قديم 08-14-2010, 04:10 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
ِأوراق ساخنة (5): في البدء كان العقل

إن الدارس لتاريخ الفكر يلاحظ أهمية الدور الذي لعبه العقل وما يزال يلعبه، في بناء المعرفة الإنسانية ونشر الوعي، وبناء الحضارة، وبالتالي السعي للوصول إلى الحقيقية المطلقة، ويبرز دورالعقل في كافة المناهج سواء الأسطوري، أو الطبيعي، أو التجريبي، أو الديانات الأرضية، أو الديانات السماوية، وكافة المناهج الفلسفية الأخرى، وعلى رأسها طبعًّا المنهج العقلاني.

فحينما سأل الإنسان الأول الأسئلة الوجودية عن أصل الأشياء، وعن كثير من الظواهر الطبيعية التي حوله، جاء الجواب من العقل، الذي أوجد الأجوبة، وبالتالي وضع الأسطورة كإطار منظم لتقديم التفسير العقلاني لتلك الظواهر، والإجابة عن التساؤلات التي انبثقت عن الوعي.

فالعقل إذاً هو أداة الإدراك والوعي الأولى إلتي حاولت تفسير وجود الإنسان، بما هو منطقي وعقلاني، حتى ولو كان أسطوريًّا من نسج خيال الإنسان، وقد فعل الإنسان ذلك مدفوعًّا بحاجته لتحقيق نوع من التوازن، ولكي يحفظ العقل نفسه من الضياع، أو الجنون، وفقدان السيطرة، ولكن العقل، على الرغم من الفلسفة التفسيرية التبريرية، التي وضعها واعتمدها، ظل في حالة نشاط دائم يبحث عن الحقيقة والإجابات الشافية، وكأن لسان حاله يقول إن هذا الإطار الفكري المنظم والمفسر (الأسطورة) هوإطار مؤقت، وتفسير آني للوجود وللظواهر الطبيعية، يخدمني أنا العقل الآن لكي أستمر، لكنني لن أتوقف عن البحث عن الحقائق والمعرفة الكاملة، التي هي الهدف الأسمى للنشاط الذهني والعقلي.
لذلك ومن خلال تجارب الإنسان مع البيئة المحيطة، وحالة القلق التي تولدت لدى الإنسان المفكر، بأن ما يؤمن به من أساطير صنعها العقل، لم تعد تقدم أجوبة منطقية شافية يقبلها العقل نفسه، ومن خلال نضوج العقل، ورفضه الاستمرار بالأخذ بالأطر القائمة على أنها تقدم التفسير المطلق والنهائي، لذلك دفع العقل بالإنسان لتوسيع دائرة البحث، وتوسيع الإطار الفكري والمعرفي الذي سبق أن وضعه، بهدف تحقيق التوازن المتمثل في الأسطورة، وبهدف استكمال رحلته في البحث عن الحقيقة، من هنا رفض العقل الاستمرار في التسليم بهذا القائم الذي اهتزت أركانه، وأصبح مشكوكًّا في صحته وصلاحيته.

ومن هنا أيضًّا، دفع العقل الإنسان للبحث عن منظومة فكرية جديدة كبديل لما هو قائم، لذلك توجه الإنسان للبحث في الطبيعية، باستخدام الحواس بديلاً عن الإيمان بآلهة الأسطورة الخيالية، لعله يجد التفسير المقبول لأصل الأشياء، ومع ذلك ظل العقل، مرحليًّا، يؤمن بالأسطورة في خط متواز ومتزامن مع أساليب البحث الحسية الجديدة المتمثلة في استكشاف الحقيقة، من خلال الحواس والتجريب، وذلك بسبب حاجة العقل الدائمة لوجود مثل ذلك الإطار التفسيري أياً كان؟ لحين تكوين البديل المقبول، وهذا ما مثل ولادة الفلسفة، وتحديدًا فلاسفة الطبيعية الذين قدموا تفسيرًا جديدًا للوجود.
وكلما حقق العقل نجاحًا منطقيًّا من الإدراك والمعرفة والوعي،(بمعنى أنه يدهش العقل ويدفعه لقبوله)، مثَّل ذلك يمثل بديلاً للفكر السائد. وعليه كان العقل يأخذ به، فتنحسر الحاجة للفكر السائد، مثلاً الأسطورة، لصالح الفكرالجديد الذي يمثل إطارًا جديدًا أعم وأشمل، ويقدم إجابات أوفى وأكثر منطقية.
ويظهر أن العقل بطبيعيته، وبهدف الحفاظ على توازنه، واستمراريته يتمسك مرحليًّا بالإطار الذي يقدم أفضل التفاسير في حينه، وأحيانًا كثيرة يصبح التخلي عن المنظومة الفكرية السائدة أمرًا يكاد يكون مستحيلاً، وهو ما يعرف حاليًّا بالقلق الناتج عن التغيير، والذي يتحول في أحيان كثيرة إلى توتر، ومن ثم إجهاد مرضي، يدفع الفرد للاستماتة في التمسك بما هو قائم. ورغم ذلك يستمر العقل في البحث عن الإجابات الشافية، مدفوعًا بحب المعرفة والحقيقة، ونظرًا لإن الإطار المعتمد والقائم يمثل مسلمات نسبية، لم يتمكن العقل يومًا من تقديم إجابات كلية شافية لها. ومن هنا جاء الفلاسفة الذين رفضوا التفسير الأسطوري للأمور، ونادوا بالأخذ بالمعرفة التي تتحصل من خلال الحواس، على اعتبار أن المعرفة تتحصل من التجربة الحسية.
ولكن العقل لم يتوقف عند ذلك، وبالنمط نفسه تقريبًا من حيث عدم التسليم بما هو قائم جاء سقراط العقلاني، ليعتبر أن العقل هو أساس المعرفة، وعلى أساس أن الحواس مصدر للشبهة، وأن المعرفة تتأتى من العقل نفسه قبل التجربة. وعليه ينظر إلى العقل على أساس أنه هو مصدر الأفكار، ويمثل طرح سقراط رفضًا لطرح الفلاسفة الطبيعيين إذًا، ولما سبقه من أفكار، وتقديم العقل على ما سواه.

كما أن أفلاطون جاء، بدوره، بتفسير جديد لعمل العقل، حيث اعتبر أن العقل عبارة عن جهاز استقبال الأفكار الأزلية الموجودة في عالم الأزل، وليس هو مصدرها، كما قال سقراط، ويصر أفلاطون على أن المعرفة الحقيقية تقتضي الانتقال من العالم الحسي إلى عالم المعقولات، حيث يفهم العقل وحده موضوعاته، ويرى بأن النفس البشرية التي كانت تعيش في عالم الأزل، وتعرفت على الأفكار هناك مقرها العقل.
أما أرسطو الذي اعتمد البحث الميداني كأساس للوصول إلى المعرفة، فقد قدم نظريته في الطبيعة الإنسانية، والتي جعلت العقلانية Rationality الصفةالمميزة، التي تعرف الإنسان على أنه "حيوان عاقل" مؤكدًا في كتابه "الأخلاق" على أن سعادة الإنسان السامية تكمن في ممارسته قدرات العقل النظرية الخالصة، وعلى الرغم من أنه يقدم الحواس والبحث الميداني العلمي على العقل إلا انه يعتبر العقل جهازاستيعاب المعرفة التي تتأتى من الحواس.
وقد اعتبر علماء النظرة التجريبية أن المشروع العقلاني المجرد عن التجربة الحسية لعبة انطوائية قائمة على الانغماس الذاتي للفرد، وليس لها إلا القليل من القيمة العلمية، وهو ما مثل معركة بين نهجي العقلانيين والتجريبيين ظلت قائمة ولم تحسم، وهو ما يشير إلى استمرارالعقل في نهجه من أجل الوصول إلى الحقيقة.
بينما يرى جون لوك، وهو من فلاسفة عصر النهضة، أن الوصول إلى المعرفة لا يحتاج إلى المعرفة (القبلية)، ولا يتم بواساطة الانطباعات الفطرية التي ترى بأن الحروف مطبوعة في ذهن (عقل) الإنسان ومولودة معه، لأن ذهن الإنسان عند الولادة، حسب لوك لوح أملس، وصفحة بيضاء خالية من أي حرف، والمعرفة بأصنافها اكتساب من خلال التجربة وحدها، وليس من فطرة مسبقة، لكن الفيلسوف العقلاني في المقابل (لايبنتس) في رده على جون لوك يسلم بأن الإدراك الحسي، قد يحدث المعرفة، لكنه غير كاف لاكتسابها، حيث لا توجد نظرية متكاملة في المعرفة لاتقر بالإسهام الذي يقدمه العقل نفسه. وهذا مؤشر على أن التطور المعرفي لم يقلل من قيمة الدماغ، وإنما ظل العقل ودوره في المعرفة يكتسب مزيدًا من الاهتمام امتد إلى أيامنا هذه، إضافة إلى التوسع في محاولات فهم كيف يعمل العقل، وشرح لدوره في المعرفة.
ورغم أن الأديان ذات الرسائل السماوية الموحى بها، تطرح نفسها كبديل عما سبقها من منظومات فكرية وفلسفية، لكنها لم تلغ دور العقل، فالعقل هو وسيلة الوحي في إيصال الرسالة، كما أن دور العقل لم يقتصر على نقل الرسالة أو استقبالها بل إن له دورًا في فحص ما ورد عن الوحي، واختباره وتأكيده. بمعنى أن الدين لم يلغ دور العقل، وإنما أكد عليه، وبخاصة الدين الإسلامي الذي أعطى عظيم الأهمية للعقل، ودوره في القضية الإيمانية، وإن كثيرًا من المؤمنين يفسرون الدين في ضوء العقل، ويعتبرون أنهما لا ينفصل احدهما عن الآخر.

من هنا، فقد توسع مع الأيام مفهوم العقلانية، ولم يعد مذهبًا مغلقًا بل أصبح نزعة ومنهجًا في التفكير، يميل إليه المفكرون والفلاسفة، بل والفقهاء داخل منظوماتهم، ومذاهبهم الفكرية، أو الفلسفية، أو الشرعية، مولين العقل مكانة محورية، سواء في نظرية المعرفة، أو في فهم العالم، أو تحكيم الشرع، والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله، كذلك أصبحت العقلانية تعني اقترابًا فكريًّا يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة.

وقد استثمرت الكنيسة العقل من أجل تثبيت المبادئ اللاهوتية المسيحية وخدمتها، واعتبرت العقل أداة الدين، وكذلك حاول بعض الفلاسفة المسلمين توظيف العقل للتعبير عن العقائد والأفكار الإسلامية، وللدفاع عنها ضد مهاجميها مثل الكندي والفارابي وابن سيناء الذين سعوا للتوفيق بين الدين الإسلامي والعقلانية اليونانية، وقد ذهب ابن رشد للقول إلى أن العقل هو الأساس.

ورغم النفوذ الذي تحقق للدين فقد استمر العقل في بحثه، وظل كثير من الفلاسفة يعتبرون أن العقل هو الأساس، ويرى بعض الفلاسفة أن الدين ما هو إلا مرحلة جديدة في تطور الوعي الكلي، وقد رفعت فلسفة التنوير العقل إلى درجة أرقى عنصر في الوجود، وأكدت ثقتها في قدرته على تطوير المجتمع، والتقدم به نحو الأفضل.

كل ذلك يشير بوضوح إلى أن العقل، كان وما زال وسيبقى ذا دور محوري في عملية المعرفة، والإدراك، والوعي، عند كل الأديان والمذاهب والفلسفات، وعلى رأسهم الفلسفة العقلانية سعيا وراء الحقيقة، والمعرفة الكلية الشاملة، ومن المؤكد أن مزيدًا من الفهم والتفعيل لهذا الجهاز ألإعجازي سيعني مزيدًا من الأهمية.

