قديم 02-25-2016, 01:18 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقابلة اذاعية مع أديب حسن محمد عن سليم بركات الحوار المتمدن-العدد: 1498 - 2006 / 3 / 23 - 07:31
المحور: الادب والفن

سليم بركات شاعر وروائي سوري أصدر العديد من المجموعات الشعرية وهي:كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً،بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح،البازيار،طيش الياقوت،الجهات المواثيق المواثيق الأجران والتصاريف وغيرها وقد صدر له أواخر الثمانينات مجلد تحت عنوان"الديوان "ضم خمساً من مجموعاته الشعرية
روائياً صدر له:
فقهاء الظلام،أرواح هندسية،الريش،معسكرات الأبد،الفلكيون في ثلاثاء الموت ـ عبور البشروش،الكون،كبد ميلاؤس،أنقاض الأزل الثاني،الأختام والسديم
ولسليم بركات كتابان مصنفان في فن السيرة الذاتية هما:
الجندب الحديدي .. هاته عالياً هات النفير على آخره سيرة الصبا
ترجمت بعض رواياته إلى العديد من اللغات منها الألمانية والإنكليزية والفرنسية
لدى بركات خيال سينمائيّ،ونصوصه تشبه ما يرصده المصور معتمداً على عدسته أو كاميرته المتجولة،رواياته سرد متحرك...شيء من الكتابة،وشيء من الصور،وشعره نفسه عبارة عن سينما فلا شيء غير الانفعال ونوايا الأفعال ولا وجود لهواجس الداخل كأن ذاكرته كاميرا محمولة على الكتف وقوله اصطياد اللقطة في الهواء
روايات بركات يزحف المتخيل فيها ليكمل سرد الواقع..لا تعتمد الطابع الحواري إلا فيما ندر في الوقت الذي تتضّح فيه طاقة السرد الكبيرة من خلال بنية الحكاية وتبشر بعهد نهوض سيمياء الرواية العربية بوصفها الحقل المعجمي بامتياز

أيها الأحبة سنجري اتصالاً مع الدكتور الشاعر أديب حسن محمد لأنه من المهتمين جداً بأدب سليم بركات وقد نشر أكثر من دراسة نقدية عن أدبه ..بعد لحظات شهادة من أديب حسن محمد
...
س ـ د.أديب حسن محمد لماذا يعتبر سليم بركات من رواد اللغة العربية شعراً وروايةً؟؟
*بداية يمكننا التحدث في المحورين اللذين تفضلت بعرضهما
سليم بركات شاعراً
وسليم بركات روائياً
من قريته الكردية الصغيرة"موسيسانا" القريبة من مدينة عامودا في الجزيرة السورية وحتى استوكهولم عاصمة السويد رحلة إبداع امتدت لأكثر من ثلاثين سنة أصدر خلالها العديد من المجموعات الشعرية والروايات والمقالات التي لا تتخلى في روحها عن مؤثرات البيئة التي انبثق منها وبقي مخلصاً لها في كل ما كتب.
شاعراً..ومنذ مجموعته الأولى"كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً" لفت سليم بركات الأنظار إليه فقد اختار أن يكون منذ البداية مختلفاً عن مجايليه وكان له ذلك حيث ما لبث أن احتل مكاناً مميزاً بينهم وانفرد باسلوبه المميز الذي اعتمد فيه الشعر على استقطار اللغة وسبر أغوارها في سبيل الوصول إلى حالة من الصدم والدهشة لقارئ قصائده.
قصائد سليم بركات وقفت في المسافة الحساسة بين الغموض الفني والإبهام،هذا اللبس نتج بطبيعة الحال عن الطريقة الجديدة وغير المألوفة في التعامل مع اللغة،فأساس اختلاف تجربة سليم بركات كان تعامله مع اللغة..أو الزاوية التي كان الشاعر يقف فيها ناظراً إلى مفرداته الطالعة من بركان اللغة وهي تسيل على البياض،سليم بركات امتلك إذاً هذه اللغة البركانية التي فجرت أعماق لغته وجعلتها وجهاً لوجه أمام قارئ جديد غير معتاد على هذه الأنساق اللغوية الجديدة،في بداية تجربة سليم بركات حدث نوع من الغربة بينه وبين قارئه طبعاً كان الأمر في بدايته غربة أولية أو حاجز أوليّ وقف بين القارئ وبين قصائد سليم بركات لكن هذه الغربة ما لبثت قصائد سليم بركات على إزاحتها من خلال تمرين القارئ على ديناميتها ونشاطها الداخلي،واستطاعت إقناعه(القارئ)بالمكنونات الجمالية التي تختزنها البنية اللغوية للنصوص الشعرية،فغموض قصيدة بركات لم يكن غموضاً بلا جدوى أو غموض لأجل الغموض.
توسّع القاموس الشعري لسليم بركات شاملاً العديد من المفردات بحيث أن قارئ شعره سيجد العديد من المفردات الجديدة عليه والتي نفض عنها الشاعر غبار القواميس وأعاد لها ألقها المفقود عن طريق حسْن توظيفها في قوالب مدهشة جمعت بين حداثة المضمون وقاموسية المفردة المكونة لهذا المضمون.
هذا المزيج الساحر بين رصانة المفردات وجموح الخيال يؤهلان قصيدة سليم بركات للصمود والتجدد رغم تعاقب الزمن عليها،هناك أمران مهمان في التجربة الشعرية لبركات لابد من استعراضهما:
الأمر الأول هو حفظ مكونات بيئة الجزيرة السورية في شعره..الشجر..الحيوانات..النباتات ..الخ
أرشف لهم بمهارة باحث بيئيّ وبحصافة لغوي وببراعة شاعر في آن واحد،فصار شعره وثيقة مكانية لحقبة مهمة من نشوء منطقة الجزيرة وتحولها من الطابع الريفي إلى الطابع العمراني المدني.
الأمر الثاني هو تقنية التقطيع السينمائي التي تميز تجربة سليم بركات الشعرية وتجعل القصيدة أقرب إلى اللوحة أو إلى المشهد البصري،حيث يكتب الشاعر بعدسة مخرج سينمائي مطل على مشهده الشعري،ومحرّك لعناصره.
س ـ أستاذ أديب ..أتساءل إذا أردنا أن نستخلص مجموعة من السمات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً برواية سليم بركات..يعني ما هي المميزات أو السمات النقدية التي يمكن أن نتحدث عنها؟؟
ج ـ لا تختلف روايات سليم بركات في سياق تجربته الإبداعية عن شعره،وكما أسلفت سابقاً فإن إبداع سليم بركات يتركز في اللغة،واللغة في الرواية مركزية أكثر من الشعر كون توظيف الخيال في الرواية أكثر منه في الشاعر،ويكاد يكون متفرداً وفذاً بحق منذ بواكيره الأولى في السيرتين:سيرة الطفولة وسيرة الصبا وحتى الرواية الأخيرة:الأختام والسديم
لدى سليم بركات سداسية الأمكنة:عامودا،قامشلي،دمشق،بيروت،نيقوسيا،وأخيراً استوكهولم
هذه السداسية المكانية بصمت في رواياته بعمق،لم تنفصل هذه الروايات عن بيئة الجزيرة السورية رغم اشتغالات المكان
فأحد مميزات رواياته أنها غالباً ما تنطلق من الجزيرة السورية،قد تخرج إلى أمكنة أخرى ولكنها تعود إلى نقطة انبثاقها،رغم أن هذه الانتقالات المكانية ضرورية لحبكة بعض الروايات مثل الروايات التي كتبها في قبرص,
تعامل سليم بركات في رواياته مع البيئة بأسلوب ساحر مستثمراً الميثولوجيا الغنية للجزيرة،والتاريخ الحضاري العريق للشعوب المتعاقبة عليها،وقد استطاع تحويل هذه المعطيات إلى عناصر إشراق في سياق بنية النص الروائي،فالذي يقرأ روايات سليم بركات يدهشه نبش الكاتب لشخصيات مهمشة ولتفاصيل منسية في تاريخ المنطقة،وببراعة منقطعة النظير استطاع بناء نسق روائي قادر على التمدد خارج قاموس السرد المباشر.
أما الخيال فدوره مركزي في توهج الحدث الروائي،ورغم جموح خيال الكاتب فإنه يبقى خيالاً خادماً لبناء الرواية،فلا يشعر القارئ أنه أمام خيال نافر ومجاني بقدر ما يحس أنه خيال مرتبط في مستوياته المختلفة بخيط غامض إلى مركز الرواية وبؤرتها الجاذبة،هنا بالضبط تكمن عبقرية سليم بركات الروائية:إحالة الخرافة والخيال إلى عناصر محايثة للواقع الملموس من خلال عملية التبادل الديناميكية بينهما(الخيال والواقع) وببراعة يحسد عليها.
س ـ د.أديب ...أتساءل سؤالاً ولا أدري إن كان مشروعاً
أفهم من كلامك أن سليم بركات يشتغل على أعصاب اللغة واللغة هي الأداة الأولى في تصنيع العمل الروائي..هل هذه اللغة تستطيع أن تبني تقاطعات حادة مع المتلقي..بغض النظر عن سوية هذا المتلقي؟؟
ج ـ تحدثت قبل قليل عن موضوع التلقي،وكلامك عن اللغة دقيق جداً،فسر الإبداع الشعري والروائي لدى سليم بركات هي اللغة،ولا شك أن هذه اللغة تخلق في البداية نوع من الغربة مع القارئ،ولكن فيما بعد استطاع الكاتب بمهارته وإبداعه إقناع القارئ بمبررات اشتغاله على هذا النمط اللغوي الذي يمر بثلاثة مراحل:اللغة الغريبة في البداية،ثم المتمنّعة القابلة لأكثر من قراءة،ثم اللغة الماتعة التي تجعل من القارئ منفعلاً ومتذوقاً لرحيق اللغة..فقارئ الرواية من المرة الأولى يشعر أن تناول جرعة لغوية ثقيلة يصعب عليه هضمها،وعندما يقرأ القراءة الثانية يبدأ باكتشاف مكامن جمالية لم يستطع اكتشافها من القراءة الأولى...فالمراحل الثلاثة لقراءة روايات سليم بركات هي:
ـ القراءة التغريبية
ـ القراءة المتمنعة
ـ القراءة الإمتاعية الجمالية
وهذا ناجم عن التمدد الحاصل في الرواية نتيجة الثقل اللغوي فيها وهو ثقل إبداعي لا يدل على عبث بقدر ما يدل على مخيلة فذة تستطيع تطويع اللغة في أحلك مستويات التعبير

في برنامج "واحد من آخرين" إذاعة صوت الشعب دمشق 4/4/2004من إعداد المذيع سامر فهد رضوان

قديم 02-25-2016, 08:18 PM
المشاركة 22
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات ....يقول عنه احدهم

لم أرى كاتباً ينفذ إلى عمق الموجودات مثل سليم ، فيتحدث بلسان الموجودات و اللاموجودات و يحس بنبض الأرواح في كل ذرة يصل إليها نظره أو يمتلئ بها إدراكه المتراكم . حتى تفهم سليم عليك أن تصادق الظلال و النور و الفراغ و الريح و ما ينتظر دوره في رحم الأرض ليخرج من المعدوم إلى الموجود و ليستمر بعدها في رحلته في الأطوار التي خلقها الله.

قديم 02-26-2016, 03:38 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات .. رحلة في الخيال
« في: 09:33 10/10/2009 »
سليم بركات ..
* * * * * * * * * * * * * *

رحلة في الخيال
افراح الكبيسي

[*]الإهداء:

نملة تتسلق جسد عملاق .. إنها لرحلة طويلة

[*]المقدمة:

سليم بركات, هذا الفذّ الذي أعطى الشعر نكهة جديدة, والرواية بعدا جديدا. هذا العملاق الذي تحالف مع دولة عظمى, دولة اللغة, لينهي هزائم الكتابة. هذا العبقري الذي أسس مدرسة للخيال, متحديا خيالنا لدخولها, فكيف بالنجاح فيها. هل تكفي السطور لمدح سليم بركات العاف عن المديح, "وغواياتي غواياتُ مديحٍ [1]", المتحدي للمداحين, "سيتقاسَمُكَ المُراهنون في اقتحامهم المديحَ باباً باباً، بالحظوظِ التي يباركها الخوف [2]". أم علينا أن نمدحه بمفردات من عالمه, عالم الخيال ألا منتهي, حيث الشخوص تحرض المجهول فيها "على صوغ المجهول [3]" فينا، "والحدث الذي [3]" يحرِّض، "ب (لا - حدوثه) [3]"، على شغف "حدوثُه في خيال [3]" كتابتنا. وترى هل ستنجح رحلة مديحنا هذه, الحكم لبركات, ولكم.
[*]الولادة:
يقال أن سليم بركات هو من مواليد القرن العشرين, وهذا تزوير في أوراق رسمية, ومجرد تهويمات لإخفاء ما يراد إخفاءه. فولادة بركات ابعد من ذلك بكثير. وهذه الولادة, الولادة الأصلية, لها أدلة توثقها, أدلة مختومة باسم بركات, لتحفظ "حق المجاهرة بالخوف من الفقد [4]". *أدلة لها شهود "مُتَّحِديْنَ في الصوت [5]" بعدم "نسيانِ الخَتْمِ [5]" ولا "نسيانِ المواثيقِ [5]". أدلة لها براهين, "تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين, وتُوْقِعُ بالكلماتِ [6]".
ولادة بركات كانت مع الإنسان الأول, إنسان الكهف المجبول بحب استكشاف كل ما حوله في محاولة للتعرف على العالم لأول مرة عبر توصيف كائناته وفهم طبائعها.
"
أن يتخذ سيّاف الغيبِ كمالاً ككمال الظلام ِ، وتركعُ الرياحُ الأسيرةُ، تغرورقُ
عيناكَ، يا هادئاً ترى الذي ترى، وتكفيكَ من الأبدِ قضمةٌ واحدةٌ، فلماذا تأسى
للوقتِ، ولماذا تضربُ بحافركَ على رخامِ بطشنا ؟
[7]".
عاش بركات مع هذا الإنسان, الأول, واستكشف معه كثيرا من الكائنات, وانتهى من فهمها إلى تسميتها لاختزال عملية الإشارة لها. وكانت استفادة بركات من هذه التسميات لا حدود لها.
"
للقرنفلِ شَكُّهُ. للتوتِ شَكُّهُ. للقُنَّبِ، للحَلْبُوبِ، للدِّفْران، للتَّنُّوب والجُرَيْس، لنا، لليَحْمُوْرِ النازفِ على حجارةِ النبعِ، للقيامةِ التي تتهيأ بأقنعتِها القِطانيَّةِ، للدّعاميصِ الطافيةِ على الماء، للبتولا، للطاووس الساهرِ على الكلمةِ، القويِّ الخجول، للبَوَّاقِ ذي النَّفْخِ المالحِ، للبَقْس، للتَّنُّوبِ، للجاوَرْسِ، للحندقوق الهاذي، للفجرِ الذي يتلوَّى كالصِّلِّ قرب النعمةِ، لِلْبلاذِرِ، للكتّانِ، لليقينِ الراكضِ بجلاجِلِ الفراغِ، للغد شُكُوكَهُ.
هكذا: شُكُوكٌ على مرمى القَهْقهةِ؛
شكوكٌ على مرمى الذَّهب.
[8]".
بعد ذلك ظهرت الكتابة, على حين غفلة, لتسمح للإنسان الأول باستخدام الصور كرموز لكتابة الكلمات وتكوين الجمل, ولتسمح لبركات باستخدام الصور "لاستنطاق الماهيات [9]" وتكوين "النص السحري [9]".
"
لا تَقُلْ إنَّ العذوبة سوْطُكَ الذي تقودُ به جيادَ النبات،
والنهارَ إوزّةٌ شردتْ من حقلِكَ الحديديّ، بل التمسْ ذاكرةَ التُّفاحِ بكلماتِ الغُصنِ، وأطلِقْ يديكَ كذهبٍ مطحونْ.
غزالتُكَ هناك؛ غزالتُكَ البلَلوريَّةُ تحت الشجرة البلّلوريَّة، وقلبُكَ هنا، يهزُّ قرْنيهِ ليرُدَّ الفجر ذا الفراء عن سريرك الذي يهوي عميقاً، الى حيثُ لا نعاسَ يرعى بقراته البيضاءْ.إنها المشيئةُ التي تضربُ الأرض بقناعها، وأنتَ رنينُ الضربةُ.
[10]".
"
فلْنَتَفاوضْ كسيِّدَيْن.
أجلس هنا، أمامي، فأنا جالسٌ ومعي ما تريد،
وحدّق فيَّ كما ينبغي لخصمٍ أن يُحدِّقَ، ثم ضَعْ على المنضدة ما تحتوي جيوبُكَ؛
الحديقة أوَّلاً. إنني أرى الجذورَ تخترقُ السُّترة، والترابَ يُعَفِّرُ قميصَكَ. هنا، على المنضدة.. الحديقة أوَّلاً.
ثُمَّ هاتِ السحابةَ تِلكَ، التي تبلِّلُ حوافَ القبعةِ، وتتدلَّى خِصَلٌ باردةٌ منها بينَ خصلات شعركَ. وهاتِ القوسَ قُزَح، ذاكَ، المائلَ على صدّارَتِكَ المذهَّبَةِ. هاتِهِ.. هنا، على المنضدةْ.
لا، لا تكنْ شاحباً، ولنتفاوَضْ كسيِّديْنِ، فمعي ما تريد.
[11]".

