قديم 09-24-2012, 07:33 AM
المشاركة 11
دينا عبد القادر
كاتبة ومهندسة سورية
  • غير موجود
افتراضي
استاذنا الزغبي
السلام عليك ور حمة الله و بركاته

أن يكون للأستاذ الزغبي موضوعا جديدا في الحوارات هذا يعني و ببداهة أننا أمام منبع و مخزون ثقافي لا ينضب يطرح الفكرة بأسلوب غاية في الدقة و الترتيب و الإخلاص في بذل العلم

يحضرني هنا موضوع أثرته حضرتك و تابعناك جميعنا أثناءه و كنت أنا من الغافلين عنه و فيما بعد تبنّيت آراءك بشدة لأنك أقنعتنا بالدليل المرفق دائما و لامني كثيرون في ذلك و غمزوا بأنني مجرد قراءتي لكتاب ما أعتنق آراء صاحبه
ما علينا يا سيدي
اليوم نحن نعيش و نرى بأم أعيننا ما كنت تحدثنا عنه و الحمد لله على كل حال

لم اكمل بعد قراءة الموضوع لكنني عاجلت بالرد لأكون أول الواصلين
تابع أستاذي الكريم بارك الله بك
كل الشكر و التقدير لك

أختك
*

قديم 09-24-2012, 01:04 PM
المشاركة 12
هند طاهر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بوركت وجزيت الجنه وجعلها الله في موازينك

زدنا ولا تنقصنا

المـرء ضيف في الحــــياة وانني ضيف


كـــــــــذلك تنقــــــضي الأعمـــــــــار،


فإذا أقمــــــــت فإن شخصي بينكــــم




وإذا رحلت

فكلمــــــــتي تذكـــــــــــار
قديم 09-24-2012, 11:23 PM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

السلام عليك ور حمة الله و بركاته

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أهلا بالشقيقة العزيزة ..

أن يكون للأستاذ الزغبي موضوعا جديدا في الحوارات هذا يعني و ببداهة أننا أمام منبع و مخزون ثقافي لا ينضب يطرح الفكرة بأسلوب غاية في الدقة و الترتيب و الإخلاص في بذل العلم

أسأل الله أن أكون خير مما تظنون وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم
وجزاك الله خيرا لتقديرك

يحضرني هنا موضوع أثرته حضرتك و تابعناك جميعنا أثناءه و كنت أنا من الغافلين عنه و فيما بعد تبنّيت آراءك بشدة لأنك أقنعتنا بالدليل المرفق دائما و لامني كثيرون في ذلك و غمزوا بأنني مجرد قراءتي لكتاب ما أعتنق آراء صاحبه
ما علينا يا سيدي
اليوم نحن نعيش و نرى بأم أعيننا ما كنت تحدثنا عنه و الحمد لله على كل حال

الحمد لله على كل حال
وانا والله لا أطالبكم بالإقتناع بما يرد من موضوعات بقدر ما أطالبكم بالبحث فيها والتيقن من صدق كل معلومة فى ظل العصر الذى نعيشه
والفضل لله تعالى ولعلمائنا الذين علمونا فهم الذخيرة التى اعانتنى وغيري فيما نقدمه ونرجو ان ينفع الله به إن شاء الله


لم اكمل بعد قراءة الموضوع لكنني عاجلت بالرد لأكون أول الواصلين
تابع أستاذي الكريم بارك الله بك
كل الشكر و التقدير لك

أختك

هذا من فضلك وكرمك ..
وشكرا جزيلا لك

قديم 09-24-2012, 11:24 PM
المشاركة 14
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بوركت وجزيت الجنه وجعلها الله في موازينك

زدنا ولا تنقصنا
اللهم آمين وجزاك الله بمثله ..
نكمل بإذن الله بفضل دعواتكم ..
بارك الله فيك

قديم 09-29-2012, 12:29 AM
المشاركة 15
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

( 3 )



التعبير الأول :
( ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يعود الناس بالشاة والبعير , وتعودون أنتم برسول الله إلى رحالكم , والله لولا الهجرة لوددت أن أكون امرأ من الأنصار , اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )
القائل :
من قول النبي عليه الصلاة والسلام [1]


الموقف :

جاء فتح مكة بعد طول انتظار من النبي عليه الصلاة والسلام , ومن الصحابة رضوان الله عليهم , وذلك فى 20 رمضان من السنة الثامنة للهجرة ,
ودخلت إلى الإسلام قريش بعد أن أطلقهم النبي عليه الصلاة والسلام فتسموا بالطلقاء , وبفتح مكة انتهت مرحلة الهجرة بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا هجرة بعد الفتح ) , حيث كانت فضيلة الهجرة فى السابقين الأولين من المهاجرين الذين هاجروا للمدينة والأنصار الذين نصروا النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , وأصبح لتلك الزمرة فضل السبق , مع عموم الفضل القطعى على كافة الصحابة من الله عز وجل وذلك فى قوله تعالى :
[ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}


وبعد الفتح جلس النبي عليه الصلاة والسلام يقسم بعض العطايا وخص بها المسلمين الجدد من قريش وبعض قبائل العرب التى وفدت إليه , وذلك بنية تألف قلوبهم وترغيبا لهم فى الإسلام , ولم يقسم فى تلك العطايا شيئا للأنصار أو للمسلمين القدامى , وكانت ثقته بهم أنه أوكلهم إلى إسلامهم حيث أنهم ابتغوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام منذ بايعوه وأخلصوا الدين لله , وحموا نبي الله ورسالته حين اختار المدينة المنورة محطا له ورحالا , فنالت بقدومه شرفا لا يدانيه شرف , ونال الأنصار بذلك مدح الله تعالى ونصرته لهم بنصرهم لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ..
فلما رأى الأنصار تقسيم العطايا لم يصل إليهم , تضايق البعض منهم ــ لا حبا فى المال والدنيا ــ وإنما هى الرغبة فى عطاء النبي عليه الصلاة والسلام وبركة هذا العطاء , وشعر البعض منهم بشعور الغبن أن النبي عليه الصلاة والسلام خص أقواما حديثي عهد بالإسلام , فظنوا ظنا خطأ أن هذا العطاء هو من باب التكريم , لا من باب تألف القلوب ..
ولو أنهم أدركوا حقيقة هدف النبي عليه الصلاة والسلام من أنه وثق بعمق إيمانهم لرضوا قطعا , وإنما أعطى هذا المعشر حديثي العهد بالإسلام تألفا للقلوب , ولا شك أن الأنصار والمهاجرين أكمل إيمانا من هؤلاء ,
فذهب بعضهم إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه , وأسروا إليه بما فى نفوسهم , وكان سعد بن عبادة مع سعد بن معاذ رضي الله عنه يمثلان زعامة المدينة قبل الإسلام حيث كانا على رأس الأوس والخزرج ..


