قديم 04-03-2016, 01:07 PM
المشاركة 61
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة
:


اما المرأة الثالثة من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة، وعوضنني قليلا عن حنان الام المفقودة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشنها فكانت خالتي فاطمة، وهي الأقرب الي من ناحية الام، وهي الأخت الشقيقة الوحيدة لأمي، والدليل المادي الوحيد على انني اتيت من رحم امرأة، ولم أكن مقطوعا من شجرة، وهي المصدر الوحيد الذي شكل لدي تصورا عن صورة امي وما كانت عليه من حيث الشكل، لأنني لم اشاهدها ولم اشاهد لها حتى صورة، فقد ماتت امي ولم تترك واحدة، فكانت هيئة خالتي فاطمة اقرب شيء الي صورة امي في نظري، رغم انهم كانوا يؤكدون لي بأن خالتي فاطمة لم تكن تشبهها بشيء من ناحية الشكل..

وكانت هذه الخالة الأكثر حنانا، والاقرب الي نفسي، وكأنها الام البديلة بحق، لكنها كانت غارقة في مشاكلها حتى الثمالة وأحيانا كانت تبدو وكأنها في عالم آخر...

واذكر ان من بين اول الصور التي انطبعت في ذاكرتي عندما بدأت اعي ما يدور حولي في طفولتي المبكرة كانت صورة مؤلمة من احدى صور المعاناة الشديدة التي اختبرتها خالتي فاطمة هذه، والتي اظن ان حياتها التي عرفتها فيها كانت بمثابة صفحات من الألم المتواصل، ولا يبدو ان حياتها التي عاشتها قبلي كانت اقل الما، سواء كان ذلك في طفولتها المبكرة حيث أصبحت يتيمة الام في وقت مبكر ثم في حياتها زوجها الأول التي يبدو انها كانت اقرب الى شقاء مستديم يغيب عنه البسمة والامل كونها حياة ظلت خالية من الأطفال، لان زواجهما لم يكن مثمرا، وربما ظن زوجها انها كانت عاقرا، ففي تلك الأيام كانت المرأة تتحمل المسؤولية عن عدم القدرة على الانجاب حتى لو كان العيب في الرجل، كما اتضح لاحقا بفضل الاكتشافات الطبية والتي شطبت كثير من الاساطير، ومنها اسطورة مسؤولية المرأة عن انجاب البنات ليتبين لاحقا بأن المسؤول هو الحيوانات المنوية للرجل، وان المرأة بريئة من تلك التهمة التي الحقت بالنساء العار على مدى أجيال واجيال عديدة وكانت تتسبب لهن بكثير من الألم والمعاناة، كما تبين بأن أسباب العقم عند الرجال لا تقل في عددها عن تلك التي عند المرأة، لكن المرأة كانت تتحمل المسؤولية في كل الأحوال، وغالبا ما كانت تدفع هي ثما غاليا قد ينتهي بزواج ثاني وثالث ورابع، وقد ينتهي بانفصال وطلاق بائن في ظل محاولة الذكر المستميتة انجاب ذرية تحمل اسمه من بعده ...

لقد كان ذلك الحدث المؤلم هو حدث طلاقها من زوجها الأول حسن الذهيبة، وهو واحد من أبكر الاحداث المؤلمة التي سجلتها ذاكرتي على الاطلاق، وأول موقف اذكر فيه خالتي فاطمة، فلا اذكر مثلا انني زرتها في بيت طليقها الأول ابدا، وكأن الم طلاقها أيقظ الوعي لدي، فكانت تلك اللحظات شديدة الألم من اول الاحداث المسجلة في ذاكرتي وصندوقي الاسود...

وما أزال اذكر حينما عادت الي بيت جدي صالح، وهي طليقة طلقة بائنة، وقد احضروا لها صندوقها البني والذي كان يعد جهاز المرأة في ذلك الزمن، وبديل عن الخزائن الحديثة التي كانت تضع المرأة فيه اشيائها الخاصة...والدموع والتعاسة والحزن كانت تلفها وتلف من حولها على ما الت اليه حالها...
عادت خالتي فاطمة طليقة بعد ان افنت زهرة شبابها في خدمة ذلك الرجل الجاحد، لأنها لم تنجب فتزوج غيرها لعله ينجب من الثانية، وكانت هذه الثانية فتاة أصغر سنا، واسمها ذيبة وهي ابنة ذيب القره زوج عمتي نوفه من زوجته الأولى، ويبدو ان عيشة خالتي فاطمة عنده أصبحت لا تطاق مع قدوم ضرة مرشحة للإنجاب، ولكن حسن الذهيبة هذا مات بعد ذلك بسنوات، ولم ينجب ذرية تذكر، وما تزال زوجته الثانية تسكن في بيته القديم وحيدة كشجرة في صحراء قاحلة...

وكانت حياة خالتي فاطمة في بيت جدي صالح بعد الطلاق الأول صعبة، وقاسية، واظنها كانت قد تعرضت لصدمة عصبية طاحنة، نتيجة لما حصل لها من جفاء وجحود، وحزنا على شبابها المفقود الذي افنته في خدمة ذلك الرجل، وبسبب غياب الولد، وهول صدمة الطلاق مما استدعى تدخلا طبيا لتهدئة اعصابها وإعادة الاتزان لها...

ولم تمر سوى سنوات قليلة بعد حادثة طلاقها الأول حتى أصيب جدي صالح بجلطة دماغية اقعدته لعدة أشهر، وما لبث ان فارق الحياة لتبقى خالتي فاطمة، انيسة ارملة جدي الثانية آمنة السالم، تسكن معها، وتواسي بعضهما البعض على ما آلت اليه حالهما، خاصة بعد ان تزوج كافة أبناء وبنات زوجة جدي الثانية آمنة السالم، وبقيت هي وخالتي فاطمة في بيت جدي يعشن في دائرة من الألم بانتظار الموت ليس أكثر والذي كنت اسمع زوجة جدي ترحب بقدومه باستمرار...

لكن الامل ابتسم فجأة من جديد لخالتي فاطمة بعد ذلك بسنوات قليلة ولو على استحياء، حيث تقدم للزواج منها اخ زوجة ابيها آمنة السالم، واسمه الحاج احمد السالم، وكان عجوزا مسنا بل كان أصغر أبناؤه أكبر منها سنا، وقد أراد من زواجه منها امرأة تخدمه وتغسل ملابسه، لعله يمضي شيخوخة صالحه كما قالوا، لا يحتاج فيها الى زوجة ابنه، ولا خدمة بناته ولا أحد غيرها...وظني ان ذلك الزواج قد رتب على عجل بسبب العلاقة العائلية المتشابكة والتي سهلت الأمور وجعلته واقعا ملموسا، فكان زواج خالتي فاطمة الثاني والذي انتقلت على أثره الي بيت زوجها الثاني العجوز احمد السالم...

