احصائيات

الردود
10

المشاهدات
8049
 
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


صبا حبوش is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
397

+التقييم
0.08

تاريخ التسجيل
Mar 2011

الاقامة
الرياض

رقم العضوية
9765
07-04-2017, 09:22 PM
المشاركة 1
07-04-2017, 09:22 PM
المشاركة 1
درس بحثي حول فن المقامة ..
1-مفهوم المقامة:


يحيلنا الجذر اللّغوي للمقامة على "المجلس"، أو على " مجالس النّاس"(1) ، ونستطيع أن نرى بوضوح توسّع دلالات هذه الكلمة لتعني الأحاديث و القصص في هذه المجالس بما أنّها تحتّم وجود أحاديث في موضوعات كثيرة ، فأصبحت الدّلالة الاصطلاحيّة للمقامة لا تحيل على المجلس مباشرة ، بل على الأحاديث التي تُلقى فيه.(2)

واتسمت هذه الأحاديث في البداية بالإطار الدينيّ والوعظ والإرشاد ، ثم تنوعّت فباتت تشمل قصص التاريخ والمرويات ؛ كحروب العرب وأخبار ولاتهم وخلفائهم . وما لبثت أن انتظمت في نمط معين ، له قواعده الخاصّة في التركيب والإسناد. وفي هذا التطور الذي شهدته المقامة ، ما عادت تقترن بالحديث ، بل اقتربت من السياق القصصي وبات لها راوٍ وهمي يحيل متنها إلى وقائع وأحداث متخَيّلة. وباعتبارها تقدّم حكاية فلابدّ من بطل يبني بأفعاله نسيج تلك الحكاية إلى جانب الراوي الوهمي.

فالمقامة من أشكال القصّة القصيرة بل إنّها تعدّ بداية لها ، وتبقى كأي نوع مبتكر؛ فقد وظّفت ملامح الموروث القصصي الذي سبقها بقالب جديد ، وكانت أغراضها تنبع من روح العصر الذي تنشأ فيه ؛ فانتقلت من أغراض الوعظ والإرشاد إلى أغراض الظُرف والكديّة ، وفي العصور المتأخرة اتُخذت وسيلة للوصف والمدح والتعليم وغيرها.(3)

ويقال إنّ الهمذاني وضع مقامته ليعلّم بها تلامذته ، معارضاً بها أحاديث ابن دريد، وهذا ما يشرحه الحُصري في كتابه "زهر الآداب" : "لمّا رأى أبا بكر محمد بن الحسين بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً ، وذكر أنّه استنبطها من ينابيع صدره ، وانتخبها من معادن فكره ، وأبداها للأبصار والبصائر ، وأهداها إلى الأفكار والضمائر ، في معارض عجمية ، وألفاظ حوشية.....عارضه بأربعمائة مقامة في الكديّة ، تذوب ظرفاً، وتقطر حسناً".
ويُجمع مؤرخو الأدب بأغلبيتهم على ريادة بديع الزمان الهمذاني في ابتداع فن المقامات ، وقد أبدى الثعالبي إعجابه بصنيع الهمذاني في كتابه "يتيمية الدهر " بقوله : "بديع الزمان معجزة همذان....لم ندرك نظيره في ظرف النثر وملحه ، وغرر النظم وبكتبه ، وكان صاحب عجائب وبدائع".(4)
وقد ترك لنا الهمذاني أكثر من إحدى وخمسين مقامة ، كانت أنموذجاً لمن جاء بعده واقتدى بفنّه، وأهمهم الحريري البصري) الذي كتب أيضا خمسين مقامة ، حذا فيها حذوَ الهمذاني ، و نجده يثني عليه ويؤكد في كتابه أنّه " سبّاق غايات ، وصاحب آيات . وأنّ المتصدّي بعده لإنشاء مقامة ، ولو أؤتي بلاغة قدّامة ، لا يغترف إلاّ من فضالته ، ولا يسري ذلك المسرى إلاّ بدلالته"(1).

فالحريري يقرّ بريادة الهمذاني، وتأثّر تابعيه في هذا اللون من التأليف ، نذكر منها دون تفصيلٍ : مقامات ابن الجوزي ، مقامات ابن الوردي ، مقامات القوّاس ، ومقامات السيوطي. ومن المرجّح وجود أثر للمقامة في الأدب الإسباني ، ومن هذا التأثير نشأ مايسمى "أدب الشطّار" في إسبانيا وأوروبا ، والذي تعدّ قصّة "Lazariuo de Tormes" أنموذجاً له.

وقد وضع السرقسطي مقاماته على غرار مقامات الحريري ، من حيث التقيّد بالنمط ، والعدد. ولعلّ هذا الأثر الكبير الذي تركته مقامات الهمذاني ، دليل قوي على البنية اللغويّة المتينة التي وضع عليها مقاماته ، وهذا ماجعلها مثالاً احتذاه اللاحقون لعهده ، ولكنّ رغم هذا نجد أنّ الجاحظ ينتقد الهمذاني بأنه "قليل الاستعارات ، قريب العبارات ، منقاد لعريان الكلام يستعمله ،و كذلك يرى الثعالبي أنّ كلّ مايؤلفه الهمذاني ثمرة للارتجال ، وأنّه حسب الشريشي :كان يطلب من أصحابه في آخر مجلسه، أن يقترحوا غرضاً ليبني عليه مقامة(2)..
ولعلّ هذا الرأي يقودنا إلى تفسير البنية السرديّة الثابتة للمقامة وخلودها بشكلها ذاته على أنّها جنس أدبيّ جديد ، له مقوماته الخاصّة.


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-04-2017, 09:31 PM
المشاركة 2
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
يتبع......

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-05-2017, 02:13 AM
المشاركة 3
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
2- مصطلح السرد:



رغم كون علم السرد قديماً في نشأته منذ عام 1918، على يد(ايخنباوم) في مقالة له بعنوان (كيف صيغ معطف غوغول) ، إلاّ أنّ هذا المصطلح لم يظهر إلاّ في سنة 1969، على يد (تودوروف). واستجماعاً لأركان العمليّة السرديّة ،إذ اشتقّ مصطلح Narratology ، بيد أنّ بروب اعتُبر الباحث الذي استقامت السرديّة بفضل جهوده ، فقد وجّه اهتمامه على دراسة القوانين الناظمة لبنية الحكاية الخرافيّة الروسيّة .(1)
وتعددت آراء النّقاد العرب للوقوف على مضمون المصطلح السردي ، وعرف النّقد عّدة محاولات لوضع تعريفات محدودة لمصطلحات القصّ والسّرد العربيّة الأولى في كتاب" The Modren Arabic Short Story" لعبد العزيز عبد المجيد ، والثانية في "معجم المصطلحات العربيّة في اللّغة والأدب" لمجدي وهبة وكامل المهندس. و قد وضع الناقد عبدالله أبو هيف رؤيته لمصطلح السّرد في ملحقه عن مصطلحات القصّة العربيّة عام 1994، ورأى أنّه "مصطلح حديث للقصّ ، لأنّه يشتمل على قصد حدث، أو أحداث، أو خبر، أو إخبار سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة ،أم من ابتكار الخيال ، والسّرد بعد ذلك عمليّة يقوم بها السّارد أو الحاكي أو الراوي ، وتؤدي إلى النّص القصصي ، والسّرد موجود في كلّ نصّ قصصي حقيقي أو متخيّل"(2)،فالسّرديّة تُعنى باستنباط القواعد الداخليّة للأجناس الأدبيّة ، واستخراج النظم التي تحكمها ، وتُوجّه أبنيتها ، وتُحدد خصائصها وسماتها(3).والبنية السرديّة تتشكل من ثلاثة مكونات: الرّاوي ،والمرّوي ، والمرّوي له ، وهي تهتم بالمادة الحكائيّة التي تنتج عن تضافر هذه المكونات.

