قديم 05-12-2012, 11:36 AM
المشاركة 561
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أحمد بن عبد القادر:
لا، يوجد بيت لا يوجد به شاعر وبيوت كثيرة.
محمد كريشان:
لا يوجد فيها شعراء.
أحمد بن عبد القادر:
لا يوجد فبها شعراء، أدعياء الشعر موجودون في المشرق والمغرب، أما الشعراء فهم قلة، قلة وفي بلدنا خصوصاً في الجيل المتحضر من المحضرة نسبتهم عالية، نسبة عالية جداً.
محمد كريشان:
يعني استمرار المحاضر والتي كما ذكرنا هي نمط تقليدي للمدارس في موريتانيا، هل تشكل هي المعين المتواصل لاستمرار الشعر والشعراء في موريتانيا؟
أحمد بن عبد القادر:
أولاً المحضرة لم تعد كما كانت لأنه كما سبق أن أشرت إلى ظاهرة الجفاف في دول الساحل قضت على مقومات الحياة الريفية، فالمدارس كثير منها اختفت، المحاضر كثير منها اختفى أو هاجر إلى المدن، والمدن ليست هي الأرضية، ليست هي الرحم الذي ترعرعت فيه المحضرة، هي قامت على قاعدة اقتصادية اجتماعية تقوم على تربية المواشي، وخيام الصوف، والتنقل بين النجوع من مكان مخصب.. من مكان مجدب إلى المكان الأخصب، ومازالت منها بقية لا بأس بها من المحاضر لكنها نسبية جداً، أما الآن فالتعليم عندنا والثقافة بوجه عام والحركة الأدبية بالتالي تقوم بين تراث المحضرة وبالجامعة كمان، إحنا عندنا جامعة وعندنا معاهد وحياة ثقافية في المدن، هناك ازدواجية الآن ما بين ما هو من أصل محضري بدوي وبين ما هو ناشيء من المدن بتعليم مؤسسات (حضارية).
محمد كريشان:
لكن سيد أحمد مع ذلك وجود المحاضر التي مثلما ذكرنا هي النمط التقليدي للمدرسة في موريتانيا، الطالب فهيا يكون مطالب بحفظ المعلقات وبحفظ قصائد تتكون من ألف بيت، هل هذا بدوره يعني ساعد على نمو ظاهرة الشعراء وجعلها أكثر قدرة على الاستمرار في هذه البلاد؟
أحمد بن عبد القادر:
هو المنهاج المحوري ساعد لأنه كان الشعر الجاهلي خصوصاً يحفظ بكثرة، في المنهاج كان الطالب عليه أن يحفظ المعلقات، كان عليه أن يحفظ ديوان الشعراء الستة الجاهليين، كان عليه أن يحفظ ديوان غيلان ذي الرمة، غيلان ذو الرَّمة شاعر من العهد الإسلامي شعره قوي من نطاق الدهنة، وكان يحفظ شعر للشعراء المحليين، وحتى شعر الأدباء العباسيين، ثم كانت البيئة لها عامل، البيئة هنا كانوا ناس رُحل يقطعون في السنة آلاف الأميال، أو مئات الأميال بحثاً عن المراعي ويقول أحد أساتذتنا القُدامى المختار بلبونة صاحب الشرح الكبير على ألفية ابن مالك في النحو من القرن الثاني عشر الهجري، يقول يصف سفره مع محضرته يقول:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
فيها نبين دين الله تبيانا
كانت هناك عوامل تشابه البيئة المُعبَّر عنها بالشعر الجاهلي، بالبيئة التي يعيشها الطالب والأستاذ، ويعيشها الشاعر بالتالي، أنا كنت في نجد قبل شهور، نفس النباتات ونفس طبيعة الأرض في الصحراء الموريتانية، نفس الأرض، ونفس المسميات تقريباً من حيث النباتات والتضاريس، حضر أحدهم شعر امرئ القيس ورأى وتشبع به وتذوقه ورأى الأرض مشابهة هذا أيسر أن يكون هذا مساعداً له، ثم هناك اجتهاد من رجال الدين كان يربى عليه الطلاب أن من لم يفهم اللغة العربية لن يفهم كتاب الله ولا الفقه ولا العلوم الدينية، كان هناك إقبال كبير على اللغة من وجهة نظر دينية واحد اسمه بن متالي أحد الفقهاء البارزين، يقول: تعلم اللغة أفضل من عبادة الله. تعلم الشعر الجاهلي، تعلم اللغة العربية أفضل من التخلي للعبادة،
قل تعلم اللغة شرعاً فضلي
على التخلّي للعبادة الجلي
إذاً عوامل كثيرة خلقت الظاهرة المحضرية الثقافية منها ما هو متعلق -كما قلت لك- بمنهاج المدرسة، وما متعلق بالبيئة، وما هو متعلق بالمنظور الديني الذي يوصي ويُلح على محاولة فهم الدين الإسلامي عن طريق التطلع في اللغة العربية.
محمد كريشان:
ولماذا لم يبرز اسم شاعر موريتاني يكون محل إجماع داخل الساحة العربية رغم هذا التاريخ من الشعر؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا سبق أن قلت لكم إن التحاقنا بقافلة التنوير والتحديث مُتأخرة، ثم جاءت مع السبعينات والستينات، وأعتقد إنه بعد الستينات، بعد السبعينات لم يظهر شاعر عربي موضع للإجماع العربي ككل، لأنه بدأ تدخل البيت العربي الصورة، آلة التلفزة، وبدأ الناس ينشغلون انشغالات أخرى عن هذا الاجماع، بينما كان الشعر في الماضي وفي أوائل القرن هو الشغل الشاغل للناس، ورغم ذلك ففي تلك المرحلة لم يتخط هذا الجدار المغربي، إهدار الخمول أو التخميل المغربي إلى منابر الشرق إلا أبو القاسم وحده، وحده لا سواه.
محمد كريشان:
يعني هل هناك أيضاً حركة نقد في موريتانيا؟ يعني ما الذي، من هو الشخص الآن المؤهل حتى يحكم على مستوى الشعر في موريتانيا طالما أنه غير منتشر خارج حدود موريتانيا، وطالما أن أغلب الناس يقولون الشعر، ولكن مَنْ يُقوِّم هذا الشعر؟ من الذي يُجزم بأن هذا الشعر جيد، وهذا متوسط، وهذا قابل للانتشار خارج موريتانيا، وهذا شعر محلي؟
أحمد بن عبد القادر:
الشعر يُقوَّم على مستويين وبمقياسين، أبناء المحضرة من المسنين ومن الجيل المحضري القديم يقومون حسب ذوقهم وحسب اختياراتهم ومقاييسهم الجمالية تقليدية طبعاً، في المدينة، في الحركة الثقافية في المدينة فيه الجامعة، وفيه أساتذة نقد، فقط لم تظهر عندنا مجلة نقدية متخصصة حتى الآن، ودعني أقول لك إن النقد ما زال عندنا في بداية الطريق لأنه لم تظهر بعد مجلة متخصصة، يضاف إلى هذا الشرذمة -إن صح التعبير- لأن الشرذمة العربية لا تعني الواقع السياسي والتفرق في الآراء والأهواء، فقد تعني أيضاً في الأذواق، فالشعر أصبح يُطلق على أجناس مختلفة والنقاد انقسموا حسب ذلك،فالقصيدة العمودية ذات الجرس القوي يسميها بعض الناس (هذرمة) أو هزيان قديم لا قيمة له، لا يعتبر شعر، وهناك الجانب الآخر أناس لا يعتبرون القصيدة المنثورة شعر، فتفرق الآراء والأهواء ليس لدينا على المستوى العربي مرجعية نقدية متفق عليها، إذا ما تذكرنا مدرسة الحداثة عند أودنيس ومدرسته في النقد تنفي وجود أكثرية ما هو شعر لدينا وله أعداء يعاملونه نفس المعاملة، إن عدت إلى هنا فالنقد عندنا نقد عصري بالمقاييس العصرية، ولكنه في بداية الطريق هو الآخر.
محمد كريشان:
نعم، على ذكر أدونيس، أدونيس زار موريتانيا في فترة من الفترات وكذلك الشاعر محمود درويش، كيف تُقيِّم تفاعلهم مع الشعر الموريتاني؟ كيف وجدوه؟ أو بالأحرى كيف وجدتم مدى تجاوبهم مع ما سمعوه هنا من شعر؟
أحمد بن عبد القادر:
بالنسبة لدوريش، بالنسبة لدرويش كعادته خصصنا له أمسية لوحده، لا شاعر إلا هو، وهذه كان يفرضها على العراقيين وعلى المصريين، وعلى المغاربة، وعلى التونسيين، أفردنا له ليلة، وأفردنا ليلة للشعراء المُحيِّين له فأبدى الإعجاب وقال لي وقتها أنه وجد نفسه ومشاعره من خلال السهرات الأدبية المتنوعة قصائد حرة، قصائد عمودية كلها عن القضية، كلها تحمل مشاعر عربية، كلها تأخذ من لغة الشعر بحظها، ومن المرامي القومية بقسطها، فكان مرتاحاً، وأعتقد أنا حسب معرفتي به أنه لا يرتاح إلا إذا ارتاح لم يكن مجاملاً ولا (…)، أما أدونيس فلم أحضر زيارته كلها، إنما كانت مناورات في الجامعة حول أطروحاته وآرائه الفكرية في النقد وما إليها والثابت والتحول وما إلى ذلك كان هو كل ما عمر به وقته ولم يكن هناك أمسية شعرية، لم تكن هناك أمسية شعرية بمناسبة مجيئه إلينا.
محمد كريشان:
نعم، من بين القصائد الأكثر، ربما التي أخذت رواجاً أكثر في خارج موريتانيا، هل تذكر بعض القصائد سواءً لكم أو لغيركم؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا كتبت قصيدة في الثمانينات من القصائد العمودية التي يسميها بعض الناقدين خطابية، وأنا أسميها شعر عمودي بأغراض عصرية، كان عندنا مؤتمر، مهرجان شعري ساهم فيه شعراء من تونس والجزائر والمغرب وليبيا قلت فيه قصيدة قلما زرت بلد عربي إلا وجدتها عند بعض الأساتذة، رغم أني لم أنشرها في كتاب.
محمد كريشان:
السفينة؟
أحمد بن عبد القادر:
لا ليست الفنية.
محمد كريشان:
ليست السفينة.
أحمد بن عبد القادر:
السفينة أكثر انتشار عند الأوروبيين لأنها تُرجمت إلى الفرنسية ترجمة جيدة، وتعالج إشكالية محلية لا يتذوقها إلا –أعتقد- الإنثروبولوجيين أكثر، لأنها تطرح مشكلة الصحراء ورحيل أهلها، الرحيل المزدوج بالسفينة، الرحيل من المكان إلى المكان بسبب الجدب والرحيل من الداخل، أي رحيل الناس عن عاداتهم وقيمهم إلى لا أدري، يعني رحيل مزدوج، القصيدة اللي إذا حبِّيت أسمعك نماذج.
محمد كريشان:
أي نعم.
أحمد بن عبد القادر:
من قصيدة مهرجان الشعر المغاربي
أحباب عند أهله
وادي الأحبة هلا كنت مرعانا
إن الحبيب حبيب حينما كان
ويا أخ البعد هل تشفيك قافية
تبوح بالنفس أنفاساً وأشجان
أفٍ على الشعر والدنيا بأجمعها
ما لم تقرب إلى الإخوان إخوانا
هون عليك فذاك الشمل مجتمع
والنجع لاقى على التحنان خلانا
إن الحمائم قد عادت مغردة
فوق الغصون وعاد البان نشوانا
أما رأيت طيور البحر حالمة
في أفقنا ترسم الأفراح ألوانا؟
فسل معللة الأنخاب هل نسيت
بعد الرحيل كؤوساً كن هجرانا؟
وسل أحباءك الآتين كيف أتوا
وكيف ناموا على الهجران أزمانا
وشائج الأرض أقوى من نوازعنا
والحر ينسى طباع الحر أحيانا
أحبابنا الأهل مرحى يوم مقدمكم
هذا لقانا فهل تنضم أشلانا؟
هذا لقانا فهل آمالنا انعتقت؟
وهل نسينا ربيع الوصل قد لانا
نريده غرسة للمجد واحدة
لروحاً يكلِّلُ عُري الأرض تيجانا
ولا نريد مواثيقاً
الاتخاد المغازي يعني..
ولا نريد مواثيقاً مطرزة
تعيش في الورق المنسي أدرانا
ولا نريد ابتسامات مؤقتة
تغشى الوجوه وتغدو بعد نكرانا
قبل اللقاء أحرف التاريخ ما عرفت
وجه الصباح ولم تطربه عنوانا
كأن (طارق) أوصانا بأندلس
شراً و(عقبة) لم يحلل مغنانا
نروي لأبنائنا فخر الجدود ولا
نبدل الشوك عبر الدرب ريحانا
وكيف ينفعنا عز الأوائل
ما دمنا بغاة وطار الغير عقبانا؟
حار الأدلاء والبيداء تبحث
عن نجم السبيل ولم تعرف له شانا
وإنما نفنحات الضاد تسعفنا
نوراً إلى الليل في بلواه أعشانا
وإذا الرياح تراتيل بغير هدى
تسبي الذي يعبر الأمواج وسنانا
وتخطف البرق من أحشاء سطوته
وتترك الغيم في علياه ظمآنا
يا غرسة المجد، هل تسقيك أغنية
من وحي (أوراس) تبري الكون ألحانا؟
وهل تجود عليك الدهر ماطلة
من القلوب تحيل الصخر وجدانا
نبه لها عمر المختار وادع لها
عبد الكريم بمازان وما صانا
ونادِ شنقيط واستنفر منابعها
والقيروان وتطواناً وغزانا
فالكرم قد عانق الزيتون في مرح
والطلح يزهو عساليجاً وأغصانا طويلة

