قديم 05-30-2016, 10:51 PM
المشاركة 21
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
إلى أكادير رافقت والدي ، بيت عمّي عبد الله في أيت ملول ، كان قبل ذلك يسكن في حيّ صفيحي ، وعندما همّت البلدية بإعادة التهيئة ، وزعت على قاطني الكريان هذه المنازل ، فيه غرفة واحدة مسقفة ، مطبخ و حمّام ، أما الباقي فيلتحف السّماء ، عمّي أضاف حجرتين جديدتين ، لكنهما لازالتا بدون أبواب و بلا نوافذ ، خالتي تركناها في القرية ، عمّي لوحده بالمنزل ، لا أنسى أنّني وجدت هناك أيضا عمّي عبد السّلام ، في الليل كانت الفرقة الصوفية قد حضرت ، عمّي انضم إليهم ، في الصّالون يردّدون "هو.. هو..هو.." بقيت أنا و والدي في غرفة بدون باب ، أبي يطلق مذياعه ، لا يحب المتصوفة ، يحسبهم دجّالين ، بل مجرد طفيليين ، يبحثون عن عشاء ، بل مجرد مبتزّين ، عمي يجد في حضرتهم راحة ، يبلسمون أشجانه ، يغسلون كدمات روحه المكسورة ، يوما أرسلتني أمي لأخبر جدّتي أن الطعام جاهز ، عند قدم القصبة تنبت " الدواريّة "، دار صغيرة من ثلاث غرف ، و حمام ، في وسطها برتقالة ثمارها ألذّ من تلك التي غرسها أبي عند البئر ، وجدت حينها جدّتي تواسي عمّي عبد الله ، كان يبكي بحرقة شديدة ، لم أر رجلا من قبل يبكي ، ما كنت لاعرف السبب يومها ، لكن بعد توالي السنين علمت لم رحل عمي عن القرية ، ليس لأن أبي عاد من مرّاكش ، بل لأنه رفض أن يبيع جدّي تلك الأرض ، أرض تحايل فيها بعض أهل القرية على جدّي فباعها بثمن بخس ، بل أكثر من ذلك ، فرجولة من يبيع أرضه في ثقافتنا منقوصة ، و لو كان في أمس الحاجة إليها ، عمّي يدخّن أيضا ، هو ليس كأبي ، ليس مدنيّ الطباع بل كان قرويا بامـتياز ، جدّتي أيضا كانت تحب النفحة ، هكذا أخبرتني أمي ، كان جدي يحضر لها نبات التبغ الأسود تدقه، وتضعه في قارورتها ، كان ذلك منذ أمد بعيد .
زرنا بعض معارفنا ، شقة في الدور العلوي ، صالون فاخر ، تلفاز كبير بالألوان ، رحبت بنا ربّة البيت ، شممت أنها لا تريدنا هناك ، رغم ضحكة مصطنعة ، و كلمات منمقة ، أبناؤها لم نر و جوههم ، شبّان يتابعون دراستهم في مستوات عليا ، صاحب البيت لم يحضر إلا عند غروب الشمس ، سنبيت هنا هذا ما قرّره أبي ، ستكون ليلة ثقيلة شبيهة بتلك الليلة في حضرة المعلّمة ، روحي انقبضت ، سمعت أذان العشاء عندما انهال الضيوف على المنزل ، رجال ضخام ، بعضهم ببذل أنيقة و الآخرون بجلابيب على المقاس ، يخوضون في أحاديث لا تعجبني ، فاستغرقت مع الشاشة في شريط يقتل فيه الزرق الخضر و الخضر الزرق ، جيشان يتحاربان ، لم أفهم شيئا ، لا أريد أن أفهم شيئا ، أبناء الرجل بعد أن رحّبوا بالضّيوف غادروا دون رجعة ، إلا واحدا منهم بقي يرصّف الأطباق على الموائد ، تذكرت ما استقبلتنا به صاحبة البيت من خبز بارد وزيت و كأس شاي أصفر .

مع انفلاق الفجر غادرنا المنزل ، أبي ودّعهم قبل النوم ، و صلنا إلى سوق عظيمة ، يباع فيها كل شيء ، وجدت عمي عبد السلام هناك ، وهو يبيع الثوم الذي أحضره أبي ، كان كساد الثوم ما أجبر أبي على هذه الرحلة ، لو كان الثوم مطلوبا لسافر به إلى مراكش كما يفعل ، لكنه الكساد يضطرك إلى البيع بالتقسيط ، في تلك الرحلة اكتشفت الكثير الكثير ، علمت بما لا يدع مجالا للشّك أننا بسطاء ، فقراء ، لا حول لنا و لا قوّة و لا نزن جناح بعوضة .