وقد اعتمدت الدّراسات النقديّة في محاولاتها استخلاص الهياكل المؤطرة لبنية المرويات السرديّة على نوعين من الوصف والمعاينة لبيان تطور الأنواع السرديّة وخصائصها؛ الأول: تاريخي يتناول تشكّل الأنواع السرديّة الأساسيّة كالروايّة ، والمقامة ، والحكايات الخرافيّة. والثاني: وصفي تزامني اهتمّ بكشف مكونات البنية السرديّة لماسبق ذكره من أنواع سرديّة.(4)
وقد ظهرت للسّرد عدّة اتجاهات ، كان بعضها مكمّلاً للأخر ، صنّفها النّاقد عبد الجبّار البصري من خلال مستويات القصّة إلى ثلاثة اتجاهات: الحكائي ، السّردي ، والدّلالي

الاتجاه الأول : عُني بمستوى الحكاية ، إذ قام فلكوف بدراسة الخرافات من خلال عدد الأبطال وخصائصهم وأفعالهم. وكانت هذه الدراسة بداية لفكرة الوظائف عند فلاديمير بروب في كتابه "موفولوجيا الخرافة "عام 1928م، وأعقبه شتراوس في "تحليل الأسطورة" إذ عدّ القيمة الحقيقة للأسطورة تكمن في تنسيق عناصرها المكوّنة لا في طرائق سردها . ثمّ جاء تزفتيان تودوروف بكتابه "نحو القصة" ، وفيه دعا إلى تشريح القصّة وفق: دراسة الشخصيات ، والأفعال الواقعيّة والخياليّة ، ووحدات النّص التركيبيّة الكبرى والصغرى ، وضبط هذه الشخصيات والأفعال تبعاً لمظهري القصّة من خطاب وحكاية.

الاتجاه الثاني: اهتمّ بطرائق السّرد وأساليب أداء الحكاية ، واشتهر بهذا الجانب جيرار جينيت الذي قام بتحليل رواية "بحثاً عن الزّمن الضائع" ل مارسيل بروست تبعاً لثلاثة أبعاد وهي ؛ القصّة ، السّرد ، والخطاب. وكذلك رولان بارت الذي ركّز عنايته على المستويات السّرديّة من وظائف وأفعال وسرد ونظام قصصي ، واهتمّ أيضاً بالأنظمة الاجتماعيّة والفكريّة التي يكمن وراءها المستوى السّردي.

أمّا الاتجاه الثالث فينطلق من تحديد مستوى الدّلالة ، ويرى كريماس أنّ الدّلالة تستخلص من علاقات الاختلاف والتقابل القائمة بين حزمة من الوحدات الدّالة..فالطّول لا يدرك إلاّ بالقصر...(1).

ومنه فالسّرد وجه جديد لمصطلح القصّ ، قوامه الإخبار والحكي ، الذي يقوم به راوٍ ليحيل المتلقي إلى المتن القصصي الحقيقي أو المتخيّل.

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-05-2017, 02:58 AM
المشاركة 4
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
3- مكونات البنية السردية للمقامة:



حافظت المقامة ابتداء من القرن الرابع على الشكل البنائي والنسيج الحكائي الذي وضعه لها الهمذاني وبقيت عبر العصور التالية له تتألف من ركنين أساسيين:
أولهما:راوٍ ينهض بمهمّة إخباريّة محددة.
وثانيهما: بطل له مهمّات عليه أن يتمّها ، ليرسم العنصر الحدثي في الحكاية.

وبتفاعل العلاقة بين الراوي والبطل يتكون قوام الحكاية، وتتضح العلاقة الرابطة لهما."فصورة الإسناد البسيط ، والمتن الذي يُختلق لأسباب فنيّة ، بوصفهما مظهرين جديدين ، قد تجليّا ، بأفضل أشكالهما ، في فنّ المقامة"(1)، وهذا الشكل جعل المقامة مختلفة عن الأنواع الفنيّة الأخرى في النثر العربي القديم ، ومنحها خصيصة تتفرّد بها عن سواها. ولندخل إلى البنية الخاصّة للمقامة ، لابدّ بنا أولاً تحديد البنيات الأساسيّة المكوّنة لها:
1-جملة الاستهلال السردي:
هي الجملة التي يفتتح بها الكلام في المقامة أو القصّة ، من مثل: " حدّثنا فلان ، أخبرنا فلان". وتنوعّت صيغها تبعاً للتغيّر الزماني والمكاني والاجتماعي ، فنجد أنّ القصّة الشعبيّة تبدأ بجملة افتتاحيّة "كان يامكان" ، وفي الخبر نقول :" حكى إنسان ، زعموا أنّ رجلاً" ، وفي المقامة نستخدم الجملة الاستهلاليّة :"حدّثنا فلان عن فلان قال".
ورغم الاختلاف في أشكال وصيغ الجملة الافتتاحيّة، يبقى لها الوظيفة ذاتَها في التمهيد والتنبيه، إذ يمكن عدّها " إيذاناً للرواة المعروفين بالبدء بالرواية ، فهم حالاً يبدأون* ، إثر انتهاء جملة الاستهلال"(2)
واقترنت هذه الجملة بالبنية التقليديّة للمقامة ، وصارت تُعرف بها ، فانتماؤها إلى الزمن الماضي يُكسب الحكاية مصداقيّة الحدوث ، ولتأكيد هذه المصداقيّة كان لابدّ من استخدام سند متّصل في بعض المقامات. و يستهلّ الحريري مقامته الديناريّة بجملة افتتاحيّة :" روى الحارث بن همّام قال: نظمني وأخدْاناً لي نادٍ لم يخِبْ فيه منادٍ . ولا كَبا قدْح زِنادٍ......" ،وفي المقامة الدمشقيّة يستخدم فعل " حكى " بدلاً من روى: "حكى الحارث بن همّام قال : شخصتُ من العراق إلى الغوطة . وأنا ذو جُرْد مربوطة ....."(3)، والهمذاني مبدع المقامات يفتتح مقامته البخاريّة بجملة :"حدّثنا عيسى بن هشام ، قال : أحلني جامع بخارى يومٌ وقد انتظمت مع رفقة..."(4)

