قديم 05-09-2012, 11:19 PM
المشاركة 541
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
السّيرة الذّاتِيَة في مِعْطَف الرِّوايَة الصّعْلوكِيّة

الاثنين, 24 أكتوبر 2011 03:55 نشر في نقد أدبي
لقد تناولنا بالدراسة، في الدراستين السابقتين، لكل من الرواية التاريخية والرواية السيرذاتية، ولسوف نعرض في هذه الدراسة الثالثة، لجنس روائي حديث، على المكتبة العربية، ألا وهو، ما اصطلح بعض الكتاب العرب، على نعته، بالرواية (الشطارية). وهذا الجنس الروائي الوارد علينا من الأدبيات الغربية، حسب اعتقاد بعضهم، يعود في مراجعه الغربية، إلى القرن السادس عشر. بل هنالك من يعود به، إلى القرن الثاني ميلادي، أي للتراث الإغريقي-اللاتيني. وذلك مع ظهور قصة (الحمار الذهبي)، ل(لسيوس أبوليوس). لكن، من حيث التأريخ الرسمي، للأجناس الأدبية، تعتبر إسبانيا، ميدان ظهور هذا الجنس الأدبيي الجديد. وكلمة الشطار، أو الشطاري، أدخلت إلى القاموس العربي، عبر ترجمتها عن الكلمة الإسبانية، (بيكارو)، والتي تعني البطل الرحّالة، المتشرد، والبئيس، والماكر، الداهية. والتي سيبنى عليها الأدب (البيكاريسكي). وتعد رواية (لاثاريو دي طورميس ومحاسن طوالعه ومصائبه)، لمؤلف مجهول، المرجع الأولي لهذا الجنس. بل بالإمكان أن نضيف إليها، قصة (عثمان الفرج)، ل(ماطييو أليمان)، و(حياة المغامر دون بابلوس)، ل(كيفيدو)،كنصوص مؤسسة. ثم تبعتها قصص وروايات أخرى، في كل من فرنسا، ألمانيا وإنجلترة. ونذكر منها على سبيل المثال: قصة (أسطريه)، ل(هونوري دورفي)، وقصة (فرانسيون)، ل(شارل سوريل)، و(موت المحب)، ل(غوتييه)، و(جاك ولتون) ل(طوماس ناش)، (وليام ميسطر)، ل(غوته)، و(مول فلاندرز)، ل(دانييل ديفو)، بل حتى (أوليفر تويست)، ل(شارل ديكنز)، ونصوص أخرى، بالإمكان تفقدها في المراجع. ولقد تطور هذا الجنس مؤخرا، متخذا له آفاقا أدبية متشعبة ومختلفة، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، في كل من فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، مع (مذكرة لصّ) ل(جان جنيه)، (جيل بيت)، ل(جاك كرواك). فنقف بهذا الخصوص، على سلسلة من الأسماء البيكاريسكية الشهيرة، من أمثال: (بريان غيزن)، و(شارل بيكوفسكي)، (جاك كيرواك)، ألان غيمبرغ)، (وليام بورغوت)، الذين انطلقوا بهذه التجربة الفنية، في مستهل الخمسينات، ممهدين الطريق، للثورات الجنسية التحررية في منتصف الستينات. بل حتى للذين لحقوا بهم من أمثال، (هينري ميلر) و(كارلوس فوينطس). وتتفق المراجع، على أن هذا الجنس الأدبي الجديد، يستمد آفاق جغرافيته، من طبيعة المدن الحديثة، كما ذاكرته التاريخية، من الواقع، أو الوقائع الاجتماعية للطبقة الكادحة والمهمشة، ويعتمد خصوصا، على السرد، (السّيرَذاتي). لهذا السبب، تعتبر هذه الرواية البيكاريسكية، جزءا من الرواية السّيرَذاتِيَة، ومعطفا واقيا لها. ويكون البطل الروائي، في هذه الأثناء، هو الراوي، الحامل لراية المنبوذين، الذين ينتسب إليهم، من حيث انتمائه الطبقي هو الأخر. ومن مواصفات هذا البطل (بيكارو- الشاطر)، كونه مخلوق بئيس، شرير قذر، سكير، شحاذ، مخادع، انتهازي، لئيم، لا ضمير أخلاقي له. وإذا شئنا، فبإمكاننا أن نوسع القائمة، لتضم بين ثناياها، كل الأوصاف والنعوت الشنيئة والبذيئة، فيما يتعلق، بمواصفات هذا البطل. ولسوف نتوقف، عند هذا الحد من التعريف، لنعيد قراءة هذه المقدمة التعريفية، من وجهة نظرنا الخاصة بنا. وذلك باعتمادنا، على المنهجية التحليلية التي استخدمناها، في دراساتنا السابقة، كما في دراستنا هذه.
لقد سبق وعرّفنا هذا الجنس الروائي، في المقدمة التي سقناها أعلاه، ونذكر، بأن من بين الاصطلاحات، التي اختيرت له، من قبل بعض الكتاب و الباحثين العرب، نسوق ما يلي: الرواية البيكاريسيكية، للدكتور جميل حمداوي، الرواية الشطارية، لكل من محمد غنيمي هلال، وإسماعيل عثماني، والرواية الاحتيالية، للدكتور علي الراعي، والأدب التشردي، للباحث محمد طرشونة. ومن جهتنا، فلقد وقع اختيارنا على تسمية جديدة، نطلقها على هذا الجنس الأدبي الحديث، ألا و هي، (الرواية الصّعلوكية). مع الإشارة، إلى أن كلمة صعلوك، قد وردت في بعض الأبحاث، دونما تخصيص، أو تحديد لها، داخل إطار دراسي منهجي منسق. لقد وقع اختيارنا على هذه التسمية، واخترنا هذا اللفظ، لأننا نعتبره من جهة، مطابقا للمضمون الروائي الذي يرويه، ومن جهة أخرى، مطابقا، ومتمما للمصطلح العربي، المتوفر، والمتواجد في قواميسنا العربية. فلا جدوى إذن، من نحت مصطلح جديد، إذا كانت مكتبتنا العربية في غناء عنه. ثم إن اختيارنا للفظة (الصعاليك)، من حيث مضمونها وإمكانية ربطها بأفقها التراثي، له معنى عميق. فإن مصطلح الصعاليك، في أدبياتنا الشعرية الجاهلية، كان يطلق على كل، من الشعراء أبناء الحبشيات السود، وقطاع الطرق، والرافضين لمجتمعاتهم القبلية، وأولئك الذين تبرأت منهم قبائلهم، لأسباب إجرامية. ونذكر منهم على سبيل المثال، كل من الشنفرة، وتأبط شرا، وعروة ابن الورد. فنحن نرى والحالة هذه، ربط هذه اللفظة بأفقنا الاجتماعي الحالي. ونرى شحنها بدلالات، تجدد من معانيها وتغنيها. فإطلاق تسمية الصعلوك على الفرد، ونعني به الفرد المنبوذ، والمهشم اجتماعيا، في مدننا الحديثة، يوافق المعنى المطلوب، بخلاف اصطلاح (الشاطر) الذي لا يعني شيئا، ولا يدل على صورة معينة، في ذهن الجماهير، كما القراء، غير المتعودين على هذه التسمية. ثم إن اختيار اللفظ العربي الصعلوك، عوضا من (البيكارو) أو غيره، وربطه بذاكرته الأدبية، يقربنا من الظروف التاريخية، لظهور هذا الجنس الأدبي، وارتباطه به. ويقربنا، في الوقت نفسه، من الجنس الأدبي الأم، الذي تطور ونشأ عنه، ونقصد به المقامة العربية. فلا غرابة، أن تكون المقامة العربية، هي المصدر، والمنبع الأساسي، لظهور وتطور هذا الفن الأدبي الصّعلوكي. فالمقامة في نشأتها وتطوراتها، مع كل من الحريري، في (حياة أبي زيد السروجي)، و(مقامات)، بديع الزمان الهمذاني، مرورا برسائل (التوابع والزوابع)، ل(ابن شهيد)، و(رسالة الغفران)، ل(أبي العلاء المعري)، و(ألف ليلة وليلة)،قد أنتجت بأساليبها، القصصية السّيرَذاتِيَة، المتداخلة، الأجواء الناضجة، والأرضية الأساسية،لكل الأجناس الروائية اللاحقة.
فالرواية الصّعلوكية، ظهرت بالتحديد، في منتصف القرن السادس عشر، وبداية القرن السابع عشر. أي مرحلة انتهاء حكم (فيليب الثاني)، وبداية حكم (فيليب الثالث) بإسبانيا. وباختصار، مرحلة انتصار الصليبية الكاثوليكية، على الأمة الأندلسية الإسلامية، بعد سقوط غرناطة سنة 1492م. فانطلاقا من هذه المرحلة، ستنشط محاكم التفتيش الدينية، والتطهير العرقي، في مطاردة، وملاحقة المواطن العربي الأندلسي. ومن هنا، ستأتي الرواية الصّعلوكية أو الصّعالِكِيّة، المجهولة المؤلف، في بداية الأمر، كرد فعل إيديولوجي، للمؤسسات الكاثوليكية العرقية. ونسوق بهذا الخصوص، الملاحظة الدقيقة، للأستاذ (جان لوي برو)، الباحث، والمتخصص في العصر الذهبي، للأدبيات الإسبانية، خلال القرنين: (السادس والسابع عشر)،حيث يقول: "لقد جاءت الرواية البيكاريسيكية، كمعيار، بين ما هو وهمي، وما هو إيديولوجي".
لقد كان جنس المقامة، كموروث ثقافي عربي، فنا رائجا في الأندلس، قبل سقوطها. وكان هذا الفن، الذي كان يدور في أجواء فكاهية، ينطلق من راوية، يحكي عن مغامراته، بأسلوب شيق، قريب جدا من أجواء السيرة الذاتية. ولئن كانت المقامة، تشبه إلى حد بعيد، التطور الروائي المعروف، الذي سيمنحها الكاتب الإسباني (سرفانطيس)، في روايته (دون كيخوطه). هذا الكاتب، الذي يعترف في مقدمة كتابه، بأنه استوحى روايته، نقلا عن كاتب عربي. لا يهمنا هنا، إن كان استوحاها أم لا، بل الشيء الأساسي، من كل هذا، وهو أن مضمون رواية سرفانطيس الفكهة، التي تروي لنا، حكاية فارس نبيل، من طبقة (الهيدالغو)، يحارب المراوح، ويتخذ من أحلامه حقائق واقعية. فهي إذن رواية ساخرة، وهي أيضا، سيرة ذاتية (لهيدالغو)، يسخر ضمنا، من مجتمعه، وخصوصا من طبقة الأشراف، والنبلاء، ورجال الدين، الذين كانوا فخر إسبانيا المنتصرة على أعدائها. ويرى المختصون في جنس الرواية، بأن تطور هذا الجنس، في حلته الواقعية، يعود فضله إلى الكاتب سرفانطيس، الذي مهد الطريق، لكل الروائيين الذين جاؤوا من بعده، من أمثال الكاتب الإنجليزي، (لورانس ستيرن)، في روايته، (تريستام شاندي)، و(جاك الحتمي)،للكاتب الفرنسي، (دنيس ديدرو).
لقد تحدثنا عن المصطلح، وتحدثنا أيضا عن المراجع المؤسسة لهذا الجنس، ونعود من جديد لتعميق هذه الدراسة، رابطين ظواهرها، بعضها ببعض. قلنا بأن هذا الجنس الصّعلوكي، قد ظهر في القرن السادس عشر في أجواء عدائية، وصفناها لكم. وسوف نقدم الآن، نموذجا من صميم الموروث الروائي الإسباني. ولقد اتخذنا بهذا الخصوص، النصوص الإسبانية التأسيسية، ونعني كل من (عثمان الفرج)، و(لاثاريو دي طورميس، وسعده ومحنه)، كمراجع أساسية، بالإضافة إلى (دون كيخوطه). فالرواية الصّعلوكية، هي رواية متمردة، تبني مضمون سردها، على حظوظ ومحن بطل(صعلوك)، يسعى إلى الالتحاق بطبقة المجتمع النبيلة. ويسعى أيضا، إلى اقتناء الثروات والمجد، لتغيير نمط حياته ووضعيته، من حالة سيئة وبئيسة، إلى حالة أحسن، يحمد عليها، ويعترف له فيها، بمقامه وشرف مولده. لكن سعيه، وحلمه، وأوهامه، محكوم عليها كلها، سلفا، بالخيبة والفشل. فهذا البطل، أو الفارس الصعلوك، ويقصد به ضمنا، المواطن الأندلسي المشرد، لا يمكن أن يفر من قدره، الذي رسمته له الطبقة الجديدة، الحاكمة للوطن. نذكر بهذا الخصوص، بأن محاكم التصفية العرقية، في مطاردتها، لأبناء الأمة الأندلسية المهزومة على أمرها، قد وضعت قوانين عنصرية تقول ب(طهارة الدم وخلاصته) لتطرد من سلك حكومتها، كل من لا ينتمي، إلى طبقة النبلاء، أو طبقة المسيحيين القدامى، من سكان البلد، [ أنظر بهذا الخصوص دراستنا عن الرواية التاريخية]. فالفارس الصعلوك، والحالة هذه، يتواجد في مجتمع مرتب ترتيبا طبقيا، توجد على رأسه طبقة (الهيدالغوس)، أي الفرسان النبلاء، أبناء البلد الأصليين، بحكم صفاء دمهم، وطهارته، من أي دم أجنبي دخيل عليهم، من جهة العرب،(المورسكيين) أو اليهود. ف(الهيدالغو)، المنتمي بحكم ولادته، إلى طبقة النبلاء، لا يشتغل بالفلاحة، أو التجارة والصناعة، لأن مقامه الشريف، لا يسمح له بعمل منحط كهذا، قد خصص للمهزومين، أي للعبيد الجدد، من مسلمي الأندلس، سادة البلد أمس، وعبيده اليوم. وهكذا، يصبح بإمكاننا أن نتفهم، ظاهرة تمرد الصعلوك، على (الهيدالغو) النبيل، ومؤسساته العنصرية. ونتفهم بعمق، هدف الصعلوك في ظاهرة التمرد هذه. فهدف الصعلوك، هو محاربة النبلاء العنصريين، الانتصار عليهم ،ودوس شرفهم المزيف، تحت قدميه، للتخلص من المأزق العبودي، الذي خصص له، وحبس فيه. لقد كان هذا هو مضمون الرواية الصّعلوكية، التي جاءت كرد فعل لمجتمع النبلاء العنصري. وجاءت رواية (سرفانطيس)، في نفس الفترة [الرواية نشرت سنة 1605م، الجزء الأول و1615 الجزء الثاني] هي الأخرى، ولكن من موقع واقعي داخلي، تمثيلا وسخرية، لطبقة (الهيدالغو) النبلاء، التي كان الروائي ينتمي إليها، والتي كان يسخر ضمنا من ادعاءاتها.
فالرواية الصّعلوكية إذن، تتخذ السرد السّيرذاتي، كمحور أساسي لتعبيرها. لهذا السبب بالذات، نجد هذا التداخل، والتزاوج السردي في ثناياها. وتتخذ هذه الرواية، البطل الصعلوك في مقابل الفارس النبيل. وتتخذ الوهم ،والحلم، والخيال، في مقابل واقع نبيل مغشوش، واقع مأسوي قاس، وبشع. وتنتهي بانتصار وانتقام وهمي، للفارس الصعلوك، بفعل وفضل امتلاكه لسلطة الكتابة، ولئن كانت بعض النهايات، تقوده في بعض الأحيان، إلى طلب الغفران. فالمحصلة إذن، هي أن الرواية الصّعلوكية، هي رواية مضادة للرواية الرعوية، والفُرْسانيِةّ، (القروسْطِيّة) العتيقة. وهي ظاهرة تمرد، لفئة مهمشة من المجتمع، على أخلاقيات الفئة السائدة، من النبلاء. وبطلها هو الآخر، بطل مضاد، للبطل التقليدي، في القصص القديمة، هذا فيما يتعلق بالأسس، والتطور لهذا الجنس الأدبي الصّعلوكي. ولننتقل الآن، لتطبيق هذا النموذج، على هذه الظاهرة في أدبياتنا الحديثة، لدى كل من محمد زفزاف، ومحمد شكري.