[*]النشأة:
بدأ الإنسان ينزع للعيش في تجمعات, وكان هدفه في البداية نبيلا: إبعاد شبح الوحدة, والتكاتف لتحصيل الخير ودرء الشر. لكن هذا الهدف النبيل لم يدم طويلا, فظهرت الحروب بمبررات تحتاج للتبرير. وظهر استعلاء الإنسان على أخيه الإنسان بلا وجه حق, وظهر الظلم بوجوه متعددة ابتداء بالاضطهاد ومرورا باستلاب الحريات وليس انتهاء بالقتل. وفي خضم هستريا الوجود, كان الكرد, وكان بركات.
"
المكنُ طَلْقَةُ الخيالِ التي تُرْدِيْكَ،
لتتعافى حُرَّاً، حيثُ المتاهُ رَجَاءُ،
والكونُ يغطي بأسماله نوارجَ اليقين؛
حيثُ الحروبُ، نقيَّةٌ كفراء السنجابِ، تتماوجُ في الهبوب الرَّحيم للجَدَلِ، ويتأهَّبُ العَدَمُ ـ هذا الجناحُ الأقوى.
الكُرْدُ هناكَ،
في دويِّ الطَّلْقَةِ التي تُرْدِيْكَ لتتعافى.
[12]".
حمل بركات الهم الكردي بين أضلاعه, وظل يركض في "ثورةِ [13]" قومه *"بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً [14]".
"
أأسمّي لكم الأعلامَ التي هناك، فوق الشُّرفات العاليةِ المستندةِ على البنادق؟ أأسمّي لَكُم البنادقَ الكثيرةَ هناك، حيث البطولةُ التي تتقنَّعُ في الدخول على الكرديَّ من حيائها؟ أأسمي الكرديَّ ليتدفَّأ الليلُ بقميصهِ المُنْتَهَب؟
[15]".
"
سأرفعُ هذا الحديدَ، إذاً، على الخشبة القوية التي تهتزُّ تحت قدميَّ القويتينْ. سأشهدُ امتحان العَضَلِ وامتحانَ الهواء، حين تتَّخذ الشرايينُ النّافرةُ أُهْبَتَها وهي تمهَّدُ للدَّم عُذرَتَهُ وفجوره،
سأرفعُ هذا الحديدَ بحكمةِ الحديد.
سأُقسِم أن الحديدَ المرفوعَ على يديَّ هو الغدُ مغسولاً في رئةٍ كرديَّةٍ.
[16]".
ورغم أن الموت واليأس هما متلازمتا الحروب والظلم في كل زمان ومكان, يبقى الأمل هو الفيصل في نهاية الأمر.
"
( أيها الموتُ،
يا أسمالاً على كتفين قويتين؛
يا مِمحَاةً ترتجفُ، وياقوتةً غيرَ مثبَتَةٍ في الخاتم على نحوٍ مُحْكَمٍ؛
يا مُبدِّداً نَفْسَهُ بين الألقابِ،
كأنّما سُلوقيٌّ يجُرُّك لاهثاً،
وكأنّما ذاكرتُكَ تتراءى قِطَطاً مقذوفةً من الشُّرفات.
أيها الموتُ،
يا غريقاً تمتد إليه الأيدي كُلُّها،
خفِّفْ مُساءَِلاتِكَ قليلاً).
[17]".
"
بآلات الزَّهر، بك أيتها الحديقةُ الضائعةُ في جهات يدي، سأمسكُ الرَّسنَ الأقوى، ناظراً الى ما ينحدرُ من الصَّرخةِ العاليةِ، فلي موعدُ الجذورِ، واحتدامُ البعيد. وإنْ نسيتُ شيئاً من مباهجِ الوداعِ وهسهسات مهاميزه، فسيدركني الظلُّ الرسولُ، أو النبضُ الرطبُ لثمرةٍ سقطتْ في المياهِ؛ إنْ نسيتُ؛ إنْ نسيَ الوداعُ شيئاً من مجوني الذي قَسَّمَ الشجرةَ بين جهاتها.
هكذا كُلٌّ سيدركُ الذي لم يفتْهُ. كلٌّ سيُدْرِكُ المُدْرَكَ، وينسى بطشَ الذي فات.
بآلاتِ الزَّهرِ تتواطأ الأرضُ على نَفْسِها.
[18]".
[*]الهجرة:

بدا الناس بالهجرة من مكان الى آخر, كل يبحث عن مبتغاه. وهاجر بركات إلى العرب, باحثا عن اللغة العربية, عن "حفنةَ الريحِ التي ألْهمتِ الحيًّ بلاغاتٍ [19]", عن المفردة الصعبة, والكلمة المنقرضة, والقواعد الصلبة.
"
نانْيك يتها الأبديةُ، يتها المحفورةُ مثلي على خوذةٍ، سأصْلحُ من هَيْأتي قليلاً، سأصْلحُ من هيأةِ اليابسةِ، وأنسِّقُ المياهَ إناءً على مَسْطَبَةِ الروحِ قبلَ تدخلَ العدميَّاتُ بنبالهنَّ الآجريَّةِ يقنصْنَ الكواكبَ وتوابعها؛ قبل أن يخترقْنَ مطالعَ الأغاني بحروفٍ مَلُوْلَةٍ، أو يطعنَّ الغزالةَ الحائمةَ حولَ أبجديةٍ لا تُرى. وسأصْلحُ من هيأةِ الليلِ فيدخلُ الحُلَمَ طائشاً في عباءاته الطائشةِ، فأنا الدليلُ لن أدلَّ أرضاً، بعد هذا، إلاَّ على رُعبِها
[20]".
في هجرته هذه كان بركات يتموج "مُنْزَلقاَ من ورقةٍ إلى ورقةٍ، ومن لهاثٍ إلى لهاثٍ [21]", لأنه أدرك منذ البداية أن ليس "يُدْرَكُ شكلٌ بغير ذعرٍ، وليس تُغوي المعاني بغير هذا الشهيق [22]".
"

هذا هو أنتَ،
أيها المنتفضُ تحتَ بروقِ الحبرِ. هذا هو أنتَ،
وقربكَ طلٌّ سكرانُ،
ظلٌّ مما تلقيهِ الأرضُ، في غروبها، على رغيفِ الكائنْ.
هذا هو أنتَ،
صلبٌ كروحٍ صلبةٍ يرنُّ على حوافها قرعُ عكاكيزِ الظلامِ المائةِ،
وخلفكَ مائةٌ من النساء يطحنَّ، في جُرنٍ واحدٍ، يقظةَ البطولةْ.
هذا هو أنتَ،
دأبُكَ دأبُ المؤرِّخِ، لكن تؤرِّخُ المياهَ وحدَها.
بسيطاً تؤرِّخ المياهَ. بسيطاً تُغوي الحبرَ ليتهيأ الحبرُ لسباتِ الكلامِ،
لتبقى وحدَكَ يقظانَ في حلمِ الحروفِ؛ يقظانَ حتى
آخرِ انتحارٍ للأرضِ قربَ مرآتِها.
[23]".
ولحسن حظنا, ولحسن حظ اللغة العربية, وجد بركات مبتغاه, ليصبح وبكل جدارة عملاق البلاغة "اليقظى من ارتجاجِ العجلاتِ على الحبرِ [24]", وعملاق النثر "المسكونِ الذي لا يُؤاتي [24]", وعملاق الشعر والرواية.
"
كنبيلٍ سأدلقُ صِحافَ الفاكهة من الأعلى، هاتفاً بخليلاتي: دَوِّنَّ هذا؛ دَوِّنَّ ذهبي المَذْرُوْفَ على قرونِ الجليدِ، وارفعنَ خَمالاتِ الريشِ لألتَقي وهجَ الأجنحة، فأنا شبكةُ المديحِ التي يتخبَّطُ فيها عُقَابُ المديح.
[25]".
"
دَوِّنَّ هذا، دَوِّنَّ هذا يتها الخليلات:
عاصفاً يبدأ الشَّكلُ، عاصفاً ينتهي.
عاصفاً يبدأ المكانُ، عاصفاً ينتهي.
وأنا أحَرِّضُ التماثيلَ، على قممِ الأعمدة، أن تطلقَ قُمْريَّها الجريحَ من شِبَاكِ الحجر.
غير أني سأتلو الحجرَ جناحاً جناحاً، وسأتلو البحيرةَ خلف الرابية طعنةً طعنةً، موشكاً - وأمسكُ نَفْسي - أن أضرِّجَ الغدَ كله بهبوبٍ يشوبهُ الزَّعفرانُ. موشكاً أنْ أقتحم الهياكلَ بالهياكلِ، والأدراجَ بالأدراج، وحسبيَ الغوايةُ التي تُدَحرجُ قُفَفَ العُنَّاب برَكْلَةٍ من قَدَمها.
[26]".
[*]الخاتمة:
ما زال هناك الكثير الكثير ليقال عن سليم بركات الذي لا يمكن اختزاله ببضعة صفحات ولا تكثيفه ببضعة سطور. ولكن كما لكل مقال مقدمة لا بد له من خاتمة, وكما استعنا ببركات لتنشيط مخيلتنا عنه, واستعنا ببركات لمدحه لعدم تطاول اللغة على ذلك, سنستعين ببركات لنختم مقالنا عن عملاق اللغة والمتربع على عرش الأدب العربي سليم بركات.
"
لكن، بأيّ أحبولةٍ ستأسرون هذا المهرقَ كالقهقهة ؟ بأيٍّ ستأسرون الرخيم مثلَ
الإنشاد للمياه ؟ ليكنْ. خذوه، خذوا الطائش الجميلَ، فهو قرعُ الحكايةِ على
إيهِ،…إيهِ، أكانت لكم حكايةُ قبلَ أن يمسًّ بذيله الحكاية ؟
[27]".
[*]ملاحظات:


مقاطع القصائد التي استخدمت كأمثلة في هذا المقال لم تؤخذ بالضرورة من قصائد تشابه بمدلولها المدلول الذي استخدمت فيه هنا.
[*]جميع المصادر المذكورة أخذت من موقع جهة الشعر http://www0.jehat.com.

[*]الهوامش:
[1]. الحديد, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1984.
[2]. مهاباد, البازيار, 1991.
[3]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, عدنان حسين أحمد, جريدة (الزمان) لندن.
[4]. الأختام والسديم, 2001.
[5]. المعجم, 2005.
[6]. استطراد في سياق مختزل, طيش الياقوت, 1996.
[7]. الحمار, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[8]. ليبق معي, خزائن منهوبة, 1986.
[9]. سليم بركات, عراب المتاهات وخيال الهاوية, ناصر مؤنس وصلاح عبد الغفور.
[10]. المشيئة, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[11]. لا تكن شاحبا, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[12]. استطراد في سياق مختزل, الضباب المتزن كسيد, 1984.
[13]. المطالبة بجسد فراشة غريبة, كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا, 1973.
[14]. سليم بركات, أنه امتحاني حتى الموت, السابق.
[15]. مهاباد, السابق.
[16]. مهاباد, السابق.
[17]. مهاباد, السابق.
[18]. الحديقة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[19]. الحديد, السابق.
[20]. وميض مر, الكراكي, 1981.
[21]. المشيئة, السابق.
[22]. قلق في الذهب.
[23]. الحيوان الأخير, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.
[24]. القطيعة, أسرى يتقاسمون الكنوز, البازيار, 1991.
[25]. الفجيعة, منزل يعبث بالممرات, 1984.
[26]. الفجيعة, السابق.
[27]. الثعلب, فهرست الكائن, بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح, 1983.