إذاً هذه الجمل كانت قوام الهيكل الداخلي للمقامة ،فمهمّتها لا تنحصر فقط في التمهيد للحكاية ؛ لأنّ المتلقي يسمع خلفها صوتاً مجهولاً ،يقوم بعمليّة الإخبار ،وهذا الرّاوي المجهول ينقل لنا ما حدّث به الرواي المعلوم.
فمقابل الراوي المجهول والراوي المعلوم لدينا متلقي مجهول أيضاً ، أي أنّ الجملة الاستهلاليّة تقوم بدور النّاظم لهذه العلاقة بين راويين؛ الأول مجهول ، والثاني معلوم ، وبين متلقي لا علم لنا به.
فالاستهلال السّردي ما هو " إلاّ نوع من الإسناد المركّب الذي انحدر من تقاليد الإسناد في فنّ الخبر ، ولكنّه غيّر في صورة ذلك الإسناد ،سواء بالتخلّص من بعض حلقاته ،أم في استبدالها بضمائر ، تحيل عليها"(1) ومنه نستطيع القول إنّ العلاقة بين عبارة الاستهلال السردي والمتن ليست ارتجاليّة؛ أي أنّها علاقة بناء نمط سردي محدّد ، وهذا ما جعلها أحد البنيات الأساسيّة للمقامة.
2-الرّاوي :
يلعب الرّاوي دور الوسيط بين الشخصيات والمتلقّي ، ويروي ما يرى سواء كان حقيقة أم متخيّل، "ولايشترط أن يكون له اسماً متعيّناً ، فقد يتوارى خلف صوت أو ضمير "(2)، وقد انصبّ الاهتمام في طبيعة الحال على أولئك الرواة المعروفين ، مثل عيسى بن هشام ، الحارث بن همام ، وسهيل بن عبّاد .وتؤكّد المقامات ذاتها أنّ هؤلاء الرواة ليسوا إلا وسائل فنيّة أخذت دورها للنهوض بنسج الحكاية ، هم شخصيات خياليّة من صنع مؤلفي المقامات.(3)
ويقرّ الحريري خلال وصفه لعيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري ، أنّ كليهما "مجهول لا يُعرف ، ونكرة لا تتعرّف"(4) ، وهو بذلك يؤكد طبيعة هذه الشخصيات الخياليّة ، كما يؤكد الصفة ذاتها على ما تضمنته مقاماته في قوله :"فخاطري أبو عذره ، ومقتضب حلوه ومرّه" (5)، أي أنّها ارتجاليّة ومن صنع خياله.
يتكفّل الرّاوي بمهمّة تشكيل العالم الفنّي للمقامة ؛ فيسترجع حادثة صادفها في إحدى رحلاته ، ويركّز على البطل في هذه الحكاية ، فهو المحور الأساسي للوقائع ، وتتسم شخصيته بالتخفي ، فلا يفصح الرّاوي عنها إلا بعد انتهاء دورها ، وذلك في لحظة التّعرف.(6)
والسفر صفة حاضرة بكل أشكالها في المقامات ، وبالتالي ينبغي بالرّاوي أن يكون متحوّلاً غير مستقرّ ، وهذا التحوّل يتزامن مع مستوى الأقنعة التي يرتديها ، فالرّاوي لابدّ له من السّفر كي يلاحق البطل المتنقّل والمتقلّب ، وقد يكون مستقراً ولكنّه في الوقت ذاته نجده مسافراً ،و ابن الوردي في بعض مقاماته يجعل السفر قصراً على الرّاوي ، رغم أنّه لم ينتقل من مكانه ، وهذا التحوّل والتنقل سمة أساسيّة في البناء الفنّي للمقامة، فمحاكاة المقامة الأنموذج يقتضي التأكيد على سفر الرّاوي المستقر ، يقول ابن الوردي في مقامته الصوفيّة : " حكى إنسان ، من معرّة النعمان ، قال :سافرت إلى القدس الشريف ، سفر منكر بعد التعريف...."(1) ،
ونلاحظ أنّ الرّاوي المجهول من معرة النعمان يروي سفره إلى القدس وهو يؤكده بلفظه الصريح "سافرت" ، ومن يتعمّق في مقامات ابن الوردي ، يجد أنّه أكثر من هذه العبارة ، لأنّ السّفر موظّف توظيف شكلي وليس حقيقي فعلي .(2)
إذاً الرّاوي يتحملّ مسؤوليّة إخراج المقامة في نسيج متكامل ، يوظَف من خلاله دور البطل و اختيار الوقت المناسب لخلق بنيّة للتعرّف ، ممّا يجعله المهيمن الأول على مضامين البنيّة السّرديّة داخل المقامة.


3-البطل:
يحمل مهمّة أداء الروايّة إلى جانب بطولته للحكاية، فروايّة البطل لواقعة ، تمرّ عبر وسيطين هما الرّاوي المعلوم أولاً ، ثمّ المجهول ثانياً، البطل يروي ما حدث معه للرّاوي المعلوم ، والأخير بدوره ينقل ما رواه له البطل للرّاوي المجهول . ويهيمن الرّاوي المعلوم في المقامة العربية بمشاركة البطل –الرّاوي على الجو السّردي للحكاية(3)
ويحدّد الدكتور يوسف إسماعيل الملامح الأساسيّة لبطل المقامة، فيجد أنّ هذه الشخصيّة غرائيبيّة ، خارجة عن المألوف شكلاً ومضموناً ، على مستويات الخطاب ،اللغة ، السّفر ، و الشكل الخارجي ، فهذا البطل مثلاً نراه ماجناً في المقبرة ، أو ساحراً يرتدي لباسه ، أو مشعوذاً ،أو نسمعه يتحدث عن المكان بلغة لا تتّسق جغرافياً مع طبيعته ، فهو عابر سبيل ، لايستقر أصلاً في مكان.
و الشخصيّة الغرائبيّة المتحوّلة على مستويي المكان والخطاب تقدّم لنا مادة السّرد في المقامة، وهذا التناقض هو جزء أساسي من تكوين شخصيّة البطل التي نراها بأشكال متعددة ، ومتناقضة أيضاً ، فمرّة نراه شاعراً ، ومرّة ناثراً ، ومرّة متسولاً ، زاهداً ، وأخرى ماجناً.(4)
ومنّه نستطيع القول إنّ التحوّل والغرائبيّة صفات أساسيّة وثابتة في البناء التكوينيّ لبطل المقامة ، وبما أنّ الهمذاني وضع مقاماته ليعلّم تلاميذه(5) ، فالتنقّل وعدم الاستقرار لازمتان لابدّ منهما لصوغ الحكاية كما يريدها المؤلف.
وقد اختار الهمذاني أبا الفتح الإسكندري بطلاً لمقاماته ، إذ كان شخصيّة فكاهيّة ، اتسمت بالكديّة والشحاذة . أمّا الحريري فجعل أبا زيد السروجي مقابلاّ لبطل الهمذاني، وكذلك حاكى السرقسطي مقامات الحريري واتخذ من أبي حبيب بطلاً لمقاماته ،وكان ميمون بن خزام بطل مقامات ناصيف اليازجي.ويشترك هؤلاء الأبطال جميعاً في نمط واحد من كديّة وشحاذة .

