احصائيات

الردود
2

المشاهدات
3753
 
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية

فارس كمال محمد is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
65

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Apr 2014

الاقامة

رقم العضوية
12850
06-22-2014, 03:07 AM
المشاركة 1
06-22-2014, 03:07 AM
المشاركة 1
افتراضي فرويد العبقري الواهم
بسم الله الرحمن الرحيم
كلما هممت بكتابة مقالتي هذه - بالأصح إعادة صياغة المنشورة بنفس الأسم ( فرويد العبقري الواهم) - تذكرت الذي ذُكرعن ( ديوجنس الكلب ) ذلك الفيلسوف الذي اشتهر بطريقة الحياة الشبيهة بحياة الكلب حتى سميت المدرسة التي انتمى اليها باللقب الذي اشتهر به ( المدرسة الكلبية) ، كان ينام انىّ يشاء ، ويقضي حاجته امام الناس وربما عاريا تماما ، ويأكل الفضلات ، وينام في (دَن) برميل كبير ، سمي هذا البرميل بإسمه ، فقد قيل ان ما كان يقوم بفعله ، اذا ما دقت طبول الحرب وهرع مواطنو بلدته نحو أسلحتهم وتجمعات مقاتيلهم في ذهاب واياب وانشغال واشتغال ، يخرج من برميله ويشمّرعن ساعديه ثم يبدأ بدحرجته - البرميل - في همة ونشاط وكأنه يباشر عملا ذا أهمية بالغة تقتضي بذل ذلك المجهود .. لقد كان سلبيا في حياته ، قنع بالقليل ، ونأى بنفسه عما ينشغل به الناس ، فلم تحيي طبول الحرب في نفسه روح المواطنة واحاسيس الواجب .. لكنه رغم ذلك كان صاحب ذكاء حاد وتاثير واسع وعميق ومثقف اديب كتب تراجيديات كاملة – لم تصل للأجيال التي جاءت لاحقا - وفيلسوف له في الوجود والمجتمع وطبائع الانسان وجهة نظر .
كلما تذكرته وهو يدحرج برميله غير عابئ بطبول الحرب وهي تدق ، والعالم في هياج وانفعال .. فترت همتي ، واكتئاب تملكني ، وخور اعتراني ، فامسك عن متابعة ما انتويت إنجازه .. فان ما تعيشه شعوب منطقتنا وما يعانيه أبناء امتنا ، لهو اعظم أهمية واشد اثرا من طبول حروب الاسكندر ومعاركه .. اذ مضى عليها زمن طويل وصارت تاريخا ماضيا ، ربما لم يسمع به الكثير ، وان مرّعليهم ، ففي فقرات من كتاب تاريخ ليس بالمتداول الا عند البعض القليل من الناس ..
اما نحن فنعيش في سورة الرعب الدائر على أراضينا ، والمجهول السائرين اليه ، وخيبة الامل بالعقل الذي يحركنا ، والاهواء التي تحكمنا ، ...... وليس في امكان أي منا ان يشيح بوجهه عما يدور حوله، ويمضي في دحرجة برميله بيديه ... وليس من الاجدر بنا رفع رايات الحرب ضد بعضنا فتلك امنية من ليس من أبناء امتنا .. وما على مثقفينا الا إشاعة الأفكار التي نعلو بها على احقادنا ، وسوء فهمنا ، فندرك ان الأولى بنا هو احياء الروح التي جمعت القلوب وشحذت الاذهان وجمعت الامة وارتقت بهم نحو افاق بلغناها بجدارة لا لأننا أناس ليسوا كمثل الناس ، بل لأننا أناس كباقي الناس ، بالوعي نسمو وبالعلم نرتقي وبالايمان بالله نجدد الروح ..
اعتذر عن الصياغة هذه فقد خرجت وكأنها موعظة ، ومحلها ليس في منتدانا الكريم هذا ، اذ ان كل من فيه ، اما أستاذ فكر يمارسه كمهنة ، او كاتب متألق امتلأ رأسه بالحكمة ، او مبتدئ اغناه تحصيله عن الحاجة الى الاصغاء لما اقول..
لكن عذري .. من احسن منكم استماعا لطالب يقدم اطروحته ، ومسامحة لجاهل يستعرض قدرته ..
ليس امامي الا ان ادحرج دَنّي و اواصل الذي بدأته .