قديم 08-16-2010, 12:38 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (6): الأيتام منارات الفكر عبرالتاريخ



إن تاريخ الفكر الإنساني يشير إلى أن المحطات الكبيرة، أو المنعطفات الأساسية التي مثلت أبرز سمات التطور الفكري الإنساني، والقفزات النوعية، والأكثر أهمية في تاريخ البشرية، جاءت على يد أيتام غالبًا. وذلك على الرغم أنه لايمكن نفي دور تراكم المعرفة المجتمعية والعقلية الجماعية للبشر ككل.

لكن المدقق في تاريخ الفكر يجد أن المحطات الرئيسة، والقفزات النوعية المؤثرة التي أدت إلى بروز مناهج فكرية رئيسة جاءت من قبل عدد من الأفراد الأفذاذ عبر التاريخ، وهم غالبًا أيتام، أو مروا في تجربة فقدان من نوع ما في الطفولة المبكرة، والطفولة وإلى سن إحدى وعشرين عاماً، رغم عدم إمكانية إثبات وقوع اليتم عند بعضهم، وذلك لعدة أسباب، مثل عدم إدراك المؤرخين، وكتاب السيرة لتلك العلاقة المهمة بين اليتم والإبداع، وبالتالي عدم اهتمامهم برصد تلك الحوادث، والتسليم بأن القدرات الإبداعية الاستثنائية تلك إما مجهولة المصدر، أو ربما هي عبارة عن موهبة، يتميز بها بعضهم، أو أنها ناتجة عن الرعاية الأسرية، وإلى غير ذلك من أسباب، ولذلك كان التركيز ينصب على المنتج نفسه، دون الاهتمام بمصدرالمنتج الذي هو الشخص المبدع إلا ما ندر.

والمدقق في السير الذاتية لكبارالمفكرين والمبدعين عبر التاريخ، يمكنه أن يلاحظ مثل تلك العلاقة، وكأن السبب في ذلك هو ما تحدثه حادثة اليتم في شخصية اليتيم من ألم، وحزن، وعزلة، ودهشة، وحرمان بجميع أشكاله، وربما شعور بالنقص، وحالة من القلق، مع فقدان الدرع الواقي الذي يوفر الأمان والشعور بالأمن، وكذلك ربما يتشكل عند بعضهم شعور بالعدمية، بمعنى أن يلف اليتيم شعورً بأنه جاء من العدم، نظرًا لفقدانه أي اتصال مع الوالدين أوأحدهما.

ويمكن أن نقول أكثر من ذلك، أي أن اليتم ربما يحدث نوعًا من التدفقات الكهربية، أو الكيماوية، أو الهرمونية، أو حتى تزايدًا حادًّا في عدد الخلايا في الدماغ، أوتشكل الدماغ بصورة فوق عادية، وهو ما يحدث في حالة بعض الأمراض العقلية المتعارف عليها، رغم اختلاف التأثير والناتج بين الإبداع والجنون، والذي يرى سجموند فرويد بأنهما ينبعان من مصدر واحد.

لكل ذلك حتمًا تأثير كبير على قدرات الفرد الإبداعية، والفكرية التي غالبًا ما تشكل منظومة فكرية متكاملة، أو نهجًا فكريًّا جديدًا، وغالبًا ما ينقض ما سبقه من أفكار، يجد الكاتب أو المفكر المبدع نفسه مدفوعًا بصورة غير واعية لانجازه، ولنهجه الفكري، وكأنه في مهمة مقدسة، وتكليف لا يمكنه الفكاك منه مهما كان الثمن الذي قد يصل إلى الموت، كما حدث مع كثير من المفكرين عبر التاريخ، وهم بصدد الدفاع عن المنظومات الفكرية التي جاءوا بها، والأمثلة على ذلك كثيرة، سنذكر بعضًا منها هنا.

ولا شك في أن مسعى الكاتب، الذي هو غالبًا غير واعٍ، مرتبط أو ربما ناتج عن تلك الحالة التي يجد الكاتب نفسه، وقد برمج للقيام بها، فالإنتاج الإبداعي والفكري يمكن أن يفسر على أنه سعي، غالبًا غير واعي، من أجل إزاحة الألم والحزن، أوربما خلق نوع، ومستوى آخر من التواصل والتعبير، وربما تدفع الدهشة من تجربة الموت الإنسان اليتيم لأن يبحث عن إجابات، تقدم تفسيرًا للوجود، ومن أين جاء الإنسان؟ وإلى أين ينتهي؟
كذلك يندفع اليتيم لمحاولة تفسير الطبيعة الإنسانية، والحصول على نوع بديل من اللذة، أو ربما البحث عن الاكتمال، ومحاولة تعويض الشعور بالنقص، وإزاحة القلق بالتفريغ، لتحقيق نوع من التوازن.

وكأن تجربة اليتم تحدث نوعًا من الثورة الوجدانية الهائلة في ذهن اليتيم، فيندفع الشخص دون أن يدري، وبصورة غير واعية أيضًا للبحث والتفكير ومحاولة حل لغز الحياة، حيث يتحول ذهنه إلى آلة تنتج الأفكار دون هوادة، وربما يكون هناك تأثير فسيولوجي هرموني، أوكهربي، أو كهرومغناطيسي، يؤدي إلى حدوث مثل تلك الثورة الفكرية في ذهن المفكر.

ورغم عدم وجود تدوين في العصور القديمة، وصعوبة نقل المعلومات، وعدم إدراك أهمية اليتم في تلك السنوات كدافع للإبداع والتميز والتفكير، لكننا نجد بين فينة وأخرى ذكراً لموضوع اليتم، حتى في الكتابات الأسطورية الموغلة في القدم، وربطه مع أشخاص أفذاذ في تاريخ البشرية القديم.

وربما يكون حمورابي الذي وضع شريعته المشهورة في عام (1900 قبل الميلاد تقريبًا)، أول مفكر يتيم معروف ومسجل في تاريخ البشرية، حيث كان له دور بارز ومدون، ذلك ما تشير إليه قوانين حمورابي التي وضعها، حيث يختتم حمواربي قوانينه الـ (285 ) بالقول، " إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي، التي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة، وحكومة طاهرة صالحة. أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكاد، وبحكمتي قيّدتهم حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم، والأرملة.
وعلى الرغم أنني أحصر مقالي هذا في الحديث عن الفكر الوضعي، والمفكرين المبدعين الوضعيين، لكن يمكن التنويه بأن الأنبياء المرسلين بدءًا من سيدنا إبراهيم الخليل، هم جميعًا أيتام، أو مروا بتجربة الفقدان بشكل أو بآخر، وكأن اليتم متطلب أساس لبناء الشخصية، حتى يكون لديها القدرة على احتمال عبء الرسالة، ولكنني أترك الحديث عن العلاقة بين النبوة واليتم للمتخصصين في هذا المجال.

كذلك فان حملة لواء الديانات الأرضية القديمة، والتي يستمر نفوذها حتى الآن مثل كنفوشيوس وبوذا هم أيتام، وتمثل تعاليم هذه الديانات أسسًا فكرية مهمة، حاولت شرح الحياة، وتقديم تفاسير لكل الظواهر الطبيعية والإنسانية، ثم هناك الخالدون المائة، والذين ورد ذكرهم في كتاب مايكل هارت ثبت أنهم في معظمهم أيتام، كذلك فإن البحث والتمحيص في السير الذاتية، لعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين،أثبت أنهم مروا بفجيعة اليتم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، أفلاطون، وجان بول سارتر، وهيجل، وأبو حامد الغزالي، والمهاتماغاندي، والمتنبي ، وادجر ألن بو، ونيوتن، وجابر بن حيان، والإمام الشافعي، وسيمون بولفارد، وديكارت، وديفد هيوم، وغيرهم الكثير.

ونجد أن من الأيتام من ادعى النبوة مثل المتنبي، حيث يقول في أكثر من مقام له ما يشير إلى أنه كان ينظر إلى نفسه نظرة المعتز، الذي وجد مقامه يشابه إلى حد كبير مقام الأنبياء بين قومهم حيث يقول :
أنا في أمـة تداركــها الله ..........غريـب كـصالح فيثمـود
ما مقامي بأرض نخلةإلاّ.............. كمقام المسيح بين اليهود

ولا شك في أن هناك كثيرًا من الأيتام أسسوا ديانات خاصة بهم، مثل مؤسس الديانة البهائية، وهذا على سبيل المثال أيضًا المدعو محمد رضا الشيرازي، والملقب بــ(الباب) الذي ولد في مدينة شيراز في (1819م) – ومات في (1850م)، وترجع سلالته إلى السيدة فاطمة الزهراء، حسب ما يعتقد أتباعه، وتربى في رعاية أحد أخواله، وقد كان والده توفي قبل ولادته.

ومؤسس الديانة المانوية، حيث عاش ماني بن فاتك تجربة قاسية من ناحية أمه، إذ أمضى طفولته محرومًا منها، بل محرومًا من حنان الأنوثة بصورة تامة، وتبدأ المعاناة عنده عندما تخلى أبوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، إما أن تكون الصابئة نفسها، أو طائفة منشقة عنها. والمشكلة إن هذه الطائفة المحسوبة على الصابئة التي انتمى إليها (فاتك) كانت تعادي المرأة، وتعتبرها رجسًا من عمل الشيطان، وترفض أي اتصال بها، أو تقربًا منها، بل ترفض حتى دورها الأمومي، لهذا ما إن بلغ الطفل (ماني) عمر أربع سنوات، حتى أتى أبوه (فاتك) من (ميسان) حيث كان منعزلاً مع طائفته، وأخذه من أمه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيدًا عن الحياة الفاسقة، وعن المرأة خصوصًا.

وهناك من اعتبرهم محبوهم ومريدوهم أنبياء رغم عدم ادعائهم النبوة، وذلك كنتيجة للصفات الاستثنائية، فوق الطبيعية التي يتميز بها اليتيم، عادة وهم لا شك كثر عبرالتاريخ.

والدارس للسير الذاتية للأيتام، وبخاصة فئة القادة الذين حكموا عبرالتاريخ، وتركوا بصماتهم أمثال جنكيزخان، وعبد الرحمن الداخل، وجمال عبد الناصر، وصدام حسين، والإمام الخميني، والشيخ عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وغبرهارد شرودر، ونيلسون مانديلا، والشيخ أحمد ياسين، وياسر عرفات، وبل كلينتون، وجوزف ستالين، ولينين، وقيصر والاسكندر، وحتى الرئيس الجديد أوباما نجد إنهم يتمتعون بصفات استثنائية تشكل في مجملها بدون شك قدراتهم التي دفعتهم للقيادة.

وها هو أحد كتاب السيرة، ابن حيان، يصف عبدالرحمن الداخل أحد القادة المسلمين في الأندلس كمثال صارخ على الصفات التي يمتلكها القادة الأفذاذ الأيتام: "كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوًّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه".

وها هي نبذة، متوافرة من خلال آليات البحث على الانترنت، من كاتب يتحدث عن الرئيس الأمريكي السابق بل كلنتون يقول فيها: "إعجابي بهذا الرجل ليس فقط لأنه كان رئيس أعظم دولة في العالم، ولكن لأنه أحد أذكى رجال القرن الحادي والعشرين، وأكثرهم حنكة وسياسة، فقد تعدت رؤية هذا الرجل لقيادة دولته، حتى أصبح من المنظرين والمفكرين للإنسانية جمعاء.. ذلك الرجل حقيقة يستحق التقدير، ليس لكل النجاح الذي حققه في أثناء فترته الرئاسية، ولكن لقدرته على الظهور بهذا الشكل البسيط والمتواضع ، وأعتقد أننا لم ننته من سماع آخر أخباره، فمن المؤكد أنه لن يغيب عن تسجيل تاريخ هذا القرن".

ومما قيل عن القائد عمر المختار على لسان أستاذه المهدي السنوسي: "لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختارلاكتفينا بهم، ويقال إنه كان يتصف بالنجابة ورزانة العقل، وكان يمتلك ملكات مثل جشاشة الصوت، وعذوبة اللسان، واختياره للألفاظ المؤثرة في فن الخطابة، وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة على مستمعيه، وشد انتباههم.