قديم 05-12-2012, 11:36 AM
المشاركة 562
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
محمد كريشان:
نعم، يعني هذا الالتزام مثلاً إذا أردنا أن نكون أكثر دقة مثلاً التطورات الأخيرة التي شهدتها موريتانيا والجدل الداخلي الذي أثاره موضوع التطبيع مع إسرائيل، هل حفز همم بعض الشعراء؟ أم ربما في مرحلة مقبلة؟
أحمد بن عبد القادر:
ما دام التطبيع ظاهرة عربية فلابد يوماً، ما أن تكون له أن يوجد أدب تطبيع، ولكن هنا لم أره بعد، لم أجد هنا أدب تطبيعي، وعندما يوجد سأجيبك بملاحظتي عليه، لا مساهمتي فيه.
محمد كريشان:
لا أقصد الأدب التطبيعي، الأدب المناهض للتطبيع.
أحمد بن عبد القادر:
قد يوجد، قد يوجد.
محمد كريشان:
لكنه لم يوجد بعد؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا لم أتصل به لكن أعتقد أنه موجود.
محمد كريشان:
لأنه بعد القرار الأخير تحرك الساسة، تحركت الأحزاب، تحرك، إذا لم يتحرك الشعراء؟
أحمد بن عبد القادر:
أعتقد أنا شخصياً لم أتحرك.
محمد كريشان:
لماذا؟
أحمد بن عبد القادر:
ربما لم يستحق الموضوع عندي، لم يستحق الموضوع عندي.
محمد كريشان:
يعني كل الهموم العربية التي أثرتها في شعرك، الموضوع الموريتاني الإسرائيلي لم يحرك فيك شيئاً يعني هنا مفارقة ربما؟
أحمد بن عبد القادر[مقاطعاً]:
ربما..
محمد كريشان[مستأنفاً]:
ولم يحرك شعراً ربما بالتحديد.
أحمد بن عبد القادر:
على كل حال شعوري لم يحركه فأمدحه.
محمد كريشان[مقاطعاً]:
ولم يغضبك فتهجوه.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
وإن أغضبني فلم أتكلم عنه بعد.
محمد كريشان:
نعم، إشارتنا قبل قليل إلى قصيدة السفينة تعود بنا مرة أخرى ربما إلى ما يسمى هنا بأدب التصحر، يعني ما هو هذا الأدب بالتحديد؟ ما هي ملامحه.
أحمد بن عبد القادر:
هذه كلها ظاهرة اجتماعية أدبها، والموقع اللي تقع فيه موريتانيا هو في شمال الصحراء، شمال غرب إفريقيا، والصحراء الكبرى تشغل 40 أو 60% من البلاد الموريتانية، وهي في الشمال، وعواصف التصحر تأتي من الشمال، الصحراء تتجه.. والتصحر يتوسع جنوباً، يعني إلى ما جنوب الصحراء، والموريتانيون يشعرون بالغربة عن أمتهم ولغتهم، عن أمتهم بسبب البعد، فنحن الصحراء الكبرى تقع ما بيننا مع المغرب والجزائر وتونس، وتعزلنا عن محيطنا، وأعتقد أن مَنْ تتبع تاريخ التصحر يجد أن سكان موريتانيا كانوا قبل خمسة قرون يوجد 90% منهم على مسافة ألف، ألفين كيلو متر إلى الشمال، فكانت الصحراء.. كانت كل دورة تصحرية يعني البلد تتداوله فترات خصب وفترات تصحر، لكن كل فترة خصب تأتي بعد أن توسعت الصحراء، ولا تعوض، فتأتي الدورة الجافة فتبتعد الصحراء إلى الجنوب، فنحن كنا ندفع إلى خط الاستواء بعيداً، لأنه بلغ المنى دول غرب إفريقيا بعضهم بلغ بالمواشي أدغال إفريقيا البعيدة بحثاً عن المرعى..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
وأيضاً انعكس في الشعر هذه الهموم بـ..
أحمد بن عبد القادر:
بالبعد وبالاقتراب من خط الاستواء البعيد علينا شوية إلى الجنوب، فكان هناك اضطراب قوي، وكنا نرحل عن أرضنا، يعبر أحد البداة تعبيراً شاعرياً جميلاً، ولكنه نثري، يقول: سلم عليه ابن عمه قال له: ماذا طرأ فيكم؟ في أرضكم؟ قال له: اللي طارئ فينا إنه فيه كثبان جديدة وتلال جديدة، معالم جديدة في الأرض، لازم تذبحوا لها كباش وتسموهها، ما تحمل أسماء، المعالم القديمة ماتت، وعندنا أصبحنا نعيش بين معالم جديدة لا تحمل أسماء، يعني يشعرون بانفصام، اجتذاه من العروق ينتج عنه قلق كبير.
قصيدة السفينة -كما تفضلتم بالحديث عنها- تمثل هذا النوع، وأفضلها:
رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون.
وها نحن نبحر كما كان آباؤنا يبحرون.
تقول لنا ضاربة الرمل وا عجباً سفينتكم..
رفعت كل المراسي مبحرة.. ألا تشعرون؟
وهو حوار مع ضاربة رمل..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
رمل.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
تخبرهم بحظوظ الفناء، أو ما يدعو للقلق..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
هل..
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
من قصيدة السفينة سبقتها قصيدة اسمها الكواليس، كواليس التصحر، أقول فيها:
مرت بقربي حمائم ثكلى
وردن الغدير، وسرن عطاشاً جنوباً جنوباً
يطاردن أعشاش جيل جديد
يحلق في الجو من غير ريش.
ويؤسفني في بكاء الحمام أن ضحاياه..
في عهد طوفان الرمادة أنسته ضحاياه..
في عهد طوفان نوح عليه السلام.
ويؤسفني يا سيال الرمال نور البطاح..
أن الحياة..
يعني إلى آخره.
محمد كريشان:
نعم، هل هذه المحلية الخاصة بالشعر الموريتاني وارتباطه بالبيئة هو الذي ربما يجعله لاحقاً أكثر انتشاراً، أكثر من ارتباطه بقضايا الأمة العربية والقضايا السياسية، يعني أشرتم مثلاً إلى السفينة أنها لاقت اهتمام في أوروبا لأنها تُرجمت، ربما لأنها موريتانية قحة، ولأنها محلية وخاصة بالبيئة، وأحياناً يُقال: كلما كان الأدب محلياً كلما صار عالمياً.
أحمد بن عبد القادر:
الأقطار العربية، أو الشعوب العربية على تباعدها المطلوب من كل واحد منها هو ما سيضيفه، لا ما سيأخذه من الآخرين من الأشقاء، والسؤال.. كل ما (...) خصائص هذا البلد، إبداعاته التي لا توجد في شعر مصر، ولا في شعر الحجاز، ولا في شعر.. في أي بلد هي التي سيُكتب لها البقاء، وهي المهمة، فأروي لك حكاية إني كنت مرة في طرابلس، مؤتمر اتحاد أدباء العرب، وكان فيه أستاذ عراقي يُسمى دكتور ناجي.. محامي ما أذكر اسمه، ناجي هلال أعتقد، في السبعينات، وكان ينظم دائماً إذا وصل، وحصل حضور مؤتمر اتحاد الأدباء العرب، يقول: أنا سأنظم مؤتمر الأدباء المنقح على الهامش، ويأخذ شعراء من كل قطر يبدؤون بمطارحات شعرية كل اللي بتحكيه بيت من شعر بلده، وعند اليمين يقوم هذا، مطارحة يعني، كان معي زميل من موريتانيا، فوصلت إليّ الدورة، وعليّ أن أبدأ بيت أوله ألف [أ] في المطارحة، فألقيت بيت لأحد الشعراء القدامى في موضوع غزلي يقول:
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
فصاحبي غمزني قال لي: هذا ليس فصيحاً، فمدير الندوة قال: أعد البيت واشرحه لنا. قلت له: هذا شاعر يحب زوجته ويكرمها، وله تعلق بغيرها، ويعيره العُزَّال ألا يمنح قلبه لغير زوجته، فقال:
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
عندنا مثل شعبي يقول: "نتفوا الحشيشة بينهم.. يعني كان بيت.. الزوج إياه كان شاب، حوله خيمة أصهاره بينهم حياء، يجعلون ساتر من الحشائش بينهما، للحياء بس باب الحياء، فإذا وقعت بينهم مشاجرة أو مشادة تنتف الحشيشة يعني تنتزع المهابة بينهم، فاستنبط الشاعر الفكرة من هذا المثل الشعبي الذي لا يوجد له نظير هناك، بل هو محلي هنا.
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
فكان.. أن كانت الخلاصة أمر مطلوب من كل حركة أدبية وكل شعراء كل قطر هو إغناء العرب بما سيرفدونه به المجرى العام بما يأتي من الروافد، نحن روافد، كل قطر يعني رافد، فأنا معك أن ما ركز على الخصائص هنا هو اللي يحكم له البقاء، أما الآخر فيجمعنا مع الآخرين، ولكن ليس بالعمق نفسه.

