احصائيات

الردود
3

المشاهدات
3353
 
زبيدة الزبيدي
من آل منابر ثقافية

زبيدة الزبيدي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
4

+التقييم
0.00

تاريخ التسجيل
Apr 2012

الاقامة

رقم العضوية
11058
04-19-2012, 10:49 PM
المشاركة 1
04-19-2012, 10:49 PM
المشاركة 1
افتراضي عازفة الكمان
عازفة الكمان ____

كانت كزنبقة بيضاء سحرية تغفو في إنائها الشفاف ، تنثر عطرا خياليا من كمانها الأحمر الحزين ،الذي أنسل من عمق زجاجة ممزوجة بعدة ألوان، تكسو المساحات الرمادية القاتمة من خلال أنامل يديها الطويلة المستدقة ،كألوان حالمة تحمل في طيات عزفها ربيعا مزهرا أختزلته بنظرتها الكستنائية الرائعة ،وتمايل جسدها مع النوتات الموسيقية ،كانت لا تملك إلا ظلها الطويل تسكبه على أعتاب تلك المعابد الليلية في القاعة الرحيبة التي تعج بالرائحين والغادين والجالسين أيضا، كخلية من نوع آخر ، تُمضغ فيها السكائر بنهم يوجع أوردة قلب ضعيف ،لم يحن توقف نبضاته بعد ، تنفث بدخانها أفاعي مسمومه برائحة شبق يتلوى ..ورغبات تستفيق لمرتاديها وزوارها ، تتعالى فيها مجامر الهمسات ويورق فيها ندى الحلم ،تلتحف النزوات فيها أوراق الورد الملون وقصاصات الحب السافر ، لم يكن المكان يلائم وجهها الملائكي البريء.. ولم يكن وترها يعزف لأذواقهم غير إن جمالها المرهف كان قد أنسجم مع أصوات قلوبهم وأخذ بلبهم ..
ظل مكانها يأرج في الأثير كأنفاس نسيم عليل يبعث في النفوس ما شاء ..
ويموسق الضوء مع الظلمة ،بينما صوت كمانها يتثاءب برعشة من الطرب تتماوج في الروح، فتتخللها رويدا.. رويدا .
( ضدان أستجمعا حسناً.. والضد يظهر حسنه الضدُ )
قالها الشاب الذي ظل يترقب وقت دخولها للقاعة ويبحث في وجوه الحسان عنها ..
لم يحاول الاقتراب منها أو حدثته نفسه عن المساومة معها ،بل اكتفى بالنظر والترقب والانتظار ،وبحدسه الذي قلما يخيب تيقن إنها الياقوته التي ترمى في النار ولا تحترق ..
غير إن جمالها كان قد سمى داخل عقله قبل قلبه ورسم بفرشاة أنيقة حضورها المخملي ..
وكان لا ينفك يلقي على نفسه الأسئلة وعينيه لا تفارق الباب شوقا لرؤيتها وهي تحتضن تلك الآلة السحرية .
لم يكن الوحيد ، فقد سأل الكثير عن سر وجودها هنا وعـــــن عزفها المنفرد الحزين ..
عُرف عنها إنها جاءت قبل أيام لتلتقي بمدير النادي الليلي ولتعرض عليه أن تعزف بكمانها هذا مقابل ثمن يكفيها لدفن جثة جدها العجوز الذي نقل إلى ثلاجة الموتى التابعة للمستشفى المترف الذي كان يرقد فيه منذ أيام عدة لنفاذ المال منها ولعدم دفعها تكاليف المستشفى المتبقية..
ولأنها كانت قد أصرت على دخوله ذلك المشفى للعلاج من مرض الرئة الذي لازمه طوال سنوات معرفتها به ، في الماضي البعيد لم تهتم بأمره عندما أخبرها انه الوحيد الذي بقي لها في هذه الحياة بعد موت والديها بتلك الحادثة المشئومة ،يومها كانت تقترب من السابعة طفلة صغيرة غضة النفس لا تعرف غير دموعها وحنينها الغير مألوف لحضن ورائحة أمها ..ولكمان والدها الأحمر الذي كانت تغفو على عزف أوتاره ليلا كلما غازل الليل قمره العاشق .
وعند بلوغها العاشرة أقترح صديق جدها ذلك الرجل الذي يتسول بعزفه ليأكل أن يعلمها أبجدية العزف على آلة والدها ، وظلت آهات الأوتار تطرز بمهارة فائقة ذلك الحزن المتراكم بقلبها الضعيف كثوبها الأسود المرصع بالأحجار المتلألئة الذي أشتراه يوما جدها بمدخراته ليسعدها في أول حفل تعزف فيه وتسحر الأنظار ولتزيد من وهج النفوس ,وتحيل مجلسها إلى أراجيح من النشوة والغبطة .
كان الشاب يتململ في مكانه بعد شعوره بالعجز تماما تجاه ما يشعر به نحوها،فقد كانت لها هيبة عقدت لسانه ..
لكن أخيرا .. وجدت نظراته طريقا إلى قلبها وبدأت لغة العيون بينهما تقول وتقول ..
نظرت إلى المرآة وأبتسمت بحزن فاليوم هو الأخير من الصفقة التي أجرتها لتقبض مبلغ المال الذي يلزمها لدفن رجل حياتها .. ذلك الصرح العظيم الذي هوى بعد صراع مع الزمن ،كم أنست به بعد سنوات من اللامبالاة كم !
أعتقدت حينها إنه المسؤول المباشر عن موت والديها لعدم رضاه عن الزواج الذي أنتج عنها، لكنه رق لمأساتها وغمرها بالحنان والحب ،كانت تراه أحيانا يبكي بصمت أبنته التي تشبهها كثيرا ،وقد رسخت صورته تلك في ذهنها لصلة روحية عتيقة ، تحضر كلما أيقظ طيفه ذاكرتها المترعة به..
وكان قد تكفل بها وعلمها وساند قراراتها كلها ،بمحبة كبيرة قلما وهبها لأحد .
وبدأت بالعزف على الكمان في مناسبات عدة كهاوية عشقت أوتار كمانها لا لكسب الأموال والشهرة..
- كيف مات بهذه السهولة ؟
- كيف استطاع ذلك ؟
كلمات رددتها بحزن موحش كصحراء محرقة ورمالها المتحركة تتقاذف جسمها بينها ..
-أستمضي حياتي هكذا ؟ سألت بحيرة مرآتها الفضية القديمة
سمعت طرقات خفيفة على باب غرفتها الصغيرة
- أدخل !
أجابت بهدوء لا يتلاءم مع العواصف التي تتشكل بداخلها
دخل الشاب الذي طالما حاورته عيناها بصمت وكان شبح الابتسامات رسول أعجابهما المتبادل
كانت تشعر كأنها تعرفه منذ طفولتها الأولى ..
جلسا يتحدثان ساعة أخبرته بكامل قصتها وحزنها الكبير ، تأمل وجهها الشاحب وكانت خيوط من التعب تبدو على وجهها ..
أخبرته أن في الغد سيوارى جدها الثرى بعد عشرة أيام من دخوله ثلاجة الموتى المحتجز فيها تحدثت إليه كمن أزاح عن صدره صخرة كبيرة جاثمـــــة ..لم تبكي رغم مرارة ما كانت تشعر به من قبل ، فجأة دخل شخص ما وأخبرها بضرورة الاستعداد للأمسية نهضت بانفعال عجيب معلنة عن استعدادها الكامل سارت إلى جانبه بصمت مرهف ..لمس وجهها فابتسمت له ..
توقف عن السير وهمس لها بصوت يرجوها ..
- سنخرج معا .. أتمنى أن نتحدث أكثر
- أنتِ كنزي الجديد
غمرت روحها نشوة ..لم تجب بل أكملت سيرهـــــــــا وغابت .
بدأت عزفها بأنغام والهة تحلم مثل غيمة بيضاء بالمطر ..وراحت تعزف صعودا .. نزولا ،هدوءا .. وصخبا ،كانت كمن تحدثه بكل دواخلها ومكنونات روحها بفرحها وحزنها معا ..
بكل الألم الذي يعتصر قلبها الصغير ..
وكان يفهم لغتها وحده .. يتراكم في روحه حب لا يسبر غوره إلا هي
فجـــــــــأة .....
توقفت عن العزف تماوجت في الهواء كعصفورة فقدت إتزانها وغابت عن وعيها تمايلت وأفلتت كمانها في الهواء،ولتسقط أرضا وسط ذهول الحاضرين ..
غطى شعرها نصف وجهها المتعب ،حملها بخوف لم يشعر به من قبل .
قالوا له بعد طول إنتظار ..أنها فارقت الحياة بأزمة قلبية حادة ، فقلبها الضعيف لم يحتمل حزن الفقدان وحبها الجديد معا .
جثى أرضا يندب حب أجهض لتوه ..يبكي شبابها وجمالها الملائكي وقسوة الاختيار ..
كانت السماء تمطر بشدة ،وقف ينظر إلى خيوط كفنها البيضاء ولرمل القبر الداكن الذي ستدفن فيه عما قريب ،أعتصر بيده زنبقة بيضاء لطالما حلم إن يهديها لها ،لم يصدق ما عاشه من أحداث متسارعة ..
كأنه حلم جثم على صدره يحاول افتراس ذاكرته المشوشة بظلالها.
كانت دموعه تعلن له عن فراق عازفة الكمان الأبدي وإن ألما أخر زاد في هذا الكون ،بينما جدها كان يرقد في ثلاجة الموتى بانتظار عودتها منذ أحد عشر يوما.