قديم 05-31-2016, 12:24 PM
المشاركة 22
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
حلّ الموسم الدراسي الجديد المعلمة ليست هناك ، تغير الطاقم كلية ، أدرس في قسم من مستويين ، في الصّف الأيمن تلاميذ المستوى الثالث و في الصفّ الأيسر تلاميذ المستوى الرابع ، معلمنا يتحدث إلى زميله ، لا أعرف ما مستوى هؤلاء و مدى قدرتهم على الاستجابة ، يشير نحوي بأصبعه أن قم نحو السبوة ، أعطاني قطعة طبشورة ، أمرني بكتابة اسمي بالعربية ، يا لها من مهمّة سهلة يا أستاذي ، لم لم تطلب منّي ذلك بالفرنسية ، فعمّي عبد السلام كفاك شرّ تعليمي حروف هذه اللغة ، لا بأس كتبت اسمي و جلست مكاني دون أن أستعرض عضلاتي . تمر الأيام مر السحاب ، معلمنا يتنقل بين المدرسة و موطنه بدراجة صفراء ، نسمع هديرها من بعيد ، فنصطف أمام القاعة ، بعذوبة نستقبل دروس التعبير الشفوي باللغة الجديدة ، بانسيابية نكتب حروفها ، بطلاقة نقرأ نصوصها ، لا شيء يعكر تعلمنا ، رغم ذلك اكتسبنا طباعا جديدة ، أولها تسوية غليون يليق ، قصبة ناعمة الملمس ، و سبسي مصنوع من الصّلصال ، ها أنت في عصبة المدخنين الجدد ، ندخن كل شيء ، أوراق الأشجار ، بقايا السّجائر ، روث الحيوانات ، ما يهمّ هو شيء يحترق في السّبسي و يطلق دخّانا ، مع توالي الأيام نورالدين يتغير ، أمدّ يدي إلى بعض درهيمات في دكّان والدي ، أشتري المشروبات الغازية في الدكان القريب من المدرسة ، أشتري الحلويات ، يحتفل أصدقائي ، في المنزل لا يعجبني شيء ، أرى أبي شرس الطباع ، يكثر من أوامره ، يفرط في العنف ، عندما يحرث ببقرتيه الأرض ، فإياك أن يجد في طريق عودته بقية باقية من عشب كيفما كان نوعه ، يجب أن يكون أخدود سكة المحراث خاليا ، نصف أخدود أتكفل به والنصف الآخر لأختي ، نتخاصم أنا وأختي ، بدأت أكره حياتي ، في موسم جني الزيتون صبحا يجب أن تذهب لالتقاط الحب المتناثر بفعل الرياح قبل الذهاب إلى المدرسة ، موسم الحرث تجمع الأعشاب ، في الايام العادية الغنم في انتظاري في الأصيل ، يا لها من طفولة بئيسة ، ملابسي لا تعجبني ، فراشي لا يعجبني ، حتى جدّي سببته يوما فتبعني عبر الدوار أخيط به الأزقة ، لو تمكن مني لاشبعني ضربا ورفسا ، أذكر أن أبي ذات يوم ، كان يريد من عمي عبد السلام أن يساعده على جني الطماطم ، لكنه ذهب مع رفاقه للّهو ، وعند عودته أحضر معه آنية مملوءة بثمار التين عساها تشفع له ، لكن هيهات هيهات فأبي لا يخدع أبدا ، رجمه أبي بالتين و كان عمي يبكي ، ثار جدّي ثورة عظيمة ، حمل بين يديه صخرة عظيمة ، توجه نحوي ليهشم رأسي ، أبي ساكت لا يرد ،ّ أمي تبكي ، جدّي يحلف بأغلظ الأيمان أن لو اقتربت منه ثانية لسحقت هذه الحشرة التي ولدتها .

قديم 06-01-2016, 02:36 AM
المشاركة 23
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
جدّي ليس قاسي الطّباع ، بل لين جدّا ، يزور صديقه في تالوين بين الفينة والأخرى قد يذهب أيضا إلى أولوز ، لإحياء صداقاته ، دائما يرافق جدّتي ، يلبس جلبابه متقلّدا محفظته ، حازما رأسه الحليق بعمامته ، جدّتي بلحافها الأزرق ، علاقة رائعة بين زوجين يصعب أن يكدّر صفوها زمهرير الشتاء و لا حرارة الصّيف . جدّتي لا تبالي كثيرا ، قلبها يسع كل المتناقضات ، لا تتأثر بسهولة ، قويّة الشخصيّة ، يصعب إقناعها كما يصعب استعطافها ، تعيش على هواها ، مرتين في الأسبوع تغادر المنزل ، إما هابطة عند ابنتها أو صاعدة عند أختها ، إن اقترب موسم الحصاد تغادر إلى أكادير رفقة جدّي ، أمّي قليلا ما تجد ساعة لحكّ رأسها ، من الحظيرة إلى الحقل إلى المطبخ ، تطوف النهار كلّه ، وتزيده بعضا من اللّيل في غزل الصوف ، إن تخاصمتا تكون أمّي باكية ، بينما جدّتي محافظة على صرامتها . عمّي عبد السلام فتى محبوب ، قامة متوسطة ميالة إلى الطول ، نحيف الهئية ، لكنه واقف و صلب ، يحضر بعض أصدقائه إلى المنزل أحيانا ، رغم أن والدي لا يحبّ هذه الصّحبة ، يظن أنها قد تفقده تركيزه ، و تلهيه عن دراسته ، أبي لا يحبّ هؤلاء الشّباب الّذين لهم متّسع من الوقت في حياتهم ، يظنهم قد يعوّدوا أخاه طباعهم اللامسؤولة ، عمي رهيف الإحساس ، يحسّ بهذا ، بل يحسّ أن أبي يحاصره ، يعانده ، يفرض عليه لعبة الأخ الأكبر ، يعاملني عمّي بلطف ، رغم أنه أيضا قد يثور ، و اتق غضبة الحليم ، يوما غاب أبي عن الديار ، المحرك يهزّ المكان ضجيجا ، أنا ألعب قرب البئر و أصيح ، ظن عمّي أنّ مكروها وقع ، ترك السّقي جاريا مستفسرا عمّ حدث ، وجدني لا أزال أصيح مشاغبا ، التقط عصا ، هوى علي مرة ، فثانية ، فثالثة ، هربت منه محتميا بجدّي وجدّتي اللّذان ينتظران أن تقدم لهما أمي الصّينيّة والبرّاد ، حكى لهما عمّي عن صياحي وضجيجي ، هاج جدّي ، ملأ فمه ماء بصقه على وجهي فما بردت روحه ، استجمع كل ماجادت به غدده وأرسلها نحوي و أنا متكوّم في زاوية ، علا صوته و تعاظم غضبه ، " منك لله يا غلام السوء ، كدّرت مجلسنا ، أسأت إلينا غاية السوء ، يا إبليس يا لعين ، اتفو اتفو " وصل صراخي إلى أمّي سمعت بصقات الحاج ، عينها تبكي وهي تسحبني من بين مخالبهم ، يا لصعوبة مراس البعض ، مسكين جدّي ، إلا عمّي عبد السلام ، لا يجب أن يزعجه أحد ، وإلا أصاب جدّي بنوبة جنون . نعم يا أبي رغم قساوتك ، وصعوبة إرضائك ، لكنك تفرض نظاما في البيت يسري على الجميع .

