احصائيات

الردود
9

المشاهدات
9946
 
عدنان عبد النبي البلداوي
من آل منابر ثقافية

عدنان عبد النبي البلداوي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
44

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Oct 2012

الاقامة

رقم العضوية
11599
09-30-2015, 11:47 PM
المشاركة 1
09-30-2015, 11:47 PM
المشاركة 1
افتراضي اعادة النظر في القصيدة بعد هيمنة الإنفعال
إعادة النظر في القصيدة بعد هيمنة الانفعال
عدنان عبد النبي البلداوي
عندما ينفعل الموهوب أثناء ولادة النص ،تتهيأ مستلزمات رسم الصورة الشعرية المبدعة ، بقدرة متميزة لايحظى بها غير الموهوب ، وهذه حقيقة يصرح بها النص نفسه ،حال لقائه مع المتلقي ، ولما كان من مهام الموهبة هو احتواء الانفعال ، لغرض تفعيل ايعازاته،على وفق قدراتها الطبيعية ، فإن عملية تحويل الإيعاز الى الأفق الشاعري ، تمهيدا لاستكمال عوامل الإبداع ، يقتضي أن يرافق تلك العملية كل ما من شانه أن يحافظ على حيوية وطبيعة الجو الانفعالي منذ انبثاقه في عالم الخيال حتى رسمه على الورق بالمفردات التي كثيرا ما تحضر ساعة البث التصويري ،بحال تحتاج بعدها الى ضرب من التنقيح والتهذيب ، وهذا يعني أن الموهوب معفوٌ في الخطرة الأولى من مهمة انتقاء واختيار الكلمات ، لأن أي انشغال آخر خلال هذه العملية ، قد يؤدي الى تصدّع الصورة وفقدان الكثير من مستلزمات الحيوية والترابط ، فلابد إذن من أن يستجيب لعملية الإلهام قبل كل شئ ،بغض النظر عن مستوى التركيب اللفظي الذي يحضره في تلك الساعة ، وبعد أن ينتهي الشاعر من تلك العملية ، تأتي المرحلة الثانية التي تعد ضرورية لكل نتاج ، مهما كان المستوى الثقافي لمصدره ، وقد أكد تلك الضرورة كثير من القدامى والمعاصرين من النقاد والشعراء . يقول أبو هلال العسكري في كتابه ( الصناعتين) : [ فإذا عملت القصيدة فهذبها ونقحها ،بإلقاء ما غث من أبياتها والاقتصار على ما حسن وفخم ، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه حتى تستوي أجزاؤها..]
بينما يرى ابن قتيبة أن التنقيح نوع من التكلف ، فالمتكلف عنده ( هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر )
ولعل ابن قتيبة بقوله هذا يطالب الموهوب بثقافة وافية ، لكي لايتكلف مهمة التنقيح أو يصرف لها وقتا أكثر مما ينبغي ،ما دام لديه رصيد يسعفه بالمستلزمات اللغوية المطلوبة ،وإذا كان هذا قصده ، فهل يعني إعفاء الموهوب المثقف من إعادة النظر في عمله الأدبي ، لكي لايوصف بأنه (متكلف).
إن أمرا كهذا لايمكن تنفيذه وسط الكم الهائل من مفردات اللغة ومشتقاتها وشؤونها البلاغية ، فالموهوب مهما بلغ من الثقافة لايمكنه الانقطاع نهائيا عن تهذيب نصه ، بحكم سعة اللغة وقابليتها المستمرة على ملائمة ما يستجد في الحياة .
هذا ما قاله ناقدان من السلف ، فما الذي قاله من خاض التجربة بنفسه في عصرنا الحديث ..؟
يقول الشاعر الصافي النجفي ( أما الصنعة والأسلوب وانتقاء الألفاظ ، فتلك أمور يجب على الشاعر أن يفكر فيها بعد انتهائه من شرح هواجسه ، وبث وساوسه وإخراج رغباته وتكميل شكاياته ، وعندئذ يعمد إلى إصلاح كلمة أو تحسين أسلوب او إبدال لفظة بأحسن منها وأوقع في السمع ، بشرط ألا يخل ذلك الإبدال و الإصلاح اللفظي ببنيان تلك الهواجس الطبيعية التي جاءت مرسلة متدفقة أثناء النظم..).
لاشك في أن الشاعر قد عبّر بقوله هذا عن معاناة رافقته مع النص في مراحل مختلفة من مسيرته الشعرية تأكد له من خلالها بأن إعادة النظر في النتاج ، عملية لايمكن الاستغناء عنها في مختلف الأغراض الشعرية، ورغم احتواء العمل الشعري لمفهوم إعادة النظر ، فقد تباينت استجابات الشعراء لطروحات التهذيب في مختلف العصور ، فهذا مثلا امرؤ القيس شاعر من العصر الجاهلي ، قال بعد أن لمس حقيقة النظرية بالفطرة:
أذودُ القوافي عني ذيادا ذيــاد غــلام جريّ جوادا
فأعزل مرجانـــها جانبا وآخذ من درّها المستجادا
ثم هيمنت الإستجابة لتضم تحت جناحيها ،فضلا عن امرئ القيس ، زهير بن أبي سلمى والحطيئة وكعب بن زهير بزعامة أوس بن حجر ، وكان يقال لطفيل الغنوي (محبّر ) لتحسينه الشعر ،وحرصا على إيصال الكلمة المهذّبة الى السامعين ، يقول البعيث الشاعر ( إني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشيبا ،وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك) بينما كان أبو تمام كما يقول أبو هلال العسكري ( لايفعل هذا الفعل أي التنقيح ، وكان يرضى بأول خاطر ، فنعي عليه عيب كثير ) في حين كان البحتري وهو من رفاقه المعاصرين (يُلقي من كل قصيدة يعملها جميع مايرتاب به فخرج شعره مهذبا).
إن عملية إبدال كلمة مكان كلمة أخرى هي بلاشك فرع من فروع التهذيب وعملية من عمليات تحقيق الأشمل والأكثر إثارة أوالأبرع إحاطة بمستلزمات الانسجام الموسيقي الصوتي بين الحروف والكلمات، وهذا من حق الشاعر بشرط أن يبقى حريصا خلال هذه العملية على حيوية الجو الشعري الذي وُلد ساعة الإلهام او لحظة تفعيل المشاعر بمؤثر.
إن نمو الثروة اللغوية لدى الشاعر قد تخفف من جهود التنقيح ، فالذي يتمتع برصيد لغوي قد لايحتاج الى طول تأمل ، لأن المعاني حينما تجول برأسه هي نفسها التي تبحث عن الفاظها اللائقة لها ، فإن لم يسعف الرصيد اللغوي حاجتها ستحل في النص قلقة مضطربة.وربما يسعفه الرصيد خلال عملية الإبداع في خطرته الأولى فيأتي بالمفردة المناسبة في المحل المناسب كما حصل للشاعر الشريف الرضي مثلا في قوله من قصيدة( ياظبية البان ترعى في خمائله ....) فجاء بكلمة ( البان) وهو شجر معتدل ولين الأغصان يشبه قامات الملاح ، ولم يأت بكلمة ( الميْس)وهو شجر أيضا ولكنه صلب ، رغم ان البيت الشعري يبقى محافظا على وزنه في كلا الاستعمالين. وكما في قول احدهم :
لمــست بــكفي كـفه أبـــتغي الغنى
وما كنت أدري الجود من كفه يعدي
فجاء بـ (لمست) ولم يأت بـ(مسست ) مثلا ،لما في اللمس من دفئ وحركة وتحسس يفتقر اليها (المس).
وهكذا تستمر عملية إعادة النظر في النص في كل عصر من عصور الأدب ، وقد شهد عصرنا الحديث حركة تنقيح وتهذيب جادة ونشيطة من لدن شعراء كبار ، بغية تقديم نصوص تليق بشهرتهم ، منهم على سبيل المثال لاالحصر،قول معروف الرصافي من قصيدة له لامية :
هو الليل يغريه الأسى فيطول ويرخي وما غير الهموم سدول
هذا هو نص البيت في الديوان المنشور ، أما قبل النشر فكان ( هو الليل يُغر بي الأسى فيطول) فكانت إعادة نظر موفقة خلصنا فيها من ( يغر بي ). وللزهاوي من قصيدة له بعنوان ( المستنصرية) قوله :
أكلية العلم الذي كان روضه نظيرا كما شاء التقدم ناميا
وكان هذا قبل النشر وفي الديوان أصبح ( أجامعة العلم التي كان روضها).
وقد عُرف عن الجواهري انه كان يكتب على علبة سكاير او على غلاف كتاب لحظة الدفق الشعرية ثم يمارس بعدها مرحلة اعادة النظر ، فمن ذلك مثلا قوله :
فقد آلى وريدك أن يغني بحب الناس مانبض الوريد
اختاربعدها كلمة (بقي) التي هي اشمل وادوم لتحل محل (نبض).
وقوله: وقائلة أما لك من جديد أقول لها : القديم هو الجديد
اختار بعدها كلمة ( أعندك) لتحل محل ( اما لك) فاصبح صدر البيت(وقائلة أعندك من جديد) ولايخفى ان الصوت الموسيقي في حرفي العين والنون هو غيره في حرفي الميم واللام، ولايسعنا ذكر المزيد في مقال ، فما موجود من هذه الأمثلة يؤلف فيه كتابا او اكثر. وفي ضوء إعادة النظر في النص نخلص الى ما يأتي:
-1إن التوغل القديم لعملية اعادة النظر يقدم لنا أنموذجا خالدا لشرف الكلمة في العمل الشعري الأصيل ، متمثلا ذلك في حرص الشاعر على وضع الكلمة المنتقاة في مكانها المناسب ، حرصا على صفاء البيان العربي وديمومة نقائه..

