قديم 01-27-2016, 12:33 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرحبا الأستاذ ناريمان

- يا ليتك تتحدث باستفاضة .. فسرّ حياة أي إنسان تكمن في تفاصيل أوجاعه.

-سأحاول ان اتحدث باستفاضة، وأركز على الوجع ان كان ذلك هو جانب التشويق في السيرة الذاتية وكاشف خبايا النفس، مع حرصي حتما على ان يظل السرد مشوقا للمتلقي...ولعلني في النهاية أكون بفضل اسئلتك الجميلة والذكية وتفاعل الزملاء قد حصلت على نسخة ولو أولية من سيرتي الذاتية.

س‌-أود أن تحدثنا عن طفولتك والظروف التي أحاطت بها غير تلك الظروف السياسية؟

الولادة وظروفها:

للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة بالذاكرة الي البدايات وأقدم الذكريات أولا ثم التالي فالتالي. لكن أولا دعونا نتصور ونتخيل الظروف التي كانت سائدة في فلسطين عام 1954 وهو عام ولادتي.

لا بد ان الظروف كانت شديدة الصعوبة والقسوة، فقد كان الاحتلال قد سيطر على الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 وظلت مساحات محدودة من الأراضي الداخلية الجبلية في فلسطين حيث تقع قريتي...بدون حكومة او حتى جهاز اداري او أي مقومات اقتصادية لان الوحدة الفلسطينية الأردنية حصلت عمليا عام 1950. وحتى بعد حصول الوحدة لا بد ان الظروف ظلت صعبة قاسية فلم يكن شرق الأردن بلدا بأفضل حال من الناحية الاقتصادية ليوفر ظروف اقتصادية أفضل في المناطق التي تبقت من فلسطين، فقد كانت المعاناة مشتركة حتما...

ولا بد ان الفقر كان سيد الموقف بالإضافة طبعا الى الشعور بمرارة الهزيمة وفقدان وطن بكل ما في الكلمة من معنى بالإضافة الي فقدان مواقع تشغيل العمال في المستعمرات والموانئ والبيارات والحقول الساحلية.

في مثل هذه الأجواء اتيت الي الدنيا...وكنت السادس في الترتيب 4 ذكور واخت واحدة انثى. كان عمر والدي 54 عاما عند مولدي فهو من مواليد عام 1900 وهناك رواية تقول انه من مواليد 1898 أي انه كان في السادسة والخمسين من عمره، وكان تصغير العمر بهدف تجنب اللحاق بالجيش التركي عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كونه الوحيد عند والده جدي خليل الحمد.... ويبدو ان والدتي كانت مريضه عند ولادتي او بعدها بقليل...فقد أخبروني بأنني عشت سنوات رضاعتي الأولى على حليب المرضعات والماشية...ويبدو ان مرضها كان مرتبط بعدد الولادات المرتفع في زمن خلى من الرعاية الطبية تقريبا، فقد ولدت ما مجموعه ثمانية بطون...سبعة قبلي..لكن البنت الاولى البكر، ماتت بعد الولادة بقليل كما قيل لي، اما الاخيرة فقد ماتت اثناء الولادة...

بعد عامين أي في العام 1956 ماتت امي...ولا بد ان مرضها كان ذلك المرض الذي دفع والدي لاقتراض 5 دنانير من أحد المرابين في قرية مجاورة وخسر لاحقا على إثر هذا القرض، الذي تراكمت فوائده بصورة فلكية، قطعة مهمة من الأرض المزروعة بشجر الزيتون...وهو ما يشير الى حالة الفقر التي كانت سائدة اثناء تلك السنوات العجاف...

وقيل لي انها ماتت اثناء الولادة حيث كانت تحاول إنجاب اخت أخرى سابعة، لكنها توفيت معها فكنت أنا الأخير من بين الابناء...وهذه الحادثة مهمة في حياتي لأنها مرتبطة بقصة مروعة كان لها اثرا مهولا على نفسي اثناء طفولتي وكادت ان تطيح بي وسوف ارويها لكم فيما يلي من صفحات الذاكرة......

وعلى القبر الذي دفنت فيه والدتي وهب جدي من جهة الام اختها، أي خالتي، لابي زوجة أخرى ثانية، بحكم العادة والعرف وحتى تقوم على تربية الأطفال الايتام، انا واخوتي كما يقال...

والدي تعلم القراءة والكتابة في "الكُتاب" وكان يحفظ القران الكريم، وقد علمه خاله الكفيف امام المسجد في حينه...

اخي الأكبر لم يتعلم وكذلك اختي التي تلته في الترتيب ...وكان اخي الأكبر يعمل مع والدي في زراعة الأرض وكلفتها، فقد كان دخل الاسرة الرئيسي من الإنتاج الزراعي والحيواني خاصة انتاج العسل، فقد كان ابي صاحب منحل تزيد خلاياه أحيانا عن 500 خلية ...والتي حققت جميعها نوعا من الاكتفاء الذاتي، بينما كان يتم بيع الفائض في حال وجوده لتوفير الاحتياجات الأخرى للأسرة...

سافر هذا الأخ الأكبر للعمل في الكويت في العام 1965 على الرغم من إرادة والدي...مما وفر للأسرة دخلا إضافيا...كما ساهم اخي الثاني في الترتيب والذي اُخرِج من المدرسة في الصف السادس، بسبب تجازوه للسن القانوني المعمول به في حينه، ساهم في توفير دخل للعائلة حيث عمل مبكرا كعامل بناء ليصبح مقاول في تلك المهنة، مما أتاح لباقي الأبناء التعلم والالتحاق بالمدارس والجامعات فتخرج اخي الثالث من الجامعة الأردنية، تخصص فيزياء، واكتفى الرابع بشهادة التوجيهي العلمي، وتحول لتعلم مهنة الطباعة واصبح لاحقا مدير مطبعة...بينما أنجزت انا شهادة الماجستير في تخصص الادب الإنجليزي من الولايات المتحدة الامريكية.

خالتي اخت امي وزوجة ابي الثانية انجبت طفلة فصار لي اخت أخرى، اما باقي محاولات الانجاب فقد فشلت بسبب الاختلاف في فصيلة الدم وهو امر كان مجهولا على ما يبدو للأطباء .. وتسبب بكثير من الالم والمعاناة...فقد عانت منه خالتي اشد المعاناة، وقد انعكست تلك المعاناة بشكل او باخر على افراد الاسرة..وقد كانت خالتي كثيرا ما تندب حظها في الزواج، ربما بسبب فارق السن بينها وبين والدي ، وكذلك بسبب فشل محاولات الانجاب والذي كان عبارة عن مسلسل موت الامل والابناء وتكرر واحدا تلو الاخر ولاكثر من اربعة او خمسة مرات دون فائدة...وقد المتني حالة خالتي النفسية جدا اثناء تلك الظروف القاسية وما تزال بعض المواقف التي كانت تذرف فيها خالتي الدموع بالم وحسرة محفورة في اعماق ذاكرتي...

ومن تلك المواقف كانت في احد الايام تجلس بالقرب من شجرة التين، في الارض القريبة من المنزل، وكانت حينها تدق القش لتحضيره كمادة توضع مع روث الحيوانات حول الطابون ليشتعل ويجعله حارا للخبز...ورايت عيونها في ذلك الموقف تذرف دموعا حارة فسألتها عن السبب؟! فاجابت انها خائفة من المستقبل، لان ليس لها ولد يعتني بها اذا شاخت...فوعدتها حينها بأنني ساكون الي جوراها...وقد وفقني الله عندما كبرت وصارت في الستينيات من العمر واحتاجت الي غسيل كلى... فوقفت الي جانبها اخدمها بكل ما اوتيت من قوة وصبر..وكلما تراخيت في خدمتها او تلبية احتياجاتها تذكرت تلك الدموع الحاره... وتذكرت ذلك الموقف وذلك الوعد الذي قطعته على نفسي، وانا في مقتبل العمر...وقد زرتها في المستشفى اثناء واحدة من عمليات غسيل الكلى واعطيتها مبلغا من المال، ووعدتها ان اعطيها المزيد بعد عودتي من السفر، وسافرت الى الاردن لحضور اجتماع عمل، فوصلني اتصال هاتفي في حوالي الساعة الواحدة ظهرا من احد ايام السبت التي يكون فيها الجسر على نهر الاردن مغلقا، واخبروني فيه انها توفيت وهي تدعو لي...

حزنت لموتها اشد الحزن وحاولت العودة لحضور جنازتها من خلال ترتيب سفر خاص يوفره الصليب الاحمر لمثل هذه الحالات الطارئة، ولكن عودتي تعذرت بسبب السبت....واتصور ان ذلك كان من ترتيب الله عز وجل فلم اكن لاستطيع احتمال مشاهدتها وهي تدفن، واظن ان ذلك جاء تلبية لرغبة دفينة كانت موجودة عندي منذ زمن بعيد...لان اشد ما أحاول ان اتجنبه وأحيد عنه هو المقابر...فانا مسكون بالخوف من الموت ومل ما يمثله فكيف لو انني اضطررت للوقوف هناك وانا اشاهد جثمانها يودع في القبر وينهال عليه التراب ؟

توفي والدي عام 1991 عن 91 عام...او ربما 93 عاما...بينما توفي جدي من ناحية الاب قبل ولادتي بعامين تقريبا، وهو ما دفع والدي وسمح له منحي اسم جدي ( خليل ) على الرغم، وكما علمت لاحقا، ان جدي كان يرفض رفضا قاطعا ان يتم تسمية احدنا، اي احفاده، باسمه لغرض في نفسه كان قد كشفه في مرحلة ما لوالدي...وسأرويه لكم فيما يلي...وهو مرتبط بصورة او بأخرى بموت امي او هكذا ظن جدي وظننت أنا أيضاً حينما علمت بتلك الراوية الكارثية، وكان لتلك القصة اثرا مزلزلا على نفسي وكياني لفترة طويلة ...

كان هذا الجد طويل القامة، قوي البنية، لم يراجع طبيب طوال حياته كما قيل لي، ويقال انه كان يصرع بعضا من شباب ثورة الستة وثلاثون الاشداء وهو في الثمانينيات من عمره. حينما كان يمازحهم ... اصبح هذا الجد يتيم وهو في سن الثانية، حيث مات ابوه وظل وحيدا عند والدته، وكان يعتقد على ما يبدو ان موت والده جاء بسبب تسميته باسم خليل ...ولاحقا اصبح شاعرا مفوها يقال انه كان يفوز في كل المناظرات التي يدخلها في الاعراس.

اما مكان ولادتي فهو قرية كفل حارس وهي قرية قديمة، قدم التاريخ ربما، والشاهد على ذلك وجود قبور او مقامات عدد من الأنبياء في ارضها، ذو الكفل، ومنه اخذت اسمها الحديث، وذو النون، واليسع، ويوشع ... ويقول كتاب بلادنا فلسطين ان اسمها القديم كان "تمنة ساره" وهي كلمات كنعانية تعني نصيب من الشمس، وهي مقامة على راس تله مرتفعة ، وتحيط بها الوديان وحقول الزيتون من جميع الاتجاهات، وتسطع فيها الشمس طوال النهار، بحيث يكون لكل حي او ركن من اركانها نصيب من الشمس...

ويوجد فيها بالإضافة الي قبور الانباء مغارة تسمى مغارة "ستنا ساره" ويقال انها كانت سكن لستنا سارة زوجة سيدنا إبراهيم الخليل إذا ما مرت في كفل حارس، كما يوجد فيها مقر يسمى بنات الزاوية ويقال انه كان سكن لبنات سيدنا يعقوب... وموقع اثري يسمى الشيخ منسي... ولا احد حاليا يعرف قصته...

ويقع مقام النبي يوشع في وسط البلد ويقال ان فناء المبني يحتوي على قبر لاحد قادة صلاح الدين الايوبي كما كتب على الشاهد، ويحيط بالمبني جدار يمتاز بنمو شجرة بطم قديمة نمت من داخل الجدار، ولا أحد يعرف عمرها، كما يوجد بالقرب من هذا المقر شجرة سدر ضخمة قديمة تخدم كمضافة لسكان القرية، وملتقى للسمر، وكانت قديما مكان تقام فيه الافراح...ومكان يلتقي فيه الرجال ليتسامروا او لممارسة بعض الالعاب الشعبية مثل لعبة السيجة....