ومن الصفات الأخرى المشتركة، بتفاوت، في القادة الأيتام كما هي مذكورة في سيرهم الذاتية المتوافرة للقراء: تمتعهم بكرزما طاغية، وعيون ثاقبة، وميض في العيون، وحب للمغامرة، والشجاعة، والحكمة، والكبرياء، والطموح، والانقباض، الميل إلى تجنب الآخرين، العزلة، حياة شقية، الاعتماد على الذات، الصبر والقدرة على التحمل، الإبداع، العزيمة، علامات القيادة، النجابة، ورزانة العقل، والنزوع إلى الرئاسة، والنظر إليه على أنه نادرة زمانه، سابق عصره، ومصدر الهام للآخرين.

ومن أهم الصفات التي يبدو أن رواد الفكر الأيتام قد تميزوا بها: عدم أخذهم بالنظم القائمة، واندفاعهم للبحث والدراسة، واستنباط الأفكار بهدف الإتيان بالجديد، واندفاعهم الثوري للانقلاب على ما هو قائم لتشكل منظومة أفكارهم الجديدة البديل عما هو سائد، وذلك في مقابل نزوع الجمهور إلى التمسك بالتقاليد، وبما هو قائم. ولذلك غالبًا ما كان ينتج عن الفكر الجديد رد فعل قاسٍ من المجتمع المحيط بالمفكر على اعتبار انه جاء ليهدم ما وجد الجمهور عليه آباءهم. ولذلك نجد أن قادة الفكر قد تعرضوا عبر العصور للاضطهاد والعقاب بمختلف أشكاله .

ومن أبرز المفكرين الذين تعرضوا للعقاب في عصور ما قبل التاريخ، الفيلسوف سقراط، الذي أجبر على تناول السم بسبب اتهامه بالإتيان بآلهة جديدة ضد آلهة الإغريق الأسطورية المتعددة، حيث قال إن أصل المعرفة يأتي من العقل نفسه. كما تعرض جاليلو في القرن السابع عشر إلى المحاكمة، وحكم عليه بالإعدام إذا لم يتراجع عن أفكاره التي نادى بها، والتي تقول إن الأرض ليست مركز الكون، إنما الشمس كما أثبت من خلال التجربة العلمية.

كذلك دفع جيوردانيو بونو في العام (1600م) ثمنًا غاليًا لفكره، حيث لم يكتف هذا المفكر بالقول، إن الله موجود في الطبيعة، بل افترض أيضًا أن الكون أزليّ. وهما ادعاءان كلفاه حكمًا بالغ القسوة، فقد أحرق في ساحة السوق في روما.

كما أعدمت امرأة فرنسية من المناضلات في سبيل المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في العام (1791) تدعى أوليمب دو غوج، بسبب إعلانٍ نشرته حول حقوق المرأة، لأن هذه الحقوق لم تجد مكانًا لها في فصل محدد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن.

ومن المفكرين الأيتام الذين تركوا بصماتهم على الفكر، من خلال مناهجهم الفكرية المهمة، الفيلسوف أفلاطون، وهو فيلسوف إغريقي يعتبر أعظم الفلاسفة الأقدمين دون منازع، وكانت أعماله هي الشرارة الأولى التي أشعلت جميع المسائل والأفكار الفلسفية في العالم الغربي حتى اليوم، وكانت أيضًا الحافز الأول لظهور علم النفس، والمنطق، والسياسة، و قد خلفت تلك الأعمال تأثيرات عميقة على الحياة العلمية في مختلف عصور التاريخ.
َ
ولد أفلاطون في أثينا عام (428) قبل الميلاد، وكان زوج أمه، بعد وفاة أبيه، من مساعدي حاكم أثينا (بركليس) المشاركين في السياسة والزراعة، وكان لإعدام أستاذه سقراط من قبل السلطة أثر كبير في نفسه، لا سيما وأن سقراط كان من أصدقاء عائلته، وقد انعكس ذلك الأثر بشكل واضح في كتاباته. بعد موت سقراط اعتزل أفلاطون الحياة العامة في أثينا، وخرج منها مرتحلاً لعدة سنوات.

والفيلسوف ديكارت، صاحب منهج الشك، الذي ولد في العام (1596م)، وعاش حياة ترحال عبر أوروبا كلها، وقد توفيت أمه بعد عام من ولادته، وربته جدته، والمعروف أن ديكارت كان فذًا، ومنذ شبابه المبكر ظلت تمتلكه رغبة حادة في التوصل إلى معارف أكيدة بشأن الطبيعة، والإنسان، والكون، وقد انتهى إلى قناعة بعد دراسة الفلسفة أنه جاهل بشكل كامل، وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في الفلسفة، حتى بعد موته، وعليه اعتبر أبو الفلسفة الحديثة، حيث تمكن من جمع أفكار المرحلة في منهج فلسفي مترابط، وقد كان متقدمًا على عصره.

أما ديفد هيوم، فهو من مواليد مدينة اسكتلندا سنة (1711م)، توفي والداه وهو في سن الثالثة من العمر، فرباه عمه جورج، وهو كاهن في كنيسة، ومن أشهر كتاباته كتاب ألفه في فهم الطبيعة الإنسانية، وهو رائد من رواد الفلسفة التجريبية الذي لا يزال الأكثر تأثيرًا من بين التجريبيين، وقد نشر كتابه الأهم في الثامنة والعشرين من عمره، وهو بعنوان " أطروحة في الطبيعة الإنسانية"، لكنه كان يؤكد أن فكرة الكتاب كانت لديه منذ سن الخامسة عشرة.

وهيجل الفيلسوف الكبيرصاحب الفكر المثالي، ولد عام (1770م)، وقد توفيت أمه وعمره أحد عشرعامًا، وتعتبر فلسفته معقده جدًّا ومتعددة الوجوه، ولكن بعض النقاط الأساسية تشير إلى أن مصطلح الفلسفة يعني عند هيجل منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، ومن أفكاره أنه لا يمكن فصل أيفيلسوف، أو أية فكرة عن سياقها التاريخي، فالعقل عنده تقدمي، أي أن معرفة الإنسان هيفي تطور مستمر، ومن هذه الزاوية، نرى أنها تتجه دائمًا إلى الأمام، بمعنى أن تراكم المعرفة والمعلومات يجعل من يأتي لاحقا أقدر على طرح أفكار أكثر دقة، ولكن ذلك لا يعنيأن الأمر يتوقف هناك، فالأفكار تخضع لنقد الأجيال اللاحقة، ويقول هيجل إن فكرالعالم سينمو، ليصل إلى وعي أكبر فأكبر لذاته، تمامًا كما تصبح الأنهار أوسع مجرى كلمااقتربت من المحيط، فليس التاريخ برأي هيجل إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم على نفسه، لقد وجد دائمًا، ولكن عبر ثقافات البشر وتطورهم، أصبح فكر العالم يعي خصوصيته أكثر فأكثر.

والصحيح أن العقل الجماعي ظل دائمًا يقاوم أي فكرجديد، ولكن فكر الأشخاص الأفذاذ ظل دائمًا يجد له منفذًا، ويجد طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم، حتى وإن ترددت البشرية بالأخذ به في زمن المفكر، ولكن نجد أنه غالبًا ما يتم الرجوع إليه، والأخذ به في زمن لاحق، ويرد له اعتباره، وكأن المبدعين الأيتام يعيشون فعلاً في زمن يتقدم على زمانهم.

أخيرًا ، لا بد من التنويه بأن المقال هنا يشكل رصدًا لظاهرة تعتبر على درجة عالية من الأهمية، ويمكن رصدها وملاحظتها في الكتب والمراجع وكتب السيرة، ولا يمكن الادعاء بأن الاستنتاجات هنا هي حقائق علمية يمكن الأخذ بها كمسلمات، فلا شك في أن كل جوانب هذه الظاهرة ما تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة، والبحث، والتمحيص المتعمق، ولكن تظل هناك حقيقة قائمة وأكيدة، وهي أن كثيرا من الأيتام هم رواد التجديد، وحملة ألوية الفكر عبر التاريخ، إضافة إلى كونهم القادة الأفذاذ، والأدباء المبدعون في مجالات الأدب والعلوم المختلفة.

قديم 08-17-2010, 10:57 AM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (7) : مُبطِلاتُ العقل


لا شكَ في أن العقل يُمثل قوة هائلة، وطاقة غير محدودة، وهو حتمًا أقوى عنصر في الوجود. إنه ناقل المعرفة والأفكار ومستقبلها، إن لم يكن مصدرها، على رأي سقراط، وغيره من الفلاسفة العقلانيين، من خلال قدرته على إنتاج الأفكار، وهو مركز المعلومات التي تتجمع في الذاكرة، وتشكل مصدر القوة المبدعة الخلاقة، وهو مركز الخيال الواسع، الذي يعتبره بعضهم صفة مميزة للإنسان عن غيره من الكائنات، وهو أيضًا القوة الكامنة وراءالإنتاج بمختلف أشكاله: الفكري، والمعرفي، والمادي، وبالتالي هو مصدر المناهج الفكرية، والطاقة التي تكمن وراء البناء والتقدم الحضاري، وتطوير المجتمع نحو الأفضل. والعقل هو مصدر الحكمة، والمنطق، والرأي الصائب، والتصرف الحسن، ما دام يعمل باتزان، وما دام تحت السيطرة، والعقل هو حتمًا أصل كل فعل بخيره وشره.

ولكن هناك كثير من المبطلات التي تعطل العقل، منها ما يؤدي إلى شلل وعجز في نشاط العقل، ومنها ما يؤدي إلى عمل نقيض الحكمة، والمنطق، والاتزان، ومنها ما يجعل الفعل شريرًا هادمًا للبناء والتقدم.

ولا شك في أن هذه المبطلات كثيرة، منها المعروف تاريخيًّا، وطبيًّا، من خلال تراكمات المعرفة الإنسانية، ومثال ذلك الجنون بمختلف أشكاله، ومنها الأمراض النفسية التي لا ترقى لمرض الجنون، ولكن البشرية ما تزال تحبو في التعرف عليها، والتعامل معها ومعالجتها، ولكنها حتمًا تشل العقل، أو تؤثر على إنتاجيته، فيعمل بظلامية، ويصدر عنه أمور مهولة هادمة أحيانًا ومدمرة.
وهناك عدد من العوامل التي تؤدي إلى تعطيل العقل بشكل مؤقت مثل:الغضب، والانفعال، والحب، والمسكرات، والمخدرات، وغيرها من العوامل الكثيرة التي تغيب العقل خلال تأثيرها الآني، ولكن العقل ما يلبث أن يعود ليعمل ضمن الحدود المنطقية التي يمتاز بها.

أما مبطلات العقل الأكثر خطورة فهي تلك التي تمارس أثرها على العقل بصورة مبطنة، وغير مرئية، وغالبًا ما تستخدم أساليب عقلية، وفكرية، ومناهج فذة في التحكم بالقدرات العقلية للأفراد، والمجتمعات ككل، وتعمل على توجيهها والسيطرة عليها، ويكون لهذه الأساليب الأثر الأكبر ضمن فئة الناس الأقل تعليمًا، وثقافة، ودراية، ومعرفة، ولكن أثرها لا يقتصر على تلك الفئة، بل يمتد إلى سائر الفئات، عبر الثقافة، والفكر، والمناهج، وهي التي تشكل النمط الحضاري في كل عصر من العصور.

ولا شك في أن العقل قد اخترع الأسطورة الأولى البدائية إثر اندهاش الإنسان، ولحاجته إلى تقديم تفسير للظواهر التي حوله، ومن ثم اخترع الآلهة الأسطورية في الأزمان الغابرة، في محاولة منه لفهم الكون، والإجابة عن تلك التساؤلات التي انبثقت في ذهنه، وإيجاد تفسير لكل الظواهر الطبيعية، لتحقيق التوازن الذهني، ومن أجل التعايش مع واقعه، ولكن هذه الأساطير أصبحت تلقائيًّا ديانة تعطل العقل، وتبطله، رغم أنها هي نفسها من إنتاج العقل.