لكن هذا الزواج الثاني لم يدم طويلا ولو انه اثمر زيارة الى بيت الله الحرام في رحلة حج بصحبة زوجها الثاني وما لبثت الأمور ان تفاقمت فحصل الطلاق الثاني لتعود خالتي فاطمة من جديد الي بيت ابيها وهي مكسورة الخاطر من جديد...وعلى الرغم انني لا اعرف على وجه التأكيد سر هذا الطلاق الثاني لكنه اشيع حينها بأن الحاج احمد السالم أراد الذهاب الى الحج من جديد بعد ذلك بعام او عامين على ابعد حد فطلقها بطلب من ورثته، وكي لا ترث من رزقه شيئا إذا مات في الحج خاصة انه عند سفره للحج في تلك المرة كان أقرب الي الموت منه الي الحياة...فعادت خالتي فاطمة طليقة للمرة الثانية لتكمل ما تبقى لها من سنوات عمرها المريرة الى جوار زوجة ابيها اخت طليقها الثاني آمنة السالم، والتي ما لبثت ان ماتت لتبقى خالتي وحيدة في منزل جدي لسنوات أخرى قليلة اضافية...

كانت حياة خالتي فاطمة سفر من اسفار الألم، والتعاسة، والشقاء، لكنها كانت بالنسبة لي ام بديلة، ونبع حنان متدفق تحسه وتلمسه وتراه في كل شيء يصدر عنها، على الرغم من ظروفها الصعبة، والتي ما كان لجبل قاسيون ان يحتملها...

حتى انني كنت أحس بحاجتها الي وانا طفل صغير أكثر من حاجتي اليها...واذكر انها حاولت في وقت لاحق وهي على ما يبدو تستشعر دنو اجلها ان تمنحني خاتم ذهب هدية منها لي تعبيرا عن مدى حبها، وقد كنت في حينها ما ازل طالبا في الجامعة، لكنني رفضت بشدة اخذ هدية منها على أساس انها هي الاشد حاجة اليه والى غيره من الدعم والمساندة...وطلبت منها ان تبيعه إذا احتاجت المال لتقتات بثمنه بدلا من ذلك...

سنوات قليلة لاحقة مضت بعد ذلك انقطعت فيها عن الاتصال والتواصل معها وانا في بلاد الغربة لتموت خالتي فاطمة وحيدة وهي في منزل جدي...ورغم حزني وألمي على موت أقرب الناس لي من ناحية الام سرني انني لم أكن مضطرا لحضور دفنتها، فما كنت لاحتمل رؤيتها وهي تدفن، وقد فارقت الحياة، وسكنت سكنة الموت الابدي الذي كنت اخشاه واتجنبه في كل موقف، حتى انني لم اشاهد بشريا ميتا الا بعد ان تجاوزت الأربعين من العمر، وكان اول انسان ميت اقترب منه مضطرا وانظر الي وجهه وقد فاضت روحه الي بارئها اخي الكبير حمد والذي رافقت لحظات انهياره في المستشفى لحظة بلحظة ولما يزيد على أربعة اشهر اثر اصابته بانفجار دامي في البنكرياس مات على اثره شيئا فشيئا حتى فاضت روحه على اثر ذلك وبعد ان ضاق جسده بروحه الوثابة... فاسلم الروح كارها ولم يكن بد عندها من مواجهة الموت وجها لوجه في تلك اللحظة المريرة الصعبة التي زلزلت كياني...

ماتت خالتي فاطمة وانقطع أثرها في هذه الدنيا...ولا اعرف كيف كانت عليه حالها قبل موتها تفصيلا، لكنني سمعت بأنها كانت قد اشتكت من التهاب حاد في أحد اصابعها من شوكة صبر كانت قد دخلت فيه وتسببت في التهاب حاد تطلب على ما يبدو علاجا او تدخلا جراحيا... فاستشارت من حولها فأشار عليها بعضهم ان تضع يدها في فم جمل او ان تغرق اصابعها في لعاب جمل...لكن انى لها ذلك ونحن نتحدث عن ثمانينيات القرن الماضي حيث لم يكن يوجد جمل لا في القرية او حتى المناطق المجاورة...ويبدو انها استشارت أيضا جارهم الطبيب الشعبي المعروف أبو هارون فأخبرها بانها إذا لم تعالج الالتهاب فسوف تصاب بالغرغرينة ويضطروا لقطع اصبعها، وربما أراد ان يدفعها دفعا لمراجعة الأطباء، وقد انتشر الطب في ذلك العهد على نطاق واسع...لكنها خافت مما الت اليه حالها وحال يدها، وهالها ما سمعته من جارها الخبير الشعبي...ويقال ان ذلك تسبب في ارتفاع مفاجئ في ضغط دمها، اصيبت على اثره بجلطة دماغية فنقلت الى المستشفى لكنها ما لبثت ان فارقت الحياة ...تلك الحياة المريرة التي كان الموت ربما اهون حدث فيها...

يتبع،،

قديم 04-05-2016, 02:54 PM
المشاركة 62
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

اما المرأة الرابعة التي كنت استشعر بكثير من الانس والأمان بقربها في طفولتي المبكرة، وكانت مصدرا آخر من مصادر الحنان والسعادة، فقد كانت زوجة جدي صالح الثانية، آمنة السالم، حيث كان جدي قد تزوج بها بعد وفاة زوجته الأولى جدتي حليمة، التي انجبت امي زينب وخالتي فاطمة فقط قبل ان تتوفى، فكانت آمنة السالم الزوجة الثانية لجدي صالح، وهي التي انجبت ثلاثة خالات هن حلوة زوجة ابي الثانية بعد وفاة امي، وعائشة، ولمياء، وأربعة اخوال وهم احمد، ومحمود، ومحمد، ويوسف آخر العنقود وهو يكبرني بعام واحد فكانوا اخوة واخوات غير اشقاء لأمي وخالتي فاطمة...

واذكر ان اول معرفتي وصلتي بالحجة آمنة السالم جاءت بعد وفاة جدي صالح، حيث بقيت هي وخالتي فاطمة في منزل جدي الذي كنت استمتع بزيارته وكثيرا ما اتردد عليه، فقد كان بيتا جميلا حديث البناء مقارنة بما حوله من مباني، وتحيط به حديقة شاسعة مزروعة بأشجار المشمش من الأصناف الحموي بألوانه الأبيض الشفاف والاحمر ومذاقه الحلو اللذيذ، والبلدي بلونه الأصفر ومذاقه اللاذع المائل الى الحموضة، واشجار الرمان، واللوز، والبرتقال، وكان فيها شجرة خروب ضخمة يحلو للإنسان ان يمضي جل وقته في ظلها، وشجرة كينيا شاهقة الارتفاع وظليلة، والي جوارها أشجار تين من الصنف المعروف بالخرتماني لذيذ الطعم...

وكانت الحاجة آمنة تعيش حياة غاية في البساطة، وتمضي وقتها في الصلاة، والذكر والتسبيح، وانتظار الموت، بعد ان كبر أبناؤها وتزوجوا جميعا وترملت هي وبقيت وحيدة لولا وجود خالتي فاطمة التي عادت لمنزل والدها بعد طلاقها الاول...

واذكر انني كنت قريب منها جدا واعاملها على انها جدتي وليست مجرد زوجة جدي، وكنت كثيرا ما امازحها فأقول لها انها شاخت وربما انها خائفة من الموت فترد بالقول "يا مرحبا بالموت" مؤكدة بانها ترحب فيه ولا تخشاه ابدا...

وقد أسعدها جدا ان سافرت في وقت لاحق الى الكويت حيث لبت برفقة أبنها الأصغر خالي يوسف النداء، فحجت الي بيت الله الحرام لتزداد نفسها راحة واطمئنانا تجلى في أسلوب حياتها البسيط واستعدادها لمقابلة الموت وهي مطمئنة النفس راضية...