فرويد العبقري الواهم
1856-1939
بقلم
فارس كمال محمد


قالوا عنه يهودي خبيث ، اعلن الالحاد وانكر الدين ونبذ الاعتقاد بالغيبيات والايمان بإله خالق للكون ، لكنه اضمر الولاء الصادق لقومه والايمان العميق بيهوديته .. حارب الدين ودعا الى نبذه في دعوة مغرضة وهدف واضح (يهدم فيه ابنية الدين ويشيع الفساد ) ليقوض اعمدة البنى التي قامت عليها هياكل الشعوب والدول، وحل الانظمة المسئولة عن تماسكها ومواطن قوتها ، وكل ذلك من اجل ان يذلل الصعاب و يمهد الطريق المؤدية الى قيام الدولة اليهودية العالمية واعتلاء رجالها عرش الرياسة والحكم المطلقين على الارض . اما افكاره ونظريته وما اخرج لنا من الآراء ، فكلها اوهام مفبركة ووقائع ملفقة ونظريات متهافتة روج لها قياديو ( اليهودية الخفية ) وفعلوا بها كالذي فعلوه مع نظريات اخرى مشابهة (في الهدف) كتلك التي جاء بها دارون وماركس وغيرهم من اليهود.

وان ما جاء به من فِكَر وآراء ، إن إستطاع صياغتها على صورة نظرية متماسكة فإنها لا تصمد امام حقائق العلوم ووقائع السلوك الانساني السليم .

وهو لم يكن في حقيقة امره من الباحثين الموضوعيين النزيهين بل مكنّته قدراته التي امتاز بها على رصّ افكاره ورصف موضوعاته في صورة توحي بصحة ما اراد ايهامنا به والايمان بمضمونه .
وفي مقابل هذا فان هناك من رأى في فرويد رأيا مغايرا وصورة مختلفة . جعلت منه نقطة لامعة وشمسا ساطعة ظهرت في سماء تاريخ الانسانية عند مرحلة مهمة من مراحل تطورها ، تلك المرحلة التي شهد فيها الانسان نهضة وتحركا دائبين ونشاطا وتطورا ظاهرين في مجالاتها العلمية وافاقها الفكرية وانظمتها السياسية ، انتقل معها من فترة مظلمة حالكة ، وامال محطمة خائبة ، اصطبغت بها مرافق الحياة كلها، من تدهور علمي وتأخّر ثقافي وركود اقتصادي وتخلف صناعي ، تلك الحالة التي كان يباركها ويعمل على تركيزها اناس لبسوا مسوح الرهبان وتكلموا باسم الدين فحاربوا وقتلوا كل من فكر او بادر في احداث النقلة اللازمة ، وازاحة الحجب المقامة في مسيرة الانسان نحو افاق التطور والنمو والرفاه والتحرر من سطوة السلطان الجائر والطاغية الحاكم باسم الدين .
لقد عدّه البعض من دارسيه واحدا من قلائل الرجال الذين تجود بهم الاجيال على مر الازمان حينما ترسلهم على فترات متباعدة ليؤدوا ادوارا عظيمة ومهام مصيرية من شانها ان تحدث انعطافة حادة في طريق التقدم المعرفي للانسان وتمنح الانسانية قدرة واعية على الانعتاق من جهالاتها وقيودها وجمودها الفكري وتخلفها العلمي وترديها الخلقي والاقتصادي والاجتماعي بشكل عام .
لقد شهد المفهوم العام عن الانسان وشخصيته نقطة تحول جوهري رسمها فرويد على مسار الدراسات السيكولوجية للإنسان وصار النظر اليه - الانسان - على صورة اخرى لم يعهدها علماء النفس قبل ذلك
حتى قيل ان ما جاء به من (فكر سيكولوجي ، فلسفي ، شمولي ) قد كان شيئا عظيما وحركة بارزة وفعلا مؤثرا طغى به على كل الذي شاع في عقول الناس ودار فيها من النظريات . وبات علم النفس على يدي فرويد بمثابة ( ايديولوجية ) متكاملة لها رأي ونظر متغلغلان في كل موضوع ولها تفسير واضح وحل ناجع لكل اٍشكال .
لقد كان هذا الرجل على صلة وثيقة بالحركة الثقافية السائدة في عصره ، وبالاداب والفنون فقرأ الادب الاغريقي وتمعن في اعمال سوفوكليس ، وطالع اعمال غوته وسرفانتس وهاينه وستندال وديدرو ونيتشة ودستوفسكي. وقرأ (في خشوع على الارجح) التوراة والانجيل بترجمتيهما التي قام بها لوثر في حينه .
فاين هو من كل الذي قيل ...؟ اهو شيطان ماكر وساحر حاذق اخرج لنا سلعة رديئة وخرقة بالية وورقة محروقة فاقنعنا بانهن تحفة نادرة ، و قماش من حرير حقيقي ، وقطعة نقدية ذات ثمن عال وقيمة مرتفعة .. ام هو عالم جهبذ ومثقف مطلع وطبيب حاذق وما خرج به علينا من نظريات انما هي حقائق يشهد الواقع بصحتها وتثبت التجربة نجاحاتها في حل اشكالاتنا ومداواة عللنا وتفسير ظواهر دنيانا الاجتماعية اجمع ....؟
وهل هو صادق في الحاده ، وناكر لوجود الله ، الذي ولد على الايمان به والإخلاص له ، وليس في جعبته مخطط لمؤامرة حيكت في ظلام هدفها هدم اديان العالم اجمع وزعزعة ايمان معتقديها ليصفو الحال بعدها ويخضر المرعى الذي يقتات منه اتباع اليهود . وتتهيأ بعدئذ الساحة التي سيشيد عليها هيكلهم المزعوم ..؟.
جواب السؤال على عاتق ارباب الفكر السياسي ذوي الاطلاع والمقدرة في التحليل والالمام الواسع بحياة هذا (العبقري الكبير).