ولم يكن من السهل التخلص من سيطرة هذا النهج الأسطوري في التفكير، والذي عطل العقل لحقبة زمنية طويلة، رغم ولادة الفلسفة التي اعتمدت على التجربة الحسية في الوصول إلى المعرفة، واعتبرت العقل عند بعضهم هو الأساس في توليد الأفكار، مما أنتج مناهج فكرية مهمة في حينه، أثرت في التطور الحضاري للإنسانية ككل.
ولكن الفلسفة عادت لتنزلق من جديد في المثالية على يد الأفلاطونية الجديدة، التي تزامنت مع ولادة المسيحية، وهذه المثالية أثرت سلبًا على استخدام العقل، فلم يعد العقل أساسيًا في المعرفة، ولذلك فَقَدَ العقل قيمته، وتم تعطيله ومحاربته من جديد، حيث غرقت البشرية على يد الكنيسة والفكر الكنسي في ظلام شديد، أطلق عليه اسم العصور الوسطى.

وفي وسط ذلك الظلام، ولد الإسلام، الذي أعطى العقل وزنًا وقيمة عالية، واعتبر التفكير، واستخدام العقل من أساسيات الدين، والإيمان، ولم يكن مناداة الإسلام بنهج الوسطية أمرًا اعتباطيًّا أو عشوائيًّا، ولكنه كان أسلوبًا وآلية لضمان عدم تعطيل العقل من جديد، لا بل من أجل توفير الفرصة والضمانة لهذا الجهاز المهول، بأن يظل يعمل بكامل طاقته، لما فيه خير البشرية.

ولكن ومع الزمن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين في مثالية دينية متطرفة، وتبنت نهجًّا مطلقًا في التفكير، عطل الوسطية وقيد العقول، وعطلها على اعتبار أنها ليست محل ثقة، مثلها مثل الحواس، وحاربوا الفلاسفة العقلانيين، وذلك من خلال اعتبار نهجهم الإيماني القائم على الإلهام هو النهج السليم، وكل نهج غيره خروج عن الدين وزندقة وكفر.


وانزلقت الشعوب الإسلامية تحت هذا التأثير في ظلام، بينما بدأت الشعوب التي تململت، وبدأت تتخلص من حكم الكنيسة الظلامي، وعادت لتسخيرالعقل والمناهج العقلية لتنهض من جديد، فيما سمي بعصر النهضة، وفي زمن لاحق زاد الاهتمام بالعقل، ووُلِدَ مزيدٌ من المناهج العقلية التي تقدم العقل على غيره، فضعفت مبطلاته، وصارت له السيادة، فَوُلد ما يسمى بعصر التنوير، والذي انتقلت فيه الحضارة البشرية نقلات نوعية مهولة.

لكن التقدم الحضاري انعكس على الفكر من جديد في العصر الحاضر، فولد علم النفس، الذي جعل من الإنسان وشخصيته وعقله محور اهتمامه، وبذلك توصل الإنسان إلى فهم أكبر لكيفية عمل العقل، ودور كل من الانا ، والأنا العليا، والد، والذي هو مركز الغرائز في توجيه الشخصية، وطور آليات للتأثير والتحكم في الأنا العليا التي تمثل مركز المثل، وبالتالي بوصلة الشخصية والمتحكم فيها.

ومن جديد تمكن العقل البشري بقدراته الفذة من تطوير أساليب جديدة للسيطرة على العقل، وتعطيله والتحكم فيه، ويقع ضمن هذه الأساليب مدارس سعت إلى برمجة تفكير الإنسان، وتوجيهه، وقد استخدمت عدة أساليب، على رأسها التربية والتعليم، والإعلام بجميع وسائله، حيث أصبحت بعض المؤسسات، والأجهزة، والدول، تمارس ما يعرف بمسح الدماغ المنظم، أو غير المنظم، وغير المباشر، ومنها من عمل على برمجة التفكير وتوجيهه، ومنها من سخر علمه، مثلاً، في شن حروب نفسية ساهمت في حسم المعارك، وهذا الجزء من المعركة يتمحور حتمًا حول تعطيل العقول وشلها.

ولا شك في أن ولادة علم النفس، والتطور الذي حصل في فهم الشخصية الإنسانية، ساهم في تطوير برامج ذكية، ومناهج قادرة على التحكم في العقل وتعطيله وتوجيهه نحو أهداف محددة تخدم مصلحة المبرمج، وهذه المناهج تستثمر من قبل الحكومات، والدول، والأنظمة الفكرية، وبما يخدم مصالحها. كما أنها أصبحت تستخدم من قبل الشركات التجارية، التي تدفع شخصًا معينً الاختيار منتج معين فقط، من خلال قدرة المادة الإعلانية أو الإعلامية في برمجة مزاجه، ورغبته، ودفعه لاختيار منتج بدل آخر، وما ذلك إلا عملية يتم من خلالها التحكم في قدرة الإنسان على الاختيار، فهو إذن عملية تعطل العقل من ناحية لحساب ناحية أخرى.

ولا شك في أن صراعًا شرسًا، لكنه في معظمه غير مرئي وغير ملموس، يدورفي الخفاء بين المدارس الفكرية، التي تحاول كل منها دحض المدارس المنافسة، وترسيخ أفكارها ومناهجها، وذلك من خلال التحكم في برمجتها للعقول، والسيطرةعليها.

ولكن أخطر ما في الأمر هو أن يصبح الإنسان أداة طيعة في يد هذه المدارس والمناهج، حين تنجح في برمجته، فيكون مثل الآلة التي يتم التحكم بها عن بعد، يتصرف ضمن برنامج فذ، تمكن من تعطيل عقله، وإعادة برمجته ضمن تصور مفروض عليه، لكنه في الغالب يجهل ذلك، ويكون مسلوب الإرادة تجاهه، بسبب قدرة ذلك المنهج على التحكم في عقله، ودفعة للإيمان المطلق بأنه الخيار الأفضل، والأوحد.

وهذا ما يحصل عادة في الأحزاب السياسية، والمذاهب والتنظيمات الفكرية، والتي تعتمد على برمجة أعضائها ليفكروا ضمن منظومة فكرية معينة ومسيطر عليها، وعندها يبدو أن الأعضاء وكأنهم نسخ مستنسخة بعضها عن بعضها الآخر.

وأخطر من كل ذلك، هو أن يصبح الإنسان ضحية للمدارس التي تعطل العقل الفردي، وتستبدله بالفكر الجماعي للتنظيم أو الحزب، ومن ذلك التطرف بجميع أشكاله. فعندما اندهش الإنسان الأول من ظواهرالطبيعة، قدم العقل تفسيرًا بدائيًّا يحقق الرضا والتوازن للإنسان، ولكن كلما توسعت تجربة الإنسان، وضعفت قناعاته بذلك التفسير، كان العقل يتدخل من جديد من أجل تطويرالفكر، فيشكل الفكر الجديد البديل، لكن هذا البديل ظل دائمًا، في جزء منه، يعطل العقل وقدراته، على أساس أنه هو الطرح الأنسب والأكمل.

والصحيح أن العقل البشري، الذي يجمع الخبراء على أنه لا يعمل سوى بما نسبته (5%) من طاقته، سيظل فاعلاً، ونشطًا، ويعطي، وينتج أفكارًا ونظمًا فكرية جديدة، مهما تعددت وسائل إبطاله وتعطيله، فهو المتحكم في البداية، وفي النهاية ستظل له كلمة الفصل.

وكما يقول الفيلسوف هيجل "نحن لا نستطيع أن نجمد الأتي، ذاك أن ما هو قائم في أساس المعرفة الإنسانية يتغير ويتطور عبر الأجيال، لذلك لا نستطيع الكلام عن حقائق أبدية، فلا وجود لعقل لازمني".

وحيث أن العقل، مصدر الأفكار، فلا بد إذًا أن يظل قادرًا على دحض كل أساليب تعطيله وتحجيمه مهما تعقدت، وحتمًا إن فكر العالم ووعيه سينمو ويتقدم، فتراكمات الفكر تمثل اختراقات ثورية للعقل يحطم فيها كل الحواجز، والموانع، والمبطلات التي تحاول إعاقة تقدمه، رغم أنها في أحيان كثيرة تكون بطيئة.

وعليه لا شك في أن البشرية تتجه دائمًا نحو قدر أكبر من العقلانية والحرية والوعي لتصل، ربما، في يوم من الأيام إلى الوعي المطلق.

قديم 08-18-2010, 12:39 PM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (8): ما التاريخ إلا سجل لأفعال وصراعات شخصيات كارزمية.

يعرف التاريخ على أنه مجموعة الأحداث السابقة، ويعرف أيضًا على أنه تسجيل للجرائم، والأخطاء، وسوء حظ الإنسانية. وبعضهم يعرف التاريخ على أنه مذكرات المنتصر، ومنهم من يعتبره ملخص التجربة الإنسانية، وسجل نشاط الناس الذين يسعون لتحقيق أهدافهم.

وعلم التاريخ هو دارسة الماضي، بالتركيز على الأنشطة الإنسانية، وحتى الوقت الحاضر، ولا شك في أن الأحداث في فترة زمنية معينة هي التي تعطي كل عصر من العصور سمة حضارية معينة.

ما يعنينا في هذا المقال هو كيف يصنع التاريخ؟ ما يهمنا هو ما يطلق عليه البعض فلسفة التاريخ، بمعنى السبب والنتيجة وراء التاريخ، وعليه سنركز في هذا المقال على الأسباب الكامنة وراء صناعة التاريخ، كما هي في التراث الثقافي الفلسفي الإنساني، ثم نقدم رؤيا جديدة تفسر أسباب حدوث التاريخ. وما هي القوة الكامنة وراء صناعة التاريخ؟

لا شك في أن الاهتمام بالتاريخ أمر قديم جدًَا، فقد اهتم الفلاسفة الإغريق بمعرفة أية قوة تحكم مسيرة التاريخ، وسألوا: هل الناس هم الذين يحكمون التاريخ؟ أم أنه عبارة عن سجل للأحداث المقدرة، ولما هو مقرر سلفًا ؟ ويُظهر اهتمام الناس في ذلك العهد بالعرافة وعلم الفلك أن الناس كانت تعتبر الأحداث أمرًا مقدرًا وما التاريخ عندهم إذن إلا سجل لأحداث مقدرة سلفًا.
لكن هذه النظرة بدأت تتغير عندما بدأ الفلاسفة الإغريق بالبحث عن تفسير عقلاني للظواهر الطبيعية، وعليه تغير مفهوم التاريخ أيضًا، وأصبح غاية علم التاريخ إيجاد الأسباب الطبيعية الكامنة وراء مسيرة التاريخ...فلم تعد خسارة حرب مثلاً ترد إلى مجرد انتقام إلهي، وكان أشهر المؤرخين اليونان في تلك الحقبة هيرودوت الذي عاش بين (484 و 424 ق.م).

لا شك في أن الإيمان بالقدر امتد منذ ذلك الزمن، وحتى أيامنا هذه. وظل قطاع كبير من الناس يميلون إلى اعتبار التاريخ سجلاًّ لما هو مقدر سلفًا.. لكن عبر العصور، وبتطور الفلسفة والمعرفة والعلوم وأساليب البحث، واهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء في البحث عن العلل والأسباب وراء حدوث الأشياء، جاء مَن قدم فهمًا آخر للتاريخ.

في مطلع العصور الوسطى جاء القديس أوغسطينوس، وقد اعتبر أن التاريخ ما هو إلا صراع بين مملكة الله، والمملكة الأرضية، وهاتان تتصارعان داخل كل كائن بشري وخارجه، وتتمثل مملكة الله عنده في الكنيسة، بينما تتمثل مملكة الأرض في التنظيمات السياسية مثل الإمبراطورية الرومانية التي انهارت في عصر القديس أوغسطينوس.

وقد استمر النظر إلى التاريخ عبر هذين المنظارين خلال العصور التي تلت مرورًا بعصر النهضة، وعصر التنوير... فمن ناحية ظلت الديانات السامية تنظر إلى التاريخ على أنه سجل لما هو مقدر، كما أنه صراع الفرد ضد قوى الشر والباطل، والسعي من أجل نشر كلمة الحق كما هي الحال عند المسلمين.