يتبع

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...

قديم 01-31-2016, 12:19 PM
المشاركة 22
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

تبدو صفحات الذاكرة الأولى عندي، والتي تغطي السنوات القليلة الأولى من حياتي، أي سنوات ما بعد الولادة مباشرة، تبدو بيضاء ناصعة البياض، خاوية، وخالية، من أي حرف خط او كتب او رسم عليها...ولكنني الان اعلم وبعد ان تعمقت في دراسة اسرار الشخصية الإنسانية، وأثر احداث الطفولة المأساوية في الشخصية، بأن تلك الصفحات لا بد انها كانت قد دونت بحبر سري، مداده الألم، والحسرة، والوجع، والحزن، وفقدان الاتصال مع الام الوالدة... ذلك كله وأكثر ...الذي ترافق مع موت الام المبكر حتما...نعم تلك هي صدمة اليتم المبكر التي لا بد انها كانت الزلزال الأول الذي الم بي وزادت قوته عن عشر درجات على مقياس رختر، وكان حتما المصيبة الأعظم، واهم حدث على الاطلاق في صندوقي الأسود...

ولا بد ان هذا الزلزال كان عظيم الأثر على نفسي وقلبي وعقلي لأنه حدث في وقت مبكر، وتحديدا في السنة الثانية بعد الولادة ...والدلائل تشير انه وقع في اعماق الذاكرة وترك هناك أثرا مهولا وفجر طاقات صنعت ما انا عليه اليوم وبعد ستون عاما من الضياع والاحساس بالفقد والبحث عن اجابات....

اما إذا ما قلبنا تلك الصفحات الأولى من الذاكرة، والتي تبدو بيضاء ناصعة كبياض الثلج، وهي في الواقع سوداء كالحة كسواد ساعات ما قبل الفجر، من هول وشدة ما أصابني من صدمة الفقد تلك، والتي تركت اثارها في الأعماق السحيقة من اللاوعي كما يقول علم النفس وتؤشر له مجموعة من العلامات والسمات التي ينطبع فيها الانسان...اذا ما قلبنا تلك الصفحات نصتدم بصفحة واحدة كتبت بالدم، وسجلت تلك الصفحة حدثا مروعا، مؤلما، مرعبا، ما ازال اذكر تفاصيله على الرغم انه وقع في وقت مبكر جدا، ولو انه كان حدثا عاديا عابرا لزالت اثاره مع الايام...ليكون ذلك اول حدث يدون على صفحات ذاكرتي الواعية، ولا اكاد اذكر غيره من تلك المرحلة المبكرة في حياتي، وذلك لشدة ما تسبب لي ذلك الحدث من الم وخوف وترويع...

ولا ازال اذكر تماماً ذلك الشخص الضخم، بسحنته المخيفة، وكرشه الكبير، وحقيبته السوداء، وكان اسمه ابو طه، والذي قص بمقصه او ربما هو موس حلاقة حاد من الطراز القديم، جزء غاليا من جسدي، فتدفق الدم الأحمر القاني من اكثر المناطق حساسية في جسدي...يومها البسوني ثوبا فضفاضا، ولفوا مكان الجرح بشاش ابيض، لكنه ظل يكتسي باللون الأحمر لأيام وليالي لاحقة .. رغم انهم كرروا رش الجرح ببودرة بلون ابيض لوقف النزيف...لكنهم لم يتمكنوا من فعل اي شيء بخصوص الالم الذي اجتاحني ، سحقني ، وزلزل كياني ....الم ساحقا، ماحقا، بدأ كطوفان واستمر لأيام، ثم تلاشى تدريجيا تاركا خلفه جرحا غائرا في جسدي، وندوبا وجراحا اكثر عمقا في نفسي وعقلي وذاكرتي ...

تالمت اثناء تلك الحادثة الجريمة وبكيت بشدة ورقصت كدجاجاة مذبوحة... بينما كانت النسوة تطلق العنان لزغاريتها احتفاء بالمناسبة... تلك الجريمة التي ارتكبها ذلك الشخص الضخم المرعب بحقي، واظنه كان يمتهن الحلاقة فمثل تلك المهنة كان يمارسها الحلاقيين في تلك الايام، تلك هي حادثة الختان وتسمى محليا ( الطهور)، وهي الحادثة التي يرقص لها الناس فرحا، بينما تتلوى الضحية الما وخوفا وحسرة على ما فقد...واظن ان اثر ذلك الفقد المحدث يظل عالقا في الذاكرة الي الابد ...فلا احد يعرف تماما اذا كان ذلك الحلاق عرف حدوده ام انه عمق القص قليلا...فزاد من حجم القطعة التي اقتطعها بحجة توفير مزيد من النظافة، فاثر ذلك على الاطوال الطبيعية للاشياء...
ولا شك ان تلك كانت اول حادثه يسجلها عقلي الواعي... وهي حتما اول حدث واعي في سجل ذاكرتي، واكثرها ترويعا ودموية وأشدها الما...كان ذلك حدث من الوزن الثقيل، مؤلم، ومخضب بدم احمر قاني...فكان فاتحة ذاكرة مملؤة بالاحداث القاسية، والمؤلمة، التي سجلتها ذاكرتي على مر الايام...بعضها تسبب في زلزلتي بقوة تزيد على عشر درجات على مقايس رختر...فكان اثرها جليا في صفحات ذاكرتي...

ولو اننا تابعنا تقليب مزيد من الصفحات المبكرة لنقرأ ما دون فيما يلي من صفحات سنجد بأن سنوات حياتي الأولى لا بد انها كانت مرعبة، ومروعة، ومخيفة في مجملها، وهي كذلك بحق من عدة نواحي...

أولا كان بيتنا مكون من غرفتين متواضعتين، صغيرتي الحجم ومبنية من الطين طبعا، بالإضافة الي بناء أثرى قديم لتخزين الحبوب ويخدم مأوى للحيوانات أيضا، خاصة في أيام الشتاء...وكانت الساحة المفتوحة امام الغرفتين، والتي كانت تغطيها في معظم أيام السنة، ما عدا اشهر الخريف... أوراق شجرة توت ضخمة كانت مزروعة في قلب الساحة، كان ذلك الجزء ربما هو اهم جزء من البيت، حيث كانت تلك الساحة متعددة الاستخدامات بالمعني الحديث...صالة، وصالون، ومكان للطبخ ومكان للطعام، ومكان استقبال الضيوف..الخ...

وكانت واحدة من تلك الغرف لابي وزوجته الثانية، خالتي، وغرفة أخرى نصفها مطبخ على الطريقة القديمة أي مكان لبابور الكاز ومكان لزير الماء وامكنه لتخزين ما تيسر من المواد المخصصة للطبخ والطعام...والنصف الأخر مكان كنا ننام فيها نحن الأولاد السبعة...وكنا ننام الي جانب بعضنا البعض كأسماك السردين المحشوة في علبة صغيرة...وكان جزء من سقف تلك الغرفة مكون من القش والحطب، ولطالما كنا نسمع أصوات أشياء تتحرك في ذلك السقف المخيف خاصة في ساعات الليل...وكنا ننام على امل ان تكون تلك الأشياء صراصير او فئران وليست افاعي وعقارب...

واذكر اننا في أحد الأيام استيقظنا من النوم صباحا كالعادة وخرجنا الي الساحة...بينما قامت اختي الكبيرة، عائشة، بطي الحصيرة التي كنا نفترشها تحت الفرشات الاسفنجية، او تلك المصنوعة يدويا من القماش...وما لبثت ان صرخت، وخرجت مسرعة، هاربة الى خارج الغرفة، وهي تشير الى وجود افعى في المكان...وكانت ترتجف والرعب باديا علي وجهها...فسمع الهرج والمرج جار لنا اسمه أبو يوسف، حسين القره، وربما تم استدعاؤه، فاحضر عصاه وقتل الحية، وإذا بها تزيد عن المتر في طولها...وقد فوجئت انها كانت قد خرجت من فتحة في الأرض، في المكان الذي كنت انام فيه انا تحديدا، وكان ذلك في اخر الصف والي جوار اختي الكبيرة التي لعبت دورا مهما في الاعتناء بي بعد موت امي فكانت الام البديلة رغم صغر سنها في ذلك الوقت...

كان الليل في تلك السنين مخيف لطفل مثلي، وكان شديد العتمة والوحشة، فلم تعرف قريتنا الكهرباء الا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وكان وسيلة الإضاءة القنديل، او السراج، ولوكس الكهرباء اليدوي...وأحيانا ضوء أبو شنبر(اللوكس أبو شنبر) والذي كانت اضاءته تعتبر ترف ويضاء غالبا في أوقات الاحتفال والمناسبات...

وكان ما يزيد الليل وحشة ويزيدنا رعبا حكايات اختي الكبيرة، عائشة، والتي كانت تروي لنا، في كثير من الليالي، كنوع من التسلية او لمساعدتنا على النوم...وكانت في معظمها قصص مرعبة...منها قصة "الغول وصاحبة الحب" الذي يتوعدها الغول بأكلها عندما تنتهي من طحن الحب، بينما وحسب القصة كانت هي تغني وتسري عن نفسها فتقول " اطحن معي يا أبو علي يا جارنا...فيرد عليها الغول ...البطل في القصة المرعبة قائلا ..."الليل طويل والحب قليل كل ما خلصتي بوكلك"...يا لها من قصة مرعبة!! ويا له من اثر تركته في اعماق ذاكرتي ولو انها قصة اسطورية...حكاية ربما اخذوها من الف ليلة وليلة فالغول من المستحيلات الثلاثة على رأي الشاعر... وليتنا كنا نعرف ذلك ونحن اطفال...

ولا تقل القصص الأخرى مثل "الشاطر حسن"، و"بير خنيفسه" تشويقا و رعبا...ولا بد ان مثل تلك القصص، والأجواء الموحشة، والمعتمة، والمرعبة...وظروف البيئة القاسية... كان لها وقع مخيف على نفسي، فكنت أحيانا ابلل فراشي، وكانت هذه مشكلة أخرى...تتسبب لي بمزيد من الرعب...حيث كانت خالتي وزودة ابي تهددني بأشياء كثيرة منها دق يدي بالإبرة إذا فعلتها مرة أخرى...واظنها كانت شديدة القسوة في اسلوبها التربوي رغم انني الان أتصور بان غايتها كانت حتما حسنة، وربما كانت تظن بأنها تفعل الصواب بعينه...فهي امرأة امية لا تقرأ ولا تكتب...ولم تقدر أثر مثل تلك الأساليب الترهيبية على نفسي حتما ولا يمكن لي ان الومها...

ولطالما سمعتها وفي أكثر من مناسبة تردد بأن القسوة هي التي تصنع الرجال...وكان اشد ما يهمها ان نكون انا واخوتي شجعان، لا نهاب من شيء، وكان أكثر ما يزعجها ان يتغلب أحد أبناء الحارة على أحدنا باي شكل من الاشكال...وكانت هي تحب ان تكون دائما في الطليعة، وتحب ان يكون كل من يخصها في الطليعة ايضا...

والصحيح انها ورغم قسوتها تلك كانت حسنة المعاملة...شديدة الحنان على الاقل تجاهي...حتى انني لم اعرف او اشعر انها ليست امي الا في وقت لاحق...لا اعرف تحديدا متى؟!... ولكني اعتقد انه كان في سن الرابعة، حيث كانت ابنتها، أي اختي غير الشقيقة، عزيزة، والتي تصغرني بعامين قادرة على اللعب والجري...وقد مثل ذلك الحدث صاعقة رهيبة بالنسبة لي...ولا بد انه زلزل كياني واشعل النار فيه... وذلك حين عرفت بصورة درامية مفاجئة ان امي الحقيقية ميته...وهذه ليست امي التي انجبتني...

وحدث ذلك في ذات يوم جميل كنا نلعب فيه في فناء الدار...وكانت خالتي واختي الكبرى، عائشة، عائدتين من الحقل تحملان على رؤوسهما حزم من الحطب الزيتون... فركضت اختي الصغيرة عزيزة، نحوهما فرحة وهي تنادي امي ..امي...فلحقت بها، وانا اشد منها فرحا، وصرت انادي مثلها امي... امي...