(المرأة والوردة) لمحمد زفزاف (1945-2001)

سنسعى إلى وضع ملخص، لرواية محمد زفزاف (المرأة والوردة)، التي نعتبرها، نموذجا أدبيا، وعربيا خالصا، للسيرة الذاتية الصعلوكية. وملخص الرواية، دونما خوض في التفاصيل الجزئية، نجمله ههنا، تاركين الجانب التقني، للمشتغلين بالنقد الروائي. تستهل الرواية، بالراوي، الذي هو بصدد تعليل مسألة الرحيل، رحيله إلى الغرب. وبالتحديد، رحيله من الجنوب العربي، إلى الشمال الغربي. وهكذا وقف بمدينة طنجة المطلة على الحدود الإسبانية المتاخمة لها، ومنها انتقل إلى مدينة (طري مولينوس) الإسبانية، الواقعة على الساحل الشهير (كوستا دِلْ صول)، الذي يعد، من بين أكثر السواحل الشمسية، استقطابا للسياح الأوربيين الأثرياء. وفي هذا المناخ السردي، تظهر عبر ضمير الغائب، شخصية ثانية نعتبرها، ازوادجية لأنا، الراوي. جاءت كصورة ناطقة وشاهدة، لتجربة سابقة، لهذا النوع من التجوال، في بلدان الغرب. وبطريقة غير مباشرة، مؤيدة ومشجعة للرحلة، التي يزعم البطل الراوي، القيام بها. ثم يعرض علينا، صورا سلبية لمدينة الدار البيضاء، التي خرج هاربا منها. فيقول عن المدينة، بأنها ملك للأجانب البيض، الذين يعيشون في ثراء، وأبهة، وفساد مالي، على حساب بقية طبقة الشعب المهمشة، خصوصا، تلك التي لا تنطق باللغة الفرنسية، لغة سادة البلاد. ثم تأتي مدينة طَنْجَة، في سياق الرحلة، كآخر محطة قبل العبور لإسبانيا. وهذه المدينة، تمثل لديه، الفرق الحدودي الواضح بين عالمين: عالم منبوذ لأنه عربي، وعالم مرغوب فيه لأنه أجنبي غربي. وفي هذا السياق الحلمي، يذكر تلك السنوات الأربع التي قضاها من قبل، في الغرب كأحد الأباطرة، منعما بحسن المأكل والمشرب، والثياب الفاخرة، ونكاح أجمل النساء. ثم يتطور السرد الروائي، ليحملنا إلى مشاهد لقاء، على ضفاف المصطاف، بين الراوي محمد، و(آلان)، و(جورج) القادمين من فرنسا، في اتجاه الجنوب، لاقتناء العُشْبَة المخدرة (الحشيشة). وفي هذه الأجواء السردية، تدخل (روز) الدانماركية، في صورة المرأة الجنس. المرأة الأوربية، المتحررة من كل القيود الأخلاقية، المرأة التي تهب جسدها مجانا، للمتعة الجنسية، والتي ترمز لدى الكاتب، حسب ما ورد في نصه الروائي:" تعرف كيف تمنح العالم، الحنان والحب." وفي رحلته الذاتية الداخلية، يرجع محمد بذاكرته إلى الوراء، حيث فتح عينيه، ونشأ في أسرة فقيرة بئيسة. ثم يعود الحديث من جديد، لعشيقته، (سوز) في أجواء (هِبِّيّة) من الإنسياح، وتعاطي بلا حدود، للحشيش، والخمور، والجنس. ويختم الراوي رواته، أو سيرته الصعلوكية، متسائلا عن هويته قائلا:" أنا .. ! من أي جنس أنا؟".
فعبر هذه السيرة الصّعلوكية، يكون محمد زفزاف هو المؤسس، والرابط بالفعل، لهذا الجنس الروائي الحديث، بآفاقه التراثية الماضية. فكل العوامل والشروط، لهذا الجنس الأدبي، متوفرة في نصه الروائي. ونحن لا نزعم، بأننا المبتكرين لهذا الجنس، وإنما إذا ما نحن ربطناه بالتراث المقامي العربي الممهد له، تبين لنا بأن العلاقة تظل وطيدة بين هذا وذاك، ولئن كان الفارق الأساسي بينهما، يكمن في العامل الأخلاقي، الذي لم تخترق المقامة حدوده. على العموم، فإن البطل في هذه الرواية، التي تكاد تكون قصة طويلة، هو إنسان حاقد ومتمرد على مجتمعه، كما على الظروف، التي جعلت منه، إنسانا هامشيا. ثم إنه ليعلن تمرده، سيمشي ضد التيار الأخلاقي، والقيمي الذي تسير عليه أمته. فكل ما هو محرم، أو مسكوت عنه، سيصبح مباحا، في نظر الكاتب. فهو يخترق الحدود، يتجاوزها، ويسخر من أولئك، الذين ما زالوا مقيدين بها، أو العاملين على حراستها. ثم إنه يسعى إلى المقارنة والمقابلة بين عالمين: عالمه العربي الذي ينتمي إليه، والذي لا يعترف به كإنسان، ولا يقيم له أي شأن، والعالم الغربي البديل في مخياله، الذي يمنحه الحرية، والحب، والحنان بدون ثمن. ويتلخص في المرأة (سوز)، التي ترمز في هذه السيرة الإباحية، إلى عالم الحب، والتحرر من القيود. و محمد الزفزاف، بالرغم من جرأة صراحته، فإنه ظل نوعا ما، لبقا في عدم الدفع بتمرده اللغوي، إلى حد الوقاحة والخلاعة. ويعد من حيث تجربته القصصية، والروائية من رواد الأدباء المغاربة، الذين نقلوا لنا، صورا حية، وواقعية، عن المجتمع المغربي، منظورا إليه هذه المرة، بعيون المنبوذين والمهمشين، والفقراء، والصعاليك، والسكارى، والغشاشين، والمحتالين، من الطبقة الضالة، والمغضوب عليها اجتماعيا
(الخبز الحافي) لمحمد شكري (1935-2003)
أما (الخبز الحافي)، فإنها رواية صعلوكية بامتياز. ونمط السرد السيرذاتي فيها، يعتمد على ذاكرة، مملوء خزانها، بصور مختلفة ومتداخلة، لشريط الكاتب الحياتي،أيام كان المغرب تحت الحماية الفرنسية-الإسبانية. ولقد كانت قصة نشر هذه الرواية الصعلوكية، وهي، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حادثة عرضية، غير متوقعة. فالرواية أصلا، ليس لها ذاك الثقل الروائي، المتواجد لدى الروائيين الكبار. وليست حتى برواية أصلا، حتى يخوض الباحثين في تركيباتها، وحبكاتها العجيبة. إنما هي باختصار، شهادة إباحية لصعلوك متمرد، عن نشـأته، وعن مصيره، في مجتمع طبقي، حكم عليه، كما على من هم أمثاله، بالجهل والفقر والعيش في المستنقعات. فالكاتب مثلا، قبل التفكير في نشر هذه السيرة الصعلوكية، والتي لم يكن قد فكر في كتابتها، كان يعاشر بعض الكتاب الأجانب، القادمين إلى المغرب، بحثا عن الشذوذ الجنسي، ولو كان ذلك خلف أقنعة أدبية، أو فنية. نذكر منهم (تينسي وليام)، و(جان جنيه) الفرنسي، و(بول باولز) الأمريكي، وبالتحديد، الناشر الإنجليزي (بيتر بين) صاحب (بول باولز). لقد كان هذا الناشر، قد قدم للمغرب، بحثا عن الأدبيات الشاذة. وهو بالمناسبة، الذي نشر لكل من: العربي العياشي (حياة مليئة بالثقوب)، و(الحب بخفته من الشعر)، لمحمد المرابط، التي كان (بول باولز)، قد قام إلى نقلها إلى الإنجليزية، بعد سماع روايتها شفهيا، من الكاتبين المعنيين. وفي هذا السياق، سياق البحث عن الشاذ، التقى الناشر (بيتر بين) بشكري، وعرض عليه، نشر أحد نصوصه، شريطة أن يكون، من الأدبيات الصّعلوكية الشاذة. وكذلك كان، أن التجأ محمد شكري، إلى مرشده الصّعلوكي، بالتبني في هذا المستنقع الأدبي، (بول باولز)، الذي نقل له سيرته الصعلوكية في السبعينات، وذلك قبل ظهورها بالعربية، لسبب بسيط، وهو أن النص العربي، لا يوجد، ولم يتواجد قط. ومن المفارقة العجيبة، بخصوص هذا المتن السيرذاتي، فإن المؤلف نفسه، لم يحرره كتابيا قط. وهكذا قام الكاتب محمد برادة، بنقله إلى العربية، من بعد ما ظهرت ترجمته إلى الفرنسية، التي أشهرته، على يد الكاتب، الطاهر بن جلون. والسر من ترجمة هذا النص إلى العربية، على يد كاتب عربي آخر، يكمن في عدم تمكن محمد شكري، من اللغات الأجنية، حتى يعيد كتابة النص بنفسه من الإنجليزية أو الفرنسية، إلى العربية. و إلا لكان قد أخرج نصه العربي، أو بالأحرى أعاد كتابته. لكن كيف سيعيد صياغته، على أصل إنجليزي، أو فرنسي، قد لا يكون وفيا، لنقل ما ورد فيه. وملخص هذه الرواية، التي لا تغدو عن كونها قصة طويلة، نجمله في صور متفرقة، ومتداعية من هنا، وهنالك لذاكرة الكاتب. فرواية (الخبز الحافي)، تروي عن طفولة الراوي، الشقية والمعذبة. عن سلطة الأب العنيفة. هذا الأب، الذي تجمعت فيه كل أوصاف الرذيلة، من حيث أنه، كان شرّيرا، سكّيرا، قمّارا، ومعذبا لزوجته، وقاتلا لأخ الكاتب. ثم يحدثنا عن رحيل العائلة، إلى مدينة طنجة. ثم رحيلها منها، في اتجاه مدينة تطوان، فوهران. ثم عودته لطنجة من جديد. ثم اشتغاله كبائع للسجائر المهربة. ثم تعلمه القراءة، للدخول إلى المدينة الفاضلة للمتعلمين. ثم يعرض لطابور من النساء العواهر. ثم بعض الصور، للشذوذ الجنسي، مع رجال أجانب، ولأدباء مشاهير مروا من هنا، وكل هذا، في المناخ الإباحي، لمدينة طَنْجَة الليلي. لأن النهار، كان متروكا لأصحاب العمل، أما الليل فهو لأصحاب السهر، من المدمنين، المتعاطين، للخمور والحشيشة، والذعارة بشتى ألوانها. فالخبز الحافي، قد كتب لها النجاح، في الخارج مبدئيا، لأن مروجيها، كانوا يعلمون مدى المراهنة التجارية، على إخراج شبه كتاب، من هذه الدرجة الصعلوكية، ومن هذا النوع الصعلوكي المستحب. بل واختراع شبه كاتب، يكون حصانا طرواديا، لتمرير هذا الجنس الأدبي الصّعلوكي المحرم، إلى مجتمع عربي إسلامي محافظ في أدبياته. وحين كتب له النجاح، كحامل لراية الرواية الصّعلوكية، لم يجد، ما يمكن أن يخسره، سوى المضي قدما بمشروعه، عبر قصصه ورواياته اللاحقة: كمجنون الورد، والشطار والوجوه. والذي جر على محمد شكري، لعنة منع روايته، وحظرها في كل من م ة، وأسلوبها الخلاعي، لبطل صعلوك وشاذ. فإذا كان الأدب الصعلوكي في بدايته التاريخية مع الصعاليك، أدب احتيال وسرقات، مع احتفاظه بمقوماته الأخلاقية، وفي عصر النهضة مع عرب الأندلس، أدب تمرد واحتجاج، فأنه سيصبح مع شكري، بالإضافة لهذا وذاك، أدب وقاحة، واستهتار، ومجون، وخلاعة ولواطة، وسحاق، واغتصاب الغلمان. وسيصبح بيانه الصّعلوكي،[على غرار البطل، راسكولينكوف، في الجريمة والعقاب، لدستوفيسكي] على لسان الكاتب نفسه:" إن السرقة مشروعة في عالم االصّعاليك". ونضيف من جهتنا مصححين، بل في أجواء صعلوكية كهذه، فإن كل المحرمات، والمعاصي، تصبح مباحات مشروعة.
الرواية الصّعلوكية بين زفزاف وشكري
لقد طورا، كل من محمد زفزاف، ومحمد شكري، فن القصة القصيرة، كما الرواية المغربية، انطلاقا من الستينات. فالزفزاف مثلا، من (حوار في ليل متأخر)، إلى (الأفعى والبحر)، مرورا ب(المرأة والوردة)، إلى (الثعلب الذي يظهر ويختفي)، كان يعمل فعلا، على تأسيس التجربة الروائية الصّعلوكية، انطلاقا من التجربة المعاشية، لواقع المدن المغربية، كمدينة الدار البيضاء، نموذجا.
ولقد جاءت تجربة الزفزاف الروائية، كما قصصه، التي تتمحور حول الأنا الساردة، شهادة تمرد، وإغراق الذات في المشروبات الكحولية، وتجوال بدون هدف، واحتجاج، وإدانة، وفضح للفوارق الطبقية، وبؤس مدن الصفيح، والطبقة الشعبية المهمشة، في مقابل أصحاب الثراء.
ولقد جمع محمد زفزاف، في قاموسه اللغوي الروائي، كل ما هو عامي، وشعبي، وصعلوكي. وكانت هذه التجربة الأدبية، تدور داخل إطار الأدبيات الرسمية آنذاك. ولو أن صاحبها، ظل نوعا ما، ككاتب مُهَمّش طوال حياته. وهذا بالرغم من ممارسته، لمهنة التدريس من جهة، وتعامله مع الأدب العربي، والعالمي، من جهة أخرى. وهو في كل هذا، وبجرأته الأدبية الصّعلوكية، والخارجة عن المألوف الأدبي العربي، لم يخترق حرمة الخط الأحمر. لقد ظل محترسا، نوعا ما، علما بأن أدبياته الصّعلوكية، كانت كثيرا ما تثير حرجا كبيرا، في تعريتها لكثير، من مشاهد طقوس الحشيش، والخمريات، والقَحْبانِيات.
أما شكري فإنه في مقابل محمد زفزاف لم يكن ليحظ بهذا الثراء الثقافي الزفزافي. ولم تكن له، تلك السلطة الثقافية، التي كان يتمتع بها نده. ولئن كان كليهما، يشترك في تقاسم، مجالس الحانة والقصص الحمراء.
فشكري، سيأتي متأخرا، من حيث الثورة الكتابية. وهو الآخر، كان قد نشر هنا وهناك، في بعض المجلات والصحف العربية، إلا أن كتابته الصّعلوكية المحتشمة، والحذرة آنذاك، لم تكن لتثير إليه الانتباه. وهو سيدخل إلى معترك الساحة، كرائد ومؤسس لهذا الوجه الإباحي، والمتعالي على أخلاقيات المجتمع، بتمرده هو الآخر، ولكن بشكل متطرف.
فشكري والخبز الحافي، بداية لسلسلة حلقات سيرذاتيّة صعلوكيّة، ذات أوجه متعددة، ومضمون واحد. وهو بهذه المناسبة، من (الخبز الحافي)، إلى (الخيمة)، ف(الوجوه)، مرورا (بمجنون الورد)، و(الشطار)، لم يضف من عبقرية صعلوكية، سوى تكرار البطل الصّعلوكي نفسه، الذي يمكننا اختزاله، وتلخيصه في (الخبز الحافي). وقاموسه اللغوي الصّعلوكي، بإمكاننا حصره في الألفاظ التالية: الإغتراب، السرقة، الاحتيال، إدمان الحشيش والخمور، بالإضافة إلى القَحْبانِيات، والسخرية، و السّحاق، واللّواطة، والقيم المبتذلة.
التجربة الصّعلوكية
لقد سقنا هذه الدراسة التحليلية، وليس في نيتنا، أن نحكم على هذا أو ذاك. لقد عرضنا، لربّما بشكل فاضح، ما يشكل ويؤسس هذا الجنس، من الأدبيات الصّعلوكية الإباحية. وسقنا بعض الشواهد التاريخية، لنربط حاضر هذا الجنس الروائي، بماضيه. ثم إننا من جهتنا، لا نرى من ضرورة، لمنع أو تحريم هذا الجنس الكتابي. بل نرى بالأحرى، دراسته والوقوف على سلبياته، كما إيجابياته، لتوظيفها في خانتها التي تليق بها. ثم العمل من بعدئذ، على معالجة تلك الظواهر الاجتماعية، التي تعمل كالسرطان، في الطبقات الدنيا من مجتمعنا. فإذا كان محمد زفزاف، قد عانى من البؤس والفقر، لغاية أنه راح يجترهما في تجربته، طوال حياته. وإذا كان في الوقت نفسه، قد شخص لنا بعض الأمراض، التي تنهش كالسوس، في شجرة مجتمعنا. فلأنه كان يسعى من خلف كتاباته، أن يوصل لنا رسالته، التي عبر عنها بأسلوبه، وطريقته الكتابية، الخاصة به.
ومحمد شكري من ناحيته، كان هو الآخر، ضحية لهذا الداء الذي تحدثنا عنه. فلا غرابة إذن، أن يكون هو بالذات، الذي قد تعرض للاغتصاب، والاعتداء، قد أراد هو الآخر، أن يبلغنا رسالته، ولكن بشكل قاس، ومبتذل، لأنه لم يكن بإمكانه، أن يستبدل طبيعته، وعما نشأت وتربت عليه، بطبيعة أخرى.
وملخص القول، من هذه الدراسة، أننا لم نلعب قط، دور المرشد أو الواعظ. بل إننا نرى، أنه لنا في هذه الأدبيات الصّعلوكية، عبرة، ولنا فيها مادة اجتماعية، قد يستفيد منها الأديب، كما قد يستفيد منها، الدّارس الإجتماعي. بل وكل مصلح اجتماعي، سواء على مستوى الأحياء الشعبية، بمحاربة الأمية، والفساد الجنسي. أو على مستوى جمعيات وخيرات محلية، لمحاربة إدمان المخدرات، والسرقات، والدعارة، وباقي العاهات، والأمراض الاجتماعية المزمنة.