قديم 05-12-2012, 11:37 AM
المشاركة 563
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
محمد كريشان:
على ذكر المطارحات، يعني أحياناً يُذكر بأن بعض الشعراء في موريتانيا بإمكانهم أن يرتجلوا على الفور قصيدة ما أو أبياتاً ما، هل هذا يمكن أن يكون إبداعاً شعرياً له مقومات الإبداع الحقيقي؟ يعني هذا الارتجال الفوري هل هو مفتعل؟ هل هو فعلاً حقيقي، ويدل عن موهبة خاصة؟
أحمد بن عبد القادر:
الارتجال الشعري من قطعة.. من خمسة أبيات.. ستة شيء معروف عند العرب. والارتجال يأخذ دقائق، إذا كان الإنسان منفعلاً، إذا كان موضوع يعني موضوعاً يحس به إحساساً خاصاً يرتجل، لكن هذا الارتجال لم يعد اليوم، هذا في الماضي، في الصحراء هنا الماضية كانت للشعراء وللناس عقليات وحاضرات وحاجات لا نفهمها نحن هذا اليوم، كانت أشبه بحياة الجاهليين العرب القدماء، وكان مردودها الارتجال، يدل على سرعة البديهة والدربة، وعلى –أيضاً- حساسية.. أهمية، حساسية خاصة للموضوع في نفس الشاعر، إذا كان غضبان في موضوع مفاخرة، أو إذا كان عاشقاً وهدَّه البين بالحزن، هذا من الشاعر استذكرت اللي الآن بيتاً من شعره يُقال: إنه ارتجل أربعة أبيات أو خمسة عندما رأى حبيبته ترحل من حيه إلى حي آخر، قال.. ارتجل:
أتمسك دمع العين وهو يروف
أتأمن مكر البين وهو مخوف وتمسك دمع العين وهو يروفُ تكلم منا البعض والبعض ساكت غداة افترقنا والوداع صنوفُ
حلفت يميناً..
وآلت بنا الأحوال آخر وقفة إلى كلمات مالهن حروفُ
حلفت يميناً لست فيها بكاذب بعقبى الحانثين عروفُ
لئن وقف الدمع الذي كان جارياً إذا الماء مور مالهن وقوفُ
هذا ارتجال وهذا الشعر مقبول.
محمد كريشان:
سيد أحمد، وتحدثنا عن الهموم المحلية والهموم العربية في الشعر الموريتاني، ولم نتحدث عن مكانة المرأة في الشعر الموريتاني، المرأة لها وضع خاص ومتميز في موريتانيا، كيف انعكس ذلك على الشعراء، سواء في غزل أو في غيره من المواضيع؟
أحمد بن عبد القادر:
كان الشعر الغزلي منتشراً، وفي المجتمع القديم.. في المجتمع القديم كان الشعر الغزلي كثير، وكان أوسع الأنواع الشعرية..، الأساليب الشعرية من حيث استقبال المتلقي، وكان الشعر العربي عندنا الغزلي شعر يميل للعذرية، كان شعراؤنا الأوائل تلامذة للجاهليين في لغتهم وتلامذة للعذريين الإسلاميين في أسلوبهم، ولم يكن.. ولكن كان هناك نوع من التقليد إنه لا يمكن أن تمدح أحداً، أو تهجو أحداً، أو ترثي ميتاً، أو تمدح الرسول إلا بمقدمة غزلية.
محمد كريشان:
يعني هل فقط اختصر الأمر على التعاطي مع المرأة في موريتانيا على قضايا الغزل دون غيرها أم امتد إلى قضايا أخرى؟
أحمد بن عبد القادر:
كان عندنا في الستينات شعر لشاعرات يطالبن بتحرر المرأة ومساواتها مع الرجل، ولكن هذا حديث.
محمد كريشان:
ماذا عن شعر المرأة المتغزل –أحياناً- بالرجل المعروف هنا في موريتانيا (بالتبراع)؟
أحمد بن عبد القادر:
هذا عندنا بالحساني، هذا عندنا بالعامي، تغزل المرأة بالرجل بنوع من الشعر الشعبي الخاص، وبالعربي لا يوجد.
محمد كريشان:
لا يوجد.
أحمد بن عبد القادر:
لا يوجد، والله إذا كان قد وُجد فهو نادر، يوجد بالعامي.
محمد كريشان:
المعروف بس بالتبراع. يعني مثلاً بالنسبة إليك هل كانت المرأة لها حضور خاص في شعرك أو في شعر الجيل الذي تنتمي إليه من الشعراء؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا المرأة أجلها كثيراً، وتبهرني كثيراً، لأنها هي إنسان، وهي نصفنا الآخر، وهي جمال، وهي أمومة، وهي روعة، لكنني لم أكن -حسب التجربة- متغزلاً كثيراً، لم أكن متغزلاً، ربما لأني أيام نضوج كتابتي للشعر كنت في التزامات سياسية واجتماعية.
محمد كريشان[مقاطعاً]:
لم يكن لديك وقت للمرأة.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
لم يكن.. يعني نراه نوعاً من الترف الذي لا داعي له، وله مَنْ يقومون به، مرة دعوني بعض الجماعات وهذا من باب الارتجال ولم تكن من زمن بعيد، زمن قريب دعاني أصدقائي في ملتقى في حفل أكتب لنا غزلاً، أكتب لنا غزلاً ولازم أن تُضيف إلى دواوينك شيئاًمن الغزل فارتجلت بيتين:
قالوا تغزل فالحياة خميلة والقلب يندى بالجمال ويورقُ
فرفعت عودي كي أبوح وإنما عفت الديار فلا مليح يُعشق
محمد كريشان:
من بيتين فقط لاغير.
أحمد بن عبد القادر:
شطر مضمن تقريباً، كفاية فيه بركة.
محمد كريشان:
سيد أحمد ولد عبد القادر شكراً جزيلاً.
أحمد بن عبد القادر:
شكراً لكم وللجزيرة.
المصدر: الجزيرة