2- إن نسبة اهتمام الشعراء بضرورة التهذيب قد سجلت في مختلف العصور الأدبية رقما متميزا ، وهذا ما حوّل العملية التهذيبية الى حقيقة واقعة لابد ان يمارسها كل شاعر أصيل ينشد بناء مجد دائم التألق منذ خطواته الأولى.وقد أشار كثير من السلف الى ذلك في كتاباتهم، فكان من المضامين الأكثر تداولا مثلا قول القاضي الفاضل:
(إني رأيت انه لايكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده : لو غـُيّر هذا لكان أحسن ولو زِيد كذا لكان يُستحسن ولو قدِم هذا لكان أفضل ، ولو تـُرك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر..)


قديم 10-06-2015, 09:08 AM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هذه دراسة أكاديمية مهنية رائعة لما اسميه سيكولوجية ولادة القصيدة.

واتصور من ناحيتي ان الحاجة لتهذيب القصيدة تتفاوت من شاعر الى اخر ويعتمد ذلك على مستوى الطاقة البوزيترونية في الذهن والتي تتفاوت بدورها في مستواها عند الشعراء .

فمنهم من تكون طاقات ذهنه فياضة ويدل على وجود تلك الوفرة سمات مثل الذاكرة الفوتوغرافية التي عرف بها وتمتنع بها عدد من الشعراء امثال الامام الشافعي والمتنبي وحافظ ابراهيم فتكون الحاجة الى اعادة الصياغة والتهذيب عندهم في أدنى حدودها ذلك لان أذهانهم تكون قادرة على الاستفادة من المخزون الثقافي وخاصة الشعري على اقصى حد من الاستفادة فتنتفي الحاجة الي التهذيب الذي قد يحتاج اليه بعض الشعراء وهو ما يشير الي مستوى اقل من الطاقة البوزيترونية عند هذه الشريحة .

والمعروف ان الطاقة البزوترونية حسب ما ورد في نظريتي لتفسير الطاقة الابداعية تتشكل بفعل الاحداث المأساوية التي يختبرها الشاعر في طفولته وكلما ازدادت هذه الاحداث حدة كلما ارتفع منسوب الطاقة وهو العامل الأهم في العملية الإلهامية او لحظة ولادة القصيدة .

ولا عجب ان نجد بان اروع الأشعار والتي يتصف بعضها بصفة السهل الممتنع تكون من إبداع عقول اناس عانوا الأمرين في الطفولة وعلى راس الاسباب التي تؤدي الى دفق الطاقة البوزيترونية وبالتالي نشاط ذهني متفوق دائماً وحتما اليتم .

يسعدني ان اقرأ لك مزيد من الدراسات حول القضايا الأدبية وخاصة قضية الإبداع هنا .

هناك شرح للشاعر الدكتور المرحوم عبد اللطيف عقل اورده في مقدمة احدى كتبه الشعرية ويشرح فيه لحظة ولادة القصيدة عنده حيث يقول بان ذلك يتم في لحظة الوجد التي تتلقي فيها الأزمان كلها في لحظة واحدة والأماكن كلها في مكان واحد . سوف أحاول ادراجها هنا لعلنا نناقش الموضوع بمزيد من الاهتمام الذي يستحقه .