قديم 08-15-2012, 01:01 PM
المشاركة 2
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تلك كانت معزوفة الموت الأخيرة التي توقعها بكمانها الأحمر لتحظى بنعش فوري لا تسدد أقساطه
و مازالت جثة الجد رابضة في ثلاجة الموتى إلى إشعار آخر
زبيدة الزبيدي
سرد متميز حقا أمسك بكل مفاصل الحدث و استطاع شد انتباه القارىء حتى الجملة الأخيرة
تحيتي لك

قديم 08-19-2012, 06:47 AM
المشاركة 3
جليلة ماجد
كاتبة وأديبـة إماراتيـة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بعضُ الأحزان تخلد حرائق في النفس ...

و بعض الأحزان ملفوفة بـ فقد

أ. زبيدة

سرد ممتع و تفاصيل مُبهِرة

رائعة حقاً

صافي الود

عند المطر ..تعلم أن ترفع رأسك ..
قديم 08-19-2012, 06:15 PM
المشاركة 4
موسى الثنيان
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي

عزف حالم وكمان أحمر / جثة جدها الملقى في المستشفى تحت رحمة هذا الكمان والعزف الجميل

ثم تموت هي ويموت حب للتو بدأ يتفتح كزهرة ربيعية


نص جميل يجمع بين متناقضات الحياة


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: عازفة الكمان
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
عاصفة صيف زياد وحيد منبر القصص والروايات والمسرح . 10 01-25-2016 12:33 AM
عازفة الناي زهراء الامير منبر الفنون. 1 10-24-2012 11:59 AM
دمشق في عاصفة ثلجية ريم بدر الدين منبر الفنون. 6 02-09-2011 10:54 PM
عاصفة هوجاء مريم جبران عودة منبر البوح الهادئ 5 01-24-2011 09:54 AM

الساعة الآن 01:14 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.