ونلحظ في المقامة العربيّة وجود نوعين من الأبطال:
الأول: البطل –الرّاوي ، يقوم باختلاق حكاية غريبة، أو طرفة عجيبة ، متعمّقاً بوصف حالة الفقر التي يعيشها ، وذلك لخلق نوع من التعاطف معه لدى المروي له ، وهذا التعاطف ربما كان مادياً أو معنوياً ؛ كإظهار المروي له الإعجاب بالحكاية والإطراء على الرّاوي. وهنا يضمر دور الراوي المعروف ، ويغيب عنالجزء الأعظم من المقامة ، ويشمل التغيير في بنية المقامة التقليديّة رؤية الرّاوي لمكونات الحدث وطريقة سرده.

الثاني: البطل الذي يخبرنا الرّاوي المعلوم بما حدث معه ، ويكون سرده للأحداث عبارة عن سلسلة تعاقب، تبدأ من ظهور الرّاوي في مكان ما ، وصولاً إلى لحظة التعرف إلى البطل الذي يعمد إلى تمويه نفسه .
ومنه نجد أنّ البطل-الرّاوي يقوم بعرض الأحداث دون أن يكون هناك أيّة مسافات ، في حين أنّ الرّاوي في النوع الثاني يتماهى بأفعال البطل ، ويحاول تضليل المروي له كي لا يصل قبل إنهاء السّرد إلى لحظة التعرّف.


4-بنية التعرّف:
هي بنية أساسيّة تُنتج من طبيعة النّص ، وهي نتيجة قائمة من علاقة الرّاوي والمرّوي ، فالتعرّف هو المخلص الذي تقفل به المقامة ، وهو الحاصل بين الراوية والبطل، ويرد التعرّف في مقامات الهمذاني على الشكل التالي : "فتبعته فإذا هو والله شيخنا أبو الفتح الإسكندريّ"(2) ، أو "فإذا زعيمهم أبو الفتح الإسكندري"(3). وقد يَعرّف الإسكندري نفسه شعراً للرّاوية في مقامات أخرى مثل "يانفس لا تتغثّي ،فالشّهم لا يتغثّى ،من لعجيب الدير يأكل ،فيه سميناً وغثّاً ،فالبس ليوم جديداً ، والبس لآخر رثّاً"(4). وينهي الحريري مقاماته أيضاً بصور عديدة ، نذكر منها في المقامة الحلوانية : " فإذا هو شيخنا السروجي ...فأنشأ يقول :

وقع الشوائب شيّب والدهر بالنّاس قُلّب"(5)



وفي المقامة الصنعانيّة يقول في لحظة التعرّف : "هذا أبو زيدٍ السروجي سراج الغرباء ، وتاج الأدباء"(1) .

ويرافق هذه اللحظات في جميع المقامات ، إيحاء بالتعجب وعدم التوقّع ، فالرّاوي يفاجئه اللقاء الغير متوقع بينه وبين البطل ، بينما يكون المتلقي مدركاً أنّ نهاية الموقف ستؤول إلى التعرّف لا محال. وثمّة نوعان لموقف التعرّف من خلال طريقة تكوين الحكاية ؛ الموقف الأول يكون في نهاية الحكاية وهو الغالب ، في حين يكون الآخر سابقاً لظهور الحكاية في سياق البنية السرديّة.

و المقامات التي لا تنطوي على موقف تعرّف يكون دائماً راويّها هو البطل ذاته ، بلغ عددها في المقامة الهمذانيّة14 مقامة ، في حين أنّ المقامة الحريريّة خلت من هذا النوع. وبانتهاء موقف التعرّف ، يبدأ الرّاوي المعلوم مهمّة زرع مكونات الحكاية في الفضاء الذي تجري فيه الأحداث سواء المنحصرة حول أفعال الشخصيّة المركزيّة أم أفعال الشخصيات الثانويّة المكمّلة للحكاية، فإذا كان التعرّف في نهاية الحكاية ، تبدأ المكونات بالظهور ، ويتحوّل الرّاوي إلى وسيلة لوصف الأفعال التي يقوم بها البطل منذ المشهد الأول وحتى لحظة التعارف بينهما ، ومن ثمّ افتراقهما . فهو يقوم بوصف مزدوج: ذاتي وموضوعي لتلك الأفعال التي تخضع لزمن متتابع شيئاً فشيئاً ، حتى تصل ذروتها في لحظة التعرّف.

وفي حال كان التعرّف قبل الحكاية ، فإمّا أن يلفّق البطل رواية يخدع بها الرّاوي ، لا يلبث الأخير أن يكتشف أنّه وقع ضحية حكاية مضلّلة ، إلى أن تأتي حكاية لقائه البطل ، وإمّا أن يقوم البطل بتواطؤ مع الرّاوي بفعل يفتقر للنسيج الحكائي ، كإلقاء موعظة أو خطبة ، أو فك ألغاز لغويّة ، للفوز بعطاء متلقيه الواقع تحت تأثير بلاغة قوله الخالي من الحكاية. (2)
وتبقى لحظة التعرّف جزء أساسي ثابت من بنيّة المقامة ، فتشكيل الحكاية بذاته يخضع له خضوعاً تامّاً ، ويبقي الرّاوي ضمن دائرة القوانين والأنظمة السرديّة التي يتوجب عليه أن ينسج مكونات حكايته ضمن حدودها.