قديم 06-01-2016, 09:49 PM
المشاركة 24
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تتذكرون أختي نعيمة التي كانت آخر مولود في القصبة ، إنها الآن ترافقني إلى المدرسة رجلا برجل ، تتغيأ نقل فتيات القرية من لعنة القفة و تراتيل الجهل ، تريد أن تكون من بنات الجيل كما نوه البلغيثي في إحدى قصائده التي درسناها في الابتدائي : يا ابنة الجيل أفيقي كأخيك المستفيق.... و خذي حظك من العلم لتحظي بحقوق . ستكون أول فتاة في قريتي تتوجه إلى المدرسة ، لا أتحدث هنا عن بنات الأسر اللائي يسكنّ المدينة ، كابنة عمّي ، أقصد فتيات الملت ، في نفس السنة التحقت بها فتاة أخرى فتتشاركان الطريق متى كان توقيتنا مختلفا ، معذرة أختي فهذا العام ، لا أذكر عنك شيئا ، ليس لأنك أبلغت أبي أنني أدخّن ، فما كنت لأكرهك لعمل كهذا ، فأنت لم تتفوهي إلا بما رأيت . لكن معلّمنا المراكشي الجديد سيطر على كل أحاسيسنا ، لو كان كلّ أبناء مراكش مثلك لشكرت أبي على قطع الصلة معها ، من أين جئتنا يا رجل ! و هل في الكون رجل مثلك ؟ عجيب ستة أشهر لا أكاد أذكر فيها شيئا ، سنة بيضاء ،لا... حمراء ، لا... سوداء ، بيضاء لأن صفحتي ما أضافت حرفا ولا نقطة إلى رصيدها ، حمراء لأن الدماء كانت تجري في مجزرتنا أنهارا ، سوداء لأن ما تعلمته سابقا ذهب أدراج الرياح ، سوداء لأن الرعب سكن قلبي ، سوداء لأنها لا تستطيع أن تكون غير ذلك ، رغم أنك ما ضربتني غير مرة واحدة ، لكنها كانت كافية لأغادر مدرستك ، لكمة في بطني الهشّ ، ذهبت بأنفاسي و روحي ، أتبعها صفعة فتحشرجت أذناي مستعيدا وعيي ، ما هذا يارجل ؟ هل قتلت أباك؟ أم اغتصبت أختك ؟ حرام عليك ، ما ذنب أولئك الذين تسلخهم كل يوم ، كل حين ، كل لحظة ، ما هذا المسلخ العجيب الذي نأتي إليه مضطرين ، أتعلم يا أستاذ ، ما فعلت شيئا تشرق به ذكراك ، على رسلك فحتى سي إبراهيم ما وصل من خشونتك حد أصابع قدميك ، أين تلك الكرة الّتي وعدتنا بإحضارها يوم جمعت تلك النقود ، على الأقلّ ستكون بلسما لجراحنا النازفة ، يا رجل أتعرف أن كلبا عضّني من مؤخّرتي و أنا أحاول إنقاذ رغيف الخبز لكي لا تظل بلا غداء ، لم الناس يكرمونك إلاّ لتكون أهلا للكرم ، لم البسطاء يغضون عنك الطرف إلا لتحسن إلى أبنائهم ، لكن أبي حاضر في طفولتي و إن كنت غائبا يا أستاذي ، حملني بعيدا عنك ، بعيدا حتى عن أختي التي تحتاج لمن يرافقها و هي غضة العود ، حسنا أنا الآن في ضيافة منزل غير منزلنا ، في وسط مدرسة مزيّنة حجراتها ، متفتحة زهور حدائقها ، حتى معلمي الذي كان بالأمس القريب يعلمني الفرنسية ، وجدته هناك محبطا متأسفا لإفراغك لإناء معارفي ، وإفسادك لرشاقة ذهني ، و تخدير حيويتي .

