآخر ما زال يمتعنا بإبداعه مثلالطاهر وطار وإدوارد الخراط وإبراهيم الكوني ومحمد البساطي وسحر خليفة وبهاء طاهرورضوى عاشور وحنا مينه وجمال غيطاني وأهداف سويف وإلياس خوري وإبراهيم أصلان وجميلعطية وخيري شلبي وفؤاد التكرلي وخيري الذهبي وكثيرينغيرهم.

لقد جرى اختياري من قبل أساتذة أجلاء ورواد للإبداع يمثلون الأمة التيأصبح حاضرها ومستقبلها في مهب الريح، وعلى رأسهم أستاذي محمود أمين العالم الذيزاملته في السجن وتعلمت على يديه وأيدي رفاقه قيم الوطنية الحقة والعدالةوالتقدم.

وهذا الاختيار يثبت أن العمل الجاد المثابر يجد التقدير المناسب دونماحاجة إلى علاقات عامة أو تنازلات مبدئية أو مداهنة للمؤسسة الرسمية التي حرصـتُدائما على الابتعاد عنها. على أن لهذا الاختيار قيمة أخرى هامة. فهو يمثل تقويمالنهج في الإبداع اشتبك دائما مع الهموم الآنية للفرد والوطن والأمة. إنه قدر الكاتبالعربي. فليس بوسعه أن يتجاهل ما يجري من حوله وأن يغض الطرف عن المهانة التي تتعرضلها الأمة من المحيط إلى الخليج، عن القهر والفساد، عن العربية الإسرائيليةوالاحتلال الأمريكي، والتواطؤ المزري للأنظمة والحكومات العربية في كل مايحدث.

في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى منالأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة ومنهجيةواضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره منأرضه.

لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بعد خطواتأخرى يحتل السفير الأمريكي حيا بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطنالذي كان عربيا. ولا يراودني شك في أن كل مصري هنا يدرك حجم الكارثة المحيقةبوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري الإسرائيلي الفعلي لحدودنا الشرقية ولاعلى الإملاءات الأمريكية وعلى العجز الذي يتبدى في سياسة حكومتنا الخارجية إنماتمتد إلى كل مناحي حياتنا. لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم… لدينافقط مهرجانات ومؤتمرات… وصندوق أكاذيب… لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدلتفشى الفساد والنهب ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب… انتزعت القِلةالمستغِلة منا الروح… الواقع مرعب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمضعينيه أو يصمت. لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤوليته. لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكرويشجب، فلم يعد هذا يجدي، لن أطالبكم بشيء. فأنتم أدرى مني بما يجبعمله.

كل ما أستطيع هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفونيباختياري للجائزة وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك –فينظري- مصداقية منحها وشكرا.
الإخوة الأعزاء من تابعالموضوع أشكركم على التفاعل

الصديق توت : ربما كان هذا سر تألقه وهو الرصدالذكي لأحوال المجتمع وصياغتها فنيا في قالب روائي لا يشعرك بالملل وليس كمقالاتالصحف مثلا

الأخ حسن ، مقال يوضح فعلا كيف يفكر هذا الرجل ويلقي الضوء على مصداقيته

الأخ الإحساس بالألم :صدقت يا صديقي ولعل ما يرفع من قيمته ورصيده لدىالمثقفين أنه ترك الجائزة لا استغناء عنها بماله بل هو أحوج إليها من غيره هل تعلمقيمة هذه الجائزة التي رفضها إنها تبلغ مائة ألف جنيه وهو ليس ثريا لهذه الدرجةكباقي الكتاب بل هو يقيم في شقة في الدور السابع في عمارة ليس بها مصعد ودخله محدودمن بعض المقالات في الصحف وبعض الترجمات وتمارس زوجته العمل للمساعدة فيالإنفاق.

والآن نعرض لبعض أعماله :

لصنع الله إبراهيم ثماني روايات منشورة أول تلك الروايات هي تلك الرائحةالتي كتبها عام 1966 بعد خروجه من المعتقل أيام جمال عبد الناصر تحكي تجربته فيالسجن وبعد خروجه وقد صودرت تلك الرواية ومنع نشرها ولم تنشر كاملة إلا عام 1986

وبوصفه مؤرخا كما قال توت فقد رصد الحرب الأهلية في لبنان في روايتهبيروت بيروت التي نشرها عام 1984

وله أيضا ذات واللجنة ونجمة أغسطس ومن أهمأعماله شرف ، وهذه سأتوقف عندها قليلا لأنني قرأتها أكثر من خمس مرات لم أملمنها