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-05-2017, 03:21 AM
المشاركة 5
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
* آليات السرد:



1-النظام الزمني في السّرد:
"تقف موضوعة البحث في تقنيّة النظام الزمني في القصّة أو الرواية أو الأنواع السرديّة الأخرى، على جانب من الأهميّة تشخّص من خلالها عوامل متعددة تعطي بمجملها خصائص العمل ذاته ومنتجه أيضاً ،ثم علاقة الاثنين معاً بالمتلقي ومستوى إدراكه واستقباله".(1)
وتتمركز دراسة البنية الزمنيّة للنّص السّردي على مستويين: 1-زمن الشيء المحكي ، وهو زمن فالت من الزمام، زمن متخيّل ،يقع في عهده السّارد في صحته أو دقته أو عدمها. 2-زمن السّرد ذاته ، أي زمن المدلول وزمن الدّال. وهو مجسّد لساني في النّص مرصوف في كلمات وجمل وتراكيب لغويّة تحمل مداليل معينة.(2) وبين الزمنين تداخل وترتيب بحسب عمليّة القصّ ، وأهداف المؤلف أو السّارد. ويرى ويرى برنس أنّ الزمن الحكائي هو مجموعة من العلاقات الزمنيّة؛ السرعة ، والترتيب ، والمسافة الزمنيّة بين المواقف المحكية وعمليّة حكايتها، بين القصة والخطاب ،و بين المحكى وعمليّة الحكاية. (3) ، فهو بذلك يحاول أن يضع مفهوماً خاصاً للزمن بوصفه آليّة سرديّة ، يستخدمها النّص في تنظيم عالمه ، وضبط العلاقات بين مفرداته.


2-الفضاء الحكائيّ:
يُعرّف بأنّه المكان أو الأماكن المضمّنة التي يظهرفيها كل من المواقف والأحداث والسياق الزماني –المكاني للحكي.إذ إنّه الإطار المكاني المحيط بحركة السّرد كلّه بما يتجاوز حدود الأمكنة المحددة.(4)
فثمّة علاقة بين المكان الذي يؤسّس الفضاء ، والدّلالة الكليّة للنّص ؛ فالمكان يساهم في خلق المعنى ،كما أنّ التلاعب بصورة المكان ، يمكن استغلاله إلى أقصى الحدود ، فإسقاط الحالة الفكريّة ، أو النفسيّة للأبطال على المحيط الذي يوجدون فيه ، يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كوسط يؤطر الأحداث.(5)
"فتحليل المكان بوصفه تقنية سرديّة يمكن أن يسهم بصورة واضحة في تحليل المقامات ، كما يمكن أن يسهم وبقوة في أيّة رؤية مضمونيّة يمكن طرحها حول النص ، فالفضاء داخل المقامة ، يحيل على مكان وزمان محددين ، وإن كانا ليسا واقعيّين ، على الرّغم من الأدلّة التي يضعها الرّاوي لكون المكان واقعيّاً ، ومنه إنّ الأمكنة في حقيقة الأمر ، ليست سوى جزء من مستلزمات الفضاء الذي بدونه لا يمكن أن تنظّم الحكاية ضمن إطار محدد، كي تتاح للرّاوي مهمّة القيام بتقديم الحكاية.(1)

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-05-2017, 03:28 AM
المشاركة 6
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقامة ناصيف اليازجي :

-ترجمة ناصيف:
هو ناصيف بن عبد الله بن جنبلاط بن سعد اليازجي (1800، 1871 م) ،أديب وشاعر لبناني ولد في قرية كفر شيما، من قرى السّاحل اللبناني في 25 آذار سنة 1800 م في أسرة اليازجي التي نبغ كثير من أفرادها في الفكر والأدب، وأصله من حمص. عرف ناصيف منذ طفولته بالذكاء والألمعية ، ألحقه الأمير بشير الشهابي بديوانه بعد أن كتب قصيدة في مدحه ونالت رضاه ، وبقي في الديوان حتى عزل الأمير سنة 1840م.

لعب دوراً كبيراً في إعادة استخدام اللغة الفصحى بين العرب في القرن التاسع عشر، عمل لدى الأسرة الشهابيّة كاتباً، وشارك في أول ترجمة الإنجيل والعهد القديم إلى العربية في العصر الحديث.
ترك مؤلفات عديدة ، تقف على مدى ثقافته ، فألّف في النحو مختصراً أسماه :"طوق الحمامة" ، كما وضع أرجوزة قصيرة أسماها :" اللباب في أصول الإعراب" ، وأرجوزة طويلة أسماها: "جوف الفرا" ، وكتب عليها شرحاً أسماه : "نار القرا في شرح جوف الفرا" ، بالإضافة إلى مؤلفات متعددة شملت الصّرف و والبيان واللغة والمنطق والطب والتاريخ، كما ترك ديواناً شعرياً متنوع الموضوعات، ومراسلات شعريّة ونثريّة.(1)

2-مقاماته:
وبالنسبة للمقامات ،فقد نال ناصيف اليازجي قصب السبق بها بين معاصريه. فقد قرأ مقامات الحريري وما بعدها حتى صاغ مقامته : "مجمع البحرين" ، وقد أخذ التسميّة من الآية الكريمة : " وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح، حتى أبلغ مجمع البحرين" ، وأراد بالبحرين النظم والنثر . وبلغ عددها ستين مقامة ، كان سهيل بن عبّاد راوية لها ، وبطلها ميمون بن خزام . ويصرّح ناصيف إنّ مقاماته جاءت نتيجة الفضول.

وجاءت تقليد دقيق لمقامة الحريري ، من حيث صورة الرّاوي والبطل ، الصياغة ، اقتباساته من القرآن الكريم ، الوعظ والدعاء ، حتى في ترقيمها على غرار ما رقّم الحريري.
ورغم ذلك نجد أنّ روح الفكاهة في مقاماته جامدة عمّا كانت عليه مقامات الهمذاني والحريري ، وكان السجع لديه بمثابة الطلاء الخارجي فلم يندمج في أساليبه وعباراته. وبذلك كانت مقامته أشبه ما تكون بصحف الأدب التعليميّ. (2)

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-05-2017, 03:31 AM
المشاركة 7
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
يتبع ......

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-06-2017, 03:48 PM
المشاركة 8
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
*دراسة تحليلية "للمقامة الشامية " من مقامات ناصيف اليازجي " مجمع البحرين" :



