ترجمة : ريم بدر الدين بزال
في تموز من العام 1591 رزقت بريدجت درايدن و فرانسيس ماربوري بمولودتهما آن في ألفورد لينكولنشاير في انجلترا
و كان والدها شماس كنيسة كامبريدج و طالما صرح بأن معظم المبشرين في الكنائس الانجليزية لم يتلقوا التدريب المناسب لكنهم عينوا في مناصبهم لأسباب سياسية. و استنكر بشكل علني هذه الخروقات في قلة الاختصاص ضمن رجال الدين مما أدى لاعتقاله و سجنه لمدة عام كامل بسبب آراءه المعارضة و المخربة.
و لكن هذا لم يمنع ماربوري من إعلان آراءه مرارا و تكرارا مما عرضه للسجن مرات عديدة أخرى. و لكنه في نهاية المطاف أصبح رئيس جامعة القديس مارتين و القديس بانكراس و أخيرا رئيس جامعة القديسة مارجريت.
لذا فليس من المستغرب بعد آن نهلت آن من علم والدها الأكاديمي و المتخصص أن تكون مهتمة بالدين و اللاهوت في سن صغيرة نسبيا.
و قد تلقت آن تعليمها في المنزل من خلال مكتبة والدها حيث بدأت تطرح أسئلة عديدة عن ماهية الإيمان و البحث عن إجابات لأسئلتها.
و كان إعجابها يزداد بمبادئ والدها و إصراره ولم تجد حرجا مطلقا من الاستفهام عن مبادئ الإيمان و سلطة الكنيسة كما هو حال كل من يحصلون على تعليم ممتاز.
و لدى بلوغها الحادية و العشرين تزوجت آن من ويل هاتشينسون و استقرت في نفس المدينة التي نشأت بها لتستلم مهامها كزوجة و أم دون أن تنسى اهتمامها الكبير باللاهوت و الكنيسة.
و تبعت مع عائلتها تعاليم جون كوتون و هو مبشر بروتستانتي تعكس دروسه مبادئ والدها التي أصبحت الآن أكثر قبولا مع الشعبية المتزايدة للبيورتانيين ( الطهوريين).
و بالقدر الذي انتُقدت به أفكار والد آن و أدينت رؤاه ، فإن الكثير من البيورتانيين رفعوا أصواتهم في انتقاد للفساد الذي يسري في مفاصل الكنيسة الكاثوليكية و إلى حد معين في الكنيسة البروتستانتية و لهذا نشأت حركة تجديدية دعيت بالبيورتانية و سميت كذلك لأن موضوعها الأساسي كان " تطهير" الكنيسة الانجليزية من كل التأثيرات الكاثوليكية.
و عندما عين جون كوتون كمبشر للمستعمرات البيورتانية في انجلترا الجديدة عام 1634 لم يرحل لوحده و إنما رافقه ويل و آن هاتشينسون مع أولادهما الخمسة عشر و مع جون لوثروب و عدد أخر من المستوطنين على متن السفينة جيفرين المغادرة باتجاه أميركا . كانوا جميعا يريدون أن يقيموا طقوس إيمانهم في بيئة تستطيع أن تتقبل الأفكار الجديدة البيورتانية . و كانت آن تتطلع إلى حياة مشوقة في المستعمرات اعتقادا منها أنها ستكون بمثابة فردوس لمن يريد أن يعبد الله كما يراه مناسبا.
و لكن آن اكتشفت شيئا فشيئا أن الحياة في المستعمرات قاسية جدا و أن العلاقة الوطيدة بين الكنيسة و السلطة كانت خانقة و لم يكن هناك في حقيقة الأمر أية حرية للتعبير عن الرأي في مستعمرة ماساشوستس خصوصا لامرأة انجليزية متعلمة مثلها.
و كانت آن قد صاغت منذ وقت طويل منهجها الشخصي معتمدة على شروحاتها لتعاليم جون كوتون .فكان إيمانها بالعلاقة الشخصية مع الله مما يساء فهمها من قبل الآخرين و اعتبرها البعض نوعا من الغرور فيما اعتبرها البعض الآخر فكرا محرما. و لكنها أحجمت عن الكلام في هذا علنا على الأقل ريثما تصل عائلتها إلى أميركا.