وكانت لدى سعد بن عبادة طبيعة خاصة ,
حيث كانت فيه حمية وحدّة فى الحق , وكانت له غيرة معروفة للغاية على ما يعتقده حقا فى نفسه , وقد تأكدت هذه الغيرة والنفس المباشرة لسعد بن عبادة فى أكثر من موقف , ويعتبر أشهرها ما علق به عندما حدثهم النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة الإتيان بأربعة شهود على حالة الزنا كشرط إقامة الحد ..
هنا قال سعد بلا ترو وهو مندفع : أترك لكاعا وجدته مع أهلى لا أهيجه حتى آتى بأربعة شهداء ! والله ما له عندى إلا السيف صارما غير مصفح
فهنا تدخل الأنصار الحاضرين فى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا معتذرين للنبي عليه الصلاة والسلام :
يا رسول الله اعذره , إنه رجل شديد الغيرة ما تزوج امرأة قط فجرؤ أحدنا أن ينكحها بعده ..
فتأملهم النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال فى صرامة :
إن سعدا يغار , وأنا أغير من سعد , والله أغير منى ولهذا حرم على عبده الفواحش ..

أى أن النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان قد عذر سعدا , إلا أنه أوضح للجمع عنده أن سعدا ليس أغير منه ولا من الله على المحارم , ولكن الغيرة لا تعنى الظلم , ولولا الشروط التى وضعها الله سبحانه وتعالى لإقامة الحدود , ما وسع مسلما أن يبقي آمنا من الظلم فى بيته , وليست الغيرة أيضا أن نتعدى حدود الله تحت تأثير الإنفعال , فما شرع الله هذه الشروط لكى يفلت مجرم من عقاب بل شرعها لكى لا يـُــتهم برئ بلا بينة


القصد ,
أن هذه الطبيعة الحامية لسعد بن عبادة كانت ملازمة له , لكنه كان فى نفس الوقت ــ على عادة الصحابة جميعا ــ رجّــاعا للحق متى وجده ,
فعندما اشتكى إليه هؤلاء النفر من الأنصار غار عل قومه الغيرة الطبيعية فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ..
فقال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ ( يعنى إن كان هذا موقف قومك فما هو رأيك أنت )
قال سعد : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي ..
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة
فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة .. فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ،
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :
يا معشر الأنصار ما مقالة ، بلغتني عنكم ، وجدّة وجدتموها علي في أنفسكم ؟
ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم
فرد الأنصار خاشعين : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل .
فاستطرد النبي عليه الصلاة والسلام وهو يجوّل بصره بينهم :
ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟
قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل
قال صلى الله عليه وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصُدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك

انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه العظمة فى هذا الموقف الجليل , فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكرهم أولا بمنة الله وفضله , ولو كانت نفوس الأنصار من النفوس التى ترغب فى الدنيا وتأخذها الحمية لردوا على مقالة النبي عليه الصلاة والسلام بذكر سابقة جهادهم ..
لكن ويالعظمة هذا الجيل الكريم ..
صمتوا وأقروا وأذعنوا أن لله ورسوله عليه الصلاة والسلام الفضل كله , ومع ذلك ورغم صمتهم , قالها النبي عليه الصلاة والسلام وذكر لهم فضلهم وعملهم وحسن سيرتهم مع الله , ولم يغضب من الموقف بل أقر لهم بأن لهم السابقة فى النصر والمواساة بالنفس والمال
فانظروا إلى عظمة المعلم وعظمة التلاميذ , وعظمة المنهج الذى رباهم عليه النبي عليه الصلاة والسلام ..

ونعود إلى الحوار البديع حيث استطرد النبي عليه الصلاة والسلام قائلا :
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا . ووكلتكم إلى إسلامكم ، ( هنا انكشف أمام القوم حقيقة العطايا , وكيف أنها ليست فى ميزان المكافأة والتكريم والتقدير , بل هى فى ميزان تألف ضعاف الإيمان وحديثي العهد بالإسلام وبالتالى ما كانوا ليرضوا بها لأنفسهم ولا يرضاها لهم النبي عليه الصلاة والسلام )
ثم قال :
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار
اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار , وأبناء أبناء الأنصار

هنا شملت الرعدة جميع من حضروا من الأنصار رضي الله عنهم , وهم يستمعون إلى هذا التعبير الجلل والتقدير الأعظم من النبي عليه الصلاة والسلام , حيث رضي للناس بأن يكون نصيبهم العطايا وخصهم بنفسه الشريفة , بل خصهم بالدعاء الذى تناقلت شرفه الأجيال وهم يغبطون الأنصار على ما أتاهم الله من فضله ..
فبكى كل من حضر هذا الموقف بكاء شديدا حتى أخضلوا لحاهم , وكان سعد بن عبادة أشدهم بكاء وتأثرا ..