ولم يطل بها المقام كثيرا بعد ذلك فقد توفيت بعد ان عادت لتستقر في القرية ولسانها لا يكاد ينطق الا بالذكر والتسبيح وتمضي جل وقتها في الصلاة والصيام ولا اذكر انني رأيتها غاضبة ابدا رغم انني كنت كثيرا ما كنت استفزها بقطف الثمار خاصة ثمرة شجرة المشمش الحموي الكائنة امام المنزل مباشرة وعند حمرة البئر ...

ولا أنسى ابدا تلك الساعات الجميلة التي كنت امضيها في منزل جدي وهو عامر بوجودها، ولا أنسي ابدا ذلك الشعور الدافئ الذي كنت احسه في ظلها، فكان موتها بالنسبة لي خسارة فادحة لا تعوض خاصة انها الوحيدة من بين الأجداد التي ظلت حية حتى أصبحت اعي ما يدور حولي ...


يتبع،،

قديم 04-07-2016, 01:53 PM
المشاركة 63
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:
ومن النساء الاخريات اللواتي غمرنني بعطفهن وحبهن وعوضنني ولو بالقليل من الحب المفقود بفقد الام كانت خالتي عائشة، وهي اخت لامي غير شقيقة، واخت شقيقة لخالتي حلوة زوجة ابي الثانية، وكانت خالتي عائشة متزوجة من يوسف الرضا من عائلة شقور، وهو رجل كما عرفته لاحقا طيب الى ابعد الحدود، كريم، ومضياف، مقل في الحديث، لا يكاد يتحدث الا إذا سؤل فيأتي جوابه مختصرا ومصحوبا بابتسامة وعلى استحياء، وقد ظل على طبعه الكريم الودود المضياف حتى شاخ...

ويبدو ان خالتي عائشة كانت قد تزوجت قبل وفاة امي فلديها ابنتان أكبر مني سنا واحدة اسمها رحاب وهي أكبر بناتها ورائدة وهي الثانية في الترتيب، وظني ان هذا هو السبب الذي جعل جدي يدفع بخالتي حلوة لتكون الزوجة الثانية لابي بعد وفاة امي وليس هذه الخالة...

واتصور ان خالتي عائشة كانت الأقل تعاسة من بين النساء اللواتي عرفتهن في طفولتي المبكرة فقد كانت تعيش حياة هانئة لولا غياب زوجها شبه الدائم للعمل في الكويت، وكانت تعيش في بحبوحة مالية لان زوجها كان قد سافر الي الكويت مبكرا، وربما في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وكانت تسكن في منزل واسع، جميل مبني على الطراز الحديث من الاسمنت والحجارة، وتلفه من كافة الجوانب حديقة واسعة مزروعة بأشجار مثمرة من كل الأصناف...

ثم انجبت أبنا ذكرا أسمته رضا على اسم جده رضا الشقور، وكان أصغر مني ببضعة أشهر، وهو قريب الشبه بي، وله مثلي شعر أشقر، ووجه مستدير، وهو بشوش يبدو مرحا سعيدا في كل الأحوال...

وربما ان وجوده وغياب الزوج في الكويت بشكل شبه دائم كان سببا في كثرة ترددي على منزلها، خاصة انني لطالما وجدتها امرأة مدهشة، تفكر بصورة عبقرية، وتجد عندها حل لكل مشكلة، وظني انه كان يمكن ان تكون مخترعة، لو سنحت لها فرصة التعليم، وتوفرت لها الوسائل اللازمة للاختراع، فلطالما اخترعت أشياء بسيطة كنت الاحظها حولها حيث كانت تستخدمها في بيتها المحيطة، او اقترحت حلول لمشاكل لا تخطر على بال....

وكانت تفكر بطريقة استراتيجية عجيبة، وتناقش في السياسة، والاقتصاد رغم انها امية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت تتخذ مواقف سياسية حازمة، فكانت مثلا من اشد أنصار الرئيس العراقي صدام حسين، في فترة الحرب العراقية الإيرانية...

واذكر من المواقف الصعبة التي ربطتني بها وبابنها رضا في طفولتي المبكرة وانحفرت في ذاكرتي، وربما كان عمري عندها خمس سنوات لا أكثر، وكان ذلك الموقف حادثة مروعة، حصلت لابنها رضا، حيث كانت في زيارة لنا في أحد المرات، وكان برفقتها ابنها رضا، واذكر يومها اننا كنا وبرفقة والدي وخالتي حلوة في ارض لنا قريبة اسمها جنانة الرما، وهي ارض كانت مزروعة بأشجار المشمش، واللوز، والاجاص، والتين، والكرمة، واتصور ان الموسم كان ربيعيا فقد احضر والدي يومها الي تلك الأرض البقرات لتأكل من حشاش الارض...

وكنت انا ورضا نلعب سويا وتلفنا سعادة غامرة...وكنا في لحظة معينة نقطف ثمار اللوز من شجرة لوز تقع على جانب ارض أبو الراضي المنخفضة مسافة لا تقل عن ثلاثة أمتار في الموقع الذي كنا فيه، وتفصل ارضنا عن ارضه سلسلة من الحجارة أقيمت على صخرة صلبة، وكان اي سقوط من ذلك الارتفاع يشكل خطرا حتميا وربما مميتا...

وكان في تلك الاثناء عجل لنا يرعى على مقربة منا، ولم نكن نستشعر منه خطرا، فلم نألفه شرسا، عدوانيا او انه يمكن ان يقوم بحركات مفاجئة ومؤذية... وكان ذلك العجل صغيرا في السن لكنه ضخم البنيان، وهو حتما ابن احدى الابقار الاليفة التي كان يملكها والدي...ولكن في لحظة ما اقترب ذلك العجل من ابن خالتي رضا، ولا اعرف إذا كان رضا قد استفزه بحركة منه ام لا؟ لكن ما كان من ذلك العجل الا ان نطحه برأسه، ودفعه بقوة شديدة، جعلته يطير من على فوق الأرض، ويسقط في الأرض المنخفضة المجاورة كل تلك المسافة الخطرة...

وطبعا قامت الدنيا ولم تقعد على إثر ذلك السقوط المروع، وخوفا على رضا، وما يمكن ان يكون قد أصابه...لكنه قام من وقعته المروعة تلك دون أي كسر او خدش ولم يبق من تلك الحادثة الان الا الخوف الذي انحفر في ذاكرته، وذاكرة كل من تواجد في تلك اللحظة هناك، إضافة الي ذكرى الواقعة المروعة التي ما نلبث ان نسترجعها وتحدث عنها بين فينة وأخرى عندما نلتقي...

