احصائيات

الردود
5

المشاهدات
4122
 
محمد الشرادي
من آل منابر ثقافية

محمد الشرادي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
155

+التقييم
0.04

تاريخ التسجيل
Aug 2014

الاقامة

رقم العضوية
13134
10-05-2014, 11:50 PM
المشاركة 1
10-05-2014, 11:50 PM
المشاركة 1
افتراضي زهرة الجوري
زهرة الجوري

كوخ صغير يستريح من شطط السنين، وفواجع الدهر على سفح ربوة، هي بدورها تستريح، تحت ظل أشجار البلوط، و الكستناء. يغطيها النجيل بالكامل. أمام الكوخ جلس فتى يافع. جسمه يفيض جمالا. و نعاجه تجتر الأعشاب تحت الشجر، بينما الحملان الناصعة البياض تناثرت على الربوة كأزهار آس ناعمة.
كان الفتى ينظر إلى قبرين. يتأمل أحدهما مليا، و يتذكر حكاية أمه في أدق تفاصيلها:
- أبوك لم يمت يا ولدي. و جثمانه لا يوجد في ذلك القبر. يوم مات زوجي الأول، أقفرت هذه الربوة.لم أعد أطيق العيش فيها. فكرت في الانتحار،في الرحيل. ذات ليلة، و أنا في حالة يأس، وقنوط، رأيت نورا ينزل من السماء. بقيت مسمرة في مكاني، وقلبي يتخبط خوفا بين أضلعي. استوى النور بشرا بهيا. دنا مني. مسح دموعي، و من دون مقدمات مد يده و قال:
- أتقبلين الزواج مني؟
جفت منابع الكلام في أعماقي. رفعت عيني حتى عانقت عينيه. لم أنبس بكلمة. فهم المراد من نظراتي المستسلمة كليا.حملني بين ذراعيه. و ضعني على السرير، ومنذ ذلك اليوم صرنا زوجين متحابين.
غمرني بحنوه، وكنت له زوجة تتفانى في عشقه. سعدنا سعادة كبيرة. لم أسأله يوما من هو؟ أكان ملاكا؟ إلها؟ نصف إله؟جنيا...؟ لا أعرف، و لا أريد أن أعرف. بعد عام من حلاوة العيش رزقنا بك. ملأت علينا الدنيا. خرجت يومها، و بأعلى صوتي أخبرت العالم بقدومك.كل الكائنات باركت ميلادك،و بايعتك أميرا لهذه الربوة.
بعد أسبوع من إطلالتك البهية، قبلني أبوك على خدي. ودّعني، وعاد من حيث أتى. عندما يئست من عودته، حفرت ذلك القبر، و كتبت عليه :
- هذا قبر هبة السماء. زارني ليلا، و غادرني ليلا. صرت أزوره باستمرار حتى لا أنساه، وتندثر ذكراه.
************
أسفل الربوة، يمتد سهل على طول البصر، حتى عانقت خضرته في الأفق زرقة السماء. يتوسطه قصر عظيم.تحف به أشجار الصفصاف لتقيه هبوب الرياح العاتية. يجلس الفتى قبالته، و عيناه تتنقلان بين شرفاته. يطلق العنان لصوته العذب. على شرفة القصر يلوح طيف ينتظر الفتى ظهوره. يعذب صوته أكثر. يرقص الطيف على إيقاع شدوه رقصة شهية. فيزداد الصوت تألقا. شغفها حبا بنغمات صوته. سكن طيفها في قلبه. تمنت لو تراه. تمنى لو يعاينها. اختفت من الشرفة. ظهرت في باب القصر الخارجي.سارت نحوه. اقتربت أكثر.تسارعت دقات قلبه.اشتعل جسمه الطري حرارة. وقفت أمامه،جسمها البلوري يفيض جمالا...على أديم صدرها الصقيل أثمرت أزهار الجلنار رمانا شهيا... ثغرها الرفاف يعبق بأريج الأزهار، وعلى شفتيها تتألق البسمات كقناديل البحار... توشي جيدها الفاتن بأزهار البهار.
لهذا الجسد الريان صدى في كل الأساطير. في الشتاء تنظر بعينيها الساحرتين لندف الثلج، فتنتظم أزهار ياسمين على ضفاف الأنهار. في الصيف يحميها السحاب من الحر، و تنبجس جداول الماء من تحت أقدامها. أي قلب يتحمل عشق هذا الجسد الجبار، دون أن ينصهر و يذوب؟ و أي عين تجرؤ على إمعان النظر فيه، دون أن تنحني إكبارا لوسامته، وإجلالا لقسامته؟
جلست بجانبه و ضعت يدها الناعمة على يده. تشابكت أناملهما و معها تشابك قلباهما إلى الأبد. وضع رأسه على صدرها، أحس بنعومته. قبلته على خده،خلفت عليه وشما كفص خاتم أسطوري. قبل يدها، وقفت و اتجهت نحو القصر. لم يسألها متى تعود. كلما فاضت أشواقه، أرسل شدوه, فتشتعل في فؤادها رغبة الوصال.