قديم 05-13-2012, 02:40 PM
المشاركة 564
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
العوامل التي اثرت في صناعة شاعرية أحمد بن عبد القادر:

لا شك انه ابن الصحراء وشظف العيش فيها وابن البادية وسحرها وقساوتها وهي عناصر كفيلة بأن تصنع الشعراء لكننا لا نكاد نعرف شيء عن طفولته وعن تفاصيل هذه الطفولة.

سنعتبره مجهول الطفولة لاننا لا نستطيع ان نجزم بأنه كان يتيم اجتماعي او مأزوم رغم ان بيئة الصحراء وقساوتها ازمة بحد ذاتها.

مجهول الطفولة.

قديم 05-13-2012, 03:36 PM
المشاركة 565
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
77- الاغتيال والغضب موفق خضرالعراق
البُنية السردية في الرواية السبعينية
وإشكالية توظيف الحوار الفني
أ.م.د باقر جواد الزجاجي
كلية الآداب / جامعة أهل البيت (ع)

ملخص :
يكتسب الحوار أهمية كبيرة في العمل الروائي عموما وذلك أن يمثل الملفوظ القصصي الذي تنطق به الشخصيات لتعبر عن نفسها ومستوى تكوينها ومجال فعلها الروائي عامة.
وقد دأب الكتاب السبعينيون على توظيف عنصر الحوار في أعمالهم الروائية من اجل غايات مختلفة كان من أبرزها التعبير عن الواقع النفسي والشعوري للشخصيات , والتعبير عن المستويات الفكرية بأسلوب تمثيلي بدلا من الاعتماد على السرد أو الوصف وحده .
وقد ابرزا لحوار وضوح الرأي للشخصية الروائية وتعبيره عن أحوال الشخصية المختلفة .
هذا ما حاول البحث الوصول إليه بمجموعة من المباحث التي اشتملت عليها .

المقدمة
ظل حوار ( الشخصية ) الإنسانية في الرواية الواقعية (الحديثة) يُشكل العنصر الأكثر فعاليّة وتأثيرًا في العناصر الأخرى ، ذلك أنَّ أهم ما يُميز تلك الشخصية درجة قربها أو صلتها بالقراء ، سواء أقام ذلك التقارب على الانحياز لها أم ازدرائها . (( فإذا ما كانت شخصيات مقنعة فسيكون أمام الرواية فرصة للنجاح ، وإلا فسيكون النسيان نصيبها)) (1) إذ على الكاتب أن لا يتحدث بلسانه الشخصي بل بلسان الشخصيات المختلفة التي نصادفها في القصة (2) .
ولا شك في أن هذه الصلة ليس لها أن تتحقق دون روابط فنية تجعل القارئ يتحسس بعمق ويقين طبيعة تكوينها ، فيستدل من خلالها على حقيقة البواعث النفسية والعقلية والشعورية التي تحكمت في تحديد مواقفها داخل الحدث ، وهذا الإحساس لا يتم من غير أن تسمعنا الشخصية صوتها الحقيقي إذا تحدثت معنا ، ومع غيرنا ، ومع نفسها . إنها (إنسان ) لا بد أن تتحدث (3) ، سواء كان حديثها ضمن البنية السردية للعمل الروائي ، إثرَ تعبيرها عن رؤيتها الذاتية من خلال المونولوج الداخلي وتيار الوعي الباطني ، أم منقولة من الخارج عبر الروائي الموضوعي (كلي العلم) ، أو كانت عبر إيحاءات رمزية ، أو حركات لا إرادية دالة .
من هنا كانت أهمية (الحوار) باعتباره عنصرًا له خطره في العمل الروائي ، إذ يستدل به على وعي الشخصية وتفردها ، ويُساهم في تطوير الأحداث ، فضلاً عن دوره في المساعدة على بعث الحرارة والحيوية في المواقف المتميزة التي تساعد على تشكيل البناء الفني للحدث منطقيًا ، بشكل يحقق معه تصورًا متكاملاً لظواهر الواقع ، تصورًا يعتمد على التنوع في الرؤية ، والشمول في آفاق التفكير .
ولعل كُتّاب الرواية الواقعية الحديثة في العراق لم يغفلوا أهمية هذا العنصر المهم في بناء رواياتهم ، بخاصة وأنهم اعتمدوا في رسم شخصياتهم مهمة التركيز على موقف الشخصية المتفرد ، فضلاً عن اشتراكها مع الشخصيات الإنسانية الأخرى في الرواية ، حيث تدور حولهم حوادث القصة ، ويمثلون مدار المعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء ، عبر ما يجري من حوار .
وإذا كنا قد أسهبنا في الحديث عن خطورة الحوار وأثره في استقامة العمل الروائي ، باعتباره المؤشر الفني لرصانة تأسيساته واستقرار عناصره وتلاحمها . فان الاستدلال به عن وعي الشخصية ومدى قدرتها على اتخاذ الموقف المتفرد ، فضلاً عن إسهامه المباشر في تطوير المواقف والأحداث وشحنها بطاقات خلاقة وحيوية فاعلة ، تجعلها قادرة على تحقيق تصور دقيق ومتميز لظواهر الواقع وتناقضاته ، عبر رؤية شاملة وتفكير متعدد الآفاق .. هو ما يهمنا في هذا القسم من الأعمال الروائية السبعينية ، التي تناولت عوالم متعددة البيئات ومتنوعة القيم(4).
ذلك أن هذا التغاير الذي تجسد أصلاً في طبيعة رسم الشخصية ومستلزمات بنائها الفكري ، كان له تأثيره المباشر في مستوى وعيها العام وأسلوب لغتها ودلالاتها . ومرد ذلك يعود لسببين كما نعتقد :
الأول : إن عالم المدينة المتحرك ، الذي يتسم بالسرعة والصخب بحكم كثافة السكان قد خلق واقعًا معينًا له دوره الحاسم في هذا المجال ألا وهو تعدد الجنسيات والأصول ، واختلاف النشأة البيئية وما ينتج عن ذلك من تباين في آفاق التفكير وطبيعة الرؤية وتحديد السلوك (5) .
أما السبب الآخر – الأكثر تأثيرًا – (هو الطبيعة المختلفة للأعمال والمهن في المدينة وتباين متطلباتها وتنوع مردوداتها الاقتصادية على الفرد ، الذي يؤدي- بالتالي - إلى تحديد المنحى الثقافي للشخصية ، فضلاً عن تشكيل بعدها النفسي وانعكاس ذلك على طبيعة علاقاتها بالآخرين(6) .
هذا الاختلاف المتعدد حد التناقض في تحديد علاقات الإنسان بالإنسان من جهة ، والسلطة من جهة ثانية ، وبالحياة عامة من جهة أخرى ، والذي أدى إلى خلق الطبيعة المتميزة لإنسان المدينة الفائرة ولاسيما في الجانب النفسي .. إذ وجد نفسه مطالبًا – لكي يحقق الغاية التي يرجوها من وجوده الكوني – أن يواجه قوتين كبيرتين – عبر صراع دائب- الأولى تتمثل بالذات الطموح حد الخيال في علاقاته مع الآخرين ، والثانية خارجية تمثلت لديه بقوى التحدي لبعض فصائل المجتمع والدولة والطبيعة ، من خلال الحوار الدرامي المتوتر ، الذي تكشف كل جملة فيه عن مظهر جديد للشخصية وتخطو بالحدث الى الأمام(7) .
وهنا لا بدَّ من ظهور ثلاثة أنماط من السلوك لإنسان المدينة ، وجد فيها الروائي ضالته لتحديد هوية الشخصية داخل العمل الروائي ، حيث توزعت بين الشخصية السوية (الإيجابية )، التي أقترن فكرها بفعلها ، وأخرى أخفقت في إلباس الفكر رداء الفعل ، بينما أضاعت الثالثة روح الفكر في متاهات الفعل اللامسؤول...
وهذا ما حدا بالكتّاب –أحيانًا- إلى استبطان الذات واللجوء لاستخدام عنصر الحوار الداخلي (المونولوج) بغية التعبير عن الإحساس الداخلي للشخصية عبر رؤية ذاتية ، وخاصةً فيما يتعلق بالنمطين الأخيرين ، وهنا يُثار سؤال ! فهل يا ترى وفق روائيونا في تحقيق التوازن المطلوب بين فكر الشخصية وأحاسيسها ، وبين مواقفها المعبرة وسلوكها اليومي مع بقية الناس ، عبر الحوار بمختلف أنواعه ؟؟(*) هذا ما ستكشف عنه الشخصيات ذاتها. من خلال تحليلنا لأعمال العديد من كتاب الرواية في العراق – وهنا يجدر بنا القول بأنهم حرصوا-غاية الحرص – على إيلاء عنصر الحوار قدرًا كبيرًا من طاقتهم الذهنية وحسهم الفني . بخاصةً وأنهم اعتمدوا في بناء شخصياتهم على إبراز دور الفرد (الفاعل) ضمن إطار الجماعة لخلق الغد الأفضل معبرًا عن أشواق الإنسان في كل مكان ، رغم صور التعسف والعنت المتعددة . هادفين من وراء ذلك إلى خلق الإنسان العراقي الجديد ، الذي يطمح لتحقيق مصالحه الحيوية المشروعة بمنظار المستقبل ، ولا غرو فان هذا الهدف كانت له دالته الفنية في تحديد سمات الحوار وتنويع خصائصه الفنية سلبًا وإيجابًا ، سواء ما تعلق ذلك بطبيعة بنائه أم بتحديد وظائفه داخل العمل الروائي ، والتي أمكن إجمالها في خمسة (مباحث) ، هي :
1. التعبير عن الواقع النفسي والشعوري للشخصيات .
2. التعبير عن المستويات الفكرية بأسلوب تمثيلي ، بديل من السرد الوصفي .
3. تنوع موضوعات الحوار بتنوع الشخصيات وتعاظم حيرتها بين الواقع والطموح .
4. إبراز جوانب التفرد وسيادة الرأي الحر للشخصية .
5. واقعية اللغة ، وتعبيرها عن لسان الحال لا المقال .

