قديم 06-12-2012, 11:52 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الخراط يتحدث عن ابداعه:
- أحـب أن يــأتــي الـتــاريـخ عـلـى ذكــري فــي صــفـحـة لا يـشــاركـني فـيـهـا أحــد

إدوار الـخــراط:
- أؤرخ لأشـــواق الـروح وأشـــواك الـمـجــتـمـع

- تـأثـرتُ بـجـبـران حـتـى الـتـيـه لا بـالمـنـفـلـوطـي والـعـقـاد وطــه حـســيـن

هذا الحوار حصيلة لقاء طويل أجراه "الملحق" مع الروائي ادوار الخراط، في مناسبة مجيئه الى بيروت وإلقائه محاضرة "أيار التذكارية" في الجامعة الأميركية في بيروت ــ برنامج أنيس الخوري المقدسي. وفيه يستعيد محطات من حياته وتجاربه ملقياً الضوء على جوانب كانت خافتة ومقيمة في الظل. وقد ارتأينا تقديمها كشهادة "محرَّرة" من الاسئلة. شارك في الحوار الياس خوري واسعد خير الله وماهر جرار وعقل العويط وحرره محمد ابي سمرا.

- قالت لي أمي: انتَ رضعتَ لبن الحزن.(وسام موسى)

1
ولدت في 16 آذار 1926 في حي بجنوب الاسكندرية قريب من منطقة تسمّى بحيرة مريوط. كان معظم المقيمين في ذلك الحي من الفئات الشعبية القادمة من الصعيد الى الاسكندرية. العمران ونمط الحياة فيه أقرب الى الريف منهما الى المدينة: شارع واحد رئيسي مفروش بالاسفلت يسير فيه الترام وينتهي الى قسم البوليس. وشوارع أخرى مفروشة بالحجار والرمل الابيض. البيوت كلها من طبقة واحدة او اثنتين، على سطوحها عرائش من العنب. وقد وصفت ذلك الحي في مقاطع من روايتي "ترابها زغفران". على ناصية الشارع الرئيسي كان منزل الخياطة اللبنانية السيدة روز التي تشتغل عندها فتيات في خياطة الثياب.

في الجلسات العائلية على سطح بيتنا تحت عرائش العنب، كانت جدتي وخالتي ترويان الحكايات عن الجن والعفاريت. ولكثرة ما سمعت هذه الحكايات في طفولتي، كان الطفل الذي كنته يحسب ان جنيات الحكايات وعفاريتها كائنات حية، ومن لحم ودم. كنت في السادسة او السابعة من عمري حين التقيت مرة في الليل امرأة عجوزاً فقيرة في شارع مهجور قريب من بيتنا، فأيقنت انها عفريت من عفاريت الحكايات. لم تتلفظ المرأة - العفريت بكلمة واحدة، لكني لا ادري إن كنت وقفت جامداً قبالتها دقيقة واحدة او 24 ساعة، قبل ان أروح اعدو هارباً بأسرع ما استطعت للوصول الى بيتنا، حاملاً في جوارحي ووعيي ومخيلتي الطفلية التجربة الأولى في الاتصال بقوة عالم الغيب في ما وراء الواقع والمحسوس.

من اليمين: محمد أبي سمرا، عقل العويط، ادوار الخراط، أسعد خير الله والياس خوري.

2
"روضة الكرمة القبطية" كانت المدرسة الأولى التي تعلمت فيها، وامشي نحو خمس دقائق من بيتنا للوصول اليها، وكان ناظرها منصور افندي شخصية حاسمة في تكويني الأول: رجل شديد الطيبة والحزم في آن واحد، ينظمنا صفوفاً في الصباح - نحن تلامذة المدرسة الأقباط مع قلة من المسلمين - لنروح ننشد ترنيمة "أبانا الذي في السموات"، قبل ان يبدأ برواية قصص شهداء القبط، وفي مقدمهم القديس مرقص، مؤسس الكرازة او الكنيسة القبطية، الذي تصف الحكاية استشهاده دفاعاً عن العقيدة وصفاً درامياً: قام الرومان بربط ذراعيه وساقيه الى عربة يجرها حصان أخذ يجري سريعاً بعد ضربه بالسياط، فتمزق جسم القديس مرقص أشلاء، وتركت هذه الحكاية أثراً لا يمحى في نفسي وقلبي.
اضافة الى "روضة الكرمة القبطية"، هناك مدارس الأحد التي كانت مس كاترين تعلمنا فيها الترانيم الدينية. لا أزال حتى الساعة أذكر مس كاترين الشبيهة صورتها بصورة مريم العذراء، فيما كانت تلقننا الترانيم. وفي واحدة من مدارس الأحد بدأ الطفل الذي كنته يقرأ الكتاب المقدس من دون ان يتنصر عبر طقوس العمادة. والى القراءة والترانيم، كانت توزع علينا نحن التلامذة الأطفال بطاقات مصورة مكتوبة عليها عبارات بالقبطية والعربية. كانت تلك البطاقات تروي بالصور حكايات من التوراة والانجيل، بدءاً بآدم وحواء وملاك النار الذي يحمل سيفه الناري الاسطوري. لم تكن تلك الصور او اللوحات عادية في عيني ذلك الطفل الذي كنته، اذ خبرت فيها معنى الألوان وتذوق التشكيل الفني المرتبط بالموضوع الديني. لاحقاً قرأت العهدين القديم والجديد، وتعرفت الى قصة صلب السيد المسيح الذي كان مأساة حقيقية حميمة في بيتنا، رغم ان عائلتي لم تكن متدينة الا تديناً تقليدياً، فيؤدي أفرادها فرائض الصوم من دون الصلوات. لكن الكتاب المقدس كان تأثيره كبيراً عليَّ، لأنه كان كتاب الوفيات والزيجات والولادات العائلية التي كان والدي يحرص على تدوين تواريخها عليه.
3
قدم والدي الى الاسكندرية من أخميم في الصعيد، مخلّفاً وراءه زواجه من امرأتين. تزوج الاولى في أخميم مسقطه، وبعد وفاتها انتقل الى الفيوم، حيث تزوج من امرأة ثانية دفعته وفاتها الى الانتقال الى الاسكندرية، حيث تزوج والدتي التي كانت شديدة الغيرة على زوجها من زوجتيه السابقتين المتوفيتين وأهلهما الذين تشدّدت في قطع علاقة والدي بهم وبماضيه، باعتباره رجلاً مزواجاً.

- قبل قدومه الى الاسكندرية كان والدي تاجراً في الفيوم يعمل في تصدير البصل والبيض، وكانت تجارته مزدهرة هناك قبل تعرضه للافلاس في ازمة ،1936 مما اضطره الى العمل كاتب حسابات عند اصدقائه التُجار في الاسكندرية حتى وفاته.
- الذكرى الأقدم والأقوى لديّ عن والدتي هي العبارة التي طالما كانت ترددها على مسمعي في طفولتي قائلة: انت رضعت لبن الحزن.
- ذلك لأني ولدت بعد 19 يوماً من وفاة اخي الذي ولد قبلي بسنة او سنتين في الاسكندرية، فنذروني كي يجري تنصيري في أخميم التي كان لعلاقتي بها تأثير كبير في حياتي، قبل ان أعرفها وتطأها قدماي.
- واذ كنت قد ولدت لأرضع لبن حزن والدتي على وليدها البكر، فإني في العاشرة من عمري، صحوت ذات صباح من نومي في بيتنا على صياح والدي النائح: ولدي... ولدي... ولدي، لحظة وصله خبر مقتل ابنه البكر من احدى زوجتيه السابقتين، بعدما دهسه قطار.

كان عمري نحو ست سنوات حين أخذني أهلي الى اخميم لايفاء النذر بتنصيري وتعميدي هناك.
- أذكر ان الرحلة كانت شاقة في القطار، وعن سلّم بيتنا الذي كان بلا سياج في اخميم سقطت فأصبت بجرح بليغ في ركبتي، لم يندمل أثره حتى اليوم.
4
في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الاسكندرية تُضرب بالقنابل، عندما قرر والدي أن يرسلنا، أمي وأنا واخوتي واخواتي، الى مسقطه في أخميم، ويظل وحده منصرفاً الى عمله في الاسكندرية. كان ذلك في العام 1940 او العام الذي تلاه، فاستغرقت رحلتنا في القطار نحو 17 ساعة للوصول الى اخميم بين المنيا والأقصر في الصعيد.

في اخميم انصرفت الى قراءة شكسبير وشيلي ويتس في اللغة الانكليزية. وربما في تلك الفترة بدأت بمحاولات الترجمة الاولى لبعض القصائد من الشعر الانكليزي. وقبل ذلك، في الاسكندرية، كنت قد قرأت مؤلفات جبران خليل جبران الذي تأثرت به حتى التيه والهيام، على عكس المنفلوطي والعقاد وطه حسين الذين قرأت مؤلفاتهم من دون ان يتركوا فيّ أثراً يذكر.

طوال أيام الاجازة الصيفية، بدءاً من العام ،1938 انصرفت كلياً الى القراءة والمطالعة اللتين تعبدت لهما منصرفاً عن الذهاب الى البحر ولعب الكرة وغيرها من الألعاب التي كان يمارسها اصدقائي واترابي في المدرسة. أقول قارئاً نهماً واعني اني كنت في الصباحات افتح باب المكتبة البلدية في الاسكندرية مع موظفيها، ومعهم اقفل بابها واغادرها في المساء. وقد جعلتُ لقراءاتي منهجاً صارماً، اذ وضعت قائمة بأسماء الكتّاب نظمتها بحسب التسلسل الأبجدي. كانت القائمة تبدأ باسم ابرهيم، ويليه أحمد، ثم أسعد... الخ. وحين كنت أفرغ من قراءة مؤلفات الاسم الأول، انتقل الى مؤلفات الاسم الثاني فالثالث... حتى نهاية التسلسل الأبجدي.

واذا كان جبران هو كاتبي المفضل بالعربية آنذاك، فإن التأثير الأول عليّ من كتّاب الخواجات (الأجانب) مارسه الشاعر الانكليزي شيلي. واذا قلت أني قرأت روايات جرجي زيدان في تلك الفترة، فان أثرها فيّ لم يكن يذكر، قياساً الى كتابات جبران الذي تعبّدت في محراب أدبه.

لم تستمر اقامتنا في أخميم أكثر من أشهر معدودة في نهايات الحرب الثانية، عدنا بعدها الى الاسكندرية، حيث قررت ألا أزور أخميم قبل أن أكتب رحلتي اليها ومشاهداتي فيها. وهذا ما فعلته لاحقاً في كتابي "صخور السماء". لقد حرصت على ألا ازورها كي لا أشوه تلك الصورة الأولى الغريبة التي رأيتها عليها اثناء لقائي الأول بها. ومن زيارتي الأقدم الى أخميم استعدت في "صخور السماء" اطياف طقوس تنصري وتعميدي في كنيستها استعادة دقيقة كاملة.
5
درست الحقوق في جامعة الاسكندرية. ذلك ان والدي، صاحب الميول السياسية الوفدية، كان راغباً في أن يراني رجلاً على صورة مكرم عبيد باشا ومثاله، ما دام عبيد هذا نائب سعد زغلول، زعيم حزب الوفد. لكن السياسة كانت حاضرة ايضاً في عائلتنا من جهة عائلة أخوالي الذين كان أحدهما في جماعة "مصر الفتاة"، وكان الآخر من انصار نبيل عباس حلمي. أما اليسار الماركسي او الشيوعي الذي كان حاضراً بقوة في مصر العشرينات فقد غاب تماماً عن مسرح الحياة السياسية في الاربعينات.

في اثناء دراستي الجامعية، وبعد سنتين او ثلاث من تخرجي من الجامعة، كنت عضواً مؤسساً لحلقة تروتسكية ظللت سكرتيرها العام حتى .1948 في تلك المرحلة من حياتي غرقت حتى الثمالة في الاجتماعات والمناقشات والتظاهرات واصدار البيانات وكتابة المنشورات التروتسكية، فأصدرنا مجلة "الكفاح الثوري" التي كنا ننسخها على الآلة الكاتبة ونوزعها على الاعضاء والاصدقاء.

- حين أنظر اليوم الى الوراء مفكراً في دوافع انتمائي الى تلك الحلقة من يسار اليسار، أجد ان شعوري بالظلم وفقدان العدالة كانا في اساس دوافعي العاطفية والوجدانية البعيدة. وكان مصدر احساسي بأن العالم من حولي ليس عادلاً، بل ظالم، أمرين اثنين:
- فقداني خالتي واخويّ وأختيّ الذين خطفهم الموت على نحو متواتر او متتابع. فالثلاثينات والأربعينات كانت حقبة سيئة وقاسية، عموماً، على الصعيد الصحي، اذ كانت الامراض والاوبئة، كالتيفوئيد، تفتك بالناس فتكاً متمادياً، لعدم توافر الأدوية، خصوصاً المضادات الحيوية.

- الأمر الثاني الذي يلازم الأول ويوازيه في دفعي الى اليسار، كان محنة الظروف المادية وقسوتها. فاليسر والرفاه اللذان عرفهما والدي قبل ازمة 1936 الاقتصادية الخانقة، انقلبا عسراً وضيقاً بعد تلك الأزمة، مما فاقم احساسي بالظلم واللاعدالة.

أما العنصر الذهني او الفكري في يساريتي فيعود الى وقوعي في مكتبة الاسكندرية البلدية على مؤلفات كاتب في حروف السين، هو سلامة موسى الذي سحرتني كتاباته وانكببت على قراءتها كلها، في نهم شديد، وعرفت منه ماهية الاشتراكية ومعناها. وفي تلك الفترة وبعدها بقليل قرأت برنارد شو ثم ان صديقي جورج خوري أهداني كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لفريديريك نيتشه، في ترجمة خاله فيلكس فارس، فكان تأثري بذلك الكتاب كبيراً.

يعود تعرفي الى الأفكار الشيوعية والانكباب على قراءة المؤلفات الماركسية الى شاب سوداني اسمه خليل الآسي. لكن شيوعيتي التروتسكية جعلتني معادياً للستالينية والديكتاتورية كما لم أكن معادياً لأي شيء في العالم. وكانت الشيوعية التروتسكية جواباً شافياً عن احساسي بالظلم واللاعدالة، في جمعها بين الحرية والعدالة. ثم عرفت ان تروتسكي صديق للسورياليين والسوريالية، فيما كنت منكباً على قراءة الأدب السوريالي في ترجمة رمسيس يونان.

قديم 06-12-2012, 11:53 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
6
في العاشرة من عمري بدأت كتابة ما كنت أتصور انه الشعر، ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن الكتابة. وحين سألنا احد المدرسين، نحن تلامذة الصف، عما نحب ان نكون ونشتغل في المستقبل، اجابه أترابي: دكتور، طيار، مدرس، مهندس، فيما أجبته أنا بأني سأكون شاعراً، فأثار الأمر استهجان التلامذة. أما انخراطي في النضال والعمل السياسي، فكان يصدر عن واجب وضرورة، لا عن رغبة. لقد ملكت الكتابة رغبتي، وفيما أنا منخرط في العمل السياسي والنضال، كنت مدركاً اني أؤجل الكتابة حتى تحقيق العدالة والاستقلال عن الانكليز وزوال الاحتلال واقامة الاشتراكية.
- لكن هذه الأحلام كلها انجلت عن اعتقالي ضمن حملة اعتقالات واسعة مع إعلان الأحكام العرفية في أيار ،1948 وطاولت جميع الفئات اليسارية والوفديين. وفي المعتقل تلاشت العداوة بيننا نحن التروتسكيين وبين الشيوعيين، فتآخينا وتعاونّا، حيث التقيت مصادفة هنري كورييل في معتقل هاكس تسام في القاهرة. رأيته من بعيد من دون أن أكلمه أو يكلمني. كان نحيلاً رقيقاً يلبس الشورت وينتعل صندلاً ويتحرك طوال الليل كالنحلة.