تُفتتح المقامة بجملة استهلاليّة بزمن المضي : " أخبر سهيل بن عبّاد "(1) ، كما في المقامة الأنموذج ، وقلنا سابقاً إنّ هذه الصيغة ثابتة في جمل الاستهلال . ويأتي الكلام على لسان الرّاوي المجهول ، الذي ينقل للمروي له -المجهول أيضاً -ما أخبر به الرّاوي المعلوم "سهيل بن عبّاد".
ويبدأ الرّاوي سهيل بسرد أحداث الحكاية التي صادفته في " الشام " ، عندما ذهب لزيارة صاحبه ، فاسم المقامة أيضاً جاء على غرار النمط المتّبع في تسميّة الهمذاني لمقاماته؛ بحسب المكان الذي يتمّ التعرّف فيه. وهذا أيضاً يحيلنا إلى التنبّه أنّ الرّاوي كان مسافراً ، ولولا هذا السّفر لما صادف تلك الأحداث التي يقوم بسردها. إذاً فالسّفر لازمة ضروريّة لاختلاق الحكاية وإيهام المتلقيين بصدق الرواية.
نعود إلى الأحداث ، فنجد أنّ الرّاوي يقدّم لنا وصفاً لصاحبه المريض الذي كان يتأوّه من الألم " دخلت يوماً على صاحب لي بالشام ، أعوده من داء البرسام(2) ، فجلست بإزائه ، وأنا أستخبره عن دائه ، وبينما هو يبثّ شكواه ، ويتأوّه لبلواه ، إذ قيل قد جاء الطبيب، فقلت قطعت جهيزة قول كلّ خطيب(3)".
وبعد أن يفرغ من رسم الجو العام الذي هو فيه ، ويهيء الأذهان لحدث ما ، ينتقل لوصف الطبيب الذي حلّ في مجلس المريض :
" ونظرت فإذا رجل قد أقبل يجرّ طيلسانه ، ويقرع أديم الأرض بصولجانه(4) ، حتى دخل فسلّم ، ثمّ جلس معرضاً ولم يتكلم ، فتوسمّته ، وإذا هو شيخنا ابن خزام ، فاحتفزت للقيام ، وأردت أن أستأنف السّلام ، فأومض لي بجفنيه(5) ، واستوقفني عن التسليم عليه".
فالرّاوي لم يتعرّف إلى البطل "ميمون بن خزام " إلاّ بعد تدقيق في ملامحه ، ونلاحظ أنّ التعرّف جاء قبل الحكاية : " وإذا هو شيخنا ابن خزام" ، وهذا النوع من التعرّف يترافق دائماً مع البطل -الرّاوي ؛ فابن عبّاد يروي لنا ما حدث معه ، أي هو البطل و الرّاوي في ذات الوقت ، وتعرّفه المبكّر على ابن خزام يؤكد ذلك.
ويصوّر هنا الرّاوي موقفين :
الأول : تعرّفه على ميمون بن خزام ، بعد لحظة تفرّس ، و تحفّزه للسلام الحارّ عليه.
الثاني : تجاهل ميمون له ، كي لا يُفضح أمره من بداية الحكاية.
فعندما قال : "أومض إليّ بجفنيه ، واستوقفني" كان يمهّد بشكل ضمني للحيلة التي سيلعبها ابن خزام ، وهي لعبة تواطؤ بين الرّاوي والبطل لخلق نسيج الحكاية ، فوقوع لحظة التعرّف منذ البداية أفضى إلى ضرورة وجود هذه العلاقة بينهما ، وإلاً لانتفت الحاجة إلى إكمال السّرد.


ويظهر ميمون بن خزام بصورة طبيب حاذق ، يرتدي لباس الشيوخ ، ضارباً عصاه على وجه الأرض ثقةً بشأنه ، فهو يظهر بصورة متحوّلة عمّا ألفه عليه من قبل سهيل بن عبّاد ، ولعلّه لم يعرفه مباشرةً بسبب هذا التحوّل في اللباس والهيئة والشخصيّة.
وتنطلي الحيلة على المريض ، فيشكو للطبيب أوجاعه: " يا مولاي أرى أنّ صدري قد ضاق ، وتواتر عليّ الفواق"(1)، فيقدّم له خبرته الطبيّة مرتديّاً قناع الكديّة الذي اشتهر به أبطال المقامات : " ذكر الأستاذ بقراط إنّ ذلك يدلّ على نضج الأخلاط ، وقد وصف له الإمام ابن عاتكة ، أن يُسقى شراب الملائكة ، لكنّه لا يُشترى إلاّ بمائة درهم ، فإن بذلتها نجوت من البلاء الأدهم"(2).
وليكمل خدعته لابدّ له من خلق بعض العناصر التي يأتي دورها في تقوية ما يذهب إليه من الحكي ، فابن عاتكة لا وجود له في الطبّ ، وبين الأدويّة لا وجود لشراب الملائكة ، لكنّه أراد به تعظيم اسمه لينال به ثمناً جزيلاً . و لذلك نجد أنّه تقمّص شخصيّة الطبيب لتدرّ عليه مالاً ، وبالتالي فإنّ فعله ليس منطويّاً على بنية حكائيّة بل على تشكيل حدث يتماهى به من بداية السّرد إلى نهايته.
ويمكن أن نقسّم الأحداث ضمن المقامة إلى ثلاثة :
الأول : دخول ميمون بقناع الطبيب إلى مجلس المريض ، وحيلته عليه.
الثاني : اللقاء بينه وبين الطبيب الحقيقي داخل المجلس ، ورغبة الأخير في معرفة مدى حذاقة ميمون في الطبّ ، وطرحه العديد من الأسئلة حول الأمراض على اختلافها : " قال كيف يتركّب السرسام(3) مع البرسام ، وماهي مقادير الأخلاط بالنسبة إلى بعضها في الأجسام ، وما هو المراد عند الأول ، بقسمة الطبّ إلى علم وعمل ، وماهي الكيفيّة المنفعلة ، والكيفيّة الفاعلة(4) ، وماهي الأسباب السابقة ، والباديّة ، والواصلة"(5)
وينتهي المشهد بهروب ميمون من المقام بدهائه وحسن تخلصه : " فقال الله أكبر إنّ الحديث ذو شجون ، وإنّ لك أجراً غير ممنون ، لقد ذكّرتني مائة من المسائل ، جمعتُها في بعض الرسائل ، وهي ممّا يُشكِل على الألباء ، وتُناقش به فحول الأطباء ، فإن شئت جعلنا الساعة موعداً ، وأتيناك بها غداً...فنهض وقال السلام عليك"(6)
فالرّاوي يحاول من خلال الحوار بين المكدّي والطبيب أن يخلق نقطة ينطلق من خلالها في مسار سردي يتوقعه المتلقّي ؛ وهو مواجهته للبطل المتحوّل ، وتوبيخه على أفعاله.
فنجده يصف تسلّله من المجلس ، وخروجه السريع " وهو قد اعتضد الصولجان ، وانساب انسياب الأفعوان"(7) ، ليدلّل على خبثه ودهائه.