قديم 05-10-2012, 12:47 PM
المشاركة 542
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
محمد زفزاف
وكيبيديا

(1942، سوق الأربعاء الغرب، المغرب - 13 يوليو سنة 2001، الدار البيظاء) قاص وروائي يعد من أشهر القاصين المغاربة على الصعيد العربي. امتهن التدريس بالتعليم الثانوي بالدار البيضاء.
وقد كرم زفزاف بعمل جائزة أدبية باسمه تمنح كل ثلاث سنوات خلال مهرجان أصيلة الثقافي الدولي بالمغرب (فاز بها السوداني الطيب صالح، 2002 م، والليبي إبراهيم الكوني 2005 م).
بعض أعماله
  • حوار في ليل متأخر: قصص، وزارة الثقافة، دمشق 1970.
  • المرأة والوردة: رواية، الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1972.
  • أرصفة وجدران: رواية، منشورات وزارة الإعلام العراقية، بغداد، 1974،
  • بيوت واطئة: قصص، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1977.
  • قبور في الماء: رواية: الدار العربية للكتاب، تونس، 1978.
  • الأقوى: قصص، اتحاد كتاب العرب، دمشق، 1978.
  • الأفعى والبحر: رواية، المطابع السريعة، الدار البيضاء، 1979.
  • الشجرة المقدسة: قصص، دار الآداب، بيروت، 1980.
  • غجر في الغابة: قصص، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982.
  • بيضة الديك: رواية، منشورات الجامعة، الدار البيضاء، 1984.
  • محاولة عيش: رواية، الدار العربية للكتاب، تونس، 1985.
  • ملك الجن: قصص، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1988.
  • ملاك أبيض: قصص، مطبوعات فصول، القاهرة، 1988.
  • الثعلب الذي يظهر ويختفي، رواية، منشورات أوراق، الدار البيضاء، 1989.
  • العربة، منشورات عكاظ، الرباط، 1993.
  • الأعمال الكاملة: المجموعات القصصية في جزئين (376 ص و352 ص)
  • الأعمال الكاملة: الروايات في جزئين (375 ص و365 ص)

قديم 05-10-2012, 12:54 PM
المشاركة 543
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
"محاولة عيش"محمد زفزاف

ولد الشاعر والقاص والروائي المغربي الكبير محمد زفزاف عام 1942م في مدينة الغرب في المغرب. كاتب له خصوصيته التي ميّزت أعماله، نشر أولى محاولاته الشعرية في الستينيات. من أبرز أعماله الروائية: "المرأة والوردة" و"بيضة الديك" و"الثعلب الذي يظهر ويختفي". ونشر عدة مجموعات قصصية من أبرزها "حوار ليل متأخر" و"بائعة الورد". كتب عن المجتمع المغربي وانتقده في أغلب أعماله التي تكاد تكون سيرا ذاتية مموهة، ترجم جل أعماله إلى عدة لغات عالمية، امتازت كتاباته بحوار ممتع مكثف ولغة سهلة وراقية. لأعماله قيمة معرفية وفكرية واجتماعية لا حدود لها، ترك مهنة التدريس وتفرغ للكتابة، عاش فقيراً ومات فقيراً مريضاً عام 2001م.
يتحدث في روايته "محاولة عيش" عن معاناة الطبقة المسحوقة في المغرب، أولئك الذين يسكنون في "البراريك" أو بيوت الصفيح قرب الميناء، منطقة تعج بالغربيين الذين أفسدوا أهلها، والفقر أفسد أهلها كذلك، منطقة بغاء وحشيش وخمور.
يسرد زفزاف في "محاولة عيش" قصة حميد الذي أجبر بسنواته الست عشرة وبسبب فقره وكسل والده وتسلط أمه على العمل بائعا للصحف. يسرد معاناته اليومية بدءا من الشتائم التي يتلقاها من صاحب شركة التوزيع، مروراً بشتائم حراس الميناء، حراس السفن الغربية الراسية على الشاطئ، والتي يحاول الصعود إليها لبيع الصحف للأجانب طمعاً في عملة صعبة أو علبة سجائر مستوردة. ولا تنتهي الشتائم والشكوك والظنون السيئة، بل تحاصره في كل مكان، يجد الملاذ أحياناً عند اليهودية صاحبة المطعم الفخم الذي تسمح له بأكل بقايا الطعام.
يتحدث عن طقوس أكل كيلو جرام واحد من اللحم في تلك الأحياء القذرة الفقيرة، طقوس تبدأ من تكرار كلمة "لحم" لإغاظة الجيران، ثم شيء يشبه الاحتفال في تلك "البراريك" ثم إهداء قطعة صغيرة من اللحم لإحدى الجارات تعبيراً عن الحب، ليعرف الجميع أن لحماً أكل هنا.
حميد قاوم الفقر والحياة بالعمل، حاول ألا يسكر، حاول ألا ينجر خلف بغي، لكن في النهاية كان ضغط الفقر والمجتمع وتأثير المنطقة أكبر من كل محاولاته التي فشلت وأصبح كأي منهم، بلا ميزة إلا أنه يعمل بجد أكثر مما حرض والدته على تزويجه. تزويجه لأنه يكسب دراهم معدودات يومياً وأصبح يملك "بركة" في الفناء وصار رجلاً بعد بلوغه الثامنة عشرة، ليتزوج وفق المراسم الشعبية المعتادة، ليتحول الاحتفال في النهاية إلى معركة بعد أن يكتشف حميد أن زوجته العرجاء لم تكن عذراء. "محاولة عيش" هي تجسيد محاولة لعيش .. محاولة تريد أن تنجح مهما كانت الظروف المحيطة وضغوط الحياة.
الرواية تقع في 111 صفحة، الطبعة الأولى عام 2004م من إصدار منشورات الجمل في ألمانيا.

قديم 05-10-2012, 02:46 PM
المشاركة 544
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
محمد زفزاف: مبدع رحل مبكرا

حمد نزال
شكلت أعمال الراحل الكبير محمد زفزاف (1942-2001) لقصة عربية / مغربية من نوعمختلف وأدب سار ضد كل تحاليل وتصنيفات الأكاديميين. أدب مبتكر، حداثي، جميل، وغارقفي تفاصيل الهم اليومي للإنسان العادي البسيط. نصوص زفزاف العالقة في الأذهان لاتنسى، فيها يصور المواطن العادي مهلل الملابس يمشي خائفا متلفتا وراءه وهو يعبرالشاعر ويتقيأ يوميا متقززا من كل شئ.

سطر محمد زفزاف عشرات الروايات وعشراتالقصص. وكان استاذا في مدرسة إعدادية قبل أن "يترقى" ليصبح أمين مكتبة التلاميذ. ولما كان طلبة اللغة يودون إنجاز رسائلهم الجامعية، لم يجدوا أدبا أحلى من ذاك الذيخطه محمد زفزاف.

حضر زفزاف من مدينة القنيطرة واستقر بالدار البيضاء ومنهاكان يبعث قصصه ومقالاته و ترجماته من عيون الأدب. عاش "بوهيميا" لا يعرف غيرالكتابة بين شقته ومقاهيه المفضلة مثل مقهى ماجستيك بحي المعاريف بالدار البيضاء.

إنه الفوضوي المنظم، كان بنظر الكثير من النقاد العرب، أحد أكبر كتابالمغرب. وظل طيلة حياته لا تستسيغه مدينة الإسمنت ولا يستسيغها. كان دائما يمثلالوجه الاخر. الصورة المتناقضة مع "ثقافة المدينة" وبريقها الخادع وأصحاب البدلاتالشيك والجهل الثقافي المطبق. كيف لا يراهم جهلة وهم من هدموا مسرح المدينة الوحيدفي الثمانينات؟

مثله مثل المبدع المغربي الراحل محمد شكري، كانا معا يجوبانالحانات يبحثان عن إجابة للمسائل الكبيرة.

يقول الكاتب العراقي فيصل عبدالحسن: "كنت أعرف ان المبدع محمد زفزاف كريم اليد ويجود بما يملكه، كان بيته ممتلأدوما بالأدباء الشباب الذين يأكلون معه في صحن واحد ويدخنون من علبة سجائره ويشربونمعه بذات القدح.. لكنه، بسبب افتقاره الي مورد مال ثابت كان لا يستطيع في بعضالأحيان حتي شراء الجريدة."

زفزاف، الذي لم يحظى بأية جائزة أدبية وطنية فيبلاده. يعكس حالة معروفة تماما في الأدب العربي بشكل عام. فالثقافة واجهة للسياسةوساحة لها أيضا. وليس ثمة رابط حقيقي بين الإبداع والشهرة.

يفسر الشاعرالعراقي الكبير سعدي يوسف قلة الإهتمام بزفزاف ويرجعها إلى سببين: الأول أن أعمالزفزاف العفوية الصادقة تحترم جمهورها وتعنى بقضاياه ولا تقدمها كما يشتهي الآخر،والثاني: أن زفزاف لم يكتب بلغة أجنبية.
من بين كتّاب القصة المغاربة، ظل محمد زفزاف الأكثر نصَباَ ازاء الفن، يحزم أمره، ويأخذ نفسه بالشدة.

ومن بين كتاب القصة المغاربة، ظل محمد زفزاف الأكثر وفاء لمسحوقي شعبه، حريصا الحرص كله على ان يظل هذا الوفاء متألقاً واضحاً عبر الفن، لا عبر البيان الصحافي او السياسي.