وهذا الموقف العظيم , نستفيد منه دروسا وعبرا كثيرة ,
ولو أن أهل الحكمة تأملوا فى مواقف النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته , لما شبعوا منها أبدا فهى منابع فياضة جيلا بعد جيل ,
ومن أهم ما نتعلمه فى هذا الموقف , درسٌ بليغ للغاية فى العلاقة الإنسانية والأخوة الإسلامية ,
ألا وهو أهمية المصارحة وعدم كتمان ما تختلج به النفس من الخواطر ,
سواء كانت تلك المصارحة من المرء مع قرينه كالأخ أو الصديق , أو مع من هو أعلى مقاما كالأب والمعلم , وأن هذه المصارحة تعتبر ضامنة البناء ورفاء الود وهى التى تسد باب النفس والشيطان حتى لا تتوالد الخواطر مع بعضها البعض فتفسد العلاقة مهما بلغ إحكامها ..
وينبغي لنا ــ كما رأينا فى موقف الأنصار ــ ألا نخجل من خاطرات النفس مهما بلغت عتيا , وعلينا المصارحة بها لأننا لو سكتنا مخافة الحرج أو الخوف أو الهيبة , واحتفظنا لأنفسنا بخواطرها لزادت الوساوس فيما نظنه حقا وبدت العداوة والبغضاء من جراء ذلك , وهذا يستبين لنا جليا لو أننا تصورنا مثلا أن الأنصار طووا نفوسهم على خواطرهم ولم يفصحوا ,
إذا ما كانوا سمعوا الإيضاح الذى يُجلّى بصائرهم من النبي عليه الصلاة والسلام , وإجلاء البصيرة هنا هو علاج وترياق الوسوسة بسوء الظن ــ مع ملاحظة أن شعور الأنصار لم يكن سوء الظن حاشا لله بل كان شعور العتاب ــ ولكن الغالب فى العلاقات الإنسانية هو سوء الظن , وقد تكون تلك الوساوس لا أصل لها ولا محل , وغالبا ما تكون ناجمة عن سوء فهم لا أكثر
وكم من علاقة وطيدة هدمها الإخفاء وعدم العتاب أو المصارحة بين المتحابين , ذلك أن الظنون تبدأ وليدا ثم تثمر بعد ذلك مع الكتمان وتوارد الخواطر ..

مثال ذلك مثلا لو أن طالب علم شاهد من معلمه أو من عالم يتتلمذ عنده موقفا مناقضا للشرع أو للمروءة أو ما شاكل ذلك , لو أنه صارح به معلمه بالأدب الواجب لذهب الشك وسوء الظن بإيضاح هذا العالم , أما إن امتنع طالب العلم عن الإستيضاح فغالب الأمر أنه سيبقي فى ذهنه من ذلك شيئ وربما قاده هذا إلى ظلم مبين لشيخه على مجرد وساوس وخطرات لم يفهمها هذا الطالب

وقد رُوى عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما , أنه كان فى مجلسه فدخل عليه طالب فتوى ,
فقال له : هل للقاتل من توبة ؟
فتـفــرّس بن عباس فى الرجل مليا ثم قال له : كلا .. ليست له توبة !
هنا اندهش من فى المجلس من الإجابة , لكنهم لم يعترضوا أمام طالب الفتوى , فلما انصرف الرجل التفتوا إلى ابن عباس مستفهمين عن مبرر هذه الفتوى الغريبة لأن التوبة مفتوحة أمام كل ذنب وأى ذنب , وقد ورد فى صحيح البخارى قصة القاتل الذى قتل مائة نفس فاستفتى عالما هل له توبة , فقال له العالم نعم , فتاب القاتل ومات على ذلك فغفر الله له ..

هنا نجد أن تلامذة بن عباس طبقوا النهج النبوى بحذافيره , فهم لم يصمتوا عن سؤالهم ولم يظنوا بشيخهم ظن سوء من قلة علم أو مخالفة للشرع , بل ظنوا الظن الحسن أن هناك مبرر لا يعرفونه وفطن له ابن عباس , ورغم أنهم لم يكتموا سؤالهم , إلا أنهم تحلوا بالأدب الواجب بين يدى العلماء فلم ينكروا على ابن عباس علانية أمام طالب الفتوى وهذا من أوجب الواجب , بل انتظروا حتى انصرف الرجل ثم راجعوا شيخهم ..
وهنا التفت إليهم بن عباس قائلا : نعم للقاتل توبة , لكن هذا الرجل لم يقتل بعد , بل جاء مستفسرا حتى إذا ما علم أن للقاتل توبة نفذ نيته فى القتل بدون وجه حق , ولهذا أفتيته بما يردعه عن هذا الإثم العظيم ..


انظروا أيها القراء الكرام إلى مدى اتساع فقه ابن عباس وبصيرته النافذة , فقد أدرك بفراسته هدف الرجل , ولم لم يكن بن عباس وهو من هو فى الفقه , لأفتاه بالحكم الشرعي دون النظر إلى حاله وتسبب فى وقوع الرجل فى إثم القتل فضلا على قتل نفس بغير حق ,
وهذا يقودنا إلى حقيقة مخيفة فى زماننا هذا بعد أن كثر المتصدون للفتيا دون تأهيل علمى من علم أصول الفقه , هذه الحقيقة هى أن لكل مستفتى خصوصية فيما يسأل فيه , فلا ينبغي للعامى أن يقيس نفسه على فتوى صدرت بحق غيره , كما يفعل العامة هذا الزمان حيث يأخذون من الفضائيات فتاوى لم تصدر لهم خصيصا فيطبقونها علي أنفسهم دون دراية بوجود موانع خاصة لديهم تميزهم عن طالب الفتوى الأصلية ..