ويعود صوت الرّاوي المجهول من جديد ، ليروي ما حدث مع الرّاوي المعلوم ، فيذكّرنا بما قاله له سهيل : "قال سهيل : فابتدرتُ الخروج على الأثر ، قبل أن يتوارى عن النظر ، فأدركته عن أمَد يسير ، وهو يُنشد كحادي البعير :
الحمدلله وللغرار (1) فقدنجوتُ من فضوح العار
أفلَتَ من جرادة العيّار ... مالي وللنضال والحوار(2)
ما أنا بالرازي ولا البخاري ... وليس لي في الطبّ من أسفار
أدرسها في الليل والنهار ... وسائلٍ مماحك مهذار(3)
يسألني عن غامض الأسرار ... جعلتُ مثل الخادع الغرّار
موعده الساعة فوق النار ... فقل له صبراً على انتظاري "(4)
فابن خزام يخلع قناع حيلته خارج حدود المجلس ، لا بل ويحمد الله على ستر ماء وجهه أمام الطبيب الحاذق ،فالساعة التي أعطاها له موعداً ، يحسبه وافياً لها يوم القيامة ، وهذا ليس بغريب على ميمون بن خزام ؛ فهو ضمنيّاً أبو الفتح الإسكندري ، وأيو زيد السروجي ، وهؤلاء الثلاثة اتسموا بالكديّة والخداع والمكر لأسباب تقتضيها البنية النسيجيّة للمقامة.
وبعد أن ينتهي ميمون من إنشاده ، يقدّم الرّاوي المعلوم نفسه للحظة المواجهة ، التي سترسم المشهد الثالث : " وقفتُ له بالمرصاد ، وقلتُ عهدتك بالأمس خطيباً ، فمتى صرت طبيباً"(5) ، هذا اللقاء كان من المفترض أن يكون لحظة التعرّف التي حدثت قبل الحكاية ، والتي لم تظهر حينها أي أمارات الدهشة أو عدم التوقّع على وجه الرّاوي ، بمعنى آخر لم نلحظ أنّ سهيل بن عبّاد قد تفاجأ بعد تعرّفه على ميمون ، بل بدا الأمر عاديّاً بالنسبة إليه ، وهذا يؤكّد لنا التواطؤ الضمني بين الرّاوي والبطل ، فسهيل رغم اكتشافه حيلة ابن خزام ، لم يفضح سلوكه ، رغم عدم رضاه عنه ، إذاً فاللعبة الحاكمة بين الطرفين هي الخداع والتستّر عليه.
فثمّة معرفة سابقة بينهما ، ونلاحظ أنّ سهيل عندما تصدّى لميمون ، كان على معرفة مسبقة به: " عهدتك بالأمس خطيباً" ، وهو يقصد بذلك، الدّور الذي لعبه ميمون بن خزام في المقامة السابقة لهذه المقامة ؛ وهي المقامة " العقيقيّة". حيث كان خطيباً على إحدى الجنازات.
ونجد في جواب ميمون على سؤال سهيل الوظيفة الضمنيّة لكلّ قناع يرتديه البطل داخل كلّ مقامة : "فقال إلبَس لكلّ حالة لبوسها ، إمّا نعيمها وإمّا بُؤسَها ".
ثمّ ينتقل ليبرر أفعاله في الخداع والمكر بشكو ى النّاس وذمّه لزمان لا يعطي للإنسان ما يستحقّ من


قيمته : " دخلتُ يا ابن أخي هذا البلد ، وأنا غريبٌ لا سَبَد لي ولا لبد(1) ،فرأيت الأديب عند أمته ، أهون من
قعيس على عمّته(2) ، فلما رأيتهم معارج لاتُرتقى ، وأراقم لا تقبل الرُقى ، جرّدتُ المبضع والمشراط ، وسأستغفر الله لي ولهم على الصراط"(3) .
ودرج تذمّر الأبطال بعد التعرّف في معظم المقامات ، غير أنّ هذا التذمّر يمثّل التململ من ضياع القيم الإنسانيّة بين الناس ، والرغبة بالتعويض عن هذا الشعور بخداعهم والاحتيال عليهم.
يقول في المقامة الرمليّة :
رأيت الناس قد قاموا ... على زورٍ وبهتان!
فلا يرعون ميثاقاً ... ولا حُرمة إحسان!
فإن راعيت إنساناً ... فما أنت بإنسان(4)
ونلمح مسحة من السخريّة الجامدة تضيء كلام ميمون : " وسأستغفر الله لي ولهم على الصراط" ، فهو يقرن خداعه ومكره لهم ، بأفعالهم وأخطائهم ، فهم متساوون على الصراط بذنوبهم ، لكنّه من باب السخرية ينصّب نفسه يوم الحساب داعيّة لله ليغفر ذنوبه وذنوبهم ، والسخرية لازمة ثانويّة داخل بنية المقامة ، وقد أجاد الهمذاني توظيفها داخل مقاماته ، وجاءت بصورة مستحبّة بعيدة عن الجمود الذي اتسمت به بعض مواقف السخرية و الظرف في مقامات اليازجي.
ويعود صوت الرّاوي المجهول ليمهّد قول الرّاوي المعلوم ، وهذا الصوت يجب ألاّ يختفي من المقامة ، باعتباره يقوم بفعاليّة الإخبار والسّرد ، وباختفائه يطرأ انقطاع بوظيفة تلك الفعاليّة. ويكمل كلامه على لسان ابن عبّاد: "قال وبينما نحن كذلك إذ صاحت الصوائح ، وعلا ضجيج النوائح ، فقلتُ له : قاتلك الله ما أقتلك ، وأحبط علمك وعملك ، قد كنت أهون من قعيس ، فصرت أشأم من طويس(5) ، لو رمى الله بك أصحاب الفيل ، أغنيت عن الطير الأبابيل"(6)
وتتداخل في المشهد أصوات النوائح على المريض الذي فارق الحياة كما يشير سهيل بوساطة الراوي المجهول ، وتلك الأصوات الهامشيّة هي استدراك لسرد الحكي والانفتاح عليه من جديد .، إذ يقوم ابن عبّاد بتأنيب ميمون على فعلته ، وتحتدّ لهجته بعد الإشارة إلى وفاة الرجل.
ثم يأتي الحكي على لسان البطل-الرّاوي مباشرة ، وينحسر دور الرّاوي الأول بقوله : فنظر إليّ شزْراً ، وأنشد يقول شعراً:
لا خير في الناس دعني ... أفتك بهم يا فلان
فليس فيهم رجاءٌ ... وليس منهم أمان
ياليت ألف طيبٍ ... مثلي يسوق الزمان
فكلّما قصُرَ العيش ... يقصُر العصيان

فخفّ عنهم عذاب ال ... أخرى وقلّ الهوان!"(1)