أما المفكرون المنحدرون من الثقافة الهندو- أوروبية، التي اشتغلت بالبحث الفكري والفلسفي، فقد رأت أن التاريخ هو صراع الإنسان ضد قوى الطبيعة، والتاريخ هو سجل لهذا الصراع، رغم أن هذا المفهوم لم يتطور بشكل واضح، إلى أن جاء الفيلسوف هيجل الذي ولد عام (1770م )، واعتبر أن الفلسفة مصطلح يعني منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، وقد عني بالحديث عن تاريخ البشر.

والتاريخ عند هيجل ما هو إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم، أو عقل العالم على نفسه، وعنده أن البشرية تتجه نحو معرفة أكبر، وهو يرى بأن التاريخ يشهد على أن البشرية تتطور باتجاه قدر أكبر من العقلانية والحرية. لذلك يرى هيجل بأن التاريخ ما هو إلا سلسلة طويلة من الأفكار، وهو يحدد القواعد التي تحكم هذه السلسلة، ففي نظره يكفي أن ندرس التاريخ قليلاً لنرى كيف تبنى كل فكرة على فكرة أخرى أقدم منها، ولكنها ما تكاد تطرح حتى تأتي فكرة ثالثة تحافظ على الأفضل في سابقتيها، وهذا ما يسميه هيجل التطور الجدلي، بمعنى، ما إن يحدد موقف ما تحديدًا دقيقًا، حتى يجتذب نقيضه، وهذا ما يسميه هيجل النفي.

حينما تولد فكرة تأتي فكرة أخرى لتنفيها، وهذا يحدث توترًا بين الفكرتين، بين رؤيتين متناقضتين تمامًا، فتأتي فكرة ثالثة تتبنى الجانب الصحيح من الفكرتين، وتأتي هي برؤيا جديدة، وعنده مثلاً أن عقلانية ديكارت تشكل رؤيا وفكرة، وتجريبية هيوم هي نقيضها، وقد نتج عن هذين المنهجين في التفكير تناقض وتوتر فجاء فكر (كانت) ليجمع ما أصاب به المنهجان، فأعطى بعض الحق للعقلانيين، وبعضه للتجريبيين، وأظهر نقاط ضعف المنهجين في نقاط أخرى.

لكن التاريخ عند هيجل لا يتوقف عند (كانت) ففكره ورؤيته هما نقطة انطلاق لسلسة جديدة من الأفكار، والواضح أن التاريخ عند هيجل هو تطور العقل الذي يحكمه قانون الجدلية أو الديالكتيك.

أما ماركس الذي يعتبر أبو الفلسفة المادية التاريخية، فيرى أن الشروط المادية في المجتمع، هي التي تحدد جذريًّا وتملك تفكيرنا، وهي التي تقع في أساس كل تطور تاريخي، ويتفق ماركس مع هيجل بأن التطور التاريخي يأتي من التوتر بين عناصر متناقضة تختفي تحت وقع تغير فجائي، ولكنه يرى بان هيجل فسر الأمور بشكل خاطئ. فقد رفض ماركس أن فكر العالم أو العقل الكوني، هو القوة المحركة واعتبر أن هيجل فهم الأمور بالمقلوب.
وقد سعى ماركس لأن يبرهن على أن المحرك الحقيقي للتاريخ، وصانعه ما هو إلا تغير ظروف الحياة المادية، بمعنى أن الظروف الروحية ليست هي أساس تغيرات الظروف المادية في الوجود، وإنما العكس فالظروف المادية تحدد ظروفًا روحية جديدة. من هنا شدد ماركس على وزن القوى الاقتصادية والاجتماعية وأهميتها داخل المجتمع، والتي أطلق عليها ماركس اسم البنية التحتية، واعتبر أن هذه القوى هي التي تسبب كل أنواع التغيير، وتحقق بذلك تقدم التاريخ. ويرى ماركس أن البنية الفوقية التي تمثل نمط تفكير المجتمع، ما هي إلا انعكاس البنية التحتية، ويرى أن هناك تفاعلاً وتأثيرًا متبادلاً بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وأن ما يحكم هاتين البنيتين هي العلاقة الدياليكتيكية، وهو يرى أيضًا أن الطبقة المسيطرة هي التي تحدد الخير والشر في التاريخ. وعنده، ما التاريخ إلا صراع طبقات، ولا يفعل التاريخ إلا رسم خط هذا الصراع على امتلاك وسائل الإنتاج.
لقد كان ماركس يعي أن البنية الفوقية قد توثر في البنية التحتية، لكنه لا يعترف لها بتاريخ مستقل، ففي نظره أن جميع التحولات التاريخية منذ مجتمع العبودية في العصور القديمة حتى المجتمع الصناعي في أيامنا، تعود إلى تحولات في البنى التحتية للمجتمع، وتتميز كل مراحل التاريخ في نظر ماركس، بمواجهة وصراع بين طبقتين اجتماعيتين، هما مثلاً في العصور القديمة، طبقة العبيد، وطبقة المواطنين الأحرار. ويرى ماركس أن كل نظام اقتصادي يحمل في داخله تناقضاته الداخلية، وبذور فنائه، ولذلك فهو يرى بأن الرأسمالية تحمل في داخلها تناقضات داخلية، وعليه فإن الانتقال إلى المرحلة الشيوعية هو حتمية تاريخية، وذلك ما حدث بالنسبة للمراحل السابقة.

ولكن المعرفة الإنسانية لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد جاء من سَجّلَ مآخذ على فلسفة هيجل، واعتبر أن الحقائق الموضوعية التي تنادي بها الهيجلية لا يمكن أن تطبق على الوجود الفردي، كما قال كيركيغارد، الذي لم ير فائدة من وصف عام للطبيعة العميقة أوالإنسان، فالمهم عند كيركيغارد هو وجود كل فرد، ولا يمكن للإنسان أن يعي وجوده إلا من خلال الفعل، وعنده أن كل وعي حقيقي يأتي من الداخل، وقد اشتقت الفلسفة الوجودية مبادئها من هذا الطرح وبنت عليه، حيث أصبح الفرد هو محور الوجود، وبالتالي محور كل ما له علاقة بوجوده، بما في ذلك صناعة التاريخ.

كذلك جاء من سَجّل َمآخذ على الماركسية، فبينما كان ماركس يرى بأن الإيدولوجيات الإنسانية هي نتاج الظروف المادية للمجتمع، أوضح دارون في نظريته "أصل الأنواع"، بأن الجنس البشري ما هو إلا ارتقاء بيولوجي بطيء، وأن حياة الكائنات ما هو إلا صراع للبقاء، وكان دارون يرى أن الحياة عبارة عن يانصيب كبير نرى فيه الأرقام الرابحة فقط.

بينما كشفت دراسات فرويد عن اللاوعي أن تحركات الناس وتصرفاتهم في معظمها تنتج عن دوافع أو غرائز حيوانية، ومن خلال عمله على تحليل أعماق النفس البشرية، أو ما يسمى التحليل النفسي، قدم فرويد منهاجًا لفهم ماهية الإنسان وتصرفاته وأعماله. وقد آمن فرويد أن هناك علاقة صراعية دائمة بين الفرد ومحيطه، وتحديدًا بين رغبات الإنسان وغرائزه من جهة، ومتطلبات العالم المحيط به ومحرماته. وبذلك فهو يرى بأن العقل ليس هو الوحيد الذي يقودنا، فغالبًا ما تحدد اندفاعات لا عقلانية ما نفكر به أو نفعله، ويمكن أن تكون هذه الاندفاعات اللاعقلانية تعبيرًا عن غرائز، أو رغبات عميقة.

وبين فرويد أيضا أن هذا النوع من الحاجات الأساسية قد يظل مقَّنعًا، مكبوتًا، متنكرًا، لكنه يدير بذلك أفعالنا بدون أن نعي، وقد لاحظ فرويد عدة أشكال من الآلام النفسية، والحالات العصبية التي تعود لأزمات عاشها المريض في طفولته، وقد رأى أننا نحتفظ في أعماق أعماقنا بجميع ذكريات الماضي مخبأة، وهي التي تحدد وتحرك قدرات الإنسان.

كما رفض الفيلسوف الوجودي الأول، نيتشه، فلسفة هيجل والتاريخية الألمانية، وطرح مقابل ذلك الاهتمام المطلق بالتاريخ، والاهتمام بالحياة نفسها.
أما سارتر، فقد رأى أن الوجودية فلسفة إنسانية، وأن نقطة انطلاق الوجوديين هو الإنسان، حيث أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يعي وجوده، وعلى الإنسان أن يخلق طبيعيته وجوهره، فالحياة أو الفعل عند سارتر هي أن نختار كيف نعيش حياتنا، والقلق هو المحرك للإنسان عندما يعي وجوده، والموت الذي هو نهايته.
ويرى سارترأن الإنسان يشعر بنفسه غريبًا جدًا في عالم يفتقر إلى المعنى، وعندما يصف هذه الغربة عن العالم، يلتقي مع هيجل وماركس، فهذا الإحساس بالغربة يخلق إحساسًا بالعبثية.

والمهم في الطرح الوجودي، وما قدمه كل من دارون وفرويد من فكر وشرح للطبيعة الإنسانية، أن يعطي أهمية عظيمة لدور الفرد في المجتمع، وكأن الفرد وأفعاله بغض النظر إذا ما كانت عبارة عن صراع للبقاء، كما يقول دارون، أو صراع ضد المحيط كما يقول فرويد، أو هو نتيجة لوعي الإنسان بوجوده وإحساسه بالغربة، واختياره كيف يعيش كما يقول سارتر، فهي في مجملها تجعل الإنسان الفرد محور الفعل، وبالتالي محور صناعة التاريخ، والقوة الكامنة وراءه.

إذن تُجمع المناهج السابقة، على بأن التاريخ ما هو إلا عبارة عن سجل لأحداث تنتج عن صراع ما. فهو إما صراع الحق ضد الباطل، وهو صراع الإنسان ضد الشيطان، وقوى الشر، وفعل كل ما يمكن أن يقود الإنسان للنجاة والفوز بالجنة، كما هي الحال عند الأديان السماوية. أو هو صراع ضد الطبيعة، كما تصور الفلاسفة عبر العصور، أو هو صراع أفكار في وعي العالم كما يراه هيجل، أو هو صراع طبقي كما يعتقد ماركس، أو هو صراع البقاء كما يطرح دارون، أو صراع الفرد ضد محيطه كما يقول فرويد، أو هو صراع ذاتي يحصل داخل الفرد كنتيجة لوعي الإنسان بوجوده، وإحساسه بغربته، وقدرته على الاختيار، وما ينتج عن ذلك من قلق.

إن الشواهد التاريخية، وما أوصله التاريخ من سجلات لنا، تشير بوضوح الى أن كل هذه التفسيرات لم تُصِبْ كَبِدَ الحقيقة في فهم القوة المحركة للتاريخ... صحيح أن هذه الأطروحات قدمت كثيرًا لفهم حركة التاريخ، حين اعتبرت أن الصراع على اختلاف أشكاله هو محور الحياة، وبالتالي محرك أساسي لصناعة التاريخ، فالصراع ضد قوى الشر والباطل موجود، والصراع ضد قوى الطبيعة موجود، والصراع الفكري الذي يحكمه تطور العقل وقانون الجدلية، ويؤدي إلى سلسلة من الصحوات البطيئة في الوعي البشري- كما يقول هيجل-موجود...كما أن صراع الطبقات الناتج عن تغير الظروف المادية، وعن التوتر بين عناصر متناقضة في الطبقات في المجتمع موجود أيضًا.