ومن الدروس الخطيرة المستفادة من موقف الأنصار مع النبي عليه الصلاة والسلام , أن المصارحة ــ وإن كانت ضرورية ــ إلا أن هذا لا يعنى أن تتم علانية , بل يجب أن يتم فى السر حكرا على أصحاب الشأن وحدهم , كما رأينا فى موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه , عندما انفرد بالنبي عليه الصلاة والسلام فأسَرّ له , فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يجمع له الأنصار وحدهم ــ دون غيرهم كما تقول الرواية عند ابن اسحاق ــ فاستمع منهم وأجابهم باعتبارهم هم أصحاب هذا الخاطر ..
وهذا يقودنا إلى ضرورة اقتصار المصارحة ــ حتى لو كانت فى حق ــ على أهل الشأن وحدهم , ولو لم يكن هذا ضروريا لكان أدعى للمفسدة الأكبر , فتخيلوا معى لو أن سعد بن عبادة جهر بما يظنه حقا واعتبره ظلما قد وقع عليه وعلى قومه , لكان هذا الإعلان مدعاة لإفساد العلاقة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام ــ وحاشاهم من ذلك , لكن السرية وفّرت جو الخصوصية الذى سمح للأنصار بتدارك خطئهم على نحو سريع ودون أن يتورطوا فى خطأ أكبر ..

بالمثل ..
فى موقف بن عباس رضي الله عنهما , تخيلوا معى لو أن جمع طلاب العلم عنده قام وتكلم بالحق الذى يعرفه , فأنكر على بن عباس علانية أمام طالب الفتوى عملا بإنكار المنكر والأمر بالمعروف , إذا لكانت كارثة حيث سينتبه المستفتى لغرض بن عباس ويضيع ما فعله هذا الأخير لإنقاذ الرجل من تلك الجريمة التى ينويها .. ومن هنا أرسي علماؤنا الأوائل قاعدة هامة لطلاب العلم وهى ألا يتقدم طالب العلم بين يدى شيخه , وينتظر الإذن أولا
وحتى لو كان هناك خطأ فعلى لا يوجد له تبرير حقيقي يغير من طبيعته الظاهرة , فالسرية هنا مطلوبة وأدعى للود والإحترام ومن باب النصيحة فى السر التى قد تصبح فضيحة فى العلن , فلو أننا رأينا زلة عالم مثلا فنبهناه لها سرا فتراجع هو بنفسه عنها لكان هذا خيرا من أن نعلن خطأه على الناس فيحمله الكبر على رفض الحق , وكون الذنب واقعا على صاحب الجهر وإن كان يقول الحق ..
ولا يستوجب الأمر العلانية إلا عند المكابرة أو عند عدم استطاعة الإنكار فى السر ,
وهذا طبعا فى إطار العلاقة بين أهل الخير ومن فى قلوبهم الخير ومن أولئك الذين يقعون فى الخطأ ــ مهما كبر ــ ولكنهم لا يصرون عليه
أما الإنكار على أهل الباطل المصرين على باطلهم فله قواعده التى تخالف ذلك , فينبغي للقارئ الكريم أن ينتبه للفارق , فالإنكار على أصحاب البدع مثلا أو أصحاب الكفر والإلحاد إذا ظهر باطلهم عيانا لناس ولم يرتدعوا لدين أو خلق , فالإنكار عليهم علانية هو الأصل , ولا تكون السرية إلا لمن يجد فيهم مثقال ذرة من خير للإجابة وإلا اعتبروا الناصح ضعيفا أو متنطعا ..


ومن الدروس الرائعة حقيقة , من هذا الموقف الكريم ..
هو الدرس النبوى الخلوق الذى علمنا إياه رسول الله صلي الله عليه وسلم , وهو ألا نحاكم الناس على حاضر مواقفهم , وننسي أفضالهم السابقة ..
وكثير منا اليوم يقع فى هذا الخطأ الجسيم , حيث يعتبر بعض الناس أن المقربين منهم قد قطعوا ما بينهم من الود لمجرد خطئ عارض وقع منهم , وهذا ظلم كبير ,
إذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قدّر الفهم الخاطئ للأنصار , ولم يعاقبهم على أمر ملتبس عليهم , بل أوضحه لهم , ولم يكتف بذلك بل ذكّرهم بفضلهم ومقدارهم , وبأنهم مستحقين لما هو أكبر مما يظنونه مكافأة , وهذا من الدفع الحسن الذى تتآلف به القلوب , فتتماسك بعد مواقف العتاب بأكثر مما كانت متماسكة قبله ..
وفى هذا قال حكماء العرب ( إنما العتاب رفاء الود )
لأن العتاب لا يكون إلا بين المحبين , فحيثما وقع لأحد من الناس موقفا كهذا فرأى من أخيه عتابا له فى غير محله , فلا ينبغي أن يسارع عليه بالإنكار والغضب والإتهام بالظلم وبأن نيته تجاهه سيئة , بل يجب أن يوضح له سوء الفهم بالرفق واللين ويجعل ذلك فى غلاف من المحبة والسكينة ترد للمعاتب عتابه على هيئة مودة أكبر ومحبة أعمق ,
فلا ينبغي للمرء أن يغضب لاتهامه من أخيه ظلما , لأن النفوس مجبولة على الظن السيئ وعلاجها إنما يكون بالحسنى طالما أن العلاقة بينهما وثيقة وتاريخهما معا يسمح بهذه الهفوات ..
ولا ينبغي أن نحاكم الناس على آخر أفعالهم وننسي مآثرهم السابقة , فليس هذا من شيم الكرام , فالعدل والإنصاف خُلُقٌ عربي أكده الإسلام فى القرآن الكريم حيث يقول عز وجل :
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8}
فإذا كانت الآية الكريمة تحملنا على عدم الظلم حتى فى مواجهة الخصوم الباغين , فمن باب أولى أن نلتزمها فى مواجهة المقربين , وظلم الأخ لأخيه بسوء الظن , إنما هو من الشيطان فلا ينبغي على المظلوم أن يعين الشيطان على أخيه بالرد العنيف على الظلم , بل يجب أن يتلقاه بالإحسان فهذا أدفع لمكايد الشيطان , والنبي عليه الصلاة والسلام يقول ــ فى حديث مسلم ــ :
( إن الشيطان يأس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب , ولكن فى التحريش بينهم )