فما كان من اخي الذي يكبرني بعامين، وكان هذا الأخ عصبي المزاج، حاد الطباع...فما كان منه الا ان نهرني بقسوة، وحدة، وقال لي ان هذه ليست أمك...

الصحيح انني لا اعرف ان كان قد حاول هو او غيره اخباري بتلك الحقيقة من قبل، ام أني لم أكن أدرك ما كان يقال لي بخصوص تلك المصيبة والفاجعة وربما انني لم اشأ تصديق ذلك...فكيف لا تكون هذه امي؟؟!!...

ولكن تلك اللحظة في ذلك الموقف تحديدا مثلت لي لحظة وعي وادراك بحدث مزلزل جلل، وبمقياس عشر درجات على مقياس رختر ...فوقع كلامه علي وقع الصاعقة الناتجة عن سقوط كوكب على الارض...وكأن نارا اشتعلت في قلبي وعقلي...رغم انني شعرت وكأنه غمسني في بحر من الجليد...ليست أمك؟ ولا بد انني سألت نفسي عندها، وانا حزين، مكسور الخاطر، اعاني من هول المفاجئة، والدهشة، والارتباك، ولا اذكر ان كان ذلك الارتباك ظاهرا او مستترا لكنه حتما كان جارفا كبحر هائج...فمن تكون امي إذا؟؟ وأين هي؟؟

واظن انني من لحظتها سقطت في بئر عميق، لم أستطع الخروج منه ابدا... ولكنني وجدت في قعره نفقا طويلا، طويلأ...بطول السنوات والأيام التي عشتها وما ازال...سرت فيه مدفوعا بطاقة عجيبة...ابحث عن الحقيقة، وعن معاني الأشياء، وكنهها...اصبحث فضوليا ابحث عن إجابات لكل تلك الأسئلة الوجودية التي يبدو انها فقست فجأة في ذهني...سرت ابحث عن معني الحياة، والموت، واسرار هذا الكون... وكنت في كل ذلك ربما ابحث عن امي؟

ولا بد ان جسدي ظل حبيس ذلك النفق المعتم ولا يزال...اما روحي التي اشتعلت بقوة مائة بركان... فقد انطلقت من داخل النفق وطارت مع طيور الوطواط...لتبحث في فضاءات مختلفة ومتعددة عن الحقيقة وتحاول الوصول الي إجابات لكل الاسئلة...

احدى هذه الفضاءات كان حبي للمعرفة فانكببت على الكتب في وقت مبكر...وكرست لها وقتا ثمينا.... اخترت الدراسة الجامعية الموسعة وعشقت الدراسة والبحث والتحليل...وسافرت في هذا السبيل الى اخر نقطة في الأرض، او هكذا بدت لي، تلك هي الشواطئ الغربية للولايات المتحدة الامريكية، شواطئ المحيط الهادي، حيث التحقت هناك بإحدى الجامعات بنية التوسع المعرفي والي اقصى حد يمكن الانسان من الوصول الي اجابات عن كل الاسئلة...وانا مدفوع بطاقة داخلية هائلة،وفضول، وشغف هادر كموج المحيط ...وباندفاع منقطع النظير لكشف اسرار هذا الكون...وقد توصلت في رحلتي تلك الي حقيقة اذهلتني في لحظة من الزمن...كنت في بالغ السعادة لما توصلت اليه من معلومات واجابات...وكدت ان اخرج الي الشارع اصرخ بملء فمي "وجدتها.. وجدتها" كما فعل ارخميدس ذات يوم ...والصحيح انني يومها طرت انا وخيولي من الفرح...لكنني ما لبثت ان سمعت من شخص بعض كلمات جعلتني انا وخيولي نهبط الى الارض بسرعة فائقة...وعرفت عندها حتى ان اعظم انجاز يمكن ان يتوصل اليه الانسان، ما هو الا لبنة صغيرة في صرح المعرفه الشامل...وان كثير من المجانين على الاغلب هم اناس عباقرة عجزوا عن ايصال افاكارهم لمجتمعاتهم الجاهلة فظنوهم مجانين...وسأروي عليكم رحلة البحث المخيفة تلك، وقصة اللحظات الجنونية التي عشت فيها على الحافة ولكن من شدة الفرح الذي ولد خوفا وشعورا قاسيا بالوحدة والغربة فلا تستعجلوا...

اما الفضاء الاخر الذي ابحرت به فهو عيون النساء...واطنني عشقت المرأة وشغفت بها ليس فقط لكونها ذلك الكائن الملائكي الشفاف... ولكني في حبي للمرأة كنت ابحث وربما بصورة مرضية احيانا عمن تعوضني عن حنان الام، وتملا فراغا شاسعا عشعش في صدري ورأسي ...واتصور انني ما ازال حتى هذه اللحظة مبحرا في بحر الحب...وسوف تظل اشرعة سفني مشرعة ما بقيت وما دامت الرياح مؤاتية...ولا اظن الان ان كل نساء العالم لو اجتمعت تستطيع ان تعوض اليتيم عن جزء يسير من حنان امه...او تملأ فراغا خلفته مصيبة اليتم في تجاويف صدره وقلبه وعقله...

كما ان هذا الأخ الذي اسقطني في ذلك البئر العميق والمخيف والذي لا قرار له ولا مخرج منه...كان مصدر رعب إضافي بالنسبة لي في تلك السنوات المبكرة ...فقد كان كما قلت شديد العصبية، سيء المزاج، وحاد الطباع، واظن الان ان سبب ذلك كان يعود الى أثر وقع موت الام على نفسه...وحيث يبدو ان أثر مصيبة اليتم كانت أعظم عليه واشد قسوة...وربما ان سبب ذلك انه كان في الرابعة عند وفاتها، وهو ما يشير الى ان وقع اليتم يختلف من شخص الي اخر وحسب السن الذي تقع فيه مصيبة اليتم...فتلك العصبية لم تكن سوى تنفيس عن حزن لا يطاق..وغضب على ظروف ماساوية فرضت نفسها...ولم يكن بقادر على ان يستوعبها...

وقد كانت تجتاحه نوبات من الغضب ..و كثيرا ما كان يلجأ لتكسير الأشياء، ولطالما شاهدته وهو يرمي أبواب الغرف الخشبية بالحجارة، فيترك احيانا فيها ثقوبا...ولم أكن اعرف كيف اتصرف حينما كان يمارس هذه الطقوس المرعبة...الا ان أحاول حماية رأسي والاختباء بعيدا عنه قدر الإمكان لحين انتهاء نوبات الغضب، ولو انه ظل بعد ذلك مصدر رعب لي رغم حنانه المفرط وما يزال مصدر خوف ورهبة رغم تبدل الأحوال بشكل دراماتيكي في وقت مبكر حيث ما لبثت نوبات الغضب تلك ان انتهت واختفت الي غير رجعه، وتبدلت بمزاجية حادة، ومتقلبة، وذكاء خارق وشخصية، قيادية، كرزمية، عسكرية في طباعها، صارمه في اساليبها، قادرة على تحقيق نجاح منقطع النظير على المستوى الإداري، على الرغم من عدم حصوله على المؤهلات الجامعية المؤهلة لمثل ذلك النجاح...وظني انه كان قد سقط هو الاخر في بئر عميقة شديدة العتمة والوحشة...وكانت نوبات الغضب تلك انما هي تعبيرا صارخا عن شعوره بالوحدة والوحشة والم الفقد...فلا شيء يمكنه ان يملا الفراغ الذي يتركه موت الام...



يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-02-2016, 02:05 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة

ولم يكن ذلك الأخ مصدرا للألم الوحيد بالنسبة لي ولكني أستطيع قول نفس الشيء وبصورة نسبية عن جميع افراد الاسرة لسبب واحد، وحيد...وهو انهم كانوا يلقبونني بأسماء وينادوني بها توحي جميعها بأنني طفل كاذب...مما تسبب لي بضيق وألم نفسي شديد...ولا اعرف ان كنت فعلا قد امتهنت مهنة الكذب في تلك السنوات المبكرة من عمري...وان فعلت فربما ان ذلك جاء كردة فعل نفسية عنيفة على ذلك العالم الذي بدى لي كاذبا...فكيف أعيش كل تلك السنوات الأربعة في ظل كذبة بحجم تلك...وهي ان أعيش في كنف امرأة أقول لها امي لأتبين لاحقا بصورة صاعقة مزلزلة انها ليست امي وانما هي خالتي؟؟!!...وان امي ميتة، ومدفونة تحت التراب؟؟؟ يا لهول الفاجعة؟؟!!...وربما كان الكذب عندي وكما يقول علم النفس أسلوب غير واعي للدفاع عن النفس ودرء المخاطر والالم عنها...او ربما هو مؤشر على خيال واسع من دماغ تعرض لصدمة هائلة فاصبح يعمل بطاقة فوق عادية...

ولكن الامر لم يتوقف عند ذلك الحد...ففي احيان اخرى كانوا يدلعونني ويلقبونني باسماء تشير الى قصري، وصغر حجمي...وقد كنت فعلا مخلوقا ضئيلا وقصيرا في تلك السنوات المبكرة، واظن ان السبب يعود لحليب الماشية، وفقداني لصدر امي وحنانها بعد ان يغيبها المرض والموت...وكان اسوأ تلك الالقاب اثر في نفسي لقب "بزبوز" وهي كلمة اظنها مشينة تشير في احدى معانيها الى قطعة صغيرة من البراز...واظنهم لم يقصدوا اهانتي قطعا وانا في تلك السن، ولا تحقيري وشتيمتي فتلك الكملة لم تكن تقال في مواقف تستدعي الاهانة والتحقير والشتيمة... ولو انني لمستها في كل الاحوال...ليتهم كانوا يعلمون...لكن الجهل كما يقول احمد شوقي "يهدم بيت العز والشرف" فما ظنكم ان طفل صغير، لا يملك من امره شيء، كان يمكن ان يفعل ازاء كل ذلك؟

وصدقوني فان تلك المخاطر والظروف كانت كثيرة، ومتعددة، ومخيفة في بيئة شديدة الصعوبة، وعالية المخاطر... والصحيح انني استغرب الان كيف يمكن لأنسان ان ينجو منها، ويظل حتى على قيد الحياة...واعرف الان ومن واقع تجربتي الذاتية ان الموت والحياة امر قدري لا يملك الانسان من امره شيء وان الانسان محمي بإرادة ربانية الي ان تحين ساعته، وينتهي رزقه، مهما تعدد المخاطر...ولو ابتلعه حوت او جرفة موج البحر او اغرقه الطوفان...

وحينما انظر الان الى واقع البيئة المحلية في الريف الفلسطيني وطبيعة الحياة التي كنا نعيشها في تلك السنوات ارتجف من شدة الخوف...واستغرب كيف لشخص مثلي ان ينجو من كل تلك المخاطر...خاصة انني كنت عفريتا صغيرا...دائم الحركة...لا اهدأ ولا استقر...اروم البراري ابحث احيانا عن صيد ثمين مرة الاحق العصافير بالفخ والنبيظة ومرة ابحث عن بيض طائر الحجل...ومرات كثيرة كنا نجني فيها الثمار، اللوز والمشمش والعنب، والتين...لقد زرعوا في ذهني ان الارض غنية وكريمة تطعم كل من يقصدها وقد صدقوا...حتى انني كنت احيانا اذهب الي ارض لنا بعيدة عن القرية مسافة تزيد ثلاثة كيلومترات او ربما هي خمسة وكنت اقطف منها ثمار الخروب...وقد تحولت هذه الارض الجميلة الكركيمة والتي يتوسطها نبع ماء...كنا نشرب منه ونسبح في حوضه ونستجم حوله تحولت حاليا الى مصفاة لمجاري مستوطنة مجاوره...