قديم 06-03-2016, 01:23 AM
المشاركة 25
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
"تاركا "ليست بعيدة جدّا عن موطني ، خمس كيلومترات ، ساعة كاملة مشيا على الأقدام ، لا أعرف كيف عبرت إلى المستوى الخامس ، ربما محض صدفة ، نظرا لارتفاع المستوى التعليمي للتلاميذ من جهة و ارتفاع منسوب جرأتهم من جهة أخرى ، فلأول مرة أحسست بطباعي الخجولة بينهم، و ما زادها تعقيدا هو إحساسي أنهم يتفوّقون عليّ ، لم أندمج إلا بعد أن قضيت عاما كاملا في تاركا ، ففي الامتحانات التجريبية حصدت المركز الثالث ، المرتبة الأولى لطفل متمرس ، والثانية لطفل أذكى منه .
لم تكن الليلة الأولى التي قضيتها في بيت الحاجّة بالسّهلة ، فمنذ أن رأيت أبي يلتهمه أول منعرج قبالة بيت الحاجّة أحسست انقباضا يخنقني ، الحاجّة تقرّبني منها ، تداعب روحي الطيبة ، تلهيني عن الانفراد بنفسي ، يؤازرها طفلان يرعيان في كنفها من دواوير أخرى بعيدة ، جاؤوا لقطف ثمار العلم ، يكبراني حجما وسنّا ، أفوتهم فطنة و بداهة و مستوى تعليميا ، ابتتها الصغيرة أيضا تكبرني سنا و حجما ، طفلة أخرى من أقارب الحاجّة تشاركنا البيت ، ترفع القبعة للحاجّة كما لزوجها الذي يرتب أوراق تقاعده المريح بالدّيار الأوربية . منزل فسيح مريح ، بحديقته الجميلة ، برياضه المنقوشة ، ابن الحاجّة صيدلاني بوارزازات ، مدينة السينما العالميّة ، كان يتابع دراسته الثانوية هناك ، بين الفينة والفينة يزور مسقط رأسه ، يستعد للدخول إلى قفصه الذهبي ، الأجواء العامة مليحة ، لا حسيب و لا رقيب ، أنت و ما تمليه عليك روحك ، انقضت الأيام المتبقية من العام بسلام ، و حلّت عطلة الصيف عدت فيها بمعية أمي وأبي و خالتي لحضور حفل زفاف ابن الحاجّة ، الحاجّة تربطها بأمي رائحة قرابة ، أناديها خالتي ، امرأة برتبة رجل ، هادئة ، رزينة ذكية ، صدرها رحب رحابة السماء ، قوتها قوة جبل تهبه الرياح والعواصف ، إن بدأت بنتها الكبرى تتلوى والأرواح تتنازعها ، كانت لها الحاجّة بالمرصاد ، تضمها إليها ضمّة الأسد لفريسته ، لا أظن تلك الأرواح يسكتها غير قوة عزم الحاجة ، فلولاها لعاتوا في نفوسنا الضعيفة فسادا ، لا تطلقهم الحاجة إلا وقد هربوا من أنف الصريعة في شخير مزمجر .
ابنة الحاجة كانت متزوجة ، بل لديها بنت لم تتح لي فرصة رؤيتها عن قرب ، ربما لمحتها ذات يوم في مكان ما عند خروجي من المدرسة ، هي تسكن المدينة رفقة زوجة أبيها ، الحاجة ما تركت طبيبا ولا روحانيا إلاّ قصدته ، لكن الحال هي الحال ، زوج الحاجة إنسان عذب بطباع أوربية ، ذوقه راق ، بيديه يسقي حديقته إن لم يحضر البستاني ، يداعب "حجبة" بغلة يافعة تأكل و تشرب و لا تمارس شقاء أبدا ، "بريك" سالوقي وديع ببطاقة تحمل صورته ، وحده يفترس كميات هائلة من اللحم أسبوعيا ، ليس مثل كلبنا الذي قتله والدي بعد أن هجم عليّ و أنا أضع أمامه بقية من عظام غدائنا وبعض خبز ممزوج بالمرق ، كلبنا شرس ، لا نطلق سراحه أبدا حتى لا يهاجم الجيران ، كلما ظل في القيد ازداد وحشية ، لم يكن أبي ينوي قتله لكنه حين أراد أن يؤدبه كاد الكلب يقتلع أصابعه من جذورها ، فهوى عليه أبي بشفرة حادّة ، " بريك" يكاد يكون عاقلا ، مؤدبا ، إنه التمدن ، إنها الطباع الآتية من الغرب ، تشربها بريك كما حجبة من زوج الحاجّة ، أحبّ تلك الأسرة حبا جمّا ، بعض النّاس يستحقون كل النّعم .
لم أكن دائما ولدا صالحا ، فأنا الآن أدخن سجائر حقيقيّة ، أدخّن مع ابن الحاج عندما يزور زوجته و أسرته ، كل أولئك الذين كانوا هنا غادروا ، لم يتبقّ غير قريبتهم الصغيرة ، أنا الآن الذكر الصغير الوحيد هنا ، يعاملونني معاملة أمير صغير ، كان لهم كبير فضل في استرجاع توازني ، رغم أنني لا أحفظ دروسي إلا نادرا .

قديم 06-04-2016, 08:30 PM
المشاركة 26
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قبل بزوغ النور في يوم رمضاني ، أبي تناول سحوره ركع ما تيسر له أن يركع ، صلّى الفجر و أتبعه الصّبح ، حمل على حماره ما جاد به الحقل من الخضر ، إلى السوق سيتوجه ، انفلق النور ، و نحن في تاركا ، نصف المسافة هو ما تبقّى ليصل أبي إلى سوق تالوين ، بعض الأطفال يرافقون آباءهم يحملون رزمة أوراق بيضاء و مقلمة ، كان الجو حارّا منذ الصّباح ، إنها أيام يونيو الطويلة ، تظهر لي تالوين من بعيد يفصلها عن السوق مجرى مائي كبير ، هو نفسه الوادي الذي تقبع عليه تاركا ، رافد قوي من روافد وادي سوس ينبع من جبال سيروا ، ، يلتقي مع وادي الملت في أساكي ، عذرا نسيت أن أحدثكم أنني أيضا أحمل دفترا و أوراقا و مقلمة ، لست ذاهبا إلى السوق ، بل سأكون في رحاب إعدادية تالوين ، مبنى ضخم تنبعث منه حمرة رمادية ، سبق أن زرت هذا المبنى عندما شاركت مدرستي في احتفالات وطنية ، "شمس العشية غربت ، واستغربت عيني من الفرقة ." هو النشيد الذي اشتركت فيه بنت الحاجّة ، كم تبدو أخّاذة هي و رفيقاتها المنشدات في زيهن التقليديّ ، الحليّ تبرق من نواصيهن و معاصمهن ، شعورهن المنسابة على قفاطينهن المطرّزة . نحن أيضا كنا في زي تقليدي صحراوي ، عصابة زرقاء تطوق رؤوسنا مع درّاع أزرق ، يومها كان الحاصل على المرتبة الأولى يشارك في مسرحية مرتديا زيا عسكريا مع كوفية فلسطينية ، كان فصيح الكلام ، ممستقيم الهيئة ، " أنا الجنديّ الذي ..."
اليوم أنا هنا من أجل شيء آخر غير الاحتفال ، فارقني أبي عندما هممت بعبور الوادي بمعية أطفال تاركا ، وجب عليه الذهاب إلى السوق و وضع الأحمال عن البهيمة ، قبل أن يلتحق بي ليرى إن سارت الأمور على خير. حسنا فعلت يا والدي فعندما دخلت المبنى وجدت إسمي على رأس اللائحة في القاعة الأولى . لكن عندما تحسّست جيبي افتقدت بطاقتي ، ما هذه المصيبة يا نورالدين ، ألم يركز أساتذتك على هذه النقطة بالذات ، حذار أن تأتي إلى مركز الامتحان بدون بطاقة ، لحسن حظي رأيت أبي في الساحة ، قصدته :" أبي ، فقدت بطاقتي .." لولا ذاك الجم الغفير لأشبعني أبي ضربا و سبا ، لكن مالعمل ، بلع غضبه بريقه الرماضني النّاشف ، أخذ بيدي مستفسرا عن مكتب المدير ، بينما رن الجرس معلنا ضرورة اصطفاف التلاميذ أمام القاعات ، المدير في تلك اللحظة مشغول باوراق الامتحانات التي ستوزّع على القاعات ، أطفال تاركا يجرون نحوي ، هذه بطاقتك ، لحسن حظك فتلميذ من مركزية تالوين وجدها في الطريق العام .