اشكرك استاذ على هذه الدراسة المهمة جداً .


*

قديم 10-07-2015, 11:53 PM
المشاركة 3
عدنان عبد النبي البلداوي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
هذه دراسة أكاديمية مهنية رائعة لما اسميه سيكولوجية ولادة القصيدة.

واتصور من ناحيتي ان الحاجة لتهذيب القصيدة تتفاوت من شاعر الى اخر ويعتمد ذلك على مستوى الطاقة البوزيترونية في الذهن والتي تتفاوت بدورها في مستواها عند الشعراء .

فمنهم من تكون طاقات ذهنه فياضة ويدل على وجود تلك الوفرة سمات مثل الذاكرة الفوتوغرافية التي عرف بها وتمتنع بها عدد من الشعراء امثال الامام الشافعي والمتنبي وحافظ ابراهيم فتكون الحاجة الى اعادة الصياغة والتهذيب عندهم في أدنى حدودها ذلك لان أذهانهم تكون قادرة على الاستفادة من المخزون الثقافي وخاصة الشعري على اقصى حد من الاستفادة فتنتفي الحاجة الي التهذيب الذي قد يحتاج اليه بعض الشعراء وهو ما يشير الي مستوى اقل من الطاقة البوزيترونية عند هذه الشريحة .

والمعروف ان الطاقة البزوترونية حسب ما ورد في نظريتي لتفسير الطاقة الابداعية تتشكل بفعل الاحداث المأساوية التي يختبرها الشاعر في طفولته وكلما ازدادت هذه الاحداث حدة كلما ارتفع منسوب الطاقة وهو العامل الأهم في العملية الإلهامية او لحظة ولادة القصيدة .

ولا عجب ان نجد بان اروع الأشعار والتي يتصف بعضها بصفة السهل الممتنع تكون من إبداع عقول اناس عانوا الأمرين في الطفولة وعلى راس الاسباب التي تؤدي الى دفق الطاقة البوزيترونية وبالتالي نشاط ذهني متفوق دائماً وحتما اليتم .

يسعدني ان اقرأ لك مزيد من الدراسات حول القضايا الأدبية وخاصة قضية الإبداع هنا .

هناك شرح للشاعر الدكتور المرحوم عبد اللطيف عقل اورده في مقدمة احدى كتبه الشعرية ويشرح فيه لحظة ولادة القصيدة عنده حيث يقول بان ذلك يتم في لحظة الوجد التي تتلقي فيها الأزمان كلها في لحظة واحدة والأماكن كلها في مكان واحد . سوف أحاول ادراجها هنا لعلنا نناقش الموضوع بمزيد من الاهتمام الذي يستحقه .

اشكرك استاذ على هذه الدراسة المهمة جداً .


*

تفاعلك مع النص نبع أصالة ، وتعقيبك البليغ منهل من رصيدك الثقافي الثر .. ماتطرقت اليه تعزيز لمضمون مقالي المتواضع هذا .. وطمعا بالفائدة والتعقيب الجاد سأبعث الى منبركم الموقر مالدي من مقالات بهذا الخصوص .. لك جزيل الشكر على مرورك الكريم ودمت متألقا...

قديم 10-08-2015, 12:41 AM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
يسرنا ان نقرا هنا المزيد من دراساتكم المتفوقة هذه :

وفيما يلي ما يقوله الدكتور الشاعر المرحوم عبد اللطيف عقل عن لحظة ولادة القصيدة :

فعل الشعر ...
بين الموقف والموقع
عبد اللطيف عقل

رفيقي القارئ..
لا تقرْاني ولكن تقرّاني فإن الزهور على عهدها تمارسُ فعل النمو والطيور فعل الغناء، الزيتون منذ كان الزمن وهو يَفعلُ العطاء تماماً كما تفعل العطاء والبشر النوارس وأقواس قزح.
الأطفال هنا يفعلون الوعود والابتسامات كما يفعلون الدموع والحزن، كل شيء هنا مستغرق في دائرة الفعل، نحن لا نفكر ولان نتأمل ولا نحلل، إننا نفعل كل هذه، وأنا مثل هؤلاء، أمارس فعل الشعر، أنا لا أكتب الشعر ولا أقرأه إنني أفعله تماماً كما يفعل أطفال فلسطين ألعابهم من الطين والحزن....
إنني في موقف الفعل لأنني في موقع التراب الأول.. ولك بعدها أن تحلل فعل الشعر كما تشاء....
أنا لا أنفعل لأنني قد انفعل بدون الفعل، إن التجربة التي تدفعني إلى أحضان الفعل لا أحسبها، واعتقد أنني لست ذكياً، إن الفلاحين هنا لا يعرفون التحليل كما لا يعرفون ظاهرة الضغط الأسموزي، إنهم يفعلون فقط، يحرثون ويجدرون، ويتزاوجون، وفي البيادر يفعلون الحصاد ويزورون المدن ويعودون بالحلوى والملابس والسَام....
إنهم يفعلون الموت كما يفعلون الحياة نصفاً بنصف، يندفعون في المأتم كما تندفع السيول في الجهران أيام المطر، حتى مع الله يفعلون التقوى بالقدر البسيط الذي يفعلون فيه الفسق. كل شيء هنا بدائي تقريباً، اللغة في بدئها والكتابة كذلك، الموت والحب والشعر كما المطر، أفعال فحسب ما تشوهت بالتحليل المحدد وما تساوقت مع قوالب الفكر والمنطق.
وهكذا أفعل الشعر كما أفعل الموت، وكما أفعل الحب، إن موقعي يفرض هذا الموقف لذلك لا أجد الفواصل في بين الموت والحب والشعر، تستطيع أن تراني خلل فعل منها، حللني ان شئت، لكنك لن تكتشف موهبتك في سوء النية، اقرأني، لكنك لن تعجب بلون عينيك، إلا إنني سأمنحك ساعة دفء فأقول إنك قد تراني في درجات الفعل المختلفة، تماماً كما ترى الرسام في لوحته ذات اللون الواحد، وسأقسم لك اللون في درجتين:


أ‌- درجة فِعل القصيدة
هنا يصير الشعرُ فرحا، ونحن هنا نفرح بالمناسبة، يوم تتقاطر الفلاحات في أوائل الزيتون والمطر، يوم تتقاطر الجمال والأطفال في أواخر الصيف بين حقول القمح والبيادر، يوم تدخل تلميذات المدارس أو يخرجن في جوقة يحرسها اللون الأخضر المخطط بالوعي، يوم ينور اللوز ويحصرم العنب، إنني أفعل القصيدة يوم تفعل طبيعتنا الجمال، واترك الأصوات تندرس في روحي وعلى الورق. إنني أندمج في فعل شعري بسيط وأصير موسيقى مباشرة كما هو العرس في ساحة القرية، فعل العرس يمتلئ بالضجيج والفرح والنشاز، وهكذا ستتقراني في قصائد (صفحات من يوميات عاشق) وفي ( قصيدة قديمة عن رحيل جديد)..
هنا أفعل الفرح أو الغضب، أو الرفض بالشعر، وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء وارتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، إنني أتوحد بها حقيقةً يفسدها المجاز، وهكذا تتحدد الصورة بتوزيع خفيف للنور والظل وتكون الألوان سابحة فيَّ في مباشرة لا يودُها ساكنو المقاهي ومحترفو اللعب بالأشياء. لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة وأنسى تسميات النقاد. ففي هذه المجموعة قصائد، كما أنه في ما حول قريتنا زهور وأعشاب....

ب‌- درجة فعل الشعر:
في الطريق إلى القدس، تغيم المرئيات، وتنسد أمامك نوافذ الفرح فتهاجمك إبر الشعر، وتنزلق في روحك أظافر مدببة تستنزف الأعصاب.. فيلد فيك فعل الشعر، وتنصب على الورق، والحب يمطر في أعماقك أحزان الزيتون ...
تتحلق الأطفال في الطرقات المسيجة بأحذية الجنود الثقيلة، ويتوارى اللوز الأخضر من العيون الصغيرة وينشأ فيك فعل تلونه موسيقى الكلمات البدائية، وهنا يعتنق الحب الموت كما تعتنق جذور التين خصور التراب الأحبَل بالخصب.
في درجة فعل الشعر، يندغم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة بين جامع الجزار، وسوق البصل.
وهنا أجدني وكما يؤكد الرفاق أكثر اللقاءات إنني في الغموض، أو أنني على الحافة، اوانني مسور بالحزن حيناً، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي، وكان يمكن أن تكون هذه الكلمات مقدمة عن تجربتي الشعرية بعد أربع مجموعات، وهي ليست كذلك، إنها كما تراها إشارة حادة إلى المدخل الشعري، وان أي فنان أصيل لا يستطيع أن يزيف موقفه كفنان لأن قانون موقعه لا يرحم، ولو كنت في بيروت لكان في لغتي طعم أعقاب السجائر ممتزجاً بكل المصطلحات المفرغة الا من الطلاء الخالب.
ولعلهم هناك على حق، ولكنني لست بالقاصر عن الردح والتسكع، إنها الأحزان الجميلة التي تختلط بالطحالب على حيطان سور القدس المنهوب...
إنني أسير الابتسامات العفوية في شفاه الأطفال المنعوفين على الطرقات من رأس الناقورة إلى رفح، هنا يكون لفعل الشعر مذاق الموت، ذلك بالنسبة لي واضح وضوح القتل، ان فعل الشعر هنا معتق وعمره عمر الزمن الساكن في حارات عكا، وهو حدث يومي اتشربه في عيون التلاميذ كل صباح، وقد لا أكون مفهوماً، حسبي أن أكون محسوساً، إن قرنا كاملاً تقريباً من السياسة والظلم يفقدني مقدرتي على استخدام الذاكرة، وان كل الأرقام على ذلك محفوظة في التلافيف فما قيمة أن تكون على الورق، إن هذا التاريخ العاهر يضعني في قلب الشعر فعلاً حزيناً من أفعال الحب، فهل نحن متصوفون؟ وما الضرر في ذلك ما دام فعل الشعر يوحدنا بالأحداث من الطلوع إلى المغيب، ولا يترك لنا فرصة التبويب والتحليل...
نحن هنا خارج اللعبة بعد، لا نتحدث عن البطولة ولكننا نفعلها، كلنا هنا نفعل البطولة، نفعلها كما نفعل التنفس والتدخين، ولا خيار لنا فليس فعل الشعر تطريزاً لثيابنا إنه الذي يسير العودة فينا، وهو ليس الكحل المجمل لعيون التلحميات وبنات حيفا، انه البؤبؤ الذي به الرؤيا .. وأنا لست ادري متى سقطت أريحا وغزة لأنني كنت في السقوط ... وخير لي ورفاقي القراء هنا وهناك أن أترك أمر السقوط وتحليله إلى أبطال اللعبة في المقاهي، ليعمر شارع الحمرا بالنساء والفكر... خذوني من هنا، من القلب، فإن الصحف في القاهرة وبيروت وعمان بحاجة إلى مادة نظيفة... لست شاعراً حديثاً ولا قديماً، لست رومنسياً ولا واقعياً، لست ذاتياً ولست موضوعياً، لأن فعل الشعر يحتوي كل ذلك ويصير البديل ولكن في مناسبة للحديث عن الشعر والتصوير والموسيقى، لكم ان تحبوا أوزان الشعر وقوافيه، ولكم أن تستعرضوا قدرتكم على التأويل ولمس التجربة الشعرية وتحليل عناصرها وابحثوا ما شئتم عن الصورة، والمضمون والأصالة والخيال.. فذلك شأنكم، أما هنا فلا يوجد إلا فعل الشعر في مستوى القصيدة وتحت اعتبار الفرح الواعد، ومستوى فعل الشعر يوم يصير الموت كالحب وأراهما في وضوح القتل.
والآن رفيقي القارئ، تستطيع ان تبدأ القصيدة الأولى من قصائد، الحب الذي لا يعرف الرحمة، هذا الحب الذي قال التاريخ وقالت السياسة أنه مات، له قلب كبير، كبير جداً يتأبى على الموت ويرفض الآخرين كما يرفض التراب الأصيل البذور اللقيطة بها.