- أمضيت في المعتقل عشرين شهراً، وخرجت منه في العام ،1950 وكان والدي قد توفي.
وفي النوادي رحت ألقي محاضرات عن السوريالية والوجودية فتعرفت الى أنور كامل ورمسيس يونان. لكن كان عليّ أن أبحث عن عمل ما أكسب منه معيشتي، فأهداني اليه صديق تعرفت اليه في المعتقل، وكان العمل موظفاً صغيراً في "شركة التأمين الأهلية". ونبهني صديقي ذاك بألا أقول أني أحمل اجازة في الحقوق، لأن العمل المطلوب في الشركة لا يتجاوز الإلمام باللغتين الفرنسية والعربية والضرب على الآلة الكاتبة. وبعد مقابلتي المسؤول في الشركة، وقع نظري في أحد مكاتبها على فتاة جميلة رقيقة من موظفاتها، وكانت تلك النظرة العابرة فاتحة وقوعي في صفقة غرامية برفيقة حياتي التي تزوجتها عام .1958
7
في أثناء عملي في الشركة وإلقائي المحاضرات في نوادي الاسكندرية، كنا نلتقي في المقاهي، حيث تدور بيننا المناقشات حول ثورة الضباط الأحرار الناصرية. وكان الأبرز في تلك المناقشات رأيان اثنان في ثورة .1952 الأول يعتبرها ثورة ديموقراطية. أما أنا فقد ملت الى الرأي الثاني الذي كان يعتبرها انقلاباً عسكرياً على طريقة الانقلابات في بلدان أميركا اللاتينية. ومنذ الأيام الأولى للثورة حتى تأميم قناة السويس سنة ،1956 لم يتبدل رأيي في تلك الثورة. وقد يكون الخطأ الكبير الذي ارتكبته هو تصالحي مع الناصرية في أعقاب قرار التأميم. لكن برغم تلك المصالحة، ظل موقفي الشخصي من جمال عبد الناصر ملتبساً. إذ ظللت اعتبر الجانب العسكري في الثورة الناصرية سيئاً، لأن ما أتت به من انجازات ظلت فوقية لعدم صدورها عن الناس وهذا ما أكده انهيار تلك الانجازات مع موت الزعيم المصري.

عام 1955 ضربني اليأس والقنوط من عملي موظفاً صغيراً في شركة التأمين، لأعيل بالراتب الذي أتقاضاه أمي وأخواتي الأربع. كنت أشتعل حنيناً الى الكتابة التي منعني عنها الدوام الوظيفي المرهق، ففكرت في الاستقالة من الشركة، وأقدمت عليه. ومن التعويض المالي الذي تقاضيته رحت أعطي والدتي راتبي الشهري، كما لو أنني لا أزال موظفاً. في تلك الفترة كنت أمضي وقتي مداوماً على المكوث في أتيليه الاسكندرية التي يديرها أحمد مرسي، منصرفاً الى الكتابة والترجمة، فكتبت "حيطان عالية" وترجمت بعضاً من أشعار أيلوار ومؤلفات تشيخوف وكامو. وشهراً بعد شهر راح التعويض المالي يتناقص وينفد، فلم يعد في مستطاعي تقديم راتبي الشهري لوالدتي، فأجبرت على إعلامها بأني تركت وظيفتي في الشركة.

الضيق المادي الذي عشته آنذاك كان شديداً، فرحت أترجم براءات الاختراع في الميكانيكا والكيمياء لإحدى الشركات، مما أثرى قاموسي اللغوي. وفي الأثناء بدأت أبعث لأصدقائي رسائل استغاثة لمساعدتي في البحث عن عمل، حتى وصلتني ذات يوم رسالة من صديقي ألفرد فرج يطلب مني فيها الحضور فوراً الى القاهرة للعمل مترجماً في السفارة الرومانية، فغادرت الاسكندرية متوجهاً الى القاهرة في العام .1956

أثناء عملي مترجماً في السفارة الرومانية بادرت الى انشاء جمعية الصداقة المصرية - الرومانية التي رعت انشاءها هيئة من أبرز العاملين في الحقل الثقافي في مصر: يوسف السباعي الذي كان رئيس المجلس الأعلى للفنون والآداب، ومحمد مندور ويحيى حقي وفريد أبو حديد وعلي باكثير. ثم أصدرنا مجلة عن الجمعية التي تركت العمل فيها عام 1959 لأعمل، بمبادرة يوسف السباعي، في قسم الشؤون الفنية لجمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية، وكان مدير شؤون هذا القسم رمسيس يونان الذي عملت الى جانبه جامعاً بين فوضوية الفنان وعقلانية الرجل الإداري.
8
في يوم من عام 1968 جاء الى منزلي جمع من الاصدقاء بينهم احمد مرسي وابرهيم منصور، وطلبوا مني العمل في تأسيس "غاليري 68"، على ان ننشىء صالة للعروض الفنية والتشكيلية، ومجلة ثقافية - أدبية يجري تمويلها من عائدات بيع اللوحات التشكيلية في صالة العرض، ومن اشتراكات الاعضاء. وكان الفريق الأساسي الذي عمل في اصدار المجلة، أحمد مرسي وابرهيم منصور وغالب هلسا وسيد حجاب وجميل عطية ابرهيم وأنا. وفي ثلاث سنوات صدر من المجلة ثمانية أعداد من دون انتظام. وقامت "غاليري 68" بنشر نصوص قصصية لمحمد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهما من ادباء الستينات الذين كانت المجلة منبراً لكتاباتهم.

والغريب ان جيل الستينات من الروائيين والقصاصين والادباء الذين تحلقوا حول "غاليري 68" كانوا أصغر مني سناً وعايشت انطلاقتهم، من دون ان أكون منتمياً الى جيلهم الادبي، ولا الى غيرهم من الأجيال السابقة. كأنني دائماً كنت مضيّعاً انتمائي الى جيل أدبي وثقافي وكتابي في عينه. ربما لأنني منذ الأربعينات أكتب من دون أن أنشر ما أكتبه، الا اذا طلب مني احد ما مخطوطة للنشر. وربما لأن تصنيف الكتّاب في أجيال وموجات لا ينطبق عليّ. فحتى في التصنيف الادبي الأكاديمي والجامعي لم أحسب على جيل الستينات او غيره.

قد أكون من التيار الروائي والقصصي الذي سُمّي تيار ما بعد المحفوظية وجمع مروحة واسعة من الكتاب المصريين مثل صنع الله ابرهيم وجمال الغيطاني وغالب هلسا وبهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم، والجامع المشترك بين هؤلاء هو التمرد على القواعد المحفوظية في الكتابة القصصية والروائية وكسرها. أما العنصر الآخر الجامع في هذه التجارب الكتابية، فقوامه احساس هؤلاء الكتاب بأن هناك خطأ ما في التجربة السياسية - الاجتماعية للناصرية، خصوصاً بعد الكارثة التي تكشفت عنها هزيمة .1967 ورغم ان نقد الناصرية لم يصل الى ادانتها ادانة مباشرة وصريحة، فان الحذر والتوجس من شعاراتها كشفا خواءها في مقابل القمع السياسي والثقافي للسلطة السياسية. وهذا ما انعكس في الأعمال الأدبية للكتاب والروائيين.
9
- كروائي، اعتبر نفسي مؤرخاً لأشواق الروح وأشواك المجتمع.
لكن التأريخ الاجتماعي وغير الاجتماعي يحضر في وصفه عنصراً داخلياً في السياق الروائي والمشهد الروائي. وأظن ان التأريخ الحقيقي او الفعلي متضمَّن في الأعمال الروائية.
- أما السيرة الذاتية فموجودة على نحو ما في كل رواية وقصة وقصيدة ولوحة تشكيلية، وفي كل عمل فني على وجه العموم. أما كيفية تجلي حضور السيرة الذاتية في الأعمال الفنية، فمسألة غير قابلة للتقنين في قواعد ثابتة ومحددة. والذي يُخرج السيرة الذاتية، او الشرائح والمقتطفات المستخدمة منها، عن كونها سيرة ذاتية، اندماجها بالمتخيل الفني في العمل الروائي. فاستلهام وقائع وحوادث معينة، وكذلك استلهام مقتطفات من السيرة الذاتية، أمر طبيعي وعادي في الفن الروائي، شرط ان يجري استدخال هذه الاستلهامات في المتخيل الروائي. وعلاقة الذاكرة بالخيال معقدة. وربما يلازم التخييل عمليات التذكر كلها. وهنالك خيال منفصل او منقطع عن عمليات التذكر.

حين أقول ان السيرة الذاتية تدخل في الأعمال الروائية لا أقصد ان الرواية سيرة ذاتية مقنّعة، بل ان الفعل الروائي يستلزم تحويل مقتطفات من السيرة الذاتية وتحويرها على نحو ملائم للبناء الروائي.

أعلم ان هناك كلاماً عن روائيين يخلقون شخصيات روائية تروح تتفلت منهم وتستقل عنهم، فلا يتمكنون من السيطرة عليها. لا أظن ان هذا الكلام حقيقي ودقيق. فالروائي خالق شخصياته، والمسؤول عن نموها وتحولاتها ومصائرها.
- والمخطط الروائي الذي أضعه قبل البدء بكتابة رواياتي، عام غير تفصيلي لا يتجاوز الصفحة او نصف الصفحة فقط ومعظم رواياتي كتبتها مرة واحدة فقط، لأني حين أشرع في الكتابة تكون الرواية مكتوبة في ذهني او في مخيلتي قبل مباشرة كتابتها. اما ما أقوم به من حذف وتقطيع واضافة وتبديل، فأجريه لاحقاً بعد الكتابة الأولى التي لا أعيدها. هناك بعض القصص والروايات التي كتبتها في البدايات أعدت كتابتها مرات كثيرة. أما لاحقاً فقد تعودت أن أكتب قصصي ورواياتي مرة واحدة فقط.
10
- سوف يبدو كلامي متضمناً شيئاً من الصلف حين اقول أني أحب أن يأتي التاريخ على ذكري وحيداً في إحدى صفحاته، لا على صفحة يشاركني فيها غيري من الأسماء.
هذا في حال كنت في عداد من سيأتي التاريخ على ذكر اسمائهم في صفحاته.
- فأنا أشعر أني وحيد ولا صلة وثيقة تجمعني بأحد.

- تصعب عليّ الاجابة عن السؤال إن كنت مؤمناً بالله أم لا. ذلك ان أبا العلاء المعري لو قيّض له ان يكتب "رسالة الغفران" مرة أخرى، لن يسألني عن ايماني بالله، بل عن الحس الديني لديّ. مثل هذا الحس يشغلني لأنه ينطوي على الاسئلة حول الوجود والمصير والموت، أقول هذا وأميز بين الأيمان والدوغما العقائدية والاسطورة، مع العلم ان الموت عندي هو نهاية الحياة.

- أما لو سألني أبو العلاء المعري إن كنت يسارياً، فأنني أجيبه بأني يساري في معنى الانحياز الى العدل والحرية.
- وأعني العدل الكوني المستحيل التحقق.
واذا اعطيت فرصة ان أعيد كتابة ما كتبته مرة أخرى، فإني أعيد كتابته من دون ان أغيّر فيه شيئاً. أي أتركه على حاله لأن لديّ مشاريع كتابة كثيرة متراكمة عليَّ تنفيذها.
- وان كانت قد بدأت متأخراً في نشر ما كتبت، ومتأخراً أعلنت نفسي كاتباً، وما زلت أكتب مع تقدمي في السن، فإني على يقين بأن لا علاقة بين الكتابة والنشر.
- وانا الذي بدأت الكتابة في سن مبكرة، اعتبر ان لا معنى للنصائح في الفن. أي لا معنى لوصفة نقترحها ناصحين الكتاب بأن يبدأوا الكتابة في سن مبكرة او متأخرة من اعمارهم.

أذكر أني كنت أكتب "رامة والتنين" وكان عليّ أن أحصل على اجازة من عملي في جمعية تضامن الشعوب الافريقية - الآسيوية التي كنت أعمل فيها لا كموظف، بل كفدائي لا يتوقف عن العمل طوال الساعات الاربع والعشرين من اليوم. لذا كنت أغادر القاهرة الى الاسكندرية،
- حيث انقطع تماماً عن الدنيا منصرفاً الى الكتابة. واذكر أني بعد انجاز مسوّدة "رامة والتنين" تركتها سنة او سنتين على حالها، قبل أن أعود الى العمل عليها حين طلب أحدهم مني أن أعطيه كتاباً للنشر. أروي هذه الوقائع لكي أقول ان الأمر نفسه تكرر في مرات أخرى مع قصص وروايات غير "رامة والتنين".
- لكني بعدما تقاعدت من الوظيفة في السابعة والخمسين من عمري، رحت أكتب بغزارة كبيرة. فرواية"الزمن الآخر"، مثلاً، كتبتها في مدة لا تتجاوز الشهرين. ذلك ان كل ما كتبته موجود بالقوة، قبل كتابته، بحسب العبارة البالزاكية.
وإن سئلت ما هو الكتاب الذي قرأته من الأدب العربي والعالمي، وأحب أن أعيد قراءته بين مدة وأخرى، فإني لن أعثر على كتاب معين او محدد. قد يـشغفني احياناً أن أعيد قراءة بعض المقاطع من كتاب "الأبله" لدوستويفسكي.
-أما نيتشه فقد تأخذني رغبة في اعادة قراءة مؤلفاته كلها.
- اما كتاباتي فإني لا أطيق قطعاً إعادة قراءة أي شيء منها.
واذا أعطيت فرصة ان انقذ خمسة كتب من كتبي كلها من طوفان أو حريق، فإني لن أنقذ سوى ثلاثة منها، هي "حيطان عالية" و"رامة والتنين" و"ترابها زعفران".

إدوار قـــلـتـــة فــلـتـــس يـــوســــف الـخــــراط
هو إدوار قلتة فلتس يوسف الخراط.
وُلد في 16 آذار 1926 في الإسكندرية لأب من أخميم في صعيد مصر، وأمّ من الطرانة غرب دلتا النيل.
- حصل على ليسانس في الحقوق عام 1946 من جامعة الاسكندرية.
- عمل أثناء الدراسة عقب وفاة والده منذ عام .1943
- شارك في الحركة الوطنية الثورية في الاسكندرية عام .1946
- اعتقل في 15 أيار 1948 سنتين في معتقلي أبو قير والطور.
- تزوج عام 1957 وله ولدان وأربعة أحفاد.
- في عام 1959 عمل في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية - الآسيوية ثم في اتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين حتى العام ،1983 وأشرف على تحرير مطبوعات سياسية وثقافية لهما.
سافر الى معظم بلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا في رحلات عمل.