الشهادة الابتدائية ، ليست كما كانت من قبل ، فقديما يكفي الحصول عليها لتكون من البجلين ، ربما قد تنال بها وظيفة ، ليس الأمر جيدا كما يفتخر الأقدمون ، بل هي علامة صارخة على تخلف المجتمع و انتشار الأميّة . يتباهى الأقدمون بنجاحهم في المستوى الخامس ، و يظلّون يمدحون في أنفسهم و علو كعبهم و ارتفاع مستواهم الدراسي ، يلوكون جملا بالفرنسية ليعلنوا قوتهم وجبروتهم ، ليست الأمور كما تعتقدون ، بل فقط فئات عريضة لم تتح لهم الفرصة لإظهار نبوغهم . لست أدري لماذا عندما أنهينا الامتحانات انتابني شعور أنني لا أستحق هذه الشهادة ، فأنا لا أضبط العربية بشكل جيد و حدّث ولا حرج عن الفرنسية ، الذي كان يحتل المرتبة الثانية عند المعلمة في تغزوت التقيته قبل الدخول نحو المبنى ، ربع ساعة كافية لأكتشف أنّني هزيل جدّا أمامه ، حظوا هناك بمعلم جبار في المستوى الخامس أيقظ فيهم جذوة التميز التي أخفتها معلم المستوى الرابع فينا ، أكاد ساعتها أصاب بإحباط مرير .
كان امتحان العربية بسيطا وكذلك جاءت الرياضيات، حتى اللغة الفرنسية وجدت النص قرأته في المستوى الرابع بعد مجيئي إلى تاركا ، أما التربية الإسلامية فهي كشرب الماء . لا أذكر إن كنا امتحننا في التاريخ والجغرافيا ، وإن كان الأمر كذلك فكنّا نحفظ عن ظهر قلب كلّ التواريخ والمعالم والسّدود وغيرها ...