لكن أين دور الفرد الفذ والعبقري والمبدع الذي يمتاز بطاقات هائلة، وكرزما طاغية، وسحر استثنائي من كل هذه الحركة عبر التاريخ؟ إلا نجد حينما نغوص في التاريخ أن حفنة من الأشخاص الأفذاذ بعينهم، الذين يمتلكون صفات خاصة وطاقات استثنائية، سواء كانوا قادة، أو مفكرين، أو أدباء، أو علماء قد برزوا في عصورهم. وحققوا إنجازات شكلت منعطفات تاريخية مهمة وبارزة بقيت حية في ذاكرة التاريخ؟ وبذلك كانوا هم السبب الحقيقي وراء حركة التاريخ وصناعته؟

وحتى لو سلمنا بأن التاريخ هو نتاج أحد تلك الصراعات، أو جميعها، ألا تُظهر الشواهد التاريخية بوضوح أن أفراداً أفذاذاً هم بعينهم الذين تركوا بصماتهم على حركة التاريخ؟ وهم الذين قادوا هذه الصراعات على اختلاف أشكالها، أو كانوا جزءًا أساسيًّا وفاعلاً منها؟ وهم الذين صبغوا التاريخ بصبغتهم وأدائهم وإنجازاتهم في رحلة الصراع المتعددة الجوانب تلك؟
كما أننا نجد أن تطور الوعي البشري، وولادة أفكار وحركات وقفزات ثورية ترفض التسليم بالموروث والقائم، وتطرح أفكارًا جديدة في سلسلة الوعي، هم أفراد أفذاذ حتمًا، وذلك واضح في تاريخ تطور الفكر والمدارس والمناهج الفكرية والفلسفية، سواء من وضع الأسطورة الأولى، أو الكنفوشية، أوالبوذية...حتى أن هيجل الذي فسر هذه الظاهرة على أساس أنها حركة جدلية ديالكتيكية حيث تلد الفكرة، ومن ثم يأتي نقيضها، وهكذا دواليك ما هو إلا فرد عبقري فذ. ومما لا شك فيه ايضا ان جميع من ذكروا سابقا هم من العباقرة الافذاذ!!

ولو اعتبرنا أن التاريخ صراع بين الحق والباطل ألا نجد أن الأنبياء وأتباعهم المخلصين من بعدهم، هم صناع التاريخ وقادة هذا الصراع على جميع أشكاله، وقد تركوا وما زالوا بصماتهم بقوة مهولة على حركة التاريخ؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع ضد الطبيعة، ألا نجد أن فلاسفة الطبيعة ومن جاء بعدهم من علماء أمثال سقراط ومنهجه السقراطي، وابن سينا والرازي ولاحقًا كوبرنيكس، ونيوتن، وآينشتاين، وجاليلو هم الذين تركوا بصماتهم من خلال محاولاتهم للانتصار على الطبيعة، ومعرفة كنهها، والسيطرة عليها وكذلك الكون وماهيته؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع أفكار، ألا نجد أن ثلة من الفلاسفة الأفذاذ ابتداء بسقراط وانتهاء بـهيجل مرورًا بكل المناهج الفكرية، هم الذين ولًدت عقولهم أفكارًا مهولة تركت بصماتها على التاريخ؟

وكذلك لو سلمنا أن التاريخ هو صراع طبقات، ألا نجد أن الذي تمكن من تحقيق الوعي بوحدة العمال، وتمكن من تنظيم طبقة العمال لتقوم بأول ثورة ماركسية شيوعية هم ثلة من الأفذاذ الأفراد ابتداء بـ ماركس، وانجلز... ومرورًا بلينين، وستالين، وماو تسي تونج، وهوشي منه، وكاسترو، وجيفارا.

ثم أليس التراث الأدبي الإنساني، من صناعة عباقرة وإبداع عقول أفراد أفذاذ من هوميروس، إلى شكسبير، وتوليستوي، والمتنبي، والعقاد، وجبران خليل جبران، وادجر الن بو، مرورا بالأدباء الأفذاذ المعاصرين ممن تركوا بصماتهم الأدبية على التاريخ، وساهموا بإبداعاتهم في صناعته؟


كذلك ألا نجد أن عددًا محدودًا من القادة الأفذاذ الذين يمتلكون كرزما استثنائية، وشخصيات قيادية فذة، هم الذين كان لهم دور أساس في صناعةالتاريخ؟ لا بل دور حاسم وأساس في ذلك، من خلال قدرتهم على استنهاض الهمم والطاقات؟ ألا يظهر التاريخ أن الرجل الزعيم هو القوة الدافعة التي تشكل التاريخ وتصنعه؟ فالقائد، القادر، الفذ، الحاذق، الماكر، صاحب الرؤيا والحنكة، هو الذي يقود شعبه إلى تسجيل صفحات ناصعة في التاريخ؟ ألا تشكل انتصاراتهم أو هزائم بعضهم في بعض الأحيان، شواهد تاريخية مهمة وبارزة؟ ألا تقع هذه الفئة تحديدًا بما تمتلكه من قدرات وطاقات كرزمية ساحرة، وقدرة على التأثير بالفعل على رأس قائمة صناع التاريخ؟

إن دارون، وفرويد، وسارتر وغيرهم ممن أعطوا قيمة للفرد في حركة التاريخ، واعتبروه مركز الفعل ليسوا سوى أفراد، عباقرة، أفذاذا ساهموا في صناعة التاريخ وكتابته. والمهم في كل ذلك، وهنا يكمن بيت القصيد، وتكمن أهمية هذا البحث، كما نشاهد عبر مسيرة التاريخ ، أن معظم هؤلاء الأفراد الأفذاذ إن لم يكونوا جميعًا، والذين كان لهم دور حاسم ورئيس في صناعة التاريخ كانوا أيتامًا، فهل اليتم هو صانع التاريخ ؟ وهل التاريخ عبارة عن سجل لانجازات وأفعال وثورات ومخرجات وابداعات وصراعات ومبادرات من صنع ثلة من الأيتام، وإن تعددت مظاهرها ومجالاتها في القيادة والأدب والعلم والفكر؟ هل هو صراع هذه الثلة من الأيتام ضد المجتمع، حيث يدفعهم ما يمتلكون من طاقة استثنائية لتبني رؤيا مناقضة لما هو سائد ومألوف، فيقعوا في تضاد يترك بصمته على حركة التاريخ؟ هل هو صراع هؤلاء الأيتام ضد بعضهم بعضا؟ هل هو صراع ثلة من العلماء والمفكرين ضد المجهول والطبيعة؟ وإن كان الصراع نفسيًّا داخليًّا متأثرًا بقوى اللاوعي كما يقول فرويد، أو اغتراب وقلق كما يقول سارتر، فهل يكون اليتم هو الذي يتسبب بتلك الطاقة الكامنة الزائدة التي تحرك الصراع وتفعله وتجعله حادًّا، مهولاً مؤثرًا؟ وهل يتضخم الصراع النفسي الداخلي في الفرد، أو بين الفرد ومحيطه، كنتيجة مباشرة لتلك الطاقة الاستثنائية؟

في ضوء كل ما سبق يتضح جليًّا أن الأيتام هم الذين يصنعون التاريخ، حيث تترجم طاقاتهم إلى قوة فعل، وتأثير، وصراع متعدد الجوانب والأشكال والمظاهر، فيكون التاريخ.

طبعًا كل ذلك لا يعني أبدًا أننا نستثني أثرالعوامل الأخرى، فكما في الفلم السينمائي يكون هناك البطل، ويكون هناك طواقم عديدة ومتعددة، والكمبرس، وكلها تساهم في صناعة الفلم، ولكن الدور الرئيس في صناعة الفلم هو للبطل الزعيم الفذ، والقائد، والكرزمي، وفي غيابه لا يكون الفلم...وهكذا التاريخ، فصنّاعه هم الأبطال الأفذاذ، أصحاب الطاقات، والكرزمات، وهم في جلهم أيتام.


قديم 08-19-2010, 10:56 AM
المشاركة 15
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (9): هل القداسة منتج عقلي؟
طرح الدكتور مصطفى أبو هندي، رئيس قسم الأديان في جامعة المَلِك الحسن الثاني، في المغرب، ضمن برنامج إضاءات، الذي يقدمه تركي الدخيل، وتبثه فضائية العربية، موضوعًا مهمًّا جدًّا نظرًا لما يمثله من أثر على الفكر، والحضارة، وعمل العقل، والدين، والإيمان، والاجتهاد من القضايا المرتبطة.

والمهم الذي سنأخذه في الاعتبار، ضمن هذا المقال من كلام الدكتور مصطفى أبو هندي هو رفضه للقداسة، التي تقترن ببعض الأشخاص المفسرين، والأئمة، والناس العُدول، والمؤسسات عبر التاريخ، فتتحول هذه المؤسسات والأشخاص إلى ما يُشبه الصَنَمْ الذي نُعطيه قداسة استثنائية تجعله بمنزلة صنم، فنتحول نحن إلى عبادة العباد بدلاً من عبادة رب العباد.
وهو يرى مثلاً أن عملية تفسير النص القرآني هي عملية اجتهادية، تحتمل في طياتها الصواب والخطأ، وهي بالتالي عملية نسبية، تتأثر بشخصية المفسر، وظروفه، وبيئته، وزمنه، وتراكم المعرفة لديه، وغير ذلك من ألأمور الدنيوية.
وعليه فإنه يرى ضرورة للثورة، ثورة ضد الأصنام التي تتخذها عقولنا، دون وعي منا أحيانًا، وإعادة القداسة للنص الموحى به الذي يشتمل في طياته ما يَصلُحُ لكل زمان ومكان، وعدم إعطاء القداسة للإنسان الذي يقدم تفسيره للنص ضمن محدودية قدراته، مهما ارتقى في علمه وصفاته.
ولكن الدكتور مصطفى لا يقدم، رغم عدم التقليل من شأن ما يطرح، ما يكفى من المسوغات المنطقية والعلمية، والعقلية، لدعوته هذه، حيث تَحدّثَ بعموميات تعتمد على فهم عام لتطور الحضارة، وضرورة إعادة النظر فيما قُدم من تفسيرات في أزمان سابقة، نظرًا لتغير الظروف البيئية والحضارية، إذ تُصبح تلك التفسيرات غير مُلائمة للواقع المتغير، وعليه ونظرًا لتغير المعطيات لا بد من النظر إلى النصوص الموحى بها، بمنظار الوقائع الحضارية الجديدة المتغيرة، ليتم استنباط التفسير الملائم للمجتمع، ضمن المتغيرات الموجودة في حينه، وعدم الانزلاق بالأخذ بما يقوله الشخص المفسر بشكل مطلق، وعدم منحه الولاء إلى حد تقديسه، فيكون بمنزلة الصنم لنا، ونحن لا نعي ذلك في الغالب.

لن أتطرق هنا لموضوع التفسير، ولكني سأركز حديثي على الجوانب المتعلقة بالكيفية التي يعمل بها العقل البشري، والجوانب النفسية والفكرية والتاريخية المرتبطة باتخاذ الأصنام أربابًا، والأسباب التي جعلت عبر الزمن بعض الأفراد والمؤسسات يمتلكون ويمنحون قداسة استثنائية، حولتهم في عيون مريديهم إلى مايشبه الصنم، و الولاء لهم هو أقرب إلى العبادة، رغم أنهم بشر محدودو القدرة، ومن ثم نصل إلى خلاصة هل أن الدكتور مصطفى محق في دعوته للثورة للتخلص من الأصنام؟ أصنام القرن الحادي والعشرين؟

لا شك في أن الإدراك والوعي الذي يمتاز به الإنسان، وخوفه من الموت تحديدًا، وربما حاجته الفطرية هي التي دفعت البشر (ضمن المحيط والثقافة الهندو أوروبية ) لاتخاذ آلهة تُعبد وتُقدس، فكانت الآلهة الأسطورية المتعددة، حسب اختلاف البيئة، وكانت عِبادة الأصنام على تلك الشاكلة.
والتاريخ يشير إلى أن سيدنا إبراهيم الخليل، أبو الحنفية، عليه السلام قد رفع فأسه في الشرق، وحطم الأصنام، في ثورة عقلية عظيمة، حتى يُعيد الناس لعبادة رب العباد، ولكن فأس سيدنا إبراهيم عليه السلام، رغم ما فعلته من أفاعيل، لم تقض على الأصنام تمامًا، فظلت على مدار الأيام تعود لتتسلل إلى أذهاننا، ولكن بأشكال مختلفة واضحة أحيانًا ومموهة أحيانًا أخرى...وقد تأتي على شكل أفكار وقناعات تعتمل في العقل وتتحكم فيه، وليست مجسدة بأجساد كتلك التي حطمها سيدنا إبراهيم عليه السلام.