وظلت هذه الخالة عائشة مصدرا من السعادة والهناء والعطف والحنان، واستمرت حياتها سعيدة هنية لا ينغصها شيء ربما سوى غياب زوجها في بلاد الغربة، وكانت قد انجبت طفلا آخر اسمته رضوان هذه المرة، وظل الحال على ذلك حتى أصبحت انا في الثالثة عشرة من عمري، حينما وقع زلزال العام 1967 والذي وضع حدا لتلك الحياة السعيدة التي كانت تنعم بها خالتي، حيث جرفت أمواج التسونامي الهائلة التي تسبب بها ذلك الزلزال عالمها الجميل وحياتها الهانئة، لينقطع فجأة ذلك المصدر من مصادر السعادة والحنين بالنسبة لي ومن دون مقدمات، وذلك حينما اتخذت خالتي عائشة قرارا عاطفيا، وانفعاليا، متسرعا، وعلى غير عادتها، اذكر ان والدي لم يقرها ولم يوافقها عليه، حينما استشارته في امره، محذرا إياها من عواقبه الوخيمة، وبأن موت الانسان في ارضه اهون عليه من اللجوء وعواقبه...لكنها ضربت برأيه عرض الحائط، وقررت الهجرة مع من هاجر من فلسطين على إثر ذلك الزلزال الهائل في رحلة لجوء الي الأردن اثبت الزمن صحة رأي والدي فيها...فقد كانت سنوات ما تلا الزلزال سنوات عجاف عانت فيها خالتي وعائلتها اشد المعاناة في ارض اللجوء والتشرد...وتحولت حياتها الهنية الي جحيم لا يكاد يطاق...

وكان مبررها انها ارادت اللحاق بزوجها في الكويت، ولكن زوجها عجز عن استخراج اذونات الدخول لها الي الكويت ربما بسبب الاحداث المتفاقمة، فما كان منه الا ان ترك عمله هناك، وانضم اليها في الأردن، حيث قاما على شراء ارض صغيرة في منطقة عوجان القريبة من مدينة الزرقاء، وأقاما عليها منزلا صغيرا متواضعا بما لديهم من مدخرات، والتي ما لبثت ان طارت جميعها ليعشوا بعد ذلك سنوات طويلة من الحرمان والالم بسبب الفقر، والعوز، وغياب الدخل، فقد تبع ذلك الزلزال موجات تسونامي هائلة اثرت على كافة مناحي الحياة في الشرق الأوسط ككل لكن الضرر الأكبر أصاب من هاجر وترك ارضه لتنقطع مصادر رزقه ويعاني الامرين في سبيل تحصيل لقمة العيش...

وفي تلك الاثناء ما لبثت خالتي ان وضعت طفلا جديدا ذكرا بعد أيام من رحلة لجوئها الى الأردن، وفي ظروف غاية في الصعوبة، أسمته فرج لعل الله كما كانت تقول يفرج عليهم الهم، والكرب الذي الم بهم على أثر اللجوء، ويعيدهم الى جنتها في ارض فلسطين...لكن الفرج طال انتظاره لتعيش هي وعائلتها سنوات طويلة من العذاب والحرمان...

وعدت انا لألتقيها من جديد بعد ذلك بسنوات، في منزلها هناك في جبل عوجان، الذي تحول الي مخيم جديد جل سكانه ممن هاجر على إثر ذلك الزلزال، مخيم غابت عنه المساعدات الاغاثية المعهودة...
وكانت تلك زيارات عابرة بعد ان انتهيت من دراستي الثانوية... فوجدتها ما تزال تعيش حالة البؤس والفقر الشديد...لكنها كانت هي وزوجها مضيافة، كريمة، حنونة كما عهدتها، بل هي نبع من الحنان...فتحت هي وزوجها لكل عابر سبيل من الأقارب أبواب بيتهم الصغير على مصارعه للإقامة فيه لحين انقضاء الحاجة، مثل المرور من والى الكويت او انجاز المعاملات التي كانت تتطلب البقاء في الأردن بضعة أيام...

وكانت هي بعبقرتيها المعهودة قد سعت الى تدبير شؤون الاسرة، فلم تستسلم لليأس والاحباط ابدا على الرغم من واقعها المرير وفقدانها لفردوسها منزلها الجميل في فلسطين... ودفعت بأبنائها الي بيع الترمس، والبليلة، الذي كانت تصنعه بنفسها، وقامت على تشجيع زوجها بفتح دكان صغير لبيع المواد التموينية، رغم غياب الجدوى، لان الظروف كانت صعبة على الجميع في تلك المنطقة السكنية التي أقيمت على عجل، بحيث غابت القوة الشرائية وظل الناس يعانون من غياب العمل وسطوة الفقر لسنوات طويلة لاحقة...

لكن خالتي تمكنت من تجاوز المحنة بصبرها وعقلها المدبر العجيب ورغم الألم نجحت في تحسين ظروفها عائلته المعيشية وحرصت على تعليم ابناءها وظل على ذلك الحال تكافح من اجل البقاء الي ان تبدلت الأحوال وانهي رضا دراسة في كلية المعلمين، وبدأ العمل موظفا في البنك العربي فرع الرصيفة، بينما تحسنت ظروف العائلة أكثر فأكثر عندما سافر ابنها الاخر رضوان الى أمريكا، والتحق الأصغر سنا في الجيش فعادت الحياة تبتسم لهم من جديد، لكن الم فقدان الوطن وفردوسها الجميل ظل ينغص عليها حياتها وكثيرا ما كانت تحاول ان تصنع بيئة كمثل تلك التي فقدتها في فلسطين، فزرعت أشجار تين، وعنب، ولوز، وشجرة كينايا، لكن حلمها بالعودة الي فلسطين ظل شغلها الشاغل وحلمها الذي ظل يراودها الي ان تحقق ذلك عن طريق تصريح زيارة بعد سنوات طويلة من الغربة والالم، تعادلت الحياة فيها مع الموت، وربما كان الموت فيها ارحم...

وحكاية خالتي عائشة هذه ربما تستحق ان افرد لها رواية كاملة بذاتها فهي حكاية شديدة الدرامية...حكاية امرأة عقلانية كانت تعيش في هناء وسعادة لتتخذ في موقف ضعف انساني قرارا انفعاليا خاطئا دفعت هي وعائلتها ثما غاليا له، فقد انهارت حياتها الجميلة المستقرة على أثر ذلك القرار الانفعالي، وكان نتيجته خروجها من فلسطين، جنة الله على الأرض، اشبه بخروج ستنا حواء من الجنة، وكانت الغربة اشد عليها وعلى عائلتها من نار جهنم لكن خالتي كانت تلاحق زوجها ولا ترافقه في ذلك الخروج ...وفي الغربة عاشت سنوات طويلة من الحرمان والفقر والتعاسة، واتخذت بيتا في مكان قريب من سيل الزرقاء المطل على بساتين غناء من المشمش والفاكهة الأخرى لعله يعوضها عن بعض الذي فقدته وهي عاشقة الارض والاشجار والازهار، لكن هذا السيل ما لبث ان جف واصبح مجرى للمياه العادمة الملوثة بمخرجات المصانع، لتموت الأشجار التي كانت تحف السيل جميعها ولم يبق لها اثر، وصار المكان اقرب الي الصحراء القاحلة، وملوثا على الأرض بالمياه العادمة وفي السماء بالغازات والاتربة المنبعثة من مناجم الفوسفات القريبة...

لكن الحياة اشرقت من جديد وتحقق حلم العودة ولو انه كان ناقصا، اعرجا، ومتاخرا بعد ان كانت عجلة الزمن قد دارت وطحنت تحت اسنانها سنوات عديدة... فلم يعد الاهتمام ينصب على العيش في فردوسها الجميل المفقود وانما اصبحت الغاية تجنب الدفن في بلاد الغربة...