ومن الدروس الجزيلة فى هذا الموقف أيضا ..
ألا يبيع المرء الآخرة بالدنيا ــ وإن عظمت ــ وألا يرضي الكريم بالدنية ــ وإن كبرت ــ فالأنصار وبمجرد أن أدركوا حقيقة عطاء النبي عليه الصلاة والسلام , أن هذه الأموال تألفا لمن لم يشتد عود إيمانه , إذا بهم على الفور ينسون المال وينسون والعطايا فى مقابل الإحتفاظ بمكان ومكانة الإيمان عند الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ,

وهذا فضلا على أنه واجب دينى محض , فإنه أيضا واجب أخلاقي يشي بطيب المعدن , وهو خُلقٌ طالما افتقدناه فى عالمنا المعاصر حيث يسرع المرء إلى المكاسب المادية ــ حتى لو كانت حلالا ــ مهما كان موقف أخذها موقفا غير كريم , فما بالنا بمن يسارع للمكاسب المادية وهى أصلا من كسب حرام صريح , ولا يبالى فى سبيل المال قل أو كثر من أين المنابع منبعه ,
وإذا كانت الخلق الإسلامى الصحيح يستدعى منا الورع فى الحلال , فمن باب أولى أن نتورع عن ما كان حراما صريحا أو فيه شبهة ..
وهذه الأخلاق العظيمة هى التى وُجِدت بالأصل فى أمة العرب قبل الإسلام ثم جاء الإسلام فتممها وأخلصها لله عز وجل , وهو ما يتضح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) "[2]"
فالموقف يعلمنا التورع وطلب المعالى فى مواقف الإختيار بين الكسب المادى والكسب المعنوى , وبين أخلاق الكرام وبين أخلاق غيرهم , فضلا على أن مجمل هذا الموقف يعلمنا فضيلة الرجوع للحق والإعتذار عن الخطأ بلا مكابرة أو كثير جدال , وبهذه الأخلاق ربي النبي عليه الصلاة والسلام هذا الجيل فخرجوا أحرارا .. رضي الله عنهم جميعا





الهوامش :
[1]ــ سيرة بن هشام ــ الجزء الثانى ـ فتح مكة ـ المكتبة الإسلامية
[2]ــ رواه البخارى فى الأدب المفرد وحسنه الألبانى فى السلسلة الصحيحة كما صححه بن عبد البر

قديم 09-29-2012, 01:05 AM
المشاركة 16
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي

سلام عليك أيها الرائع
ولله درك ما أجمل ما تكتب .. لا أخفيك .. المقالات الطويلة هذه الأيام لا تستهوي الكثيرين
لأن مصادر المعرفة تشعبت وكثرت وطالت واستطالت
بعضها كالداء وأخراها كالدواء .. أما التي كالداء .. فتوجع القلب وتتلف العيون
وأما التي كالدواء .. فتلك التي تخترق القلوب قبل العقول .. ويكون لها محل في الصدر .. وربما تستوطن هناك
وفي العادة وبصدق .. في حال المقالات الطويلة أتجاوز المقدمة لأختصر وأقرأ زبدة الموضوع لأعرف ماذا يريد الكاتب بالضبط ..
وبصراحة شديدة .. على الرغم من كتاباتك الطويلة إلا أنني أقرأ حتى المقدمة وأحس أنني أكاد أن التهم ما فيها من كلمات ..
قرأت فوصلت إلى هذا العنوان الرائد والحقيقة الغائبة عن الذهن ..
معجزة علم الحديث
( أعظم عملية مخابرات فى تاريخ الإسلام )
وتوقفت على الفور .. لا لأنني لا أريد أن أستكمل القراءة .. بل لأنني أريد أن أستحضر ذهناً صافياً نقياً لأستوعب محتويات هذا العنوان بكل ما فيه من روعة ..
سلمك الله وحفظك من كل سوء أيها العميد
ألف شكر .. وجزاك الله عنا خيراً
سيكون لي عودة أكيدة بإذن الله



تحية ... ناريمان

قديم 09-29-2012, 02:54 AM
المشاركة 17
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وعليكم السلام ورحمة الله شقيقتنا الفضلي ناريمان ..
جزاك الله خيرا لكل هذا التقدير ..
وأدعو الله أن يجعلنى أهلا له ..

وأرحب بك وبأهل منابر فى محافل ذكر الصحابة والذين مهما طالت المقالات فيهم وعنهم فهى دونهم فضلا وسيرة وعلما وعملا ..
بارك الله فيك لاهتمامك ..

قديم 02-24-2017, 06:30 AM
المشاركة 18
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

التعبير الثانى :
(إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ ، تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا )

القائل : من قول النبي عليه الصلاة والسلام " "

الموقف :
كم هى عظيمة وباذخة الفضل تلك المدرسة التى تربي فيها صحابة النبي عليه الصلاة والسلام , رضي الله عنهم فأرضاهم باختيارهم تلاميذا فى مدرسة النبوة , تلك المدرسة التطبيقية التى قامت على مبدأ راسخ لا يقبل الاستثناء تحت أى ظرف , ألا وهو مبدأ التدين التطبيقي ,
لا مجال من أى نوع فى تلك المدرسة العظيمة لتدين يدعيه المرء دون أن يطبق أوفي مبادئه فى تعامله مع الناس والمجتمع , وما كان أصحاب تلك المدرسة يقبلون بينهم مقصرٌ فى أداء واجب من الواجبات أو نافلة من نوافل الأخلاق ــ فضلا على أساسياتها ــ والفضل عندهم لمن صدق قولا وعملا
لهذا كانت تواتيهم الجرأة المستحقة تجاه أى شخص يرونه مغرقا فى أداء العبادات والشعائر ولكنه قليل الصبر على تطبيق الدين فى المعاملة , فكان إنكارهم يعلو ويصدح دون أدنى اعتبار لتدينه فى العبادة !
مدرسة نبغ فيها العشرة المبشرون , وهم ـــ باستثناء أبي بكر رضي الله عنه ــ كانوا تلاميذا فى القمة , إذ أن أبا بكر رضي الله عنه نسيج وحده فهو الصدّيق المتفرد , المقارن بصاحبه النبي عليه الصلاة والسلام فى الدنيا والآخرة

