احصائيات

الردود
6

المشاهدات
1275
 
نهـاد الـرجوب
من آل منابر ثقافية

نهـاد الـرجوب is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
74

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Mar 2015

الاقامة

رقم العضوية
13699
12-30-2020, 10:39 AM
المشاركة 1
12-30-2020, 10:39 AM
المشاركة 1
افتراضي وصايا الراحلين في زمن الكورونا
[justify]وصايا الراحلين في زمن الكورونا


يرفع باسل وسادتها، ربما هذا أفضل للتنفس، يضع وسادة أخرى تحت ذراعها لإبقائها أعلى من مستوى إبرة المغذي المغروزة في يدها على صدرها، يتابع تنقيط المغذي، لا يفارقها حينما تقترب العلبة على النفاد لئلا يُسحب الدم من يدها دون أن يتنبّه له أحد، يعدّل غطاء رأسها، يرتب هندامها، يغطيها ثم يخرج، كل عشر دقائق يعود ليتفقد حال والدته، أسبوعًا كاملاً على هذ الحال، لا يفارقها إلا في ساعات النوم القليلة.

أصبح شبه ممرض في علاج والدته، فهو يلازمها طوال الوقت، فقدت والدته القدرة على الكلام، وازدادت حالتها سوءا فما عادت تفتح عينيها أو يُسمع لها أنين، بات الأمر وشيكا وكل ما يستطيع فعله أطباء المستشفى فعلوه ولم يبقَ بأيديهم أي حيلة، فهي في غيبوبة لا أحد يدري متى تفيق منها، والمستشفى لم يعد آمنا، فأخبار الكورونا تتوالى والإصابات تتزايد، والأطباء أنفسهم ينصحون بنقلها للبيت علّه يكون أكثر أمنا من المستشفى.

هيأ لها مع إخوته مستشفى خاصا في بيتها، لكنها إرادة الله، ظن باسل للحظة أنه لو تمت تغذيتها عن طريق أنبوب من الأنف يصل للمعدة مباشرة ويتم ضخ الغذاء فيه عن طريق حقنة خاصة معقمة ونظيفة، ربما هذا ينعشها وتعود لها صحتها وتفيق من غيبوبتها، هكذا اعتقد باسل، وعمل على تنفيذ فكرته، إذ ذهب ليلا مخترقا حواجز المحبة ليفتش عن هذا الأنبوب في الصيدليات دون جدوى إلى أن وصل أحد المستشفيات في المدينة وحصل عليه، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، عاد للبيت متفائلا ومعه الطبيب الخاص بوالدته مجتازا كل المخاطر التي يبثها الإعلام على مسمعه ومرآه ليل نهار من فيروس كورونا الخطير، لكنها والدته، الأغلى لديه من كل الدنيا.
مضى يومان على استخدام الأنبوب ولم يلحظ باسل أي تحسن على والدته، لم تستفق ولم تعطِ أي ردة فعل توحي بجدوى الأنبوب أو المغذيات، بعد العشاء تغيرت وتيرة أنفاسها وتسارعت اعتقد باسل أن هناك ما يضغط على صدرها، اتصل بالطبيب فاعتذر لأنه في اجتماع طارئ في المحافظة بخصوص الفيروس، فاتصل بطبيب آخر ووجده في الاجتماع نفسه، وأخيرًا أجابه طبيب في قرية مجاورة، حضر للبيت وفحصها وكتب له دواء، سأله باسل: أشعر أن أمي في حالة احتضار! رد الطبيب: نعم يمكنك أن تقول إنها كذلك، ذهب لشراء الدواء وعاد على عجل، أذاب حبة في ماء وأسقاها إياها عبر أنبوب التغذية، ولكن لا جدوى فهي في نزاعها الأخير.
الوقت يقارب انتصاف الليل، باسل يرى بعينيه الموت يظلل جسد أمه، لكنه لا يريد أن يصدق، إخلاصه لها وبرّه بها يبقي لديه أملا جادًا في استفاقتها، أمه لم تكن تعاني من أي مرض مميت، هبط السكري لديها فأصيبت بغيبوبة تسببت لها بجلطة دماغية خفيفة، هذا كل ما في الأمر كما أفهمه الأطباء بعد التصوير الطبقي في المستشفى.
النبض يزداد والأنفاس تتسارع، وقف باسل عند رأسها، خالته وأخواته حولها سينمن عندها هذه الليلة وقد استلقت كل منهن في فراشها، قال لخالته: أشعر أنها تموت يا خالة، نهضت وأخواته ونادى إخوته، والكل أحاط بها، إنها تموت، لا يدري باسل كيف ظل هادئا في هذه اللحظة وسحب أنبوب التغذية من أنفها كي يخفف عنها وتموت بهدوء، لحظات قليلة وارتقت روحها إلى العُلا، لتودع بسلام كل من حولها.
رغم خروج روحها أمام عينيه، إلا أن باسل، وبهدوئه المعهود، ظل راغبا في منح نفسه الأمل، يقول لمن حوله: هي ما زالت دافئة، جبهتها متعرقة، حتى قدماها دافئتان، أشعر أن أنفاسها ما زالت مستمرة، لا يمكن أن تكون قد فارقتنا، لكنه في لحظة استسلام وتسليم بإرادة الله، قال بغصّة محمومة: "الله يرحمك يما"، واتصل بالطبيب الذي حضر على عجل وبعد تشخيصها أكد وفاتها.