يتبع،،،

قديم 04-10-2016, 12:27 PM
المشاركة 64
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

كما كان هناك في طفولتي ثلاثة نساء رائعات، على الرغم انني ظننتهن غريبات ولا تربطني فيهن صلة قرابة كباقي النساء الاخريات من خالاتي وعماتي، وكانت هذه النساء الثلاثة تغمرنني بالحب، والعطف، والحنان إذا ما حدث والتقيت بهن بمحض الصدفة، وغالبا ما كان ذلك يحدث في الطريق العام، فلم أكن اذهب الي منزلهم بهدف الزيارة او لرابط القرابة ابدا وكما كنت افعل مع خالاتي وعماتي، وهؤلاء النشوة من عائلة واحدة، ام كبيرة في السن لها هيئة الجدات، واسمها الحاجة عفيفة، وكانت متزوجة من شخص من عائلة البوزية، وابنتاها الكبرى وهي ايضا متزوجة من شخص من عائلة البوزية ام نعيم، وابنة أخرى واسمها عقول، ظلت عزباء ووحيدة بعد وفاة ابويها لفترة طويلة لتصبح، لاحقا وبعد ان فاتها قطار الزواج المثمر والمبكر، أصبحت فجأة الزوجة الثالثة لرجل عجوز طلب يدها بعد ان ماتت زوجته الثانية...لكن زواجها هذا أثمر ابنة وحيدة رغم عاديات الزمن...

ولم أكن في البدايات اعرف طبيعة ذلك الرابط القوي الذي كان يجعل تلك النسوة يندفع نحوي بكل ذلك الحنان، ويبدأن بضمي، وتقبيلي وانا طفل صغير، وكان ذلك تصرفا نادرا ومستغربا، ومحرجا بالنسبة لي، وقد ظللن على تلك العادة حتى بعد ان تجاوزت مرحلة الطفولة المبكرة، لأعرف بعد ان أصبحت اعي ما يدور حولي بان تلك المرأة الحاجة عفيفة انما هي في الواقع خالة امي... واخت جدتي من ناحية الام، والاخريات ابنتيها، وان تصرفهما كان يأتي من حبهما لأمي، ومن دافع الحنان، والشفقة على انا، ابنها اليتم الذي فقد امه وهو صغير والذي يبدو انه كان يذكرهن بأيام خوالي...

وفي وقت لاحق وخلال سنوات الطفولة المتأخرة اذكر انني زرت بيت الحاجة عفيفة بضعة مرات وكانت تلك زيارات عابرة لدقائق قليلة فقط في أيام الأعياد برفقة بعضا من اخوتي الذين كانوا يحرصون على عيادتها في مثل تلك الأيام المباركة وضمن طقوس صلة الرحم وتبادل التهاني بالعيد...

وما لبثت تلك الحاجة ان ماتت ولو انني لا اذكر متى وما ظروف موتها، وانقطعت صلتي بابنتيها، ولو انني إذا ما صادفتهما نتبادل أطراف الحديث المجامل...لكن ذلك الحنان الذي منحني إياه في طفولتي مطبوع في أعماق الذاكرة واظنه ظل طوال سنوات حياتي مصدرا من مصادر السعادة والهناء ولو انه كان في جانب منه محرجا بالنسبة لي...


يتبع،،

قديم 04-14-2016, 10:27 PM
المشاركة 65
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي

بعد السلام عليك والشكر على الاستجابة
والمعذرة على التأخير ..

لا أخفيك ...
أطلت الإجابات .. ولكنها رغم طولها
ورغم أنك أسهبت جداً في الاجابة
إلا أنني أجد أن سيرتك وذكرياتك أيام الطفولة كنوزاً
فلم تكن حكاية تحكى
إنما كانت دروساً في التراث الفلسطيني
فلم تترك لا الحيوانات ولا الحشرات ولا الجان
وكذلك المياه
والآبار ومسمياتها ... الخ
أما ما لفت انتباهي بعد استعراض ما كتبت ..
تلك النسوة الأربعة اللواتي تركن فيك أثراً
ويبدو أن غياب الأم هو الذي جعل من وجودهن تأثيراً على حياتك
على أية حال...
لي طلب ..
وهو ..
الرجاء .. أكتب ما تراه هاماً في حياتك وتعتقد أنه جدير بالكتابة ..
مع الشكر والتقدير
ووافر الاحترام

تحية ... ناريمان الشريف

قديم 04-14-2016, 11:32 PM
المشاركة 66
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
اشكرك استاذة ناريمان

كنت قد حزمت امري بان اتوقف عن الكتابة التفصيلية وسوف أتوقف عن نشر باقي السيرة هنا وسأفتح المجال للأسئلة ان وجدت وسوف أجيب باختصار حتما ، لكني لن أتوقف عن كتابة سيرتي وقد قطعت هذا الشوط ، واشكرك واشكر كل من تفاعل معها مما أعانني على إنجاز هذا القدر، وهو امر ليس سهلا ويتطلب الدعم والمساندة وسأحاول استكمال وإعادة كتابة ما دونته حتى الان، ولعلي انشره ان وجدته مجديا في نهاية المطاف ويستحق النشر في رواية من نمط السيرة .

اشكرك جزيل الشكر واعتذر عن الإطالة *

قديم 04-20-2016, 07:55 AM
المشاركة 67
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
اشكرك استاذة ناريمان

كنت قد حزمت امري بان اتوقف عن الكتابة التفصيلية وسوف أتوقف عن نشر باقي السيرة هنا وسأفتح المجال للأسئلة ان وجدت وسوف أجيب باختصار حتما ، لكني لن أتوقف عن كتابة سيرتي وقد قطعت هذا الشوط ، واشكرك واشكر كل من تفاعل معها مما أعانني على إنجاز هذا القدر، وهو امر ليس سهلا ويتطلب الدعم والمساندة وسأحاول استكمال وإعادة كتابة ما دونته حتى الان، ولعلي انشره ان وجدته مجديا في نهاية المطاف ويستحق النشر في رواية من نمط السيرة .

اشكرك جزيل الشكر واعتذر عن الإطالة *

طبعاً لا داعي للاعتذار فقد أسلفت ُ أن ما كتبته هو تاريخ وجغرافيا وتراث
سلمت يداك والله يعطيك العافية ..
ولكن ملاحظتي لكي لا يمل القراء من الاطالة وأنت تعي جيداً أن الناس هذه الأيام لا تحب كثيراً
مواصلة القراءة للمواضيع الطويلة
والآن ..
كلنا نعرف أن أي كاتب يكتب سطراً في حياته يكون قد تعرض لأمر دفعه لذلك
ولكل كاتب حافز ودافع ومسبب لكي يكتب
فما هي الأمور التي تدفعك للكتابة ؟؟
وبأي موضوع تجد نفسك كاتباً ؟
تقبل احترامي