يقول سعدي يوسف في رثاء زفزاف: تشبّثه بالحرية، حرية الفنان والمواطن، أورده شظف العيش، بل المقاطعة والعزلة أحيانا. وبينما كانت النُّهزة سبيلاً الى الرفاهة كانت الشدة لدى محمد سبيله الى قامة الفنان الفارعة.

لقد كان الأدب المغربي بحاجة الي مسيح، يعذبه الفقر والمرض، ويموت بدلا عن جميع الكتاب والأدباء المغاربة، ويتحمل بموته عذاباتهم وغربتهم وقلة حيلتهم ازاء واقع متغير لا يرحم أحدا.

لقد خسر الأدب العربي محمد زفزاف مبكرا وربما ربح العرب والمغاربة "اسطورة أدبية"، كما فعل العراقيون حين ربحوا بموت السياب المفجع نموذجهم الأدبي الخاص بهم.

قديم 05-10-2012, 02:48 PM
المشاركة 545
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الروائي المغربي محمد زفزاف ـ ثعلب النوم والنبيذ والموت

حمزة الحسن
المصدر الحوار المتمدن. 2003 / 7 / 27

( محمد زفزاف صريح إلى درجة الإحراج،
صادق إلى درجة الفضح،
وأنه رجل المبدأ إلى درجة التهور).
* الكاتب المغربي أحمد زيادي*

قد يكون الروائي محمد زفزاف من بين روائيين عرب قلائل من الذين استطاعوا أن يخفوا بمهارة وحرفية عالية صوت الراوي أو الحاكي ويدمجه في ثنايا النص كلغز حتى يصعب التفريق ـ ولا يستحيل ـ بين صوت السارد من صوت المؤلف في عفوية مدهشة مصنوعة بحس عفوي يحاول إعادة بناء كل شيء ببراءة نصية تقترب لتلقائيتها من الجمال غير المدرك لنفسه، مثل جمال البراري والنجوم والينابيع الصافية العذبة.
ومع أن هذا الروائي الذي يظهر ويختفي( عنوان رواية رائعة لمحمد زفزاف هو: الثعلب الذي يظهر ويختفي) لم يكتب نصا صريحا تحت عنوان سيرة ذاتية أو سيرة روائية ذاتية، غير أن جميع رواياته هي نصوص سيروية رغم أن عقد القراءة الأولي بينه وبين القراء يشير دائما على الغلاف باسم رواية وليس سيرة روائية ذاتية، وهذه اللعبة الروائية شائعة على يد كبار كتاب الرواية في العالم.
فمن المرأة والوردة إلى الحي الخلفي إلى بيضة الديك ومحاولة عيش وحتى قبور في الماء أو الأفعى والبحر أو الثعلب الذي يظهر ويختفي، هناك دائما، تحت طبقات الخطاب الروائي المخفي بعناية، أو النص الصريح، جزء من سيرة هذا الروائي المبدع.
وقد تكون روايته( الثعلب الذي يظهر ويختفي) تلخيصا مركزا للخطاب الروائي الزفزافي وهو خطاب يحاول فيه الكاتب تجنب فخاخ الكلام السياسي الفخم الذي يثقل النص، والاعتماد على السرد الحكائي القصصي المشذب والبعيد عن كلام الآيديولوجيا التي دمغت نصوص الأدب الروائي العربي لفترة طويلة.
لا يمكن طبعا عزل أعمال محمد زفزاف عن تاريخ الرواية المغربية وهي رواية نشأت بين حضنين ترك كل واحد منهما فيها أثرا خاصا: الحضن العربي، والحضن الحداثي الغربي، وتحديدا الفرنسي، والروائي محمد شكري هو أول أمطار الرواية المغربية الحداثية التي تأثرت بالغيم القادم عبر البحر، مع الطاهر بن جلون.
إن صفات الوصف السردي غير المنتظم وتكسير الأزمنة والشخصيات الضبابية غير المحددة المعالم( في عالم ضبابي يضيع فيه الفرد) والكشف الجريء عن المخبوء والمسكوت عنه والتعرية والفضح، والرواية التشردية، والبحث عن معنى، والتمرد، وتفكيك البنية الاجتماعية، والرفض أو العصيان على التقاليد الادبية والاجتماعية، والتركيز على اللغة كمكون روائي عضوي، والبوح، والصدمة، والفرادة، والعلنية، والجسد، واللعب المدروس خلال الحكي، وهو شرط جوهري في الرواية الجديدة، كل ذلك شكل أبرز ملامح هذه الرواية رغم أنه جاء في نصوص كثيرة من خارجها أو ملصوقا عليها وهذه طبيعة أي تقليد لحداثة مجلوبة لا تنبع من شروطها التاريخية والنفسية كالحداثة الروائية في أمريكا اللاتينية، علي يد غابريل ماركيز مثلا، وأنخيغل اوستاريس مؤلف رواية( السيد الرئيس) أو ماريو فارغاس يوسو مؤلف رواية (حفلة التيس) وكلهم حصلوا على جائزة نوبل وتركوا أثرا في الحداثة الروائية العالمية بما في ذلك الاوروبية دون الوقوع تحت سطوة الرواية الغربية.
والرواية المغربية تبحث عن حداثتها هي الأخرى، وهذه الحداثة موضع جدل مثمر وطويل. وحسب كتاب مغاربة، كتبوا عن الحداثة الروائية بصورة عامة والحداثة المغربية خاصة، تختلف الإجابة من كاتب لآخر، وهذه إجابات بعضهم عن سؤال الحداثة في الرواية كما جاءت في كتاب ( سؤال الحداثة) لعبد الرحيم العلام:
ـ بول بوز( روائي أمريكي عاش ومات في طنجة) أول من أدخل الحداثة في الرواية المغربية ـ شهادة ليلى أبو زيد.
ـ حداثة الرواية ملتصقة بالنسغ الجواني الذي يتيح للذات( في جميع تجلياتها) أن تجابه" الآخر" المتعدد الوجوه ـ شهادة الروائي والناقد محمد برادة.
ـ الحداثة في الرواية تفترض تحررا في التفكير والتخييل واللغة، وفي أساليب التعبير وأشكالها ـ شهادة أحمد بو حسن.

ـ نستطيع أن نقول إن الرواية المغربية بدأت تدخل موجة الحداثة وتعثر على أشكالها الأصلية والمتميزة والمنفصلة، بشكل حيوي، عن الرواية المشرقية وعن الرواية الغربية ـ شهادة الروائي إدريس بلمليح.
ـ منطق الحداثة، يقتضي أن يكون الكاتب مخالفا للآخرين صادما لهم إن اقتضى الحال، ومتميزا عنهم ـ ياسين بهوش.
ـ لا يمكن للحداثة أن تصبح سوى مهاترة وادعاء فارغين من المعنى إذا ظل الروائي يضيف الكم إلى تجربته من عمل لآخر، ولا يضيف التحولات النوعية من عمل لآخر ـ الروائي عز الدين التازي.
ـ الأدب المغربي لم يكتب بعد روايته الكلاسيكية لكي يستسلم لترف الإغراق في التجريب ـ عبد الكريم جويطي.
ـ الحداثة ليست ما يقوم وينحصر في الزمن المعاصر وحده، بل هي أيضا محاصيل التألقات والاشرقات الإبداعية العابرة للأزمنة والأمكنة ـ الروائي سالم بن حميش.
ـ الحداثة تعني تجديد الهوية لا تغييرها بالكامل ـ حميد الحميداني.
ـ الرواية المغربية، كغيرها، تتوهم الحداثة، إنها رواية بدون حداثة ـ محمد الدغمومي.
ـ في مناخ تنتفي فيه شروط الرؤية والحداثة معا، يظل أي حديث ـ إطلاقي ـ عن هاتين الاثنتين( الرؤية والحداثة) أقرب إلى العبث ـ الحبيب الدائم ربي.
ـ كيف نتحدث عن الحداثة في الرواية المغربية وهي في طور النشأة؟. ـ الروائي محمد زفزاف.
ـ الحداثة في الرواية المغربية مشروع مؤجل، لكن بوادره منبثة في الكثير من النصوص ـ الروائي إدريس الصغير.
ـ يمكن الإقرار بشيء اسمه الحداثة في روايتنا" المغربية" إذا كان المقصود بالحداثة هاجس التجديد والتطور ـ الروائي محمد صوف.
ـ الحداثة ليست شكلا يراود عن نفسه، وإنما هي أفق لخلخلة الوعي القائم واقتراح رؤية متسائلة ـ بشير القمري.
ـ كل رواية تؤسس حداثتها الخاصة التي هي نقيض كل تقليد أو محاكاة وضد استلهام أي نموذج أو مثال سابق ـ عبد الكريم امجاهد.
ـ كلما تحققت" السردية" كلما وجدنا أنفسنا أمام رواية حداثية ـ الناقد سعيد يقطين.
ـ أهم ملمح حداثي في الرواية المغربية هو نزوعها إلى التجريب. الكتابة السردية. فقد تم تكسير الأنماط السردية التقليدية القائمة على البطل العارف بكل شيء واللغة المرصوصة التي توزع على مختلف الشخوص بشكل قسري. أصوات متعددة. الانفتاح على فضاءات جديدة كالبادية مثلا ـ شهادة الكاتب أحمد بو حسن.

وهذه القراءات المتعددة والمختلفة والمتناقضة تعكس مناخ القلق الإبداعي في فضاء الرواية المغربية وهي ظاهرة صحية لا مثيل لها مع الأسف في المناخ العراقي، في الخارج على الأقل حسب مناخ الحرية المفترض، فهذا التنوع والاختلاف هو الذي يخلق ويؤسس تقاليده الثقافية التي لا يدخل فيها العامل "السياسي" كعنصر تحيز، سلبا أم إيجابا، كما هو الأمر في وضعية النقد العراقي الذي لا يخضع لشروط الثقافة والسؤال الإبداعي، بل هو رهين وأسير السياسة بصورتها الفجة.
وهنا تحضرني حادثة واقعية سوداء وكثيفة تعكس غياب كل أخلاقيات النقد عند بعض المشتغلين في النقد الروائي العراقي حين اتصل رئيس تحرير صحيفة عراقية في لندن بناقد عراقي في هولندة يطلب منه كتابة مقالة عن الشاعر والروائي سليم بركات عبر الهاتف، فكان رد الناقد كالتالي:
ـ كيف تريد المقال؟ سلبي أم إيجابي؟!
هذا السلوك يهدم كل بناء نقدي قائم على معايير أخلاقية علمية نقدية تشتغل على النصوص وحدها دون أي شيء آخر. لكن، وقطعا، لا يمكن عزل هذه الحادثة عن المناخ العام الذي ينهار فيه كل شيء علنا في وضح النهار، لكن أحدا لا يشم رائحة التفسخ.

في الطريق إلى شقة الروائي المغربي محمد صوف قبل ثلاث سنوات في الدار البيضاء، وفي صيف بحري حار، لكنه يختلف عن صيف بغداد المهلك، فوجئت وأنا أصعد الدرج الحلزوني المظلم والملتوي أن أناسا يصعدون ويهبطون في العتمة الباردة، كانوا ينبثقون من الظلام، أو ينبعون من الجدران، كشخوص ناتالي ساروت، ويختفون في النهار المفتوح اسفل السلم، ويضيعون في دروب الدارالبيضاء، مدينة الأشجان البيضاء بتعبير الشاعر عبد اللطيف اللعبي.
خطر إلي وأنا اصعد أن هذا السلم لا نهاية له وأني إذ واصلت الصعود فسأصل إلى إحدى السماوات أو أدخل بارا أو مركزا للشرطة أو وكرا للصوص، ثم فجأة بزغ في الذهن خيال، أو شبح، محمد زفزاف، بلحيته الصغيرة، وهو ينزل السلم بأسماله المرتبة، وشكله الديستوفسيكي بالخدود الغائرة التي تشبه صخورا رمادية ناتئة من قلب عشب بري متوهج.
لا يمكن عزل زفزاف الروائي والإنسان عن هذه المدينة، ولا يمكن قراءة أدبه خارجها، فهذه المدينة بكل ما فيها من بشر وأمكنة وروائح وتيه وضياع وأمل وخوف وجمال هي صورته السرية، هي متاهته الشخصية مثل أية متاهة أخرى، كمتاهات بورخيس، أو متاهات امبرتو ايكو، أو بصرياثا محمد خضير، فكل كاتب يصنع متاهته الخاصة بنفسه.
إنها مدينة، نص، ينتفح، وينغلق، على الروائي، وهذا التقلب هو سر الحنين الدائم في الهرب منها والعودة إليها من هذا القنيطري ( نسبة إلى بلدة القنيطرة المغربية التي ولد فيها زفزاف) ثم دخل في غرام البيضاء حتى يوم حفل التكريم الذي قال عنه ضاحكا( هذا حفل تكريم أم حفل تأبين؟!)لأن العرب لا يكرمون كتابهم إلا بعد قراءة آخر تقرير طبي يشير إلى الحالة الميئوس منها، أو بقايا الفقيد، وعندها تبدأ حالات تبرئة الذمة وحفل الزور.
هذه هي عادة زفزاف في كونه يضفي على الواقعي شكلا أسطوريا، أو يحول العادي إلى حكائي، سواء في الهامش النصي، أو في المتن، أو في الحقيقة.
إن مقاهي الدار البيضاء مثل مقهى لاكوميدي، المسرح البلدي، مقهى الكابتول، أو مقهى ميشيل، مدام غيران، ميرسلطان، مقهى الرونيسانس، أو الزنقات التي عاش فيها مثل زنقة البريني، أو زنقة ليستريل، أو زنقة الجبل الأبيض، والمطاعم التي كان يرتدها( هو غير محب للطعام) مثل مطعم التيرمينوس، كلها ستكون في نصوصه الروائية أمكنة أخرى مع الشخوص والروائح، رائحة الناس، أو رائحة النبيذ، أو رائحة الزمن الذي يمر على رصيف الأزهار السري حيث الخطى المتسارعة لأقدام الزمن.

وعودة إلى سلم منزل الروائي محمد صوف الشبيه بسلالم كافكا ( ضحك صوف كثيرا لهذا الوصف حين عثرت عليه في المقهى) فإن روايات زفزاف مشبعة بهذه الأجواء البيضاوية( نسبة إلى المدينة) حيث البحث عن مأوى وسرير وكأس نبيذ هي الخاتمة أو اللازمة التي تتكرر في جميع روايات هذا الروائي الكبير ولا أدري كيف حصل ذلك وهل كان واعيا به أول الأمر أم لا وحتى اليوم الأخير؟

هذا الهاجس الثلاثي( السرير والنبيذ والمأوى) هو هاجس شخصي قبل أن يكون روائيا، أي أن نصوص الروائي هنا تأخذ تطابقها( التطابق هنا ليس التناسخ بل التشابه وهذا افتراق عن الأصل) من التجربة الحية للروائي، وهذا هو هاجس السرية الذاتية الروائية.
أدناه نهايات سبع من روايات محمد زفزاف تبين بوضوح أن هذا الروائي المنهك بأعباء كثيرة كان يستعجل، يستعجل تماما، الوصول إلى الغرفة أو المدينة التي فارقها، أو السرير أو الدخول إلى بار أو كأس أو الأمل بالعثور على مكان دافئ نظيف حسن الإضاءة بتعبير أرنست همنغواي.