معالم العبقرية

اذا كان من صفات العبقرية ، تميز اصحابها بامتلاك طاقة فكرية غير عادية ، على الابداع التخيلي والتفكير الاصيل والابتكار والاكتشاف ، وان لهم مواهب فطرية وذكاء مفرطا ، ولهم اصرار وتحدي وتمسك بالأهداف التي يرونها (الاجدر بالاهتمام) وقدرة وتحمل كبيرين في قيادة عجلة التفكير لتسير على طرقات منتقاة ذات علاقة وارتباط بالناتج الابداعي المبتكر، الى غير ذلك من المزايا كقوة الذاكرة والانتباه المستمر ، و ..و... فان في فرويد الكثير من الصفات التي تضعه في قائمة كبار العباقرة الذين شهدهم تاريخنا الحديث .
لقد امتاز بملامح الذكاء والنبوغ منذ بدايات عمره ( ولد في1856 م) ،(( وقيل ان في هيئة فرويد حين ولادته علامات دفعت امرأة عجوز كانت حاضرة خلال عملية الولادة ، الى زف بشراها الى ام فرويد بان ولدها هذا سيصير من العظماء ، ومع اننا مؤمنون بسخف كلام العرافات وقراء السما ت والملامح فإننا في اقل الاحوال نميل الى الاعتقاد بان شيئا مميزا قد انفرد به دون المعهود في الولادات الاخرى دعا الى الاعتقاد بذلك - فقد ولد بشعر اسود كثيف حسبما ذكره هو في احد كتبه - ومن الاحداث المماثلة التي تعزز ما ذكر ، تلك النبوءة التي اطلقتها عرافة اخرى اكدت فيها ان الصبي هذا سيصير وزيرا في القادم من عمره ، فكما ان عدم تحقق هذه النبوءة يثبت لنا صدق حديث نبينا الكريم في كذب المنجمين الا انه يؤكد لنا في ذات الوقت ، ان في الامر سمات وملامح توحي لمن يراها بانطباع عن عظمة تتجلى على محيا هذا الشخص وان له من قوة الارادة شيئا كبيرا وسمات اخرى متعارف عليها لدى ذوي البصر - قد يكون منها ما تميز به من لمعان في عينيه وضوؤهما الشديدين لدرجة يحس الناظر اليه انهما تخترقان اعماقه - وهي اشبه ما تكون بتلك الانطباعات التي نكونها نحن ( عامة الناس ) عن القادم الينا ، فما اكثر من ابدينا لهم الاحترام والتوقير او الاستخفاف والتحقير لا على ما قاموا به من اعمال جليلة او إرتجلوه من اقوال بليغة ، وانما هي انطباعات واحاسيس ولدها فينا المظهر الذي كانوا عليه ، قيل ان احد زملاء نيتشه في المدرسة كان يهم بقول كلمات نابية بين زملائه في الصف وفيهم نيتشه ، الا انه – على حين فجأة - وضع يده على فيه وسكت ولما سأله زميله عن سبب سكوته اجاب ان لنيتشه نظرة ان رمقك بها جعلت الكلام يتوقف في فمك . . وقد حظي باهتمام ابويه وتفضيلهم له على حساب اخوته ، اذ خصصا له غرفة مفردة فيها من وسائل الهدوء والتركيز ما تفتقر اليه غرف البيت الأخرى ، نظرا لما لاحظا عليه من علامات النبوغ والتفوق حتى انهما منعا باقي اخوته من تعلم الموسيقى حرصا على منع ازعاجه وتشتيت افكاره .