لذلك جاء صاحب المركز الأول فيها عمر بن الخطاب , فاروق الأمة وميزان عبقريتها التشريعية والتطبيقية ,
كان عمر أرهف ما يكون أمام ضعاف الجانب , وأعنف ما يكون أمام أصحاب النفوذ والجاه والقوة , كان عملاقا فى إنكار المنكر لا يفكر مقدار لحظة واحدة , ما دام عنده ميزان الحق والباطل وهو القرآن الكريم وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام , ولهذا جاءنا عن عمر ـــ رضي الله عنه ــ بالذات , عشرات المواقف التى تشي بجرأته وعدم اكتراثه بأى موانع فى النقد والبيان , بالذات تجاه المدعين أو أصحاب الورع الكاذب !
وقد امتدح شخص أمامه رجلا لا يعرفه , فلما سأله عمر لماذا تمتدحه , أجاب الرجل بمدح عام فى شخصيته الظاهرة للناس
فعقب عمر قائلا : ( لعلك رأيته يرفع ويخفض رأسه فى المسجد ! , إنما إن أردت أن تعرفه فعامله فى الدينار والدرهم )
معادلة ربانية أجراها الله على لسان عمر تلخص أكبر كارثة تواجه مجتمعاتنا , ألا وهى مناقضة الفعل للقول !
ولا شك أن مدرسة النبوة كانت السبب فى هذا الفقه العميق الذى اتسم به الصحابة , واتصف به التابعون , وفى هذا الموقف الماثل أمامنا الآن سنعرف كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان ليعلمهم بالتلقين , بل كان يؤسسهم بالتطبيق أولا , ثم يأخذ بعدها مجالا مفتوحا للشرح والتصويب
وهذا هو أعظم أسلوب للتعليم على وجه الأرض , فما أيسر النسيان إن كان التعليم بالتلقين , وما أثبت العلم إن اقترن بالتجربة

والموقف الذى يصاحب التعبير سالف الذكر , يرويه لنا الإمام مسلم وغيره فى صحيحه أن إمرأة مخزومية , سرقت فأصابت حد السرقة , فرفع أمرها إلى النبي عليه السلام فأمر بتطبيق حد السرقة عليها , فاهتم واغتم بعض أهلها ومن يعرفون فضل عائلتها العريقة فهى من بنى مخزوم أحد أشرف بطون العرب , وهذا الأمر لا شك أنه يمثل حرجا شديدا جزاء العار الذى سيلحقه المجتمع بالأهل حتى لو تم تطبيق العقوبة !
وتروى السيدة عائشة الموقف فتقول :
(أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ، ثُمَّ قَامَ ، فَاخْتَطَبَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ ، تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا )

أى أن قريش عندما اغتمت بهذا الأمر حاولت أن تجد حلا يحول بين المرأة وبين تطبيق الحد بأى سبيل حتى لو سبيل التعويض مثلا ,
لكن لأن قريش تعلم فى دواخل صدرها أنهم يطلبون شيئا متجاوزا , لذلك التمسوا شفيعا , له من الحظوة الشيئ الكثير كى يكلم فيها النبي عليه السلام , لعله يستجيب فيجد لهم مخرجا ,
ولم يكن هناك من الصحابة من يصلح لها إلا أسامة نجل زيد ابن حارثة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام , وكان النبي عليه السلام قد تبنى زيدا فى الجاهلية عندما كان خادما رقيقا له , ورغم أن أهل زيد جاءوا لمكة بعد سماعهم بوجود ولدهم فيها , إلا أن زيدا فاجأهم بأنه اختار النبي عليه السلام عليهم , ولم يرض الابتعاد عنه ,
فرد النبي عليه السلام هذا الموقف بأن أعلن أنه قد تبنّى زيدا , وهذا قبل نزول تحريم التبنى فيما بعد
وقد استشهد زيد بن حارثة رضي الله عنه فى مؤتة وكان أحد قواد المعركة , وورث مكانته ابنه أسامة الذى اعتبره النبي عليه السلام بمثابة الولد , وجاء أسامة إلى النبي عليه السلام بما حمّله إياه قومه , فثار النبي عليه السلام فى واحدة من ثوراته النادرة , حيث ما كان النبي عليه السلام ليغضب قط ـــ مهما واجه ـــ إلا فى حالة واحدة , وهى أن يواجه تعديا على حدود الله ورسوله عليه السلام
وهذه ملحوظة يجب أن نقف عندها كثيرا
نعم النبي عليه السلام ما كان ليغضب أبدا لشيئ يخصه هو أو حتى يخص أهل بيته أنفسهم , ولو كان أبلغ الإساءة , بل كان يتقبل الأمر بهدوء شديد ويرد الرد الحسن وهو من هو ! , وربما يكفينا من ذلك صبره وتحمله ما تناوله المنافقون بشأن أهل بيته فى حادثة الإفك وكان يستطيع ــ لو أشار بإصبعه ــ أن يحرق كل من تكلم أو شارك فى الإفك بمجرد إصداره الأمر للصحابة , لكن ما كان له وهو النبي الأعظم عليه السلام أن يفعل , لهذا صبر حتى نزل قول الله تعالى فى سورة النور مبينا وشارحا وحاكما بالنفاق والكفر على من أطلقوا الشائعة .. فكانت طباع الهدوء هى دأب النبي عليه السلام دائما ..