شارك في إصدار مجلة "لوتس" للأدب الأفريقي - الآسيوي وفي تحريرها، وفي مجلة "غاليري 68" الطليعية، ومطبوعات لكل من منظمة التضامن الأفريقي - الآسيوي واتحاد الكتّاب الأفريقيين - الآسيويين.
ترجمت رواياته الى الانكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والأسبانية والأسوجية.
له في الروايات والقصص:
حيطان عالية (قصص).
ساعات الكبرياء (قصص).
رامة والتنين (رواية).
اختناقات العشق والصباح (قصص).
الزمن الأخير (رواية).
محطة السكة الحديد (رواية).
ترابها زعفران (نصوص اسكندرانية).
أضلاع الصحراء (رواية).
يا بنات اسكندرية (رواية).
مخلوقات الأشواق الطائرة (رواية).
أمواج الليالي (متتالية قصصية).
حجارة بوبيللو (رواية).
اختراقات الهوى والتهلكة (نزوات روائية).
رقرقرة الأحلام الملحية (رواية).
أبنية متطايرة (رواية).
حريق الأخيلة (رواية).
اسكندريتي (كولاج قصصي).
يقين العطش (رواية).
تباريح الوقائع والجنون (تنويعات روائية).
عمل نبيل (مختارات).
رقصة الأشواق (مختارات).
صخور السماء (رواية).
طريق النسر (رواية).
مضارب الأهواء (قصص قصيرة).
الغجرية والمخزنجي.
إضافة الى إصداره دواوين شعرية ومجموعة من الدراسات النقدية والتشكيلية والترجمات.

قديم 06-13-2012, 08:09 AM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
رامة والتنين ......نبذة النيل والفرات:
عندما فتح عينيه ، وقد انتفض من النوم فجأة، دون سبب، وجد أنه لم يغادر الحلم الفائق الذي كان قد نام في قبضته، وكأنما هتف باسمها . في شجي ملتاع، كما نام، وهو ينادي به، وكأنما قال لها: رامة، رامة، هل تسمعينني، هل تردين؟ أحبك، وكأنما ضحك من نفسه ، يمزق نفسه. حوائط غرفة نومه، بخشونتها العارية والشروخ الملتوية الدقيقة فيها، تصحو معه، مهددة وتميل عليه. الستارة على نافذة الحجرة لا تحجز عنه ضغط الوحشة التي تدخل عليه، وحدها، لا شيء آخر معها، من قصة السماء بين سطوح البيوت. هل الحب هو هذا الغداء الذي لا رد عليه أبدا؟ ولا ينقطع، لا يملك أن يرده عنه ملحا، يصحبه في صحوته ونومه، منذ أمد يبدو له قديما، قديما، لا بدء له ولا تبدو له نهاية؟ هل الحب هو هذه الوحدة؟ في كل ليلة يموت ميتة صغيرة، ويبعث في الصبح، ميتا. قال لها: ما كنت أظن في نفسي هذا الغدر من المراهقة بعد. وكان قد قال لها، بصوت جهد أن يكون خافتا ومعتدلا، كأن فيه ظل سخرية: كل هذه الخيالات، هذه الآلام، والحديث الذي لا ينقطع، بيني وبينك في حلم يقظة مستمر يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة" عندما يمتزج الحب كعاطفة صادقة بوجع الحياة، تضحي الحياة أجمل حتى بعذاباتها فهي تحمل في ثنايا تواترات ساعاتها وأيامها لحظات ساحرة وومضات آثرة من ذاك الحنين الذي يترك داخل القلب، واعدا بآمال محققة. في " رامة والتنين" عطاءات روائية لطيفة، وإبداعات أدبية رائعة، تدع للقارئ مجالا واسعا للاسترسال، منطلقا مع الروائي لتلمس مساحات وجدانية تهفو لها النفس، وتأنس بصورها العين، ويتابع الذهن تلون مشاهدها بحس ناعم وشغف كبير.

قديم 06-13-2012, 08:12 AM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
رامة والتنين:1



عبد النبي فرج



2011-09-16


(مهداة الى ادوار الخراط ) المهندس سامي نجيب الموظف الكبير بوزارة الري المشهور في القرية بالرجل الطويل.. الذي كان يظل ساعات طويلة واقفاً أمام الباب في مواجهة الحديقة دون أن يتحرك، فقط الاستغراق في التدخين والنظر إلى المساحات الواسعة من الأراضي المزروعة بالسمسم والتين وأشجار الفواكهه حتى ان العمال لدى المعلم كانوا يتصورونه مخبولاً ولاسعاً ونهايته العباسية 'إن شاء الله' حتى أصيب بداء لا يعرف أحد مصدره في صدره وطلب ندبه لري الفيوم كما أشار الطبيب.

وانتقل إلى هناك مع الست (رندا) زوجته المتفانية حد الجنون وتعرف الخصال الدفينة الباطنية لزوجها الذي كان يحلم بأن يشتغل في الفن ويصبح مثل الفنان عبد الحليم حافظ وانتهى به الأمر حبيس جدران البيت، يستغرق في الشرب ثم يهذي هذيان المحموم ويؤلف موسيقي شريرة تجعلها مفعمة بالشهوة وتندفع في الاستغراق في ممارسات جنسية شاذة وعندما ترفض هذه الممارسات، كان ينزوي حتى يكاد يجف مردداً: الجنس لذتي الوحيدة الباقية..
وعندما ماتت الست رندا وهي تلد ابنها عوض، اغتم وزاد هزاله وشروده الطويل، والسير في حدائق الفيوم وملاهيها وبحيراتها وعزف عن العمل في المصلحة، وأخذ يشرب في شراهة ويعود إلى البيت متأخرا حتى قرب الفجر...
وفي النهار يدور في الاستراحة ناظراً إلى صورها المعلقة ذاهلاً.. يخرج ويتأمل البنت عايدة البكرية.. ويبكي في عنف (الشبه الخالق الناطق) ويمضي ذاهلاً.. يخرج في عز البرد حتى تهتك صدره ومات في عز شبابه (قدس الله روحه وجعله مع المسيح في الأعالي).
عادت عايدة في صحبة أخيها وجدها المعلم نجيب، الى العزبة في ساعة متأخرة من الليل، وتم إنزال العفش وقام العمال بإدخاله وتخزينه في واحدة من الغرف الكثيرة في القصر وأغلق عليه بالمفتاح. المعلم نجيب دخل غرفته وبكى وحده ثم جفف الدمع وخرج إلى حديقة البرتقال واتجه إلى المنحل وجلس على الرمل والنحل يطن فوقه ويسرح على جسمه ويقرصه وهو شبه غائب يخرج أقراص العسل ويصفيها في كف يده حتى تمتلىء وتنزل لتختلط بالرمل، هذا الرجل الذي ترك العمار وناس أتريس ودخل في عمق الجبل وغرس بيت وطلمبة وشجرة توت وماكينة وأخذ يروض الجبل في صبر لا يلين، وعزيمة جبارة حتى حول صخوره ووهاده إلى مزرعة كبيرة يزرع فيها البرتقال، المانجو، الجوافة، الليمون.. وضع فيها خلايا النحل لتدر له الشهد (كل دا تم بالجهد والعرق وسهر الليالي وبركة يسوع ابن الرب) وفي الصباح التالي كانت الفرس تلد وعندما ولدت، كانت مهرة جميلة سماها المعلم نجيب' عايدة، وأطلقها تصهل في الحقول. كبرت المهرة، كبرت عايدة ونبت نهداها فخرجت تقف في الفراندا وهي تلبس فستاناً قصيراً حتى ركبتيها وحبل قطن يلف حول كتفيها العاريين منقوش عليه زهور بنفسيجية، وعيناها الوسيعتان تبرق في وجه الشمس وشعرها الفاحم ينسدل حول كتفيها، وجسدها الريان بدأ ينمل، وروحها الفتية تتقافز، وعندما أقبل جدها والست دميانة قبلتهما في فرح خالص..
تعالي يا بنت يا عايدة الكنيسة خلي أبونا يباركك، اشتعل اللهب في خديها وأطرقت في صمت..
خلاص يا دميانة هي حرة وسحب العباءة على كتفيه وسار وسط الحقول، وعايدة عيونها التي تبرق في البراح تتبعهم حتى اختفوا.
اشتعلت الشمس وغاضت بالدم، وتسلل الهواء الرطب يطير ثوبها فدخلت إلى البيت وجاءت بالشرائط والبك أب ونزلت وسط الحقول تسمع أغنيات 'أم كلثوم' فيروز، ماجدة الرومي، عبد الحليم حافظ، وتشم رائحة زهور الليمون الفواحة التي تدير الرأس حتى رأت المهرة عايدة تصهل فنزلت من على السلالم واقتربت منها فوجدتها مربوطة في قدم الصبي الأخرس شمندي بن عبد الله الكومي، الواد المقطوع الذي يؤويه المعلم في غرفة في آخر الجنينة والمتربي في المزرعة مند كان صغيراً، وكان يعمل بعلف البهائم التي يربيها المعلم...
كانت عايدة تقف فوق رأسه وهو لا يراها وشمندي عفي وعروق يديه تكاد تخرج من جلده، وعندما رفع قامته كان يبلل سترته الزيتية التي كان يلبسها على اللحم والغبار المتطاير يلتصق بلحمه وينزل مع العرق على صدره المشعر، رفع قامته رآها تقف أمامه، ترك الفأس واندفع الدم الساخن كله في وجهه الأخرس، وترك العرق ينز، وبص لوجهها الخلاسي، وسيقانها السمراء اللمعة، وعنقها الطويل والمعلق به سلسلة تنتهي بصليب مغروس بين نهديها، الولد ذهل وانفرط منه الدمع، مختلطاً بالعرق والغبار ونظر إلى السماء التي تكاد تنغلق عليهم، والشمس بدأ لهيبها الأصفر يختفي. اقتربت منه وغاص حذاؤها في التراب ومسحت دموعه بيديها الطريتين، وأخذت تمسح العرق عن رقبته ووجهه وصدره العاري.



اعتم الكون وسكن الكل في الغرف، تسللت عايدة من غرفتها، ومرقت من البهو وفتحت الباب مندفعة في اتجاه الحديقة تغوص في قلب الحشائش والقمر السائب يتبعها أينما سارت، وعندما سارت إلى شجرة المانجو تجده هناك ينتظرها في قلب العتمة تبتسم وتسترخي عضلات قلبها، وتسير جواره تاركه يديها له، يسير بها في طرقات متعرجة حتى يصل إلى الغابة فيحملها ويغوص بها في وسط الماء وتطقطق الطحالب تحت قدمه العريضة الخشنة ويدفع بيديه الأخرى الغاب المهوش، وهي مستسلمة غارقة في فرح يحتوي كل كيانها حتى اجتازا الغابة وظهرت الصحراء عارية إلا من رمل ناعم، شجر عكرش منطو، وأشجار شوكية خالية من الحياة فيخلع سترته ويفرشها لها ويجلس على ركبتيه ناظراً إلى واحة عينيها، والقمر يقترب يفرش الرمال التي تضوي، هسيس النسيم يتسلل إلى جسده العاري. سرعان ما يتساقط مطر من عينيه يلمع في ضوء القمر كحبات لؤلؤ فتقوم عايدة وتمسح دموعه براحة يديها وتميل عليه وتقبله في صمتٍ تمص في شفته السفلى، ويداها تمسكان شعره الهائش وتتركه يفتح بلوزتها ويمس نهديها الصغيرين في خوف ورهبة حتى يتسلل الفرح إلى جسديهما ويشتعل الدم الفوار وتطقطق عظامها أكثر من مرة وترتعش ركبتاه رعشات متقاطعة ويتساقط الندى رطباً على الجسد العاري وفي الصباح فرحة كانت تطارد فراشات وتقفز من مكان إلى آخر حتى بدأ يدب في حشاها شيء كدودة ثم باعدت ما بين ساقيها..
يوه.. قالت الست دميانة بعد أن نظرت وتعجبت وهمست في أذن نجيب، وأخذت تدور في البيت تراقب عايدة في توجس وخوف، حتى حط المساء وغطى على الكون والمعلم يبتسم ويناغي عوض الحفيد وعندما كان الكل في مرقده انسلت عايدة وسارت في قلب الحدائق، وخطا المعلم على خطوها حتى رآها وقبض على المشهد بعينيه؛ فعاد في حذر يدور في أروقة السرايا ودهاليزها المعتمة حتى عادت عايدة.
كان ينتظرها وبجواره الست دميانة وشعرها الطويل هائشاً وصدرها مفتوح والصليب يرقد ما بين نهديها. اقترب منها المعلم ومزع الصليب من رقبتها: أنت خطية يا بنت، وكمان من مسلم.
وصفعها بعنف فسقطت على الأرض ونز الدم من رأسها: خديها يا دميانة وراقبيها.. سحبتها وصعدت بها السلالم وعايدة صامتة لم تكن تدرك ما جرى مرتبكة لم تع شيئاً، وكأنها مخدرة حتى وصلت إلى القبو الذي بناه المعلم في أعلى السرايا خصيصاً لأبينا كي يستريح فيه بعيداً عن الضوضاء في أيام عيد الميلاد المجيد قبل أن تبنى كنيسة في أتريس.
صعدت الست دميانة مع عايدة حتى وصلت فوق سطح السرايا، وأخذت تفك القفل الصدىء.. وعندما لم يفتح أحضرت لتر جاز وغمرت القفل فيه وعندما فتحت زيق الباب وشرخ الكون ودفعت عايدة في القبو وعادت لم تجد المعلم الذي دخل غرفة لا يدخلها إلا عندما يكون في مأزق كبير، وعندما دخلت عليه كان يصب لنفسه كأس نبيذ يصنعه على يديه، ناولها قدحاً: وبعدين يامعلم الواد الأول نشوف له صرفة وبعدين تفرج.. نامي، نامي أنت يا ستو.. في هذه الغرفة تم رسم السيناريو الذي سيسير عليه القبط في بناء الكنيسة وبقوة المعلم فهيم والخواجة رزق بائع الذهب وكان رأيه واضحاً..: إحنا معانا تصريح صحيح من الرئيس عبد الناصر لكن الحكاية عايزة شوية حذر... نعملها على مراحل خطوة، خطوة، قاعة اجتماعات.. أفراح، مذبح، جرس كنيسة.
وعندما نظر إلى الحية الراقدة تنظر إليه في لا مبالاة.. تذكر يوم تركها تنهش القصير اللعين الذي حاول أن يستولي على الأرض: وكان لازم أبكي عليه طول إقامة القداس.. آه.. آمال أيه. نظر إلى الأفعى، وأمسكها من رقبتها وأخذ يمسد الشعر النابت فوق رقبتها وجسمها الأملس الناعم.. وعيونها الزجاجية الحادة، أغمضت الحية عينيها، فمد المعلم يديه في جيب السيالة وأخرج سكيناً رفيعاً حادّاً وجز رقبتها مرة واحدة، وصفى السم في كوب صغير، وتركها تتقافز.. ثم عاد إلى غرفته ونام حتى فرشت الشمس وجهها على الأرض قام ونزل إلى الحديقة وأدار الماكينة وأخذ ينظفها ويضع فيها الجاز.. وقاس الزيت والفلاحون يروون الحوال البحري، كان واثقاً بأنه المنتصر وأن كل شيء سيسير وفق مشيئته: ياما دقت على الراس طبول، حتى أصبحت هذه الرأس أصلب من الحجر، وهذا الصدر حاوي مكر وأسرار ومكائد لا تنتهي، رغم أن هذا الفخ الذي وقع فيه كان كارثياً لن يستطع أن يفلت منه دون تشوهات، الولد ميت، ولكن البنت لم تعد بنت، ثمرة البرتقال أصابها العطب، الجوهرة انتهكت، كان يريد أن يجعلها سلاحاً حامياً وكان يرسم على علاقة نسب تزرع الامان داخله الفترة الباقية من عمره ولكن، السافل يجب أن يتعذب، الشرير يجب أن أرى النار تأكل فيه. وتنهشه وتمزق أحشاءه.
وقرب اشتعال الشمس عاد إلى البيت وحمل سلة بها عيش وغرف من خلاياه قطفة عسل ودس فيها السم.. وذهب بها إلى آخر الأرض.. حتى وصل إلى كوخ الأخرس.. فوجده نائماً فنادى: ياشمندي.. ياولد ياشمندي. قام الأخرس فزعاً فأشار له المعلم.. نزل الأخرس وهو متعب. أوديك للدكتور ياشمندي.
أشار بلا: طيب تعال نلعب دور سيجة.. أنا تعبان وعايز أتسلى في حاجة.. ابتسم الولد شمندي وأشار بعلامة النصر... أخذا يلعبان في همة حتى هزم شمندي المعلم.. فأخذ يضحك من قلبه.. تعالى.. تعالى ياولد.. إنت غلبت المرة دي.. ماشي.. وسحب الأرغفة والعسل وأكل.. وضرب على صدره بعلامة القوة، وعندما تبعثر دم الشمس في الأفق سحب المعلم المنديل المحلاوي ووضعه في السيالة ثم حمل السلة وسار تاركاً الأخرس يدور في الحقول ناظراً إلى القمر المخنوق وبطنه بدأت تمور... وبدأ يئن أنيناً خافتاً يتعالى شيئاً فشيئاً حتى لم يعد يحتمل فأخذ يجري باحثاً عن عايدة تحت أشجار البرتقال يخوض في الغاب والهيش ويفتش عن أثرها، يعود مرة أخرى يحاول أن يقترب من السرايا ثم يعود. إلى البوابة المغلقة، قفز من على السور وجرى في المشاية، حتى أنهك وعرف بالحدس أنه ميت وعاد مرة أخرى يريد أن يرى عايدة أن يراها ويموت، قفز السور يبحث عن صوت. لا شيء إلا أصوات الضفادع وصرير الهوام وعندما لم يعد قادراً على الاحتمال، جرى في الحديقة صارخا ولا مجيب سوى الفراغ. يقترب من السرايا التي أطفأت أنوارها وبدت معتمة يجري ويعوي في الفضاء عواء مرعوباً يهز الكون وصوته يزداد وضوحاً: إيده .. موت إيده..شندي موووووووووووووووت
وكانت عايدة تسمع صرخاته ونحيبه المؤلم في قلب العتمة، وهي تدور في القبو وقد ضربها الجنون فأخذت تضرب في الحائط وصوته يرن في أذنها أيده... موت إيده. تضرب في الحائط ويخرج جأرها كصوت عرسة تنبح في الفراغ مت.... مت يا شمندي...
وفي الصباحات التالية كانت عايدة تلتصق بالحائط مدهوشة وشعرها الحوشي ونظراتها مفزوعة ويداها تلتصقان بركبتيها لتحميا بطنها التي تعلو شيئاً شيئاً.
روائي مصري