قديم 02-26-2016, 04:03 PM
المشاركة 24
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جريدة الحياة - العدد 17738: سليم بركات يبحث عن أسطورة الأنثى شعريّا - عابد اسماعيل
date:*
Fri, 10/28/2011
تتوقّدُ مخيلة الشاعر سليم بركات باستعارات الحبّ التي تُحدث اهتزازاً عميقاً في البنية النمطية لقصيدة الغزل، في ديوانه الجديد «السيل»، الصادر عن دار الساقي، 2011، الذي يستحضر أسطورة الأنثى بوصفها مرجعاً جمعياً خفياً يبتكر الكون في كلّ لحظة من دورانه، ويعيد لرموز الخصوبة والانبعاث مجدها كما تذكرها الأساطير القديمة، من دون أن يسمّيها بالضرورة. يذوّب بركات، بمهارة الفنان، مصادراً إحالاته الإسطورية، لتبدو كأنّها من صنيعه الخاص، حتى أنّ ما يطفو على السطح من إشارات غزلية لا يفتأ ينقلبُ على نفسه، في فورة الصور العشقية المتدفقة، بدءاً من عنوان الدّيوان، الذي يعلن تحالفه البلاغي مع السّيل كقوة خلق وابتكار، إذ «لا ميثاقَ كالسّيل، لا رهانَ كالسّيل»، وانتهاءً بالخاتمة التي يتعانق فيها السّيلُ مع المرأة العاشقة: «لقد بلغَ السّيلُ عمرَكنّ».
*
في هذا الدّيوان، المؤلّف من قصيدة طويلة واحدة، ذات النبرة الملحمية، تنضحُ لغة بركات بنداء الجسد الأنثوي، الحاضر دوماً كبهاءٍ بلاغي خالص، متماهياً مع مرايا الطبيعة، فالأنثى في الديوان ليست المرأة الفرد، بل النداء الجمعي الذي يشكّل، جوهرياً، «أنا» متعدّدة، كثيرة، تعكس ناموس الكون في تنوّعه وكثرته: «ستُقتَلْن إن اجتمعتنّ في عناقٍ واحدٍ/ أو قبلةٍ واحدة/ أو رعشةٍ واحدة». يستحضر بركات قاموسه العشقي الخاصّ به، الذي يتّسم بالأصالة والغرابة في آن واحد. فالغزلُ هنا ليس تقليدياً البتّةَ، ولا يمجّدُ أو يحتفل بالمثال الأنثوي بقدر ما يغوص عميقاً في معنى الأنوثة وتجلّياتها.
*
أسلوب خاص
ينحرف خطاب الشاعر عن تراث الغزل المتبلور في ذاكرة التقليد، رغم مروره، لمحاً، على بلاغة نشيد الإنشاد، وأوجاع الشاعرة سافو، وتحولات أوفيد العشقية، وقصائد المجنون، وعبق الموشّحات الأندلسية، الحاضرة روحاً في الديوان، لكنّها الغائبة تسميةً، لأنّ سليم بركات لا يتوانى عن اختراع أسلوبه الخاص الذي لا يشبهه أسلوبٌ آخر، متّكئاً، بشكل كبير، على ذاكرته الرعوية التي تستحضر طفولةً وثنيةً عجيبةً، تفتّحت فصول عشقها في أحضان تلك الطبيعة النائية والبربرية، التي يحملها بركات معه، في حلّه وترحاله، ويجسّدها في معظم نصوصه الشعرية والسردية. وكعادة بركات في دمج الحسّي بالمعنوي، تسافر استعاراته إلى عوالم خرافية، تتجاوز شرعة المكان، وتجدُ في كلّ جمادٍ روحاً هاجعةً ينبغي إيقاظها، وإطلاق سراحها. لا تقف الإشارة عند أثر بعينه، بل تطيرُ، عالياً، فاقدة العقل، باتجاه مجهول لغوي معتم، تتجلّى فيه الغبطة النصّية في أبهى صورها، والتي رأى فيها رولان بارث ذروة المتعة الجمالية، وبخاصة إذا كان شرطُ تحقّقها يكمنُ في الاختفاء وليس التجلّي: «أنتنّ. كيف لكنّ أن تسترحنَ وقد نقلتنّ المرايا من يدِ الشّكل إلى يد الخفاء»؟
يخاطب بركات الأنثى بصيغة الجمع وليس المفرد، ربّما للبرهنة على كونية المبدأ الأنثوي، وملامسة مركزه الأسطوري المتمثّل في نموذجه الأصلي «إنانا»، إلهة القمر، التي لا يسمّيها الشاعر، صراحةً، بل يكنّي عنها بفيضٍ من رموز الإنبعاث والخلق التي تصقل الصورة الجمعية للمرأة بصفتها أمّ النشأة الأولى: «لم تُبعَثْنَ من الخلية المشيئةِ ومضاً، بل من صريرِ البوابة تصطفقُ على النَشَأة ومضاً». يقابل الأنثى ذاك النداء الذكوري الحالم، الذي يجسّده المتكلم أو الرواي العاشق في الديوان-القصيدة، حيث يستحضرُ صورة تموز، إله الحقول والمحاصيل، ورمز الانبعاث وتجدّد الخليقة. ومن تلاقح وتفاعل هذين المبدأين تولد الحياة، وتتعاقب الفصول. يخاطب الشاعر الأنثى بصيغة الجمع وليس المفرد، لأنها جوهرياً، مرآة للطبيعة، ونوازعها هي نوازع النار في بهائها، والماء في صفائه، والطين في صمته، والهواء في هبوبه، والسماء في هبوطها على المكان. والنسوة في الديوان يبلغن عمر السيل في تدفّقه، ويبلغن عمرَ المغيبِ في حضوره البرتقالي على الأشياء: «بلغتنّ عمرَ المغيب، المتسوّل، الجوّال، على أبواب السّرمديات البرتقالية». في هذا الحضور، توقظ المرأة الحنين إلى الحبّ، المتجلّي في النصف المطحون من القلب، أو النصف المهجور من الروح، إذ «بألمٍ تحببن، بألمٍ أكثر تهجُرْن من تحبَبْنَ». والأنثى هي صلة الوصل بين الأرضي والسماوي، وحضورها لا يختلف عن حضور الحدائق في الكلمات، والنوافير في المعاني، حيث التناغم على أشدّه بين الجسد والروح، أو الجسد والنصّ: «تملأن قواريركنّ من معاصر النيازك زيتاً، يا اللّواتي تكفيكنّ حديقةٌ واحدة على حافّة الكلمات».
*
أسطورة الأنثى
من هذا الثراء اللفظي، والاشتقاقات الشعرية التي لا تنضب، تتبلور أسطورة الأنثى في القصيدة. تتدفق لغة بركات تدفّقَ السيلِ في عمرِ هؤلاء النسوة اللّواتي بلغن أخيراً، «عمر الحدائق»، أو، بشكل أدقّ، «عمر الأربعاء»، كما يشير العنوان الفرعي الغامض للديوان. نسوةٌ لا يخضعن للمشيئة، حيث «الأعالي طلاء أظافرهن»، ويلتمع الزّمنُ على شفاهنّ كابتسامة خاطفة. وعلى طريقة الهراطقة الصوفيين يقيم بركات ديالكتيكاً خرافياً بين الوثني والديني، أو بين الحسّي والمعنوي. فالروح تحضر جسداً، والجسدُ يحضرُ روحاً، لتكتمل القيامة الأنثوية في النص. لكنّ ميزة بركات تكمن في إدراكه العميق للعلاقة الإشكالية بين الجسد واللغة، بين الحبّ وتلك الاستعارات اللغوية التي تصفه أو تدلّ عليه. فبلاغته الشعرية، بصرامتها، وأناقتها، وغرابتها، تمثّل حقاً جسداً مكتنزاً بأسرار الخلق الفنّي، تدلّ أو تشير إليه صبوات المعاني الدفينة التي تتّسم حقاً بالابتكار والتجديد، تماماً كنسوته اللّواتي لا يقعن في التكرار البتة: «أنتنّ لا تسمّين شيئاً مرّتين بالإسم ذاته».
ولأنهنّ لا يسمّين الشّيءَ ذاتَه مرّتين، ولا يعبرن ماءَ النهر مرّتين، فإنهنّ يستوطنّ هواء اللّغة الخلاقة، ويتغلغلن في عروقها، ويحرفن البلاغة عن مسارها، ويقذفن بالمألوف إلى فلك الغرابة، لتكون مطاردةُ المعنى للمعنى على أشدّها حقّاً: «تلمَحْنَ، أنتنّ، الطرائدَ - قطيعَ المعاني مذعوراً في اغتصاب الكلمات للكلمات». لا يكشفن عن سرّ الأحجية بطرائق مألوفة، ولا يفضحن الضباب الذي يكتنف المعاني: «يا اللّواتي لا تفتحْن الأقفالَ بالمفاتيح، بل بالهمس». وهنّ يمتلكْن عبقريةَ النحت والتشكيل وتلوين الكلمات بإيقاعات القلب الراكض بين الحروف: «قلوبٌ راكضةٌ على السطور، التي وزّعتّن عليها حروفاً صريفاً من أسنان الكلمات.» حتى الحبّ يصير لغوياً، لا ينوجد خارج خطاب العشق، أو موسيقا الحروف وتصاريفها، لأنه الهمس الأكثر رقةً، وهسيس اللّغة، وفق رولان بارث، في حديث العشاق للعشاق، الذي يشبه ريش الطّيرِ في خفته وسلاسته: «أحاديثٌ ريشٌ، إذ الرّيشُ، وحده، عقلُ الطّير». لا وزن للكلام هنا، في مملكة الحبّ، ولا وزن للمفاهيم أو اليقين، فكلّ شيء منذور للجمال المطلق، الجمال الأنثوي الذي يحدّد للوقت مجراه، وليس العكس، ويلوّن الثّواني بأحمر الشفاه إذا لزم الأمر: «أغلقْنها الحقائبَ على وقتكنّ المصبوغ بصباغ الشفاه». هكذا، تصيرُ الأنثى صانعةً للحياة، بما تمثّله من طاقة خلق وابتكار وتحوّل، وخيالها خيالٌ كلّي، «خيالٌ/ يتدحرجُ/ كزرّ/ مقطوع».
*
في قصيدة بركات، يتدحرجُ الخيالُ الشّعري، ساطـعـاً بهياً، كوميـض البـرق، محـدثاً خلخــلةً أسلوبية في بنية القصيدة الغزلية وأفقها الرؤيوي. يخرج الشاعر عن توحّده الذّاتي بالأنثى، ليحلّل صورتها الجمعية من خلال فيض مــن استعـارات العشق التي تكرّس زمناً حداثيـاً، يقيـم دائماً على حافّة الأشياء: «يكفيكنّ أنكنّ/ كنتنّ/ أبداً/ على/ حافّة/ كل/ شيء». فالجمالُ، بمعناه الحسّي والرّوحي، كما يراه سليم بركات، لا بدّ أن يضمرُ القطيعةَ الجماليةَ مع كلّ تقليدٍ غزلي، مــن خــلال الإقامة في الحيرة القصوى، والارتحال الدائم باتجاه الكلمة الخلاقة، الكلمة الأنثوية الساحرة التي تضيء كلّ دلالة.

قديم 02-26-2016, 04:12 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
يوتوبيا سليم بركات الضالة
2006/09/29

أمجد ناصر
بصدور روايته موتي مبتدئون (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ 2006) يكون في حوزة سليم بركات ثلاث عشرة رواية، مقابل اثنتي عشرة مجموعة شعرية، واذا أخذنا في الاعتبار ان اعماله الاربعة الاولي كانت في الشعر، ترجح عنده، والحال، كفة الرواية علي كفة الشعر.
ولكن هذه ليست قسمة صحيحة.
ولا هذا التصنيف الاجناسي الخارجي يرسم حدودا قاطعة بين الشعر والسرد.
اذ ان كلمة (شعر) لا تعني غياب (النثر) او (السرد) اللذين هما (عمود) الكتابة الروائية، كما ان كلمة (رواية) لا تعني غياب الصور والمجاز والكثافة اللغوية، وهذه، تقليديا، من عدة الشعر.
تصنيفات كهذه لا تشفي غليلا في اقامة الفوارق بين (سرد) سليم بركات وشعره، فمن شأن هذه الكتابة، ككل كتابة، (وتحديدا كتابة سليم بركات) ان تخترق القواعد الاجناسية المتعارف عليها صانعة مجالا تعبيريا لا تلم به محددات اكاديمية جاهزة.
منذ البداية كان واضحا ان لسليم بركات عالما خاصا.
دليل ذلك موضوعاته، لغته، تدفقه، المجري العريض الذي تشقه الكتابة.
ومنذ ان اصدر كتابه (السيري) الاول الجندب الحديدي كان واضحا، ايضا، ميله الي سرد مكثف لا يخفي شغفه بالحكاية ولكنه لا يعول عليها تماما، فالحكاية، هنا، مضفورة باللغة المنحوتة الهادرة والمجازات المتصادمة التي تصدر عن مخيلة جامحة.
تساءلنا عندما اصدر سليم بركات (سيرة) طفولته في الشمال السوري عن السبب الذي يدفع شابا في مطلع الثلاثينات من عمره الي كتابة سيرة، وهو الجنس الادبي الذي يكون، عادة، نهاية مطاف الكتابة وليس مستهلها، ولم نكن نعرف ان من هذا الكتاب (وربما من كتاب ابكر بعنوان كنيسة المحارب لم يدرجه سليم بين اعماله) سيطلع الروائي الكامن فيه، وستتناسل منه سلسلة متشعبة من الروايات.
لم يكن عالم السيرة (الجندب الحديدي) مختلفا عن عالم اعماله الشعرية الصادرة حتي ذلك الوقت، إذ ان الاثنين يؤلفان اسطورتهما من نفس البقعة الجغرافية التي لم تغادرها، حسب زعمي، معظم اعماله اللاحقة.
وليس في هذا الحصر المكاني قدح ولا تقليل من ضخامة منجزه الابداعي، فأسطورة الشمال التي الفها سليم بركات لها مواصفات التراجيديا الكاملة من حيث توافرها علي ابطال مأسويين واقدار عنيدة ونهايات فاجعة: تلك هي القضية الكردية وجغرافيتها الممزقة.
وهذا يعني ان سليم بركات كاتب تراجيديا وليس كاتب قضية بالمعني السياسي اليومي الذي يختصر المحنة المقيمة بالشعارات والبرامج المتقلبة.
ليس لـ(الشمال)، في ادبنا العربي (او المكتوب بالعربية) هذا الوقع الذي يقدح عزلة ونفيا وبردا واشواقا لا تحقق كما هو عند سليم بركات، حتي صار (الشمال) عالما مخصوصا وليس جهة او صوبا.
المفارقة ان عددا كبيرا من الكتاب العرب هم من جنوب بلادهم (مثل المصريين واللبنانيين والعراقيين) غير ان الجنوب لم يتحول، عندهم، حسب علمي، الي عالم قائم بذاته كما هو (الشمال) عند سليم بركات، استثني من ذلك محمد خضير كاتب البصرة وصانع اسطورتها.
وفي سياق تحول الجهة الي عالم ومعني ودلالة يقفز الي اذهاننا مباشرة وليم فوكنر الذي جعل (الجنوب) الامريكي رمزا للعزلة والتحلل التدريجي، وذلك مثل رائد لسنا بصصده الآن.
هكذا، اذن، تتضخم مدونة سليم بركات الروائية، لتفوق منجزه الشعري وتلتهمه وتتمثله في هديرها اللغوي وصورها الرعوية وحوارياتها الناطقة بغريزة الماء والطين، تماما مثلما هم عليه شخوص رواياته من شهية كاسرة لالتهام كائنات اللحم المسكينة التي تدب امامهم او تطير، لسوء حظها، في فضاء قنصهم الذي لا يرحم.
وبتوطد منفي سليم بركات تزداد ضراوة اعماله ووعورتها، وإذ لا يحفل كاتب المنفي الكبير هذا بأي سياق او دُرجة ادبية، لا تأخذه، كذلك، شفقة بقرائه الذين لا يعلم في اي ارض يقيمون، اللهم سوي في خلاء العربية الواسع الذي استنبط منه بركات، صياد المعاني المتمنعة، مفازته الخاصة وجعلها ميدان رمايته، فأمعن في امتحان صبرهم علي مواصلة طريق موحشة يأنس فيها الانسان الي الوحش اكثر من استئناسه بمن هم علي صورته البشرية.
كنا، مع اولي رواياته، نعرف اين نضع خطانا، كانت اسماء العلم المعروفة تدلنا علي ارض شخوصه النافرين ومصائرهم المسنونة علي حجر صوان، ولكننا شيئا فشيئا رحنا نفقد طرف الخيط، وتنقطع بنا السبل علي نحو ملغز ومحير.
لم يعد العالم معروفا ولا الطرق اليه معلومة، فعندما تضع خطوة اولي علي طريق البحث عن الكنه والماهية والاصل تلج هذه المتاهة المتشعبة التي لا يخرج منها داخلها.
لم تعد الحكاية طريقا ولا (الثيمة الكردية) التي استأنسنا بها في خطوتنا الاولي معه صالحة لوصف اعماله المتراكبة طبقا فوق طبق، ولا بقي (الشمال) استعارتها السهلة، بل ان البشر ليسوا دائما اهلا للبطولة او الحكمة أو اجتراح التواصل الشقي، إذ يمكن لمملكة الحيوان والطبيعة ان تبزا الانسان في هذا الصنيع، من دون ان يشكل ذلك مجازا ركيكا او درسا او موعظة من اي نوع، كأن ذلك هدم لصروح وامثولات ملفقة صنعها التنطع البشري ورمي عليها اقنعة من (التحضر) أوهي من نسيج العنكبوت، كأن ذلك ضرب من (بدائية) تلتزم، علي نحو اخلاقي صارم، بالقوانين الاولي المؤسسة: القوة والضعف، الجوع والشبع، الشره والكفاية، الشوق والوصل، الممكن والمستحيل.
باختصار، كأن ذلك الصنيع عود بالاشياء الي اصلها: العزلة الحرون المقيمة حتي في ما يبدو موضع اجتماع واشتراك.
من يريد الوقوف علي الفرق والاختلاف، في المدونة الشعرية والروائية الشاسعة لسليم بركات، سيجدهما، سيري اللغة والاشكال وهي تتدرج من البسيط الي المعقد، والعالم من الواقعي المألوف (نسبيا) الي الغريب المجترح بمخيلة مسننة، ومن العضوية المفرطة الي التأمل في الكنه والماهية، ولكني ازعم، مع ذلك، ان التشابه (ان لم اقل الوحدة) هو الذي يطبع عالمه في جوهره المنطوي علي جمرة وجوده الحائر.
تنطلق كتابات سليم بركات من بؤرة واحدة ثم تروح تنداح كأمواج تتباعد عن المركز، لكن صلتها، في ظني، لا تنقطع عن اصلها المؤسس.
البداية، كما اسلفت، في تلك البقعة الصغيرة من الشمال السوري حيث يستبطن (الموضوع الكردي) فكرته عن نفسه وفكرته عن عالمه المحيط وتتصاعد اناته مع النفث المتواصل للدخان من صدور منخورة بالتبغ والاشواق، سنري، في هذا البدء، جغرافيا وحيوات مرصعة بأسماء علم معلومة او مجهولة من لدننا، لكنها اسماء علم واقعية لا غرابة فيها سوي جهلنا بها، كجهلنا في أمر محنتها نفسه، ثم تأخذ الاعمال اللاحقة في توسيع اطارها (لبنان، قبرص، وربما السويد) فتحل اسماء محل اسماء ومشاهد محل مشاهد ولكنها، حسب ظني، ليست سوي اقنعة للاسماء والمشاهد الاولي.
تحسب الكتابة انها غادرت تلك البؤرة ولكنها لم تفعل أكثر من تذرية عالمها وغربلته وتصفيته للوصول الي فكرته، أو المجرد فيه، رغم تسلحها بالعناصر الحسية ثقيلة الوطء.
اعود الي فكرة (المعني)، لأقول انها الأصل في كتابة سليم بركات حتي عندما لا يبدو الأمر كذلك، او حتي عندما تبدو الكتابة مجرد تمارين لهو شاقة، ما يجعلني اعتقد انها تتخذ من (الثيمة الكردية) استعارة لسؤال الانسان عن معني وجوده.. وفشله الذريع في اقامة مثاله علي الارض.