لكن إذا تعلق الأمر بأصول الدين وحدوده هنا كانت غضبته تبلغ عنان السماء ,
وهذا منهج نبوى يفصح فى جلاء عن أسلوب تدريب النبي عليه السلام للصحابة , باعتبارهم الجيل الذى سيحمل لواء الإسلام لأصقاع الأرض , فكانت الدروس التى يعطيها لهم دروسا قاسية طالما كانت متعلقة بأساسيات هذا الدين الذى قدّر الله للصحابة حمله وحفظه , وقد وعوا الدرس تماما , فما من نقطة تشدد فيها النبي عليه السلام معهم إلا وجعلوها فى قمة الوعى لديهم
لهذا ما اكتفي النبي عليه السلام بأن رد شفاعة أسامة ونهره , بل قام فى الناس خطيبا بعدها ليعلم القاصي والدانى خطورة ما طالب به بعض القوم من الشفاعة فى المرأة المخزومية , وذلك لمجرد انتسابها لعائلة شريفة ذات وجاهة ,
وهم عندما فعلوا هذا ــ ورغم إدراكهم لأنه فعل متجاوز ــ إلا أنهم ما تخيلوا مدى فداحة الأمر , لهذا ثار النبي عليه السلام وقام فيهم خطيبا وقال محذرا :
( إنما هلك الذين من قبلكم لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ! )
فالأمر هنا يشبه ما يفعله أى شخص مع ولده عندما يتركه يلعب ويلهو فإذا أخطأ وكسر كوبا مثلا ينهاه عن هذا الفعل برفق ويكتفي بدفعه عن مواطن الخطر , لكنه إن أخطأ ومد يده إلى خطر هائل مثل النار أو الكهرباء , هنا لا يكتفي الأب بإبعاده عن موطن الخطر وحسب بل يثور فى وجهه ــ رغم طفولته ـــ لكى تكون ثورة الأب للطفل الساذج علامة مباشرة على خطورة العبث فى تلك الأشياء تحديدا , ومن ثم لا يعود إليها أبدا

وهذا هو الدرس بالغ العمق الذى أعطاه وأرساه النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة فطبقوه بحذافيره , وهو درس ومبدأ لا يعتبر فقط منهجا خاصا بصلاح دين المرء بل هو منهج كامل لصلاح الدنيا بأسرها , وهو العماد الرئيسي الذى قام عليه حكم الإسلام بعدها فى كل قطر , ألا وهو مبدأ العدل والإنصاف الراسخ , العدل الذى يتجاهل كل شيئ يمكن أن يمثل فارقا فى المعاملة فى دنيا الناس ..
وقد جعله الله تعالى عمادا للملك والحكم بصفة عامة , بمعنى أن هذا المبدأ يسري على دولة الحكم ولو كانت كافرة , فإن طبقت المبدأ وتعاملت بالعدل قامت الدولة وقام حكمها راسخا
وبالتالى كان ارتباطها بدولة المسلمين أولى وأعز ..
فالعدل أساس الملك كقاعدة عامة , جعله الله معادلة لها وجهها الخاص فيما يخص المسلمين , ومن تأمل التاريخ الإسلامى المترامى الأطراف سواء فى عهود الخلافة المتحدة , أو فى عهود الدول المستقلة سيجد أن انهيار تلك الدول مرتبط ارتباطا شرطيا بالعدل والظلم , وقد قامت دول كاملة فى الإسلام ـــ على ضعف مؤسسيها ــ عندما طبقت مبدأ الإخلاص لله أولا , ثم مبدأ العدالة ثانيا ..
وكان مبدأ العدل أيضا هو سبب التفوق الكاسح لدولة الخلافة الراشدة , وهو التفوق المذهل الذى لا يزال يحير المؤرخين فى كيفية قدرة دولة الخلافة الراشدة على إسقاط أكبر وأعرق إمبراطوريتين فى العالم .. الروم والفرس , ولم يكن مبعث الدهشة والحيرة هنا فى هزيمة الدولتين فقط , بل الدهشة الكبري تكمن فى أن جيوش الراشدين أسقطتهما معا فى آن واحد وحاربت على جبهتين فى العراق والشام !
وتحقق ذلك أيضا فى أسلوب نشأة دول الطوائف المختلفة مع ضعف بدايتها , كالدولة العثمانية الباذخة التى قامت على أكتاف قبيلة من شرق آسيا جاءت فارة بدينها فى عهد السلاجقة وأسس زعيمها أرطغرل دولة محدودة فى بدايتها تمكنت من اكتساح أوربا بالكامل لستة قرون بعد ذلك .. وحدث نفس الشيئ مع دولة المرابطين التى بدأت بعدد أفراد لا يتجاوز العشرة بزعامة الإمام الفقيه عبد الله بن ياسين فروا بدينهم من قبائلهم فى المغرب بعد أن رفضوا دعوة الإصلاح الدينى التى جاء بها ابن ياسين , فأخذ هذا الأخير أتباعه وهم بضعة نفر واعتزل ورابط فى جزيرة فى إفريقيا حتى تكاملت له القوة فكانت دولة المرابطين الشهيرة التى ملكت المغرب ونجحت فى إطالة عمر الوجود الإسلامى بالأندلس بعد أن كادت ولايات ملوك الطوائف أن تسقط جميعها فى يد القتشتاليين ..
والسر كما قلنا فى كلمة الحق والإخلاص لها ومعها كلمة العدل التى هى أساس التوفيق الإلهى لأى دولة ..