و كانت تؤمن أن طريق الإنسان إلى الجنة يكون عبر الإيمان لكن هذه النظرة البسيطة و النقية لطريق الخلاص لا تمنح الكنيسة الكثير من السلطات لتقود الناس كقطيع تحت مسمى خشية الله و لذلك رفضت أفكار آن من قبل الكنيسة بشكل حازم.
في الفترة التي عاشت فيها آن مع عائلتها في انكلترا تمنت آن تكون في أميركا و لكنها كانت تناقش أرائها الإيمانية علنا و لم يكن عليها أن تخفيها من البيورتانيين و كانت تخبر الآخرين أن الرب منحها الفراسة و أنها كانت تعلم مسبقا أنهم في اليوم الذي سيصلون به إلى المستعمرات سيكتشفون خطأهم و هذا ما دعا جون كوتون أن يطلب وجود آن و عائلتها ضمن إرساليته التبشيرية.
و لضمان القبول ضمن رعايا كوتون ادعت آن أنها كانت مخطئة في تفكيرها و أنها لم تعن ما قالته أبدا.
كان مسموحا لآن و عائلتها أن تدخل ضمن التجمع و لكن هذا سبب لها المشاكل عندما عبرت عن أفكارها حول الإيمان مما أكد لها أن الواقعين تحت الاستبداد أصبحوا الآن هم المستبدين متناسين الطريقة التي عوملوا بها من قبل الكاثوليك و البروتستانت معا في وطنهم الأم.
كانت تفسيرات البيورتانيين لحرية الاعتقاد تعني فقط أن يتسامحوا مع المستعمرات المجاورة في طريقة اعتقادهم التي تناسبهم لكن جون و ينثروب و بقية مؤسسي مستعمرة ماساشوستس حلموا بإقامة يوتوبيا ، مستعمرة دينية حيث تصان فيها حرية الاعتقاد و التي تعني أن لا تفكر أو تتصرف إلا وفق تعاليم الإنجيل. و هذا يعني أنت حر في الإيمان لكنك لست حرا في التفكير.
كانت خطيئة آن هاتشينسون الوحيدة أنها امرأة لم تعطل عقلها في عصر اعتبرت فيه المرأة خادمة لزوجها تلد ما تستطيع أن تنجبه من الأطفال و تربيهم.
و كانت هذه القوانين المستلهمة من تعاليم العهد القديم في الكتاب المقدس و التي طبقها البيورتانيون بصرامة فكانوا يرون المرأة مخلوقا مخادعا كأمهم حواء و بإمكانهم أن يقودوا الرجال نحو الخطيئة إذا أتيحت لهن الفرصة لإبداء أرائهن أو التعبير عنها.
كانت المرأة مخلوقا تابعا بعقل ناقص و يجب أن تقاد من قبل الرجل الذي خلقه الله على صورته .
فكان من الطبيعي أن تسخر آن من معتقد لا يرفعها عن درجة الخادمة.
عاشت آن معظم أيامها في المستعمرة بشكل طبيعي لكنها لم تستطيع الاستمرار على ذات الوتيرة فقد شعرت بالحاجة لنقاش مسائل الإيمان و لذلك أسست صالونا نسائيا في بيتها لدراسة الوثائق الدينية و الصلاة و مراجعة الطقوس و كان هذا المنتدى منبرا لآن كي تعلن عقيدتها و قد امتد فيما بعد بنسبة جيدة ليجذب الرجال و النساء في المستعمرة و بدأ عدد الحضور يزداد كل أسبوع للاستماع إلى خطبتها ليشمل كل الفئات بما فيهم القضاة و الدارسين.
أصبحت آن المعارضة بمرور الوقت قائدة دينية للكثيرين و هذا ما أقلق جون وينثروب المناهض القديم لأفكارها و الذي عين مؤخرا حاكما لمقاطعة ماساشوستس. وينثروب اعتبر ها تهديدا مباشرا لسلطة الرجال وحرية تعبير النسوة عن آرائهن في المجتمع الكنسي زاد من تخوفه على وحدة المجتمع و المبادئ الأساسية لأسلوب الحياة البيورتاني في المستعمرة.