القدس العربي

قديم 02-26-2016, 04:54 PM
المشاركة 26
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات في نهايات العقد الثالث من تجربته الشعرية
الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها*

صبحي حديدي - كاتب ومترجم من سوريا يقيم في باريس

-1-

القامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصى الشمال الشرقي من سورية، تأسست في عثسرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن. وسرعان ما أصبحت أبرز مدن وبلدات منطقة "الجزيرة"، التي سميت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهري الفرات ودجلة، والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسر تنوعها الانساني والثقافي واللغوي والاثني: من الشمال تحدها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشاد وتدمر. وبالمعنى السوسيولوجي والاقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة "الجزيرة" وبالتالى مدينة القامشلي بوجه خاص تنفرد عن بقية المناطق السورية في أن معظم سكانها من الوافدين الذين قدموا من مناطق الداخل السوري (دمشق وحلب) بحثا عن العمل الموسمي ثم استقروا. أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هربا من الاضطهاد العرقي أو السياسي.

ذلك جعل القامشلي موطنا لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحل والعشائر المستوطنة الاقطاعية، الأمر الذي استدعى تعددية أخرى على صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراث والأساطير. وهذا الموقع الفريد لمنطقة "الجزيرة" يذكر على نحو مدهش بالأبيات التالية من الشاعر اليوناني كوستيس بالاماس.

ذلك المثمن القائم على هندسة مريعة، والذي قطنه

محاربون قدماء

كان يتحكم بالسهول، مثل ذروة مجللة بمشيب ثلجي

معمر

من بابل الى سورية، ومن جبال طوروس الى لبنان.

من قلاع طرسوس الى خلافات بغداد (1)

في القامشلي ولد سليم بركات سنة 1951. وفيها ترعرع ودرس وحصل على الشهادة الثانوية وانتسب الى جامعة دمشق - قسم اللغة العربية وآدأبها في العام 1970. ثم استقر نهائيا في العاصمة السورية بعد انتقال أفراد أسرته اليها. وفي عام 1971. وهنا اعتمد على الذاكرة الشخصية، نشر بركات أول قصائده في مجلة "الطليعة" الأسبوعية السورية التي كانت تضم قسما ثقافيا دسما وحداثيا. استقطب الأسماء الشابة بصفة خاصة. آنذاك.

كان المشهد الشعري السوري يضم أمثال علي الجندي وممدوح عدوان وعلي كنعان ومحمود السيد ومحمد عمران في صفوف الشعراء الأكبر سنا وتجربة ونتاجا. "المكرسين" لهذا السبب الجمالي أو ذاك السياسي، وكان يضم أمثال نزيه أبوعفش وعادل محمود وبندر عبدالحميد وابراهيم الجرادي ومحمد مصطفى درويش ومحمد منذر المصري في صفوف الشعراء الأصغر سنا وتجربة، والأقل اندماجا في المؤسسة.

في خلفية هذا المشهد الأجيالي. إذا صح القول. كانت أشكال كتابة الشعر تخضع لضغوطات جمالية (صامتة بمعنى ما) من المعلم الكبير محمد الماغوط، الذي أصدر مجموعته الشعرية الثالثة "الفرح ليس مهنتي" ثم انزوى في عمل وظيفي محض هو رئاسة تحرير مجلة مغمورة اسمها "الشرطة". وضغوط أخرى غير صامتة مارستها قصائد شعراء قصيدة النثر السورية، من أمثال: سليمان عواد، وسنية صالح، وحامد بدوخان، واسماعيل عامود. كان شكل التفعيلة هو السيد بصفة إجمالية، ولكن "التعايش السلمي" مع أشكال الكتابة الشعرية الأخرى (وقصيدة النثر بصفة خاصة) كان سيد اللعبة في الآن ذاته، بدليل الترحيب الواضح بنشر نصوص الشعراء الشباب في منابر رسمية مثل مجلة "الطليعة" وملحق "الثورة" الأدبي، وشهرية "الموقف الأدبي" الصادرة عن اتحاد الكتاب. آنذاك أيضا، اخترق سليم بركات هذا السطح الراكد، الرتيب، المتوافق على تعايش سلمي بين الأجيال والأشكال والموضوعات.

واذا لم تخني الذاكرة، هنا أيضا كانت قصيدة "نقابة الأنساب" هي الكتلة الثقيلة التي سقت بغتة على السطح الراكد وأحدثت ارتجاجا عنيفا كان من المحتم يصغي اليه الجميع:

"هذا وجهي العصري"

أنا آت

فليرقب كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات.

عبر تخوم الغربة في أجفان صبايا وعبر الساقية

اختصر الزمن الخائف في عين النسوة. أزجي الزمن

القرشي اليها

لا الدمع ونزف الفقراء ينيخ الرحل، طوافي

خلفه قوافل زغب.. فليرقب

كل مليك شحاذ في أرض الردة من أين تجيء

الطعنات

"هذا وجهي العصري"

بلا نعل أرحل نحو بلاد الفرس وأمصار الروم وأرفع

وجهي للظلمات أسائلها

وأسائل رجلي الداميتين عن الأرض العمياء وهمس

خفافيش سماني

وبكل مثولي بين يد الغربة أصرخ

تصهل أفراس الحرب على أبواب الكعبة يا أهل الشام

ووحدي

أبسط للملتجئين الى ظل الأحجار السوداء ودائي

أتقطع حين ينوس الموت على وجه الحجاج

وبين الصدر المشرع للطعنة والرمح الظامي اتخثر.

أزحم ملكوت الرهبة صدعا يفصل عربات الزمن

اللاهث قدامي ووراثي

أتصاعد في أنفاس الكعبة جمرا تتنفسه الصحراء فتحبو

حاملة هزج قبائلها نحو قوافي الحرب، أزنر نسب

الراجل بالفارس.

والهارب بالثابت في الحومة حتى يرخي النخل النادب

جنح الدمع علي..

أبايع في حمحمة الأرماح لواني

أضرب شرقا، غربا، ضرب اليائس.. يسقط وجهي

الأول

أضرب. يسقط وجهي الثاني

أتراجع بالحجاج الى عرفات غبارا يتكسر تحت حوافر

ريح الوهن القاصم

ثم نموت لنحلم

ثم نقوم لنحلم

ثم نقصد أوردة كي نلمح في الدم مجيء الأشجار مع

اليوم التالى عاقدة

فرح الأنهار على الهامات عمائم (2)

كان الجديد واضحا وطاغيا وآسرا. وكان صارخا أيضا، في هذه الفصحى الحارة النزقة المصفاة، التي لا ترجع أصداء البيان العربي التقليدي ولا المجاز البلاغي المعتاد. وفي هذه البنية الايقاعية المتسارعة وفق تخطيطات متقطعة ومتصلة في آن، وفي هذه المرجعية التاريخية والتراثية الشفيقة بقدر امتزاجها الكثيف، وفي هذا التصاعد الدرامي لضمير المتكلم المفرد، الأشبه بـ "أنا" جمعية لا تكشف عن تعدديتها الا في الخاتمة المفاجئة، وفي هذا التقسيم البارع للسطور الشعرية، والتغييب الذكي للقافية. والهندسة السلسة للعلاقات التركيبية بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية.

كان سليم بركات في العشرين من عمره حين كتب هذه القصيدة وكان الحضور الانساني لهذا الفتى الكردي القادم من أقصى الشمال الشرقي (بجسده النحيل، وقسمات وجهه الطفولي، والدهشة الذاهلة التي لا تفارق محياه، والبراءة الطافحة التي لم تكن تطمس بريق الذكاء والتوقد)، قد بدأ يمارس فتنة غير مألوفة في الأوساط الأدبية السورية مطلع السبعينات، سرعان ما انقلبت الى افتنان بالقصائد اللاحقة التي سينشرها بركات في الدوريات السورية: "مبعوث الفراشات"، "قنصل الأطفال"، "المطالبة بجسد فراشة غريبة". ولن يطول الزمن حتى تضيق العاصمة السورية بقلق هذا الـ "رامبو" الكردي المتمرد الفاتن فيغادر الى بيروت باحثا عن الحرية الشخصية أولا، والهامش الحر الذي سيتيح له نشر قصائده ذات الموضوع الكردي الصريح: "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة"، "الكواكب المهرولة صوب الجبل"، "أنا الخليفة لا حاشية لي". وهي القصائد التي ستشكل العماد الأهم في مجموعته الشعرية الأولى ذات العنوان الطويل وغير المألوف: "كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا" (1973).

وكما أحدثت قصيدة "نقابة الأنساب" صدمة بهيجة في دمشق، كذلك أحدث نشر قصيدة "دينوكا بريفا..." صدمة مماثلة، أكثر تعقيدا ودلالة في الواقع، حين نشرت للمرة الأولى في مجلة "مواقف" سنة 1972. كانت القصيدة تطرح اسم سليم برك ت بقوة، وترشق الماء البارد في وجه أعراف الكتابة الشعرية العربية في قلب بيروت، عاصمة الحداثات العربية، وتكرس الشاعر ناطقا بليغا (بفصحي جبارة غير مألوفة) باسم الموضوع الكردي، في التاريخ والجغرافيا والحكاية والأسطورة. آنذاك لم يخف على أحد، وفي طليعتهم أدونيس رئيس تحرير "مواقف" الذي سارع الى احتضان القصيدة مثل مجموعة بركات الأولى، أن هذا الصوت ليس جديدا فحسب، بل هو مباغت وانشقاقي واختراقي.

وكانت القصيدة قد أحكمت شد الروابط بين الحكاية والفانتازيا، بين الوقائع المادية ومحفوراتها السرية في باطن الوعي بين التجسيدات البدئية لما يجري على سطح المحاكاة الطبيعية والتصوير البصري التشكيلي الآسر، بين المكان بوصفه أكثر من مجرد كيان جفرافي معرف أو قابل للتعريف، وبين المكان ذاته بوصفه موقع التنقيب عن الاستعارة المفتوحة، عن الهاوية التي تتقلب فيها حكايات البشر (الكرد والبداة والآشوريين والشركس)، وحكايات الحيوان (الذئاب والنعاج والكلاب السلوقية وبنات آوى). وحكايات الطير (الكركي، الزرزور، الحجل)، وحكايات النبات (السرخس، الخزامى، العناب)، هذه التي تأتلف مرارا لتشكل حكاية واحدة حاشدة لأسطورة تنفجر بعنف، في اللغة وخارجها، وفي الصورة وأعلى منها، وفي الايقاع المنتظم والايقاع المتفتت.

وهذه القصيدة تسجل، أيضا، أول أمثلة استخدام سليم بركات للنثر في قصيدة تواصل الاعتماد على التفعيلة، وإن كانت تلجأ أيضا الى "تذويب" السطر الشعري المستقل عن طريق إدخاله في مقاطع تدويرية طويلة. ولعل بين أفضل ما أنتجته الكتابة الشعرية العربية المعاصرة التي تعتمد النثر ذلك الاستهلال الأخاذ الذي يفتتح القصيدة:

عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجر

مؤخراتها فوق الثلج

وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب،

أسمع حشرجة دينوكا.

في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت

السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط

العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية

تسوق قطيعا من بنات آوى الى جهة أخرى خالية من

الشظايا.

-2-

في قصائد مجموعاته اللاحقة سوف يواصل سليم بركات بحثه المديد (الشاق والمدهش) عن توازن الانواع، في المساحة الواسعة من حقول التنويع التي توفرها ديناميات الشكل الأدبي. في قصيدة "قنصل الأطفال" (من المجموعة الأولى) جرب اجتراع نسق شعري تركيبي يعتمد ايقاعات الجاز والتتابع السيمفوني في آن معا. وفي "اقتلوا روناشتا" (من مجموعة "هكذا أبعثر موسيسانا"، 1975) اعتمد المشهدية المسرحية، والكورس، والمرونة النغمية للايحاء بالأجواء الاحتفالية والرثائية والطقسية، وفي "الفصيلة المعدنية" (المجموعة ذاتها) قارب النثر من جديد، وإن كان قد فصل المقطعين النثريين عن جسم القصيدة بوسيلة منحهما عنوانين مستقلين: "سيناريو للشعر"، و" سيناريو للثلج". وفي "البراري" و" فراشات للعواصم" (مجموعة "للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك" 1977) حاول تقديم الجملة الشعرية التي تكسر علامات الوقف والترتيب الطباعي للسطر الشعري، وترفد التشكيل الهندسي للصفحة بتفصيلات ملحمية وتغريب لفظي ومقاطع متجاورة محاطة بأشكال هندسية. كذلك تسجل هذه القصيدة غنائية طافحة طارئة على أسلوبية بركات، وميلا الى تشديد القافية، والى الايجاز المقطعي والتكثيف اللفظي:

للشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقود الى أعشاش الماء

كبدي

وعصافير دمشق، وسمائي

وأهرول بين الأعشاش لأمسك موجا

أو عاصفة

وأهرول بين الأعشاش لأمحو

هذا الزبد العربي عن الأسماء.
كل شهيد يتقدمني الآن،

وللشهداء

أنثر قلبي كفراشات

وأقول: انكسري يا أعلام وغيبي

يا قصبات النصر المترع

بالأظلاف وبالطيب

ولينطلق الأمراء الى نصر أكثر مهزلة،

ولنطلق السفهاء.. سأعلو

نزقا كالغزو على واجهة الصحراء (3).