قديم 05-13-2012, 03:37 PM
المشاركة 566
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
1)
وأول ما يطالعنا به الحوار تعبيره عن الواقع النفسي والشعوري للشخصيات داخل العمل الروائي والذي يمنح القارئ فرصة التعرف القريب على الدوافع الحقيقية التي تغلف مواقف الشخصيات وتفسر انفعالاتها الذاتية إزاء التحديات المختلفة على امتداد الرواية .
وهو من غير شك وثيق الصلّة بالهدف المحوري الرئيس لكتّاب الرواية عندنا ، والذي سبقت الإشارة إليه .
فـ(أنيسة) في رواية (تماس المدن) لنجيب المانع يجسد حوارها مع د. رائد مديرها في العمل حقيقة الدوافع الذاتية الكامنة خلف اتهامه إياها بتشويه سمعة الدائرة جراء علاقتها العاطفية مع (احمد) . فهي عندما وضعته أمام حقيقته اللاأخلاقية ، التي عبر عنها في مواقف دنيئة غير إنسانية تجلت واضحة باستحواذه اللصوصي على رسائلها المتبادلة مع احمد ، مجيبة على اتهامه قائلة : " قبل أن أجيبك يا أستاذ ، أريد أن أعرف كيف تصل مثل هذه الأمور الخاصة إليك ..؟؟ ويستمر الحوار ليكشف أبعادًا أكثر عمقًا في نفسية د. رائد إلى حد التصريح له بنواياه الخبيثة إزاءها قائلة : (( اسمع يا أستاذ ، أنا أمامك الآن هيا انتقم ..- ولماذا انتقم وعماذا . – ها ، - أ عليّ يجوز هذا الكلام ؟؟ . - .. لا تحاولي أن تكوني بطلة مرة واحدة حين أفلت من مخالبك .. )) (8) .
وحوار (سعاد) في رواية (رموز عصرية ) للقاص (خضير عبد الأمير ) مع رفيق صباها (خالد ) في لقائهما العفوي بعد غيبة سنوات في العمل الوظيفي عبر – هو الآخر- عن مكنونات المستوى النفسي في بناء المواقف السابقة والتنبؤ بطبيعة المواقف اللاحقة ، وبذلك فقد كان له دوره الفاعل في دفع مسار الفعل الدرامي داخل الهيكل العام للرواية :
" قال خالد بعد صمت : - أيام طويلة مرت .- كنت فيها أتابعك وأقرأ بعض ما تكتب في الصحف .
قال خالد :
- لكني لم أعرف عنك أي شيء .
ابتسمت وقالت : ستعرف .
- لقد كانت مجرد أحلام يحبكها خيال الشباب .
- من يدرينا من أن تلك الأيام كانت بداية لمستقبلنا)) (9) ، ويتواصل حوارهما بتدفق سلس ، مفصحًا عما كان يختزنه كل منهما للآخر من مشاعر دفينة ....حين تخبره بدوافع اختراعها لمسألة زواجها عندما تقدم لها قائلة : ((كنت أكذب يا خالد ... أردتك أن تبتعد عني وتجد طريقك في الحياة لا أن ترتبط بامرأة طلقت وأنت في مرحلة الصبا .
- إذ كنت تحبينني ؟
- سمه ما شئت)) (10) .
و( منذر ) في حواره مع (حمد السالم ) ، و( حميد مزبان ) رغم حرصه على إخفاء عاطفته المتوهجة إزاء (سليمة ) ، عندما قال لـ (حمد ) يشكره على حمايته الحانية وعطفه السخي له في عرزاله ، رغم مطاردة السلطة . " تعرف يا أبا زهرة ؟ .. رغم أنني أحببتك أخًا كبيرًا ، إلا أنني أتمنى لو أنني دخلت السجن بدلاً من المجيء إلى هنا .
ضحك حمد السالم بمرح ثم قال :
- ابن العم ؟ لا تهتم ! .. إذا كانت هذه الفتاة قد دخلت في أعماقِ قلبكَ بهذه الدرجة ، فستكون لك حتى لو أدى ذلك إلى موتي .
قال حميد : ماذا ؟ ... هل هناك سر لا أعرفه ؟
قال منذر : لا أدري يا حميد ماذا حدث حتى هذه اللحظة " (11) .
لقد أسهم الحوار هنا في ولادة عنصر جديد لفكرة الرواية كان له دوره الخطير في تجسيد البعد الدرامي عبر محور العلاقة العاطفية الواعده .
والحالُ ذاتها واجهها (حسن مصطفى ) في رواية (المبعدون ) للركابي عندما وشي حواره مع (نضال ) مقدار تعلقه الحميم وإحساسه النفسي المفرط تجاهها . مما دفعها إلى التلميح له عن تعاطفها المتكافئ قائلة بدلال : " لماذا تنظر إلي هكذا ..؟ - علي أن أذهب .
سأل باختلاج :
-هل آذيتُكِ يا نضال ؟
كانت آثار ضحكتها لا تزال على الشفتين .
- لا . " (12) .
إن هذه السمة الفنية الخلاقة للحوار بما تبعثه في جسد الرواية من علامات الصحة وطاقات النمو ، عبر تحكمها الواعي في بناء الفعل الدرامي ، كان لها رصيدها الظاهر من اهتمام سائر كتّاب الرواية وهذا ما جعل نتاجات بعضهم تحقق مستويات فائقة في مجال كتابة الرواية الحديثة .
(2)
أما السمة الثانية التي لونت طبيعة الحوار وعناصر تكوينه فهي تعبيره عن المستويات الفكرية والثقافية بأسلوب تمثيلي مركز لا يجنح إلى التقرير أو الوعظ ، فقد حرص هؤلاء على أن تظهر مفرداتهم دالة مدببة ، تحمل في طياتها مخزونًا ثرًا من الأفكار والقيم المؤثرة ، فأن قدرة الكاتب الموهوب تتجلى في مقدار ما يطرحه من أفكار عبر تعمقه فيما وراء المظاهر السطحية ، فيعبر من خلال الرؤية الموضوعية الخارجية عن خوالج الناس التي يشعرون بها – إزاء أنفسهم وعالمهم – ويعجزون عن الإفصاح عنها، فيتولى هو عنهم ذلك (13) .
ولعلَّ هذه السمة بما تمتلك من خاصية موضوعية كانت موضع اهتمام رواد الرواية ذات المضمون الثقافي والسياسي قبل غيرهم ، ذلك أن هذا النوع من الروايات يتميز بقدرة رهيفة على ربط (المتعة بالوعي) مما يساعد على تألق وثراء المضمون .. فضلاً عن أنها تشف عن الخط السياسي لشخصياتها – التي ترمز لشخصيات المجتمع – وبما أن النظام السياسي لا ينفصل عن النظام الاقتصادي والاجتماعي فإنها بالضرورة ستكشف عن شخصيات روائية تولد وتتحرك وتتحدث ، كثمرة للوضع الاقتصادي والاجتماعي وتعبير عن أبعاده ومستوياته(14) . سواء ما جرى ذلك ضمن الرؤية الموضوعية الخارجية عن طريق الراوي كلي العلم ، أم جاء عن طريق الرؤية الذاتية الداخلية المحدودة للشخصية نفسها .
فالحوار الدائر بين (علي سعيد ) وبين فتاة المقهى (سيبلا) في برلين يتعرض لمشكلة تكاد تبدو همًا عصريًا يُعاني منه مجتمعنا العربي ، وهو في تطلعه لِآفاق النهضة الأوربية ، وطموحه لاحتواء جوهرها ، ليزاوج بينه وبين معطيات تراثه العريق :
(( - أستطيع القول أنك عربي .
- أجل أنا عربي ، ولكن كيف تمكنت من معرفة هويتي بهذه السرعة .
- صديقي في براغ أيضًا عربي من الأردن .
... هل أنت أردني ؟
- أنا عراقي .. أُفضل القول دائمًا أنا عربي .
- عرفت منذ جلست على المائدة أنك عربي ، الحقيقة إن أشكالكم متقاربة .. لكن صديقي الأردني لا يُريد العودة إلى وطنه ، يقول : الحياة صعبة هناك..
- أستطيع فهمه لكن لا يمكنني التسليم بحقه في موقفه .. إن بلاده بحاجة إلى خبراته ومعارفه )) (15) . ويتواصل الحوار مع تدخل شخص ثالث ، ليتعرض إلى هموم العربي وهموم الأوربي حيث القيم الأصيلة هناك ، والمادة المعبودة هنا في أوربا ويصل إلى حد إقناع الشابين الأوربيين )).
لقد أجتهد الروائي – كما هو واضح من سير الحوار المتنامي – أن يمنح المفردة الواحدة طاقة حية واسعة ، مستثمرًا كل أبعادها الفكرية والنفسية . فهو عربي إذن ، وهو لهذا كريم في عطائه بمختلف أشكاله – عطاء الفكر والتراث ، وعطاء البساطة (الواعية) والوفاء المحسوب . انه ليس (غربيًا ) يستنزف القيم ويهدر الأحاسيس ، يغتال الوجود الإنساني بمقصلة المادة . وهنا يبدو جليًا دور الحوار للتعويض عن الوصف السردي في عرض المتن الحكائي .
وللموضوع ذاته يتشعب الحوار القائم بين (مجدي ) وضيفه (الدكتور (رائد) العائد من باريس في رواية (تماس المدن) ، الذي آثر الانغماس في المتع المتهافتة والمظاهر السلبية خلال دراسته ، عبر حوار طويل أتسم بالحيوية والسيولة مما دفع بالمواقف إلى التطور باتجاه خلق القيم والأفكار الرائدة في هذا الجانب أو ذاك(16) .
وحوار ( خالد ) مع (سعاد) في (رموز عصرية) أفرز هو الآخر آفاقًا عريضة من المفاهيم الِإنسانية والأفكار المتحفزة عبر اختيار فني مقصود للمفردات والجمل ، بشكل حقق معه قدرًا كبيرًا من التركيز والإيحاء ، الذي تميز به القاص (خضير عبد الأمير ) عبر تراثه القصصي . فشخصية (خالد) ذاتها تعترف بما أوحته كلمات (سعاد) المحدودة في تعقيبها على موقفه من الماضي تصورات جديدة على الرغم من قلة مفرداتها .
" – أوافقك يا خالد .أن الجيل الجديد يعيش ممتلئًا ، ألا تذكر عبثنا القديم ، إنني أعتبره نتيجة أو إفرازاً لذلك الواقع الذي لم يكن يشد وجودنا إلى أي تطلع حقيقي .
أبتسم خالد لاكتشافه بأن سعاد تمتلك الحس والرؤية التي يجب أن تمتلكها كل امرأة وقال : أنا سعيد وفرح لوجودك بيننا (17) .
إن هذا المنحى الفكري من مهمات الحوار وجد طريقه السليم لدى سائر كتّاب الرواية (الحديثة) مما دفع الرواية في العراق آنئذ إلى طرق آفاق فكرية أشمل ومدارات فنية أعمق وأرحب .