شرف تناقش سلبيات عصر الانفتاح وما جره على مصر من ويلات في عهد الساداتمن خلال شاب يدخل السجن ويرصد ببراعة ما يدور في السجون بكل تفصيلاته القبيح منهاوالحسن ويقول هو معبرا عن رصد القبح في رواياته : (ألا يتطلب الأمر قليلا من القبح للتعبيرعن القبحالمتمثل فيسلوك فزيولوجي من قبيل ضرب شخص أعزل حتي الموت ووضع منفاخ في شرجه، وسلككهربائي فيفتحته التناسلية؟ وكل ذلك لأنه عبٌرعن رأي مخالف أو دافع عن حريته أوهويته الوطنية؟ولماذا يتعين علينا عندما نكتب ألا نتحدث إلا عن جمال الزهور وروعةعبقها، بينماالخراء يملأالشوارع ومياه الصرف الملوثة تغطي الأرض، والجميعيشمٌون لرائحةالنتنة ويتشكون منها؟) وقد تساءلت وقتها عندما قرأتها للمرةالأولى كيف له أن يلم بهذه التفاصيل الدقيقة عن عالم السجون وتوقعت أنه لا ريب دخلالسجن ثم دفعني إعجابي به للقراءة عنه وعرفت أنه دخل السجن مع سائر المثقفين فيالسابعة والعشرين من عمره وظل في السجن خمس سنوات ، ومن خلال وجوده في السجن يرصدلتفاعل المساجين مع بعضهم من إخوان ومعتقلين سياسيين وتجار مخدرات وأصحاب الأموالالباهظة الذين حولوا السجن إلى فندق خاص بهم ، ويقرر المساجين عمل مسرحية يقومبكتابتها لهم دكتور معتقل سياسي معهم في السجن تمثل عهد السادات وهو أجمل جزء فيالرواية مشهد محاكمة السادات عن جرائمه.






قديم 11-09-2011, 12:15 PM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صنع الله إبراهيم


كاتب روائي وقصة قصيرة ومسرحي


٣ أيار (مايو) ٢٠٠٥





تمثل سيرة صنع الله إبراهيم بصورة نموذجية إلي حدٌ ما، حياة عدد كبير من المثقفين العرب الذين ينتمون إلي ما يدعي جيل الستينيات، كما كان يسمي آنذاك الكتاب الصاعدون جيل ما بعد نجيب محفوظ . فقد بدؤوا في أعوام الستينيات يكتبون وينشرون، وقد سيٌسوا جميعا بشدٌة من خلال تنشئتهم في شبابهم.


ولد صنع الله إبراهيم في القاهرة سنة 1937، أي في زمن كانت فيه مصر مستقلة من الناحية النظرية، ولكن القوات البريطانية ظلت تحتل منطقة قناة السويس طوال عشرين سنة أخرى


لقد عايش كشابٌ وككثير من أبناء جيله¬ مرحلة النهضة التي أعقبت الاستعمار وآمال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عميقة. في تلك السنوات بدأ صنع الله إبراهيم دراسة الحقوق، ولكنه ما لبث أن انصرف إلي الصحافة والسياسة.


لقد كانت تلك السنوات سنوات القومية العربية وسياسة الاشتراكية العربية، ولكن الحكومة كانت لا تسمح بتوجيه أي نقد إليها. وبسبب عضويته في حزب شيوعي منشقٌ سجن صنع الله إبراهيم عدٌة مرات لفترة قصيرة، إلي أن سجن خمس سنوات ونصف السنة، من 1959 إلي 1964، وذلك في سياق حملة شنٌها جمال عبد الناصر ضدٌ الشيوعيين والماركسيين .


وإلى فترة الاعتقال هذه ترجع الصداقة التي نشأت بين صنع الله إبراهيم وبين الكتاب كمال القلش و رؤوف مسعد وعبد الحكيم قاسم، وكذلك مع الصديق شهدي عطية الشافعي الذي مات تحت التعذيب.


وبعد تسريحه من السجن اشتغل صنع الله إبراهيم في البداية صحفيا لدي وكالة الأنباء المصرية (مينا) عام 1967، وفي برلين الشرقية لدي وكالة الأنباء الألمانية (أ.د.ن) التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقا من 1968 إلي 1971. وتلت ذلك إقامة في موسكو لمدٌة ثلاث سنوات، اشتغل خلالها على فنٌ الفيلم، وذلك ضمن دراسة علم التصوير السينمائي، ليحزم أمره بوضوح لصالح الكلمة المكتوبة. وبعد عودته عام 1974 إلي القاهرة في عهد السادات، عمل صنع الله إبراهيم لدي دار نشر، قبل أن يتخذ في عام 1975 قراره بأن ينذر نفسه للكتابة بصفته كاتبا حرٌا.