* رواية( أرصفة وجدران).
الخاتمة:
( في الشارع كان يتوه وحده. في اتجاه غير معين. يداه في جيوبه. وهو يفكر في أشياء..).
*رواية( قبور في الماء).
الخاتمة:
( وسمع نباح كلب بعيد، وشيء شبيه بمحرك سيارة قديم، لكن هذا الصوت نفسه اختفى. ثم ارتفع شخير عال، وارتفع شخير آخر بالقرب منه).
*رواية( الأفعى والبحر).
الخاتمة:
( كان أمامها آدم عملاقا.. ذا عضلات يدخل في الماء. يضرب الأمواج بذراعيه القويتين. يغطس. ثم أخذت الصور تتبدل. تتغير. تتلاشى. وذهبت سوسو في نوم عميق).
*رواية( بيضة الديك).
الخاتمة:
( شرب جرعة من الكأس. شعر بنشوة عارمة تغزو خلايا مخه. كانت الزجاجة قد فرغت.غمر البار ضوء..).
* رواية( أفواه واسعة).
الخاتمة:
( قطع الطريق إلى الرصيف المقابل باتجاه الحانة لكي يشرب قنينة نبيذ صغيرة كالعادة...).
*رواية( الثعلب الذي يظهر ويختفي)
الخاتمة:
( مددت يدي إلى كيس التبن، وناولني الرجل كأسا غير نظيفة. وقلت في نفسي" متى اصل إلى بيتي كي أستريح؟").
* رواية( محاولة عيش).
الخاتمة:
( تصور الزجاجات المليئة، وأنصاف الزجاجات، ثم ضغط على الدواسين بقوة لكي يسرع، سوف يشرب، ويشرب، وسوف ينام نوما عميقا في تلك الغرفة).
آخر مرة نام فيها محمد زفزاف نوما عميقا جدا، مثل ثعلبه الجميل، والمدهش، لكنه هذه المرة لم يستيقظ رغم مرور كل هذا الوقت الذي لا يصلح لمزحة ثقيلة كالموت( هل كان هو الذي يصعد سلالم شقة الروائي محمد صوف في تلك العتمة الباردة؟ أم أنه الشبح أو الظل؟).
هرب، هذه المرة، إلى البنفسج، والأزرق المعتم، لكنه سيظهر يوما في الحكاية الجديدة كنهر القنيطرة سبو!
ــــــــــــــــــــ
* بسبب الكتابة اليومية تقع أخطاء مطبعية أو لغوية أحيانا، وهذه واحدة من متاعب الكتابة المستمرة.

قديم 05-10-2012, 02:51 PM
المشاركة 546
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
من يعيش حياة بوهيمية مثل صاحبنا هنا لا بد ان يكون يتيم او على الاقل يتيم اجتماعي وان لم يكن فهو مأزوم حتما.

نظرا لعدم توفر تفاصيل عن طفولته وفي ضوء حياة الفقر البوهيمية التي عاشاها سوف نعتبره يتيم اجتماعي.

يتيم اجتماعي

قديم 05-11-2012, 02:50 PM
المشاركة 547
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
75- ألف عام وعام من الحنين رشيد بوجدرة الجزائر

ألف وعام من الحنين : رواية الجزائري رشيد بو جدرة
رواية: ألف وعام من الحنين
تأليف: رشيد بو جدرة
في رواية ألف عام وعام من الحنين يلتحم الخيال بالواقع التحاما قويا الى درجة أنك لا تستطيع الفصل بينهما، بل تظهر كل محاولة للفصل بينهما مجرد عبث سيؤدي الى فراغ الرواية من محتواها. في هذه الرواية، يتصارع الممكن والمستحيل على حد سواء. الواقع في الرواية خيال والخيال واقع.
إن بو جدرة يحلل التاريخ رابطاً الماضي بالحاضر من خلال ما جرى في التاريخ الإسلامي عبر (مملوكيته) وما يجري فيه حاليا عبر المملوكية (المتطورة في أشكال جديدة)، من هنا، كانت أهمية الرواية التنبؤية الداعية الى تأمل التاريخ، مرآة أية حضارة تطمح الى تجديد مجدها.

الروائي رشيد بوجدرة طرح اسمه لأكثـر من مرة للفوز بجائزة غونكور للأدب الفرانكفوني، وحتى جائزة نوبل للآداب.
وقد فاز بجائزة المكتبيين الجزائريين عن روايته الأخيرة ”نزل سان جورج”، ومن سخرية الأقدار أن الكاتب صاحب الشهرة العالمية الذي فرح بالجائزة اعتبرها أول تكريم له في بلده·
رشيد بوجدرة كاتب وروائي وشاعر جزائري ولد في 5 سبتمبر سنة 1941 م بمدينة عين البيضاء. اشتغل بالتعليم، وتقلد عدة مناصب منها، مستشار بوزارة الثقافة، أمين عام لرابطة حقوق الإنسان، أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين.

مؤلفاته الروائية
الحلزون العنيد
الإنكار
القروي
العسس
الإرثة
ضربة جزاء
التطليق
التفكك
ليليات امرأة آرق
ألف وعام من الحنين
الحياة في المكان
تيميمون
ورواية ألف وعام من الحنين اختارها اتحاد الكتاب العرب ضمن قامئة أفضل مئة رواية عربية في تاريخ الأدب العربي.. رغم أن كاتبها كتبها باللغة الفرنسية!! وقد ترجمها إلى اللغة العربية الأديب ( مرزاق بقطاش).
والنسخة المنشورة هنا هي الطبعة الثانية عام 1984 لاموسسة الوطنية للكتاب بالجزائر.
وقد عانيت في تصويرها بسبب الحجم الصغير للكتاب وقلة الهوامش فيه.. ولم أتمكن من تنظيف كامل الصفحات. لذلك إذا وجدتم نسخة أفضل يرجى تزويدنا بها.
حمل الكتاب من هنا >>
http://www.4shared.com/file/11408969...ra_______.html

قديم 05-11-2012, 03:01 PM
المشاركة 548
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رشيد بوجدرة: كتبت بالفرنسية لأصبح معروفاً
الخميس, 11 يونيو 2009

الجزائر - عصام أبو القاسم
لا أحد، من المشتغلين بالكتابة الأدبية، يمر بالجزائر ولا يسأل عن رشيد بوجدرة، وأحلام مستغانمي... وعن الطاهر وطار الذي يرقد في مستشفى في فرنسا خاضعاً لعلاج. أما أحلام مستغانمي، فإن لم تكن في مدينة قسنطينة البعيدة من العاصمة فهي في بيروت، وفي كل حال يصعب الوصول اليها، كما قال لي صديقي الناقد الجزائري عبدالناصر خلاف. لكنني التقيت أخيراً صاحب «ألف عام وعام من الحنين» الروائي رشيد بوجدرة، في مقهى وسط العاصمة التي كانت أنهت للتوّ احتفالها بالقدس «عاصمة أبدية للثقافة العربية» لتنتقل الى احتفالها بأفريقيا «ارض الحضارات الأولى». الروائي الفائز بجائزة المكتبيين الجزائريين عن روايته «نزل سان جورج» بدا نشطاً وحيوياً وفق إيقاع أعماله الروائية التي بلغت العشرين عملاً روائياً في اللغتين العربية والفرنسية، ومتابعاً لما ينشر من أعمال سردية حتى على مستوى منتديات الحوار على شبكة الانترنت.

قدم رشيد بوجدرة الكثير من الأعمال الروائية، أبرزها: «الحلزون العنيد»، «الإنكار»، «التطليق»، «التفكك»، «تيميمون» وسواها. وقد بدأنا معه بالسؤال التقليدي الذي يطرحه عادة المشرقيون على المغربيين: «هل فرنسا هي صاحبة الفضل في ذيوع الاسماء الابداعية المغاربية؟». فأجاب: «هذا صحيح، لولا فرنسا لما عرفنا العرب، شخصياً بدأت الكتابة في فرنسا ومن بعد صرت معروفاً في الجزائر، ثم صرت معروفاً لدى العرب. كان عليّ اذاً أن أكتب في باريس لأصبح مشهوراً. المعيار الغربي هو الأساس، بل هو أساسي، فالمثقف العربي حينما يسمع ان كاتب ياسين والطاهر وطار ورشيد بوجدرة لهم حضورهم في المشهد الأدبي الغربي يسرع لقراءتهم... هذا هو الحال، والغرب يعرف الرواية قبلنا وله تقاليده ومعاييره. وعموماً لو لم نكن في الغرب لما كتبنا بهذه الجرأة. وبالنسبة إلي انه أمر في غاية الاستحالة ان انشر مثلاً رواية «التطليق» لدى أي ناشر عربي. الكتابة في الغرب جعلتنا نخلخل البنى الاجتماعية ونكسر التابوات. لم نر مثيلاً لنا في كتّاب المشرق العربي؛ فليس من بينهم من وظّف الجنس بطريقتنا، بالكيفية التي تتجلى في أعمالنا».

> ولكن، الآن هناك أصوات شابة تقدم الكثير في هذا المضمار؟ ـ صحيح، فأنا بدأت الكتابة في 1963، والآن تطور المجتمع والسلطة السياسية صارت ذكية، سقف الحريات أعلى ولكن للمزيد من التقييد. يقال لك دعه يكتب كما يشاء، لكن كل شيء تحت السيطرة.

> يقال إنكم اشتهرتم في إظهاركم عيوب العرب أمام الغربيين؟ـ نحن لم نرد ذلك، أردنا ان نظهر عيوبنا لأنفسنا، لكن الغرب استغل ذلك، نحن كتبنا بقصد النقد الذاتي، وقد استمتع القارئ العربي بذلك وبيعت أعمالنا في القاهرة والكويت بنسب كبيرة. روايتي «ألف عام وعام من الحنين» طبعت مرات عدة بخاصة هنا في الجزائر، وهذا يعني انها أعجبت القارئ العربي.

> يرى بعضهم انك تأثرت بماركيز في رواية «ألف عام وعام من الحنين»؟
- ليس صحيحاً، أعدائي من الجزائريين أشاعوا ذلك في وقت سابق، لكن روايتي هي قراءة مركزة للتاريخ العربي القديم. وفي المناسبة، «الواقعية السحرية» التي يقال ان ماركيز وكتّاب أميركا اللاتينية هم الذين أسسوها، بدأت عندنا لدى الحريري، في «المقامات» وفي «ألف ليلة وليلة». وماركيز ربما لا يعرف هذا العمل... الذي كتب قبل «الواقعية السحرية». بعض الجزائريين «المتفرنسين» أشاعوا مسألة تأثري بماركيز، لكن ما قدمته كان مختلفاً ونحن ككتاب مغاربة انفتحنا على التراث العربي. وفي مسألة التقنية، فإن تقنية الكتابة الحداثية هي تقنية «ألف ليلة وليلة». كل الكتّاب الغربيين في فرنسا وبريطانيا اعترفوا بذلك. علي اي حال من هو ماركيز قياساً الى «ألف ليلة»؟
وللحقيقة روايتي «ألف عام وعام من الحنين» هي الأعمق، فيما «مئة عام من العزلة» لوحات ممازحة وكاريكاتورية تفتقر الى العمق.

> أيهما اكثر تعبيراً أدبياً، اللغة العربية أم الفرنسية؟ وهل تعتقد ان كتابتك بالفرنسية ساعدت في جماليات أعمالك؟

- اللغة العربية هي الأفضل لكتابة الرواية بالطبع. عندما كتبت بالفرنسية لم أتجاوز نسبة محدودة من الصفحات. وفي العربية كتبت رواية بلغت ألف صفحة. والكتابة باللغة العربية تتيح لي استخدام العامية، وهي توسع الفضاء أمامي، وقد درست الفلسفة والرياضيات ولدي منظور هندسي، لذا تمكنني اللغة العربية أكثر في التعبير، لكن الرواية في العالم العربي لا توزع أكثر من ألف نسخة، وفي الغرب تصل الى 27 ألف نسخة، وتلك هي المفارقة!

> الرواية هل هي وثيقة تاريخية أم تجربة فنية محضة في رأيك؟

- الرواية تجب قراءتها على أساس جمالي، يمكننا توظيف التاريخ ولكن ليظهر كعمل تخييلي لا كوثيقة. وبعض الأعمال الرديئة تعجز عن خلق هذا الفرق فلا تجد فيها المادة التاريخية الأمينة ولا التجربة الفنية الفعلية!

> هل هو زمن الرواية في العالم العربي؟ وكيف تنظر الى الأجيال الحديثة؟
- الرواية حديثة الولادة في المجتمع العربي لكنها صارت تتقدم متجاوزة الشعر. حتى الشعر اصبح نثراً لأن هناك علاقة بين الفن والبنى الاجتماعية. الرواية فن مديني والشعر فن الريف وهو ديوان العرب لأن المجتمع العربي يتقدم وتحصل تغييرات في بنيته، لذلك يتقدم الفن الروائي الى صدارة المشهد. وتظهر أسماء جديدة أكثر جرأة وحدّة. بخصوص الكتابة الجديدة في الانترنت أظنها «موضة» ستذهب سريعاً، والمستقبل لمن يكتب في الورق!