فالصنم أحيانًا يكون عبارة عن فكرة، أو أفكار تُصبح جزءًا منا، ومن قناعاتنا، ومن اللاوعي الخاص بنا، وذلك بسبب الطبيعة البشرية التي يتشكل منها العقل البشري، وإمكانية التأثير عليه وبرمجته، فتصبح هذه القناعات، وكأنها جزء من الوعي والإدراك الواعي الذي نختاره ونرتضيبه، ولا يدرك الإنسان عندها أنه على ضلال.

إن بعض الأقوام من صلب سيدنا إبراهيم الخليل، هادم الأصنام، (على الرغم أن الله بعث فيهم عدة رسل) اتخذوا العجل آلهًا في حضور النبي موسى عليه السلام، وأخيه هارون، ولكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد أخذوا لاحقًا ينظرون إلى ملوكهم على أساس أنهم أبناء الله، المسيح المخلص، الذي يحكم في مملكة الله على الأرض، وبذلك اتخذوهم أربابًا فعادوا إلى عبادة الأصنام، لكن بشكل آخر هذه المرة.

وفي محيط الثقافة (الهندو أوروبية) المقابلة للثقافة الشرقية، السامية، في التاريخ بدأ التخلص من الآلهة الأسطورية مع تطور الوعي، وولادة الفلسفة الطبيعية حوالي (600 قبل الميلاد)، ومن ثم الفلسفة العقلانية، فلم يعد العقل يؤمن بأشياء غير حسية لم تخضع للتجريب. ولكن الفلسفة نفسها عادت في مرحلة الأفلاطونية الجديدة التي تزامنت مع ولادة المسيحية لتتبنى فِكرًا مثاليًا سهلً على العقل أن ينزلق من جديد في مُتونِ القناعات المُطلقة التي لا تقوم على أساس منطقي عقلي تجريبي، وأثرت هذه الفلسفة المثالية في الدين المسيحي الذي مثل بديلا للفلسفة في تلك المرحلة، حيث انتشر في أوروبا، ومن هناك حصلت الكنيسة على سلطات مطلقة حولتها إلى مملكة الله على الأرض، حيث فاز الفكر الفلسفي المثالي على غيره، وتعززت سلطة الكنيسة، واللاهوت، على حساب العقل والمنطق العقلي والتجريب، الذي أتى به المنهج الأرسطي.

وصار للكنيسة وممثليها قداسة إلهية، ونفوذ تتحكم في كل شيء ، وصار الناس يَشترون المغفرة من خلال صكوك الغفران، ويتقربون إلى الله من خلال الكنيسة ومؤسساتها، واتخذ بعضهم من الرهبان أربابًا، وهو ما يمثل عودة لعبادة الأصنام بقوة، ولكنها طبعًا أصنام من نوع آخر، وقد شرحنا في موقع آخر، تأثير ذلك على التطورالحضاري، حيث حاربت الكنيسة في تلك الفترة العقل فغرقت أوروبا في الظلام.
وما يشير بشكل واضح إلى أن سلامة وعي البشرية، وإدراكها، وصحة فكرها، ومعتقداتها، وتقدمها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى عقلانية الفكر السائد، وواقعيته وعلمانيته ومنطقيته. فكلما أوغل العقل في المثالية، انحرف وانزلق، وتم تعطيله، و تزايد الخطر في أن يقع الإنسان في الضلال، والمشكلة في أن ذلك يكون تصرفًا لا واعيًا في الغالب، فيظن من هو في الضلال أنه على حق، ويدافع عن فكره باستماتة مدفوعًا بالمنظومة الفكرية التي تكون قد فرضت سيطرتها على ذهنه، من خلال الأنا العليا، دون أن يعي ذلك ويدركه.

لقد جاء الإسلام في القرن السادس الميلادي بمنهجيته، وعقلانيته، وعلميته، ليقود ثورة عارمة ضد الأصنام على مختلف أشكالها، فحطم الأصنام التي كان يتقرب بها الناس إلى الله، ومنهم من كان يعبدها، ولكنه جاء أيضًا ليخلص البشرية مما تمثله الأصنام في الأذهان، ومن أجل التخلص من عبادة العباد، وتحويل الناس إلى عبادة رب العباد، وهو ما يشير إلى أن الإسلام جاء ليحارب الأصنام على كافة أشكالها، ومن أهم ما قدم لتحقيق ذلك تفعيل العقل وإعطاؤه شأنًا عظيمًا وجعل التفكير فريضة.

وقد امتاز الدين الإسلامي عما سبقه بتعظيمه للعقل الإنساني، وحث على التدبر في منهجية واضحة، فلذلك كان للإسلام دور مهم في إعادة البعث للفكر الفلسفي العقلي الإغريقي، وزاد عليه علماء المسلمين كثيرًا من فكرهم، فكانت النتيجة نهضة غير مسبوقة على جميع الأصعدة.
ولكن الأهم هو تلك المنهجية، التي أكدت على رفض الأصنام ومحاربتها، حتى أن الخليفة الثاني، مثلًا، قطع شجرة حتى لا يكون لها قدسية مع مرور الزمن، فتعبد كما الأصنام. وأكد وهو يقبل الحجر الأسود على قناعته العقلية بأن ذلك حجر لا يضر ولا ينفع، وبهدف إزالة القدسية عنه، لكي لا يتحول إلى ما يمثله الصنم من قداسة.

وظَلَّ حال الإسلام مُشرقًا يشعُ نورًا،إلى أن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين الذين كان لهم أثر عظيم على الفكر والتفكير والفلسفة في اجتهاداتهم، فانزلقت العقول من جديد في متون المثالية والقناعات المطلقة، فسهل انزلاق الناس في مثالية عميقة، فعادت الناس تعبد شكلاً جديدًا من الأصنام الهلامية التي تمثلت هذه المرة من ناحية في قناعات وأفكار حدت من نشاط العقل وقيدته، ومن ناحية أخرى، منح وإعطاء قدسية استثنائية لبعض أصحاب هذه الأفكار والأطروحات والاجتهادات، ومن بينهم الأئمة والناس العدول الذين تحدث عنهم الدكتور مصطفى، فانزلقت الأمة في جاهلية جديدة أثرت سلبًا على التطور الحضاري، وانزلقت الأمة الإسلامية في ظلام.

والمهم في الموضوع، هو أن الناس كانوا وما يزالوا يجهلون الأسباب الكامنة وراء منح هؤلاء العلماء والمجتهدين والأئمة، تلك القداسة التي حولتهم إلى أصحاب كرامات، أو ما يشبه الملائكة، أو حتى ما يشبه الآلهة عند البعض فاخذوا بفكرهم واجتهاداتهم على أساس أنها نصوص مُقدسة، تمثل بحد ذاتها المرجعية النهائية المطلقة، ومن هنا تشكلت الديانات الأرضية والمذاهب الدينية والسياسية أيضا.

ولا شك في أن بعض الأشخاص عبر التاريخ امتلكوا طاقات وقدرات وصفات ومميزات إبداعية وقيادية مهولة، استثنائية ، عجيبة، تفوق استيعاب عقول العامة، وكانوا دائمًا يبدون على أنهم متقدمين على عصرهم، أصحاب شخصيات قيادية، كرزمية، مؤثرة وطاقات سحرية جعلتهم أصحاب قول فصل ونفوذ، رغم أنهم بشر، فِكرهم، وطروحاتهم، واجتهاداتهم، بشرية تَحتمل الخطأ والصواب.

والسركما سبق وأن تحدثنا في المقالات السابقة، من هذه السلسة، يكمن في اليتم الذي يولد عند بعضهم طاقات مهولة، ويعطي بعضهم مواصفات وصفات استثنائية، تجعلهم محط إعجاب وانبهار عند بعض الآخر الذي ينسج حولهم الأساطير، ويؤلههم كما هي الحال في بعض الديانات الأرضية.

ولو نعود إلى الكنفوشية مثلاً، لوجدنا أن كنفوشيوس اليتيم، امتلك مثل ذلك السحر الكرزمي، وهو لم يدع النبوة، وكان طرحه فلسفيًّا، فكريًّا، حاول من خلاله تقديم تفسير منطقي عقلي للوجود، وما إلى ذلك من ظواهر طبيعية، حيث تزامن عهده مع ولادة الفلسفة الطبيعية، لكن العامة جنحوا إلى اتخاذه نبيًّا، وقد بهروا بفكره، وما قدمه من أطروحات تطغى عليها الحكمة والموعظة.

ويتضح أن الناس قد أحاطت ولادته وحياته المبكرة بأوهام وأفكار خيالية، تتناقلها القصص في التراث الصيني، منها أن الأشباح أبلغت أمه الشابة مولده غيرالشرعي، وكيف كانت الأرواح الإناث تعطر لها الهواء وهي تلده في أحد الكهوف، وقد عاش كونفوشيوس يتيمًا، إذ توفي والده وهو ابن ثلاث سنوات، وقد مالَ إلى دراسة الفلسفة، وظلت أفكاره تتحكم في سلوك الناس أكثر من ألف عام، واكتسبت قداسة عظيمة، حيث صار يلقب بنبي الصين.

وفي زمن مقارب جاء بوذا، وكان يتيمًا أيضًا، ولم يدع النبوة، ولا الألوهية، ولكن الناس حوله، أعطوه القداسة، وجعلوه إلهًا. و قد توفيت أمّه في اليوم السابع من ولادته، كما هو مدون في الكتب التي تتحدث عن سيرته الذاتية. وقد نسجوا حوله قصصًا خيالية أيضًا، ومنها قصة إنجابه تحت شجرة المالبيني، كما جاء في إنجيل بوذا «انتشر نوره، وملأ العالـم، ففتحت عيون المكفوفين، وشاهدوا المجد الآتي من العلاء، وحلّت عقدة ألسنة الخرس، وسمعت آذان الصم». ومن جملة ما نسج الخيال الهندي حول مولد بوذا قصة ولادته الخيالية، وكيف أنه تحدث ومشى فور ولادته. وأعطى البوذيون لبوذا ـ كماجاء في إنجيل بوذا ـ موقعًا فيه حال التأليه، وأصبح بوذا هو الرسالة عندهم، وتقليده والأخذ بسلوكه ومنهجه هو المطلب.

ولو تم التدقيق في سيرة حياة الشخصيات العظيمة، التاريخية، الأفذاذ، أصحاب النظريات الفكرية والفلسفة الوضعية، والتي تركت بصمتها على التاريخ لوجدنا أن معظمهم كان قد مر بتجربة اليتم بشكل أو بأخر، في سن مبكرة، وامتلك صفات استثنائية، وشخصية كرزمية، وقدرات فذة أذهلت من حوله، وأثرت فيهم أيما تأثير، فجاءت القداسة من مجموع تلك الصفات والقدرات الشخصية .

ويمكن الآن، وبفضل ما يتوافر لدينا من معلومات إرجاع تلك الصفات الاستثنائية لأسباب موضوعية، ربما نفسية أو غير ذلك، لم تكن مفهومة من قبل، ويمكن اعتبار أنذلك هو الذي منحهم هالة، ومع مرور الأيام قداسة ميزتهم عن غيرهم، فصاروا هم بذاتهم المرجعية، رغم أنهم بشر محدودو القدرات، وعليه نقول إن أتباعهم ومريديهم الذين يأخذون بفكرهم بشكل مطلق، قد تحولوا إلى عبادة الأصنام، وهم في هذه الحالة الأئمة والمفسرون الذين صار يؤخذ بفكرهم على أساس أنه المرجعية المطلقة ألمعصومة، والتي تصلح لكل زمان ومكان، وليس النص المقدس بذاته.