قديم 05-13-2012, 03:38 PM
المشاركة 567
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(3)
ومن هذه الزاوية فقد ظهر الحوار وهو يحمل سمة فنية ثالثة تمثلت بمسألة تنوع موضوعاته وتشعب أفكاره عبر مضامين مقصودة ، فإذا سلمنا بأن الموقف الواحد يحتمل أكثر من وجهة نظر ويستلزم تناوله طرق آفاق مختلفة من الأفكار والموضوعات فرضتها طبيعة النقاش والجدل وتقلب الفكرة على وجوهها المختلفة فإن من البديهي أن تظهر أعمال هؤلاء الكتّاب مشحونة بالأفكار الفتية والآراء الصائبة ، ما داموا يهدفون إلى تحقيق التوازن المطلوب بين المستويات المتعددة للشخصية الإنسانية المعاصرة ، وهي تحث الخطى لتكوين شخصيتها الجديدة وهويتها المتميزة ، التي تؤهلها لإبراز دورها (الفاعل) المتفرد ضمن إطار الجماعة لخلق الغد المشرق لها ولمجتمعها ، معبرة عن أشواق الإنسان في كل مكان ، رغم تعدد صور العقبات وتنوعها .
فالحوار الدائر بين (عبد الرحمن ) و (سمير أحمد رؤوف ) في (الاغتيال والغضب ) تناول موضوعات عدّة ارتبطت بوشائج عضوية أبعدت الحوار عن مواطن التفكك والافتعال ، فضلاً عن السقوط في متاهات الوعظية المملة ، لتصل بالتالي إلى حقيقة واحدة تجسدت في تحقيق هدف الكاتب الرئيس في تشكيل معالم الصورة الثابتة للإنسان العربي الجديد ، إذ يبدأ الحوار بينهما من منطقة الصفر حيث يعلن (سمير ) هزيمته الكاملة في المهنة والحب وفي السياسة ومجمل العلاقات والمواقف ويعزوها إلى سوء الحظ ، غير أن (عبد الرحمن ) يحمل معوله ليهدم كل ركامات الخيبة وصخور الفشل والضياع من نفسه ، مبتدئًا بتقويم رؤيته المنحرفة عن تفسير الظواهر، عندما يدعوه للتواصل مع أصدقاء الأمس وأفكارهم ، مواقفهم ..، أخلاقيتهم .. فهم باعثو اليقين بالنسبة إليه .. وينتقلَ الموضوع إلى حال البلد ثم إلى نكسة حزيران وأبعادها على الروح العربية وما ستؤول إليه من نهارات مشرقة ثم ليتحول إلى مستوى جديد من الموضوعات هو أقرب إلى الفلسفة ، ذات النفس الرومانسي (18) .
ولنفس الدافع ظن ( أحمد ) وجماعتة بأن (حسن مصطفى ) في (المبعدون) رومانسي لا يقوى على الصمود والتحمل .
" -.. هل تظنني أنت الآخر رومانسيا ؟ بوغت حميد لحظة ثم هتف :
- في أعماق كلِّ واحدٍ منا أثر للرومانسية . وهذا ليس عيبًا . إننا بشر " .
ثم ينتقل الحوار من الخوف إلى العزيمة ، ثم العمل الذي يعتبره بديلاً من احتمال السقوط في متاهات الغربة ومجاهل الذات (19) .
والحوار الطويل الذي سبقت الإشارة إليه بين (مجدي) وضيفه (دكتور رائد) بمشاركة بقية الضيوف – خرج هو الآخر لمسارب جانبية عما كان يحتمله الموقف ، أوشك معه أن يفقد سمة الترابط والوضوح لولا تدارك القاص في لحظاته الأخيرة ، لِيُعيد إليه خيوطه العريضة ويصلُ به إلى هدفه الرئيس متمثلاً بتحديد معالم الإنسان العربي الأصيل . فقد أنتقل موضوع الحوار من الشعر والأدب إلى طبيعة النظرة الإنسانية للواقع من خلال مستوى الإحساس بأزمة زميلهم المُعتقل (سليم) ، ثم يعود ليتحول إلى بعض سمات الحضارة الغربية (صدقها وزيفها ) وما تفرزه من قيم متضاربة ومتداخلة قد تعمل على ضياع الإنسان في معمعة الآلة .. وهذا ما يقودهم إلى موضوع رابع يتعلق بالمشاعر والأحاسيس (20) .
(4)
هذا التنوع الخلاق في موضوعات الحوار ومضامينه ، كما طرحته الرواية العراقية، أتاح للروائي فرصة الوقوف على المواقف ( المتفردة ) للشخصيات والآراء الحرة المستقلة ، المتطابقة والمفترقة ، المستوحاة من عمق إحساس الفرد بالظروف المادية والموضوعية التي تُحيطه في واقعه المعاش .. وبذلك فقد حقق هؤلاء الكتّاب جانبًا حيويًا وحضاريًا من معالم الشخصية العربية الجديدة بمنحها القدرة على التفكير والتحليل لمجمل ظواهر الحياة ، وبذلك أسهموا في تصحيح النظرة (غير الموضوعية ) لبعض علماء الاجتماع والأجناس البشرية الأوربية ممن أجحفوا بحق العرب عندما اعتبروا العقل العربي ذا مستوى واحد ، يتعامل مع الظواهر من جانبها الحسي فقط (21) .
ولهذا فقد جعل هؤلاء الكتّاب من الحوار وسيلة لإظهار خصائص الشخصية (المتفردة ) وعرض وجهة نظرها المتميزة والمبتكرة إزاء الأحداث والمواقف المحيطة ، وبالتالي فإنه يرسم للشخصية نفسها موقفًا فاعلاً ومؤثراً من مجريات الواقع . ولا شك في أن هذا التوضيح لطبيعة تشكيل الأبعاد الخاصة للشخصية وتقنين حركتها الحرة المستقلة والمبدعة في الواقع ، يكشفها حوارها المتصل عبر طريقة استخدامها للغة وتنسيق الأفكار وزوايا الرؤية ومجالات المواقف الخاصة والعامة .. وبالتالي فإنه يدل على ردود فعل مميزة للشخصية ، وهو من هذه الزاوية يتصل اتصالاً وثيقًا بالمواقف بصورة مقنعة فيطور المواقف ويكشف طبيعة الشخصية –المتحدثة والفاعلة – في آن واحد ، ولهذا فقد لجأ الروائيون إلى تنويع أسلوب الحوار وفق ما يتحمله وعي الشخصية وواقعها الحياتي .
سوى بعض الأعمال الروائية التي سقطت في منزلق (الصوت الواحد) . رغم اجتهاد كتّابها لأبعاد رؤيتهم الذاتية الطاغية عن دواخل مخلوقاتهم الفنية ، كما فعل (نجيب المانع) خلال بنائه لشخصيتي (أنيسة وسليم الصابري) ، اللتين عبرتا بمنطق واحد ولغة واحدة هي لغة المؤلف (الراوي كلي العلم) ، غير أن بعضهم الآخر ممن أسعفتهم قدراتهم الفنية وإحساسهم الحاد بجزيئات الواقع وخصوصياته لم تنزلق بهم أقدامهم عن جادة الواقع المحتمل لمنطق الشخصية وموقفها . فحوار حسن مصطفى في (المبعدون ) أظهر بجلاء الصورة الصحيحة لتفرد الرأي واستقلالية الموقف المبتكر ، مسترشدًا بتجاربه النضالية العريقة ، عندما اقترح تكليف البنت الخبازة (نضال) مهمة القيام بنقل المنشورات المعادية للسلطة وتسليمها لرؤوف في المدينة ، باعتبارها متعاطفة مع المبعدين وبخاصة بعد استشهاد أخيها على يد السلطة ، من ناحية ، وإنها ليست موضوع شك من قبل سلطات الأمن من ناحية ثانية ، وبذلك استطاع المؤلف أن يمنح هذا الموقف المتفرد للشخصية – على الرغم من أنه لم يجد قبولاً حسنًا بين جماعته – مبررات نجاحه الذاتية والموضوعية ، مما أكسبه صفة الإقناع بالواقع وألبسه رداء الصدق الفني ، دونما سقوط في لجة الافتعال والمبالغة ، على الرغم من معارضة الآخرين له (22) .
وحوار (سعاد) في (رموز عصرية) هو الآخر جسد بعمق الموقف الواعي والمتفرد للشخصية عندما رفضت دعوة ( خالد ) للزواج منها عندما التقى بها في احد شوارع مدينتها رغم تقديمه لكل المبررات ، متذرعة بقرب زواجها ، رغبة منها في صرف اهتمامه بمستقبله الواعد غير أنها تلتقي به بعد سنوات في إطار العمل لتكشف له عن حبها وطبيعة الدوافع التي دعتها لاتخاذ مثل ذلك الموقف رغم حبها الجامح له (23) . ولا شك في أن الروايات الأخرى قد أشارت إلى العديد من مواقف التفرد وسيادة الرأي الشخصي (الحر) ، المبني على منطلقات موضوعية ، والذي كان له دوره الفاعل ضمن حركة الأحداث وتطورها الفني في الرواية .