وفي مجموعته "الجمهرات في شؤون الدم المهرج والأعمدة وهبوب الصلصال" (1979) قدم سليم بركات القصيدة الواحدة الطويلة التي اعتمدت على شكل الكتابة النثرية، وتنويع المقاطع بين الفقرة الطويلة المدورة والسطر الشعري القصير، وتنويع الحرف بين أبيض وأسود، واستخدام الهوامش التي تحيل على ملاحق القصيدة (البغل الأعمى، الحدأة، بنات آوى، بقرات السماء، العرائس، الأدراج) كما اختتم القصيدة بتسعة أناشيد معتمدة على التفعيلة، متفاوتة الحجوم. مشتركة في شحنتها الغنائية العالية ونبرتها الرثائية وبنائها الايقاعي الرهيف. وفي هذه القصيدة الطويلة اتضحت أكثر فأكثر طاقات بركات اللغوية والتصويرية، وبدا أن لا حدود لعدته التخييلية في توليد وشائج بالغة التعقيد بين الصورة البصرية والصورة الذهنية وبين الدلالة القاموسية والدلالة المجازية، وبين مختلف طرائق حشد المعنى وتنظيم مستويات استقباله.

في "الكراكي" (1981)، وهي أيضا قصيدة واحدة طويلة من فصلين، جرب بركات كتابة نص شعري سردي الطابع، روى فيه حكاية ايلانا وديرام (النموذج الكردي من فولكلور حكاية العشق الثنائي، قيس وليلى في جميل وبثينة..). وفي الفصل الثاني القصير قدم بركات عددا من الـ "تعريفات" للكائن الآدمي (ايلانا وديرام لم وللحيوان (التيتل، الوشق، السلوقي) وللطير (الهدهد، البشروش، السنجاب). بعد سنتين سوف يصدر بركات مجموعته السادسة "بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح". وسوف يضمنها قصيدته البديعة "فهرست الكائن" التي ستواصل تراث "تعريف" الكائنات الحية، وسوف تمنحنا تلك الفرصة البهيجة في استعادة أدب الحيوان العريق، والاحساس بموضوعات الطبيعة كأشياء مشاهدة ومعاشة من الداخل وليس كمدركات ذهنية مفهومية. وفي العديد من الحوارات الصحفية اعتبر بركات أن الحيوان هو الحرية المتماهية على نحو مطلق مع الغريزة. وأنه هو "اللادنس" "الممتليء بعافية الدور الأعمى الأكثر جمالا".

وفي "فهرست الكائن" نقع على وصف للفراشة والفقمة، والحباحب، والحجل، والقطاة واللقلق والحنكليس، والخلد، والعنكبوت والحلزون والديك. والزيز، والطاووس، والفهد، والعصفور واليعسوب والخفاش، والثعلب، والحمار والغراب، والنسر، وفي وصف هذا الطائر الأخير يقول بركات:

أهو وصي الأقاصي يدون مديح الأقاصي، أم سهر

الريش على حجر المكان؟ لا يا سهر الريش، لا واسع

أو مديد إن تراءى من جناح: لا جناح لو لم يفق

الواسع المديد. وأنت، عليا, على أي حال، تعزل

الخيالات، وفي ظللت يتماوج الصلب. مره، وأخفق

كنبضة في الغد العالي، غد العاصفة وحدها أن تقرع

الفراغ القديم.

مر، لا:

فليمر الفضاء الحيران في ظلك المحير،

وليخلع المرئي مهاميز عصيانه. (4)

قصيدة "حديد"، في المجموعة نفسها، مؤرخة في "نيقوسيا، شباط -آذار 1983". وهي تدشن خروج سليم بركات من بيروت إثر الاجتياح الاسرائيلي لعام 1982 وترحيل الفلسطينيين من لبنان. وكان بركات قد ارتبط بمؤسسات المقاومة الفلسطينية في وقت مبكر من اقامته في لبنان، وكتب يوميات بعنوان "كنيسة المحارب" (1976 لم يصف فيها حرب الجبل، وتعاون على نحو وثيق مع محمود درويش في فصلية "الكرمل" ومع دار "العودة" للنشر، ودار "النورس" التي اختصت بأدب الأطفال. ولعل بين أجمل قصائد بركات تلك التي يرثي فيها صديقا طلال رحمة، الذي استشهد في حرب الجبل.

"حديد"، إذن، هي أولى قصائد سليم بركات بعد استقراره في نيقوسيا، سكرتيرا لتحرير فصلية "الكرمل" وهي ترتدي أهمية خاصة في تاريخه الأسلوبي، لأنها أولا تمثل نوعا من الارتداد الصريح و(العنيف ربما) الى شكل التفعيلة الذي كان بركات قد أقلع عنه بصفة شبه تامة: ولأنها، ثانيا: تمثل مزيجا ثلاثيا يتوازن فيه الموضوع الغنائي والرثائي - الملحمي والسيري - التاريخي، على نحو طاريء لم يسبق لبركات أن قاربه في هذا المستوى الرفيع من التكافؤ والتشابك والمتانة، ولأنها، ثالثا، كانت تنذر بما ستكون عليه موضوعات قصائده اللاحقة، خصوصا في التمثيل الميتافيزيقي لتفاصيل اقامته في المكان الجديد. كما في قصائد "منزل يعبث بالممرات" و"منعطفات. ظهيرة من ريش. دهاقنة يصفون الليل. غبار مسحور، وغد كالعداء يتهيأ لأزقة الغيب".

قصائد مجموعته السابعة "البازيار" (1991) سوف تعكس عودته الى نوع من السكينة الأسلوبية، والتأمل الأكثر هدوءا في التاريخ الشخص والذاكرة الجمعية والمحيط الجغرافي، سيكتب عن نفسه (في "أسرى يتقاسمون الكنوز" و "تدابير عائلية"). وعن قومه الأكراد (في "مهاباد")، وعن صديقا محمود درويش (في "محمود درويش: مجازفة تصويرية"). وفي هذه القصيدة الأخيرة رسم بركات تفصيلات المكان في بور تريه من علامات ووحدات رهيفة ومتنافية الدقة، تتناوب في التعيين والتجريد أثناء صياغتها لترتيب جديد من العلامات سرعان ما ينفك عن الانطباعات المألوفة التي تسندها اللغة الى العناصر فتتحول سيرورة الوصف الى ما يشبه الرسم التنقيطي الشفيق لصاحب المكان (محمود درويش). المحبرة حمى ذات مكاييل يندلق منها الصعتر، قربها تتعارك التواريخ كرعاة تداخلت قطعانهم، والغرف تتناظر، والرفوف الثقيلة تسهل خلسة عبور الكلمات من كتاب الى كتاب، الى أن تسير خاتمة القصيدة هكذا

ما المكان الأسير

حين تأخذ في يدك الريح صوب مفاتيحها ؟

ما الصدى؟ ما الحكاية، ما نزقها ؟

ما الأنين الذي يتهادى بسلطانه في هوى الحبر ؟ نهب

صغير

يخبيء للورد رائحة البن في سهر قاد هذي الحديقة

الى حيث يشكو الصباح

انه لم ينم في يديك اللتين اغتلى فيهما ذهب لم ينم

فأعدت الحديقة

الى وردها، وسرقت من العتبات الرقيقة

شعاعا له قسمات المكان، وأرخت للترف

بالذي أسرتك البراعم في ظنها أي ظن

سيلقيك في شبهات من السعف

كي يرى في أعاليه أنك أشفقت أن تنثر الريح أكبادها

في يديك

فآويتها والتجأت إليك ؟ برق

على زنبق أو عسل

يتلمس إنشاده ويغير عليك

بشقيقاته يتهتكن مثل القبل

فانتهب ما تشاء. المكائد من ألق، والحرير الأمين

يعيرك كتانه،

والهبوب الذي أنت فيه هبوب السنونو. (5)

-3-

في برهة شديدة الخصوصية من مساره الأدبي والشعري بصفة خاصة، كتب الشاعر والناقد الانجليزي صمويل تايلور كولريدج (1772-1834):

ما من أحد يستطيع القفر فوق ظله

ولكن الشعراء يقفزون فوق الموت.

كان ذلك عام 1802. قبيل وقت قصير من اعتراف كولريدج باحتباس الشعر في داخله. وما يعنيه ذلك من فقدانه لواحد من أمضى الأسلحة لمواجهة حالة حادة من تضخم الاحساس بالموت. ولقد قدم في عمله النثري الفاتن "دفتر هوامش" جملة تأملات ثمينة حول رغبة الشاعر في أن يموت مع موت الشعر، وأن "يذهب الى ما بعد الكلمات، حيث الظلمة نور والسكينة احتفال".

سليم بركات في قصيدته "تصانيف النهب"، والتي تفتتح مجموعته الشعرية الثامنة "طيش الياقوت"، يباشر طورا من تجربة الحياة مع الشعر، هو عكس التجربة التي وصفها كولريدج: إنه يدشن العقد الثالث هن تجربته الثرية بأكثر من محور قطع واحد مع أعراف العقدين السابقين، ثم يتأبط الموت بعد أن جاوره وجرده من أية رهبة ميتافيزيقية ويقفزان معا فوق ظل مراوغ لا يليق إلا بالشاعر في لحظة شديدة الخصوصية من مساره الشعري.

بمعنى آخر، في هذه القصيدة (ثم في القصيدتين التاليتين "الاقفال" و "استطراد في سياق مختزل"، خصوصا وأن موضوعة الموت تطفى على المجموعة بأسرها). يبدو سليم بركات وكأنه يدخل في جهاد مرير مزدوج مع النفس الشاعرة القديمة ومع الأعراف الشعرية السائدة، سواء لجهة تطوير التجربة الفردية من حيث انتهت في آخر مجموعة شعرية أو لجهة مخالفة الأساليب والخيارات التعبيرية المحيطة التي استقرت نسبيا وحظيت بقدر لحير من الاجماع على صعيد الكتابة والذائقة والتغطية النقدية. إنه أشبه بمن يجاهد لكي يكتب شعرا لا يذكر بسليم بركات بقدر ما يحرض على معارضته، ولا يستدعي القراءة الآمنة بقدر ما يدفع الى أخرى منفردة محفوفة بالمشاق والعسر ولا يستكمل مرحلة جديدة من النضج إلا إذا أمات (عن سابق عمد وتخطيط فنيين) قسطا هاما وغاليا من مراحل النضج السابقة.

وهذه في الواقع، حالة نادرة من حالات تطوير التجربة الفنية الشخصية، يعلمنا التاريخ الأدبي أنها تكاد تقتصر على الشعراء دون الروائيين والتشكيليين والموسيقيين. ويغير جواز المرور الجبار الذي ندعوه بـ "اللغة الشعرية"، ليس للفنان كبير حظ في تحدي أنظمة المعنى والدلالة والتعبير، ثم إعلان اليأس مما ترتبه وترسبه في القرار الجمعي العميق للقراءة، إذا لم يتحدث المرء عن إعلان التخوين والمقاطعة الشاملة، وكيف يحق لغير الشاعر أن يقول على سبيل المثال:

أتصفي الي ؟ أراك سهوت، أيها الموت، وأنت تحصي كتائب من أشباح تمهد الوقت دفترا دفترا لانتصار الحدائق -أشباح كلوعة تصعد المدرج الى الحقيقة، ثقيلة في حديدها، وخوذها لتسلم الباشق الى اليقين.

أتصفي الي أم الى حياة تسهر، أنت، على كنوزها، أيها الموت ؟ تعال ندخل أسواق الجزارين الذين يستميلون الحكمة الى فكاهاتهم، رافعين رؤوس الأغنام وأحشاءها الى الموازين، وقد يقشرون أظلاف الماعز، أو يهوون بالسواطير على اضلاع الثيران. تعال. إنهم يصنفون العضل، ويرققون الشحم كالمجازات، كأنما يعرفون أن المضغ الذي يقرقع إنما هو من فم الأرض تمضغ القيامة قبل نومها. (6)

اللغة هنا تدخل في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (أشباح كلوعة، تصعد المدرج الى الحقيقة، تسلم الباشق الى اليقين، يرققون الشحم كالمجازات)، وفي تناظرات صوتية حادة أقرب الى تنظيم النشاز من حول التآلف. وهي تقص القاريء عن خطوط استقباله الواعي (التقليدي) لدلالات الألفاظ، وتدفعه الى المستوى السحري الخام للمفردة حيث تدور عمليات الاستقبال في محاور استعارية - لاواعية (الأمر الذي سأتوقف عنده لاحقا). وهذه خصائص لصيقة بتجربة سليم بركات وأشبه ببصمة شخصية طبعت نتاجه، ربما منذ قصيدته "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" والتي تفتتح مجموعته الشعرية الأولى، وانتهاء بقصيدته "تدابير عائلية" التي تختتم مجموعته السابعة. ولكن سليم بركات هنا غيره في المجموعات السابقة، والبصمة إياها تبدو وقد تجللت بغلاف يطمس الكثير من معالمها دون أن يفلح في حجبها تماما.

وهو غلاف غير رقيق في واقع الأمر، لأن سليم بركات يصنع عادته من عناصر متواشجة تضم الجملة الاستعارية والعمارة الايقاعية العليا، والتصميم الطباعي الذي يضرب صفحا عن تقطيع النص الى سطور شعرية لصالح توزيعه مقطعيا، ثم اعتماد جرعة جديدة مفاجئة من الغنائية الخفيضة ولكن الصلبة والانشادية والبوحية، كتقي مع جرعة أخرى من التوسيع الملحمي للموضوع المركزي والموضوعات التفصيلية.

تشيخ طويلا أيها الموت فتنسى أنك موت ينساه الموتى ومجازاتك من صوف أغبر أو من قطن مبلول، أيها الموت، مجراتك منكوبة. اسمك منكوب وحبرك الليلي الذي تدون به فراديس الأكيد يفتح الممرات - في السطور- لشموس الموتى

يا لسريرك الذي تمسد الحروب بأيديها القطا نية، ملاءته القصيرة، يا للحروب تطرق عليك الباب في خجل، أيها الموت، لتشغلك كأنثى بحديث الذكر، يا لهباتك التي لا تقدمها مرتين، يا لدوي السطر المحمول على يديك وهو يمزق الكتابة:

ونحن، في المثال أعلاه من القصيدة الأولى ذاتها، نفتقد بعض أسلوبية سليم بركات، أو نفتقد تلك الأسلوبية بمقدار يتناسب مع "التمويه" المتعمد الذي خطط له في غمرة انشغاله بتحدي السيرورة السائدة وممارسة اللعب الحر على سطح الجملة مثلما في باطنها. هو ليس سليم بركات تماما، ولكنه الشاعر ذاته الذي يعطينا أنحشر من برهان واحد قاطع يجعلنا لا نتردد طويلا في وضع توقيعه أسفل المقطع، بل واستذكاره على هوانا، واسترجاع ما نشاء من مقاطع سابقة رسخت في ذائقتنا وليس في وسعه أن يحسن تمويهها الى درجة التضييع أو الاماتة.