فبالرغم من مشاعر عدم الاطمئنان والالم النفسي الذي كان يعانيه والاحساس العميق بكونه مضطهد ومهدد في ظل تلك المضايقات الدينية التي عانتها عائلته المنتمية الى الاقلية اليهودية في جو من الاحتقار والاستصغار الذي كان يبديه لهم المجتمع الذي عاشوا فيه .( حتى ان مما علق في ذاكرته واوقد نيرانا تستعر في صدره طوال حياته ، تلك الحادثة التي كان يمشي فيها مع والده في شوارع فينا اذ اصطدم الاب بأحد المارة دون قصد او تعمد فما كان من هذا المار الا ان قذف بقبعته – كان قد اشتراها حديثا - ورماها في الوحل ثم انتهره قائلا : يهودي .. يهودي انزل من ناصية ممشى الطريق ، ولم يبد ابوه اي رد والتقط قبعته الملوثة بالوحل ومضى في صمت ومعه فرويد ينظر اليه ) ، فان همته لم تفتر وعزمه لم يلن بل اتخذ موقفا فيه من الصلابة والتحدي ما اعانه على تجاوز محنته واعتزازه باصول عائلته وزيادة ثقته بنفسه وتميز ذاته وقوة عقله فاحتل بجدارة المرتبة الاولى في قائمة المتفوقين والدرجة الأعلى بين اقرانه منذ انتظامه في المدرسة التي التحق بها عند العاشرة من عمره - اذ لم يسعفه حظه قبل هذا بالانخراط في سلك التعليم النظامي واكتساب المعارف التي ينبغي الاغتراف منها بما يتناسب مع سني طفولته لولا الجهود التي بذلها باندفاعة قوية وهمة عالية تعلم خلالها شيئا كبيرا من القدرة على القراءة والكتابة والحساب وهو في منزله - لقد خاض فرويد تجربة حياتية صعبة فبالرغم من انه بدأ دراسته بقفزة مدهشة تخطى بها مرحلة الطفولة المعدومة من وسائل التعليم الى باب مدرسة تعادل في مستواها مرحلة الاعدادية ، فقد ابدى فيها ذكاء خارقا وقدرة عجيبة على تخطي المصاعب ومشاعر الالم النفسي والخوف الامني فحصد فيها كل الجوائز التي كانت تعطى للمتفوقين ثم خرج بمرتبة الشرف الاولى وهو لا يزال في السابعة عشر من عمره . وفي سنه هذا بدأ دراسة الطب لينال بعدها درجة الدكتوراه وهو في الخامسة والعشرين من عمره .
الايمان بالعقل والثقة بالنفس
قيل ان تردي الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاناها القرن الذي عاش فيه والبلد الذي انتمى اليه قد ساق فرويد الى الاحساس العميق بعدم جدوى الارتكان الى الانساق الاجتماعية او التقاليد والاعراف السائدة او الجو العام المشحون بما تشعه القوى السياسية السائرة على النحو المعادي للشريحة التي ينتمي اليها ، وان الخلاص انما يكون في التحرر الاخلاقي للانسان واعتناق دين اخر جديد ، ركائزه العلم ودستوره علمانية يسودها منطق العقل ، وان فك رموز ظواهر الوجود انما يتم بايدي المختصين في انواع العلوم وتجاربهم .. لقد كان يبدي اعجابا وتاثرا واضحين بقصيدة لجوته ينادي فيها الطبيعة لتفتح له ابوابها المغلقة ونوافذها المطلة على الحقائق التي ظنها الانسان اسرارا لاقبل له بمعرفتها ، لقد كان يرى ان الوجود ليس الا لعبة الغاز فكرية ، فعقد العزم على حلها ، اذ ان مالديه كفيل بإنجاز مهمته بكل تأكيد ، انه الذكاء الخارق ...