قديم 06-07-2016, 12:50 AM
المشاركة 27
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هل قلت كل شيء ، طبعا لا ، هل سأقول كل شيء بالتأكيد لا ، هل أغفلت ربما ، هل الأسماء صحيحة نعم ، هل ستكون كذلك مع توالي الصفحات ، لا تراهنوا على ذلك ، فالاسم لايهم رغم أن تيار الإسميين يراه كذلك . أخي عبد الفتاح يقتحم عالمنا ، خرج من بعد أن أصاب أمّي بإجهاد كبير ، أذكر في ذلك الصيف كيف أصبحت أمي هيكلا عظميا تكسوه خرقة صفراء ، ليس الولد وحده من قهرها ، الحرّ الشديد مع الحمل ، موسم الحصاد مع الحمل ، رمضان مع الحمل ، لم تكن كذلك حين ولدت صلاح الدين عندما كنت في المستوى الثالث ، اليوم أراها تحارب لتعيش ، إن تجرعت الدوّاء أكاد أراه يعبر عنقها المسلوت ، يقسو عليّ رؤية منظر وجهها الممصوص ، جدّتي كلثومة ، تحوقل ، تسبّح ، يكاد وجهها يحكي حزنا عميقا ، أذكر اللحظة التي وضعت فيها أخي الجديد ، ارسلتني جدّتي لإحضار الليمون عند "عمّي عمر" ، كنت أبكي على طول الطّريق ، وعندما اقتربت من منزله و مزرعته ، مسحت دموعي لأبدو صلبا ، تعجبني صلابة الرّجل ، تذكرون أنه من أخرجنا من زنزانة القائد ، حكيت له عن طلبي ، عن حالة أمّي ، قدّم لي الليمون دون أن أرى تأثرا على وجهه . لا بأس فمجرّد أن يعطيني اللّيمون فهذا تأثر بالغ ، و تعامل جميل مع الظرف ، جدّي لا يتحدث عنه دائما بشكل جيّد و كذلك جدّتي ، حتى أبي في تلك المرحلة لا يتحدث عن أحد بإيجابية .
ذهبت إلى تاركا ، كانت المدرسة موصدة ، لائحة تعلوا بابها المقوس الجميل ، رقمي يشعّ في لائحة الناجحين ، إذا في العام المقبل سأكون في تالوين ، استضاف أبي معلّميّ و كذا زوج الحاجّة ، ذبح لهم شاة و قدمت أمّي الكسكس لأطفال المسجد ، شكرا لله على النّجاح ، شكرا لله على تعافيها . جدّي تكفل بإعداد مقامي الجديد في الموسم القادم ، زار العديد من أصدقائه في تالوين ، رحّب بمقدمي أحدهم ، سأكون تحت كنف أسرة جديدة.
الرماة يطوفون في حلقة دائرية في ساحة عملاقة مسوّرة ، الأطفال بين دخول وخروج ، عند المدخل في اليمين تستوى النساء وراء الرجال المستقبلين حلقة الرماة و ممرّ يفصل بينهما ، يطوف الرّماة حاملين عصيا ، حازمين فواقيهم بأحزمة مطرزة ، يتقلدون خناجرهم ، الطبل والدفوف متناغمة في إيقاع باسم مختلف عن إيقاع عيساوة ، يختلف أيضا عن رقصة أحواش ، ذكرية كانت أو نسائية ، يقوم الرماة بحركات رياضية ، بحركات بهلوانية ، شبيهة بالجمباز ، ترافقهم زغاريد النساء ، عندما لا ينجح الرّامي في تنفيد الحركة ، يتجه صوب وسط الحلقة ، و من ثم يخرج بحثا عمن يسدد غرامته ، يطوف حول المتفرجين ذكورا وإناثا ، هذا أعطاه درهما وتلك أعطته باقة ورد ، و الأخرى قدمت له ديكا وهكذا ، يعطي ما عتقت به رقبته للمقدم ، ثم يعود إلى التباري . منذ أن غادرت القرية ذبلت علاقتي بأطفال الدّوار ، أصبحت منعزلا أكثر عنهم ، وخاصة الذين يقصدون أساكي للتمدرس ، هناك تمرسوا الشغب بجدارة ، أصبحت أميل إلى الأطفال المنضبطين أكثر ، أبي ساهم أيضا في عزلتي ، ينهاني عن مرافقة أولئك الذين يمرحون في أحضان الحرية المطلقة ، أطفال يشاغبون على طول الوقت ، خمسة منهم اتفقوا اليوم على سلخي ، لست أدري لماذا ، مجرّد شغب ، ربما بعض غيرة من أطفال لا يفقهون في المدرسة شيئا ، قد أبدو لهم غريبا اقتحم بلدتهم مادمت خارج الدّوار ، سقطت في الفخ ، كانت خطتهم إخراجي من ملعب الرماة ، وبعد ذلك يشوون عظامي ، لست وحيدا يومها كان برفقتي ابن عمّتي ، جاءني أحدهم يستفزّني ، زاد في تحرّشه ، نهرته فتحدّاني بمبارزة في الخارج ، لبّيت نداءه ، التحق به ابن عمّه ، فثلاثة آخرون ، كلهم يكبرونني سنّا على الأقل سنة أو سنتين إلى ثلاث ، ابتدأت المعركة ، أرسل اللّكمات ، يهابون انفعالي ، كلما اتجهت نحو أحدهم هاجمني آخر من الخلف ، كانت الشّمس قد غابت ، و الظلمة تلتهمنا ، أتلقّى الضربات و لا زلت صامدا ، أحدهم يهوي على ظهري بحجارة ، ظهري يؤلمني ، ما العمل ، أصمد أو أهرب ، لا.... جنون أن أبقى مستميتا ، بدأت خطواتي تتسع ، لم يجرؤوا على ملاحقتي ، رجموني حجارة ، الظلام يحاصرني ، والحجارة ورائي ، ماذا أفعل ، بين حجارة وحجارة حجارة ، كلها تمر قريبة ، استدرت لاعرف كم ابتعدت عنهم ، تلقيت واحدة على جبيني ، رجلاي لا تزالان مندفعتان ، دم غزير يملأ ملابسي ، دموع تلاحق دمي ، أبكي وأبكي ، وأمّي تبكي . يغسلون جرحي بدواء أحمر ، يعصب أبي رأسي ، و إلى النوم . شيء حفر عميقا في دواخلي ، لم ابن عمتي لم يناصرني . لو كان هو من يتعرض للهجوم لا أظن أنني سأتصرف مثله .

في الصباح الباكر أمّي تأخذني من يدي ، تطوف بيوت الملت ، شاكية باكية متوعّدة ، و أمّهات المعتدين يطلبن السماح ، يتذرعن أنهم أطفال ، و يعدن بمعاقبة أولادهن ، أبي كما أنا أيضا يحرجني أن يعصب رأسي في أول ظهور لي في الإعدادية ، أبي يؤلمه أن يراني من سيستضيفني في بيته وعلامة الشغب ماثلة على وجهي . حسنا الكذبة هي الحل ، عندما يسألك أي شخص ما الذي أصابك ؟ وجب القول :" سقطت من على الحمار ."





قديم 06-07-2016, 12:59 AM
المشاركة 28
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هذا بعض منّي فهل من سؤال ؟