قديم 05-13-2012, 03:38 PM
المشاركة 568
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(5)
إن هذا التفرد في المواقف كما جسده عنصر الحوار كان له فعله المؤثر في منح الشخصية بُعدها النفسي إلى جانب صدقها الفني . ولعل طبيعة اللغة التي اختارها هؤلاء – بما أتسمت به من واقعية تعنى بمستويات تكوين الشخصية النفسي والعقلي والعاطفي – كانت عنصرًا له أثره في نجاحهم فنيا – بتصوير حقائق الواقع – فهي وسيلة للتعبير عن لسان الحال ، ((فالواقعية لا تقتصر على واقعية الحال ، بل واقعية الحال والمقال جميعًا ، واللغة ليست أداة حوار حسب ، بل هي جزء من مكونات النموذج البشري وعنصر من صميم عناصره )) (24) .
وهذا لا يعني عندهم أن تتحدث الشخصية بلغتها البيئية الخاصة (العامية) بل قصدوا منها إلى أن تعبر عن الواقعية الإنسانية قبل الواقعة اللفظية ، فاللغة العربية الفصحى عندهم تمتلك القدرة على التعبير عن الأفكار والخواطر والمشاعر الرهيفة ضمن إطار الوعي الاجتماعي للشخصيات (( إذ جدير بكل روائي مسؤول أن يفهم أن هناك فارقًا مهمًا بين النموذج الذي يقدمه في الرواية وبين الفرد الحقيقي في الحياة )) (25) ، ومهما يكن الأمر فإن ما تميزت به لغتهم من خصائص فنية وجمالية تجسدت في وضوحها التام وميلهم في الغالب إلى البساطة والليونة والصدق واعتدادها بالفصحى المبسطة أو ما يُسمى باللغة الثالثة بصرف النظر عن الانتماء الطبقي والاجتماعي للشخصيات جعلها ذلك قريبة إلى نفوس القراء ، فضلاً عن اختراقها لحاجز (المحلية) إلى آفاق اللغة (القومية ) في كثير من الأحيان مع أن الفرق شاسع– بتعبير الدكتور محمد غنيمي هلال – بين معنى الواقعية الفني وواقعية اللغة ؛ فالواقعية يُقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة والمجتمع ... ولا ضير أن يُحاور صبي أو عامي باللغة العربية ، على أن لا يكون فيها تكلف أو فيهقة ، ولكن الضرر كل الضرر أن يجري الكاتب على لسان صبي أو عامي آراء فلسفية أو أفكار إجتماعية ، أو صورًا عميقة لا يُبررها الواقع ولا تنصل بالموقف (26) . فلم تعد القضية قضية فصحى وعامية ، بل أصبحت تُطرح باعتبارها قضية لغة فنية أو غير فنية .
ولعلَّ في الحوار الطويل الذي أداره القاص (موفق خضير) بلغته الفصيحة المبسطة بين (سمير أحمد رؤوف ) وبين (بدرية) المرأة الشعبية الأصيلة في (الاغتيال والغضب) ، الشيء الذي يعبر بصدق وعفوية عن طبيعة المشاعر النفسية لكلتا الشخصيتين ، على الرغم من اختلاف المستويات الثقافية والاجتماعية والنفسية بينهما ، وهذا ما دفع بالمواقف إلى التطور لتسهم في نمو الأحداث فيما بعد ، حيث استطاع الكاتب من خلال لغته الفنية أن يمزج بنجاح بين الرؤية الذاتية للشخصية والرؤية الموضوعية للراوي كلي العلم .
" – سمير .. أحقًا أراك بعد هذا الغيبة الطويلة ؟
- ماذا أفعل يا بدرية .. إنها الظروف الصعبة التي أواجهها ومشاغل الحياة والركض وراء لقمة العيش .
- ولو .. يا سمير .. لا تقل ذلك ، كان يجب أن تسأل عنا ..
- حقًا .. حقًا .. والصفح من سمة الأكرمين ..
- كيف أصفح عنك يا لئيم ؟ وضحكت مازحة ..
أجبتها بلطف :
- طبيعة السماح من خلقك .. أنا أعرفه ..
- أنت واحد ممن لا أنساهم في حياتي كلها يا سمير .
- وأنا كذلك .
- ولكنك نسيتنا . أما صاحبك فلم ينسنا .
أنت لا تختلف عنه لولا بعض اللؤم فيك ..
- بدرية .. عبد الرحمن معتقل الآن .
ندت عنها آهة وصرخة ،
- ماذا تقول يا سمير ؟ " (27) .
((وهنا يُجيد موفق خضير في الإغتيال والغضب القص ، ويدل على تمكن واستفادة من التجربة )) (28) .
ويستمر الحوار بهذا الجريان الطبيعي ، دونما افتعال أو تصنع ليعبر بعمق عن حقيقة المشاعر الصادقة فضلاً عن تجسيده الأمين لملامح المستوى الاجتماعي مستعينًا باللغة الفصحى (المبسطة ) – كما هو واضح من التراكيب اللفظية فيه – رغم الهوة الواسعة بين المستويين .
والحوار السابق بين (سعاد) و(خالد) في رواية ( رموز عصرية ) ، هو الآخر جاء محتفظًا بسمته الفنية ، ذلك أنه جاء متلائمًا مع وعي الشخصية وظروفها الزمانية والمكانية ، فضلاً عن إحساسها الباطن باللحظة الآنية وخاصة بعد لقائهما الثاني على صعيد العمل الوظيفي (29) .
لقد أستأثر هذا المنحى الفني في اختيار لغة الحوار باهتمام سائر كتّاب الرواية (الحديثة) فأولوه رعايتهم الخاصة ، كما كان يوفره لهم من فرص متميزة لتحقيق الرؤية الإنسانية الشاملة للواقع ، عبر كشفه لجزئِيات أوجه التطور فيه وعناصر الصراع في حركته المستمرة ، المنظورة وغير المنظورة .
غير أن بعضهم لم تسعفه أداته التعبيرية لاستخدام اللغة الفنية المطلوبة، عندما انطق شخصياته بما يتجاوز وعيها الاجتماعي في (التفكير والتعبير ) .
فظهرت تردد أفكار المؤلف من دروس ورؤى فلسفية عبر لغة ملتوية ومفردات غريبة أعاقت سير الحوار وترابط أفكاره .. وهذا ما حدث للكاتب (نجيب المانع) حيث ظهرت شخصية (حارث) في بعض مراحلها وشخصية (سليم) نفسها ، التي ظهرت وكأنها تتحدث بلسان (أنيسة ) لولا اختلاف الأسماء(30).
وعلى أية حال ، فانه استطاع مشاركة أقرانه في مهمة توظيف الحوار لمهمات فنية ، تمثلت بتعبيره عن بيئات مختلفة ، فضلاً عن قدرته على تحقيق الذاتي والموضوعي في تبرير حركة الصراع المتنامي بين الأصالة والزيف عبر مناجاة النفس البشرية ، المعتمدة على الإحساس الباطني ، الخاصة بالأشياء وبالإنسان ، وما يمور في أعماقه – ضمن دائرة النزعة الإنسانية الرحيبة في أكثر من موقف ، كما لمسنا ذلك في الجزء المقتطع من الحوار الطويل الدائر بين المدعويين في بيت مجدي فخر الدين (31) .
أخيرًا – ومهما تكن طبيعة الحوار ووظائفه ودلالات لغته – فإن ما يمكن قوله هو أن الرواية الواقعية (الحديثة ) ضمن مرحلة البحث قد وضعت لهذا العنصر مكانة خاصة بين بقية عناصر الرواية ، فقد تأثر – عندهم – وبشكل مباشر وحاد بالهدف المحوري الذي أجمع عليه هؤلاء ، والذي سبقت الإشارة إليه .
فقد كان ذلك ضروريًا للاستدلال به عن وعي الشخصية وتفردها فساهم في تطوير الأحداث وبعث الحيوية في المواقف المتميزة ، بشكل حقق معه تصورًا متكاملاً لظواهر الواقع ، معتمدًا التنوع في الرؤية والشمول في آفاق التفكير ، ذلك أن هذه الأعمال حاولت أن تجسد الأوضاع التي تدينها أو التي تتبناها وتعمل على تطويرها ، من خلال عالم غني متنوع من الشخصيات المتفردة والمواقف المتنوعة (حوارًا ووقائع ) ، عالم ينتظمه تلاحم البنية والرؤية على السواء لصالح الاتجاه الذي تمثله لأسباب أدبية وجمالية .