نابلس


أول أيار 1975

--------------------


هل عرف عبد اللطيف عقل السر؟

الموت والحب ولحظة الوجد وفعل الشعر كما يراها عبد اللطيف عقل في مقدمة كتابة " قصائد عن حب لا يعرف الرحمة
"

بقلم: أيوب صابر

الذي يعرف عبد اللطيف عقل يعرف انه كان يجيد فن النثر كما كان يجيد نظم الشعر، ولديه القدرة حينما يكتب على التأثير في كل الأشياء الساكنة حوله وضمن دائرة بحجم الكرة الأرضية، لا بل وتحريكها فلا تعود ساكنة و ليست هي، هي، وكأن تغيرا قد طرأ على مكوناتها وجزيئاتها البنيوية... ويمتد اثر ما يقوله إلى مجرات أخرى وعبر الزمن إلى مستقبل بعيد، بعيد جدا...هو يكتب بلغة من زمن آخر، زمن لم يأت بعد ولذلك يجد الدارس والمحلل لما يقوله انه كان يسبق عصره في رؤية الكثير من الأمور المستقبلية بعين ثاقبة، شأنه شأن كل شاعر امتلك تلك الطاقة البوزيترونية المهولة واللامحدودة في قوتها، والتي تدفقت في ثنايا ذهنه كنتيجة لمآسي طفولته المتعددة، فجعلته قادرا على الاستشراف والرؤيا بعين ثاقبة.

وهو هنا، في مقدمة كتابة" قصائد عن حب لا يعرف الرحمة"، يقول للمتلقي الكثير، سواء بوعي أو من غير وعي. والصحيح أن الكثير مما يقوله المبدع، وعبد اللطيف عقل ليس استثناءا، يصدر عن عقله الباطن، ويكون مفاجئ للمبدع نفسه في أحيان كثيرة.
فمن ناحية نجد عبد اللطيف عقل في هذا النص يربط بين الموت والحب والشعر، ويكرر ذكر الموت في أكثر من موقع، ويصوره كقوة فاعلة ومحركة، وكأنه يعرف أو ربما انه كان يستشعر بأن الموت الذي حرمه الأب، ومن ثم الأخت الكبرى، لا بد انه كان سببا في قدرته على النظم المهول، والكتابة الفذة المزلزلة، والتي تشتمل على الكثير من التجليات والرؤيا الثاقبة، وحتى لحظات الوجد التي جعلته ينظر إلى نفسه بأنه صوفي ربما. ومثال ذلك يقول:
" إنهم يفعلون الموت كما يفعلون الحياة نصفا بنصف"
" الموت والحب والشعر كما المطر أفعال فحسب "
" وهكذا افعل الشعر كما افعل الموت والحب والشعر"
" إن موقعي يفرض هذا الموقف لذلك لا أجد الفواصل في بين الموت والحب والشعر".
" وهنا يعتنق الحب الموت كما تعتنق جذور التين خصور التراب الاحبل بالخصب"
" هنا يكون لفعل الشعر مذاق الموت"
ومن ناحية أخرى، يبدو عبد اللطيف عقل بأنه يصف لنا هنا لحظة ولادة القصيدة وما يعتمل في ذهن الشاعر في مثل تلك اللحظة، وكأنه يستشعر لحظة الوجد تلك، التي يتحدث عنها الشاعر الأمير عبد الله الفيصل أيضا في أكثر من موقع، والتي تشابه لحظة الوجد عند الصوفية. وفي ذلك ما يشير إلى ويفسر طبيعة الطاقة التي تكمن وراء الإبداع حيث يقول" هنا أفعل الفرح أو الغضب، أو الرفض بالشعر، وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق -كشف-الأسرار-أوراق-ساخنة-(-الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء وارتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، إنني أتوحد بها حقيقةً يفسدها المجاز، وهكذا تتحدد الصورة بتوزيع خفيف للنور والظل وتكون الألوان سابحة فيَّ في مباشرة لا يودُها ساكنو المقاهي ومحترفو اللعب بالأشياء. لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة وأنسى تسميات النقاد. "
ويقول بهذا الخصوص أيضا:
" في درجة فعل الشعر ينعدم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة ".

ويقول :
" وهنا اجدني وكما يؤكد الرفاق في أكثر اللقاءات إنني في الغموض، أو أنني على الحافة، أو أنني مسور بالحزن حيناً، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي".

ويقول:
"إن هذا التاريخ العاهر يضعني في قلب الشعر فعلاً حزيناً من أفعال الحب، فهل نحن متصوفون؟"
وهنا نجده يصف لحظات ولادة القصيدة فهو يرى نفسه وكأنه يطفو على سطح موقعه ويرتفع إلى صفحة الأفق الزرقاء، وهو يشعر في تلك اللحظة وكأنه يرتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، ويتوحد بها ولا يُهمّه وهو في مثل تلك الحالة أن يتقدم أو يتأخر، أو ينحرف يميناً أو يساراً وهو ما يشير أن طاقة مهولة قد أصبحت المسيطرة على كيانه ربما كنتيجة لتغير كيماوي حدث في دماغه جعله أشبه ما يكون بكائن ما ورائي له قدرات خارقه تجعله قادرا على التحليق وربما الطيران خارج نواميس الطبيعة. ولذلك ينعدم التاريخ والزمن ويصبح كله في لحظة واحدة كما تصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة واحدة وهو ما يشير إلى انتفاء المكان أيضا".
ومن الطبيعي إذا والحال كذلك أن يأتي كل فعل يحصل أثناء سيطرة مثل تلك الحالة الماورائية مهولا، وأن يكون عبقريا، مدهشا، وأحيانا غارقا في الغموض والغرابة والرمزية، وربما النبوءات التي تظهر على شكل كتابات كودية. كيف لا وقد انعدم الزمن وأصبح كله في لحظة واحدة، كما انعدمت الأمكنة وأصبحت في نقطة واحدة.
ومن الطبيعي إذا أن يشعر الشخص الذي يمر في مثل تلك الحالة انه على الحافة، أو أنه مسور بالحزن والخوف في أكثر الأحيان، كما يقول عبد اللطيف عقل، وقد تحول فجأة إلى كائن بقوة ما ورائية لا محدودة. ومن الطبيعي أيضا أن تنفجر الكلمات كما يندفع الدم من فتحة الجرح الكبيرة ".