.. ودفع بحدود دائرة اهتماته الى الابعد لتشمل مواضيع اخرى متفرقة منها علوم النفس والفلسفة والادب والاساطير القديمة ، كان يستشعر في نفسه ميلا طاغيا وتعطشا شديدا لارتياد مجالات المعارف الانسانية فضلا عن العلوم الطبيعية التي تلقاها في دراساته
اللاشعور.. وهل كان مجهولا
عندما يقول علماؤنا المختصون في علوم النفس ان فرويد مكتشف اللاشعور، فانهم لا يعنون بذلك عدم معرفة غيره بان له دورا ظاهرا في حياة الشخص و تاثيرا كبير على سلوكه ، ولم يعنوا ان الفكرة قد خرجت من رأسه كما تخرج من رؤوس آلهة الاولمب ، او انها كقصيدة كوليردج التي كتبها - حسب قوله - تحت تاثير حلم رآه اثناء منامه ، فقد كان اللاشعور معلوما لدى المفكرين منذ ايام افلاطون وارسطو ومن جاء بعدهما بل وهناك من المؤلفات الصريحة التي تناولت الموضوع في شيء من الاستطراد ،
شوبنهور والإرادة المختفية
وان من المصادر التي كانت تدور في اوساط الفكر ايام فرويد تلك التي تضمنتها افكار شوبنهور و نيتشه ، باسناد أدوار رئيسية للاشعورويمكن ملاحظتها في سلوك الانسان وتفكيره - والعالم كله عند شوبنهور لم يكن الا الرداء الظاهري لـ (الارادة العمياء ) ، تلك الارادة التي لم يكن همها سوى الانتصار على الموت عبر سلسلة من التغيرات المادية والعضوية نحواستحداث اشكال حياتية متميزة ، لها من الكفاءة والقدرة على اجتياز مطبات الهلاك واكتساب قدرات الملائمة والتكيف والتطور ، وكل هذه الصور تجليات ظاهرية لقوى مخفية تدفع بالإنسان والحيوان نحو سلوك يحقق لها الانتصار ، لقد اعتقد شوبنهور ان جسم المرأة ليس جميلا ، ومن الخطأ اعتبارها جنسا لطيفا ، فما الجمال الذي نراه فيها الا وليد رغبة جنسية وحاجة بدنية ولدتها الارادة الحرة تلك ، حينما اختطت لها طريقة التزاوج والتناسل والانجاب ، ولو تمعنا في تفاصيل جسمها لوجدنا عدم التناسق اوالانتظام ظاهرا فيه بوضوح ، فهي ظامرة الكتفين ضخمة الورك والحوض والفخذين وقصيرة الرجلين ... لقد كان تفسيره هذا مبنيا على طريقة التحليل النفسي ومفهوم الغريزة واثارها في اللاشعور- ولسنا في حاجة الى الرد على شوبنهور بقولنا ان فكرته هذه هي ايضا ذات منشئ نفسي اراد بها رد الصفعة التي وجهتها له امه حينما قام بزيارتها في محل سكناها ، فالقت به متدحرجا من اعلى درجات السلم الذي كانا واقفين عليه ، اذ لم تكن على علاقة جيدة به واعلمته مرات عديدة اشمئزازها منه ، وان لديه شخصية لا تحتمل ، هذا فضلا عن الاخفاقات الاخرى في تجاربه مع المرأة بشكل عام ..
نيتشه أستاذ التحليل النفسي