قديم 05-13-2012, 03:40 PM
المشاركة 569
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
للاسف لا يوجد على الشبكة العنكبوتية اي قراءة نقدية منفصلة لهذه الرواية!!!

قديم 05-13-2012, 05:22 PM
المشاركة 570
ماهر كرم
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الأستاذ الفاضل:
(أيوب صابر).. مذهل أنت في جمعك لهذا الكم الغفير من المعلومات، كم تمنيتُ أن أحظى بها منذ عهد طويل!

تسمرتُ مكاني وأنا أقرأ ما تجوده اناملك من سير وكتابات ولقاءات وحوارات المؤلفين.. فرحتُ أتابع القراءة وقد أوجدت لدي نظرة جديدة حول ما قرأته من روايات.. فجعلتُ اتأمل بعض العبارات ثم اربطها بما علمتهُ منكِ - من خلال ما اتحفتنا من معلومات - فذهلتُ مما وجدت..

وجدتُ أن اغلب الشخصيات الروائية المتضمنة في الرواية ما هي في الحقيقة إلا حالات (حقيقية) مر بها الكاتب على وجه اليقين.. فجسدها في شخصية روائية!

حقاً لقد أتحفتنا.. فلك جزيل الشكر.. وهو جهد عظيم تبذله فبارك الله بخطاك.

وأتمنى أن تمضي بحماسك هذا حتى النهاية - اعني آخر رواية والتي تحمل التسلسل 105.

ولقد لمعت في ذهني فكرة (أحببتُ على عجل أن انقلها إليك، علها تفيدك أنت "شخصيا"، وهي عمل مجلد ضخم يحوي هذا الموضوع "بشكل مرتب، مع استطراد لعض الفقرات" ليكون دليل لمن يقرأ أفضل رواية عربية "عن اتحاد الكتاب العرب" كي ينتقي ما يريد، ويتعرف عن كثب على هؤلاء الكتاب البارعون).

وسأشرح لحضرتك - لاحقا، نظراً لضيق وقتي حالياً - عن خطة للكتاب المقترح..
وكلي يقين بأنه سيجد صدى واسع عن المثقفين ودور النشر وخاصة معارض الكتب العالمية..

تقبل مروري، ودعائي لك بالتوفيق والنجاح

أخوك المحب.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 32 ( الأعضاء 0 والزوار 32)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 05:51 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.