> كيف تنظر الى اسم الطيب صالح في المشهد الروائي العربي؟

- الطيب صالح هو الذي أتى بالشرخ الأول. هو الذي ادخل الرواية العربية الى نطاق الحداثة، لكن مشكلة الطيب صالح انه اتجه الى الإدارة بدلاً من الرواية. كتب رواية واحدة هي «موسم الهجرة الى الشمال». وفي أعماله الأخرى تقهقر وعاد الى الأجواء الريفية في «عرس الزين» التي هي قصة طويلة و «بندر شاه». صحيح ان الريف موجود في «موسم الهجرة» لكنه صار أساساً في أعماله الأخرى.
صحيفة الحياة اللندنية

قديم 05-11-2012, 03:15 PM
المشاركة 549
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في روائيّة رشيد بو جدرة

٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧بقلم كمال الرياحي

تسعى هذه الدراسة إلى تسليط بعض الضوء على واحدة من أهم التجارب الروائية في المغرب العربي يمثّلها الروائي رشيد بو جدرة الذي غادر منذ الثمانينات “ فم الذئب” ليحبّر نصوصه باللغة العربية بعد أن أنجز مدونة روائية بلغة ديكارت جعلته في مصاف كبار الروائيين في الغرب وواحدا من أهم ممثلي تيار الرواية الجديدة في فرنسا إلى جانب كلود سيمون و ألان روب غريي و ناتالي ساروت ,غير أن نداء الهويّة جعله يغادر لغة فلوبار ليعود إلى لغته الأم و يقدّم مدوّنة جديدة بلغة الضاد أثبت بها أنّه متميّز دائما فأثرى بنصوصه المكتبة الروائية العربية بسرد مختلف ورؤى جديدة ,تحاول هذه الدراسة التعريف بهذا الروائي و تحسّس الأسباب التي جعلته يعود إلى العربية كما تسعى إلى تحسّس بعض ألاعيب السرد الروائي التي أمّنت لنصوصه حداثتها .
رشيد بوجدرة روائيّا أو “عودة الابن الضّال”
يمثّل رشيد بوجدرة[1] حالة وجودية استثنائية بين الكتّاب العرب الذين مارسوا الكتابة بغير العربية، فقد انطلق الرجل في الكتابة بالفرنسية ليُعرف كاتبا فرونكفونيا إلى جانب محمد ديب ومالك حداد وليلى صبّار وآسيا جبّار فأصدر روايته التطليق (1969) والإنكار (1972) ثم الحلزون العنيد (1977) وألف وعام من الحنين (1979) والفائز بالكأس (1979). وبعد هذه المسيرة التي كرّسته كاتبا باللغة الفرنسية يرتدّ رشيد بوجدرة عن الفرنسية ويهجر متلقيه ليجترح سنة 1982 أوّل رواية باللغة العربية فكّك بها صلته الإبداعية بلغة فلوبار وفولتار ووسمها ب”التفكّك” ليبدأ رحلة إبداعية جديدة لا يعمل ماذا ينتظره على جنباتها. وبالفعل تعرّض بوجدرة إلى هجوم مزدوج ممّن طلّقهم، قرّاء ونقّادا فرنسيين وممن عاد إليهم قرّاء ونقّادا عربا. ويكفي أن نذكّر بما ورد في مجلة الوسط (العدد 85) بتاريخ 13/09/1993 على لسان حموش أبو بكر في مقاله : تجربة الكتابة باللغة الفرنسية. “رشيد بوجدرة، تحوّل إلى الكتابة باللغة العربية ونجح في الإبداع بها، غير عابئ بالضجّة السياسية التي أحاطت بقرار تخليه عن الكتابة باللغة الفرنسية. ويقال أن الأمر وصل بجريدة “لومند” الفرنسية إلى حدّ ردّ نسخ من روايات بوجدرة الجديدة. كانت أرسلت لها من قبل الناشر الفرنسي “دونوال” الذي قام بنشرها مترجمة عن العربية. ويبدو أن محرّر “لوموند” أرفق النسخ المترجمة برسالة إلى الناشر مفادها أنه لا جدوى من إرسال مثل هذه الروايات إلى الجريدة إذ أنها لن تكتب عن أي عمل لرشيد بوجدرة بعد تخلّيه – على حد تعبيرها – عن لغة ومنطق ديكارت “.[2] ولكن بوجدرة سرعان ما عبر مأزق الامتحان لتسّاقط من قلمه روايات أخر بلغة الضاد تثبت أنّ رواية “التفكّك” لم تكن بيضة الديك ولا هي نزوة إبداعية إنّما هي نقطة تحوّل كلّي في تجربة المبدع، فكانت روايات المرث (1984) وليليات امرأة آراق (1985) ومعركة الزقاق (1986) ثم جاءت مرحلة الصمت التي تزامنت مع اشتعال فتيل المحنة ليعود الرّجل إلى الكتابة ويكسر جدار الصمت في بداية التسعينات بنصّين روائيين يحملان بصمات المحنة وروائح سنوات الجمر وهما فوضى الأشياء (1990) وتيميمون (1994).
لماذا عاد بوجدرة إلى اللّغة العربيّة ؟
يردّ الكاتب نفسه على هذا السؤال قائلا : ” عُدت للعربية بالغريزة، كنت منذ عام 1969، عندما بدأت الكتابة بالفرنسية أشعر بعقدة ذنب وحنين للعربية، وكانت علاقة عشق بالمعنى التصوّفي باللغة العربية، وكان انتقالي للعربية ناتجا عن ضغوط نفسية […] كنت عندما أكتب بالفرنسية أعيش نوعا من العصاب بسبب عدم الكتابة بالعربية، في بعض الأحيان كنت تحت وطأة كوابيس أراني فيها فقدت النطق بالعربية أمام جمع حاشد “.[3] وأقرّ بوجدرة بقصور اللغة الفرنسية على نقل أفكاره ومواضيعه المتعلّقة أساسا بالإنسان الجزائري العربي المسلم، وأبدى الكاتب ارتياحه للعودة إلى العربية التي مكّنته من الرقص على درجات سلّمها فاستخدم “اللغة الشعبية واللغة السوقية” يقول ” هناك شيء يسمّى اللغة العربية بقاموسها العظيم الزخم، كما هناك أيضا اللغة الشعبية وأقول في أحيان كثيرة اللغات الشعبية. فقد استعملت “الشاوية” مثلا في بعض الروايات من خلال منولوجات أو حوار [إن] إدخال اللغات الشعبية في الكتابة الغربية يعطي العمل الأدبي نوعا من الزخرفة والزخامة والقوة للنص العربي أكثر مما يعطيه للنص الفرنسي “.[4] وفي حوار آخر يرى بوجدرة أنّ المستقبل للرّواية العربية المكتوبة بالعربية : “المستقبل بالفعل للرّواية الجديدة المكتوبة باللغة العربية “[5] وأن لا مستقبل للكتابة الروائية العربية باللغة الفرنسية.
يمكننا أن نخلص من خلال هذه الآراء إلى أنّ عودة رشيد بوجدرة إلى اللغة العربية لها أسبابا عميقة وذاتية وأخرى موضوعيّة فهو يعيش في اغتراب لغوي، إنه يعيش خارج بيته ومسكنه أليست اللغة مسكن الكائن البشري ؟!
وهذا ما جعله يفقد الإحساس بالأمان، مما ولّد عنده كوابيس تدور حول حادثة فقدان النطق بالعربية، وهذه الحادثة الذاتية النفسية يمكن فهمها في سياق أكبر، وهو علاقة اللغة بالهويّة. يبدو أن رشيد بوجدرة أصبح يشعر أنه مهدّد في هويّته العربية نتيجة استمرار حالة الاغتراب اللغوي، وهذا ما عجّل عودته إلى العربية ويذكّرنا هذا بعبارة مالك حدّاد الشهيرة “اللغة الفرنسية سجني ومنفاي “.
أمّا الدافع الموضوعي للعودة فهو ارتباط مناخات الكتابة عنده بالفضاء والإنسان العربيين، واللغة الأجنبية لا يمكن أن تنقل خصوصيّة المناخ العربي وتفكير الإنسان الجزائري نقلا أمينا. كان رشيد بوجدرة يفكر بالعربية ويكتب بالفرنسية وفي تلك الرحلة بين لغة التفكير ولغة الكتابة تسقط أشياء كثيرة وأحيانا يسقط عمق الفكرة، فالأمر أشبه ما يكون برحلة النص بين لغتين من خلال الترجمة، فالترجمة ستظلّ خيانة للنص أبدا. وبعودة رشيد بوجدرة إلى العربية تطابقت لغة الفكر مع لغة الكتابة وسقطت رحلة الاغتراب.
يتقاطع هذا السبب الموضوعي لعودة بوجدرة إلى العربية مع الأسئلة المصيرية التي طرحها محمد ديب ذات يوم على نفسه وعلى زملائه: “هل يمكن للإنسان أن يتلاءم مع ذاته وهو يبدع بلغة غيره، وأن يرتاح لذلك خاصة وهو يعرف أن لغته تمتلك قدرات حضارية وتعبيرية عالية ؟
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة هل يمكن للمبدع أن يكتب ويكون حرّا داخل “جهاز” لغوي أجنبي ؟
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة ماذا يحدث للمرء ثقافيا، عندما يفقد كل صلة بلغته الأصلية ؟ “[6]
اختصر محمد ديب الإجابة في أنّ “كل كلمة تكتبها بلغة غيرك تشبه رصاصة تطلقها على نفسك، وبالتالي على قيمك وقيمتك. فما معنى وما جدوى العالمية إذا كنا بلا جذور ؟ “.[7]
وأضاف “بعد أكثر من نصف قرن من الإبداع بلغة الغير، التفت إلى تجربتي فرأيت بكل حسرة أنها بلا جدوى. لقد بقيت دوما أعيش غربة المقصّ ووحشة المجهول. وأحس أنني أعسكر وحيدا في حقل أجرد للغة أخرى، تائه أترقّب وهم التجذّر في مجالات ومدن أغلقت في وجهي إلى الأبد. فبقيت كالغجري، على أبوابها، وأهلها يخافون منّي، عيونهم مفتوحة عليّ خشية أن أسرق دجاجهم !!!”.[8]
وإجابة عن تلك الأسئلة ترك كاتب ياسين “فم الذئب” وكتب نصوصه المسرحية بالعربية الجزائرية وعاد رشيد بوجدرة إلى لغة الضادّ في أوج شهرته. مثّلت عودة رشيد بوجدرة إلى اللغة العربية مكسبا كبيرا للرّواية العربية الجزائرية من ناحية ومكسبا آخر للرواية العربية عامّة، خاصة أن الرجل عاد مُدجّجا في تجربة ووعي كبيرين بالكتابة الرّوائية. وقد عاد رشيد بوجدرة إلى العربية عودة الفارس المنتصر لا الجندي المهزوم حيث تخلّى عن انتصاراته ومناصريه وغنائمه ليغيّر اتجاه السير في حركة لا يجرؤ عليها إلاّ الثّوار وكان بالفعل ثائرا في نصوصه على كل ما هو سائد من أساليب كتابة ومضامين متن ليؤسّس” فاجعة “الكتابة العربية. فشكّلت نصوصه مأزقا حقيقيا للكاتب العربي التقليدي الذي تربّى على الخمول والمهادنة والتقنّع. لقد اجترح رشيد بوجدرة مسلكا جديدا للإبداع العربي علامته الأولى الكتابة دون حدود وخارج سلطة الرقابة (الفنية، السياسية، الدينية) فتحرّر من كل ما يعيق العمل الإبداعي ليحاور في جرأة كبيرة كل المحرّمات والمقدّسات التي كرّستها الكتابة المنحنية، فأعاد للمرأة العربية لسانها المنهوب منذ شهرزاد حتى تقول ذاتها، فكرا وجسدا، وتصدّى للسلطة السياسية ففضح فسادها وكشف آلاعيبها وواجه التاريخ العربي المزيّف بحقائق الوقائع لتتعرّى أمام القارئ العربي قرونا من الوهم والحمل الكاذب.
لقد اختارت الكتابة السردية عند رشيد بوجدرة أن تكون كتابة عقوق، وكتابة مقاومة وكتابة انحراف عن الطرق المسطورة وكتابة تمرّد على تاريخ الكتابة العربية. إنها كتابة السفلي (الجسد) لكشف العلوي (الفكر) وفضحه فانشغلت نصوصه بتعرية المستور وحرق ورقة التوت الشهيرة ليكون ساردا لا يحتمل يتمترس وراء معجمه الخاص ليعبّر عن عصره الموبوء بكل العورات. رشيد بوجدرة هو لا وعي الإنسان العربي، إذ انقلبت نصوصه إلى لوحات سلفادورية(نسبة إلى الرسّام السريالي سلفادور دالي) تعهر بجرأة عظيمة ومستحيلة بين أحضان الحروف العربية. لقد خلّصها الرّوائي رشيد بوجدرة من قداستها، ليحوّلها إلى لغة ماجنة معربدة، لغة أيروسية تلتذّ خيانة نفسها وتعلن في غير تردّد ارتدادها. إنّّ اللغة العربية, مع بوجدرة, لم يعد إعجازها متمثّلا في كونها لغة النصّ الديني/ المقدّس فقط ، إنّما تمثّل إعجازها الحقيقي في قدرتها على قول المدنّس و تصويره بنفس القدرة و الكفاءة . غير أن هذه العودة لم تدم طويلا إذ عاد بوجدرة إلى "فم الذئب" ليكتب بلغة مستعمره القديم بعد أن خابت توقعاته عن المتلقي العربي .فقد ظلّ بوجدرة يهاجم في كل محفل إلى أن تحوّل فم الأم الحاضنة إلى فم أشرس من فم الذئب الذي اشتكى من أنيابه كاتب ياسين . من السّرد الحداثي عند رشيد بو جدرة .
لا يمكن أن نلمّ بكلّ الجوانب التي تجعل من رواية بو جدرة رواية غير تقليدية ,رواية تجنح إلى الحداثة, لذلك سنكتفي بعنصرين اثنين نقارب من خلالهما نماذج من تجربته -ما كتبه منها بالفرنسية و ما حبّره بالعربيّة- و هما :التكرار و ما أطلقنا عليه عبارة ؛شعريّة العين و الأذن . التكرار:
يتّفق كل من جرار جينيت وتودوروف حول مفهوم السرد المكرر , باعتباره أحد أشكال التواتر الثلاث :”السرد المفرد” و”السرد المكرر” و”السرد المجمع” فيقول تودوروف مثلا “هناك ميزة […] أساسية في العلاقة بين زمن الخطاب و زمن التخيل في التواتر وأمامنا هنا ثلاث إمكانيات نظرية :القص المفرد حيث يستحضر خطاب واحد حدثا واحدا بعينه,ثم القص المكرر حيث تستحضر عدة خطابات حدثا واحدا بعينه وأخيرا الخطاب المؤلف حيث يستحضر خطاب واحد جمعا من الأحداث”[9] وهذا ذات التقسيم لأشكال القص الذي نجده عند جرار جينيت في مؤلفه صورر 3 أين أشار إلى حضور السرد المكرر عند ألان روب غريي ويلح خاصة على أهمية هذا الأ سلوب عند رواد الرواية التراسلية في القرن التاسع عشر[10] ويمثل السرد الاعادي علامة بارزة في مؤلفات الروائي رشيد بو جدرة ويتخذ مستويات متعددة وأشكالا مختلفة ,ويمكن للقارئ أن يكتشف ذلك بسهولة سواء كان قارئا عابرا أم كان مقيما في مدونة صاحب “التفكك” إذ يحضر التكرار عند بوجدرة في العمل الروائي الواحد من خلال تردد مقاطع سردية معينة على امتداد النص كما هو الشأن في رواياته “ضربة جزاء “و “التطليق” و”الحلزون العنيد”و “معركة الزقاق”… ويكون هذا التكرار إما إعادة نسخية لمقطع سردي ,أي كما ورد أول مرة أو إعادة المعنى أو إعادة سرد الحدث بأسلوب آخر .ويتخذ التكرار ساعة شكل “التكرار المتدرج” كما يسميه محمد سار ي في مقاله “رشيد بو جدرة وهاجس الحداثة” وهو تكرار “تصاعدي” يأتي دائما بالجديد شبّهه الناقد “بقوقعة الحلزون التي تنتظم على شكل لولبي يبتدئ من نقطة مركزية ليتطور نحو الخارج” [11]
ولكننا نعتقد أن أهم شكل من أشكال التكرار الذي ميّز كتابات بو جدرة هو التكرار العابر للرّوايات .وهذا أسلوب لم أعثر عليه عند غيره وإن وجد فبأنماط لا ترقى إلى ما ظهر عليه عند بوجدرة فنعثر بسهولة على مقاطع كثيرة ترتحل من نصّ الى آخر نسخا أو ببعض التغيير الطفيف .ويمكن رصد هذا الأسلوب في كل روايات بو جدرة وخاصة في رواياته “ضربة جزاء” و”الحلزون العنيد”و”ليليات امرأة آرق “حيث تتداخل هذه الروايات بشكل لافت .ونمثل لذلك بهذه المقاطع :
ورد في رواية “ضربة جزاء ” :
ما أشبه هذا اليوم بذلك اليوم من شهر جوان 1956 حين جاؤوا بجثة شقيقه الأكبر … جرح لا ينسى …ندب عميق…التابوت يتأرجح في رافعة الميناء .أبوه مسرور جدا … عودة الإبن الضال …الذي تحدى المحرّمات القديمة بعدم عبور البحر … لم يكن يريد سوى أن يزاول الطب …وقبضوا عليه متلبسا بجريمة تقديم العون للمنظمة .كان يقوم بالعمليات الجراحية في أحد الأقبية ويخيط جروح المناضلين ,ألقي القبض عليه وعذب ثم قتل …ووضعت جثته في رصاص التابوت …الذي ظل يتأرجح في طرف الرافعة ..فوق الميناء كأنما يسخر من الشرطة ورجال الجمارك …وأصيبت الأم بمرض السكر من جراء ذلك (ص35)
يستعيد بو جدرة هذا المقطع في رواية “ليليات امرأة آرق”كما يلي:”فمي:إنه مليء من نترات الحياة وسمعي ملؤه الزغاريد يوم صرت طبيبة وملؤه العويل يوم جاؤوا بجثة شقيقي الأكبر :جرح دامل لا يغلق .ندب لا يتوقف .جوان 1956.جاؤوا بجثة أخي محمولة في تابوت مختوم بطابع الجمارك (بالشمع الأحمر) عودة الابن الضال كان قد قطع البحر لدراسة الطب والتخصص في الجراحة .قبض عليه متلبسا بجريمة مساعدة منظمة التحرير .كان يقوم بالعمليات الجراحية في أحد الأقبية بمدينة باريس ويخيط جروح المناضلين .ألقي القبض عليه فكان التعذيب فالقتل في التابوت المرصص.وعند وصوله إلى الميناء راح يتأرجح في طرف الرافعة كأنه يسخر من الشرطة والجيش الاستعماري على الواء .كانت الحرب تدور رحاها بلا هوادة .صممت آنذاك أن أكون طبيبة مثلما فعل هو .أصيبت أمي بمرض السكر نتيجة الفجعة هذه (ص ص25_26)