هذه القصيدة كتبت في عام 1992، وهي نموذج رفيع على المخاض الذي اعتمل في نفس سليم بركات وهو يقسم طاقته التخييلية بين نص روائي يوظف المادة الأسطورية والتاريخية الكردية، ونص شعري خاضع لضغوطات تلك العدة اللغوية الفصيحة التي هيمنت مرة والى الأبد، وكان امتداد معجمها الثر في الأعمال السر دية بعد تلك الشعرية مدعاة ألق وقلق تعبيريين، في آن معا. في القصيدتين التاليتين (والمجموعة تتألف من ثلاث قصائد فقط) يستريح المحارب بعض الشيء، وتهدأ فورة عبور الظل إذ يميل الشاعر الى التصالح مع ظله اللاهث خلفه، وتنتقل صيغة ضمير المتكلم /ضمير المخاطب، التي تهيمن على المجموعة بأسرها من معادلة الصوت الذي ينتهك ذاته أثناء مساءلة الآخر (الموت، العدم، الشعر، العزلة، التاريخ، المكان،..) الى معادلة الصوت الذي استرد ذاته من جديد عبر القصيدة، لأنه خالقها الذي انقلب الى مخلوق لها على حد تعبير هايدجر:

هب شققت المعاني بين تلابيبها، ودفعت الغد، خلسة

بيديك ليتهاوى على الأدراج المنحدرة الى كمائنها،

هب جمعت إليك المذعورين ليقتسموا رئتيك اللتين

من حريق، وطحنت الأزل في أجران المجرات،

مقتدرا باقتدار الحمى ذاتها، المنزلقة بدلافينها

الصلصالية الى الحبر – هب هذا:

لن تظنن رجاءك إلا نسخا من رقيم الفراغ الجابي.

فأعد، أيها المطوق، مجازات الشكل لينجو اللون،

وموه خندق النور من خلال القيافين.

ففي يأسك نجاة الأكيد، وفي انشغالك عن الأقدار

تشغل الأقدار بوسائسها

وبقدر ما تبدو بعض المفردات في معجم سليم بركات أثيرة لديه، فإنها تظل أثيرة لدينا نحن بدورنا ولسنا نفتقدها في الواقع صانعة لتراكيب لغوية فاتنة، ومشاركة في الانتظام الخفي الدقيق لعمارات بركات الايقاعية، ومفجرة في دخيلة القاريء تلك الفضاءات الغرائبية المتينة في فصاحتها والمرنة المنبسطة في انتهاكها لشيفرات القول التقليدية. وحين نقرأ: "يا المآت ذو الصحاف المثلمة كأن عضها الازل فأدمى الابدية. ويا الذي آلمك ميزان وعدمك نزيف الخوف يتحرى الطبائع بحصافة المهرج الذي من نبات، أيها الموت يا الحاذق كوحشة، أيها الارث النوراني للنسيان النوراني.." فأنى لسليم بركات أن يقصينا عن سليم بركات ! ألسنا ندرك أن قوله "كأن عضها الازل" أو "ويا الذي" لا يمكن أن يشبه البتة (احتمال) القول: "كأنما عضها الازل" أو "ويا أيها الذي؟" الا نقف عي خفايا نسيبى لغوي متين يصنع عمارة ايقاعية متينة ؟

وفي هذه المجموعة الثامنة جاهد سليم بركات للقفز فوق ظله، وجاهد لاستفزاز القراءة التي تقتفي الظل، فنجح مرارا وعلى نحو جدلي يسجل في رصيده، حتى حين كانت المشقة شرطا محتوما، قبيل وأثناء وفي اعقاب القراءة، والارجح أن القاريء، من جهته سيجاهد هنا وهناك دون أن يضل طريقه الى سليم بركات، وسيسجل ذلك في صالح دينامية متبادلة تبلغ أوجها في تلك البرهة الكثيفة من التصالح الانساني والجمال والتعبير بين الشاعر والظل صحبة الموت !*

-4-

الشكل المفتوح كان أحد أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي استقر عليها سليم بركات، من أجل استفزاز القراءة والمجاهدة لتطوير شروطها في آن معا. ومنذ قصيدته الناضجة المبكرة "دينوكا بريفا، تعالي الى طعنة هادئة" أتيح لنا أن نقرأ ما يلي:

1-

دينوكا

ماذا أقول للصيادين الذين يضعون سروجا فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبدالعزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمين التراب ومزاود النعاج. كبيرة أنت، بليلة، مسكونة بالحصاد وبي.أسمع والدك يصيح: دينوكا.. اسمع والدتك تصيح: "دينوكا، احملي خبز الشعير هذا الى المهاجرين وقولي أن يستريحوا قليلا".

كان عددهم يزداد يوما بعد يوم.. من طشقند وخورستان وأرمينيا والجنوب الغربي لروسيا حملوا أشرعتهم وصرر السرخس الى الجزيرة بلا أحذية أو مناجل. وكنت صغيرة لم تدركي أنهم *يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب. أنت تجهلين كيف يعتليء الاخدود بين "عامودا" و "موسيسانا" بجثث البغال والأعضاء المبتورة. تجهلين من أين يحصل البدو على بنادق فرنسية، ولماذا ينتفخون على تخوم القرى حين يهجمون عاصبين رؤوسهم بعباءاتهم. قيل: خرجت من جهة العراء، وخرجت "بريقا" من جهة العراء،، وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة السراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

دينوكا.. دينوكا

أنا متعب، ولا أسمع صوتك حيث أرى هضاب

"معيريكا" وعربات الأكراد المحملة بالقش".

2-

أنا خلفك يا ابنة أيامي الزانية

أدعو ورق العناب الى حيرة شعب: "خف الى

ضاحيتي

يا ورق العناب بسوريا". عجل الله، أنا مشغول

بدخان يعصمني من حرية

أجيال تقتنص الأجيال، مداي سروج وعجاج

أقترح اسما آخر فيه لمائي

وأصاحب ثدييات العصر الى بهو سمندله

وخزاماه.

3-

أخرج من أعرافي ودياري جنديا من جند الوثنيين

وأخرج مرتزقا بالنحل الى أزهار الغرباء

فليكن الموت إذن ملء تراباتي

ولكن النهر رسول الاعدام، أواكبه حتى مسجد

آبائي بالأنباء

وأنا السابح في الياقوت المغلق والأيام المغلقة

أنهال على لغة الأحلام العامة بالطعنات، وأجعل

وجه الأطلنطي

شرفة موسمة تتهيأ للقافلة الشبحية

وأخلى جسدي السفلي يسوح بمزرعة تتشابك فيها

الدمعة والسوسنة

وأخلي لنداماي مسارب حول ضفاف الأبدية (7).

في النمط ( 1) تبدو الخصائص الموسيقية الكامنة على نحو موروث في اللغة الطبيعية وكأنها تنشل وتستفق على أفضل وجوهها إذا عملت جنبا الى جنب مع بعض أنواع المعني (ولاسيما المعنى الاسطوري) لتحقيق الاستقطاب الشعري. علاقة كهذه هي، في حقيقتها، خلخلة أو إعادة صناعة للشيفرة أو جملة الشيفرات التي تحملها المفردة المستقلة، والتي تزيغ أو تغتني أو تنفجر عند تواشجها مع مفردة ثانية. وتلاعنه هذه الاوالية في أمثلة من نوع: "يحتاجون الى الماء والى امرأة مجنونة أو أرملة يدفنونها بعيدا في شقوق البراري لتنبت في سني الهجرات عدسا وجنادب"، أو: "أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة تشمين التراب ومزاود النعاج، كبيرة أنت، بليلة مسكونة بالحصاد وبي"، أو: "حملوا أشرعتهم وصرر السرخس".

من جهة ثانية يقوم تنظيم الفقرة في ثلاثة أنساق تكاملية (المشهد المكاني، المشهد الاستعاري، المشهد المكاني - الاستعاري) وشبه متساوية في تركيبها النحوي المضغوط، يقوم باستنباط عمارته الايقاعية الخاصة سواء في التلاوة أو في القراءة الصامتة. وشعر سليم بركات زاخر بهذه العلاقة بين التراكيب الشكلية في اللغة خصوصا وأن المفردات والعبارات تمتلك ميلا طبيعيا للاصطفاف في أنساق ايقاعية - دلالية ذات شخصية تكاملية، كما في نموذج الدور الايقاعي والدلالي الذي تلعبه مفردة "قيل" في المثال التالي: "قيل: خرجت من جهة العراء وخرجت "بريفا" من جهة العراء، ومن جهة العراء خرج"... " وجاءت الدهشة والطلقات الفارغة التي جلبها الصبية من براميل قمامة اسراي. وقيل إنك عدت بقطيع من النعاج المبتهجات وكبش واحد يخر كالمحارب في كل موضع مبلل بالبول.

النمط (2) يعتمد التفعيلة، لكنه يكسر نظام التقطيع الشعري، ويستكمل تفتيت حدود اللغة الشعرية /النثرية بالنهوض على الدرجة صغر من المجاز (حتى تكاد الاستعارة تختفي نهائيا)، فيبدو سليم بركات أشبه بمن يثأر لطغيان الايقاع على النثر الطبيعي بتغييب أوالية التواشج بينهما، كما تبدت في النمط ( 1). لعبته، هنا، محفوفة بالمخافر، إذ أن المجاز هو حقل لقاء شعرية اللغة الطبيعية بالمخيلة، الى درجة تجعل المجاز لا يأخذ شكل غطاء اللغة بل شكل تجسيدها وكشف مغاليقها. بعبارة أخرى، الاستعارة فكر الشاعر الفعلي وليست مجرد تقنية إبدال تدعم الاسلوب، وهي تمرينه الخلاق الذي يلزمه بالغوص عميقا في - وبعيدا عن - سطح الواقع الذي رسمت اللغة مفاصله وخرائطه عن طريق المصطلح والكليشيه.

ومنذ قصائده الأولى المبكرة برهن سليم بركات عي مراس رفيع في استخدام الاستعارة، وفي حجبها تماما حين يتقصد تحقيق أغراض فنية خاصة بينها تلك الدرجة صفر من الاعتماد على المجاز. ففي مثال النمط (2) يكون التعويض الاول عن درجة الصفر المجازية لـ "حيرة شعب" و " حرية أجيال" أو حتى "مداي سروج وعجاج" هو التخطيط الايقاعي المشدود، للمقطع بصفة عامة، والتخطيطات الثانوية المتلاحقة لأية عبارة تنتهي بعلامة وقف أو تشكيل إلزامي ناف للتسكين بصفة خاصة (الكسرة في "الزانية" و"السنبلة" بهدف التقفية والربط الموسيقي مع "ضاحيتي"). أما التعويض الثاني فهو العلائق التصويرية البصرية بين المدى والسروج والعجاج، وثدييات العصر في بهو وسمندل وخزامى الماء.

النمط (3) ينطلق من مسلمة الشعر الكبرى: الموسيقى التي تتيح للشاعر أن يقوم بما هو أكثر وأشد تعقيدا من نقل الرسالة، الأمر الذي قد يغريه بنسيان الرسالة ذاتها والانجرار خلف الايقاع اللفظي من أجل الايقاع اللفظي كفاية قصوى بذاتها. ومن اللافت أن سليم بركات برهن على سيطرة مدهشة على شدة وخفرت الايقاع في المقطع القصير عظما في ذاك الطويل، أو على امتداد القصيدة بأسرها. ولم تكن تلك السيطرة مبكرة بالقياس الى سنه آنذاك ( 21 عاما)، بل كانت متفوقة تماما بالقياس الى مجايليه من الشعراء وبالقياس أيضا الى عدد لا بأس به من أولئك الذين يكبرونه سنا وتجربة.

فيما بعد سوف يقدم بركات مئات التنويعات على هذا النمط الثالث تحديدا، وسوف يطور تقنيات بالغة التعقيد في مضمار التزويج الناجح للعلاقات الدلالية والعلاقات الموسيقية، أو تلك الكيمياء الصوتية الساحرة التي حاول أبو حيان التوحيدي استكشاف قوانينها الغامضة. وفي المثال التالي من قصيدة "قلق في الذهب". مجموعة "بالشباك ذاتها.."، يكشف بركات عن الكثير من مفاتيح واحدة من بصماته الأسلوبية الأثيرة:

أي قنص هوت وعول فبددت بعضي أسى على

وعدت

كي أراني، هنا في ظريف من الحطام، أو ثقل ليس

يروي وإن رواه الرماد،

كي أراني رفيقا من المراثي إذا يرف منها الجناح والبعد

بي ينقاد

أي قنص؟ سيذرف الليل قلبي الى الصباح. ويخفي

الأليف عني الجمشت

فرهين المشاع إني مطوق باللهاث الخفيف للماء، والحي

حولي حصاد

والفضاء أسر، فعد بي يا قلب، عد بي الى مشاغل

الريح حيث المكيدة حبر، وروحي نساء يداهمن من

حواري المغيب هذا العراء. (8)

الصوت هذا يتنقل بين القول والغناء، وتدخل الكلمات في علائق دلالية ذات طابع غرائبي (ظريف من الحطام، رفيف من المراثي)، وفي تناظرات صوتية حادة تارة وطلية طورا، تناغم في التواتر الهندسي لحروف العين (في السطر الأول) والراء (في السطر الثاني) والحاء (في السطور الثلاثة الأخيرة). والحال إن ضمير المتكلم يلعب هنا دورا شديد الأهمية في استكمال ألعاب العلاقة بين الوقع الدلالي والوقع الموسيقي، لأن القاريء إنما يزج بنفسه في هذه الشبكات من "تشريد" المعنى، ويمارس نوعا ذاتيا من إقصاء خطوط الاستقبال الواعية - الاصطلاحية للألفاظ والمعاني والدلالات والايقاعات، القاريء، بالقدر ذاته، يدفع بنفسه الى ذلك المستوى السحري الخام للغة، حيث تصاغ العلاقة مع المعنى بعيدا تماما عن الكليشيه، وفي قلب تشكيلات استعارية غير مألوفة لضمير المتكلم وهو يلقى في قلب مواجهات غير مألوفة بين العناصر والأشياء والأزمنة رماد يروي، ليل يذرف القلب، جمشت يخفى الأليف، حبر مكيدة حي حصاد..


---------------------------------------------------------------------

******* ******* E-mail: info@amude.de

قديم 02-26-2016, 04:56 PM
المشاركة 27
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في مناسبة سابقة (9)، اتيح لي أن أناقش مسألة التمييز بين الفضاء الطبيعي والفضاء التشكيلي في اللغة الشعرية معتبرا أنها واحدة من أبرز الاستراتيجيات الأسلوبية التي تكفل لقصيدة النثر العربية المعاصرة إمكانية واسعة لاكتساب أرض جديدة في العلاقة مع القاريء، وفي سياق محدد هو منافسة القصيدة الموزونة، سواء استخدمت عمود الخليل أم التفعيلة. وقد كان شعر سليم بركات أحد أمثلتي التطبيقية.