نشر صنع الله إبراهيم حتي اليوم ثماني روايات هامٌة، وقصصا قصيرة، والعديد من الروايات البيئية الموجهة إلي الشبيبة كشكل من أشكال توصيل المعرفة، وعدٌة رسومات قصصية ملتزمة. وفي مقالته الذكية المنشورة ضمن الكتاب المصوٌر القاهرة من الحافة إلي الحافة (1999) برهن صنع الله إبراهيم بطريقة أخري علي قدراته كمحلل مستفزٌ وثاقب النظر للأوضاع السياسية والاجتماعية، مثلا عندما أثبت أن الرجل العربي هو في الحقيقة من يرتدي الحجاب، وأنه غير قادر علي أن يتكيف مع خسارة موقعه المهيمن، ومع التحول الاجتماعي السريع. إن هذا الكتاب، الذي يربط فيه صنع الله إبراهيم طوبوغرافيته الشخصية بالجوانب العامة لتاريخ المدينة، هو إعلان حبٌ مرير لمدينته القاهرة.


ومع أنٌ الأعوام التي قضاها في السجن، وهو في الثانية والعشرين إلى السابعة والعشرين من العمر، ومارافقها من تعذيب وأشغال شاقة، قد شكٌلت تجربة تراوماتية بالنسبة إليه، فإن صنع الله إبراهيم نجح في أن ينظر إلي ذلك الزمن نظرة إيجابية، وقد وصفه ذات مرٌة ب جامعته:


من نزلاء السجن الآخرين، كالكاتب المصري المعروف محمود أمين العالم، ورفقاء آخرين، تعلمت المعني الحقيقي للعدالة والتقدٌم وحبٌ بلادي. وفي المعتقل اتخذ صنع الله إبراهيم قرارا بأن يصبح كاتبا. إن روايته الأولي تلك الرائحة الصادرة عام 1966، والتي تعالج تجربة الاعتقال والأيام الأولي التي أعقبته، قد وضعت معايير لمجمل أعمال صنع الله إبراهيم اللاحقة


من أعماله


تلك الرائحة عام 1966 روايته الأولى التي نشرت غير كاملة التي تصف تجربته في السجن والفترة بعد خروجه مباشرة حددت اتجاه نشاطه الأدبي الكامل بعد ذلك. تم مصادرة رواية " تلك الرائحة " من سنة 1966 حتى 1986 حيث تم نشرها لأول مرة بكامل نصوصها الأصلية.
إنسان السد العالي ـ القاهرة عام 1967 بالاشتراك مع كمال القلشة ورؤوف مسعد
حدود حرية التعبير ـ دراسة عام 1973


رواية نجمة أغسطس عام 1974


الدلفين يأتي عند الغروب ـ رواية عام 1983
رواية اللجنة عام 1981
رواية " يوم عادت المملكة القديمة " عام 1982 وقد نالت جائزة أحسن رواية لعام 1982 من المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم .
اليرقات في دائرة مستمرة عام 1982
عندما جلست العنكبوت تنتظر ـ عام 1982
زعنفة الظهر يقابل الفك المفترس ـ عام 1982
الحياة والموت في بحر ملون ـ عام 1983
رواية ذات عام 1992 في القاهرة
رواية بيروت الصادرة عام 1984
كمؤرخ لزمنه طرح صنع الله إبراهيم موضوع الحرب الأهلية في لبنان
رواية شرف الصادرة سنة 1997.
رواية وردة الصادرة عام 2000 وفيها يعالج تجربة جبهة التحرير في سلطنة عُمان أوئل السبعينات
رواية أمريكانلي الصادرة عام 2003
أحدث رواياته هي "أمريكانلي"(2003) التي يمكن أن تقرأ " أمري كان لي"وتسجل تجربة أستاذ تاريخ مصري في جامعة أمريكية وتعرض لتاريخ كل من البلدين.

==

كيف إذن كان السجن عنصر بناء في أعمالك الروائية وكيف استطعت ان تجعله كذلك؟

ـ أنا كنت سجينا سياسيا وهناك فرق بين السجين السياسي وغيره من السجناء، ونحن لدينا تراث في التعامل مع السجن ولم ندعه ينتصر علينا، لذا كنا نقرأ ونكتب وندرس ونتفهم ونستمع إلى زملائنا من الكتاب الكبار الذين سجنوا معنا. اضف الى ذلك شيئا آخر مهما وهو شخصية السجين الذي قد يكون مبدعا مثلي، فانه في هذه الحالة يحول هذا السجن والقيد الى عنصر مهم في ابداعه، وأنا مدين لفترة السجن بالتعرف على عوالم عديدة وثرية وشخصيات مهمة ووفية، مررت بتجارب حادة جدا ساعدتني كثيرا في الكتابة الابداعية. نحن موجودون في سجن كبير ومهم ان نأخذ من السجن الصغير وسائل مقاومة حقيقية وفاعلة للتغلب على السجن الكبير ورفضنا للسجن الصغير لا بد أن يكون امتدادا له رفضنا للسجن الكبير.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 23 ( الأعضاء 0 والزوار 23)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 02:41 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.