واني لأظن بان نسبة مساحة الخوف والالم والمخاطر في حياتي المبكرة كانت كنسبة الماء الي اليابسة...او ربما أكثر قليلا من تلك النسبة...وقد كانت تصل أحيانا الي 90%...وما ذكرته من مصادر الم حتى الان ما هو الا مثل قمة راس جبل الجليد اما باقي المصادر فربما لن أتمكن ابدا من حصرها ووصفها او ان اجيد التعبير عنها، وعن أثرها...مهما حاولت وإذا ما اسعفتني الذاكرة لذلك ابتداء ...

اما هذه البيئة التي اشير اليها فهي بيئة الريف الفلسطيني...انها بيئة تنهل بالأفاعي السامة القاتلة إذا ما خرجت تلك الافاعي من بياتها الشتوي، وهي من أنواع مختلفة، واحجام متعددة، اخطرها، وأشدها سمية على الاطلاق هي الأفعى الفلسطينية ذات الرأس المثلث...والتي يقال ان لدغتها تعني الموت المحقق...

والغريب ان العصافير البلدية (عصافير الدويري) والتي تتخذ من المنازل القديمة أماكن لأعشاشها هي التي كانت تخدم كإنذار مبكر لوجود الافاعي، حيث كانت تتجمع وتأخذ في الرفرفة، والزقزقة بصوت مرتفع اشبه بالصراخ وكانها ترفع اشارة حمراء لتحذير الناس رغم انني اظنها تدافع عن صغارها واعشاشها، مما كان يلفت الانتباه وينذر بوجود افعي...ولطالما شاهدناها وراقبناها وهي تتحرك على جدران البيوت القديمة المبنية من الطين...ليقوم صاحب المنزل بمحاولة قتلها بإشعال نار في الفتحة ليجبرها على الخروج ومن ثم قتلها...وأحيانا كثيرة كانت تسقط من السطوح او من على اغصان الأشجار دون سابق انذار...واحيانا أخرى كان الناس يتعثرون بها في الطرق المعتمة غير المضاءة التي يسيرون بها ليلا او تأتي الي حيث يرقد الناس...

كل ذلك ضمن حدود المنازل والبيوت في القرية اما في، البر، أي الأراضي الريفية البعيدة عن المنازل فحدث ولا حرج...وكنا أكثر ما نجدها في اعشاش العصافير ومنها العصفور المدني وهو عصفور صغير الحجم لكنه جميل بالوانه المتعددة الرمادي والاصفر والاسود...تلك العصافير التي تتخذ من الفتحات في أشجار الزيتون المعمرة بيوتا لها او اعشاش طائر الشنار (الحجل) حيث كنا نمضي الكثير من أيام شهر اذار ونحن نبحث عن اعشاش هذه الطيور لنأخذ بيضها اللذيذ...والمعروف بأن الافاعي تظهر في فلسطين تحديدا في مطلع هذا الشهر اذار من كل عام، وتظل نشيطة طوال اشهر الصيف ولحين انخفاض درجات الحرارة بشكل كبيرة حيث تدخل في بيات شتوي وتختفي طيلة اشهر الشتاء... وكما يقول المثل الشعبي (في اذار مرة شميسه ومرة امطار ومرة امقاقات الشنار، وتبيض العنقاء والمنقاء والي ما الها منقار )...ويعني هذا المثل ان كل الطيور وكل الحشرات تخرج من سباتها الشتوي للتزاوج في بداية شهر اذار من كل عام...

ومن المرات القليلة جدا التي اذكر فيها جدي لأمي، صالح الاسعد، والذي توفي وانا في الثامنة... اذكره وهو يسرع الخطى نحو الحديقة المجاورة للمنزل هو ووالدي حيث كان كل منهما يحمل عصى ويلاحقان حية عثرت عليها خالتي وهي تقطف بعض أغصان نبة الشجيرة (الميرمية) لتعطير شراب الشاي...ليتبين لي لاحقا بأن الافاعي تأكل النحل وهي من الد اعداء النحل الكثيرة وهي تتواجد بكثرة في الإمكان التي تتواجد فيها خلايا نحل....

واذكر مرة وانا في سنوات دراستي الجامعية الاولي وكان ذلك في سبعينات القرن الماضي حيث تعرضت خالتي للدغة افعى داخل البيت القديم الذي كنا نخزن فيها الأشياء... ولولا الاجراء السريع والذي تم بنقلها الى المستشفى في المدينة لكانت تلك اللدغة قاتلة حتما...واذكر انها فقدت شيء من جلدها على أثر تلك اللدغة، ولا اعرف ان كان ذلك سببه سم الحية ام العلاج الذي اظنه الكورتيزون...وظلت كل عام تشعر بألم في نفس تاريخ اللدغة ولا اعرف ان كان ذلك الألم نفسي ام هو حقيقة ويظل كبصمة للسم الذي يتغلل في الجسد...ويرى البعض من حولي ان خراب كليتيها في اخر سنوات عمرها وموتها بالفشل الكلوي كان سببه سم تلك الافعى اللعينة...

وان كانت الحية تقتل ضحيتها عن طريق السم الزعاف الذي تضخه في جسد الضحية بواسطة الانياب الحادة في فمها، فان ذكر الحية، ويسمى محليا "بالعربيد"، ليس له تلك القدرة على القتل بالسم، لكنه يستخدم اسلوبا لا يقل بشاعة، وربما هو اكثر عنفا والما...فهو يلتف على ضحيته مستخدما عضلاته القوية جدا لخنق الضحية، فسلاحه الخنق، وربما قطع ضحيته من النصف... وهو ايضا لا يقل بشاعة في منظره عن الحية...فهو مرعب حينما يأخذ يتلوى بحجمه الضخم ويلتف على ضحيته ...واظنة يأني بلون واحد اسود خالص السواد فلم اشاهد في حياتي عربيد بلون رمادي او اصفر او مزركش ولو بمسحة بيضاء صغيرة ...واظن ان العرابيد تعيش في الخفاء في العادة، وكأنها تحب حياة العزلة والبعد عن الناس...وقلما تشاهد مثل الحية منتشرة في كل مكان تقريبا...ربما لان العرابيد لا تمتلك سلاحا قاتلا فتاكا مثل سلاح الحية الفعال والمميت...ووظيفتها ضمان بقاء النوع مثل ذكور النحل...

وإذا كانت الافاعي لا تؤذي كما يقال الا إذا ما استفزت او شعرت بتهديد، ولا أدرى مدى صدقية ذلك ولا اريد ان ادري او اجرب طبعا،...تشكل العقارب مصدر خوف ربما اشد من الافاعي، وكما يقول المثل الشعبي ( قرب العقرب لا تقرب وقرب الحية افرش ونام)، والعقارب أيضا متعددة الأنواع والألوان...فذات اللون الاسود منها يعتبر الأقل سمية، اما ذات اللون البني فهي شديدة السمية، لكن العقرب الأشد سمية على الاطلاق من بينها فهو العقرب باللون الأصفر...ولدغة هذا العقرب الأصفر تعني الموت المحقق إذا لم يتوفر العلاج الفوري وقد لا ينفع العلاج معه خاصة اذا تأخر قليلا ولم يكن فوريا وناجعا...

وإذا ما تذكرنا اننا نتحدث عن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نعرف بأن العلاج الطبي كان نادرا ان لم يكن معدوما في بعض الاحيان وغير متوفر في اللحظة والتو، واغلب الناس كانت تلجأ الي الطب الشعبي لقلة الامكانيات... مثل جرح مكان اللدغة ومحاولة شفط السم من الجرح ثم وضع الثوم او أشياء أخرى لا اظن حقيقة انها تفيد في شيء سوى التطمين النفسي وانتظار الفرج...

وقد تعرضت شخصيا الي لدغة عقرب منذ سنوات وتحديدا عام 1995 ، حيث كنت قد عدت لتوي من المهجر لاستقر في القرية لعدة سنوات انتقالية، وهذه السنوات كانت مليئة بالاحداث فلم تكن عودة اختيارية وانما اجبارية، وصاحبها ايام وليالي كالحة السواد، سوف احدثكم عنها بالتأكيد فيما يلي، وكان ذلك العقرب صغيرا لا يتجاوز طوله سنتيمتر واحد او لنقل بضعة سنتيمترات على الاكثر ولونه اسود...وعلى الرغم من حصولي على الإبرة المزدوجة كما شرح لي الطبيب المقيم في القرية لكنني شعرت بألم مبرح ظل مستمرا على مدار أربع وعشرين ساعة متواصلة...


يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-03-2016, 11:50 AM
المشاركة 24
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

وعلى عكس الحية التي قلما نجدها داخل المنازل، وبين الفراش، او في الملابس... كنا نعثر على العقارب في كل مكان، وكثيرا ما كنا نجدها داخل البيوت، وبين الفراش، واسفل سجادة الصلاة، او عالقة في حجر نحركه من مكانه حيث ان لها طبع غريب عجيب وهي انها تكون عالقة بالشيء ممسكة بمخالبها به باستماته، ولا تظهر على الارض مكانه وهي خدعه طالما ادت الي وقوع محرك الحجر ضحية لها... وأحيانا كثيرة كنا نجدها مختبئة في الملابس او الأحذية ولذلك كان علينا ممارسة طقوس يومية وربما لحظية صارمة...تتمثل في هز الملابس بقوة قبل ارتدائها كي يسقط ما فهيا من عقارب ان وجدت...ومن يتجاهل مثل تلك التعليمات الشعبية غير المكتوبة سيجد نفسه ضحية للدغ والالم...

واني لأظن جازما ومن واقع تجربة شخصية بأن للعقرب نظام بث لاسلكي له تأثير على الجهاز العصبي للإنسان ويتواصل معه ولو بصورة بدائية...اقول ذلك لأنني، في العام 1989، وكنت في زيارة قصيرة للقرية موطني الاول ومكان ولادتي...بعد ان حصلت على إجازة قصيرة من عملي في الكويت، وذلك لعيادة والدي الذي كان مريضا، ولا بد من القول انني في تلك الزيارة رأيت نجوم الظهر بكل ما في تلك الكلمة من معنى، كما يقول المثل الشعبي عندنا، والذي اراني إياها في ذلك الموقف ليس العقارب ولا الافاعي... وانما هم جنود الاحتلال، ولتلك الزيارة حكاية طويلة ومثيرة...وتمثل فصلا كاملا من فصول الألم الذي الم بي خلال مسيرة حياتي، وسأرويها لكم حينما نفتح سويا صفحات ذاكرتي التي تغطي تلك الفترة من الزمن المر...

فبينما كنت اجلس في احدى الليالي تحت شجرة التوت في فناء الدار الامامي، وفي ساعة متأخرة من الليل، وكان الهدوء سيد الموقف... شعرت بأن شيئا يسعى خلفي، وان خطرا محدقا بي... وكان ذلك مجرد إحساس... فلم يكن هناك أي صوت او خشخشه او حركة من اي نوع... فالتفت من توي الى الخلف استكشف الامر، فاذا به عقربا مدرعا مخيفا...بلونين بني قاتم، واصفر لامع، وكان ذلك العقرب يسعى نحوي مسرع الخطى، فقفزت عن الكرسي الذي كنت اجلس عليه، وقتلته بكعب حذاء، وانا ارتجف من الخوف ...

وربما ان سبب الارتجاف كان جزئيا من وحي ما كان يتداول في القصص الشعبية، وهي انها أي العقارب والافاعي، كائنات حقودة، تنتقم لبعضها البعض، وتأخذ بالثأر على طريقة البشر ربما، فان انت قتلت احدها... لا بد ان يأتي اخر من جنسها على نفس المكان لينتقم من القاتل....

وقد لا تصدقون هذه الحكاية لكنني استطيع ان اجزم لكم من خلال التجربة بأن كل كائن حي يمتلك اجهزة استشعار واجهزة بث... وربما انها تتواصل فيما بينها...ولبعضها قدرات هائلة، ومذهلة وقد تتقاطع اجهزة البث والارسال لدى البشر مع بعض اجهزة هذه الكائنات وتتواصل معها ولو بصورة غير محكية...