طبعًا يمكن فهم ما كان يجري قبل الإسلام، من الأخذ بأفكار الناس على أساس أنها أفكار مطلقة، لها قدسية، كما في الفكر الكنفوشي والبوذي. ويمكن فهم ما حصل بعد أن تمكنت الكنسية، وبتأثير الأفلاطونية الجديدة من تعطيل العقل، والتفكير العقلي، وبالتالي انزلاق العقل في متاهات بما في ذلك عبادة العباد أو المؤسسات التي جعلت نفسها ممثلة الله على الأرض.
ولكن ما لا يمكن فهمه وقبوله، هو انزلاق الناس بعد الإسلام في مثل ذلك الانزلاق، لأن الإسلام أعطى العقل منزلة عالية، وجاء بمنهج عقلي متكامل، أوضح للناس فيه طريق الحق، وطالبهم بالتوقف عن عبادة العباد، ورفض الأصنام على كافة أشكالها...وللأسف ذلك ما يحصل حينما نتخذ قناعات مطلقة، ونؤمن بعصمة بعض الناس، وعدلهم، وصحة منهجهم، ومذهبهم إلى حد التقديس، واعتباره أنه المرجعية المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان.
ولو أخذنا مثلاً مؤسسي المذاهب، وأئمة السنة الإمام أحمد ، والإمام الشافعي، والإمام مالك وأبي حنيفة، وأئمة الشيعة، وكذلك المفسرين أمثال ابن كثير، وكتًاب الحديث، أمثال أبي هريرة، والبخاري ومعظم الفلاسفة أمثال الأمام الغزالي، وابن تيمية وكثيرا غيرهم، لوجدنا أنهم في أغلبهم أيتام، ولو تم التدقيق في السيرة الذاتية لكل مفكر ترك أثرًا مهمًّا خالدًا عبقريًّا لوجدناهم في معظمهم إن لم يكونوا جميعا أيتام اتصفوا بصفات استثنائية مهولة.

وكتب السيرة توضح في أحيان كثيرة كيف كانت تمنح تلك القداسة من قبل العموم لمثل هؤلاء الأفاضل، حيث لم يدع أحد من هؤلاء الأئمة بالعصمة المطلقة، ولا بالقدسية، وهم حتمًا منزهون عن الادعاء بمثل تلك القدسية، ولكن مريديهم ومحبيهم هم الذين نسجوا حولهم هالة أسطورية.
ففي سيرة الإمام أحمد بن حنبل مثلاً، نجد من يقول بأن الإمام توفي يوم الجمعة، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة، وله من العمرسبع وسبعون سنة. وأنه كانت له كرامات كثيرة وواضحة، فعن ابنه عبدالله، قال: رأيت أبي حرّج على النمل أن تخرج من داره، ثم رأيت النمل قد خرجت نملاً أسود، فلم أرها بعد ذلك. وعن الإمام أبي الفرج الجوزي، قال: لما وقع الغريق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمسمائة وغرقت كتبي ، سلم لي مجلد فيه ورقات من خط الإمام أحمد بن حنبل".
أما الإمام البخاري الذي ولد ببخارى سنة (194 هـ)، ونشأ يتيمًا، أخذ يحفظ الحديث قبل أن يصل العاشرة، فقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث، كما لقّبه بذلك غير واحد من أئمة السلف، ويقال إنه ظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة، ووهبه الله سبحانه وتعالى ذاكرةً قويّة تفوّق بها على أقرانه، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته، وابتلاه بفقدان بصره في صباه، فرأت والدته في المنام إبراهيم عليه السلام فقال لها: "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك" فأصبحت وقد ردّ الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له .

وحتى أن قائدًا إسلاميًّا وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ما بين عام (731 – 788 هجري)، عَبْدالرَّحْمَن الدَّاخِل، قد نسجت العقول حوله هالة عجيبة، فأسموه الأمير الفَذ، ولد في دمشق حيث مات أبوه، وهو صغير، فتربي في بيت الخلافة...لقب بصقر قريش، وقيل عنه "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنّ خريج الجامعة في العصر الحديث، وقيل عنه "ملَك من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضًا بعضًا من صفات عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل، "كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة منوليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. وقيل إنها شخصية تُشخِص الأبصار، وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله، وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه -رحمه الله-، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان -رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.

ويظهر أن أصحاب المذهب الشيعي يقدسون مريديهم وأئمتهم بشكل أعظم بكثير، فللفقيه عندهم منزلة عظيمة، وهم يقلدونهم ويؤمنون بعصمتهم في ولاء يصل أحيانًا إلي اعتبارهم في مقام الأنبياء، وقد يصل إلى ما هو أبعد من ذلك...كما أنهم يمارسون طقوسًا لا يتقبلها العقل كنتيجة لطبيعتها وقساوتها أيضا. ولو دققنا في سيرة أئمة الشيعة لوجدناهم أيتامًا في معظمهم.

والمدقق في سيرة الأيتام الأفذاذ، والعباقرة جميعهم، يجد أن كثيرمن هذه الصفات والقدرات قد اتصف بها عبد الرحمن الداخل، والإمام أحمد بن حنبل، اللذين تم ذكرهما كأمثلة فقط هنا، والأئمة جميعهم، وحتى كثير من القادة الأفذاذ المعاصرين مع اختلاف نسبي بين واحد وآخر.

وهذه الصفات الكرزمية المهولة هي تحديدًا ما جعلهم بعيون مريديهم، وكنتيجة لعجزهم عن فهم طبيعتها التي ظلت غامضة حتى الآن، ذوي قداسة وعصمة، فانزلقت العقول بدون وعي إلى تقديسهم، وتأليههم والأخذ بفكرهم، ليصبح قناعات مطلقة، رغم أنهم بشر مجتهدون ليس إلا، يحتمل فكرهم الخطأ والصواب ولا يمكن النظر إلى طروحاتهم على أنها صالحة لكل زمان ومكان.

من هنا نعود لنقول:نعم، نحن بحاجة لثورة حتمًا، نحن بحاجة لتشغيل عقولنا، واعتماد المنهج العقلي، وعدم الانزلاق في متاهات المثالية المظلمة،
نحن بحاجة لفهم أعمق لآليات عمل العقل، وإدراك أن العقل قد يؤدي بنا إلى المهالك أحيانًا حيث يبرمجنا، ويخدعنا، فنعتقد أننا على صواب بَيّنْ، ونتطرف في مواقفنا غير المستندة في الغالب إلى المنطق العقلي، والمنبثقة من برمجة ذاتية خادعة. نحن بحاجة لأن نتوقف عن الانبهار ببعض الأشخاص، ومنحهم قداسة، لأننا نعرف سر ملكاتهم الآن، وهي بشرية حتمًا ناتجة عن ظروف صنعتهم، وأعطتهم عبقريتهم وقدراتهم الفذة، فهي ملكات موضوعية يمكن فهمها وربطها بتجارب اليتم التي مروا بها. نحن بحاجة لهدم الأصنام، أصنام القرن الحادي والعشرين المتمثلة في اعتبار بعض الأئمة والأفراد ذوي قدسية استثنائية، ولا بد من الرجوع للنص الذي يصلح لكل زمان ومكان.

وحتى نكون موضوعيين، عقلانيين، وعلميين لا بد من التأكيد هنا على، أن هذا هو مجرد تصور تم بناؤه اعتمادًا على ملاحظة تلك الظاهرة المهمة المتمثلة في اليتم ونتائجه، وهي قضية تحتاج لمزيد من الدراسة العلمية المتعمقة حتى يتم الأخذ بها أو نفيها.

قديم 08-27-2010, 01:42 PM
المشاركة 16
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي





الجزء الثاني: مقولات أشد سخونة.

قديم 08-27-2010, 01:43 PM
المشاركة 17
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مقولات ساخنة (1)
إن العقل مثل المنجم المطمور غني بالمعرفة، ويمثل نبعًا للأفكار، وهو بذاته قادر على إنتاج أفكار عظيمة، مدهشه، لا متناهية. لكن عقلنا يغلق أبواب هذا المنجم بإحكام، وقليل منا فقط يدرك أن في أعماق عقله سلسلة لا متناهية من الأفكار التي يمكن أن تفيد البشرية، وقد تقدم إضافة يسجلها التاريخ.

ومن أجل إطلاق هذه الأفكار، لا بد من الإيمان أولاً بقدرتنا على إنتاجها، وثانيًا ممارسة طقوس الكتابة بكل شجاعة، وبدون تردد مهما بلغ الإحباط منا مبلغًا أحيانًا، ومهما كانت العوائق الخارجية، ومهما بدت الأفكار تافهة، أوغير ذات قيمة... فلا يجوز أن نقيس قيمة أفكارنا بأنفسنا، أو في لحظة ولادتها، ويمكن لنا أن نغنى أفكارنا من خلال الإضافات التي تساهم في تراكم المعارف، وتنشيط توالد الأفكار.

لكن يجب أن نظل دائمًا على ثقة بأننا قادرون على إنتاج أفكار مهمة، مهما قلت تجربتنا وثقافتنا وعلمنا، فالعقل بذاته قادرعلى فعل ما لا يمكن لنا تصوره، ونقطة البداية تكون في الإيمان بذلك، بكل جوارحنا.

سارع إلى الإمساك بقلم وورقة، واترك الأفكار تتوالد بغزارة، وثق أنك تقدم إضافة من الممكن أن تغير وجه العالم إلى الأفضل.

قديم 08-27-2010, 01:49 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مقولات ساخنة (2)

إن استكشافنا لإمكانات عقولنا وقدراتها، لأهم بملايين المرات من استكشاف الفضاء الخارجي، وأعماق البحار، لأن قدرتنا على تفعيل أدمغتنا بنسبة إضافية قليلةجدًا، قد لا تتجاوز جزءًاً يسيرًاً بالمائة مما هي عليه الآن، سيؤدي حتمًا إلى فتوحات غيرمسبوقة على كل الجبهات، وفي كل المجالات، بما في ذلك أعماق البحار، والفضاء الخارجي. و على الإنسانية أن تهتم باستكشاف العقول، وتسخير قدرتها، وتجعل من هذه المهمة الغاية الأهم ضمن قائمة غاياتها وأهدافها، لأن فضاء عقولنا أوسع وأرحب مئات المرات من أعماق البحار والفضاء الخارجي مهما اتسع.

قديم 08-28-2010, 01:31 PM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مقولات ساخنة (3)

المدقق في السجلات التاريخية يكتشف أن البشرية أغفلت، أو أسقطت في أحيان كثيرة معلومات في غاية الأهمية، عن قصد أو عن غير قصد، ولذلك فإن دراسة التاريخ تظل منقوصة، ولا يمكن البناء عليها، والمقدمات المزيفة، أو المنقوصة لا يمكن أن تعطي إلا نتائج مزيفه، أو منقوصة. ولذلك فإن البناء عليها سيقود إلى نتائج مغلوطة. الآن وبعد كل هذا التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات، وبعد أن تحول العالم إلى قرية صغيرة، صار لا بد من التمحيص في تدوين الوقائع التاريخية كما هي، وليس كما نرغب في أن تكون....وأن نهتم بالتفاصيل مهما صغرت، وأن لا نفترض أن بعض الأمور تافهة، لا تستحق أن تسجل، فالنقطة تحول الحمل إلى جمل...تلك هي مسئوليتنا تجاه الأجيال القادمة.

قديم 08-28-2010, 01:33 PM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مقولات ساخنة (4)

الحضارة ...هي صراع الأيتام ضد السائد والمألوف.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حضارة القرن الحادى والعشرين سرالختم ميرغنى منبر الحوارات الثقافية العامة 2 11-05-2020 12:48 PM
حصَاد القرن المنجزات العلمية والإنسَانية في القرن العشرين د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-20-2014 01:48 PM
أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-02-2014 10:13 PM
رحلة الدراما عبر العصور من القرن الخامس ق.م حتى القرن العشرين - محمد حمدي إبراهيم د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-28-2014 03:21 PM
الاستنساخ كارثة القرن الواحد والعشرين الدكتور سيد نافع منبر الحوارات الثقافية العامة 1 12-28-2011 09:36 PM

الساعة الآن 10:59 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.