أدان وينثروب صالون آن قائلا أنها تجمعات سيئة و غير لائقة أمام الرب و لا يناسب الجنس الأنثوي الذي تنتمي له آن .
ساءت سمعة آن كونها صوت المعارضة و المناهض للعرف الاجتماعي عندما قالت أن المسيحيين ليسوا ملزمين بنظام أخلاقي .
كان وينثروب جادا في إسكات صوت المعارضة و هو الآن مستعد لاتخاذ الإجراءات اللازمة لهذا.
فبما أن النساء هن المعنيات بهذه الحرية التي يطالبن بها فإن حريتهن في التفكير تقتضي حريتهن في الخطيئة و كشف فبركات المجتمع الديني.
في ذلك الوقت ظهرت نساء أخريات طالبن بالحرية منهن آن براد ستريت و كانت شاعرة و لكنها فعلت ما بوسعها لتبقي قضيتها في أوراقها الخاصة بينما لم تجرؤ نساء متعلمات أخريات على مجرد الخربشة بما يفكرن به على صفحات المجلات الخاصة.
كانت الصلوات التي يقوم بها عدد قليل من النسوة مسموحة لكن الاجتماع للاستماع إلى خطب و أفكار لقائدة مستقلة كان يعتبر خرقا للقانون و بذلك اعتقل وينثروب آن هاتشينسون بتهمة التجمعات المحظورة.
حبست آن في مجلس رئاسة روزبري في ماساشوستس ووضعت أفكارها و معتقداتها على لائحة الاتهام في المحكمة و كان جون وينثروب قد أعد حكمه مسبقا فكانت المحاكمة أي شيء إلا أن توصف بأنها عادلة .. و كانت كراهية وينثروب للنساء خصوصا آن واضحة من خلال الجملة الأولى التي كتبها في مذكراته. فقد أشار إلى آن بأنها " ايزابل أميركية و التي زنت باسم الله و يجب أن تحاكم بتهمة الهرطقة ."
اتهمت آن بتخريب المجتمع وفتح النار على معتقدها الذي يقول أن النور الداخلي هو الضمان الوحيد للخلاص.
كان من رأي آن القانون يفسر وفق كل إنسان على حدة و أن الضمير سوف يقودهم و أن استرقاق الهنود الحمر و الاستعلاء العنصري كان خطأ كبيرا.
و احتدم الجدال بين آن و جون وينثروب و مع كثير من البيورتانيين المتعصبين الذين انخرطوا في الجدال ليثبت لهم بما لا يقبل النقاش هرطقة آن هاتشينسون.
اعتبرت آن مذنبة و حكم عليها بالنفي.
لكن المفاجأة كانت بوجود أتباع كثيرين لآن هاتشينسون و قد قرر العديد منهم أن يرافقوها هي و عائلتها إلى منفاها في مستعمرة صغيرة على جزيرة اكويدنك.
بعد مرور سنوات قليلة من وفاة زوجها ذبحت آن و خدمها و خمسة من أطفالها على يد هنود الماهيكان في سبتمبر 1643 في ايستشستر نيويورك.
و قد أصيب الكثير من أصدقائها بالرعب فعادوا إلى مستعمرة ماساشوستس و رأى آخرون أن هذه علامة من الرب على لعنتها الأبدية و مع أن كلمات آن فتحت عقول الكثيرين إلا أن محاكمتها علمتهم أيضا أن يلتزموا الصمت .
وبرغم كل شيء فإن هناك ما تبقى فقصتها تعمل كناقوس كبير يذكر بالكثير من المصاعب التي تحملها هؤلاء من جبر الطغاة و التي تحملتها النساء بشكل خاص عبر التاريخ.
إنها أيضا تقدم لنا درسا بقيمة الحرية و كيف عانى الآخرون من أجل التحرر بينما لا نقدر قيمتها الآن.
كان البيورتانيون محورا لأكثر أحداث تاريخ أميركا مأساوية كإعدام ماري دير صديقة أن هاتشينسون و محاكمة ساحرات قرية سالم 1692 التي جرت بعد محاكمة هاتشينسون بحوالي خمسين عاما.
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
Anne Hutchinson/آن هاتشينسون