فهل تعلمون مثلا ان للحية قدرة على شل النطق عند الانسان...نعم حينما يتفاجأ الانسان بالحية ينعقد لسانه، ولا يستطيع طلب المساعدة، بالصوت وقد تنشل حركته، وفي ذلك ما يشير الى ان الافعى قادرة على شل حركة ضحيتها المفترضة... ربما كآلية للدفاع عن النفس او للسيطرة على الموقف وتسهيل عملية الانقضاض على العدو المفترض...الانسان الضحية مع احتمال ان يكون السبب الخوف الذي يشعر به الانسان فهو كافي بذاته لشل حركة الانسان وافقاده النطق طبعا...

كما ان الانسان يستطيع ان يشل حركة الحية اي الافعى، بحركة بسيطة كنا قد تعلمناها من التراث الشعبي، وذلك اذا كان صلبا قويا ولم تتمكن الحية من شل حركته في تأثير استباقي... وهي ان يقوم بلف خصلة من شعره فتتجمد الحية في مكانها...وكثيرا ما كان الناس يؤكدون نجاح مثل هذه الحركة في شل حركة الحية لحين احضار عصا او اي وسيلة اخرى لقتلها...

وهل تصدقون اننا كنا نملك بقرة كنا نسميها "العسلة" نسبة الي العسل...وكانت تلك البقرة بالفعل حيوان وديع، اليفة في طباعها، جميلة في شكلها، وبهية بألوانها الابيض والاسود...لم تؤذ احد ابدا فقد كانت ودودة اليفة، وكريمة في عطائها ..وبذلك استحقت اسمها العسلة بجدارة... رغم اننا كنا نقترب منها، واحيانا نركبها، وربما نسيء معاملتها في محاولة لاستفزازها، وذلك بشد ذيلها وما الي ذلك من حركات...وكانت تؤدي عملا شاقا وهي حراثة الارض هي ورفيقتها وهي الطريقة التي كان يفضلها والدي لحراثة الارض... ولكنها كانت تحتمل وتصبر ولم تتصرف ابدا بقسوة او غضب تجاه احد...وعلى عكس البقرة الاخرى التي لم نعطها اسما... واكتفينا بمناداتها بالبقرة الحمراء نسبة الى لونها...رغم انها كانت جميلة بالوانها الاحمر... والابيض لكنها كانت شرسة، عنيدة، ولم نكن نجرؤ على الاقتراب منها...

الشاهد ان تلك البقرة العسلة كانت تفعل امرا غريبا عجيبا فقد كانت حينما تمر من ساحة في وسط البلد، تسمى ساحة النبي يوشع، وعندما تصل الى مكان كان لحام يذبح فيه بعض الابقار... كانت هذه البقرة الوديعة العسلة في تصرفاتها تمد رجليها الي الامام، وكأنها تنبطح على الارض في حركة عجيبة غريبة وتبدأ بإصدار اصوات عالية مزلزلة وكأنها اصوات بكاء حاد مرير ان لم يكن صراخ مفعم بالالم والحسرة...وهو تصرف ليس له تفسير في نظري الا انها كانت تبكي قريناتها من الابقار التي ذبحت في ذلك الموقع في ايام مضت لم تكن شاهدة على ذبحها ولم يعد للذبح اثرا على الارض...فهل هناك شك بان للكائنات الكثير مما لا نعتقد بوجوده؟؟!! وكثيرا ما نتعامل معها وكأنها من دون احساس...

وظني ان فلاحا هنديا كان قد شاهد في غابر الزمان بقرة تقوم بما قامت به هذه البقرة العسله، وربما اشياء اخرى أكثر ادهاشا، وعجبا، حركت وجدانه، وزلزلت كيانه، فقال على طريقته، إني سقيم، وخر لها ساجدا ...وظل يقدسها... ويستشفي ببولها من بين أشياء أخرى ما انزل الله بها من سلطان!!! وربما يَقتُل ويُقتل ببساطه من اجلها!!! وتبعه في ذلك أناس كثر دون حتى ان يناقشوا او يسألوا عن السبب...

والصحيح انني اعجب اشد العجب لتوقف عقول الناس عند حد معين من الاستيعاب...وكيف ينحدرون الي هذا المستوى من التفكير...ثم يستكينون...والمشكلة انهم يغلقون الابواب؟ افلم ينظر هذا الانسان وقبيله مثلا الي ما يمكن للحصان ان يقوم به... وقد وجد العلماء حديثا انه خبير في معرفة ما يدور في النفوس؟...ثم الم ينظر هذا الانسان وقبيله الي الجمل وتكوينه وقدرته العجيبة على التحمل؟ هذه التحفة الكونية التي استحقت بجدارة اسمها...حين اسموها سفينة الصحراء...ثم لماذا لم يسجدوا لنحلة العسل اذا كان الاستشفاء سببا كافيا للتسليم بقداسة الأشياء؟...اليست نحلة العسل أولى بالتقديس اذا وهي صاحبة الرحيق الانجع في شفاء البشر؟

نعود لنكمل حكاية ذلك العقرب المرعب والذي اقلق راحتي...زيادة على ما كان بي من هم وغم ...ولا اظن انني نمت تلك الليلة ليس فقط بسبب ما كان يمكن ان اتعرض له في أي لحظة من جنود الاحتلال، وتلك قصة أخرى كما قلت سأرويها لكم بتفصيل لاحقا... ولكن من خوفي الشديد بان اتعرض للانتقام من عقرب اخر بعد فعلتي التي فعلت...

والصحيح انني لا اجد تفسير لما جرى ولذلك الإحساس الذي ربما انقذني من الموت او لنقل على الاقل من لدغة موجعة والم مبرح ... سوى احتمال وجود موجات لا سلكية يبثها العقرب...ربما لغايات التواصل مع اناث محتملة وبغرض التزاوج...فلتقطها جاهزي العصبي عرضا لأتنبه لوجوده...والارجح انه كان في مهمة بحث عن انثى فقد كان يبدو شرسا متيقظا، مثل الكثير من الكائنات الحية التي تزداد شراسة ويقظة اذا ما ارتفعت نسبة الهرمونات الجنسية لديها استعداد للتزاوج...

اما التفسير الاخر لما حصل فهو ان الانسان الذي يعيش في مثل تلك البيئة الخطرة والمخيفة، ويكون عليه مواجهة مثل ذلك الخطر الداهم، من زواحف قاتلة وغيرها من الكثير من المخاطر، في كل يوم، وكل ساعة، وكل لحظة، في خارج المنزل، وداخله، في الليل والنهار، في سقف المنزل وفي ارضيته، وهو نائم او وهو مستيقظ، انما يطور مع الزمن نظام دفاعي يتقوى فيه احساسه بالخطر الى ابعد حد...وبحيث يصبح جهازه العصبي جاهزا وقادرا على الإحساس بالخطر مجرد اقترابه منه...وهي ملكة مثلها مثل ملكة الفراسة التي نجدها عند أبناء الصحراء مثلا، والتي لا بد ان للبيئة دورا حاسما في تطويرها...وهي تختفي تدريجيا اذا زالت الحاجة لها...



يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-04-2016, 02:16 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

والحمد لله انه كان لدينا في ذلك الزمن حيوانات اليفه اسمها القطط...فلولا القطط لربما انتصرت الافاعي والعقارب في حربها الوجودية علينا نحن البشر...ولولاها لاحتلت الافاعي والعقارب ارضنا وبيوتنا في الريف الفلسطيني وطردتنا منها معلنة انتصارها الكاسح والمدوي على هذه الشريحة من بني الانسان ....

واذكر ان والدي كان حريصا على تربية القطط تحديدا، ولو انه كان يربي الكلاب أيضا على نطاق محدود...والكلاب كانت تقتنى بهدف الحراسة والتحذير من المخاطر خاصة في ساعات الليل المعتمة...او للحماية من الحيوانات المفترسة في الأراضي البعيدة عن القرية، وكانت تعيش في بيوتها الخاصة، او تربط بأحكام في زاوية من زوايا الساحة الأمامية للمنزل ...اما القطط فهي شريك دائم لنا على موائد الطعام ويسمح لها بالوصول الي اي نقطة تشاء، وكانت كثيرا ما تشاركنا الفراش اثناء النوم...

وكأن والدي كان يدرب تلك القطط على القتل لتزداد شراسة على شراستها الوراثية الطبيعية...طبعا ونحن هنا نتحدث عن قتل الافاعي والعقارب تحديدا، وكان ذلك التدريب يتم من خلال القاء حبل امامها يجره المدرب فيتلوى الحبل مثل الافعى فينقض القط عليه... ويظل هذا التدريب يتكرر حتى يصبح القط جاهزا للقتال...وربما ان القطط لا تحتاج الي التدريب فهي تقتل بدافع غريزي....

وكان والدي يختار من القطط الأصناف الذكية الشرسة التي تستطيع ممارسة القتل لهذه الزواحف الغازية دون هوادة وبمهارة عالية، وكان يتخلى عن الضعيفة او المسالمة منها او يتجنب اقتناءها اصلا، وهي الجبانة المسالمة والتي لا تتقن القتل...وهذه الحيوانات رغم انها اليفة تقوم بعمل استثنائي بهذا الخصوص، وتنفذ المهمات بإتقان شديد، ومهنية فائقة...وهي تسهر الليالي لحماية اهل البيت بينما هم كما يقال غارقين في اودية من النوم العميق...ولطالما كنا نصحوا من النوم فنجد ان القط قد قتل عقربا او افعى من مكان قريب...

وهي، أي القطط، اول من يشعر باقتراب الخطر، او وجوده...وهي اكثر ما تكون يقظة والناس نيام...وكأنها الاقدر على التقاط البث اللاسلكي من تلك الكائنات...او سماع حركتها ولو كانت خفيفة، وربما تلعب حاسة الشم دورا في ذلك، حيث يقفز القط متحفزا باتجاه الخطر الداهم بمجرد اقترابه...ويحدق بعينيه اللامعة بألوانها السحرية المتعددة لتحديد طبيعته ومكانه وحجمه...ويبدو وكأنه يرسم استراتيجية للقتال ويضع خطة للهجوم...فقتل افعى سامة او عقرب بنفس الخطورة ليس امرا هينا او لعبة يمكن له ان يتسلى بها، بل يأخذها القط على محمل الجد...والامر يتطلب حتما استراتيجية وتكتيك وخطة هجوم محكمة...والا خسر المعركة واصبح هو الضحية بدلا من ان يكون الصياد...

وما ان يشاهد القط الافعى مثلا حتى يجلس على مؤخرته ويضع يده على الجزء الامامي من رأسه يحمي بها انفه وفمه، وكأنها نقاط ضعف لديه إذا تمكن الافعى منها... فتحول القط من فارس الي ضحية ومن قاتل الي مقتول...ويبدأ القط من فوره بحصار المعتدي ويحاول شل حركته...يهاجم أحيانا، وأحيانا أخرى يجلس على مؤخرته...لكنه يظل يقظا، مستعدا، مستنفرا، متحفزا، منتظرا الفرصة المناسبة بصبر وحنكة لينقض على فريسته بشكل نهائي وبضربة قاضية...ويظل على تلك الحالة حتى ينهكه، وغالبا ما تنتصر القطط في حربها على تلك الكائنات السامة القاتلة...وحينما تنتصر تأخذ الجثة غنيمة وتجعلها وليمة دسمة لها...

ولطالما عجبت وما أزال أعجب من قدرة هذه الحيوانات الاليفة في طباعها، والجميلة في منظرها وألوانها السحرية، والضعيفة في بنيتها، على قتل تلك الكائنات السامة...والعجيب انها تستطيع عمل ذلك رغم انها لا تمتلك سلاحا سوى مخالب يديها في مقابل تلك السموم الفتاكة وادواتها المميتة...فهي حتما حرب غير متكافئة...لكنها لطالما حسمت لصالح القطط...