ومن ناحية ثالثة نجد عبد اللطيف عقل يقدم لنا نصا هو اقرب إلى أن يسمى " مدخل إلى فن الشعر"، حيث يشرح فيه سيكولوجية أو ربما الأصح أن نقول فسيولوجية ولادة القصيدة ومن أين تأتي، والسر الكامن وراء ولادة الشعر، إذ يقول:
" الموت والحب والشعر كما المطر".
ويقول :
" حين تتحلق الأطفال في الطرقات المسيجة بأحذية الجنود الثقيلة، ويتوارى اللوز الأخضر من العيون الصغيرة وينشأ فيك فعل تلونه موسيقى الكلمات البدائية"
ويقول:
" في الطريق إلى القدس، تغيم المرئيات، وتنسد أمامك نوافذ الفرح فتهاجمك إبر الشعر، وتنزلق في روحك أظافر مدببة تستنزف الأعصاب.. فيلد فيك فعل الشعر".
وكأنه يقول إن في ذهن الشاعر وكيانه فتيلة هي مصدر الطاقة اللامحدودة ، والتي أسميتها (طاقة البوزيترون)، وتتشكل تلك الفتيلة على اثر صدمة اليتم، والفجائع، والمآسي، أو ما يشبهها من أحداث وصدمات لا بد أنها تترك أثرا في ثنايا الدماغ، وتكون هذه الفتيلة مصدرا لا محدودا للطاقة الماورائية (البوزيترونية)، وهي النبع المتجدد الذي تنبجس منه القصيدة وكل عمل إبداعي قطعا وعلى الإطلاق.


تخبو هذه الفتيلة أحيانا في ذهن الشاعر اليتيم لكنها تظل في حالة جهوزية تامة للاشتعال المتجدد... ذلك الاشتعال الذي يشبه الوميض، والوهج العظيم، وكأنها من كون آخر سماوي، وهو يُوَلّدْ طاقة لا محدودة في قوتها، كما تم شرحه في نظريتي لتفسير الطاقة الإبداعية، فهو أشبه بلحظة الوجد التي ينعدم فيها المكان والزمان ويصبحا في لحظة ونقطة واحدة، كما يقول عبد اللطيف عقل:
"في درجة فعل الشعر ينعدم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة" فيكون الشاعر عبقريا، فذا، ومبدعا، وكرزميا، وغامضا أحيانا لان كلامه يحتوى على كودات تحمل على لغة مستقبلية، لغة هي أشبه بلغة الرمز. ويظن نفسه ويظنه الآخرون على الحافة لأنه يتحدث بلغة أخرى من عالم ما ورائي، عالم انتفى المكان والزمان فيه وأصبحا في لحظة ونقطة واحدة فتكون كلماته ليست كالكلمات. وهذا تحديدا ما يفسر أيضا القدرة على الاستشراف، والرؤيا الثاقبة، أو ما يطلق عليه البعض نبوءات الشعراء، حيث تتجلي الكثير من الأمور المستقبلية للشاعر فينطق بها، فتحتويها نصوصه وتظل كامنة هناك إلى أن يتبدل الزمان ويصبح المستقبل حاضرا، فيأتي من يفتش قصائد ذلك الشاعر المبدع الفذ اليتيم فيجده قد تحدث في أشياء قبل وقوعها بزمن بعيد، وأحيانا بعيد جدا، ولكن في الغالب بلغة رمزية تحتوي على كودات غير مفهومة إلا في الزمان الذي تتحقق فيه الرؤيا أو النبوءة وتصبح واقعا.


ويبدو أن فعل الشعر أو ولادته يتكرر في كل مرة تتسبب شرارة ما، أو كما يصفها عبد اللطيف عقل أعلاه بإبر الشعر واظافره، في إشعال هذا الفتيل ولو للحظات، فتتشكل تلك الطاقة المهولة فتولد القصيدة...بل يندفع الشعر كما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة وتكون أشبه ما تكون بفعل انفجار، كما يصفها عبد اللطيف عقل أيضا، كونها آتية من مصدر طاقة لا محدودة حيث يقول:
" وهنا اجدني ...في الغموض، أو أنني على الحافة، أو أنني مسور بالحزن حينا، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي".
ويذهب عبد اللطيف عقل بعيدا هنا إذ يذكر لنا بعض مثل تلك اللحظات التي تقوم مقام فعل الشرارة والتي تتسبب في اشتعال ذلك الفتيل الكامن في ثنايا الدماغ فتتولد تلك الطاقة المهولة التي تقف وراء ولادة القصائد ومنها كما يقول"
" إنني في موقف الفعل الشعري ...لأنني في موقع التراب الأول"
ولا بد أن التراب الأول هنا يعنى الأرض المحتلة وذلك يعني أن كل ما يصدر عن الاحتلال من قهر ووجع وسجن وألم وحزن الخ...هو شرارة متجددة يمكن أن تجعل ذلك الفتيل يشتعل من جديد.

وأحيانا أخرى تكون لحظات الفرح والجمال عند عبد اللطيف عقل هي تلك الشرارة التي تشعل فتيل الطاقة اللامحدودة كما يقول:
" هنا يصير الشعرُ فرحا، ونحن هنا نفرح بالمناسبة، يوم تتقاطر الفلاحات في أوائل الزيتون والمطر، يوم تتقاطر الجمال والأطفال في أواخر الصيف بين حقول القمح والبيادر، يوم تدخل تلميذات المدارس أو يخرجن في جوقة يحرسها اللون الأخضر المخطط بالوعي، يوم ينور اللوز ويحصرم العنب، إنني أفعل القصيدة يوم تفعل طبيعتنا الجمال، واترك الأصوات تندرس في روحي وعلى الورق.
وهو في هذا النص يصف لنا أيضا لحظات فعل القصيدة أي ولادتها، ففي مثل تلك اللحظة يترك عبد اللطيف عقل "الأصوات تندرس في روحه وعلى الورق"...ولا بد أن تلك الأصوات التي يتحدث عنها عبد اللطيف عقل هي حالة نفسية أو ربما فسيولوجية أو كهرومغناطيسية تنتج عن لحظة الوجد التي هي لحظة اشتعال الفتيل، فتتولد تلك الطاقة اللامحدودة، فيلتقي الزمان والمكان في لحظة ونقطة واحدة... فيتحول الشاعر إلى كائن ما ورائي خارق يتقمصه وحي الشعر، وهي لحظة أشبه ما تكون بلحظات الوجد التي يتحدث عنها الصوفيون ويفسرونها على أنها ذوبان نقطة الماء بماء المحيط وفعل من أفعال الحب والتوحد. تلك الحالة أجاد الشاعر الفذ عبد اللطيف عقل في تصويرها ووصفها حيث قال:
" وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق (http://www.mnaabr.com/vb/showthread....(-13-))الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء ....لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة ".