قديم 06-14-2012, 01:29 PM
المشاركة 15
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
قديم 06-14-2012, 03:34 PM
المشاركة 16
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
جماليات وشواغل روائية - دراسة :

http://www.3rbe.com/books/index.php?act=download&id=420

قديم 06-15-2012, 11:09 AM
المشاركة 17
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
قديم 06-15-2012, 11:31 AM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الخرَّاط وخمسون عاما من التجريب الروائي
السبت , 28 أبريل 2007
إدوار الخراط يتمرد على الشكل السردي ويعزف على تنويعات مختلفة في الشكل والمحتوى واللغة، والرؤية والأداة.
إلمقه/متابعات:

- تتسم التقنية الروائية عند إدوار الخراط بهذا النوع من السرد الروائي الذي يعتمد في حكائيته على توحد الذات الراوية مع النص الروائي بحيث يمتزج الاثنان معا ويفرزان نوعا من القص السردي.
- يعتمد هذا القص في نسيجه على خصوصية في السياق والتناول، سواء أكان ذلك على مستوى اللغة ودلالتها، أو على مستوى الأبعاد التي يرتجيها الكاتب من تنضيد نصوصه الروائية تنضيدا خاصا نابعا من الذات في المقام الأول، ثم متوجها ناحية المكان بعبقه الخاص والعام، ثم التفاعل بين الذات ومواقفها وممارساتها وبين المكان بجغرافيته الواقعية الخاصة التي تحمل وهج الذاكرة واستعادة كل المكونات التي حدثت فيه.
- وهي الخصوصية التي ميزت إدوار الخراط عن الأجيال التي صاحبته في ساحة الإبداع القصصي والروائي قرابة أكثر من خمسين عاما، انطلاقا من احتفائه الدائم والمستمر بالبحث عن أشكال جديدة، وأبنية روائية وقصصية تميزه عن غيره من الكتاب، وتسمه بسماتها الخاصة.
- ويعتبر إدوار الخراط من أوائل الروائيين والقاصين الذين حاولوا التجديد والتغيير في الشكل، واستنباط قوالب جديدة تتمشى مع التيارات الحديثة لفن القصة والرواية، خاصة ما ارتبط منها بأشكال الرواية الجديدة التي ظهرت في فرنسا على يد آلان روب جرييه، وناتالى ساروت، وميشيل بوتور.
- والمتتبع لإبداع إدوار الخراط يجد أن تمرده على الشكل السردي جاء مواكبا أيضا للعزف على عدة تنويعات مختلفة شملت الشكل والمحتوى واللغة، والرؤية والأداة في مغامرة إبداعية تجريبية طالت معظم ما كتبه طوال حياته الإبداعية.
- فمنذ صدور أولى مجموعاته القصصية وهى مجموعة "حيطان عالية" عام 1959، وحتى آخر أعماله نجد أن أعماله الروائية والقصصية جميعها تندرج تحت ما يسمى بالمغامرة الإبداعية أو الأدب التجريبي.
- والأدب التجريبي هو أدب باحث، مختبر، كما إنه أيضا أدب حركي يبحث في الشكل، ويختبر المضمون، ويختبر في اللغة، ويغامر في تقنياته المستخدمة لتأصيل جوانبه.
- وهو بذلك يغوص في قلب الواقع ليمتح منه الإشكاليات والقضايا الإنسانية الموجودة في واقع الإنسان المعاصر، كما إنه يقتبس من كافة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية العديد من أدواته، وأشكاله ومضامينه وغاياته.
ولا يقتصر البحث في هذا الجانب على الشكل فقط، بل يتجاوزه إلى المضمون، بل ويتعداه إلى ما وراء ذلك من أبعاد وآفاق.
فهو مشروع وواقع يبحث دائما عن الاختيارات الأساسية في جماليات التجربة، ويرسي قواعد ذاتية تنبع أساسا من فكر الكاتب ورؤيته، وأقصى ما تستطيع أن تعطيه أدواته، وذخيرته الثقافية والفكرية، والتفاعل الذي يتم داخل مخزونه الثقافي الخاص.
وأول من استخدم مصطلح التجريب في الرواية هو الروائي الفرنسى "إميل زولا" مع ملاحظة أن هذا الكاتب كان متأثرا جدا بالعلوم، مما جعله يعتمد في رواياته على القواعد العلمية التي اقتبسها من أبحاث العلماء في عصره.
وقد أصدر أميل زولا أثناء حياته الأدبية بحثا جماليا عنوانه "الرواية التجريبية".
- ورواية "رامة والتنين" هي خير مثال في أدب إدوار الخراط للحديث عن الرواية التجريبية ذات المختبر الخاص، والبحث الضالع في جماليات اللغة، وقناع الذاتية.
- بالإضافة إلى اعتماد الكاتب على تكنيك تيار الوعي المتغلغل في نسيج النص من خلال شخصية "رامة" المتغلغلة بدورها هي الأخرى في نفس تكنيك تيار وعي "ميخائيل"، وتداعى خواطره الذاتية، ومونولوجه الداخلى الكاشف عن ذكريات كثيرة حدثت.

لقد تم استدعاء تلك الذكريات، وتم الكشف عن مكنوناتها، والغوص في نواح متعددة من وعي الشخصية، ومشاعرها الخاصة، واستبطان ما يدور في وعيها وإدراكها، والبحث عن عالم مهّوم يجسد علاقة حميمية رابطة بين عاشقين يستلهمان واقعهما بكل ما يحمل ذلك من حب وعشق وصوفية خالصة.

- لقد نحت إدوار (ميخائيل) بنفسه اسم رامة، تماما مثلما صنع لنا شخصيتها طوال الرواية، حتى إننا لم نرها أبدا إلا من خلال تيار الوعي، وحكيه، وسرده عنها، وذكرياته معها عما حدث بالفعل، وعمَّا كان يتمنى ميخائيل أن يحدث، وعما رآه بعينيه وذهنه بين الحادث والامتناع.

ومن خلال أحلامه (كوابيسه)، نحت إدوار (ميخائيل) اسم رامة نحتا لكى يمنح الشخصية، صاحبة الاسم، المعانى التي يريدها، وأن يربطها بالصورة الكاملة للشخصية مثلما سنراها، ونحصل عليها من خلال النص، أى من خلال ميخائيل وحده.
وبمعنى آخر يمكننا أن نقول إن ميخائيل نفسه هو الذي اختار اسم رامة، أو اختار أن يعشق امرأة تحمل هذا الاسم، وأن يعيش معها تجربة الحب.
- حيث تمتزج معانى الخصوبة والموت في آن واحد، ومعانى التوحد الحر والقهر معا، ثم يعيش "معها" أيضا تجربة الانفصال المفضي إلى خسارة كل معنى جميل مؤثر وحاد، ثم إلى خسارة الموت أخيرا.

والرواية تنقسم إلى أربعة عشر فصلا يحمل كل منها عنوانا خاصا له دلالته، وهو أمر استخدمه الكاتب لتحرير النص من عزلته، والإبقاء على مكوناته متماسكة، ودالة، وإيحائية.
بحيث نستطيع أن نعتبر كل فصل قصة مكتملة قائمة بذاتها، أو جزءا من لوحة فنية لها تشكيلاتها، وقضاياها، ورؤاها، ولكنها لا تنفصل بأي حال من الأحوال عضويا ودلاليا عن باقى البانوراما الشبقية الرامزة، والمحملة على مستوى الواقع.
بحيث ترتبط أيضا وظيفة كل عنوان فرعي بتوجهات ودلالة العنوان الرئيسي للنص من خلال التقاء الجميع عند نقطة واحدة، وهى إبراز هوية النص في آليته الخاصة، وتجسيد الرؤية العامة بتكثيف وتقطير شديدين.
وقد -حاول إدوار الخراط في رواية "رامة والتنين" إبراز مستويات متعددة المعانى من خلال هذه العناوين الفرعية الموحية التي تشكل تساؤلا لما يدور بين شخوص الرواية، ويخلق انتظارا لما سوف ينجم عنه هذه التساؤل "ميخائيل والبجعة" أو ميخائيل والحياة، وما سوف ينداح عنه السؤال الكبير الذي ألح على ذهن إدوار ووعى ميخائيل في هذه الدوامة الشبقية الهائلة.

"رامة .. رامة .. أين الحقيقة .. أين الحقيقة؟"
- ويجسد إدوار الخراط في هذا العنوان المكثف "ميخائيل والبجعة" دلالات صراع الإنسان مع الحياة، وصراع الحياة معه.

"وهب ميخائيل واقفا، قائما. وثب وثبة واحدة خفيفة إلى البركة، وغاصت قدماه في الطين الرخو، بصمت، وارتفعت المياه، دون أن يتطاير لها رشاش، إلى ركبتيه، كانت يده قد قبضت على البجعة، والتفت أصابعه على العنق الطويل وهو يضغط على العظم المدور والمضلع النحيل، والريش الأسود الحريرى يكاد يغطى يديه، ويثيره."

- ويحاول إدوار الخراط من خلال هذا الطراز من الكتابة الذي يربط بين الواقع والخيال، ويختزل فيه أبعاد الزمن، بل يتنقل بين مختلف زواياه الحاضرة والماضية والمستقبلة أن يضع الموقف الروائي المضبب في مواجهة الممارسات الواقعية ليعطى دلالة الغرابة في الموقف الواقعى.

- وهو يحيل اللامعقول في الموقف المتخيّل إلى معقول على مستوى الموقف الواقعي، معبرا بذلك عن الحب الضائع، المفقود، المختبئ وراء ركام الحقيقة التي يبحث عنها الكاتب.تماما كما كان مارسيل بروست يبحث عن زمنه الضائع في روايته الشهيرة.

- وهذه السمة ( البحث عن ركام الحقيقية ) تكررت في كثير من أعمال إدوار الخراط المتقدمة مثل "الزمن الآخر" 1985، التي تعتبر امتدادا لرواية "رامة والتنين" وتكملة لها. و"ترابها زعفران" 1986، و"يا بنات إسكندرية" 1991، و"أمواج الليالى" 1991.

هذه الأعمال جميعها تندرج تحت ما يسمى بالمتتاليات القصصية، تنفصل فيها الفصول وتتجمع لتشكل بنية عامة وبناء متكاملا، وهو ما احتفى به إدوار في روايته الأولى "رامة والتنين" التي كانت هى أولى محاولاته الروائية، وتبنيه بعد ذلك ما يسمى بالحساسية الجديدة في الأدب القصصي والروائي المعاصر.

إذ
- أن كل فصل من فصول هذه الرواية، يقص الرواية كلها، ويكشف مضمون التجربة عن معنى من المعاني في العشق الصوفي الجنسي الممتزج بصور الشهوات التي يتعمق آثارها، ويستشرف من خلالها القسوة البالغة، والحب الشبقي المدمر في ضبابية شعرية مكثفة من خلال أسلوب نابض بالحرارة، وعامر بالصور والتلوين.
- كما أن كل فصل نجد فيه دلالات الجنسي الكامل، والمناقشات الجدلية في الحياة، والسياسة، والحب، بين ميخائيل ورامة.
كما نجده أيضا في أحد الفصول مع أحد العلماء الفنلنديين حيث تبرز دلالة الانتساب، ودلالة العشق لكل العلاقات، حتى التي أقامتها "رامة" مع بعض الأجانب الذين أحبتهم "الأميركي، والفلسطيني، و الجزائري".
- كما نجد أن أسلوب تيار الوعي الذي استخدمه الكاتب في أماكن متفرقة من الرواية، واتكأ عليه في إبراز العديد من الذكريات الشبقية المثيرة والموظفة تجسيدا خاصا لخدمة الحدث حيث يجسد تبادل الحب الحسي بين رامة وميخائيل كل بطريقته:

"وكانت ذراعي على فخذك العارية، والقميص الأبيض القصير منحسرا إلى أعلى، بطنك مستديرة سمراء ناعمة الإهاب، والأعشاب الخفيفة جافة.
ومن الفتحة الطويلة في النايلون الخفيف تبدو لعيني جوانب نهديك الممتلئين بالبضاضة اللدنة المستريحة، مستقرين على الصدر الذي يحمل في داخله لغز الحب، مستكنا، منيعا، خفيا."
- إن توظيف الجنس في أعمال إدوار الخراط منذ البدايات هذا التوظيف الذي يصل إلى حد الإسراف، يفقد بعض هذه الأعمال شيئا من مصداقيتها الأدبية والفنية.