والقطط شجاعة ومقدامة ترمي بنفسها دون تردد في احضان الخطر، تقاتل بذكاء وصمت مطبق ولا تتراجع عن مهمتها ولو أدى ذلك الي موتها... فهي اشبه بالقوات الخاصة، تضحي بنفسها اذا لزم الامر لدرء الخطر ....بينما الكلاب ظاهرة صوتية وتكتفي بلعب دور حراس الأمن في معظم الاوقات ويرتفع عواءها كاداة تحذير، رغم ان وفائها و ولاءها يدفعها احيانا لتقاتل بشراسة مميتة خاصة اذا جاء الخطر من حيوانات مفترسة وأخطرها في فلسطين في تلك السنين كان الضبع، وهذا الكائن يمارس طقوس عجيبة غريبة قبل ان يقتل فريسته....وكان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مصدرا رئيسيا للخوف والرعب خاصة في ساعات الليل وفي البراري الفلسطينية...اما هذه الايام فالبر الفلسطيني يعج بالخنازير البرية المتوحشة وهي لم تات الي برنا الفلسطيني لوحدها، وانما كان ذلك بفعل فاعل وقد جاء بها الجراد على راي الدكتور عبد اللطيف عقل، وهي احد ادوات اسقاط الارض، وحرمان اهلها من الوصول اليها، وهي خطة جهنمية خبيثة اظنها تنجح الي حد بعيد...حيث صار الوصول الي اي مكان خارج حدود المدن والقرى مغامرة، ليس ذلك فقط وانما اصبحت هذه الحيوانات الكريهة احد اسباب حوادث الطرق المرعبة ...

والضبع كان موجودا في الريف الفلسطيني في تلك الايام حتما، فقد كان والدي يمارس طقوس تسمى ( اللجام) لحماية الحيوانات الأليفة اذا ما فقدت، او تركت في البر لغايات الرعي، وتتمثل تلك الطقوس في قراءة بعض السور القرانية القصيرة وأظنها الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين، وبداية سورة التكوير الي الآية الخامسة والتي تنتهي ب ( واذا الوحوش حشرت ) وكان اثناء القراءة يثني موسا ليقفله تماماً مع انتهاء القراءة، والصحيح انني كنت اعجب من قدرة تلك الطقوس على حماية الحيوانات من الوحوش وأتوقع نهاية مأساوية لها ، ولكن في كل مرة كانت تعود تلك الحيوانات سالمة غانمة، وكأن تلك القراءة تلفها بسور حماية من نور، شرط ان لا يفتح الموس طوال مدة غياب الحيوان ...فلا تقترب الوحوش منها أبدا ولو انهم كانوا يجدون اثر تلك الوحوش وما يشير الي وجودها في المكان، اما الحيوانات التي لم تكن تحظى بتلك الطقوس فكانت تتعرض ولو احيانا الي مخاطر قاتله، ويعثر عليها في اليوم التالي وقد بقرت بطونها ...

والحمد لله انني لم أصادف ذلك الحيوان المفترس، الضبع، أبدا، رغم انني كثيرا ما كنت اخرج وحيدا الي البراري راعيا للبقر....ورغم انني لا اذكر متى بدات مثل تلك المهمة في طفولتي لكنها استمرت بشكل متقطع حتى انهيت دراستي الثانوية...

وقد اوقعني رعي البقر في احد الايام وانا ما ازال فتيا غضا، لم اتجاوز حينها الرابعة او الخامسة عشر من العمر في مطب رهيب ، تسبب لي في واحدة من اعنف الزلازل التي اختبرتها في حياتي، والتي زادت قوتها على اكثر من عشر درجات مئوية على مقياس رختير، وكما هي العادة يقف وراء ذلك الزلزال الاحتلال وسوف افرد لتلك القصة فصلا منفصلا واسردها لكم بتفصيل حينما افتح صفحات ذاكرتي التي تغطي سن الشباب والمراهقة ...

ورغم خدماتها الجليلة كانت الكلاب تمثل بالنسبة لي وحتما للكثيرين مثلي مصدر للرعب احيانا، وذلك عندما يتبدل عواءها التحذيري الي نواح اقرب الي البكاء، وغالبا ما كان ذلك يحدث في ساعات الليل، وذلك النواح في التراث الشعبي يعني الموت ...

ويقال ان الكلاب تشعر بوصول ملائكة الموت وربما تراها اذا ما هبطت لقبض روح احدهم وكأن لها جهاز رؤيا فوق طبيعي ... او ربما ان جهازها العصبي يلتقط مثل تلك الاشارات ...وفي كل مرة كانت الكلاب تنوح او نسمع نعيق طائر البوم نذير الشؤم، كان الجميع يتوجسون، ويستنفرون، وينتظرون في رعب ليعرفوا من الذي جاء الموت لقبض روحه ...وفي احيان كثيرة كان ذلك يحدث فعلا، ولو ان البعض كان يموت ربما من الخوف حينما تعلن الكلاب وصول ملائكة الموت كما يظن الناس في التراث الشعبي...

اما أنا فكنت ارتعد خوفا بحق من هذه الأصوات المرعبة، وقد كان نواح الكلب ونعيق البوم بالنسبة لي واحدة من أسوء مصادر القلق والخوف في طفولتي يخيفني ويقض مضجعي...وما يزال حتى هذه اللحظة، وكانه صار لدي ارتباط شرطي بين هذه الأصوات المشئومة وبين الموت، وعلى طريقة كلب بافلوف، الذي كان يطعم الكلب ويدق الجرس وبعد فترة صار يدق الجرس فيسيل لعاب الكلب...

وعلى الرغم انني اسكن في المدينة الان وفي شقة عالية من عمارة سكنية وتحديدا في الطابق الخامس، وهو اختيار مدروس بهدف الحصول على موانع طبيعية تمنع وصول العقارب والأفاعي، رغم انها قليلة العدد هنا في المدينة ...لا اجد سببا في نواح كلب بالجوار او نعيق بوم يأتي من البر الي سطوح مجاور الا انه نذير شؤم واخبار باقتراب ملك الموت ... وحين اسمعه فعلا وصدفة أسارع في اليوم التالي لاتفقد سكان العمارة والعمارات المجاورة ابحث عن الذي فاضت روحه واظل متوجسا خائفا لأيام تالية واضعا في اعتباري كل الاحتمالات ...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-07-2016, 01:45 PM
المشاركة 26
هند طاهر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تتشابه حياة القرى للفلسطيني بالذات ...

فما كنت تخافه كنت اخشاه ولا زلت رغم -- اننا وكما ذكرت نعيش في بيئه افضل بكثير ..

متابعه لك استاذ .. وربي يعطيك الصحه والعافيه ..

المـرء ضيف في الحــــياة وانني ضيف


كـــــــــذلك تنقــــــضي الأعمـــــــــار،


فإذا أقمــــــــت فإن شخصي بينكــــم




وإذا رحلت

فكلمــــــــتي تذكـــــــــــار
قديم 02-08-2016, 12:07 PM
المشاركة 27
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
استاذة هند
مرورك اسعدني وبصمتك زادت المشاهدات بنسبة 100% واكثر...فلا تحرميني من تواجدك الدائم لان في التغذية الراجعة قوة دفع هائلة تمكن الكاتب من الاستمرار...

وارجو ان يكون للموضوع ويظل له قيمة تستحق المتابعة.

قديم 02-08-2016, 12:10 PM
المشاركة 28
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

تلك بعض مصادر الألم المرعب الذي كنا نحاول تجنبها بكل ما اوتينا من قوة، وعقل، وتدبير، وأدوات... ونمارس من اجل ذلك عدة أساليب، وطقوس... توارثها الأبناء عن الإباء، والاباء عن الأجداد وهكذا...وكان ينبغي ان تنفذ بحذافيرها حتى لا يقع الخلل وينفذ الشر...وتقع المصائب... وعلى رأسها الافاعي والعقارب...

حتى ان والدي كان يوظف جيوشا من المرتزقة للمساعدة في تحجيم تلك المخاطر...فرقة للحراسة ودفع المخاطر البرية من الحيوانات المفترسة، والناس غير المرغوب فيهم، وافرادها من الكلاب...وفرقة أخرى من القطط، وكانت تلعب دورا أكثر أهمية وخطورة...وهي فدائية، ومدربة بشكل جيد، وتكلف بالحماية المنزلية على مدار الساعة...وتقوم بمهمات خطرة مميتة أحيانا، وتتلقى مقابل ذلك حظوة كبيرة بالإضافة الى الطعام والشراب والمأوى...بل وكانت تعامل وكأنها جزء أساسي من الاسرة وفرد من افرادها...كيف لا وكانت تلك الحيوانات الجميلة الاليفة تبعد عنا خطر الموت وتمنحنا الحياة والراحة الجسدية والنفسية؟؟؟

لكن صدقوني كان هناك الم كنا نحبه ولا نخشاه، ولا نبذل جهدا كبيرا لتجنبه على الاقل...وقد نفرح في سريرتنا إذا اصابنا عرضا، ولكننا لم نكن لنتعمده حتما...وأحيانا كان بعض الناس يسعى له بأرجلهم وايديهم...انه الم لسعة النحلة، نعم، وهو في كل الأحوال اقل الما بكثير من لدغة الأفعى، وقرصة العقرب، ولا يشكل خطرا على الأغلبية، اذا ظل ضمن حدود معقولة من حيث عدد اللسعات وكمية السم...

وربما من هنا جاءت التسمية المخففة، مقابل تلك الثقيلة (لسعة النحلة)، فقد كان الناس يعتقدون في الميراث الشعبي ان لسعات النحل علاج، وتقوي جهاز المناعة...كونها من حشرة مباركة تأتي بالعسل الذي فيه شفاء للناس، وهي علاج من كل الامراض ما عدا الموت كما كان يعتقد والدي...

وحيث ان والدي كان يربي النحل في الأرض المجاورة للبيت...وكان عدد خلايا النحل يصل أحيانا الى 400 خلية او 500 خلية...ولو افترضنا ان كل خليه كانت تحتوي على مليون نحلة فقط... فذلك يعني ان 500 مليون نحلة تقريبا كانت تسكن على مسافة تقل عن 10 أمتار من ألاماكن التي كنا نتواجد فيها باستمرار...وهو ما كان يفتح المجال لعدد هائل من اللسعات خاصة في مواسم قطف العسل، حيث تثور الخلايا وتهيج النحلات، وتهاجم كل من هب، ودب في محيط المكان...وكان أشرس هذه النحلات ما يسمى بالنحل الحراثي، وهو صنف من النحل البلدي...وعلى الرغم انه صغير الحجم، لكنه يهاجم أي مصدر تهديد بشراسة عنيفة، وبمجموعات كبيرة، ولو استفرد بشخص، وتمكن من بث السم في جسده لوضع في لحظات كمية من السموم قادرة على قتله...

وكثيرا ما كنت في طفولتي المبكرة اتعرض للسعات النحل...خاصة انني ربما لم أكن اتقن أساليب الدفاع عن نفسي مثل الاختفاء بين اغصان الأشجار، او التسمر في المكان دون أي حركة، او حتى نفس يخرج من الشدقين ويدلل على وجود أثر للحياة...وكي تظن النحلة انها بصدد تمثال حجري او جسد ميت فتطير بعيدا...رغم ان تلك الحيلة لم تكن لتنطلي على النحلات من ذلك الصنف كثيرا، ربما لأنها كانت تستشعر الخوف الدفين حينما ترتفع نسبة افرازات الادرنالين...

اما أفضل أسلوب لتجنب لسعة النحلة فقد كان دائما الهرب وبسرعة فائقة تسابق ذلك المخلوق الطائر...الذي يهاجم عدوه ويدافع عن مملكته بتفان وإصرار عجيب، وبفدائية نادرة، حتى انه يموت فور استخدمه لسلاحه الدفاعي والذي ستخدم لمرة واحدة...فما ان تلسع النحلة ضحيتها حتى ينفصل جهازها الدفاعي، ونسميها في اللغة الشعبية (الزبانة)، عن جسدها ليبقى للحظات إضافية يبث السم في جسد الضحية...وهو السم الذي كان الناس وما يزالون يظنونه بلسم...

وقد تبين هذه الأيام ان لسعات النحل قد تشكل خطورة كبيرة على البعض، وقد تؤدي الي الموت ايضا، وهم أولئك الذين لديهم حساسية من سم النحلة او بلسمها، فلا تمر بعض دقائق على لسعة النحلة، عند هؤلاء حتى تتورم اجسادهم وما يلبث الواحد منهم ان يختنق...ويمكن ان يفارق الحياة إذا لم يحصل على الإسعاف الطبي الفوري...