ولا شك أن عبد اللطيف عقل وكونه صاحب طفولة مأساوية وقد مر فعلا بفجائع وصدمات عظيمة مزلزلة وهي موت الأب في الطفولة المبكرة ثم موت الأخت ثم زواج ألام والسجن اضافة الى سلسلة هائلة من العذابات المصاحبة لمثل ذلك اليتم المكثف...وعليه نجده قد امتلك فتيل عظيم كان مصدر طاقة هائلة، لا متناهية، وظل في حالة اشتعال دائمة، فتارة بسبب جمال الطبيعة في فلسطين، وتارة أخرى بسبب كثرة ابر الشعر كما يقول هو وأظافره، في ظل فقر وبيوت صفيح ونكبات وهزائم وبسبب الجراد الذي تسبب في الكثير من الأحزان، والمآسي، والأوجاع التي كان يراها عبد اللطيف عقل في عيون الأطفال الذين كان يعلمهم في المدارس الابتدائية، ولذلك نجده عاش الكثير من لحظات الوجد والانفجارات الشعرية والنثرية بلغة رمزية اشتملت على استشرافات ونبوءات والكثير من التجليات المستقبلية والنبوءات التي تزخر بها كتاباته.

فنجده مثلا في هذه المقدمة والتي كتبت في العام 1975 يتحدث عن سقوط غزة وأريحا حيث يقول :
"...ليس فعل الشعر تطريزاً لثيابنا إنه الذي يسير العودة فينا... انه البؤبؤ الذي به الرؤيا .. وأنا لست ادري متى سقطت أريحا وغزة لأنني كنت في السقوط"، وكأنه كان يشير هنا وبقدراته الماورائية البوزيترونية الخارقة إلى اتفاق غزة - أريحا أولا، والذي تم توقيعه بعد تاريخ تلك الكتابة بسنوات عديدة، ويبدو انه كان يعتبره فعل من أفعال السقوط.

ربما كان عبد اللطيف عقل يعرف سر ولادة القصيدة ويعرف سر الوجد... وان لم يكن يعرف فلا شك انه في شرحه اللاواعي عن فعل الشعر فتح لنا أبواب المجهول لنتعرف نحن على السر.. وكل ما قيل هنا يؤكد على انه شاعر مبدع، وفذ، وعبقري، ذو رؤية ثاقبة وبعد نظر، وكرزما طاغية، وله قدرة على الاستشراف والرؤية المستقبلية، وانه قد امتلك طاقات ذهنية لا محدودة جعلته يعيش لحظات من الوجد انتفى فيها الزمان والمكان فانكشف له الزمن القادم وانفجرت الكلمات على شكل قصائد مزلزلة...ولا شك إننا سنحتاج لسنوات عديدة قادمة حتى نتمكن من فكفكة لغته الرمزية وسبر أغوار نصوصه والنفاذ إلى أعماق ما سطره شعرا ونثرا.
[/U][/U][/U][/SIZE][/RIGHT]

قديم 10-08-2015, 07:31 PM
المشاركة 5
عدنان عبد النبي البلداوي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
حضرة الاستاذ القدير ايوب صابر دام عطاؤه
ببالغ السرور قرات مضامينكم المتوجة برؤى نقدية ذات بعد جاد صوب حقيقة الإبداع ..شكرا على ما اتحفتموني من روائع قدراتكم المتميزة .. دمتم لخدمة الحراك الثقافي الأصيل ..وتقبلوا خالص الود .

قديم 10-09-2015, 11:21 PM
المشاركة 6
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اقتباس من مقال الاستاذ عدنان عبد النبي

" يقول أبو هلال العسكري في كتابه ( الصناعتين) : [ فإذا عملت القصيدة فهذبها ونقحها ،بإلقاء ما غث من أبياتها والاقتصار على ما حسن وفخم ، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه حتى تستوي أجزاؤها..]
بينما يرى ابن قتيبة أن التنقيح نوع من التكلف ، فالمتكلف عنده ( هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش وأعاد فيه النظر بعد النظر )"

- بخصوص هذه الجزئية / ارى بان دعوة ابوهلال العسكري للتهذيب خطيرة جداً والسبب ان عملية التهذيب هي عملية واعية ومصدرها العقل الواعي المحدود في قدرته بينما الشعر مصدره العقل الباطن اللامحدود.

بمعنى عندما تحين لحظة الإلهام يتولى العقل الباطن توليد القصيدة والعقل الباطن كما يرى علماء النفس والدماغ هو صاحب قوة غير محدودة ولا نهائية وهو بذلك يكون قادر على توليد نصوص متفوقة وقد تشتمل القصيدة على لغة كودية تحمل على معاني مستقبلية فعندما يخضع الشاعر القصيدة للتهذيب فهو ينطلق في عمله من عقله الواعي الذي لا يستطيع استيعاب قيمة ما تولد من عملية الإلهام فلذلك تكون اي عملية تهذيب تتخطي الامور الشكلية التي تساهم في تحسين النص من النواحي الشكلية ومن ذلك الوزن والقافية فان تلك العملية تكون بمثابة وأد للنص او لأجزاء منه تبدو ظاهريا للشاعر ليست ذات قيمة خاصة في لحظة ولادتها لكنها تكون في الواقع ذات قيمة عالية.

ولا بد ان كل شاعر اختبر هذا الامر حيث كاد يلقي بقصيدته في سلة المهملات حال ولادتها لكنه لما عاد لها بعد حين اكتشف انه كاد يرتكب جريمة في حق نفسه وحق القصيدة حيث وجد فيها قيمة لم يكن قادرا على رؤيتها عند الولادة .

ذلك ان الشاعر لا يمكنه ان يصدر حكما صحيحا على النص خاصة في اللحظات التي تلي ولادته وانا على قناعة ان الكثير الكثير من الأشعار ذات القيمة العالية اعدمت قبل ان تصل الي المتلقين واحيانا اعدمت بسبب عجز النقاد عن فهمها وفهم لغتها الكودية واعتبروها شعر رديأ لانها لا تلبي قوالبهم الجاهزة التي هي من صنع عقلهم الواعي المحدود .

حتى ان الشاعر نفسه احيانا لا يعي أبعاد ما قاله في شعره ولو ان قصيدته تتصف بانها عادية وليست ذات لغة كودية ومثال ذلك يقال ان ابي النواس سمع احد المدرسين وهو يشرح بيت شعر له امام التلاميذ يقول :

اسقني خمرا وقل لي انها الخمر

حيث اعتقد المدرس ان ابو النواس استخدم كلمة ( قل لي ) في بيت الشعر من اجل ان يستشعر الخمر بكافة حواسه فهو يلمس الكأس ويراه ويتذوقه ويشتم راحته لكنه أراد من صاب الخمر ان يقول له أيضاً انه هذا خمر حتى لا تغيب حاسة السمع عن الموقف .. فقال ابو نواس والله ما قصدتها
.