وقد أوضحت أنني أعني بالفضاء الطبيعي ذلك الحيز الذي يدرك بدءا من الجسد الانساني والى الخارج المقابل. سواء أعانت عناصر ذلك الحيز مشهدا متعدد الأجزاء (كما في الاطلاقة على منظر طبيعي) أو مشهدا وحيد الجزء (كما في النظر الى شجرة عزلاء)، أو مشهدا مركبا قائما على الفراغ المادي والامتلاء الرمزي (كما في الوقوف أمام بيداء صحراوية أو بطحاه مغمورة بالثلج). والشاعر في مواجهته لهذا الفضاء الطبيعي يقيم توازنا من نوع ما بين مخيلة ترشقه خارج نفسه، وذاكرة بصرية تشده الى داخل نفسه، ومكان يغلف المخيلة والذاكرة فيبقى الشاعر خارج نفسه وداخلها في آن معا.

الفضاء التشكيلي في المقابل، هو الفضاء الطبيعي وقد انقلب الى رؤيا إبصارية خارقة لوسائل الإدراك المعتادة، وانهارت فيه علاقات التراتب الوظيفي الثلاثي بين المخيلة والذاكرة البصرية والمكان. وتكونت عناصره من مزيج تركيبي لا يسمح بتبادل أو إعادة توزيع أو قلب الأدوار بين عناصر التقاط بصري تشكيلي على الصفحة المطبوعة ذاتها: اختيار شكل هندسي لتوزيع النص، تدوير أو قطع السطور الشعرية وفق عمارة غير مألوفة، إفساد القواعد المعتادة لعلامات الوقف، استخدام قياسات أو ألوان مختلفة للحرف الطباعي، وما الى ذلك.

وعلى سبيل المثال، يقول سليم بركات في القسم الأول من قصيدته "ديلانا وديرام" مجموعة "الكراكي".

هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى وديرام ممسك بريشة الجذور يخط رسائل للضباب الوالي، هادئا لا يفكر في نبيذ ما، أو في نهب، بل في النهر المعلق فوق المدينة، النهر الأعزل الجسور، الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة ويستطلع الحجر، وديرام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت ناقرا بأنامله على غشاء المشهد، كأنما يستوقف الغبار العابر ليحمله زهرة ما، أو طبلا، الى الاعياد التي تتهرأ نعالها من الرقص على المياه. ويرفع بصره، ثانية الى الأعلى الى النهر الجسور ذاته، المعلق بكلاليب الآلهة، صارخا:

"لماذا تتبعني أيها النهر ؟

لماذا تنفخ في بوقك النجيلي فيصعد المنشدون إليك،

حالمين أعضائي في

برعم، ويقظتي في أباريق الصلصال؟

لماذا تريني القرى بين عفرتي إبطيك،

وتحزم المدينة في جريانك بحبل من السيفير وزيزفون

ومن الواضح هنا أن الفضاء الطبيعي يتألف من أجزاء متعددة ولكنها أجزاء لا تصنع أي "مشهد طبيعي" متجانس في وسع الذاكرة البصرية أن تستعيده على الفور من مخزونها البصري وفي هذا المستوى الأول تكون القراءة ملزمة بالانخراط في "تشكيل" مشهدية مركبة من نوع غير مألوف (إذ ليس في وسعها أن تشكل مشهدا أحاديا من نوع مألوف مسبقا)، وتكون قواعد التشكيل مرنة ومفتوحة وحرة وخاصة بكل قاريء على حدة، ولكنها في الآن ذاته تظل محكومة بقواسم مشتركة عليا هي أجزاء المشهد الطبيعي كما اندر فبت في القصيدة. في المستوى الثاني تكون القراءة ملزمة باستحضار موقع الشاعر الانسان في هذه المشهدية التشكيلية (وهو، أيضا استحضار القاريء لنفسه في المشهد). الأمر الذي يفضي الى التماس زمنية الفضاء الطبيعي، وهي زمنية تشكيلية بدورها لأنها تقوم على أفعال متغايرة الأزمنة، وعلى صيغتي التصريح والسؤال فضلا عن العلاقة التبادلية بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.

في المستوى الثالث تكون القراءة ملزمة بتكوين استجابة دلالية إزاء الصياغات التشكيلية لعلاقات المخيلة والذاكرة البصرية والمكان، كما في "دعني في مداي المغلق بثلاثين كبشا وسرير واحد، تتخاطف النساء عليه مملكة لم تكتمل: أهذه استجابة مجازية بلاغية صرفة ؟ أهي استجابة بصرية ؟ أهي استجابة ذهنية رؤيوية ؟ أم هي مزيج من هذه أو تلك ؟ وفي مستوى رابع لابد للقراءة من أن تتخذ موقفا من هندسة توزيع السطور والفقرات والمقطع بأسر». أي انطباعات تخلفها هذه الهندسة ؟ هل تساهم في صناعة ايقاع متباطيء أم متسارع ؟ هل تقوم بضبط الاستقبال. أم تفلت زمامه: هل تتكامل أم تتنافر مع الفضاء التشكيلي الأعلى الذي يغلف القصيدة الطويلة الأم ؟ وما الفارق؟

غير أن القراءة ملزمة بتطوير مستوى خامس شاق بقدر ما هو محرض على توليد جماليات تشكيلية عالية، مستوحاة من ذهول الكائن أمام عبقرية المكان. أو بالأحرى أمام أعجوبة انكشاف خصائص بعينها من عبقرية المكان، لم تكن وليست مرئية خارج برهة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي. والمرء يتذكر قول شارل بودلير:

آه، كم العالم كبير في وضوح المصابيح

وكم العالم صغير في أعين الذاكرة.

واستدعاء الذاكرة، أو الذاكرة البصرية على وجه التحديد، هو معضلة المستوى الخامس من قرا؟ة تجهد لكي تصالح بين مخزون الصور الطبيعية وبين الطاريء التشكيلي الذي يعيد استقلاب تلك الصور دون أن يطمسها، أو يغلفها بأغشية استعارية دون أن يحجب قوامها العضوي أو مكافئاتها المعيارية. ودير ام في قصيدة سليم بركات الشاعر الواقف في قلب العالم ساعة انكشاف المكان أمام نهر يتبعه حاملا قنديل إيضاح الواضح (لماذا تتبعني أيها النهر: لماذا تحمل قنديلك والأرض واضحة كما ترى؟). وديرام هو الجسد الانساني وقد انقلب الى مركز لاسباغ الزمن على الفضاء الخارجي (دير ام يحصي من شرفته ملوكا يمرون، وممالك تجتاز الطريق متوكئة على عصي البازلت). ولكنه المركز الذي تتصارع فيه ذاكرة بصرية طبيعية وأخرى منبثقة من إبصار المشهد على نحو رؤيوي.

وفي النص السابق يمكن العثور على خمسة أنماط من هذا التصارع:

1- بين الصور المتماثلة في كيفية الفعل والمتغايرة في مادة الفعل "هذا عالم يتلى. هذا حبر يتلى".

2- بين الصور المتعارضة في كيفية الفعل والمتماثلة في مادة الفعل: "لماذا تكشفني لنخيل البحر المتشح بهزائم الساهرين ساهرا يؤجج الحقول".

3- بين العنصر الملموس موصوفا في صورة مجردة (النهر المعلق فوق المدينة)، وبين الفعل المجرد والمادة المجردة (النهر "الذي يهييء أعشاشا للهاث الأسلحة، والنهر الذي يستطلع الحجر").

4- بين الكائن الانساني (ديرام) والعنصر الطبيعي (النمر، العاصفة) والموضوع المادي (الجرن، العدس) والفعل الطبيعي (الطحن) المرفوع الى مستوى استعاري: "كلانا جرن تطحن العاصفة فيه عدسها".

5- بين الصورة الثابتة (سهم الشمال، نورج المحارب، رهيف المدينة)، وبين الصورة المتحركة (نافرا بأنامله على غشاء المشهد، تنفخ في بوقك النجيلي، تحزم المدينة في جريانك).

وفي جميع الأمثلة السابقة لا تملك ذاكرة القاريء البصرية أي مخزون صوري طبيعي يسمح بالتفكير في "عالم يتلى"، أو "نخيل متشح بهزائم الساهرين"، أو نهر يهييء الأعشاش للهاث الأسلحة، أو "جرن تطحن فيه العاصفة العدس ".. أكثر من ذلك، يبدو النص السابق - وربما شعر سليم بركات بأسره - وكأنه لا يستمد بنيته الاجمالية إلا من هذا الاحتشاد الزاخر لأمثلة التصارع بين مادة العالم الطبيعي وصور التقاط المادة ذاتها على نحو رؤيوي تشكيلي. ورؤية بركات تقوم تارة باسباغ المحتوى السحري - الطفولي على المشهد المألوف، أو تقوم طورا بترقية عناصر الطبيعة الخام الواضحة الى عناصر تشكيلية متسامية في مشهد رؤيوي خارق للمألوف، الى جانب أنها - في الحالتين - تنتهك أعراف الذاكرة البصرية وتحفز على الرؤية التشكيلية خارج تلك الأعراف.

غير أن قواعد القراءة الأول لأي نص أدبي تظل شبيهة بقواعد عزف مقطوعة موسيقية للمرة الأولى: لا مناص من الالتزام بما تقوله العلامات المدونة على السلالم الموسيقية، وفي الني الأدبي تبدأ هذه العلامات من القراءة "المنتظمة"، أي تلك التي تبدأ من اليمين الى اليسار، وتمر على الكلمات كما رتبها المبدع في السطور. وهي تاليا ملزمة باستقبال بنية السطر النحوية والدلالية والمجازية كما شاء المبدع تقديمها. وملزمة بالسير في السياق الرؤيوي الذي حاول الشاعر صياغته. بمعنى آخر، ليس من حق القاريء أن يبدأ نص سليم بركات من منتصفه فإلى الأعلى، أو من ختامه فإلى المنتصف، وليس من حقه أن يبدل عبارة "نخيل متشح بهزائم الساهرين" بعبارة أخرى تقول "هزائم متشحة بنخيل الساهرين". وليس من حقه (إذ ليس ذلك في وسعا عمليا) أن يستنبط سياقا مضادا مستوحى من قلب عبارة سليم بركات ذاتها، الى أخرى تقول "لبلاب متجرد من يقظة النائمين" على سبيل المثال.

هذه بالضبط هي كبرى نقاط الارتكاز الدلالي لنص ينتهك الذاكرة البصرية المختزنة. فالقاريء ملزم هنا بتخيل ما يريده الشاعر أن يتخيله، وفق القواعد التي يرسمها الشاعر وليس استنادا الى أية قواعد "قياسية" أو "معيارية" متفق عليها. وما دامت كل الكلمات، ما عدا أسماء العلم ربما، قادرة على صناعة المعنى بالضرورة، فإن ملكات توليد المعنى هي وحدها التي تنشط وتتنبه حين تقف وجها لوجه أمام معضلة انقلاب الفضاء الطبيعي الى فضاء تشكيلي طاريء لم تتخيله الذاكرة البصرية من قبل، وهو غير مدون في طبقاتها وتواريخها. وأما إذا احتوت النصوص على مقدار عال من المواد المساعدة على إحياء الذاكرة البصرية، فإن حظوظها في توليد المعنى سوف تكون محدودة لأنها ستتناسب عكسا مع مقدار تقاعس الملكات من الانخراط في التخيل الطاريء غير المدون في الذاكرة البصرية.

يعلمنا تاريخ الانجازات الابداعية الفردية درسا كبيرا مفاده أن أعمال الأدب الاستثنائية قامت بواحد من انجازين: إما أنها أسست أسلوبية جديدة، أو تسببت في محاق أسلوبية قديمة، الأمر الذي يعني أنها - في النتيجتين - حالات خاصة للغاية وأدب سليم بركات نموذج رفيع على تلك الحالات الخاصة: شعره ضخ حياة جديدة في المشهد الشعري العربي المعاصر، وروايته أحيت عالما سرديا يكون فيه العجائبي مادة كبرى جبارة الالتماس واعادة انشاء العالم الفعلي. الأهم من ذلك.وهذه ليست مفارقة البتة، أن سليم بركات الكردي كتب بلغة عربية فصحى - حية، دافقة بليغة، إعجازية، فاتنة، طليقة، بالغة الثراء والجسارة والجزالة - ولعب دورا كبيرا كبيرا في تحديث قوامها التركيبي واستخداماتها البلاغية ووظائفها الخطابية، الأمر الذي يغني عن القول إنه بات بؤرة استقطاب ومعيار قياس ونموذج تأثير.

الأمر الذي يفني أيضا عن الجزم بأنه وراء تأسيس أسلوبية جديدة في الشعر كما في الرواية، وأن من الطبيعي أن ننتظر منه المزيد..

*

الهوامش:

1- Kostis Palamas, “The Twelve Lays of the Gipsy, “Trans. George Thomson. London 1969. p. 107

2- سليم بركات: "الديوان"، دار التنوير، بيروت 1992، ص 35- 36.

3- المصدر السابق ص 7.

4- المصدر السابق ص 218.

5- المصدر السابق ص 312.

6- سليم بركات..: "طيش الياقوت". دار النهار للنشر، بيروت 1996. ص 20.

7- سليم بركات: "الديوان". ص 7- 12.

8- المصدر السابق ص 255.

9- في "مؤتمر الشعر العربي الاول" الذي نظمته جمعية "فاس سايس" في مدينة فاس المغربية، أيام 27- 30 نيسان (ابريل) 1999.

قديم 02-26-2016, 11:19 PM
المشاركة 28
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الأختام والسديم
سليم بركات

المؤسسة العربية للدراسات والنشر

أدبي (رواية)

التعليق:
يواصل الروائي والشاعر سليم بركات خوض ذلك العالم الواقعي والمتخيل في آن، عالم الأكراد بطقوسه الغربية وتقاليده الساحرة، مازجاً بين الطرافة والمأساة.
يكتب سليم بركات ما يشبه الملحمة الكرديّة، ولكن عبر اعتماد اللغة العربيّة المترسخة في لا وعيه الشخصي، تلك اللغة التي استطاع أن يفجّر أسرارها، ويكشف خفاياها، ويرتقي بها إلى مصاف الدهشة والإبداع.
في هذه الرواية، يسترجع سليم بركات بعض ذكريات الأرض الأولى بأحداثها الطريفة وأجوائها الأليفة والقاسية، ويعيد تأيفها عبر كيمياء مخيلته السحرية، فإذا هي رواية الغربة والإقامة، رواية الماضي والحاضر، رواية الأسى والغربية.
التعليق لعبده وزان.

قديم 02-26-2016, 11:25 PM
المشاركة 29
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى!

سليم بركات ومحمود درويش اسمان يتجاوران بالعودة إلى تجربة مجلة الكرمل التي شكلت لفترة ليست قصيرة نقلة في الوعي الإبداعي والشعري والنقدي، وقد استرخى على ظلالها الكثيرون وهم ينتظرونها بفارق الصبر، وكانت تصلنا في السودان قاطعة البحار قاطبة، كان الزمن منفتحا برحابة، وكان زمن الشعر قويا وجارفا.