تحية ... ناريمان الشريف

قديم 05-11-2016, 01:00 PM
المشاركة 68
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
شكرا استاذة ناريمان على مساعدتك لي بدفعي للكتابة حول سيرتي الذاتية.
اتصور انني سوف احصل في النهاية على رواية جميلة من نمط السيرة الذاتية ولك الفضل في ذلك، لكن بعد اعادة الكتابة واخذ ملاحظات بعض المطلعين والخبراء في المجال.
قرأت خلال الايام القليلة الماضية السيرة الذاتية لكل من فدوى طوقان ووجدتها ملخصة جميلة رشيقة وجريئة جدا تخوض في قضايا ما كنت اتوقع ان تخوض فيها انثى عاشت في مثل ذلك الزمن واظن ان هذا ما اعطاها قيمة مضافة، وروايتها تعالج اهم الاحداث في حياتها وتغطي فترة زمنية طويلة من 1917 وحتى حرب ال 67.
وبدأت اقرأ السيرة للكاتب التلحمي جبرا ابراهيم جبرا ووجدته يطيل الشرح والتفصيل ووجدت رواية فدوى طوقان اكثر رشاقة وتشويق رغم ان في تفصايل روايته شي جميل ايضا لكنني شعرت ببعض الملل وانا اقرأ ولم اكن مندفعا كما حصل معي وانا اقرأ سيرة فدوى طوقان حتى انني ككنت افضل القراءة على النوم..
ساحاول الاستفادة مما كتباه حول السيرة الذاتية في مقدمتي روايتيهما وآخذ بملاحظاتك المهمة اضفى الى التغذية الراجعة من كل من يطلع عليها لاتمكن من اخراج نسخة مكثفة ومؤثرة تعالج قضايا الالم والمعاناة على رأيك والجوانب المهمة في حياتي والاحداث الفاصلة ، اضافة الي تلك الجوانب التي تضفي على النص الجو السردي الجميل، وتجعله مشوقا مؤثرا...


س- كلنا نعرف أن أي كاتب يكتب سطراً في حياته يكون قد تعرض لأمر دفعه لذلك ولكل كاتب حافز ودافع ومسبب لكي يكتب فما هي الأمور التي تدفعك للكتابة ؟؟ وبأي موضوع تجد نفسك كاتباً ؟


-بعيدا عن النظريات التي تحاول تقديم تفسير للحافز الابداعي اتصور ان مصدر رغبتي في الكتابة له علاقة بيتمي واظن ان اليتم يتسبب في ارتفاع منسوب الطاقة الذهنية وعندما تترتفع هذه الطاقة تبدأ تتفلت وتخرج على شكل ابداع اذا ما امتلك الانسان ادوات الابداع التي لا بد ان يمتلكها من خلال التجربة والتكرار والمطالعة والتقليد بداية ثم يكتشف طريقه ليعبر عن نفسه باسلوبه الخاص ونهجه المميز.

كنت اظن بداية ان الكتابة الابداعية بحث عن الاكتمال Search for fulfillment , وهذا يعني ان شعورا بالنقص يؤدي بالانسان ان يتحرك في بحثه عن الاكتمال ويملأ النقص الذي يشعر به لكنني عدلت عن هذه الفكرة لاحقا وملت الي الاعتقاد بأن الموضوع مرتبط بنسبة الطاقة التي تتفاعال في الدماغ فكلما زادت الطاقة كلما وجدت الحاجة للتعبر الابداعي...

اما ما هي الدوافع المباشرة فاظن ان محاولاتي في مجال الكتابة الشعرية والتي صبغت بداياتي الابداعية كانت نتيجة للحظات انفعال تترجم عقليا الى منتج ابداعي...لكن في مرحلة لاحقة يبدأ الانسان وبعد ان يمتليء بالمعرفة يدفع نفسه للكتابة بصورة عقلية واعية، ولو ان العقل الباطن ما يلبث ان يتولى العمل ومتابعة عملية توليد النص الابداعي.

واميل كثيرا الى الاعتقاد بأن الابداع يحقق نوع من التوازن من خلال تفريغ المنسوب العالي للطاقة في الدماغ فيكون العمل الابداعي مثل الولادة، ويجد الانسان نفسه مرهقا بعد كل عملية ابداعية وكان طاقته نضبت ، لكن الطاقة تعود فيرتفع منسوبها من جديد وكأن في الدماغ مولد للطاقة الدماغية ويتسارع عمل هذا المولد بالاحداث المؤلمة والمأسي والمواقف الصعبة والمؤثرة فترتفع نسبة الطاقة من جديد وهكذا تصبح العملية الابداعية عملية مستمرة وتحقق نوع من الرضا والتوازن خاصة اذا ما لقيت من يرحب بها ويصفق لها...


قديم 05-24-2016, 02:42 PM
المشاركة 69
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
منذ توقفت عن نشر مذكراتي هنا توقفت عن الكتابة واسكمال ما كنت قد بدأته هنا من مشورع لانجاز رواية من نمط السيرة الذاتية..حيث يبدو ان النشر والتفاعل مع ما ينشر ادوات تحفيز مهمة..لذلك قررت ان اعود للكتابة ونشر فصول اخرى من سيرتي الذاتية خاصة انني اثناء هذا التجربة تعلمت الكثير عن هذا النمط من الكتابة ولعلني في نهاية المطاف احصل على رواية من هذا النمط ذات قيمة عالية...
عسى ان تشجع هذه الخطوة الزملاء في منابر من كتابة ونشر سيرتهم الذاتية خاصة لمرحلة الطفولة وهي كما علمنا من احد اوائل كتاب السيرة الذاتية عملة نادرة..لكنها مهمة للغاية نظرا لما تلقيه من ضوء على الشخصية الانسانية والعلاقة بين فترة الطفولة وما يكون عليه الانسان لاحقا ...

عسى ان يحظى ما انشره هنا بالبقول والتفاعل...فالتغذية الراجعة وسيلة مهمة لتطوير العمل الادبي وتحسينه..

وكل الشكر والتقدير لكل من يمر هنا ليقرأ ما اكتبه او يضع تعليقه ونقده بحرية تامة ودون مجاملات..


قديم 05-24-2016, 02:45 PM
المشاركة 70
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



وعلى الرغم من اتساع دائرة الألم والخوف والتعاسة والشقاء ورائحة الموت في زمن الطفولة المبكرة لكن الحياة كانت في جميلة، ولذيذة، في جوانب كثيرة منها، فلم تكن الحياة شريط متواصل من الألم، وانما كانت تتخلل كل تلك الظروف أوقات سعادة عارمة كنت اعيشها انا الطفل، ولو ان نسبة السعادة الي الشقاء هي أقرب الي نسبة اليابسة الى الماء في كرتنا الأرضية...او هي بضعة صفحات في موسوعة الم طويلة، ويصدق عليها وصف الشاعر:
كتاب حياتي يا عين ...ما شفت زي كتاب
الفرح فيه سطرين..... والباقي كله عذاب
وقد انطبعت تلك الجوانب السعيدة ولحظات الفرح من حياة الطفولة عندي على شكل صور لا تمحى ابدا في ذاكرتي...

ومن ذلك تلك الأوقات التي كنت امضيها في اللعب مع الأطفال حولي، من الاخوة، والاقارب، او أبناء الجيران، وبعضهم كانوا قريبين جدا منا، يعيشون معنا معظم الوقت، وكأنهم من افراد العائلة...
وكانت العابنا في ذلك الزمن مختلفة تماما عما تطورت اليه الألعاب في أؤخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن الحادي والعشرين...كانت العابنا بدائية مصنوعة محليا وبأدوات بسيطة لا تكلف شيئا...بل كنا نحصل على معظم مكوناتها في الاغلب من النفايات...