قديم 06-10-2016, 02:41 AM
المشاركة 29
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الآن كبرت ، و لم يتبقّ أمامي غير هذا الموسم و تكتمل عدّة عقدي مع تالوين ، هو العام الثّامن لي في هذه الأرض السعيدة ، هنا ودّعت آخر أشواط الطّفولة ، و هنا استقبلت أولى لحظات الرجولة ، عجيب ، كم من ثمان سنوات في عمري الذّي اكتشفت أنني أنفقه بسخاء على الأمكنة ، كيف ذهبت تلك السّنوات دون أن تودّعني ، دون أن تنذرني أنّي سأكبر ، و سيكون من العار الرجوع إلى الوراء ، للبحث عن ضياع حدث حين غفلة . لا أعتقد أنني غفلت لحظة عن نفسي ، بل كنت حاضرا جدّا ، و ربما أفرط في حضوري ، أما كان لائقا أن أغيب عن ذاتي و لو لحظة ، وأتركها على سجيتها ، ترتشف من أكواب الحياة ما طاب لها ، يا لصعوبة الحياة حين تعيش واعيا كل لحظاتها ، كنت دائما أعرف أن الشّقاء ليس أكثر من ممارسة الذّات لنوع من الرّقابة على الذّات ، هو سجن النّفس للنّفس ، هو الاكتفاء بعالمها الخاصّ ، هو عدم القدرة على مغادرتها إلى رحاب الطّبيعة الفسيحة ، الإعجاب السّاذج بالروح ، رشّة غرور ، أنانية ما .
لست راضيا كما بالأمس ، و ليس سهلا أن أكون راضيا ، هي روح مرحة تطفو طباعي الخارجية ، أظهر لطفا ، إيباء ، تفهّما ، إيثارا ، لكن ما يعتمل بالنفس قاس جدّا ، لا يستطيع أحد أن يشعره ، أن يتلمسه ، بل يا للعجب ليس بوسع أي شخص مهما بلغ أن يداوي ما بداخلي ، لا أحد في العالم كلّه بإمكانه أن يلبّي لنفسي مرادها ، يقول عبد الهادي ازنزارن في إحدى روائعه الغنائية : " حبيبي لم تركتك ، لم هجرتك ، ليس لأني لا أريد البقاء ، ليس بي فاقة مال ، ليس بي علّة جسدية ، لكن روحي مفلسة ."
ليس سهلا أن تشعر بإفلاس روحك ، و رغم ذلك تواصل الحياة ، تلاعب ظروفها ، تغني أحيانا قصائدها الماجنة ، تختلق حلما جميلا تركض وراءه ، حتى يلهيك عن التوقف الذي اختارته روحك ، في عالم يعجّ بكل شيء إلا الأحلام الجميلة ، عالم مفلس أيضا ، حتى في كل أفكاره ، في كل تحركاته ، كم هو معيب أن تسعى لاجل شيء في الأخير لا يستحق ما أنت تفعل لأجله ، كنت دائما مؤمنا منذ الصغر ، أننا نلاحق السراب ، كنت منذ أولى اللحظات التي عاينتها ، أننا نكذب على أرواحنا ، نسوّف ونسوّف ، حتى أدمنا التسويف ، فلا نستمتع بالشيء حين يكون في اليد ، بل نستمتع ونحن في انتظاره ، لا توجد حقائق في الكون تغرينا لاقتناصها ، هناك حقيقتان تتصارعان ، حقيقة النفس ، وحقيقة المجتمع ، هي النّفس ما يجعلنا نستحلي الكذب و تأتينا لحظات نتوهم فيها السيطرة على العالم ، السيطرة على واقعنا ، تحقيق الوجود القوي للذّات ، وحقيقة مجتمعية تبقى بالمرصاد لنا ، تضعنا في كل وقت في خانة ، مرة مع المرغوبين ، و مرة مع الحثالة ، و مرة لا محلّ لنا من الإعراب .
يقول عصيد في إحدى استجواباته النادرة التي يتحدث فيها عن نفسه : " ما يخجلني هو عندما لا تستطيع حتى أن تعلن حقيقك للذين تحبهم و يحبونك ، حين تضطرّ لتزييف نفسك حين تغتال ذاتك " لا أظن أن في الكون شخصا تفطن لتك الجزئية في استجواب بانورامي ، فيه من الاعتزاز بالنفس الشيء الكثير ، فيه من سيرة الرجل الشيء الوافي . حتى عبد الهادي حين قدم له الميكرفون و هو يتهيأ للصعود للمنصة ذات سهرة ، ليقول شيئا أجاب بالحرف : " قولوا أنتم ، يا من لا تكفّون عن الثرثرة ." ليست الحياة مجرد قول ، ليست مجرد تدوين للسيرة ، ليست مجرد رأي ، الحياة ليست فكرة ، ليست كلمة ، ليست ما نتفوّه به ، الحياة شيء آخر ، غيرهذا كلّه . كثيرون هم الحكماء الذين يعيشون بيننا ، يمشون في الأسواق ، يشربون الشّاي ، يقتاتون ممّا تنبت الأرض ، لا يرجون غير أن تكون الحياة بسيطة . وأن يكفّ هؤلاء المزعجون عن تعقيدها أكثر و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، خذها بالمهل يا أيها الإنسان و اقصر ، لكن العجلة دارت فمنذا الذي يستطيع فرملة هذا الهبوط الحر .
لعلكم تنظرون أن أواصل رحلتي التي قطعت فيها شوطا ، ولعلكم تريدون تفاصيل الثمناية أعوام فلا تذهبوا بعيدا فأنا قريب منكم .