- حتى إن حذف كثير من عباراته في بواكير أعماله القصصية بمعرفة الرقابة، وإحتفائه بإعادة طبعها في بيروت مرة أخرى "حيطان عالية" 1959، بعد إضافة هذه العبارات يعطي دلالة إلى أن الواقع في أعمال إدوار الخراط يتطرق، ويتطرف إلى أبعد ما يستطيع أن يعطيه الجنس من معان ودلالات فنية.
وهو ما نجده في مواضع كثيرة من "رامة والتنين" وغيرها من الأعمال الروائية عنده.
والجنس كما يقول عنه د . هـ . لورانس نتاج للنوايا غير الواعية عند الإنسان، فكيف ندينه في نواياه الواعية.
وكما قال أيضا عن الدعارة الفنية "إنها ليست تمجيدا للجنس بل إهانة له."
وكما يقول عنه هنرى ميللر "إنه استشراف للحياة بكل تعقيداتها واقتراب من صلب ومركز الرؤية العامة للكون، ومغامرة داخل النفس وخارجها، واكتساب للأبعاد الخفية التي لا يمكن الاستغناء عنها بأى حال من الأحوال."
وهو كما عبر عنه فلوبير في "مدام بوفاري" وجون شتاينبك في "عناقيد الغضب"، وغيرها من الأعمال التي ترقى إلى معالجة الحقيقة العارية في براعة ووعي ونضج فني بعيدا عن مهاوي الإثارة وسقطاتها.
وهو جزء لا يمكن الاستغناء عنه في العمل الفني ما دامت الحياة تباركه ومادام هو أحد حقائقها الكبرى، وما دام جاء توظيفه على نحو يحقق للنص الحيوية والتميز .
- أما عن الوعي ودرجته في أعمال إدوار الخراط فهو على درجة عالية من النقاوة والوضوح والدليل على ذلك هو لغة الأرابيسك القريبة من الشاعرية، والتشكيل الزخرفي اللغوى، والفسيفساء الدلالية المنبثقة داخل تضاريس وتجاويف أعماله القصصية والروائية التي تميز عالمه تميزا خاصا.
- فضلا عن أنها تتيح لهذا العالم التوحد مع لغته وإلى مرجعيتها القديمة في طقوس المعابد، والصلوات ورموز الكهنة، وقصائد المتصوفة القدامى المسلمين والمسيحيين، والأناشيد الكنسية والأذكار الصوفية، فتهيمن اللغة على الكتابة وبالتالي تهيمن الكتابة على متلقيها فيتحد بها ولا تسلبه.
- أما قوله بأنه يكتب وهو ليس واعيا تماما بما يكتب فهو أمر غير مقبول، ولا مستساغ،

- أما الرقابة الداخلية، ذلك الرقيب الآخر الملتحم بكل كاتب جزء من ذات نفسه عليه أن يصارعه، أن ينفيه نفيا إذا استطاع، فإننى في الحق لا أكاد أعرفه، لا أعيه. "أعرف عقليا أنه هناك، أليست "الأنا" العليا، بالتعبير الفرويدى القديم، جزءا من الذات لا صحة لها إلا بوجوده، بل لا قوام لها أصلا إلا بقيامه ؟ لكننى في لحظة الكتابة، في حميا هذه الدفقة وتحت ضغطها الذي لا يطاق، لا أعرف هذا الرقيب، لا أحس له وجودا."

- "تكاد تكون تجربتي، أثناء الكتابة، أقرب ما تكون إلى الخبرة الصوفية أو حتى خبرة العشق الصراح، انجذاب كامل في دوامة كأنها إيروطيقية. بمعنى أن "الخارج" و"العالم" كله يوجد، كأنما لأول مرة، بمعنى من المعانى، لكى يتجلى كله، ويتخلق كله، في مستوى آخر تماما، ويكاد "الداخل" أيضا أن يتجلى لأول مرة، وفي كل مرة، حارا وساطعا وملتبسا ومتوهجا لا راد لسطوته، هذه سطوة مختارة بوعى مسبق بائد في لحظة الكتابة، وبلا وعي، بمعنى ما.
- في تلك اللحظة نفسها.. أكاد أقول إننى أكتب وأنا لست واعيا تماما بما أكتب.
- تتدفق وتتخلق الأشياء. أشياء العالم وأشياء الروح معا، كأنما من تلقائها، ولكنها في واقع الأمر ليست من تلقائها، في واقع الأمر كان الاحتشاد الطويل قد أعمل عمله، وخاصة ذلك الجانب الذي يمكن أن نسميه "الناقد" أو "الرقيب" أو "القارئ" المتضمن أو ما شئت من تسميات."
وهو كما يقول أيضا "ما زالت تراودني مشروعات قديمة أن أكتب الشبق، كما فعل أجدادنا، بكلماته الصريحة البسيطة ذات الحروف الثلاثة. ما دام ذلك يأتي من ضرورة سياق العمل الفني وحتميته.
هذه حرية ما زالت مفقودة عندنا بعد أن كان تراث ثقافتنا قد اكتسبها لنفسه، ولنا، وحفظها لنا.

ما أبعد ذلك كله عن الفجور أو البذاءة "التي هي أساسا في ذهن المتلقي" والقائمة على أنانية وقمع روحي وغلواء عمق النفس.
- فإذا كان حقا أنه لا حياء في العلم، ولا حياء في الدين، فكم أحرى أن يكون حقا أنه لا حياء في الفن."

- من هذا المنطلق نجد احتفاء إدوار الخراط بالجنس المبني على الصراحة المغلفة بلغة شفافة تكاد تغطي واقع هذا الجنس. وهو يأتي من خلال تصوير العلاقة بين الحلم والواقع أو بين "رامة وميخائيل".
وحيث أنه لا حياء في الفن، لذا فإنه يجب الاقتراب من حدود التسجيلية الجنسية، ولو بقدر يسمح بإثارة الموقف وتوهج معانيه وإضاءة دلالاته.
لذا نجد أن هذه العلاقة تذهب إلى حدود بعيدة كما كانت بين "بول" و"ميريام" في "أبناء وعشاق" لـ د . هـ . لورانس، وبين "مدام بوفاري" وعشيقها في رواية "فلوبير".
نفس العلاقة الصاخبة التي تشير إلى المرايا العاكسة التي تشبع خصوبة فتحيل نارها إلى وهج يضئ الطريق إلى الرغبات المدفونة لكل هذه الشخصيات، وهو ما نجده في شخصيتي "رامة وميخائيل" واضحا جليا في "رامة والتنين".
- والجنس في روايات إدوار الخراط ينقلب أحيانا إلى عواطف سامية، وهو تصور نسبي إلى أبعد الحدود بين الكاتب ورؤيته، وبين المتلقي وهضمه لهذه الخاصية.

وكما يقول أندريه جيد في محاضرة له عن ديستويفسكي "إنما بالعواطف السامية تخلق أدبا غير سام."
ولم يكن يقصد هنا طبعا العواطف النبيلة الحقيقية، بل تلك الباهتة التي يصطلح الناس على أنها سامية، لذا نجد أن إدوار الخراط قد حقق مقولته بكتابة الشبق ليس كما كتبه الأجداد ولكن بطريقته المعاصرة .

وكما يقول سامى خشبة في دراسته حول "رامة والتنين مأساة مصرية" حول الأهمية الخاصة برواية "رامة والتنين" والهدف من التعبير عنها بهذا الطراز من الكتابة هى أن:
- "إدوار الخراط عندما كتب هذه الرواية، إنما كتبها من منطلق واضح فيها كل الوضوح، حول تجربة الحب الضائع، التي يعيشها مثقف مصري قبطي تكونت ثقافته باعتباره (قبطيا) ينظر إلى الأشياء، وإلى تاريخ مجتمعه ولغته، من منظور فهمه الخاص لتاريخه الذاتي.

ورغم أن ميخائيل (إدوار) يدخل تجربة الحب باعتباره (رجلا) فحسب، فإنه لا يعيشها بهذا الاعتبار المجرد، وإنما لا يعدو الأمر أن يكون ترميزا للمعادل الموضوعي الواضح في فكر ورؤية الكاتب، للعلاقة بين رامة وميخائيل، أو العلاقة بين رامة وتاريخ مجتمعها التي تسعى إليه وإلى إعادة بلورته مرة أخرى.

لذا نجد أن إدوار الخراط يلجأ إلى التجريب، والرمز للاتكاء على هذا المعنى في كثير من أعماله القصصية والروائية.
- إنه يتكئ على المستويات الزمنية المتعددة ليحقق منها الإبهار المعنوي المقصود،
- وليعقد من خلالها بينه وبين المتلقي نوعا من التواصل الحار،
- والصلة الحميمة النابعة أساسا من وهج التجميع خاصة ما يتصل مع الأنثربولوجي المصري والقبطي، وكذا التعامل مع الفصل القصصي المتواتر بحكائية خاصة تستمد خطوطها من التلاحم السخي مع اللغة.
ومن التواصل الدائم مع مفردات الموقف، ومن خلال المكان الأصيل الذي عايشه الكاتب ووضحت ملامحه المتميزة في خلفية السرد الروائي المتواتر والذي شهد أيضا منابت الشخصيات الروائية المتواجدة فيها ومعها الكاتب.
شوقي بدر يوسف-ميدل ايست أونلاين

قديم 06-15-2012, 11:48 AM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
التصوف كبنية روائية


نبيل سليمان


بعدما فعلت الصوفية فعلها في التراثي والحداثي من التجربة الشعرية العربية، أخذت تفعل فعلها في التجربة الحداثية الروائية، عبر العقدين الماضيين. ويمكن للمرء أن يميز هذين التعبيرين عن ذلك الفعل:
1-التعبير الثقافي: حيث يكون لعلامة أو أكثر من علامات الصوفية، حضور أكبر أو أصغر في الرواية، سواء في اللغة أم في روحية بعض الشخصيات وممارساتها. ومن هذا القبيل تبدو رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر)، حيث جعل للصوفية قرية باسم (التصوف) ترسم لحظة دينية ومعيشية من بين لحظات القرى السبع. ومثال (الحوات والقصر) يعود إلى مطلع الثمانينات حين بدأ الفعل الصوفي في الرواية يتواتر. أما مثال رواية (فردوس الجنون) لأحمد يوسف داوود، فيأتي في نهاية التسعينيات ليقدم شخصية الراهب سليمان كتعبير ثقافي عن الفعل الصوفي. فالراهب سليمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، يعتزل في صومعة وفي الفيلا مع الكتاب الهندوسي (المنو سمرتي) والحلاج وابن عربي والمعري والسهروردي، ليغدو قناة الكاتب الفلسفية والصوفية. وثمة تعبير آخر في هذه الرواية عن الفعل الصوفي جاء في بعض حالات الجنون التي ترسمها، كحالة (الجنون المحترم)، أي أن تقفز بين العوالم وتعلن عن روحك، حتى لو لم تقل إلا الكلام الذي تفهمه وحدك.
وقد يكون التعبير الثقافي عن الفعل الصوفي في شخصية المرأة، حيث يتلامع الاتحاد والحلولية، كما في رواية سليم مطر كامل (امرأة القارورة) ورواية (النعنع البري) لأنيسة عبود ورواية (هشام) لخيري الذهبي، ورواية (فردوس الجنون) أيضاً.
2-التعبير الكلي: إذا كان الفعل الصوفي في التعبير السابق يظل محدوداً أو خارجياً أو عابراً أو استعراضياً، فهو في حالات -روايات التعبير الكلي يغدو فعلاً بنيوياً حاسماً وشاملاً، يعني البناء واللغة والشخصية والدلالة وسائر ماتقوم به الرواية. وإذا كانت رواية (رامة والتنين) لإدوار الخراط قد أعلنت عن ذلك عام 1980 بامتياز، فقد أسرعت الثمانينات بكتاب (التجليات) لجمال الغيطاني. وربما كان التعبير الأكبر التالي في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) وفي أغلب ما تلا من روايات الغيطاني والخراط.
لقد بات لعناصر التجلي والكشف والحب والنفي والجسد والكوني والخلود والاتحاد والحلول والمعرفة والحق وسواها من عناصر التجربة الروحية الصوفية، فضلاً عن التعبير الفني عن هذه التجربة، بات لذلك كله فعله العميق في البنية الروائية وفي الشخصية الروائية. وإذا كانت شخصية (محبة الجمر) في رواية وليد إخلاصي (باب الجمر) تجسد بعض ذلك، فإن أغلب روايات إدوار الخراط وجمال الغيطاني عبر
الثمانينات والتسعينيات تجسد كل ذلك. وهاهي هذه العنوانات للغيطاني تؤكد المثل القائل (المكتوب يقرأ من عنوانه): (رسالة الوجد والصبابة، دنا فتدلى، خلسات الكرى، شطح المدينة)، فضلاً عن (كتاب التجليات). ولأن هذه المقاربة ستركز همها في ثلاثية (رامة والتنين) لإدوار الخراط، وبخاصة في جزئها الأخير (يقين العطش) والصادر عام 1996، فسأكتفي بالإشارة إلى ما في (خلسات الكرى) من أمر الأنثى الصوفية التي تتعدد أسماؤها وصفاتها: الباسقة، النغمية، الروية، الشهابية، الملكة، الثريا، السنبلة، الجوهرة، البلبلة، المتكوكبة، والأنثى المجرة. وبينهن "الوافدات عليّ من حيث لاأدري، من لم يسعين قط في عالم الحسّ".
هذه الأنثى الصوفية كونية الجمال، شيرازية الطلة، بابلية العينين، قاهرية المدى، قرطبية الضمة، سكندرية النسيان، أرضية الغواية، مجمع للآفاق. ولأنها كذلك يغدو فضاء العمارة جسداً أنثوياً، وتتوحد الأنثى بالموسيقى في الوشاح الصوفي، ويكابد الراوي الذي يحمل من سيرة الكاتب كثيراً، يكابد الشجن والمقامات والآنات والنشيج المكتوم والطرب. وهو منذ مفتتح الرواية يحمل من طفولته في قريته (جهينة) ذلك (التحنين) الذي تصدح به نساء القرية قصد إثارة الأشواق إلى أرض يثرب ومكة. أليس للرواية إذن أن تصدح بنداء النظام والشيخ الأكبر ابن عربي؟ لقد ضيّع الراوي تلك المراكشية، وكاتبه مريد بامتياز لابن عربي، فليكن هذا النداء الصوفي لتلك الأنثى الصوفية، وليرمح الخيال الصوفي بالعبارة كيما تقوم (خلسات الكرى) كرواية، ولكن من دون أن تستأثر مع ماسبقها، وماتلاها من روايات الغيطاني، لابعالمه الروائي ولا بأسلوبيته، كما تدلل بقوة روايته (حكايات المؤسسة)، وبخلاف ماغلب على التجربة الروائية لإدوار الخراط منذ أسرته (رامة) عام 1980.
***
بعد ستة عشر عاماً من صدور (رامة والتنين)، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني (الزمن الآخر) والجزء الثالث (يقين العطش). وفيما كتب الخراط من روايات أخرى، عبر ذلك، كان للصوفية القبطية والإسلامية بخاصة والكونية بعامة، فعلها الأكبر. ولئن كان التعبير الثقافي عن هذا الفعل هو ماغلب على الروايات الأخرى، فالتعبير الكلي عن هذا الفعل هو ماحكم الثلاثية، عبر شخصيتها المحورية (ميخائيل)، وفيما عاشت من تجربة الحب لرامة.
بالطبع، وكما يليق بالصوفي، جاءت رامة امرأة استثنائية. ومنذ الجزء الأول الذي ناصف اسمها عنوانه، ترسمها الرواية هكذا: "المرأة الإلهية العرافة الطفلة الضاحكة الحارة التعسة، العابثة الداعرة القديسة العذراء الأبدية...". إنها امرأة لم تكن من سلالة البشر، لا نهاية لها الآن وأبد الدهر، وميخائيل الذي يراها غريبة يراها أيضاً جزءاً منه، لا انفصال له عنها.
هذه الممرضة التي تقرأ اللغات القديمة وتكتب الروايات وتعمل في ترميم الآثار وتطوي عشاقها -وتلك علامات سيرتها في الثلاثية الروائية- تومض في حياة ميخائيل وتختفي، تنقضها وتقيمها، فيهتف "أحبك حباً كاملاً، نهائياً، دون تحديد". ويرسم ميخائيل هذا الحب كجوهر ومطلق. ومنذ هذه البداية في الجزء الأول سينفي ميخائيل -شأن الصوفي- أن يكون الحب من قبيل الكفاءة، أو عدمها، فليس فعل الحب هو الموضوع، بل الحب نفسه. وسنقرأ في (يقين العطش) أن "الحب ليس هو -وحده- أبداً، فهو "دائماً شيء آخر، بل تتجسد فيه دائماً أشياء كثيرة أخرى، ملتبسة، من معاني الحياة نفسها، بل الوجود". كما
سنرى ميخائيل في الجزء الثالث ينفي معرفته بالحب، ويقول: "لعلني أحب الحب نفسه، بشكل ما، على طريقتي الخاصة، ولعل معرفتي الوحيدة أنني أحبك".
لقد افتتح الجزء الأول بالتوكيد على أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لايحتاج إلى تبرير، بل يأخذ ويعطي دون سؤال. كما أسرع هذا الجزء بالسؤال عما إذا كان الحب هو هذا النداء الذي لا رد عليه أبداً، ولاينقطع. وسيلي أن الحب "عرامة شوق للحياة، لا تنطفئ أبداً، إيمان كلي بأن الإنسان لايمكن أن يظل وحيداً، وأن الحب ليس كذبة". بيد أن ميخائيل كان قد رأى الحب لعبة، وسيراه فيما بعد كذبة، وهو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة. ويتوسل ميخائيل للتعبير عن حبه العديد من المتناصات الصوفية، فهذا شاعر صوفي يقول:
أرى الأيام صبغتها تحول