وربما كانت المرجوحة المعلقة في اغصان شجرة التوت في ساحة الدار الامامية هي اهم تلك الألعاب على الاطلاق، فقد كنا نتمرجح فيها طوال الوقت تقريبا، خاصة عندما تكون شجرة التوت مكسوة بالأوراق الخضراء الكثيفة والتي تصنع ظلا ظليلا يجعل المكان ربيعيا ممتلئا بهجة وجمالا خلابا، او حتى لو كانت جرداء عارية من الأوراق في ايام الخريف وبداية موسم الشتاء حيث تختفي تلك اللمسة السحرية والظل الوارف الظليل في المحيط كنتيجة لتساقط الأوراق، لكن المرجوحة تظل معلقة هناك لمن يريد ان يتمرجح...حيث ما تلبث رحلة بروز تلك البراعم ان تنطلق من جديد لتتحول في وقت قصير الى اوراق خضراء عريضة معلنة عودة موسم الربيع وبالتالي عودة موسم الخير والفرح واللعب والسعادة الغامرة...

وكنا نلعب الاوكزة وهي عبارة عن رسم على الأرض بالخط الأبيض الطباشيري ان وجدت الطباشير او أي لون اخر يمكن ان يتوفر مثل لون الفحم الأسود من موقد النار، ويكون الرسم مكون من ستة مربعات متساوية ترسم على الأرض حيث يقفز فيها اللاعب ضمن طقوس معينة للعبة تلك...
كذلك كانت لعبة طاق، طاق، طاقية واحدة من أشهر الألعاب الجماعية، حيث يجلس الأطفال على شكل دائرة ويقزم أحد الأطفال بالدوران حول الحلقة وهو يحمل منديل يضعه خلف شخص وهو ينشد طاق، طاق طقية، والمجموعة ترد عليه رن رن يا جرس...

كذلك كنا نلعب البنانيير او الجلول وهي تلك الكرات الزجاجية الملونة الجميلة، وكان الأطفال يستخدمونها في العاب مختلفة منها الجورة ...وقليلا ما كنا نلعب بالكرة لندرة الكرات على اختلاف أنواعها وخاصة كرة القدم، والمكان الوحيد الذي كنا نمارس فيه العاب الكرة ونستخدم فيه كرة حقيقية كانت ساحات المدرسة، وبعد ان يكون الطفل قد تجاوز مرحلة الطفولة المبكرة ودخل المدرسة، على الرغم اننا كنا أحيانا نصنع كرات من بقايا الثياب والاقمشة وبعض المواد الأخرى اللينة حيث نلفها ونجعلها على شكل الكرة الدائرية ونستخدمها وكأنها كرة حقيقة مع الفرق الشاسع في حركتها...
كذلك كنا نصنع من الاسلاك ان توفرت عجلات دائرية نوصلها بعصي طويلة او قضيب حديد وقد كانت هذه الصناعة اليدوية البدائية تشهد منافسة غير معلنة بين الاطفال حيث كان أكثر الأطفال ابداعا في صناعة تلك العجلات وأحيانا السيارات السلكية هو محمود العبد القادر الشقور الذي كان يتفنن في اشكال واحجام السيارات السلكية التي كان يصنعها، حيث ما نلبث ان نحاول تقليدها في اشكالها وأسلوب حركتها...

ومن الصفحات الأخرى الجميلة التي ما تزال مطبوعة بروعتها وجمالها في ذاكرتي كان انتظار موسم الشتاء، وسقوط حبات المطر الذي كان يبدو غزيرا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مقارنة بما يسقط الان، وكانت تلك بحق من الصفحات الجميلة التي كنت انتظرها بشوق، واستمتع بها اشد الاستمتاع. وكانت حبات المطر الساقطة من السماء تبعث في سعادة عارمة لاسباب خفية لا ادرك كنهها، وكنت انطلق حينما تتجمع المياه للعلب فيها، وكانت اللعبة المفضلة في مثل تلك الأوقات هي صنع القوارب الورقية التي كنا نضعها في تجمعات المياه تلك وندفعها ونحن في غاية السعادة والمرح...
وكنا أحيانا نذهب الي الاودية حينما تمتلئ بمياه الامطار...على الرغم من المخاطر الكبيرة التي كانت تمثلها المياه الجارية...

كما ان غزارة المطر في بداية الموسم كان يعني فقس الفطر في جبال قرية ديراستيا المجاورة وتحت أشجار البلوط وهو الذي كان يندفع الناس لجمعه في طقوس جماعية احتفالية وهم في غاية السعادة والمرح خاصة لمن يمتلئ دلوه بالفطر الجبلي البري اللذيذ ... وكانت الجلسة حول كانون النار، فاكهة الشتاء، من أروع الأوقات حتما، وكنا نستمتع ونحن نتسابق على وضع الحطب في الكانون، وكانت هذه طقوس يوميه نمارسها مع ساعات الغروب طوال فصل الشتاء...

كما كنا ننتظر الربيع موسم الخير على أحر من الجمر...الذي ما ان يحل حتى تكثر رحلاتنا الي البر، احيانا من اجل التقاط بعض الحشائش البرية التي تؤكل مثل الخس البري، والفقيس وهي نباتات اشبه بالبطاطا لكنها برية وكنا اكثر ما نجدها في الحقول المزروعة قمحا...وأحيانا للبحث عن اعشاش الطيور خاصة اعشاش طائر الحجل (الشنار) الذي تضع انثاه البيض في بداية شهر اذار وهي أيضا طقوس تمارس بشكل جماعي حيث تجد عددا كبيرا من الناس تروم الأرض تبحث عن تلك الاعشاش...
وكثيرا ما كنت ارافق والدي في هذا الموسم الي البرية، وهو موسم كان يشهد أيضا طقوس حراثة الأرض، وتنظيفها من الأعشاب، وتقليم الشجر، وكنت أجهد انا اثناء ذلك في البحث عن اعشاش الطيور في الأماكن المجاورة رغم المخاوف من الافاعي...

ثم كان موسم نضوج الثمار المشمش والتوت والدراق وغيرها من الثمار الصيفية أيام احتفالية جميلة، ومصدر سعادة وهناء...وبالإضافة الي اكل ثمار التوت الشهية كنا نترقب وصول العصافير أبو طبعة حمراء وأبو طبعة سوداء من اجل اصطيادها من على شجر التوت سواء بالنقافة او بالقوس المصنوع من خشب السويد...اما انتظار موسم التين والعنب مع اشتداد حرارة الصيف فتلك احتفالية أخرى هي الاجمل حتما وكنا أيضا نمارس صيد العصافير من صنف التويني هذه المرة، والذي يحبذ اكل ثمرة التين، وكان الصيد من على شجرة التين أسهل بكثير حيث كنا نقوم على قطع كل الثمار الناضجة ولا نبقي الا تلك المغروسة في رأس القوس فلا يكون امام العصفور الجائع الا القفز على العود الذي نجعله فخا منصوبا لاصطياده من اجل ان يأكل من تلك الثمرة الناضجة فيتحرك ذلك العود ( الكرزم ) من مكانه فيسقط العصفور في الشرك وهو عبارة عن خيط من القنب يربط به طرفي القوس فيصبح العصفور اسيرا من رجليه التي كنا نجدها مكسورة في أحيان كثيرة من شدة القوس او من شدة الحركة التي يقوم بها العصفور وهو يحاول التملص من القوس بعد وقوعه في الاسر...