ولا اذكر ان أحدا مات في طفولتي من هذه الحساسية...لكن وللعجب اظنها منتشرة بكثرة هذه الأيام، مثلها مثل عدد اخر من الامراض التي لم تكن معروفة، ولا اعرف السبب حقا...لكن تصوروا معي حجم المخاطرة التي كنا نعيشها في ظل هذه المعلومات الجديدة عن الحساسية من لسعة النحلة، والتي كان يمكن ان تؤدي بحياة الملسوع دون امل في النجاة لغياب العناية الطبية وشحها في تلك الاوقات...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-09-2016, 03:08 PM
المشاركة 29
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الميدان الاخر، والذي كنت اتعرض فيه للسعات النحل، فهو المنطقة الواقعة امام الخلايا مباشرة، وكنا نتواجد فيها بكثرة اثناء الحرب الشرسة التي كان والدي يكلفنا بها، نحن الأبناء وأحيانا كثيرة جيش من أبناء الجيران، وهي حرب للدفاع عن النحل نفسه، وكانت تجري غالبا في الميدان امام خلايا النحل وبجوارها وفي المحيط المباشر لبيوت النحل، او في أي مكان يمكن ان نعثر فيه على عدو النحل الأول (الدبابير)، الاشرس، والاشد فتكا من بين أعداء النحل الكثر...

نعم، الدبايير وما أدراك ما الدبابير...فهي كائنات تشبه النحلات في شكلها، لكنها ليست كالنحلات في نفعها ولا اظن ان لها دور سوى قتل النحل... فهي حشرات متوحشة وقاتلة ويكفي ان طعامها الأساسي هو أجساد نحلات العسل، إذا ما توفرت ولا اظنها تأكل شيئا اخر...وهي تفوق في حجمها حجم النحلة، ربما بثلاثة او أربعة او خمسة اضعاف...

وهي جميلة بألوانها الأحمر الغامق الذي يلون رأسها والجزء الامامي من جسدها، والاصفر الفاقع ويلون بطنها والجزء الخلفي من جسدها، والأسود والذي يلتف على الجزء الخلفي من جسدها كأشرطة او خطوط دائرية رفيعة، كما يلون الأسود فكيها الفتاكة وقرون الاستشعار... فتجعلها تلك الألوان مجتمعة كائن غاية في الجمال لكن ذلك لا يقلل من قدرتها على الفتك والقتل...وهي كائنات شرسة في طبعها وسلوكها، مسلطة على النحل كواحدة من أشرس اعداءه...

واعداء النحل كثر، وامراضه ايضا، وهي تعادل في عددها او ربما تفوق ما يصيب الانسان من امراض...فالنحل يصاب من بين امراض كثيرة بالزكام، والرشح، والكساح، والحضنة الأوروبية، والحضنة الامريكية، وهذه اشد فتكا من الأوروبية...وإذا ما وقعت العدوى بالحضنة الامريكية في منحل صار من الواجب حرق المنحل كاملا عن بكرة ابيه، ودفن المخلفات تحت التراب والبدء من جديد من نقطة الصفر...

ومن اعداءها طائر جميل في الوانه المزركشة وهو طائر السنونو، والذي يصطادها من الجو وهي ذاهبة او عائدة من مراعيها...

ومن اعدائها الحرذون وهو من الزواحف، والافعي، ودودة الفاروة، وهذه بحجم القملة لكنها تسير بشكل منحرف، وعلى جنب، وهو الامر الذي دفع الناس للاعتقاد بأنها مصنوعة في المختبر، ومطورة جينيا بفعل فاعل، خصيصا لتؤدي مهمة قتل النحل في المنطقة بأسرها، وهي اذا ما هاجمت منحل لا تحتاج الا الي ليلة واحدة لتقتل كل ما فيه من النحل مهما كان عدده...وقد تعرض والدي بسبب تلك الافة اللعينة لخسارة لا تعوض في احد السنين...حيث تعرض منحله في العام 1982 لهجوم كاسح من هذه الدودة المشوهة، والقاتلة، المميتة، وكان المنحل يحتوي وقت الهجوم على 400 خليه...أي حوالي 400 مليون نحلة تقريبا...وما هي الا ليلة وضحاها حتى مات النحل كله بل لنقل قتل كله بصورة بشعة، ولم يبق في الخلايا الا باقيا الجثث ضحايا الإبادة الجماعية، واقراس شمع العسل الخالية من أي نبض حياة...وان بقي فيها رحيق العسل شاهدا على ما جرى ...وكأنه يقول كان هنا نحل...

ومن أعداء النحلة ايضا العنكبوت الأبيض الذي يتربص بها في قلب وردة نبتة الفاقوع البيضاء، وكأنه جزء من الزهرة، لكنه يكون في وضيعة استعداد وسكون مطبق كسكون اهل الكهف، مستلقيا فيها على ظهره، كامنا لتلك النحلات المسكينة الساعية الي الرحيق...وبمجرد ان تحط النحلة لشفط الرحيق على زهرة الفاقوع الكمين يتلقفها ذلك المخلوق بين مخالبه، ويمسك بها بعنف، وما يلبث ان يلتهمها بشراسة...

لكن الدبور يظل العدو التاريخي ورقم واحد للنحل...فهو مدرع، وشرس، ومحمول جوا... ويتكاثر بأعداد هائلة تعادل او تفوق اعداد النحل...ولا يتوانى عن مهاجمة النحل في كل وقت وكل مكان فيمسك بالنحلة ويفترسها ويتغذى على جسدها...

ولذلك كنا نحاول، في تلك الحرب التي تظل دائرة ما دامت الدبابير قد خرجت من جحورها الي حين اختفائها المؤقت خلال أشهر البيات الشتوي، كنا نحاول فيها قتل أكبر عدد من الدبابير التي تهاجم خلايا العسل، وكنا نقتلها باستخدام لوح خشبي عريض ينتهي بمقبض رفيع، حتى يتمكن المدافع عن النحل الإمساك به، وضرب كل دبور يطير امامه بهدف قتله...

وكنا نتابعها وهي تترصد وتلاحق النحلات في الموقع امام الخلايا او خلفها او عند حوض الماء الذي تشرب منه النحلات، او على اغصان الأشجار، والازهار، ونحاول اقتناصها بضربها باللوح الخشبي... وكانت تلك المهمة أسهل وتتكلل بنجاح أكبر إذا ما كان الدبور المعتدي يطير بتثاقل حين يكون قد اصطاد فريسته النحلة المسكينة...وكنا كثيرا ما نتبع الضربة الاولى الصاعقة والتي تسقط الدبور على الارض، نتبعها بخبطة من القدم نسحق فيها رأسه لكي نحرمه من اي امل في النجاة والعودة لممارسة القتل...وهو اجراء مشابه لما كنا نقوم به حينما يقتل احدهم أفعى...حيث يتردد في الحكايات الشعبية اسطورة مخيفة وهي ان الأفعى لا تموت الا اذا ما سحق راسها...وأنها تعود لتنموا من جديد اذا تم تجاهل هذه الوصية، وحتى وان لم تنموا فهي تصبح اشد فتكا، واكثر حذرا وسمية ...وتسمى في تلك الحكايات حية زعرة في إشارة الي قصر حجمها، وحقدها المكتسب، وقدرتها الإضافية على القتل والاختفاء والهرب ...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الحشرات المفترسة تهاجم فتحات الخلية مباشرة...وصحيح ان النحلات المكلفة بالحراسة والدفاع عن الخلية كانت تستميت في دفاعها، وتبذل اقصى جهدها في سبيل منع الدبور المهاجم من الوصول الى الخلية وتراها تقاتل بجهد جماعي، لكن الدبور الأقوى والاضخم كان ينجح في معظم الاوقات في الإمساك بأحدها...وغالبا ما كان يمسكها من رأسها ليطير بها وهو يحملها في فكيه، او رجليه، ثم يحط بها على غصن شجرة قريب، ويبدأ بتقطيع اوصالها مستخدما فكيه القوية...وما يلبث ان يلتهمها بشراسة وعنف...وما ان ينتهي حتى يطير من جديد ويبدأ البحث عن ضحية أخرى... وتلك الحرب عدوانية تشنها الدبابير على نحلات العسل منذ بدء التاريخ...ولا اظن انها ستنتهي الا بانقراض احدى الطرفين...

اما مهمتنا فقد كانت حرب شبه مقدسة بالنسبة لوالدي ولنا...لأننا كنا ندافع فيها عن كائن مقدس والشاهد على ذلك، ان سورة كاملة من سور القران الكريم خصصت له...وهذا الكائن مصدر خير ورزق لنا وللناس كافة...وبرحيقه كنا نتعذى ونتعالج من شتى الامراض...ولكن ذلك ليس كل شيء فكل ما يرتبط بالنحل او ينتجه النحل مفيد وفيه نفع وشفاء من نوع ماء للإنسان...

ففي غياب الحلويات المعروفة اليوم او لنقل ندرتها في تلك الأيام كان (الخبيصة) وهي حلويات مصنوعة من شراب العسل المحلول بالماء، والذي يغلى على نار هادئة، ثم يضاف اليه النشا...فنحصل في النهاية على طعام وحلويات لذيذة ومفيدة كانت واحدة من منتجات العسل...واظنها من الذ الحلويات وأكثرها فائدة، واقلها ضررا على الاسنان وصحة الانسان، والتي كنا نتناولها غالبا في موسم قطاف العسل...

كذلك كان والدي يصنع من شمع النحل كريمات يعالج الجروح واصابات الجسم كافة...
وأحيانا كان يخصص نوع صافي من العسل، وهو الشهد الأبيض، لعلاج امراض العيون، حيث كان يقطف هذا العسل بأسلوب خاص وبدون الطقوس المعهودة والتي يستخدم فهيا عادة الدخان لإبعاد النحل عن قرص العسل، ليقوم عند العلاج على غرس المرود، وهي عصا المكحلة الخشبية المعروفة، في ذلك العسل الصافي، ويضع القليل منه في العين المريضة فتشفى بأذن الله...

فالعسل المصفى الخالي من الرطوبة والسكر الأبيض والشوائب، والمتناسق في مكوناته الأساسية، والمأخوذ من اقراص العسل المختومة تحديدا والذي لا يختلط بالماء يعتبر أفضل مضاد حيوي عرفته الإنسانية على مدى التاريخ...

حتى ان الصمغ الذي يقفل النحل فيه الفتحات من بين استخدامات أخرى كثيرة...تبين الان ان له استخدامات علاجية وطبية عديدة وعجيبة...فهو مثلا قادر على إزالة الزيادات اللحمية (التواليل) التي تظهر على الجسد من جذورها فلا تعود مرة أخرى إذا ما عولجت به بصورة سليمة...واظن ان الناس لم تدرك حتى الان قيمة هذه المادية واسمها العلمي (البروبولس) ودليل ذلك ان مملكة النحل تقوم إذا ما دخل جسم غريب او كائن عضوي الي داخل الخلية، تقوم على تغليف ذلك الجسم العضوي بهذه المادة فلا يفسد ذلك الجسم ابدا ما دامت الخلية موجودة...وكأن النحل خبير في عمليات التحنيط...

اما الغذاء الملكي، فحدث ولا حرج، ففي هذا المنتج الاعجازي عجائب وفوائد جمة ومذهلة... فقد اكتشف العلماء حديثا بأن هذا المكون يشتمل على 183 نوع فيتامين...وحتى الان هناك نسبة من تركيبته الكلية تعادل 3% غير معروفة في طبيعتها، ولم يتم اكتشاف تركيبتها بعد...وهو يعالج الضعف الجنسي والعقم والامراض المتعلقة بجهاز المناعة، لكن الأهم من ذلك كله، ويعتقد بعض النحالين ان الغذاء الملكي يطيل العمر...لان ملكة النحل التي لا تتغذى طوال حياتها الا على الغذاء الملكي والذي تنتجه غدد صماء في رأس النحلة الشغالة...تعيش لمدة لا تقل عن عشرة أعوام، تحكم فيها وتدير شؤون الخلية وتنجب ملايين النحلات...بينما عمر النحلة الشغالة والتي تتغذى على رحيق العسل لا يتجاوز الخمسون يوما...وهي ان حان موعدها وانتهى عمرها المحدود تموت ولو كانت في منتصف مهمة لجني العسل...