وما لهواك في قلبي نصولُ
يخاف من النوم من كان حياً

وإني بعدكم رجل قتيل

وهذا آخر يقول:
فما حال في سري لغيرك خاطري

ولا قال إلا في هواك لساني

وهذا أبو منصور الحلاج يقول: "حويت بكلي كل حبك". وهذا القديس أوغسطينوس يقول: "بحثت عن الحب، في الحب، مع الحب، وكنت أمقت الأمان". وتتوالى الأقوال: "تحمّل قلبي مالا أبثه، وإن طال سقمي ومكنون إخباري"، "من لم يمت في الحب لم يعش به"، وأخيراً، وليس بآخر، هذا ذو النون الإخميمي، (بلديات) ميخائيل وإدوار الخراط، يقول: "أعرف الناس بمحبوبه أشدهم تحيراً فيه".
تلك بعض المتناصات في "يقين العطش"، وقد أشار الكاتب في نهاية الرواية، بصدد سائر المتناصات، إلى أنه لم يثبت مظان مااقتطف من تراث الصوفية والشعر المأثور والصحف اليومية، لأنه عدّها من نسيج الرواية. كما حرص الكاتب على أن يكتب بيت الشعر العمودي، حيثما ورد، بلا فصل بين الشطرين، توسّلاً شكلياً منه لمآل المتناصات -كقطبة- قُطَب من نسيج الرواية، فيما أحسب.
والمهم الآن أن ذلك الحب الصوفي من ميخائيل هو لرامة، لذلك كانت كما مر بنا امرأة استثنائية. لكن رامة امرأة من لحم ودم، جسد متعيّن، فكيف رسم الصوفي هذا الجسد؟
إنه الجسد الغني الوثير، القديم قدم الأزل، المتقلب بطينه، المتوفز بالشباب الغض، المتفتح بالرغبة الدائمة. ومن هذا الرسم في بداية الثلاثية إلى منتهاها يتساءل ميخائيل: هل الفيزيقية المباشرة الصريحة، هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها وبذاتها؟ وبقول ميخائيل، فإن عبادة رامة للجسد تجعلها مقدسة ونقية وإلهية: "أحسّ في هذا التمجيد غلوّ العابدين الذي يشارف الكفر، أو أن فيه سنتمينتالية لم تعد مقبولة في هذا العصر"؟ وكذا، فليس هناك غير الجسد، والجسد جميل، لكنه ملتبس، وجسد رامة خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية، أما جسد ميخائيل فغريب "عصي عليّ، غير مطاوع، جامد مفصوم".
هذا إذن جسد المحبّ، وذاك جسد المحبوب الذي هو جسد العالم. والجسد الذي يعنون فصولاً في الرواية (جسد ملتبس -جسد طعين- جسد غامض الوضاءة: يقين العطش)، ينهض فيها برمتها جسداً
صوفياً بامتياز، على الرغم من الإلحاح على الوصف الفيزيقي والفعل الجنسي، فهذا الإلحاح محكوم بالحب الصوفي، وعلاقة الجسدين صوفية، أي أنها علاقة اللذة والألم، العلامة التي تنهك الجسد، وتتجاوزه، وتدغمه في جسد الكون، ليكون وصال الجسدين واتحادهما، اتحاداً بالكون.
غير أن هذا الوصال ملفوع بالألم واللوعة، ولحظة الفقدان كما نقرأ منذ البداية لا تنتهي، وإذا كان ميخائيل يخاطب رامة هاهنا: "أنا وأنت وقد أصبحنا نحن "فشوق الحب لا ريّ له، والعالم معجون بالألم. وفي (رامة والتنين) يعبر ميخائيل من جديد عن النحن التي اتحدت فيها الأنا والأنت باعتبار الأساس هو التوحد: "ألا يكون هناك الأنا والآخر، ألا يكون هناك اثنان، بل واحد، عطاء متبادل كامل وأخذ متبادل كامل". وفي الآن نفسه يقوم النفي، فنظرة رامة لميخائيل، كما يعبر، ليس فيها حب ولا بغض: "بل مجرد انقطاع لكل صلة، ونفي حتى للنفي نفسه، نظرة كائن من عالم آخر، ليس علوياً ولا سفلياً، ولا يحاذيني ولا يتجاوزني ولا يضمني ولا ينفيني فأعرف أنه النفي إلى أبد الآبدين"؟ ويخاطب ميخائيل نفسه قائلاً: "أنت عندما تفقد شيئاً تعرف أنه لن يعوّض، ولا يعوّض، وترفض مع ذلك، ترفض هذا الحس بالفقدان".
إنها علاقة من الوجد والاتحاد والانفصام والألم والفقدان والنفي، ليس لأن المحبوب غير معني بالمحب، بل لأن المحب لايروم سوى علاقة كهذه. وتلك هي الجملة الأولى في "يقين العطش": "كان حسه بالفقدان الذي لايعوّض عميقاً". وسيوالي التنازع بلا كلل، فميخائيل ينقض ما أغفل، وينفي ما أثبت، والحب قائم في وجه كل نقض، غير أن النفي لا يزول، وهاهو العاشق الصوفي يسائل معشوقته: "وكان فيك تلفي، فهل كان فيك -أيضاً- بقائي؟".
ولأن قارئاً قد يعاجل هذه العلاقة بالرومانتيكية والنوستالجيا وربما بالمازوخية أوالسادية أو سواهما من التحليل النفسي، أياً كان مذهبه، فإن ميخائيل يعاجل أيضاً إلى نفي الرومانتيكية عن الألم الملازم ولعلاقته برامة، ويرى مرة أن الألم واقعة حسية فقط، ثم يرى أنها قد تكون واقعة روحية. وميخائيل يهجو الألم: إنه شيء خشن، شعث، غير جميل بأي معنى، لكنه يعايش الألم متلذذاً، فهل من عجب أن يردد مع القائل، في متناص جديد:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي

وعيني على فقد الحبيب تنام

ومادام الارتواء الكامل هو يقين العطش، فماذا يعني أن يكون الحب الجسداني بين امرأة ورجل شرطاً للحوار الكامل؟ هل يقين العطش هو -كما يتساءل ميخائيل- الفناء وتحدي الفناء معاً؟ هل من يقين وعطش ميخائيل لايطاق؟
قد يكون من المفيد هنا أن يلتفت المرء إلى المدونة الصوفية، على الرغم من متناصات ثلاثية الخراط معها، من أجل إضاءة الصوفي في هذه العلاقة بين رامة وميخائيل، فمماطلة رامة وصدودها هي مما قال فيه ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه

فعندي إذا صحّ الهوى حَسُنَ المطلُ

والحب لدى ميخائيل هو مما قال فيه ابن عربي: "الحب يزاوج بين طلب الفناء وطلب البقاء... يدعوك إلى طلب المشاهدة فيفنيك عنك، ويدعوك إلى طلب إمساك الأمر فيبقيك معك" (كتاب الحجب). وكتابة جلّ الرواية في وصف رامة هو مما قال الجنيد في المحبة: "دخول صفات المحبوب على البدل من
صفات المحب". ولوعة ميخائيل هي مما قال فيها محمد بن سوار بن إسرائيل:
وهل تتحمل النكباء مني

إليهم حاجة القلب الكئيب
فتخبرهم بحفظ الود عندي

وإن أضحى صدودهم نصيبي

فلنمض الآن إلى الفعل الصوفي في الزمن الروائي وفي الفضاء الروائي، حيث سيترجع في منتهى ثلاثية الخراط صدى البرهة الطللية في القصيدة الصوفية، فتقرأ: "هذه الأطلال صروح مازالت شامخة وقائمة الأركان، حتى إن كان أهلها قد رحلوا عنها. رامة مازالت. ليست رسماً دارساً طوحت به عاصفات الليالي، بل هي حضور،". ويتوج فصل "جسد ملتبس" من "يقين العطش" هذا البيت لجرير:
حيّ الغداة برامة الأطلالا

رسماً تحمّل أهله فأحالا

ولاينسى ميخائيل أطلال رامة على طريق بيت اللّه. ولعمري، كان قميناً به أن يردد خلف ابن سوار أيضاً:
سلام قد تضمّن كل طيب