قديم 06-11-2016, 02:00 AM
المشاركة 30
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بيت الحاجّ يكاد يكون نسخة مماثلة لبيت الحاجّة ، الفرق أن هذا مكتظ بالناس ، الحاج وأخوه و زوجتاهما و وبنتا أخيه ، ولده و زوجته وطفلتهما ، حفيده الذي يكبرني بسنوات قليلة . يا إلهي لماذا أعامل كأمير صغير في كل بيت آتيه ، لكونهم حدّادين يذهب الرّجال إلى عملهم ، كلّ يوم عدا الإثنين ، فهم يتوجّهون إلى السّوق و هناك يبيعون بضاعتهم التي اشتغلوا عليها طوال الأسبوع ، معاول ، فؤوس ، مناجل ، صفائح البهائم ، و غيرها مما يصوّب من الحديد. الإبن يملك دكانا يقضي فيه فترة ما بعد العصر حين يتحرر من الحدادة ، أما حفيد الحاج ، فعندما يتخلص من عمله الشّاق ، و يغتسل ، يصوب شعره ، و يحمل مسجّلته ليغازل الفتيات في الحقول والوادي . أنا بين تالوين والدوار الجديد الذي أسكنه أسير مشيا على الأقدام ، مسافة 45 دقيقة تتكرر في يومي أربع مرّات ، هذه عقوبة حقيقية ، لكن أتحمل مادام بيت الحاجّ يوفّر لي كلّ أسباب الرّاحة ، أسرة شهمة كريمة، هي ميسورة حقّا ، ولدان من أبناء الحاجّ في أوربا ، والرابع يمتلك شركة للعجلات في البيضاء ، الحدادة مجرّد هواية ، مجرد حفاظ على الجذور ، على التاريخ ، على الذّات ، أيضا هذه الأسرة لها حقول و أراض يتكفل بها الخمّاسة . المسجد من المغرب إلى العشاء طقس يومي لا يناقش ، نصلّي المغرب و نلزم المسجد ، نقرأ القرآن حتى العشاء . عند العودة ندخل إلى غرفة طويلة ، هنا يتناولون العشاء ، وهنا أيضا أنام ، وهنا أحفظ ، التلفاز يدير لي ظهره في الطرف الأيسر من الغرفة ، و هم مستلقون على الزّرابي في الطرف الأيمن ، أحفظ دروسي بانتظام ، بين الفينة والفينة أسترق السمع إلى ما تحمله الشّاشة من جديد أنباء ، حرب الخليج ، طقس يومي أيضا ، طائرات عراقية تقصف ، صواريخ تصيب ناقلات النفط ... ، العراق و إيران حاضران معي كل يوم ، فلسطين ليست أيضا ببعيدة ، أبو عمار يطوف المدائن، الكفاح ، الثورة ، وطني أيضا في حرب في تلك الفترة ، لكنها ليست كحروب الشرق ، حرب خرساء ، رغم أنها هوجاء ، تسقط فيها الطائرات ، وتخترق فيها الحصون ، لكننا لا نعيشها كل يوم في التلفاز ، أخبارها تأتي متواترة من الجبهة منذ سنوات ، لا تتحدث عنها الإذاعات إلاّ نادرا ، راديو الجزائر نتابع عبره بعضا من فصولها ، رغم أنها مزيّفة ، لكنّها تشعرنا أنّنا في حالة حرب ، لا أثر للحرب في حياتنا ، رغم أنّنا لا نبتعد عن الجبهة بأكثر من 300 كيلوميتر. سرب طائرات الميراج أحيانا نراه يقصد الشرق أو يعود من هناك نحو الغرب ، أرطال من الدبابات أحيانا تمر عبر تالوين باتجاه الشرق محملة على شاحنات عملاقة ، هذا كل ما نراه . أما الحياة فهي تسير بإيقاعها البسيط الرتيب ككل الأيام ، لا تحسّ فيها دخان البارود و لا قرع رعوده .
نجاة عتابو تغني : " سمحي لي الوليدة " نجاة عتابو تغني :" هانا جيت ، هانا جيت واخّا جيت جينيمار " نجاة عتابو تغني: " شوفي غيرو أو شتك ديما تبعاه " هذا ما كانت تصدح به مسجّلة حفيد الحاج ، أشرطة مختلفة تحمل صيحات نجاة عتابو ، تسرّب إيقاعها المتعسّف إلى دواخلي ، سرت رعشتها المتمرّدة في عروقي ، أصبحت أحبّ نجاة عتابو .
كان الحاجّ وأخوه مثالا للأخوة ، هما في عمر جدّي ، أمضيت في بيتهما حولوين كاملين ، الأولى إعدادي و كذا الثانية ، من سوء حظّي كنت أدرس في فصل ينقصه أستاذ اللغة الفرنسية ، عام آخر إذن سينضاف إلى المستوى الرابع الذّي زعزع استقرار مسيرتي التعليمية ، لم أندمج بسهولة في الإعدادي فنتائجي كانت متوسطة ، واللغة الفرنسية أزعجت مسيرتي التعليمية ، إذا كانت العربية يعزّزها الإعلام ، و كذا كون كل المواد ندرسها بالعربية ، فالفرنسية بقيت وحيدة بعد تعريب العلوم ، آخر القلاع التي كانت توازي الاستقرار اللغوي للتلاميذ ، الفرنسية في بلادي لغة إدارة ولغة اقتصاد ، والعربية لغة إعلام و دين وفن ، كان خطأ فادحا أن تعرّب العلوم ، نحن الجيل الأول في التعريب ، يسبقنا فوج واحد ، حتى المستويات الأخرى في الإعدادي لا يزالون يقرأون العلوم بالفرنسية ، يعاني أساتذتنا من هذه المشكلة طول الوقت ، فهم ألفوا تدريسها بالفرنسية ، فمجمل دروسهم تكون بين اللّغتين فيضيع التركيز ، النكتة الكبيرة أن التعريب ما استطاع أن يكمل طريقه في الجامعة فإلى اليوم تدرّس كلّ العلوم في الجامعات باللغة الفرنسية ، وضع غريب جدّا ، كان ضحاياه كثيرين ، اكتشفت في الإعدادي أن ميولاتي علمية أكثر منها أدبية ، رغم أن خالي الذي يشتغل في مكتبة البلدة قدم لي بعض القصص ، قصة الاسكندر ، قصة ماجدولين ، مجلة العربي ، المغامرون الخمسة ، قرأت قصصك خالي لكن أعتذر ميولاتي ليست أدبية بالمرة .
أحب القصص ، و منذ الثالثة ابتدائي أستمتع بتمثيلية الأزلية في المذياع ، وكذا بتمثيلية الأسبوع التي تقدم كلّ أحد ليلا ، ماجدولين ، شيء آخر ، ليست قصة و حسب ، بل مسار حياة يعاند البطل استيفن ، قصة تنقل الحب مصلوبا على صخرة الواقع والمجتمع ، قصة نفس بريئة ، حلم جميل شيّده استيفن رفقة ماجدولين تحت ظلال الزيزفون ، ما لبث أن خنقته حقيقة المجتمع ، ليتحوّل إلى كابوس مرعب . إلى اللحظة التي قرأت فيها ماجدولين لا أحس أنّني أحبّ ، تعجبني الفتيات الجميلات ولا تملّ عيني من الاستمتاع بجمالهن .



 

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء مفتوح مع الاستاذ ياسر علي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب مفتوح .... فتحية الحمد منبر البوح الهادئ 4 02-15-2022 12:59 PM
لقاء مفتوح مع الأستاذ سامر العتيبي ...أسطـورة الفـن التشكـيلي ايوب صابر المقهى 5 04-18-2014 03:14 PM
من فمك نكتب سيرتك: لقاء مع الاستاذ نبيل احمد زيدان ايوب صابر المقهى 27 11-21-2012 02:46 AM
قلبي مفتوح على جرح !! حسام الدين بهي الدين ريشو منبر البوح الهادئ 4 02-08-2012 11:26 PM
بوفيه مفتوح عبدالسلام حمزة منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 5 10-22-2010 03:09 AM

الساعة الآن 06:21 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.