*************
شعرت أمه بمعجزة صوته قبل ولادته. طيلة مدة الحمل، كان صوت يأتيها لحنا ساحرا من قمم الجبال. يوم ولادته بدأت تحسه خلف الباب. في الليل تسمعه قرب مهده يترنم. في أوقات توتره، يأتيها بكاؤه تقاسيم رباب شجية. و في لحظات سروره، تتدفق الضحكات من ثغرة الجميل كخرير الجداول. صار شدوه، ينتشر في الأرجاء نغمات ساحرة تنتظم لها نبضات القلوب، و يسكنها السلام. تطرب لها جميع الكائنات. يغني لخرافه الوديعة فتقبل على العشب بنهم...ثم يغني لها فتمرح و تلهو...ثم يغني لها، فتنام تحت ظل الشجر. صوته حماه و أمه من الوحوش الضارية.و قد صار اليوم حصان طروادة،بفضله يتسلل إلى البلاط المنيع،ليدعو مهجة قلبه للقاء.
***********
اشتهر أبوها بقلبه القاسي. أقسم لزوجته وهي في عز حملها،أنه سيقوم بوأد كل وليد لا يكون ذكرا. يوم ولادتها انتشر المسك فجأة، في البيت،وامتلأت البئر التي نكزت منذ سنين...و عادت السنونو لتبني أعشاشها على شرفات القصر بعد أن هجرتها لأعوام طويلة. و امتلأت الأجباح بالعسل.و أشجار اللوز أزهرت قبل أوانها. أربكته هذه الإشارات الغريبة.حملها بين كفيه...صرعته بوسامتها ...رمته ببسمة ساحرة...تسربت إلى قلبه حبات ندى بللت تربتَه الصلدةَ...حركت فيه لأول مرة أحاسيس رقيقة...ضمها إلى صدره، و صار يحدثها:
- هذا الحسن لا يليق إلا بابن عمك.سأزفك إليه في أعظم زفاف يجتمع فيه البهاء، والثروة، و الجاه،و العشق الأصيل.سأفقأ عيني كل من ينظر إليك نظرة اشتهاء، و أقطع لسان من يتغنى بوسامتك، أو يطلب يدك للزواج...
**************
نجمان يتألقان تحت ظل الشجر،يداهما متشابكتان، و عيونهما تذرف دررا، و جواهر حسرة على حبهما، الذي بات مهددا.صارت تخاف على توأم روحها من بطش أبيها.رفعت كفيها إلى السماء، في استجداء حار. بكت حتى بللت الدموع صدرها الباذخ.حين انتهت من دعائها أقبل عليهما شيخ على جانب وافر من الجلال، و الهيبة.وقف أمامهما...خاطبهما:
- حب عظيم كحبكما لا يجب أن يفنى،فيه الصدق، والوفاء. سأمنحكما حرية اللقاء خارج طبيعتكما البشرية،شرط ألا يغني حبيبك هذا بعد اليوم.
****************
غزالة صبوح تغتسل في الغدير، و تتمرغ على مروج الزعتر و الريحان... تخضب كعابها بالحناء. تمضغ الزهر ،و الورد فتأرج أنفاسها... تقبل ندية شهية عطرة. يأتيها ظبي وسيم، وضيء . تستعرض أنوثتها...تعانقه ... يعانقها... يجثو أمامها... يقبل التراب الذي تطؤه قوائمها الناعمة.
يربضان على بساط الطبيعة الزاهي... يتبادلان الغزل، و القبلات... يكتشفان أنهما يستطيعان التحرر من قوة الجاذبية... يسبحان في السماء...يلتقط النجيمات... يرتبها عقدا يوشي به عنقها الأجيد . تنسج له من صوف الغمام طاقية زاهية. و حين يتعبان يستريحان على شرفات السحاب. يرتشفان فناجين العشق.
رغم سعادتها شعرت أن جذوة الحب، بدأت تخبو في قلبها، لأنها لم تعد تسمع ذلك الصوت العذب الذي يجعل عشقها يتجدد كل يوم على نغماته. استعطفته كي يغني، و لو لفترة وجيزة. امتنع.ألحت. نظر حوله. دب الموت في كل شيء. أضربت خرافه عن الطعام. بدأ المرض يتسلل إلى الجسم الندي لغزالته،و هو يعرف أن "الظباء لا تمرض إلا مرض الموت".
أطلق العنان لصوته الصداح.انتشر في كل البقاع طبولا و مزامير...انكشف سرهما...ظهرا على صورتهما البشرية.عنَّ لها والدها يسدد نحو غزالها سهم أحقاده ...ضمته إلى صدرها...أصابها الرمح في جيدها.أطلق أبوها سهما ثانيا مزق قلبه. خرَّ قربها... عانقها... عانقته...ارتفعا في عنان السماء،و دماؤهما الممتزجة تتهاطل على السهول و التلال ، وعلى ضفاف الأنهار...من كل قطرة دم عطرة تنبت زهرة نضرة رائعة الجمال.