بدأ الإخوة يرسمون خطة تشييع جثمانها غدا، أصرت أختهم على وجوب تنفيذ وصية الأم بنقلها لثلاجة الموتى في المستشفى وأن تُغسّل وتُكفّن هناك وتوضع على رأسها "سَبْلَة" وتعود لبيتها للوداع ثم تُشيّع لمثواها الأخير بعز وكرامة، كما أصرّت أن يصنع الإخوة غداء للجنازة كما طلبت الأم في وصيتها.

تردد الإخوة في الأمر، وكل منهم يخشى أن يبت في تلك الوصايا في ظل الكورونا فيُتهم بالعقوق، إلى أن تصدّر باسل الموقف وحمل عبء العقوق وحسم كل المواضيع وأكد أنه لن ينفذ شيئا من وصية أمه وأن الدفن سيكون الساعة العاشرة صباحا، وكتب منشورا قصيرا على الفيس نعى فيه والدته وأعلن عن الساعة العاشرة صباحا موعدا لدفن جثمانها.

كان باسل هو أكثر شخص مستبعد من العقوق، فكيف لمن ظل مخلصا لها حتى آخر أنفاسها أن يكون عاقا؟ لكن ظروف البلاد والعباد هي ما حسم الموقف والمنطق وأمر الوصية.

أجمع إخوته معه على ألا تذهب والدتهم لثلاجة المستشفى، وألا يصنعوا غداء للجنازة، فما هي إلا عدة ساعات حتى يبزغ الفجر، ولا أحد يقوى على أن يتنبأ بعدد المشيعين في ظل كل هذه الإغلاقات والتحذيرات من انتشار الوباء، وعقلاء البلاد أصلاً يدعون لإلغاء عادة غداء الجنازة في سنوات الخير، فكيف بالأمر في سنوات البلاء؟ كما أن الحواجز كثيرة ولا يُسمح بالمرور إلا للإسعاف وسيارات نقل الموتى، فكيف سيعود من يرافقها إلى الثلاجة؟ وكيف سيذهبون صباحا لإحضارها من هناك؟ وربما إن وصلت المستشفى لن يقتنع الأطباء بأنها كانت مريضة مرضا عاديا وربما يلصقون وفاتها بفيروس كورونا، وهذا ما لا يريده الإخوة، فأمهم "عاشت مستورة طيلة حياتها" ولا يريدون أن يجعلوا من تغسيلها وجنازتها حسب وصيتها موضوع خلاف بينهم في ظرف لم تكن تتوقعه أمهم حينما أوصت بما أوصت به لوفاتها.

اتصل باسل بزوج الشيخة التي تغسّل الأموات في المستشفى ورتب معه وسيلة إحضار زوجته صباحا لبيت والدته، وسأله عن وضع "سَبْلة" على رأس والدته بعد التكفين فلم يعرفها الشيخ وردّ قائلا: "إننا نغسّل ونكفّن حسب الشريعة الإسلامية والسنة النبوية، ولا وجود لشيء في التكفين اسمه سبلة، فاقتنع وأخبر أخته برد الشيخ حول موضوع السبلة، وباسلٌ نفسه لا يعرف ما هي السبلة.