ولا ننسى بأن سم النحلة هو علاج لأمراض الروماتزم...ولذلك كان بعض الذين يعانون من ذلك المرض يأتون الينا ليأخذوا معهم عدد من النحلات...كان والدي يضعها لهم في زجاجة فيجعل المريض تلك النحلات تلسعه على مدار جلسات في عدة ايام...وربما من هنا اكتسب سم النحلة شهرته كبلسم...وقد أعلن العلماء في استراليا حديثا بان العلاج الوحيد المتوفر حتى الان لمرض العصر الخبيث السرطان جاء من سم النحل...

ربما آلمتني النحلات في لسعاتها واتعبتني في الدفاع عنها...لكنها حتما اسعدتني بمنتجاتها العسلية، واذهلتني في كل صغيرة وكبيرة تمت لها بصلة...وزلزلت كياني بقدراتها، ونظامها، واسرارها التي يطول الحديث عنها ويطول...فهي مخلوق اعجازي، عجائبي بكل المقاييس...يذهل ويزلزل ويؤشر الي عظمة الخالق سبحانه وتعالى...

وكثيرا ما كان والدي يوسع حربه المقدسة تلك ضد عدو النحل الاول الي الميادين البعيدة والمحيطة، ولا يكتفي بمحاربتها من امام الخلايا ومنازل النحل...فقد كان يحاول شن حرب استباقية وقائية عارمة لا تبقي ولا تذر وكانه مكلف بمهمة الهية...

ولذلك كان يحارب الدبابير أعداء النحل في كل مكان يمكن الوصول اليه، وعلى كل الأصعدة حتى انه كان يلاحقها في جحورها في البراري البعيدة والقصية... وكان يوظف لهذه الغاية جيشا من المتحمسين ومحبي المخاطرة والمغامرة للقيام بالمهمة... وكان يمنح كل من يقتل خلية دبابير بالحرق او بالسم كمية من محددة من العسل، وكان يمنح نصف تلك الكمية لمن يقوم بالأخبار فقط عن مكان وجود وكر الدبابير...ليقوم هو بمهمة ابادتها وغالبا ما كان يتم ذلك بالسم او بالحرق اثناء ساعات الليل وحينما تعود كافة الدبابير الى وكرها...فهي مثلها مثل النحلات تنتشر في النهار وتكمن في الليل الذي جعله الله سبات للإنسان وكأن هذه الكائنات تشترك مع الانسان في حاجتها الي النوم والراحة لتجدد طاقتها.. وتنطلق من جديد مع بزوغ اشعة شمس الصباح الباكر...

وأحيانا أخرى كان يعلن على الملاء ان من يأتيه براس او جثة 100 دبور فله جائزة مالية...وكان يندفع لهذه المهمة بحماس طلاب المدارس ولكنها لم تقتصر عليهم...فيقتلون الالاف المؤلفة من الدبابير طمعا بالمردود المادي...

ولقد نجح والدي ايما نجاح في حربه المقدسة تلك، واظنه كاد يقضى على عدو النحل التاريخي في منطقته الجغرافية، فقد اصحبت في عهده قليلة ونادرة...لكنني وفي زيارة خاطفة منذ أيام لما تبقى من خلايا، صار يشرف عليها اخي الثاني في الترتيب بعد وفاة والدي، وجدت الساحة امام النحلات تعج بالدبابير...وبدى لي ان عددها أكبر من عدد النحلات...واظن انها ستقضى على ما تبقى من الخلايا في ذلك الموقع زمن قصير...

المهم انني لطالما تعرضت في ذلك الميدان والذي تسكن فيه النحلات، واثناء مشاركتي شبه الدائمة والمستمرة في تلك الحرب المقدسة ضد الدبابير الى لسعات النحل، حتى انني لا اعرف عدد المرات التي تعرضت فيها الى لسع النحل، وهي حتما تتجاوز مئات المرات...وقد أصبحت لدي مع مرور الايام مناعة ضد سم النحلات والمها، فلم اعد اكترث او اهتم ان لسعتني واحدة او اثنتين...فقط جل ما أقوم هو فرك مكان اللسعة...حتى ولو كانت في مناطق حساسة مثل الانف، والعين، والاذن ...وأنسى الامر وكأنه لم يكن...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::

قديم 02-10-2016, 01:04 PM
المشاركة 30
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


والمفارقة انني كنت اتعرض الى لسعات النحلات في هذا الميدان وانا أستميت في الدفاع عنها واعرض نفسي لمخاطر لسعات الدبابير، ولكني لم اتعرض ابدا الي لسعات الدبابير اثناء تلك الحرب الشرسة، والمعروف ان لسعات الدبابير أشد سمية وأعظم الما من لسعات نحلة العسل، ويقال ان بضع لسعات منها كفيلة بقتل الانسان إذا لم يتلق الملسوع العلاج اللازم بسرعة فائقة...فلقد كنت محظوظا في هذا الميدان ولم اتعرض لأي لسعة منها رغم انني كنت احاربها، واقتلها بلا رحمة، او هوادة او شفقة، وكنت اقتلها بكثرة وبأعداد هائلة في كل وقت تسنح لي الفرصة...ولا بد انني قتلت منها الالاف المؤلفة في سنوات طفولتي والي حين غادرت القرية للالتحاق بالجامعة فاستقلت من تلك المهمة الي غير رجعة...

لكن هذا الكائن الشرس في طبعه لا يهاجم الناس في الغالب الا اذ ما اقتربوا من وكره...عندها تثور ثائرة الخلية، وكأن قيامتها قامت، وتهاجم الدبابير المعتدي المفترض بعنف لا يقل عن عنف الانسان، وتستميت في الدفاع عن وكرها ومسكنها...

ولم أكن لاقترب من اوكار الدبابير ابدا من شدة خوفي منها طبعا، وتجنبا لألم لسعاتها السامة المميتة، والذي لا بد انهم قالوا لي عنها بانها لسعات سامة لا تحتمل، وربما انني كنت أيضا اتوجس من انتقامها المحتمل؟! فان كانت العقارب والافاعي تأخذ بالثأر وتنتقم لأبناء جنسها فهل يمكن ان نستثني الدبابير من هذه الاحتمالية؟

ولا بد انني كنت فخورا بإنجازي العظيم بانني تمكنت من تجنب لسعات الدبابير رغم ما فعلت بها، ومع مرور الأيام غادرت فلسطين سعيا وراء المعرفة والرزق...وسافرت في سبيل ذلك الى بلاد قريبة وأخرى بعيدة كأنها في اخر نقطة من الأرض يمكن للإنسان ان يصل اليها...وغبت عن الوطن زمنا طويلا الا لأيام معدودات كنت اعود فهيا زائرا لا مقيما...ومنذ سنوات قليلة، وبعد ان عدت مجبرا لاستقر في فلسطين، ولهذه العودة الجبرية قصة طويلة كأنها من قصص الف ليلة وليلة، وسوف ارويها لكم بتفاصيلها في حينه...

وبعد مرور ما يقرب من أربعون عاما على اخر عملية قتل مارستها بحق جنس الدبابير...كنت في أحد الأيام اقطف بعض ثمار التين من شجرة التين اللذيذ ومن الصنف الخرتماني، وبعضهم يسمونه العجلوني نسبة الى عجلون في الضفة الشرقية، والتي يبدو ان هذا الصنف من التين استقدم منها... وكانت مجاورة لمنزل اخي الأكبر، وكنت اقف على سقف ذلك المنزل امد يدي لأقطف احدى الثمرات ...فاذا بخلية دبابير كانت قد اتخذت من فتحة في طوب الجدار العازل للسقف مقرا لها...تفاجئني بوجودها...وما ان حركت الاغصان حتى استشعرت بوجودي فثارت ثائرتها، وهاجت، وماجت، وهاجمت، بشراسة الجيوش المستنفرة...حاولت بأقصى قوتي الهرب وعلى وجه السرعة...لكن احد جنود قوتها الضاربة تمكن مني فلسعني لسعة ظننت ان المها يعادل الم كل ما لسعني من نحل طوال عمري على كثرتها...سارعت يومها الي الطبيب المقيم في القرية واظنه احسن عملا حينما عاجلني بإبرة مخدرة اضافة الى ابرة العلاج طبعا...فما لبثت ان غبت عن الوجود تقريبا اتحدث ولا اعي ما أقول بفعل ذلك المخدر...وفي اليوم التالي كان الألم قد ذهب عني...لكنه جدد عزمي على ان أحاول ما دمت حيا تجنب بيوت الدبابير ولسعاتها، وكفاني الله قتلا لهذه المخلوقات ووقاني من شر والم لسعاتها...

وفي فلسطين أيضا فئة أخرى من الحشرات الطائرة ذات اللسعة المؤلمة، ولديها القدرة على اللسع السام المؤذي، واسمها المحلي (الصملة)، وهي كائن اشبه بالنحلة، لكنها بيتوتية بامتياز، أي انها تحب مجاورة الانسان، فتبني منازلها من الطين والمطااط والصمغ داخل البيوت أحيانا وعلى الجدران او في أي فتحة يمكنها العثور عليها ضمن محيط المنازل، واظنها تفضل المنازل المسكونة بالبشر، والبعض يسميها النحلة الصفراء نسبة الي لونها، لكنها أكبر في حجمها من نحلة العسل، وأصغر من الدبور، فهي في الوسط من حيث الحجم...والسلوك...لكنها مثل الدبور لا نفع ظاهر منها، ولكنها على الأقل لا تقتل نحلات العسل كما يفعل الدبور...

والصملة كائن جميل، لونها اصفر فاقع، وعليها خطوط دائرية سوداء تشبه تلك التي تزين جسد الدبور، وتسكن هذه الحشرة في خلايا اشبه بخلايا الدبابير، ولكنها تختار غالبا أماكن قريبة جدا من الناس....

وهي مثل الدبور لا تهاجم الناس الا اذا ما اقتربوا من بيوتها...او شعرت بتهديد، واظنها تتصرف بصورة غريزية حيث تطلق العنان لجهازها الدفاعي مدافعة عن نفسها اذا ما شعرت بتهديد بعيدا عن خلاياها...وفي الغالب اثناء بحثها عن الطعام الذي اجدها تستميت في جمعه ولا تتوانى عن ذلك ابدا...
لكنها مزعجة في سلوكها فغالبا ما تظل تحوم، وتحوم، تطير مبتعدة وتختفي ثم تعود لتظهر من جديد...ثم تهاجم وتنقض فجأة على الطعام وهي تفضل اللحوم... فهي مثل الدبور من اكلة اللحوم لكنها لا تهاجم نحلات العسل، وظني انها غير قادرة على ذلك، والا لسابقت الدبور على اجسادها، وافترستها كما تفعل الدبابير...

ويبدو ان للصملة قدرة هائلة على الشم فما تكاد ان تضع الطعام حتى تجدها تحوم لتسرق منه ما تستطيع حمله فينشط الانسان في محاولة لصدها وقد طور لذلك اساليب تمنعها من الوصول الي مكانه ومن اشهرها ملاء قناني شفافة بالماء يقوم على تعلقيها في محيط المكان... ولا اعرف سر عمل هذه الحيلة ومن الاساليب الاخرى هو وضع مصائد لها حيث يتم محلول سكري في قناني فتدخل الصملات وتموت وهي تحاول الخروج...ولكنها احيانا تسبب الاذى وهي تدافع عن نفسها اذا ما حاول الانسان طردها بيده فتستخدم جهازها الدفاعي (زبنتها) التي تبث سما اظنه فتاكا بنفس درجة سم الدبور او اقل درجة ...وإذا ما تراكم بكميات كبيرة في جسم الانسان...والحمد لله انني لم اختبر لسعة هذه الحشرة طوال حياتي...ويسرني ان لا اختبره ابدا...فقد كفاني ما تعرضت له من لسعات والم ...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأستاذ حمود الروقي في لقاء على قناة عالي الفضائية عن الموهوبين علي بن حسن الزهراني المقهى 8 08-11-2012 12:16 AM
مع الأستاذ أيوب صابر .. دعوة للجميع احمد ماضي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 30 07-10-2011 11:33 AM

الساعة الآن 04:07 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.