قديم 10-06-2014, 02:43 AM
المشاركة 2
زياد القنطار
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رمى القاص الكبير محمد الشرادي بجسده على كرسيّه الهزاز ,قبل أن يسند رأسه إلى مسنده أشعل سيجارته بعود من ثقاب وغبها غباً ,ونفثها غيمة حملتنا ومتأمله إلى فضاء الحكايه الأسطوره ,فكنت أنا شخصياً أمام حكاية من حكايا ألف ليلة وليلة بفارق راويها .
لغة الأديب محمد الشرادي لغة سامقة حالمة ,همسها في أذن القارئ ليستسلم في إغماضة أوقفته متأملاً في هذا الروض الجميل الذي غصَّ بزاهي ألوان اللغة وعبق أريجها .
نص تربع في سدرة منتهى الجمال ,وأجزم أن كاتبه لم يرفع قلمه عن صفحاته من أولى حروفه ختى نهايته ,وإن أراد لنا أن نظن بأنه لم يفعل بفواصله التي بين مقاطعه التي كانت تنقلنا إلى الخطوة التالية لتبعث فينا ذات التوقد في متابعة النص ........
بقي لي تسجيل إعجابي الكبير بنفثة الروح هذه التي أبدع الأديب محمد الشرادي في غزل خيوطها على مغزل فتح له كف الروح كاملة وأداره على فخذ الحكاية المكتنز ......

هبْني نقداً أهبك حرفاً
قديم 10-06-2014, 04:30 PM
المشاركة 3
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كان اﻻنعتاق من هذا الزخم مجهد ....

أ. محمد

رائع جدا ... بورك اليراع ...

عند المطر ..تعلم أن ترفع رأسك ..
قديم 10-09-2014, 09:58 AM
المشاركة 4
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رغم كلاسيكية القصة لكن لغتها الشعرية المحلقة خلقت لها تميزا و جمالا
اعجبني الاستيحاء من عالم الاسطورة و من القصص القرآني و من الموروث الشعبي
ا. محمد الشرادي
تحيتي لك

قديم 10-09-2014, 01:50 PM
المشاركة 5
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
منذ القدم والعقل البشري يحاول أن يصل إلى كنه الأشياء و لا يزال ، شخصيا أعتبر الأسطورة أهم ما أنتجه العقل البشري ، فإذا كان الشعر نوعا من الانفعال وتتسيده الوجدانية ، فالأسطورة هي مقاربة للموجودات بالعقل ، فالأسطورة هي أدب عقلي بها قارب الإنسان وجوده ، عندما قرأت L'Alchimiste للكاتب Paulo Coelho وجدت أن عقل الإنسان المعاصر لا يزال قادرا على إنتاج الأسطورة بتقنيات فلسفية جديدة ، وهذا النص الذي تفضل به الأستاذ محمد الشرادي يمثل نوعا من المقاربة الأسطورية لأصل الجمال ـ الفضيلة ـ المتمثل في زهرة الجوري ، فهي نتاج تضحية بالنفس من أجل الحب .

الأستاذ محمد الشرادي لون جديد ينم عن قدرات إبداعية لا محدودة
كل التحية

قديم 10-18-2014, 10:53 PM
المشاركة 6
محمد الشرادي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رمى القاص الكبير محمد الشرادي بجسده على كرسيّه الهزاز ,قبل أن يسند رأسه إلى مسنده أشعل سيجارته بعود من ثقاب وغبها غباً ,ونفثها غيمة حملتنا ومتأمله إلى فضاء الحكايه الأسطوره ,فكنت أنا شخصياً أمام حكاية من حكايا ألف ليلة وليلة بفارق راويها .
لغة الأديب محمد الشرادي لغة سامقة حالمة ,همسها في أذن القارئ ليستسلم في إغماضة أوقفته متأملاً في هذا الروض الجميل الذي غصَّ بزاهي ألوان اللغة وعبق أريجها .
نص تربع في سدرة منتهى الجمال ,وأجزم أن كاتبه لم يرفع قلمه عن صفحاته من أولى حروفه ختى نهايته ,وإن أراد لنا أن نظن بأنه لم يفعل بفواصله التي بين مقاطعه التي كانت تنقلنا إلى الخطوة التالية لتبعث فينا ذات التوقد في متابعة النص ........
بقي لي تسجيل إعجابي الكبير بنفثة الروح هذه التي أبدع الأديب محمد الشرادي في غزل خيوطها على مغزل فتح له كف الروح كاملة وأداره على فخذ الحكاية المكتنز ......
أهلا اخي زياد
لمرورك عبق لا يبارح.و لتلعليقك وقع خاص في القلب و النفس.
ابق بالقرب أيها الجميل.
تحياتي


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: زهرة الجوري
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بشارة الخوري عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 01-15-2017 10:51 AM
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:49 AM
زهرة ياسر علي منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 6 09-04-2014 01:09 AM
ماقاله الشعراء في الباحث والموسوعي سامي ندا جاسم الدوري ** سامي ندا جاسم منبر رواق الكُتب. 0 07-02-2012 04:23 PM

الساعة الآن 04:35 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.