إنّ النقمة المنصبّة على سوء الزمان وأهله ، واختلال القيم والمعايير ، يمكن أن ترد ّإلى المؤلف الضمّني الذي بثّ هذه المعاني على لسان بطله ، فيعاود البطل هنا شكواه من الناس ، وإحساسه برغبة الانتقام منهم ومن دهره بأفعاله وسلوكياته المنحرفة عن الصواب ، ويرى في هذا الإحساس مبرراً لما يقوم به :
" ثمّ قال : هذه معذرتي ، فإن شئت القبول ، وإلاّ فدع عنك الفضول ، وإذا فارقتني فقل ما شئت أن تقول"(2).
ويأتي المشهد الأخير بصورة الميمون وهو يهروّل ، تاركاً خلف ظهره أصوات البكاء والنياح : " ثمّ ولّى يهرول ، والنائحات تولول" ، وهذه الجملة من شأنها زيادة التأثير في نفوس المروي لهم ، فكلّما زاد انفعالهم وعظُم تأثّرهم مع الأحداث ، كلّما زادت مكافأة الرّاوي سواء مادياً أم معنويّاً كإبداء الإعجاب بالحكاية . وينهي المؤلف المقامة ، برمي الأمور على القدر ، وتملّص ميمون بن خزام من فعلته ، بتذكار أنّ الموت كأس على الجميع ، لن يفلت منه أحد :" لو قدرت أن أدفع الموت لبقيتُ إلى الأبد ، ولو شفى الطبيب كلّ مريض لم يمت أحد"(3)، فهو يزيل الذنب عن ظهره ويلصقه بظهر قدر الإنسان ، الأمر الذي جعل سهيل بن عبّاد يقف عاجزاً عن الكلام ، متعجباً من سلوك البطل و أفعاله: " فرجعتُ أقول ههنا كلّ العجب ، لا بين جُمادى ورجب"(4).
وفي المقامة عدّة ملاحظات ، سنقف عليها:
1- نلاحظ أنّ لغة المؤلف الضمني كانت وعرة ، وسبب هذا اعتماده على المعاجم ، وخاصة الموحش منها.
2- اتكاؤه على الموروث القديم من الأمثال ، فجاءت المقامة غنيّة بها من بدايتها إلى نهايتها:
- قطعت جهيزة قول كلّ خطيب.(5)
-الله أكبر إنّ الحديث ذو شجون.(6)
-إلبس لكل حالة لبوسها، إمّا نعيمها وإمّا بوسها.(7)
-أهون من قعيس.(8)
- أشأم من طويس. (1 )
-العجب بين جمادى ورجب(2)

3- اقتباسه من القرآن الكريم ، وهي خاصّة متأصلة في مقامات الحريري ، وربما تفوّق فيها اليازجي عنه قليلاً ، ولاسيما أنّه جعل بطله ميمون يتوب في مكّة ، ثم في المدينة والمسجد الأقصى.(3)


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-06-2017, 03:53 PM
المشاركة 9
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
*خاتمة:


حاول البحث التعرّض للمكونات الأساسيّة لبنية السّرد في المقامة العربيّة ، فوقف عند المفهوم العام " للمقامة " ، الذي اشُتقّ من أحاديث الناس في المجالس ، إلى أن وضعها بديع الزمان الهمذاني ووظّفها في حكايات سرديّة خاصّة ، وكانت كما قيل لغرض تعليمي.
وقدّمتُ صورة مبدئيّة لمكونات السّرد الأساسيّة في نسيج المقامة العربيّة ، وعوّلتُ على هذه الجزئيّة في دراستي لبنية السّرد في المقامة الشاميّة لناصيف اليازجي .
وتوصّلتُ إلى النتائج التاليّة من خلال الرؤية لأساسيّات السّرد:
1-بنية الاستهلال السّردي: حملت صيغة واحدة ، وهي صيغة المضي ، وتحيل على راوييَن ؛ مجهول وهو الرّاوي الأول ، ومعلوم أيّ الراوي الثاني ، تأتي لزوميتها في المقامة من إكسابها المصداقيّة والتأكيد على ما سيرويه الرّاوي ، وهي ركن ثابت من أركان المقامة ، لا يمكن الاستغناء عنّه.
2-الرّاوي : تأتي مهمته بسرد أحداث الحكاية عن لسان البطل الذي أخبره بما صادفه من حوادث ، يختفي صوته ويظهر بين فترات السّرد ، وذلك بحسب البطل الذي أ راده المؤلف الضمني.
3-البطل : تتمحوّر حول أفعاله الحكاية وما ينتج عنها من وعظ أو حكم ، وهو أديب ، لايجد نفسه بين الناس ، فيميل إلى الشحاذة والكديّة ، ويرمي ما يقوم به من سلوكيّات منحرفة على فساد الدّهر وطويّة الناس . ويظهر في البنيّة الحكائية للمقامة نوعان : البطل الرّاوي في آن واحد ، والبطل الذي ينوب عنه الرّاوي المعلوم.
4-بنية التعرّف : بها ينتهي السّرد ، في حال كان التعرّف بعد الحكاية المتخيّلَة ، أمّا التعرّف قبل الحكاية فيفضي إلى سرد ما يشبه الحكاية أو افتعال مواعظ وحكم ، ينهي بها المؤلف الضمني مقامته.
فالثبات في بنية المقامة ، وحفاظها على النمط الأول الذي رافق ولادتها ؛ كان سبب ركود هذا الجنس الأدبي ، بينما بقي الشعر متربعاً على عرش الدّراسات النقديّة والأدبيّة .
وناصيف اليازجي لم يأتِ بجديد في مقاماته ، فكانت جميعها على غرار المقامات الأنموذج ، من اقتباسات قرآنيّة ، وسير على الكديّة ، وشكوى الناس والزمان ، وغير ذلك الكثير ،لكنّه تفوّق على الحريري بتوظيف الأمثال العربيّة داخل البنية الحكائيّة.
وتبقى المقامة رغم هجرة النّقد الحديث لعوالمها ، جنساً سرديّاً له خصوصيته واستقلاليته في الأدب العربي وإن كان يقوم على حكايات خياليّة لا وجود لها في الواقع ، إلاّ أنّها ازدهرت في عصرها وكان لها شهرتها، بين علماء الأدب واللغة.
وربما استطاع الباحث في الأدب إعادة هذا النوع الأدبي إلى العصر الحديث ، عن طريق التحرّر من البنية الثابتة لها ، وإدخال شخصيات جديدة ، بالإضافة إلى تنويع الموضوعات داخل المقامة ؛فاقتصارها على الشكوى والتململ من الدهر يبعث الملل في نفس القارئ الذي بات يتوقع عند قراءته لأيّ مقامة ما سيؤول إليه السّرد في النهاية.

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..
قديم 07-18-2017, 03:49 PM
المشاركة 10
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
دراسة بحثية تحليلية مهمة ومهنية

شكرًا لك على هذا الجهد وعلى مشاركتنا خلاصة هذا البحث المفيد.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: بحثي حول فن المقامة ..
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
هدوا بيتي... شعر بالعامية المصرية ياسر السعيد الششتاوي منبر الشعر الشعبي والمحاورات الشعرية. 2 12-09-2020 03:19 PM
قصص قصيرة جدا لـ: بختي ضيف الله - الجزائر بختي ضيف الله منبر القصص والروايات والمسرح . 2 12-03-2020 10:36 PM
المقالة كأحد الفنون الأدبية... غادة قويدر منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 12 08-17-2020 08:02 AM
المقالة بين الاستنساخ والابداع فارس كمال محمد منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 4 10-11-2014 07:26 PM

الساعة الآن 09:51 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.