ويتواصل ارتحال المقاطع السردية بين الروايتين فيعيد الروائي سرد حادثة المرأة التي اغتصبها زوجها ليلة العرس بوحشية فخاطت جهازها التناسلي وانتحرت .ويمتد سرد هذه الحادثة على ثلاث صفحات في رواية “ضربة جزاء (94 .95 .96 ) وعلى خمس صفحات في ليليات امرأة (41.40,39,38,37.) ولم نر تغييرا في سرد تلك المقاطع ما عدى تغيير الضمائر فبعد أن كان السرد منسوبا إلى رجل في رواية “ضربة جزاء” نسبه إلى امرأة في “ليليات امرأة آرق”. ولا يخرج التكرار عن هذه الملامح العامة بين رواية “الحلزون العنيد” و”ليليات امرأة آرق” فالليليات تكاد تستنسخ في جزء منها رواية الحلزون العنيد. وقد تركز التكرار خاصة على الجانب المعرفي الذي رشحت به الرواية الأولى حيث تستعيد سعاد في ليلياتها تلك المعلومات التي دونها الراوي في الحلزون العنيد حول الحلزون والخنزير والجرذان .واختار الروائي مقاطع محددة من الرواية الأولى ليقحمها في الرواية الجديدة وهي تلك المقاطع المتعلقة بالجنس والقدرة الجنسية فأعاد سرد ما ذكره عن القدرة الجنسية للحلزون الذي يقضي أربع ساعات في السفاد وذكر قدرة الخنزير الذي يقذف نصف لتر من المني فيقول مثلا في الحلزون العنيد :” الحلازن .تلتذ لمدة أربع ساعات.الحلزون في الميثولوجيا الكونية متصل أوثق الاتصال بالقمر وبالتجدد…(ص ص.78.77).ويعود إلى هذه المعلومة في ليليات سعاد التي تقول متحدثة عن عشيقها .”عاد متشنجا و عدائيا.ممتلئا حقدا وغطرسة .عيناه ممتلئتان قذارة وزهوا ونكلة .قلت في نفسي :إنها زلتي الأولى .تذكرت الحلازن في الحديقة ما قرأته عن طاقاتهم الهائلة .احتقرت هذا .أوقفته عند حده .مهلا سعاد […]بات مسمرا في مكانه مبهوتا .مبهورا .غضبضبا. وابتعدت عنه .الحلزون .الحلزون أفحل منك يا صاحبي !أربع ساعات يقضيها الحلزون في التجانس .أما أنت..”(ص60)
لماذا هذا التّكرار؟
يقول الباحث محمد الساري “وتساءلت مع نفسي عن وظيفة هذا التكرار ولم أعثر على جواب مفيد .وسألت بو جدرة نفسه فاكتفى بالقول بأن هذه الطريقة لم يستعملها أحد قبله ,وبما أن رواياته في أغلبها هي رواية واحدة وهي أقرب إلى السيرة الذاتية فما المانع من من إدخال نصوص سبق نشرها في النصوص الجديدة “[12]
ويبدو أن محمد الساري لم يقتنع بحجج بو جدرة ورأى أنه لا جدوى من إعادة تلك النصوص في مدونة الروائي . و يذهب الروائي العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي ,في مقالاته التي كتبها عن روايات بو جدرة , إلى نفس الرأي فيراها زوائد لا خير فيها و اعتبرها من النقاط التي أخلّت بنصوصه و” نصحه” بتشذيبها فيقول:” إن ايغال بو جدرة في التفاصيل الشاذّة لا يمكن تفسيره أو ارجاعه إلاّ إلى هذه الملاحظة و هي إرضاء فضول القارئ الأجنبي ,و كان بالإمكان تشذيب الكثير منها خاصة ذلك الذي يتكرّر بشكل ملحّ”[13] و عاد إلى نفس الملاحظة في قراءته لرواية “معركة الزقاق” فلم ير في المقاطع السردية المكررة غير زوائد[14] غير أننا سنعثر,حتما, على وظائف لذلك التكرار لو جوّدنا النظر في مدونة الرجل مستحضرين عبارة تودوروف”التكرار[…]لا يكون تاما أبدا لان المقاطع المكررة محاطة بسياق مختلف واطلاعنا على الحكاية يكون كل مرة مختلفا”[15] يسعى الروائي حين يعمد إلى تكرار مقطع سردي معين داخل الرواية الواحدة إلى تأكيد حدث معين باستعادته المتكررة حتى يرسخ في ذهن القارئ.فيكون ذلك أشبه باستعادة المشهد السينمائي في الفيلم من خلال استعادة الشخصية الدرامية للحدث .وينشط هذا الأسلوب في الأفلام ذات الطابع السيكولوجي حيث تتردد فيها مشاهد الكوابيس والأحلام وأحداث الطفولة .والحق أن رشيد بو جدرة ليس غريبا على الميدان السينمائي (كاتب سيناريو) كما أنه يعتمد اعتمادا كبيرا على التداعي الحر والأحلام والاستيهام والسرد الاسترجاعي في كل مؤلفاته.
ويتوسل الروائي مرة بالتكرار لإبراز زاوية نظر مختلفة للحدث الواحد .فكل شخصية تروي الحدث من زاوية نظرها الخاص ومن موقعها الخاص[16] كما أن دلالة الحدث تتغير مع موقع سرده في الحكاية فدلالته في بداية الرواية غير دلالته في وسطها أو فى نهايتها .ويذكرنا هذا التكرار بقضية مهمة تبنتها الرواية الجديدة وهي” نسبية الحقيقة” فلا شيء ثابت ونهائي في العمل الإبداعي , كل شيء نسبي لذلك فالمقطع السردي الواحد في ارتحاله من موقع إلى آخر لا يكون هو هو .ولا يمكن أن يحافظ على الدلالة نفسها والوظيفة نفسها ,فمثله مثل النهر الذي لا يمكنك أن نسبح فيه مرتين لا يكون النص المكرر نفسه وان حافظ على خصائصه اللسانية والطوبوغرافية .
أما التكرار الثاني والذي أطلقنا عليه عبارة “التكرار العابر للروايات” فيحمل شعرية أخرى ودلالات مغايرة منها خلخلة عملية التلقي التقليدي ذات الطبيعة الوثوقية .فالقارئ المتابع لتجربة بو جدرة الروائية تهزه هذه التكرارات وتثير عنده أسئلة جمة أهمها :أين قرأ ذلك المقطع ؟ وهذا ما يدفعه في اغلب الأحيان إلى مراجعة مدونة الروائي حتى يعثر على النص المكرر .إن استعادة أحداث بعينها في أكثر من رواية لنفس الروائي تدفع بالمدونة الروائية نحو السيرة الذاتية لأنّ الحدث يتملّص من نسبته إلى الشخصية المتخيلة/الورقية ليصبح لصيقا بشخصية الكاتب.ويفتح هذا الرأي أفقا جديدا لتلقي مؤلفات بو جدرة بين السير الذاتي والتخييل الروائي.
تشي القراءة التناصية للنصوص المكررة في روايات رشيد بو جدرة بمسألة أخرى يمكن اختزالها في عبارة “النصية الذاتية “أو” التناص الخاص” حسب عبارة جون ريكاردو [17] حيث اتخذ هذا التناص أشكالا مختلفة في المدونة الروائية العربية ,فترتبط روايات الغيطاني بهاجس توظيف التاريخ _المملوكي خاصة_ وترتبط أعمال الطيب صالح باستثمارها للخرافي والأسطوري وروايات أمين معلوف بأدب الرحلة وروايات إبراهيم الكوني بالمناخ الطوارقي وروايات واسيني الأعرج بالتاريخ الأندلسي وبشخصية مريم التي تحولت إلى إمضاء يوقّع به الكاتب جلّ رواياته [18].كما تضافرت نصوص بو جدرة باستعادة المقاطع السردية وأحداث بعينها حتى تبدو كما لو كانت رواية نهرية .غير أن قيمة التكرار الحقيقية كما نراها في روايات الرجل تتمثل أساسا في كشفه علاقة الذاكرة بالكتابة .إذ أثبت رشيد بوجدرة أن الذاكرة الواحدة بما تحمله من أحداث محدودة وما تختزنه من ذكريات متناهية وعوالم مضبوطة يمكنها أن تكون معينا / منبعا لنصوص لا نهائية فنصبح أمام الذاكرة الواحدة والنص المتعدد.لأنّ التكرار عنده لا يعبر عن قصور في التخييل أو توعك إبداعي أو خداع للقارئ كما يرى البعض باستنساخ الروائي لمقاطع من نصوصه التي كتبها بالفرنسية في نصوصه المكتوبة بالعربية ظانا أن القارئ لم يطلع عليها بالفرنسية ,إنما مثل التكرار استراتيجية كتابة وخصوصية ارتآها الكاتب لتجربته تكشف قدرة الإبداع على إعادة تشكيل محتوى الذاكرة وعلى نسبية الحقيقة وهذا ما يمكن أن يكون تفسيرا لرد بوجدرة على سؤال الأستاذ محمد الساري الذي ذكرناه سابقا من أنّه لم يسبقه إلى تلك الطريقة أحد .
شعريّة العين و الأذن :
انفتحت الرواية الجديدة على وسائط أخرى غير اللغة الأدبية فاستفادت استفادة كبيرة من كل الفنون الأخرى مستلهمة فن العمارة في تشكيلها لفضاءاتها التي تدور فيها الأحداث وقد انتبه الروائي العربي إلى هذه النقطة فكانت رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني التي قسمها صاحبها إلى سرادقات وكذلك كتابه الخطط الذي استلهم فيه خطط المقريزي ,وفي تونس بنى صلاح الدين بو جاه روايته “السيرك” على شكل البيوت العربية القديمة المقسمة إلى سقيفة ..ووسط الدار ..والمجلس الكبير ..و المقصورة و المستراق و الخوخة …وانسرب فن الرسم إلى الرواية منذ مراحلها الأولى عبر الوصف ورسم ملامح الشخصيات ولكن توظيف الرسم تنوع مع الرواية الجديدة التي تحولت إلى لوحة من لوحات الفن التشكيلي ويكفي أن نذكر بأعمال كلود سيمون الذي يقول “اكتب كتبي كما تصنع اللوحة .وكل لوحة تأليف قبل كل شيء” ونمثل لرواياته ب”حديقة النباتات” التي تحول فيها النص الروائي إلى مشهد .من خلال إعادة تشكيل النص المكتوب وتوزيعه الفني على الصفحة أو تكرار حروف بعينها مما يشكل مشهدا بصريا ويلتفت المؤلف أحيانا إلى اللوحات ينقل تفاصيلها كما لو كان يحمل بين أصابعه كامرا _انظر وصفه الدقيق للوحة الغاستون أرشيف الذاكرة في “حديقة النباتات”[19]
كان رشيد بو جدرة أقرب الروائيين العرب إلى تيار الرواية الجديدة بل هو أحد أعلامها حتى انه كان يستدعى باعتباره ممثلا لهذا التيار في العالم العربي وأفريقيا لذلك كان أكثر الروائيين العرب توظيفا للفنون البصرية وللخطاب الإعلامي في نصوصه .ففي روايته “ضربة جزاء “استطاع أن يبني نصا روائيا قائما على تقنية التناوب السردي بين السرد الروائي والخطاب الصحفي المسموع عبر توظيف مادة التعليق الرياضي على مباراة كرة قدم فكان الراوي يقطع سرده لينقل إلينا ,مستعينا بالمذياع الذي يستمع إليه في سيارة التاكسي, صوت المعلق الرياضي قائلا مثلا :”نحن الآن في الدقيقة السادسة عشر من المقابلة ,والضغط الذي يمارسه تولوز قويا جدا, اللاعبون متجمعون في منطقة مرمى فريق أنجي … إنه باليه حقيقي .رجال جول بيجو” وتتكرر تدخلات المعلق الرياضي في الرواية أكثر من عشرين مقطعا يمتد أحيانا على صفحات من المتن . وقد أبرزه الروائي ببنط عريض حتى يميزه عن بقية السرد ووصل رشيد بو جدرة في التجريب إلى حدّ عنونة فصول الرواية بنتائج المباراة فعنوان الفصل الأول :تولوز :صفر _انجي :صفر وعنوان الفصل الثاني : تولوز هدف .انجي :صفر وعنوان الفصل الثالث :تولوز 2 .انجي :صفر وعنوان الفصل السابع :فترة الاستراحة ما بين الشوطين .
كما وقف بو جدرة على عادة روائيي الرواية الجديدة عند بطاقة بريدية ينقل تفاصيلها وجها وقفا فيقول مثلا:”وخطر له أن يرسل إحدى تلك البطاقات إلى والدته […] انجذبت عيناه نحو بطاقة ترتسم عليها صورة تمثال صغير واقف على قاعدة .يمثل رياضيا شاهرا كأسا …[…]وبحركة آلية قرأ الكتابة المحفورة على البياض إلى الجانب السفلي الأيسر منها .قاعدة مجمرة التروسكية:
الفائز بالكأس ذو القدمين المجنحتين وهو يشهر قصب السبق
بداية القرن الخامس ما قبل الميلاد
برونز ارتفاع 18.7 سم
أما اسفل البطاقة فهناك كتابة مطبوعة بأحرف أصغر بكثير[…]إلى الجهة العلوية اليمنى من ظهر هذه البطاقة البريدية .مستطيل صغير يحدد موضع الطابع البريدي . وفي وسطها ثلاثة سطور متساوية الأبعاد والبرج .ثم هناك سطرا آخر مطبوع على غرار الأسطر الأخرى ويمثل الثلثين من أطوالها السطور الأربعة مخصصة لكتابة العنوان بدون شك,أما السطر الأخير فهو لكتابة اسم البلد المرسل إليه (ص122 ) إن نقل الراوي تفاصيل هذه البطاقة البريدية يشي بعمق الوعي البصري للروائي الذي عليه أن يكون رساما وسينمائيا ورياضيا حتى ينقل تلك الألوان والظلال والأبعاد بكل تلك الدقة .و يتكرر هذا الولع بقل اللوحات والصور عند بو جدرة في روايته” معركة الزقاق ” حيث تنهض المنمنمة التي يظهر فيها طارق بن زياد محرّكا أساسيا للسرد الروائي فيحتفل بها أيما احتفال.
يوظف بوجدرة في رواياته الأخرى الخبر الصحفي كما هو الأمر في روايته تيميمون أين حشد مجموعة من الأخبار الصحفية التي تنقل جرائم الإرهاب بجزائر التسعينات فنقرأ مثلا :”صحافي فرنسي يغتال من طرف إرهابيين إسلاميين بالقصبة في الجزائر العاصمة”(ص77) “تسبب انفجار قنبلة وضعها الأصوليون في مطار الجزائر العاصمة في مجزرة خلفت تسعة قتلى وأكثر من مائة جريح جلهم في حالة خطرة “(ص92) “شغالة منزلية في السادسة والأربعين من عمرها وأم لتسعة أطفال تغتال رميا بالرصاص وهي عائدة إلى بيتها “(ص102) “الكاتب الكبير طاهر جاعوط يغتال برصاصتين في رأسه من طرف ثلاثة إرهابيين وهو يقود ابنته إلى المدرسة “(ص111) يبدو أن الروائي اختار أن يلتقط عناوين الأخبار من على الصفحات الأولى للجرائد أي “المانشيتات” وليس الخبر الصحفي بتفاصيله كما وظفه واسيني الأعرج في روايته “حارسة الظلال “[20] والحق أن توظيف هذه القصاصات الصحفية أصبح مطروقا في الروايات العربية المعاصرة مع واسيني الأعرج وصنع الله إبراهيم ولكن طرق التوظيف هي التي تختلف فبو جدرة حافظ على طوبوغرافية النص الصحفي في روايته “طوبوغرافية نموذجية لعدوان موصوف ” حين استعان بتقنية الكولاج ليقحم خبرين صحفيين كما وردا في الصحيفة بتوزيعهما العمودي يتحدثان عن العنصرية في فرنسا و عمليات الاغتيال التي يتعرض لها المهاجرون الجزائريون .[21]
إن لإقحام تلك الأخبار في النص السردي وظائف شتى منها الوظيفة الجمالية المتمثّلة في خلخلة المشهد الأفقي/ التقليدي للنص السردي فتربك تلك النصوص خطية التلقي وتخرج القارئ من رتابة القراءة المعتادة لتبعث فيه الحذر .فالقارئ التقليدي لن يتمكن من متابعة النص الحداثي الجديد الذي يتلاعب فيه الروائي بتشكيل الصفحة.فمع روايات كلود سيمون مثلا لا يمكنك أن تقلب الصفحة مرة واحدة لأن عليك العودة إليها لتقرأ مقطعا سرديا آخر يركن في أحد أطرافها لأن توزيع النص ليس توزيعا تقليديا و إنما هو توزيع يخضع لمقاييس جمالية أخرى حولته إلى لوحة لا يمكنك أن تمسحها مسحا واحدا .لقد” تشظى” النصّ داخل الصفحة وتنجّم إلى قطع .و ينهض الخبر الصحفي –إضافة إلى التوظيف الجمالي - بوظائف أخرى لها علاقة بالسرد و سير الأحداث والتلاعب بالزمن السردي وزمن التلقي.
* إنّ التعامل مع نصوص رشيد بو جدرة الرّوائية مغامرة محفوفة بمخاطر عديدة لأنّ هذا الكاتب يقدّم جماليات جديدة في الكتابة العربية قد لا تتلاءم مع ذائقة القارئ العربي الذي ظلّ إلى وقت قريب سجين نمط كتابي معيّن .و الحقّ أنّ عودة بو جدرة إلى العربية حملت معها أشكالا سردية جديدة و غريبة أحيانا على بنية السّرد العربي التقليدي, كما حملت متون رواياته أسئلة جديدة , ربّما استأثرت باهتمام سدنة الرواية العربية فأهملوا في المقابل شعريّة الكتابة و جماليتها لينكبّوا على ما رأوه خرقا لنواميس القصّ العربي و أخلاقياته . و اكتفى البعض الآخر بملاحقة الأخطاء اللّغوية التي وقع فيها الروائي- و هي كثيرة حقّا- ليحكم على نصوصه بالنجاح أو بالإخفاق , و لكنّ ,يبدو أنّ النّقد العربي المعاصر بدأ يعود إلى نصوص الرّجل ليحاورها بعيدا عن الآراء المسبقة ,وبعيدا عن القراءة الإيديولوجية ليكتشف جماليات ذلك السّرد العربي المختلف الذي يحفر في أعماق الذات العربية بحرّية غير مسبوقة