ولا يكاد المرء يحتاج تحليلا كبيرا لمعرفة سر الإنهيار المتسارع للعرب ــ وللمسلمين عامة ــ منذ أواخر القرن التاسع عشر , إذ أن السر الأوضح فى التنافر والتناحر المدوى الذى استعان أطرافه من العرب بكافة قوى الغرب المحتلة فى صراعات السلطة , ثم زاد الأمر انهيارا بغياب مدوى لقاعدة العدل لا سيما العدالة الإجتماعية
فالعدالة الإجتماعية والعدل الإقتصادى يتفوق ألف مرة على العتاد العسكري فى أسباب سقوط ونهوض الدول , ناهيك عن بشاعة انتشار الظلم ــ حسب الوجاهة والنفوذ ــ وانتشار الإستثناءات المخزية التى أصبحت قانونا حتى فى عرف الشعوب وعوام الناس , بحيث صارت هى الأصل والإستثناء هو العدل
مع أن أهل الحكم لو أنهم تأملوا جليا فى عواقب نشر العدل ــ من الناحية الدنيوية المحضة ـــ لأدركوا بجلاء أنه يوفر عليهم كثيرا كل الجهود الخارقة التى يقومون بها لتثبيت دعائم حكمهم بالقوة والقهر والبطش , ومع ذلك لا يتحقق لهم الثبات , بينما يتكفل العدل بتثبيت أركان الحكم دون أى مشقة من أى نوع !
ويكفينا فى ذلك منهجية وتجربة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه , والذى يعتبر حجة على كل حاكم ومحكوم على مدى التاريخ
فقبيل تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة , كان الخلفاء من قبله قد اقتنعوا ــ ومعهم جمهور غفير من الناس ـــ أن الزمن تغير بعد عهد الراشدين , وأن محاولة الحكم بسياسة الراشدين الأربعة ستطمع الناس بعد أن فسدت أحوالهم وتكاثرت الفتن المهولة من فتن الطامعين فى الحكم أو فتن الفرق المبتدعة كالخوارج الذين ارتكبوا البشاعات على مدى التاريخ ولم يردعهم شيئ ..
فآمن الخلفاء من قبله أن القوة هى الحل للتعامل مع هذه المشكلات .. وكانوا يسخرون من بعض نصائح عمر بن العزيز ومطالبته بالعدل المطلق بغض النظر على أى شيئ آخر ..
ثم تولى عمر الخلافة ..
ولم تمض ساعات على ولايته الخلافة حتى كان قد عزل من فوره كل وال على بلد ثبت ظلمه عنده , وأطلق من السجون كل شخص لم يسجن لأجل حد من حدود الله , ولم يترك سجينا واحدا إلا بحد واضح فى غير عذر
ثم أتى بأعظم ما جاء به من إنجاز عندما نزل عن كافة ممتلكاته وممتلكات أسرته التى آلت إليه بوصفه من أهل بيت الخلافة , وقد فعل هذا مع أمواله وأموال أسرته أولا , ثم استدار بنفس الأمر إلى بنى أمية جميعا دون أن يفكر لحظة واحدة فى عواقب فعله أو فى ما قد يتسبب به هذا من غضب من أبناء عبد الملك بن مروان الناقمين على توليه الخلافة ..
ثم أخذ بسياسة الإصلاح التدريجى شيئا فشيئا , ولم يترك مظلمة لدى أحد إلا ردها وعاقب صاحبها بمثل ما عاقب الناس , حتى أن الخوارج فى عهده أصابتهم صاعقة عدله فردتهم إلى بعض رشدهم فإذا بهم يجمعون لأول مرة فى تاريخهم على مقولة ( لا ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل ! ) " "
وهذا أمر طبيعى , ليس لأن الخوارج بهرهم عدله فقط , بل لسبب أهم وهو أن الخوارج كانوا يحصلون على تعاطف أتباعهم من أثر ظلم الخلفاء على الناس , فلما انمحى الأمر أدرك زعماء الخوارج أنهم سيخوضون حربا خاسرة ولن يتعاطف معهم أحد قط لا من الناس ولا من أتباعهم فكفوا عن الفتن ..
بل كانت المعجزة الكبري أن اللصوصية والسرقة بالإكراه انتهت من عهده بعد شهور معدودة بعد أن صار لكل نفس فى دار الخلافة حق فى بيت المال .. إلا شخص واحد فقط ! وهو الخليفة عمر نفسه ! , وصار الأمر أشبه بنكتة خيالية يتداولها الناس عندما كان عمر بن عبد العزيز يحادث خادمه الوحيد ويسأله عن أحوال الناس وكيف هم ..
فرد الخادم ردا بلغيا فقال : الناس كلها فى عافية .. إلا أنا وأنت .. فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أنه أعتقه !
وعندما اكتظت خزائن بيت المال ولم يعد هناك مجال للإنفاق بعد أن عاش الناس كلهم فى رغد , لم يفكر الخليفة عندها بنفسه أو يحاول زيادة راتبه البالغ الضآلة درهما واحدا , وظل كذلك يعانى شظف العيش حتى نحل جسمه وانبري عظمه ورحل إلى ربه كريما عزيزا .. وبقيت سيرته عبر القرون بسلطان العدل والتقوى
من هذا نستطيع أن نتفهم سر هذه القاعدة السحرية التى أعلنها النبي عليه الصلاة والسلام , وجعلها نبراسا لكل حكم , وأوضح فيها أن المجاملة فى العقاب وفى حدود الله هى أسرع وسيلة للسقوط وإن تكاثرت أسباب البقاء
بل إن الدرس الأبلغ الذى ينبغي للإنسان منّـا أن يدركه , أن طلب الدنيا منفردة لن يتأتى لأحد , بينما لو أنه طلب الأخرة ستأتيه الدنيا نفسها بأحب ما يتمنى ودون مشقة !

يتبع إن شاء الله تعالى



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: تعبيرات عاشت .. لعمالقة غابت ( مع التنقيح )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
نمر بلا غابة ,, عبدالحليم الطيطي منبر البوح الهادئ 1 06-08-2023 12:07 PM
غابة أوكيغاهارا أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 2 07-26-2022 05:28 AM
غابة هويا باكيو أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 2 01-12-2022 07:17 AM
الحضارة الفرعونية المفترى عليها ( بعد التنقيح ) محمد جاد الزغبي منبر الحوارات الثقافية العامة 33 08-08-2015 01:30 AM
غابة أنثى رغد نصيف منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 4 04-25-2015 11:09 AM

الساعة الآن 05:11 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.