خلاصة القول لا شك ان اي عملية تهذيب او تشذيب تؤدي الي تغيير جوهري في النص هو جريمة بحق النص وعلى كل شاعر ان يثق بما يأتي به عقله الباطن اي العملية الإلهامية وان لا يأد اي نص على اعتبار انه من غير قيمة وان يترك الامر للجمهور والزمن ليحكم على النص وان تقتصر اي عملية تشذيب على الجوانب الشكلية التي لها علاقة بالوزن والقافية شرط ان لا تحدث العملية تغيير في المعنى الاصلي.

كما على النقد ان يتحرر من محاولات وضع النص في أطر وقوالب جاهزة وان يكون دور الناقد محاولة استخراج الحلي وتحديد مكامن الجمال في النص وليس الحكم عليه من حيث الجودة والقيمة .

وعلينا حتما ان نتجنب الحكم على النصوص لحظة ولادتها وان كان لا بد من ذلك فعلينا الاستعانة باخر يقوم بهذه المهمة لكن علينا ان لا نسلم ذقننا له بشكل كامل لأننا نعرف بان العقل الباطن لا محدود القوة وقد يأتي بنصوص بلغة كودية تحمل على معاني مستقبلية تبدو غريبة عجيبة لحظة ولادتها.

وفي ضوء تكشف قدرة العقل الباطن المهولة ربما علينا ان نبدا بتقبل النص كما يلد ونرفض اي تعديل عليه مهما قل شانه ولو كان شكليا ولكن في هذه الحالة لا بد ان يحاول الشاعر امتلاك حصيلة ثقافية وتجربة غنية تساعده على وضع نصوص اقرب الي الكمال من حيث الشكل .

وانا على قناعة تامة ان جودة النص وقيمته وكوديته له علاقة بالنشاط الذهني الذي كلما ارتفع منسوبه كلما صار قادرا على توليد نصوص متفوقه وذلك مرتبط بماسي الطفولة عند الشاعر فنجد ان الشاعر الذي واجه اشد الماسي في طفولته يكون اقدر على توليد نصوص متفوقة واحيانا عبقرية لا تحتاج التي التهذيب والتشذيب ومثال ذلك المتنبي والإمام الشافعي وادجر الن بو ...

ومن الخطأ الشنيع ان يعتقد الشاعر ان عليه تهذيب ما تأتي به العملية الإلهامية .

.

قديم 10-14-2015, 05:53 PM
المشاركة 7
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اقتباس "القاضي الفاضل يقول :
(إني رأيت انه لايكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده : لو غـُيّر هذا لكان أحسن ولو زِيد كذا لكان يُستحسن ولو قدِم هذا لكان أفضل ، ولو تـُرك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر..)

- بخصوص هذا القول هناك في اللغة الانجليزية قول قريب منه في المعني حيث يقول المثل الانجليزي a true artist is never satisfied with his work اي ان الفنان الحقيقي لا يصل أبدا الي مرحلة الرضا عن عمله ، وهذا سبب اخر يدعونا الي تجنب التهذيب فواضح ان في التكوين النفسي للفنان هناك ما يجعله غير راضي عن عمله وهو يبحث دائماً عن الكمال فيقوم على ادخال تعديلات على النص الذي ولد في لحظة الوجد او لحظة الإلهام ظنا منه ان يحسن صنعا ولكن الحقيقة عكس ذلك وعلى الفنان ان لا ينشد الكمال في النص بل يستكمل المسيرة لعل تراكم عمله الابداعي يقربه من لحظة الكمال التي ربما لا تتحقق عند الكثير من اهل الفن طوال مسيرتهم الفنية حيث يموت وهو يعتقد انه لم يولد النص الأكمل .
ونلاحظ ان الشعرا او كتاب الرواية يبدعون عدد كبير من المؤلفات لكن مؤلف واحد فقط من بين تلك يلقى القبول والمدح وقد يحصل صاحبه على جائزة نوبل او غيرها من الجوائز على اعتبار انه masterpiece اي منتج فريد واستثنائ ولو حللنا السبب الذي يدفع الكاتب الانتاج مثل هذا المنتج لوجدنا ان أسبابا معينة جعلت ذهنه يقظا حادا نشطا فتمكن من توليد نص فذ في لحظات وجد والهام غير مسبوقة عنده والاغلب في تحللي الشخصي ان ذلك ناتج عن مرور الكاتب في أزمة نفسة او ربما حالة حزن او حداد مما جعل العقل يعمل بطاقة اكبر فجاء النص على غير شاكلة باقي النصوص.

قديم 11-01-2015, 01:23 PM
المشاركة 8
عبده فايز الزبيدي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جميل أديبنا الكريم.
و لي عودة إن شاء الله .

وسائلٍ عَنْ أبي بكرٍ فقلتُ لهُ:
بعدَ النَّبيينَ لا تعدلْ به أحَدا
في جنَّةِ الخُلدِ صِديقٌ مَعَ ابنتهِ
واللهِ قَدْ خَلَدتْ واللهِ قَدْ خَلَدَا

قديم 12-18-2016, 09:31 AM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ليتك تعود لنا بدراسات قيمة كهذه

قديم 12-18-2016, 06:41 PM
المشاركة 10
عدنان عبد النبي البلداوي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
ليتك تعود لنا بدراسات قيمة كهذه

سعيد بمرورك الكريم شاكرا حسن الظن ...سائلا الله تعالى التيسير ..دمتم لخدمة الكلمة المعبرة عن الحقيقة. تحياتي


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: اعادة النظر في القصيدة بعد هيمنة الإنفعال
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جائزة هوجو شافيز- اعد النظر يا مادورو أراك لحنت ايوب صابر منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 1 10-27-2016 02:22 PM
الرد على المخالف من أصول الإسلام ( مختصر من كتاب مدارك النظر- منقول) ) عمرو مصطفى منبر الحوارات الثقافية العامة 0 11-30-2015 02:08 PM
مناظرة بين العين والقلب حول إثم النظر: ناصر عبد الغفور منبر الحوارات الثقافية العامة 0 08-03-2015 10:21 PM
نظرية السَّرد من وجهة النظر إلى التبئير - مَجموعة من الباحثين د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-02-2014 10:43 PM

الساعة الآن 09:50 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.