لقد شكل سليم بركات وهذه مناسبة للوقوف معه، مدرسة خاصة في الإبداع العربي وفي السرد الجديد القائم على استنطاق التراث والوعي به وتوظيفه، فهو ملم مميز بفنون البلاغة والقول بمنهج ملتزم تماما. وفي الوقت نفسه هو حديث جدا لا يكاد يفترق عن الحداثة في أبدع تجلياتها، بحيث يصعب عليك أن تصنف موقعه بالضبط. هل هو ينتمي لزمنه الخاص أم لتقاطعات القديم والجديد والرغبة في صناعة نص متفرد له ذاتيته وعنفوانه وجنونه.
وفي التجارب السردية التي جاءت مستمدة روح النص الشعري والقصيدة الجديدة، كان سليم بركات ينسج عوالمه الخاصة، حيث الرواية عنده اكتناز قوي من المخيلات المتداخلة والغريبة التي يصعب فكها لوحدات متناثرة، فالصور الذهنية التي يصنعها في السرد هي وليدة مخيلة عجائبية وصعبة التفكيك. ولا يمكن الدخول فيها إلا عبر مزيد من تغييب الوعي، كأنما هو احتياج إلى ما يعرف بالقراءة البرزخية التي يكون على القارئ أن يتقمص المسافة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، بين صمت القراءة الواعية وكلام القراءة التي تشير ولا تسمي الأشياء أبدا.
في البداية يبدو الدخول إلى عوالمه، كأنه رحلة البحث عن كنز مستعص أو مغارة يدخلها المرء لأول مرة فيتوه بداخلها ثم يخرج بسهولة ليكتشف أن رأسه قد احتشد بصور متداخلة وأضغاث أحلام تتراكب مع مشاهد من حياة الإنسان، ليجد نفسه ربما يسأل السؤال الآتي.. هل أنا الذي أحلم أم أنه سليم بركات؟
تتنقل في النص ما بين مدن الأكراد وعالم النرد المتقلب الى مدن متباعدة في الذهن، ترى نساء يجلسن في سمر، تلك هوايتهن الوحدة، وهن قد تجمعن في شكل أطياف متناثرة، كأنهن جدات او نساء من عالم لم يولد بعد.
إن التمرين على قراءة روايات سليم بركات يتطلب نوعا من التمرين المستمر على القراءة يبدأ بوعي الطريقة التي يكتب بها، وكما ذهب ابراهيم نصر الله فإن الشاعر الذي يكتب الرواية يُعطي رواية ذات عالم خاص، لا يشابه عالم الروائي الذي يكتب رواية، وما يكتبه بركات بهذا المنظور هو رواية القصيدة وان كان هناك بعد آخر يستمد منه سليم عالمه وهو عالم الابداع التراثي العربي الذي جعل له نكهة خاصة، بحيث حوّل فجائع اليوم داخل تراث اللغة إلى ما يجافي القمع ويخلق الحرية التي تستشرف الأفق رغم كل الضيق والأزمات المتواترة.
في البداية، مرة أخرى ستتهجأ سليم بركات روائيا، ثم تمضي مع أضغاث الأحلام، ثم تتفاعل معه حتى تصبح عوالمه جزءا من متخيلاتك، وهنا تكمن قوة العمل الابداعي، النافذ من اللاوعي الى اللاوعي.
بتقديري أن سليم بركات استطاع القبض على آلية هامة في بناء الرواية العربية، وهي الخروج عن مخاطبة الوعي، الى مخاطبة اللاوعي في أذهاننا، ولم يكن ذلك لوعي لدى الكاتب وإنما لحالة تراكم معرفي، كان نتاجه انتقال درجة التراكم الى حالة صفرية، تجعل من الفوضى نظاما دقيقا، عندما يكون اللامرئي والمجرد جماليا ومنتظما.
أكيد أن لدى كل منا عالمه الخاص القائم على الأرقام والألوان وتقاطعات الحياة المختلفة وهوس البقاء، في مقابل ذلك صورة مبكرة لفكرة العنف والقهر في الذات. وباختلاط جملة هذه المشاهد في اللاوعي كما في الأحلام، تولد رؤى جديدة تحاول استكشاف مناطق أخرى غير مألوفة في الوجود، ليكون بمقدرة كل كائن بناء كونه الخاص، بمخلوقاته الفضائية التي يبدعها «هو» بنفسه ولنفسه.
هذا التقديم الشارد نحو شرح المعنى، لا يشرح شيئا لكنه يضيء بؤرة مؤقتة في الذهن تقود لمسار متعرج، بإمكانه ان يكون متزنا عندما يتلاقى مع خط الكاتب الابداعي.
وبعيدا عن مقولات التجريب وما أدمنه العقل العربي من هستيريا المألوف فإن الذهن في حاجة ملحة في مثل هذه الأزمنة، لنوع من الخلخلات التي تحرره من اللحظي والمؤقت والسائد، ليكون الاقتراب من التماهي لأغوار الأشياء بما يشبه معادلة الفوضى التي هي قائمة في العالم الخارجي.
وأنا أقرأ بركات، ظل هناك سؤال واحد يهجس بي، عن مصدر الإلهام في مثل هذا النوع من الروايات،هل يكتب الكاتب بارادة ووعي ذاتي بالعالم أثناء الكتابة؟ أم ان الأمر يشبه مزج اللون بالسطح في اللوحة؟
كلا التفسيرين وللأسف مقعران، يعكسان صورة مصغرة للحقائق، اما التفسير الثالث فهو يشابه عالم جورج أوريل عندما تهتز اليد وتتحرك بفعل ما، لا يمكن تحديد موقعه، لتنهمر الكلمات من منابع مجهولة، بموازنة تامة لفكرة العربي عن وادي عبقر، وارتباط الشعر بالشعوذة والجنون وعوالم مغيبة لا يمكن الوصول إليها.
ويمكن تلخيص فكرة الكتابة عند سليم بركات.. إلى أنه اعادة تركيب للذهن ليتخلص من قيد الحكاية والأسطورة في شكلها التقليدي، نعم، ليس ممكنا ان نعيش بلا أساطير، لكن الاسطورة الجديدة هي التي يقبلها عالم اللامفكر فيه، ليرفضها عالم التفكير، وهذا ربما كان مخرجا لإدماننا على حالة الوعي المزور، وتصالحنا مع الأشياء وفق ما نراه، لا ما نريد ان نراه.
إذا كان ولا بد ان نسير على ذات الانماط، فالأمر سهل ويسير، وستكون البلاغة العربية بكل ما تحمله من نمطية وإيقاعية، هي التي تشكل الوعي. رغم أن كثيرا من المشهدية السردية لم تتحرر من صور البلاغة والاستعارات الكلاسيكية حتى لو كتبت في زمن جديد. وليس المقصود الالتزام بالقواعد الحرفية للبلاغة القديمة ولكن الاستناد على نفس قوالبها التخييلة وهذا قائم إلى اليوم لم يتم منه فكاك كبير، وهذا مشهد لا ينفصل عن تداعيات الارتباط بالنص الديني وما يغلف الحياة العربية والمشرقية بشكل عام من الارتباط اللصيق بالماضي ما يتجلى إلى الآن في صور التوحش الذي نشاهده يوميا في الفضائيات.
إن الذهاب إلى فضاء الجديد ليس بالأمر الهين، ما دامت تلافيف اللاوعي لم تتحرر. حتى لو تحرر الوعي شكليا. لهذا فإن سؤال الرواية وسؤال سليم بركات هو جزءا من هذا التفكير الذي يتطلب مزيدا من الاستنهاض الذهني والتأمل. أن نبدأ بالبحث مجددا دون أن نفكر منذ البدء أين ستنتهي بنا الرحلة.
emadblake@gmail.com
عماد بليك

قديم 02-26-2016, 11:55 PM
المشاركة 30
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بورغي رووس
( سويسرا)

(عن موقع تيريز)

* كيف جاء اهتمامك بالثقافة الكردية؛ البدايات؟

ـ تعرفت على الأكراد في الشام في أعوام 1990 ـ 1991. آنذاك لم أكن قد زرتُ سوى دمشق، وقد تعرفت على الواقع السياسي الكردي أولاً، من خلال هؤلاء الأكراد المتواجدين في دمشق، الذين تحدثوا لي عن التاريخ والسياسة والألم الكردي: حلبجه، واطلعتُ أيضاً عن كثب، على الوضع الحياتي الكردي في سوريا. وعندما كنت في الغرب، كنت أعرف الكرد من خلال مأساة حلبجه عبر التلفزيون، ولم تكن عندي دراية كافية بالوضع الكردي السياسي والتاريخي والثقافي. ومن خلال هذه المعرفة الأولية في البدايات، بدأتُ أهتم بثقافة هذا الشعب، لأنني أحب الأدب. وفي الشام حيث كنت أتابع دراستي في اللغة العربية، سمعتُ لأول مرة باسم سليم بركات، الذي لم أكن قد قرأت له شيئاً بعد. فقط كنت أعرف أنه كردي يكتب بالعربية؛ وزادت معارفي به شيئاً فشيئاً من خلال ما كنت أسمعه من أكراد الشام.

* لماذا وقع اختيارك على أدب سليم بركات النثري، لتقديم أطروحة الدكتوراه؟ وما هي المصاعب التي رافقت الإعداد للأطروحة؟

ـ في دمشق، كان كل من قابلتهم من الكرد، يلهج باسمه، وقال بعضهم عنه أنه قريب من نبي، كردي من سوريا، وبعيد عن بلده، كان سليم عندهم شيئاً كبيراً، وبالطبع كنت مترددة في تقبل هذه الآراء؛ ثم قالوا لي إقرأي فصلاً ما من أحد أعماله الروائية. فبدأت بقراءة فقهاء الظلام، ثم وقعت في فخه،أذكر أن سليم بركات قد استخدم كلمة "فخ"، كان كتاب فقهاء الظلام، هو الثاني الذي أقرأه بالعربية في حياتي آنذاك؛ كان ثمت شيء عاطفي عنده جذبني إليه، في البداية لم أفهمه كثيراً، أو لم أفهم كل شيء عنده، لكن خطفني بأسلوبه، أحببتُ صوره، والمفاجأة في الشخصيات، وانجذبت عاطفياً نحو شخوص رواياته، ثم تابعت قراءة أعماله في البداية مع طه خليل، الذي ساعدني في فهم المشكل من هذه الأعمال؛ وتالياً استفدت من هذه القراءات؛ سليم بركات، ليس فقط لغة وتاريخ وفكر، هو أدب كبير.
بالنسبة لموضوعة رسالة الدكتوراه، عندما يختار أي شخص موضوعاً لأطروحة الدكتوراه، يجب عليه ألا يملّ من هذا الموضوع، لأن الأمر يحتاج إلى سنوات من الدراسة والمتابعة، ويالتالي يجب أن يتحلى هذا الموضوع بعنصر التشويق، وشخصياً كنتُ أعرف بأنني سأكون أكاديمية وعلمية، ولكن، وفي الآن ذاته، لا يمكنني أن أكتب دون عواطف؛ وكانت رغبتي في الكتابة عن أدب سليم بركات نابعة من الدم، من القلب. ولم أشعر أبداً بأي ملل أثناء الإعداد للأطروحة. وكنت متأكدة بأنني سأستفيد منه شخصياً على الصعيد الأكاديمي. ولم أكن أعرف هل تم الأمر كله مصادفة، فلم أكن أعرفه حتى ذلك الحين شخصياً؛ ثم جاءت المرافقة: العالم الذي وجدت عنده، بقي معي. ولم أمل أبداً ـ ترك بعض أصدقائي أطروحاتهم ما إن فرغوا منها ـ، لكن بالنسبة لي، بقي هناك شيء ما، صار في دمي.
بالطبع، كان ثمت مصاعب عديدة، أثناء العمل، وتأتي لغة سليم الصعبة بالدرجة الأولى، وكذلك الأفكار والأجواء التي كانت بعيدة عني، وكانت الخطوات طويلة وصعبة من أجل الدخول إلى العالم الكردي بالمرور تحت عتبة أدب سليم بركات، وبالتالي، الدخول إلى عالم الثقافة الكردية من خلال هذه اللغة, لكن، كان الأمر ممتعاً لي أن أكون تلك القارئة الخالقة لأدب سليم بركات الصعب؛ خاصة بعد أن رأيت شخوصه وأمكنته: القامشلي، سري كانيي، عين ديوار..الخ.
في بدايات دراساتي، فكرتُ بأنه يجب علي أن أكون كردية حتى أفهمه (كأنني من الداخل)، أفكر مثل أية كردية قارئة لأعماله، لأتماهى معه، ولأتمكن من قراءته من الداخل. وعندما درستُ بشكل عام، شعرتُ بأنه ليس بالضرورة ذلك، بل بالعكس، لأن الخلْق والإبداع يأتيان من الحوار، والحوار يحدث بين الداخل والخارج، كنت أريد حواراً بين قطبين: الداخل ـ الخارج، بيني كدارسة أوربية، وبين سليم بركات الكردي المبدع؛ وقد أخذتُ هذه الفكرة الخطوة من معلمي ميخائيل باختين. والفكرة جميلة بالأساس.
شعرتُ آنذاك بأنني بدأت أقترب من معالمه، وأفهمها. صرت تلك القارئة الخالقة، واقتربت من عالم سليم بركات.. دخلتُ في حوار معه. وكان الشعور، بأنني قد دخلت هذا العالم الإبداعي، وأقترب منه من الخارج كأوربية.
سمعتُ باسم باختين وأنا في سوريا، لم أكن قد قرأت لسليم بركات بعد. قرأت سليم، فوجدت فكرة باختين، لهذا أقول كانت قراءتي خالقة من خلال تجربتي الشخصية، من خلال الحوار بين إبداع سليم بركات وبيني، فصارت رغبتي في الكتابة عنه لا تُقاوم، ومن هنا، كانت هذه المتعة القوية.

* ألا تفكرين بترجمة الكتاب / الأطروحة، إلى اللغة الكردية أو العربية؟ ليتسنى للقارئ بهاتين اللغتين الاطلاع عليه؟

ـ لن أترجم الكتاب إلا إلى اللغة الألمانية، لأن الترجمة مثل الخلق، لأنها دون الروح الخالقة يموت العمل، وكتابي باللغة الفرنسية، ولغتي الأم هي الألمانية.

* قمتِ أيضاً بترجمة الجندب الحديدي، كيف كانت ترجمتك؟

ـ أحببت كتاب الجندب الحديدي؛ الآن وأنا أقرأ هذه الترجمة، أقول لو كان بإمكاني لأعدتُ النظر فيها، ومع ذلك فهي ممتعة.

بورغي رووس:
مواليد 1965، لوذرن، سويسرا.
ـ درستْ اللغة العربية في جامعة جنيف، وفي المعهد الفرنسي للدراسات العربية، في دمشق.
ـ قدمت أطروحة الليسانس، حول الجاحظ.
ـ حصلت على شهادة الدكتوراه، حول "خطر قراءة سليم بركات، من السيرة الذاتية، إلى الرواية".
ـ ترجمت الجندب الحديدي، وهاته عالياً إلى الألمانية, وكذلك كتابين للأطفال، الأول لـ طه خليل، والثاني لـ محي الدين اللباد.
ـ مقيمة في برن، وتعمل في وزارة الخارجية السويسرية.
* تم الحوار هاتفياً، وباللغة العربية.

تيريز. كوم 31/10/2003

*******


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:49 AM
ما الذي يصنع القائد العسكري الفذ؟؟!! دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 108 12-09-2015 01:17 PM
فرويد العبقري الواهم فارس كمال محمد منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 2 06-29-2014 10:02 PM
النحو العربي - إبراهيم بركات د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-29-2014 10:40 PM
رحبوا بالأديب والفنان التشكيلي الشاعر عمر مصلح فاطمة جلال المقهى 18 09-10-2013 12:42 AM

الساعة الآن 02:09 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.