في تلك الليلة كان صراع باسل مع نفسه ألا يكون عاقا من جهة، وأن يخرج من موضوع عدم تنفيذ الوصية برضى الجميع، أحضر مروحتين وصوبهما على جثمان والدته حتى الصباح، حيث جاءت الشيخة، غسّلتها وكفنتها وجهزتها وقالت: من تريد أن تودعها فلتأتِ، فُتح الباب على الجثمان المُسجى بهدوء ففاحت منه رائحة زكية أدهشت كل الحاضرين.
حانت الساعة العاشرة، كانت حشود المشيعين من الرجال والنساء تفوق المتوقع في مثل هذه الظروف من الإغلاقات ورعب عدوى الوباء، ولِمَ لا وهي جنازة لامرأة عاشت بعزة وكرامة وماتت كذلك؟ كانت جنازة تبرهن صدق المحبة رغم قسوة الكورونا.

نهاد الرجوب[/justify]


قديم 01-02-2021, 09:52 PM
المشاركة 2
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
في تلك الليلة كان صراع باسل مع نفسه ألا يكون عاقا من جهة، وأن يخرج من موضوع عدم تنفيذ الوصية برضى الجميع، أحضر مروحتين وصوبهما على جثمان والدته حتى الصباح، حيث جاءت الشيخة، غسّلتها وكفنتها وجهزتها وقالت: من تريد أن تودعها فلتأتِ، فُتح الباب على الجثمان المُسجى بهدوء ففاحت منه رائحة زكية أدهشت كل الحاضرين.

ابنتي الغالية نهاد
أذكر أنني قرأت هذه الوصية من ذي قبل
وها أنا أقرأها هنا ، فيتجدد الحزن عليها يرحمها الرحمن برحمته الواسعة . ويتجدد إعجابي ب باسل ..
سرد قوي ومشوق ومتقن لغة وصياغة
أحسنت ِ وأبدعت
لك المحبة يانقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةي
ناريمان

قديم 01-13-2021, 12:07 PM
المشاركة 3
نهـاد الـرجوب
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
شكرا غاليتي ناريمان
ربما قرأتِها حينما كتبتها يوما على الفيس بوك
كان الحدث لا يفارق مخيلتي
وبعد الكتابة هدأ نزف جرح الغياب قليلا

قديم 01-14-2021, 10:24 AM
المشاركة 4
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8

  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
سرد جميل ومتماسك لقصة تتقاطر منها الدموع ويلفها الحزن.
ونتمنى من الله أن يرحم جميع من تخطفهم كُورُونَا من أحبتنا.
وطرحك ممتاز أختي لموضوع قدسية وصية الميت والعمل بها في زمن كورونا،
يكره كثير من الأشخاص الموت في زمن الوباء، بسبب أنهم لن يحظوا بجنازة لائقة.
تحياتي وتقديري لإبداعك

قديم 01-15-2021, 12:20 PM
المشاركة 5
نهـاد الـرجوب
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
سرد جميل ومتماسك لقصة تتقاطر منها الدموع ويلفها الحزن.
ونتمنى من الله أن يرحم جميع من تخطفهم كُورُونَا من أحبتنا.
وطرحك ممتاز أختي لموضوع قدسية وصية الميت والعمل بها في زمن كورونا،
يكره كثير من الأشخاص الموت في زمن الوباء، بسبب أنهم لن يحظوا بجنازة لائقة.
تحياتي وتقديري لإبداعك

أشكرك على هذا الرد الرائع
وأبعد الله عنا وعنكم البلاء والوباء
حياك الله

قديم 01-15-2021, 01:43 PM
المشاركة 6
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
قديم 01-17-2021, 01:53 PM
المشاركة 7
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
سرد جميل ووصف مؤثر
بالتوفيق الدائم صديقتي

https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: وصايا الراحلين في زمن الكورونا
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عن الكورونا جاسم الخزرجي منبر الشعر العمودي 6 12-04-2020 04:15 AM
زمن الكورونا نورالدين الشهاب منبر البوح الهادئ 0 11-25-2020 08:45 PM
الكورونا في السعودية فارس العمر منبر الحوارات الثقافية العامة 0 04-30-2020 12:22 AM
الساموراي في زمن الكورونا خولة الرومي المقهى 8 04-19-2020 10:16 PM
الحب في زمن الكورونا مصطفى الطاهري منبر القصص والروايات والمسرح . 2 03-31-2020 05:05 PM

الساعة الآن 07:17 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.