على جيران رامة والكثيب

تستدعي البرهة الطللية ما انقضى، منتكبةً الحاضر، ولائبةً على المستقبل الذي يعيد الماضي. وهذا القوام الزمني هو ماتأخذ به الرواية، فالحاضر يظل باهت الحضور وضامر الفعل، يظل كحاضر الصوفي قفراً وكآبة وانكساراً، هكذا تبدو التسعينيات المصرية في "يقين العطش" عبر ماترسم من الأحداث الطائفية في المنيا أو من تهريب الآثار وترميمها. وقد تكون الاستدارة عن الحاضر في الجزء الأخير من الرواية أقل أو أصغر منها في الجزأين السابقين، لكن العين تظل لائبة على كل حال خلف "الزمن الآخر". وهكذا يقوم بناء الرواية على الفصول الطويلة التي تستعيد ماعاش ميخائيل ورامة، بالتزاوج المحدود مع لحظة ما من الحاضر، وبالنشدان بين حين وحين لمستقبل يتجاوز الوجود الشقي (الحاضر) ويعيد الماضي السعيد والفردوس المفقود.
ربما تشي لعبة الزمن هذه في ثلاثية الخراط بالتزامن والتكسير والاندغام بين الأزمنة التي يقوم بها زمن الرواية في التجربة الحداثية بعامة. لكن الثلاثية تكتفي من ذلك بأهونه، شأن القصيدة الصوفية. فمزاوجة خطي الحاضر والماضي، مع غلبة الأخير، ومناوشة المستقبل لماماً، هي ديدن الثلاثية التي لاتغيب عنها الرحلة أيضاً، شأن القصيدة الصوفية، سواء أكانت رحلة في الفضاء الطبيعي والعمراني والآثاري، أم كانت رحلة روحية ومعراجاً.
يقول ميخائيل إن قضيته هي أن الماضي لاينقضي. ويقول أيضاً إن الرحلة عنده متصلة في عتمة ضاربة الضوء وسرية، وليست مراحل. وفي (حركة) ترميم الآثار في مآل الثلاثية يعد ميخائيل الترميم كذباً. والفن كذباً، لأنه تجميل، والأصل بكل خشونته أو بهائه أو بكارته، لن يقوم. وللماضي، للأصل الذي لايستعاد مهما بذل الباذل، جماله الخاص الذي لاينبغي ولايجوز إصلاحه أو تعديله أو إعطاؤه صورة مغايرة، مهما كانت مشابهة أو مقاربة، أو حتى مطابقة، لأنها ليست الأصل.
تثبيت هو للماضي إذن وتمجيد، ويأس من الاستفادة يضارع ويصارع نشدانها. إنها المأساة التي تلفع الوجود، فلا يكون لميخائيل سوى أن ينقذف في الكوني، كصوفي حيث الفضاء الطبيعي، والخلود، وحيث
الحق. وتلك هي السيرورة الصوفية للرواية في الزمان والمكان، فالماضي والحاضر والمستقبل طيّ الخلود، والبيوت والفنادق والمناطق الآثارية والحدائق والشوارع.. طيّ الفضاء الأكبر: طيّ الفضاء الطبيعي.
في الجزء الأول تحضر الصحراء اللانهائية والنيل والورقة والغصن والحمامة وموجة الزمن الزرقاء الخضراء والزرقاء الثابتة، ويحضر وجه رامة الماثل أبداً في الزمن. وإذ تأخذ ميخائيل صدمة كشف تتفجر تلك العناصر في الفضاء الكوني، فإذ برامة كالكون كله، فيها قبس من كيان متقد متسام وإلهي، وحكايتها مع ميخائيل هي حكاية كونية إلهية، وهما يضربان في عالم خاص قد تحرر من القيود ومضى في طريق بهجة كونية من الحرية والطاقة المبذولة بسخاء.
يسأل ميخائيل محبوبته: "هل تظنين أنك أنت -الحقيقة- موجودة في قلب هذا التيه.. هل تظنين أنك أنت موجودة في كل عالم من هذه الأفلاك التي تتماس، ولكن لا تتداخل، تتساوق ولكن لاتتقاطع أبداً، في كل عام، وحده، من هذه التي تدور، غريبة كل منها عن الآخر".
هذا السائل هو عينه من صاغ من رامة امرأة خالدة، وخاطبها: "أنت محدودة ومحددة، دانية البحث عن كمال ما، مفقود، وكأنك كاملة، وكأنك خالدة لاتموتين". ورامة تتناسخ من قميص إلى قميص، فهي إيزيس إلهة الحب القديمة والأولى والدائمة، هي العذراء وأم موريس، وأم المسيح وسنتا الطاهرة وعشتروت وهيرا وديميتر وأفروديت، هي جماع المريمات، والجوهر غير الفاني (رامة والتنين). ورامة هي نعمة، حوريس، حتحور، ليليث، إينانا الأميرة ميريت، بنت الملك رمسيس الخامس، زهرة القمر المنير، محظية السماء، محبوبة رع، أم الإله، بنت رع... (يقين العطش). وأياً كانت أسماؤها، فهي ذات ميخائيل الأخرى كما يجهر.
لكنه أيضاً يرى الأبد كلمة لامعنى لها، والبحث عن الدوام صبياني وبدائي قليلاً، ويخاطب نفسه: "أنت ترى نفسك ميتاً، وتعيش مع الموت، تعيش الموت، تحمله معك، تصبر عليه، وتعانيه، أنت تحمل ميتاً في داخلك، والميت هو أنت أيضاً، قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير عطاء ولاكفن".
المحبوبة خالدة إذن والمحب ميت. والخلود والموت، أو الفناء بحسب الإيثار الصوفي الذي يردده ميخائيل، وهو القائل باشتياق الجسد إلى الفناء في الجسد الآخر. إنها أبدية الحب الصوفي التي تتشظى في ثنائياته الشهيرة: الحياة والموت، البقاء والفناء، الجسد والروح، المحب والمحبوب، الهجر والوصال، النقصان والاكتمال، والسلب دوماً في الذات المحبة، والإيجاب دوماً في الذات المحبوبة. وبالطبع، لامكان للمنطق ولا للعقل في هذه المعادلات -الثنائيات، فميخائيل الصوفي يخاطب رامة "لا أحب المنطق. هنا لا أحب العقل"، والطريق سالكة إلى الجنون، وأولها الخمر والسكر.
في (رامة والتنين) حوار مطول بين الحبيبين حول الدونيزية بعامة، وفي ميخائيل بخاصة. والخمر بصنوف لاتحصى لايكاد يغيب عن لقاء الحبيبين، فالنشوة حد الجنون مطلوبة، والجنون غاية ووسيلة، بالخمرة وبدونها. كذلك يتساءل ميخائيل وهولات الجنون جراء علاقته برامة، تصفعه: (هل أنا أجن؟).
لقد سبق النوري إلى القول "العقل عاجز لايدل إلا على عاجز مثله". وسبق ابن عربي إلى أن عدّ الجنون سقف المعرفة في حديثه عن عقلاء المجانين. وهاهو ميخائيل يتقفى هذه الدرب الصوفية، حيث ثنائية العقل والقلب، وصولاً إلى الحق والمعرفة بالرؤيا.
يقول ميخائيل في الجزء الأول مخاطباً رامة: "المعرفة المحرقة هي معرفة من أحب. هذه هي المعرفة، فيم تفكرين؟ كيف تحسين؟ ماذا تقرأين؟ بم تحلمين؟ كيف تتنفسين حتى؟ ماخطاباتك، رؤاك، هذياناتك المخبوءة؟ ماذا في حقبيتك؟ ليس هذا فضولاً، والمعرفة ليست الملكية ولا السيطرة، هي الحق، وحدها، هي الحب". وهذا الحب -الجنس- المعرفة يملأ كل فجوات الماضي والمستقبل، من كما يضيف: هذا الحب ليس تملكاً ذكورياً ولا انتهاكاً للمحبوب، كما سيلي في (يقين العطش)، فميخائيل يرى نفسه مقوماً أساسياً من مقومات جسد رامة. ولئن كان في "رامة والتنين" يرى الحق انهداماً للأسوار وتدفقاً لمياه الحياة المختلطة، فهو في "يقين العطش" يبدي ويعيد في التوله وفي التصوف بالعشق، وفي المطلق توقاً إلى " معرفتك معرفة شاملة في استضاءتك النورانية، وفي مباذلك الأرضية معاً، المعرفة الشاملة، الحب الكلي.
تلك هي الدرب الصوفية التي يحدو لها ابن عربي مرة، إذ يقول: "لو علمته لم يكن". ومرة إذ يقول: "سفور الحقيقة هو إفناء لكل عين سواها". وميخائيل في مضيه على هذه الدرب، شأنه شأن الصوفي، ستغدو عبارته تشبيباً بالمحبوب، وصفاً ومناجاة ومسائلة، وستكون مرة بعد مرة شطحاً، فالشطح -كما قال الطوسي- كلام ترجمه اللسان عن وجد، وميخائيل قد أخذه الوجد، فهو لاينطق عن ذاته، وإنما عما يشاهد، كما قال الجنيد في شطح الصوفي، والمشاهدة هي للمحبوب الذي حدده الجنيد باللّه، وحدده ميخائيل برامة جسداً ورمزاً.
لقد تخللت لغة الرواية حوارات بالعامية ومفردات ومتناصات، مما وشى بتعدد مستويات اللغة، ولكن تحت هيمنة اللغة الشاعرية التي تصل إلى الدفق وغنة الغناء والإصاتة والهزج، حيناً بعد حين ، ولعلي لا أبعد إذ أعود إلى ماقال الشاعر الصوفي حسن رضوان في قول المتصوفة:
فإنهم أجلّ من أن تفتقر

أقوالهم إلى قياس مشتهرْ
أو اشتقاق إذ لهم قانون

ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقواله لاتفتح

إلا بذوق أو بكشف يمنح

فثلاثية الخراط لاتسير في نهج مطروق، وربما كان ذلك ما التبس على ناشر الجزء الأول في طبعته الأولى، إذ عده مجموعة قصصية. وهذه الثلاثية غير معنية بأن يغمض بعضها على قارئ. وقد التفت الخراط في هذا الجزء إلى صنيعه اللغوي والبنائي فقال: "ولعل هذا الدفق من الكلام ليس إلا جسراً رقيقاً لا قوام له فوق المهاوي الغائرة المظلمة والمفتوحة في عمق الروح القلقة والأحشاء المتقلبة بالهوى والمضض والاشتهاء والجنون". وفي مقام آخر يضع الخراط لعبته الروائية موضع التساؤل، فنقرأ: "ألا ترى أن هذا الشعر أو التصوف، أو مالست أدري، هو بتر وبتشويه لنفسك أو للعالم؟ ألا تجد زيفاً وزيغاً وكذباً مقصوداً أو غير مقصود. أبيض أو غير أبيض، في هذه الزخرفة الشعرية أو التصوفية أو مالست أدري؟".
هكذا جاء التعبير الكلي عن الفعل الصوفي في ثلاثية الخراط. ولعل هذا التعبير هو مادفع فيصل دراج إلى أن يصف لغة الكاتب بلغة المغترب المتعالي، أو مادفعه مع دوافع أخرى لأن يرى في هذا الشطر من التجربة الحداثية الروائية كهانة جديدة، بينما نعتها غالي شكري بالحداثة الكهنوتية. وفي زعمي أن التعبير الثقافي أو الكلي عن الفعل الصوفي في الرواية يمكن له أن يوفر ويتوفر على حفر في التراث
الديني غير الرسمي، وفي الذات، كما يمكن لهذا الفعل أن يشرع الأسئلة في الرواية على الكوني والإنساني عبر مفاصل الإيمان والموت والحب والجسد والطبيعة. فضلاً عن تطلب ذلك كله إلى لغة -لغات أخرى. بيد أن الأمر ليس بهذا اليسر، فالمزالق تحف بالدرب، ومثال الشعر ماثل للعيان، كما هو الأمر في تجربة إدوار الخراط، حيث وصل اللعب اللغوي إلى المجانية في مقاطع الدفق التي تتوخى جرس حرف ما (من رامة والتنين: حرف الحاء ص92- من يقين العطش: حرف الضاد ص215...). والأهم هو هيمنة الزمن الذاتي غير التاريخي على الزمن التاريخي، فمع هذه الهيمنة يتقدس الماضي، ويكون مايتعلق بالحاضر وبالمستقبل في الرواية تكأة للماضي واستعادة، وتتوحد الذات وتتضبب الرؤيا، فهل ستعيد الرواية سيرة الفعل الصوفي في الشعر وما آلت إليه هذه السيرة من تأزم في التجربة الحداثية، أم إن الرواية ستستطيع أن تجعل من الفعل الصوفي فيها فعلاً مخصباً؟

قديم 06-18-2012, 10:22 AM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
إدوار الخراط : العرب امة لها حضارة عميقة وكلام ادونيس لايستحق الرد عليه

قال ان العراق مبنع ريادات لا ينضب
إدوار الخراط : العرب امة لها حضارة عميقة وكلام ادونيس لا يستحق الرد عليه
حاوره في القاهرة/ ماجد موجد
أول مرة قرأت لادوار الخراط كان نهاية العام 1988، قصة لا أتذكر اسمها كانت منشورة في مجلة كل العرب ولكن أتذكر بهجتي بها وباسلوبها الفاتن، أتذكر كم شدني المشهد العاطفي الساخن بين عاشقين يلهثان على درجات السلم،
- كم كانت اللغة شيقة ورشيقة في الوصف الباذخ،
اذ لم اكن قد عهدت مثلها من قبل.
قرأت بعد ذلك عنه اشياء كثيرة، مقالاتٍ وقصصاً وحوارات، في مطلع التسعينات واثناء وجودي في شارع المتنبي ببغداد لفتت انتباهي روايته "رامة والتنين" انتقيتها وقرأتها بشغف في ليلتين ليظل - ادوار الخراط واحدا من الكتاب الذين حفروا لهم مكانة متميزة في ذاكرتي وهي المكانة التي وجدت عديد اصدقاء من الادباء والمثقفين يتحدثون عنها بانبهار.
يمثل إدوار الخراط - حسب توصيفات النقاد والدارسين للسردية العربية
- تيارًا يرفض الواقعية الاجتماعية ولا يرى من حقيقة إلا حقيقة الذات ويرجح الرؤية الداخلية،
- وهو أول من نظّر للـ"حساسية الجديدة" في مصر بعد العام 1967.
- عدَّ كتابه الأول (الحيطان العالية) والذي ضم مجموعة من القصص منعطفاً مهما في التعبير القصصي إذ ابتعد عن الواقعية السائدة آنذاك وركز اهتمامه (على وصف خفايا الأرواح المعرَّضة للخيبة واليأس) وجاءت مجموعته الثانية (ساعات الكبرياء) لتؤكد هذه النزعة (إلى رسم شخوص تتخبط في عالم كله ظلم واضطهاد وفساد)
- أما روايته الأولى (رامة والتنين) التي صدرت في بيروت العام 1990 فقد شكلت حدثا أدبياً من الطراز الأول، وهي لاتختلف عما سبقها في قصصه حيث الانصات الى صوت الروح العميقة والذي جرى (على شكل حوار بين رجل وامرأة تختلط فيها عناصر أسطورية ورمزية فرعونية ويونانية وإسلامية.)
ثم أعاد الخراط الكرة العام 1995بروايته (الزمان الآخر) ووتتوالى من قبل ومن بعد كتبه لتصل الى اكثر من خمسين كتابا ما بين قصص وروايات وشعرٍ ونقدٍ وغيرها.
حين أتيت الى القاهرة كان من الطبيعي ان يكون ادوار على رأس قائمة الادباء المصريين الذين سطعت بي رغبة عارمة على ان التقي بهم واجري معهم حوارات. في الايام الاولى واثناء وجودي في الاسكندرية صادف ان التقيت مدير تحرير جريدة اخبار اليوم وهو الكاتب عبد الله مصطفى على طاولة في احدى المقاهي التي ظمت الصديقين الدكتور نصير غدير والسينمائي حيدر الحلو وشاعرين من ليبيا واثناء حديثي معه اخبرت الاستاذ عبد الله عن نيتي في اجراء حوارات مع عدد من الادباء ومنهم ادوار رحب بالفكرة وزودني بارقام هواتف بعضهم...ا
كانت اسباب كثيرة قد حالت دون تحقيق ما اردته ولكن قبل اسبوع فقط تحقق لي ذلك حين اتصلت بادوار وجاءني صوته نحيفا ومغمضا على متاعب كثيرة وبالكاد حاولت ان اوصل له معلومة توضح من انا وماذا أريد، وحين سمع اسم العراق من ضمن الكثير من الضجيج الذي القمته الى اذنه، عبّر عن سروره، اعطاني موعداً وطلب مني ان اكتب عنوان منزله..
وصلت الِشارع الذي يقع في نهايته منزل ادوار حينئذ تذكرت مدخل روايته (رامة والتنين) التي كنت قد اعدت قراءتها قبل ايام، انه شارع شبه مهجور لكنه انيق وفيه عبق من مزاج القرى الكبيرة حيث محاط باشجار الجميز والتوت والكافور المتداخلة مع بعضها، كانت السيارة التي تقلني بالكاد تنعكس اشعة الشمس على زجاجها من الاخضرار المتشابك والعصافير الخفية التي تندفع مرة واحدة هنا وهناك وهي تزقزق حاجبة ايضا شرفات البيوت النائمة تحت بلل صبح اخضر لم احسس بمثل سحره من قبل.
عمارة قديمة من ثلاث طوابق في الزمالك بمحاذاة النيل، هذا هو المكان الذي اختاره ادوار ليكون فيه مكمنه، سألت البواب فأشار الى رقم الشقة التي يسكنها ادوار.
ها انا امام شقته..يا الهي هل انا على اهبة الاستعداد لأجري الحوار؟ هل ان اسئلتي جيدة يمكن ان تكون سلسة؟ ممكن ان تكون محفزة حتى يجيبني دون ان اجهده،؟ حين وضعت اصبعي على زر الجرس، خرجت لي امرأة في الستين من العمر تقريبا هكذا قدرت،- لم اعرف ان كانت زوجته او اخته او ابنته لكنها اثناء ماكنت في المنزل كانت تنادي عليه(بابي) - شرحت لها ان لي موعداً مع الاستاذ ادوار، قالت بانه نائم وبأمكاني ان آتي بعد ساعتين، اردت ان اقول لها شيئا فردت وكانها تعرف ما ساقول، انه يصعب عليها ايقاضه وعلي ان اتي بعد ساعتين، فعلت ذلك وبعد ساعتين عدت طرقت الباب فخرج لي إدوار..