وكانت أيام جني ثمار الزيتون من أجمل أيام السنة، وهو أيضا موسم جماعي وعلى الرغم من مشقة جني ثمار الزيتون لكنه موسم كان يبعث على سعادة عارمة عند الجميع خاصة إذا كان الموسم ماسية أي ان الشجر غزير الإنتاج...ولا اظن ان هناك ما هو الذ من الطعام أسفل شجرة زيتون، ولو كان طعاما بسيطا مكون من الخبز والزيت وحبات البندورة ...واذكر انني كنت استمتع بسماع اغاني النساء اللواتي كن يعملن معنا في جمع الحب، ومنهن واحدة اسمها حلوة سليمان حينما يبدأن بالغناء الشعبي للتسلية وشحذ الهمم. ومن تلك الأغاني اغنية "عاونيني يا يدي حتى اروح بلدي" وهي طريقة كانت تبعث الحماس في العالمين وتحثهم على الصبر في عملية التقاط حب الزيتون المضنية...وكانت لحظات المساء في موسم الزيتون خاصة رائعة في نكهتها وجمالها وشعبيتها وطقوسها وكأن القرية تظل في عرس مستمر باستمرار موسم الزيتون ولم يكن هناك الذ من طعم الحمص والفلافل الطازجة في امسيات ذلك الموسم حيث كانت دكاكين القرية تقدم خدمات إضافية لا تقدمها عادة في غير موسم الزيتون...

كما كانت أيام درس ثمار الزيتون بمثابة ايام عيد حقيقية...وكان كل ما يتعلق بأيام درس الزيتون جميل ولذيذ وباعث على الفرح والسعادة، وكنا نذهب الي معصرة الزيت مع ساعات المساء غالبا نلهو ونحرس الثمار التي نضعها في احواض خاصة توفرها المعصرة لوقت عصرها. فقد كانت معدات عصر الزيت بدائية وبطيئة، حيث كان الثمر يوضع تحت حجارة ضخمة تدور فوقها بقوة ماتور كهربائي مصمم لتلك الغاية، ثم يتم وضع المسحوق في اوعية مصنوعة من خيوط القنب، وتوضع هذه الاوعية بعد ملئها على مكابس تعمل بالضغط الهيدروليكي، حيث يتم ضغطها فينزل منها السائل بلونه الأسود القاتم، حيث يتم فرزه بفرازة خاصة تقوم على فصل الزيت فيتدفق من مكان خاص بلونه الأخضر الجميل المائل الي اللون الأصفر...بينما يسيل الزيبار اسود اللون من الفرازة باتجاه بئر مجاور...

وكان وصول الزيت الجديد الى البيت يعني حفلة موسمية يتم خلالها عمل حلويات المطبق وهي عبارة عن خبز طحين عادي لكنه يخبز بطريقة خاصة وبحيث يتم خلط الخبز بالكثير من الزيت ويضاف الى الخبز السكر الأبيض ومسحوق ثمار اللوز، وهي اكلة لذيذة ينتظرها الناس من موسم الي اخر...
ومن الصفحات الأخرى التي كانت باعثه على السعادة والبهجة في نفسي، كانت لحظات انتظار الخبز امام الطابون حيث كنت كثيرا ما انتظر الرغيف الساخن لأضيف اليه بعض الزيت والملح وأحيانا عصير او رب البندورة وكانت هذه، وما تزال من الذ الاكلات الشعبية التي كثيرا ما كنت أفضلها على الوجبات الساخنة حتى في افطارات رمضان...

وكان انتظار غياب الشمس وترقب صعود الخطيب في شهر رمضان على سطح منزله الواقع في غرب القرية لحظات لذيذة لا تنسى ابدا، حيث كنا ننتظره نحن الأطفال ونحن نلعب على ظهر منزل يقع في الجهة الشرقية المقابلة من القرية ...وكنا كثيرا ما ننشد ونحن في انتظار موعد الإفطار بشكل جماعي أناشيد شعبية فنقول مثلا " اذن يا خطيب قبل الشمس اتغيب..." ومنها يا مفطر في رمضان...

وكان الوقت الذي كنت اقضيه مع والدي رغم فرق السن حتى عند بلوغي مرحلة الوعي الأولى فبينما كنت انا في السادسة كان هو والدي في الثانية والستين، رغم ذلك كان ذلك الوقت الذي كنت اقضيه بجواره خارج المنزل وسواء في باحة الجامع عند صلاة المغرب، او اثناء جلوسه مع بعض اصدقاؤه، وقتا جميلا ومفيدا فقد كنت استرق السمع لبعض أحاديث الكبار وظني انني تعلمت منه أشياء كثيرة عن الحياة والناس اثناء تلك الجلسات...

وكان وقت قطاف العسل ومن ثم عصر أقراص العسل في ظل شجرة التوت في ساحة الدار من اجمل اللحظات والتي كانت اشبه بطقوس احتفالية حيث كانت تتم هذه العملية بصورة يدوية تتطلب الكثير من الجهد...

وكانت رفقتي لوالدي اثناء الزيارات الي مدينة نابلس القريبة من أجمل الأوقات في طفولتي المبكرة، ومثل تلك الزيارات كانت نادرة في زمن طفولتي نظرا لغياب وسائل النقل وربما بسبب حالة الفقر التي كانت سائدة...

واذكر ان والدي كان يبدو وهو خارج المنزل مرحا مبتسما، ومنطلقا، منشرحا خفيف الظل وهو يتبادل الحديث مع اصدقاؤه والاخرين، بينما كنت اجده وهو في المنزل جديا متجهما في الغالب لا يكاد يبتسم ابدا، رغم اننا في بعض الأحيان وخاصة اثناء سهرات العائلة، كنا ندفعه للضحك... وغالبا ما كان ضحكه إذا ما نجحنا في التحايل عليه ودفعه للضحك يأتي خارج عن السيطرة، حتى اننا كنا نخشى عليه من شدة تلك الضحكة النادرة، لكنه إذا ما اصابته نوبة الضحك تلك ما يلبث ان يظهر تشاؤما، ويبدأ في التحسب لوقوع شر ما؟ ويبدأ في الدعاء بأن يكفيه الله شر ذلك الضحك. فقد كان والدي يخشى الضحك الشديد ويعتبره مؤشر لوقوع شر ما؟! واظنه كام متشائما في سنه تلك، وكثيرا ما كان يردد بصوت جميل مرتفع بضع ابيات شعر من تغريبة بين زيد، ابيات حزينة ما ان تسمعها حتى تصاب بنوع من الكآبة والحزن... فكثيرا ما كان والدي يردد ابيات شعر تتقول :
لا تفرحوا للطير ان أجا ابلادكم ...ما جاب هالطير الا أمور عجايبة.

والغريب انه كان يصيب في توقعه في كل مرة...وكنا شهود على ذلك حتى اننا أصبحنا في كل مرة كان يضحك فيها بعمق نتوجس مثله من شر منتظر... وغالبا ما كان يطول انتظارانا حتى يحصل امر يقلب جو الفرح والمرح الى جو من النكد والكآبة...



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأستاذ حمود الروقي في لقاء على قناة عالي الفضائية عن الموهوبين علي بن حسن الزهراني المقهى 8 08-11-2012 12:16 AM
مع الأستاذ أيوب صابر .. دعوة للجميع احمد ماضي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 30 07-10-2011 11:33 AM

الساعة الآن 01:28 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.