قديم 05-11-2012, 03:18 PM
المشاركة 550
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رشيد بوجدرة في «الرعن» استحضار طفولة

الكاتب : رامي قطيني في : 7 مارس 2011 – 9:42 صأضف مشاركة | 1,053 مشاهدة
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
في هذه الرواية (الرعن) نجد رجلاً محكوماً عليه أن يبقى في المستشفى، تحاصره امرأة وتؤثر البقاء إلى جواره فتجلس إلى سريره وتحدّق فيه النظر مرسلة إليه شرارات مستعرة ملؤها الكراهية، فما كان منه إلى أن غرق في نوبة من السعال المتواصل كي يظن المشرفون على المستشفى أنه مصاب بمرض السل، فينقلونه إلى جناح آخر غير جناحه، من أجل أن يهرب من براثن هذه الأنثى الرهيبة، ولكنها كانت له بالمرصاد فهي مصرّة أن يبقى في قبضتها المفزعة. ويروح الكاتب فيروي قصة اختتانه يوم كان عمره ست سنوات: (وسط الصخب الموسيقي وضوضاء الخادمات السوداوات، وسط بربرة تلامذة الكتّاب وهم يرضخون لأوامر مرشدهم سي الأخضر). وعندما لم تصدقه، راح يقصّ عليها خرافات لا أساس لها البتة وروايات ملفقة ووقائع وأحداثاً حقيقية كان يتعمد تحريفها وتزييفها، لم ينقذه منها سوى رنين الجرس بعلاماته الحمراء، عند ذلك انصرفت الممرضة الشمطاء مهرولة ومبتعدة، بدأ بالتفكير لماذا هو هنا؟ وبأي حق يحشر في هذه الغرفة البائسة الحقيرة ؟ ولماذا يصطلي بنيران تلك المرأة الطاغية؟
وعندما لا يجد جواباً يمضي بالكتابة على الأوراق مستضيئاً بسراج القاعة الشحيح مستعيناً بقلم عتيق: (كنت أحرّر ليلياتي بين الفينة والأخرى خلال دوريات الممرضات المتجولات متيقظاً وكنت قد جعلت من الحذر مبدأ من مبادئ الحياة المقدسة، لا يمس). ‏

وفي اجتراح الذكريات نعرف أن بطل الرواية، أو الشخصية الأولى فيها، كان يعمل مدرساً بسيطاً للفتيات، أصبح موضوع تهديد من قبل أحد كبار التجار الشرسين المتسلطين على المدينة ليس لـه إلا أن يتذكّر قصة حبه لـ (سامية) وكيف قضى معها على البحر أروع قصص الحب على الإطلاق، يراقبهما قط أبيض خبيث، ورجل عجوز. ‏
تنقله الذاكرة إلى الطفولة وحلاق القرية الذي يفعل الأعاجيب للكبار والصغار معاً، زغردة النساء وهياجهن أمام رؤيتهن لـه وقد قطع (الغرلة) وغسل يديه بإبريق ذهبي، وغير ذلك نشاهد ولعه بالراقصة سامية جمال تلك التي اكتشفها عبر أفلام إباحية، وكان يشاهدها في إحدى قاعات العرض الصغيرة والقذرة من أيام الطفولة، وهي تلوي خصرها بينما هو/ الطفل يلوك حبات الفول السوداني بنهم فائق، فيكاد يختنق وهو يسعل متربصاً عقب سيجارة يرميه أحد الفلاحين على الأرض، فينقض عليه قبل سحقه. ‏
ها هو يروي لنا قصة أحد المهاجرين إلى فرنسا الذي نسي لغته فلا يتذكّر كلمة عربية، وإذا أراد أن يعبّر فعلى دفتر لا يفارقه، يرسم رسوماً غريبة تشير إلى رجال ونساء يقودون أمامهم كلاباً تتوقف من حين لآخر رافعة قدماً، تريد التبول أو التغوط على الأرصفة. ‏
هذه المشاهد وغيرها من شبان هربوا من الخدمة العسكرية، ودراويش وعرافين ومتعصبين، ومحتكري الأموال العّامة، وعلماء الموسيقا المتحمسين للتواشيح الأندلسية، ومبدعين مصابين بالعقم، وثرثارين دوزنوا الفصحى حسب مقاييس مجهولة، وفلاسفة ذوي الوجوه الذميمة والطرق الماورائية القبيحة، إضافة إلى معوقي حرب السبع سنوات والهاربين من مرض السرطان، ودكاترة مختصين في فن الديماغوجيا الحديثة، كل هؤلاء يروي عنهم الكاتب إلى نادية، وهي لا تصدقه، يروي عن سامية، التي نزلت إلى البحر، وهو لا يعرف أقتلها، أم أنها انتحرت، يروي عن أبيه الذي ليس أباه، يروي عن أمه التي اغتصبت، ولم تغتصب، يروي عن القبطان الذي يعود في نهاية الأمر مثقلاً بالأوسمة من الحرب التي شارك فيها في الهند الصينية، يجرجر ساقه البلاستيكية على الدرج، وفي فترة الاستراحة يثني على القومية الفرنسية والوطن الأم، عند ذاك سوف يقومون بسؤال نادية: (كيف الأحوال اليوم، هل خف نبض هذا الرعن، لا بأس به، الحمى معتدلة)، يتهمونها بالتهاون والتغاضي عن حراسته والسهر عليه سهراً دقيقاً، أما هو فقد أخفى كل ما يملكه (القرآن الكريم ورأس المال العظيم ورسالة الغفران للمعري)، هذه الكتب لم تفارقه قط. ‏
شخصيات كثيرة ولكنها مهمّشة، وتبقى شخصية الكاتب/ المجنون، تطفو على السطح، بكل انفعالاتها وقسوتها ولينها وجبروتها، وخيبتها ومرارتها، شخصية تعاني من مرض مستفحل ألا وهو الجنون، يجلس مع ممرضة (نادية) يقص عليها ويكتب وهي لا تصدق قصصه بشيء، لأنها تعتبره مجنوناً، لا أمل له بالخلاص. ‏
لقد أراد الكاتب أن يتخلص من فخ العادات البدائية والاتفاقات الاجتماعية، وهذه المحاولة تجعله يعيش في الماضي ويستحضر الطفولة مصدر كل كتابة تريد بلوغ أقصى ما لديها. ‏
المؤلف في سطور: ‏
رشيد بوجدرة كاتب وروائي وشاعر جزائري ولد في 5 أيلول سنة 1941 م في مدينة عين البيضاء، اشتغل بالتعليم ، وتقلد عدة مناصب منها ، مستشار في وزارة الثقافة ، وأمين عام، ‎له من الرّوايات: 14 رواية، منها : الحلزون العنيد – التفكك – فوضى الأشياء – واقعة اغتيال – الانبهار، وله ديوانا شعر هما: من أجل إغلاق نوافذ الحلم – لقاح، وله دراسة واحدة : الشرق في الفن التشكيلي. وجميع أعماله صدرت عن المؤسسة الوطنية للاتصال «ANEP» . ‏


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 19 ( الأعضاء 0 والزوار 19)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 03:32 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.