الشعر العراقي اعمق من عراقيته وعربيته

كان متعبا جدا، سمعه متردي وعلي ان ارفع صوتي كثيراً، لكن المشكلة ان اسئلتي فيها نوع من ترف الصحفي الذي يريد ان يجري حوارا يقال عنه انه مهم ولذا صار ارتفاع صوتي مع السؤال المركب على نبرة واطية يبدو نشازا ومخجلا وكانت اجاباته مبتسرة واحيانا مبتورة ولذلك ازاء مارايت الحالة التي هو فيها تغيرت بعض الاسئلة وقفزت على غيرها وبدأت من النهاية حين قال لي اهلا بالعراق
فقلت له بحنوّ ماذا لديك عن العراق؟
*الكثير.. العراق بلد عظيم وهو منبع ريادات كثيرة، الريادة في العراق هي قدره وحظوته لو نظرنا فقط الى تجاربه الشعرية فهذا يكفي، الشعر العراقي شعر انساني حتى في خطابه الذاتي، تجربة السياب مثلا تجربة شعر انساني عالمي اكثر منها تجربة شعر عراقي او عربي وغيره الكثير مما اطلعت عليه حتى مطلع الثمانينات لكني اعرف ان هناك تواصلا مع هذا المناخ الخلاق في المراحل التي تلتها.
_وماذا عن الرواية والقصة؟
*لا يختلف الامر إلا ان الرواية أوالقصة بتصوراتها ومفهومها الحديث قد تكون تعبيرا يبدو تاريخه ليس موغلا في الثقافة العربية بشكل عام، ولذا لايمكن ان نتلمس فيه نماذج عراقية خاصة ولكن في مسار الخطاب الروائي والقصصي العربي، لاشك ان العراق له مكانة متميزة حتى على الصعيد التنظير لهذا الخطاب، لايمكن ابدا مثلا ذكر الرواية العربية او القصة العربية وريادتها دون ان نذكر غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي ومحمد خضير وسواهم لقد تركوا اثرا مهما وانا لي صداقة مع غائب وفؤاد لقد التقيتهم اثناء زيراتي للعراق ولدينا رؤى مشتركة.
_كم مرة زرت العراق؟
*لا اتذكر كم مرة لكني زرته عدد من المرات ولا تسألني ماذا تتذكر من زياراتك ولماذا لاني صراحة لا اتذكر شيئا الان " استنه شويه" كانت زياراتي في السبيعينات والثمانينات في مؤتمرات ثقافية وبدعوة موجهة من اصدقاء لدي معهم نفس النظرة للكثير من همومنا الثقافية العربية.
- الا تتابع ماحدث ويحدث في العراق؟
*اتابع واعرف بعض ما جرى هناك " يصمت قليلاً ويتأوه" كما قلت لك العراق بلد الريادات وعليه ان يتحمل تبعات هذه الحظوة الخلاقة.. اعرف ان الامر ليس هينا وفيه الكثير من المشاق والمتاعب والتضحيات ولكن لدي يقين بان كل شيء سيكون في صالح شعب العراق لانه شعب عريق وله حضارة عظيمة.. كل شيء في العراق يؤكد انه سيكون افضل حالا وسيكون الدولة المتميزة في المنطقة والعالم العربي، سيكون مثالا لتبادل السلطة السلمية والانصات الى روح الانسان والمجتمع وتطلعاته" وابعدني عن السياسة ربنا يخليك".

قبل نضوجي كنت تروتسكيا

_ هل تعيب على المثقف ان يتكلم في السياسة ويخوض غمارها؟
*لا اعيب على احد ان يقول او يفعل اي شيء حين يكون مؤمنا به بشكل ناضج ومتفهم بعقل ووعي..انا كنت في مرحلة الشباب حين كان المد الشيوعي في اوج تدفقه ِشيوعيا تروتسكيا..
- وكانت لي مثل اقراني حماسة جامحة واحلام سياسية كبيرة اكبر من نضوجنا وتفهمنا ادخلتنا السجون اكثر من مرة،
- لكني لست نادما على مغامرتي تلك ومازلت اعش المغامرات لكني ارى ان المرحلة العالمية الحالية ترى ان كل شيء فيه نظام، اليساري واليميني.. المعارضة والسلطة، لم تعد الحماسات قليلة النضوج والتنظيم لها وجود (وكفاية لحد كده).
_طيب ان تحدثت بل نظرت منذ السبعينات عن الحساسية الجديدة في الرواية ما لذي كنت تعنيه؟
*- اسلوب جديد للتعبير السردي يعنى بالوصف الدقيق والصياغة المختلفة للموجودات في المكان والزمان والشخوص والمشاعر والانفعالات ولافكار هذا هو المعنى بشكل مختصر مع التبسيط.
- كانت ومازالت ثمة محاولة لايجاد ترسيمة او رؤية مختلفة للرواية العربية والاستفادة من امكانيات اللغة العربية في الوصف وسرد الحدث بطريقة اكثر حساسية.
_ماذا تقصد بالصياغة المختلفة ومن من الكتاب نجد في كتابتهم هذه الحساسية؟
*بدون اسماء وتجارب لكن يمكن لك ان تقرأ ماكتبته لتمايز ذلك عن سواه.

_ يقول بعض النقاد ان كتاباتك في اسلوبها تمتاح من المدرسة الشكلانية فانت تعتمد الوصف وتنهك به نفسك بعيدا عن المضمون والمغزى؟
من يقول هذا الكلام؟
- أنا لا اعيب الشكلانية في الكثير من رؤاها ولكن ما اكتبه مختلف تماما، المضمون لدي امر في غاية الاهمية لكن يحتاج الى اسلوب وقوالب ولغة لكي يصل ويكون ذا غاية ومغزى.

_احدى الكاتبات المصريات وهي نعمات البحيري قالت عنك انك تنحو باتجاه جلب الرواية العربية والمصرية تحديداً الى الشكلانية أنه وتقصدك في هذا الكلام، كان يريد من المبدعين الجدد أن ينتهجوا نهجه وهو اعتماد الشكلانية كنمط إبداعي جديد‏,‏ وبذلك يلعب دوره في تفريغ الأدب العربي من مضمونه‏,‏ ومحتواه الإنساني‏,‏ مناسبة هذ القول هو ردها على مقال لك عن مجموعتها القصصية
*لا اتذكر ذلك ابدا لا مقالي ولا مقالها ولا اسمها ولا مجموعتها.


كلام ادونيس فارغ لايستحق الرد

_في حوار معك اجري قبل عامين قلت ردا على سؤال بشأن تشابه اعمالك: ان من الطبيعى جدا أن - يظهر بعض التشابه فى كتاباتى لانها خصوصية اسلوبي التي تملي علي هذا التشابه. وفي مكان اخر قلت إن العمل الفنى يملى قانونه الخاص وليس عليك ككاتب أن تملى قانونك او اسلوبك الخاص على العمل الفنى، ثمة تناقض في الرؤيتين اليس كذلك.
- *لا اتذكر ان كنت قلت مثل هذا الكلام ولكن انا اثق بمقولة قديمة مفادها ان الرجل هو الاسلوب والاسلوب هو الرجل والكاتب او الفنان مهما حاول ان يخرج من اسلوبه فلا بد ان يترك اثرا يشير اليه،
- ذلك هو الابداع الحقيقي ان يكون لك اثر ما يمكن معرفتك من خلاله مهما تطورت ادواتك وثقافتك هذا ما انا اعتقده واظنه يقترب من تصورات اغلب المثقفين في فهم العملية الابداعية.

_ما الذي نقصده حين نقول ادب عربي هل مجرد استخدام الكاتب اللغة العربية في التعبير وكشف مضمون من بيئة عربية ام ان هناك ميزات خاصة تميز عربيته ولا سيما منه السرد؟
- *اللغة تخلق ميزات خاصة في الكتابة مهما كانت واللغة العربية لمن يكتب بها بمعرفة اسرارها وخفاياها بالضرورة سيكتب تعبيرا مختلفا ومييزا عن اي تعبير اخر يكتب بلغة اخرى
- قد يكون هناك تاثر وتأثير في التعامل مع الشكل وبناء الحوار وطريقة الوصف لكن يبقى الادب العربي حين يكتبه ادباء عرب محترفين سيعطي ميزة انه ادب عربي مختلف ومن ثم ان اللغة العربية هي لغة امة لها تاريخ طويل وحضارة كبيرة وبالتالي فلا بد ان تكون ثقافتها وادبها له منبع متميز ومختلف.

_طيب ما رايك بما يقوله ادونيس من ان العرب امة منقرضة او هي في طريقها الى الانقراض؟
*هذا كلام فارغ لاقيمة له على الاطلاق ولا يحتاج الى رد لدحضه لانه يخلو من المنطق ولايمس الواقع والحقيقة انه كلام قيل للاثارة فقط ولا اريد ان اطيل في الوقوف عنده.


هذا ما يريده الله

_انت عربي مسيحي والمتعارف ان الثقافة العربية سمتها وصفتها انها ثقافة اسلامية اعني ان نقول عربي فهو بالضرورة تجسيدا لهوية اسلامية كيف تفكر وانت تكتب وتعيش هل تشعر ان ثمة مأزقا وجوديا يحيطك وغيرك من المسيحيين العرب ؟
*لا يوجد مأزق وجودي ولا غيره انا عربي هذا اولا واخيرا والثقافة العربية هي ثقافة لغة قبل ان تكون ثقافة دين بعينه وحين نقول عربي فان اول ماسيرد الى تفكيرنا اللغة ومن ثم نعطي شرحا اخر لمعرفة الهوية الدينية وتاريخ الجغرافية العربية مرتبط باللغة قبل الدين وعقد الدين كثيرة فان كانت بين دين وآخر فيهي ايضا بين مذهب وآخر
- الكاتب والمثقف لاينصت الى الصوت الصارخ والضجيج بل جل مايعنيه الانشغال بصوت الذات المنتمية اولا الى لغتها وجغرافيتها بعيدا عن اجتهادات اناس يريدون ان يحشروا كل الذوات في فكرة او بوتقة واحدة وهذا ما لايريده الله الذي اودع الاديان في الناس مختلفة ومتغيرة.

_طيب انت شاعر وروائي وقاص وفنان تشكيلي اي من هذه الاشكال التعبيرية تجد انها الاكثر قربا الى نفسك وهواجسك؟
- *كل شكل يكمل الآخر لم اسأل نفسي يوما ماهو اقرب لي ولماذا اخترت ان اعبر في القلم ام في الريشة وان اكتب سردا ام شعراً، هواجسي ومشاغلي وفكري، كل هذه المكامن المنفعلة هي التي تحيطني في لحظة تامل وتقودني الى التعبير وكل شكل من اشكال التعبير له اهميته في البقاء والتفاعل من اجل ان يشعر الانسان المثقف بحيويته حين يجد نفسه امام خيارات عدة من التعبير.

_لديك أيضا اهتمام في السينما وعرفت انك كنت رئيسا لمهرجان قرطاج السينمائي ومشاركات في مهرجانت عربية وعالمية اخرى ما طبيعة هذا الاهتمام؟
*اهتمام عادي انا لست مختصا بالسينما لكني اتابع واكتب في الوقوف عند بعض الافلام التي اراها متميزة وقد قادني التفاعل مع مقالاتي الى ان انهمك اكثر في متابعة السينما واحوالها في العالم اجمع؟
_الم تُقرّ واحدة من رواياتك وتعد للسينما؟
*حسب علمي لا لم يكن ذلك وان كان الآن فلا أعرف، لأني منذ زمن لم اعد اتابع الكثير من القضايا حتى تلك التي تخصني.

لكل مرحلة مغامراتها وسعادتها

_طيب ما الذي يشغلك الان؟
*ماذا تقصد؟
_اقصد وانت في هذا العمر ما الذي تبقى من الاهداف والغايات ما الشيء الذي يغريك للبحث والمعرفة ولماذا؟
- *لاتوجد مرحلة زمنية يتوقف فيها الانسان والمثقف على وجه الخصوص عن البحث وطلب المعرفة لان المعرفة لاتنتهي عن حد والبحث في دهاليزها مغر لكل الاعمار، ولذلك مازلت اقرأ لاكتشف ما لم اكتشفه واعرفه وكذلك مازلت اكتب وادون، الموت هو المانع والعازل عن اطماع الانسان في التعلم والمعرفة.

_أريد ان أذكرك بمقولة اظنها لفلوبير مفادها، ان الانسان في مرحلة متقدمة من العمر يكون اكثر سعادة لانه يكون خارج لعبة التنافس التي تجعله متوترا وقلقا وبالتالي يفقد لذة السعادة الخالصة.
*لا اتذكر انني قرأت لفلوبير او غيره مثل هذا المعنى لان السعادة مسألة نسبية وهي تخص انسان بعينه دون ان تخص آخر مهما كان التعبير عن السعادة احيانا سلوكا جمعيا في حالة من الحالات كما هو الحزن ولكن بالمحصلة فان السعادة ممكن ان تصيب انسان احيانا بلا سبب واضح وكذلك هو الحزن، الموضوع لا علاقة له بالعمر بتاتا وانما له علاقة بمجموع حياة الانسان وتركيبه النفسي والاقتصادي والاخلاقي والثقافي" يصمت قليلا" ثم ان لكل مرحلة من عمر الانسان وجودها الخاص، مغامراتها وسعاداتها واحزانها واحلامها واهدافها الخ الخ.

_هل انت سعيد الان؟
- *(اطلق ضحكة مجلجلة) نعم الا ترى ضحكتي؟ سعيد لاني اشعر قد فعلت ما يمليه علي ضميري الخاص وسعيد انني لم اكن متطرفا ومتماديا في كل شيء سعيد لاني اغفر واعفوا واعترف بخطأي ولي رؤية متفهمة للآخر حين يكون ملتزما هو بتفهم الآخر سعيد بوجودك.

_شكرا لك استاذي ايها المبدع واعتذر لأني اخذت من وقتك الكثير
*على الرحب والسعة وارجو ان ترسل لي الحوار بعد نشره

_الا تريد ان ارسله لك قبل نشره ؟
*لا.. لك ان تقول عني ما تشاء "ويطلق ضحكة " انا اعرف ان العراقيين لا يفعلون ذلك

_ هل يوجد لديك بريد الكتروني ارسل لك الحوار او الرابط
*هدأ قليلا وقال: لا ..سأسرك بشيء أنا امي تماما في عالم الكوبيوتر ولا اعرف عنه شيئاً
_ هل اذكر ذلك؟
*إذكره.
..........
-
انتهى
ماجد موجد


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: الادهاش في روايات الايتام: دعوة لدراسة جماعية لروايات الايتام وسر الادهاش فيها
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لا للديمقراطية ...نعم لدكتاتورية الايتام....حوار ايوب صابر منبر الحوارات الثقافية العامة 14 12-14-2013 07:48 PM
افضل الكتب عن الايتام ايوب صابر منبر رواق الكُتب. 44 09-20-2013 02:20 PM
توقعات 2013 .......بواسطة الايتام ايوب صابر منبر الحوارات الثقافية العامة 7 02-16-2013 02:03 PM
ادب الايتام:صفحة مخصصة لكل ما يتعلق بأدب الايتام: دعو للمشاركة ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 0 01-22-2012 10:57 PM

الساعة الآن 07:04 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.