اما نيتشه فقد كان كعالم نفس واستاذ في قاعة محاضراته ، يلقي دروسا على تلامذته ولا يبخل عليهم بنصائحه ، ينفخ في رؤوسهم ما يحرك الرغبة الكامنة في أعماقهم الى (امتلاك القوة) دون ان يحسوا بها ، وليكسروا اغلال الوهم الذي يرين على عقولهم ، وينظروا الى الدنيا على حقيقتها كميدان معركة يُسحق فيها الضعيف الخائف الجبان ويبقى القوي البطل المقدام .
ومما قيل عن نيتشه انه قد اكتشف اللاشعور وتاثيره على السلوك وتحدث عن اللذة والالم واليات التسامي والكبت وقد جاء بمصطلح ( الهو ) بنفس المفهوم الذي قاله فرويد .. الى غير ذلك من المفاهيم المعتمدة في نظرية التحليل النفسي عند فرويد
لقد نفذ ببصيرة ثاقبة الى منشأ الاخلاق والأعراف في المجتمع فوجد ان من يمتلك مقادير القوة والقدرة على الفتك بالضعفاء ، اقام لنفسه عرش رياسة وسلطان على – الضعفاء من - الناس ، ومبادئ اخلاق فرضها عليهم ليعزز بها وجوده وسلطته .
اما الضعيف فلم يكن له الا الرضوخ والاستسلام وقبول شروط العيش في عبودية وخذلان وهوان . اما مشاعر عزة النفس وكرامة الانسان ولزوم الثورة على المستبد والانتصار عليه فقد دفعها الى الأسفل لترسوا في قاع العقل تحت أمواج الإرادة والشعور فتقبع مطمورة تحت ركام السنين المتوالية ، والنسيان المريح ، والانشغال بمستلزمات الحياة فيرى ان الحالة التي هوعليها صورة صحيحة لنظام اجتماعي صاغته يد الطبيعة كأنسب ما يكون عليه النظام ، فليس من المعقول ان يولد الناس اجمع على صورة متماثلة ودرجة واحدة ، بل لابد ان يكون فيها سيد وعبد وغني وفقير وتاجر وعامل وفلاح .. فلولا هذه الفوارق لما كان بإمكان الحياة ان تستمر والحضارة ان تتقدم والانسان ان يعيش .
لقد ابدع نيتشه في وصف هذه الديناميات المتحركة واليات النفس العاملة في الأعماق وبين ان تحت الركام هذا بركان يفور وحمم من النار توشك ان تنفلت لتطفوا على صور ورموز من الرفض والاستنكار كأن يرفع العبيد شعارات يدعون بها الى إقامة النظم الديمقراطية وانشاء الاحزاب المعارضة الساعية الى ازاحة السلطة الغاشمة بقوة صناديق الاقتراع .. وربما صعّدوا من شدة رفضهم الى ثورات ، اسماها نيتشه بـ ( ثورات العبيد ) .
ومن الاليات التي تعمل في أعماق المستعبَدين الاذلاء تلك الصور التي يبررون بها ما يعانوه من ذل وضعف وخنوع في صور من الفلسفات او الأديان التي تمجد اخلاق العبيد وتجعل من مسامحة المسيء والصبر على من يؤذيهم وقبول الرضوخ له .. والايمان بعالم آخر وحياة لاحقة غير التي نعيشها في الدنيا وان لهم ربا سيجازيهم ويكافئهم ويقتص من المسيء لهم ويرفعهم الى اعلى درجات النعيم .
(( نستغفر الله تعالى ونبرأ اليه من الالحاد ، ولا يسعني الا الإشارة الى تعدد النظريات التي خرج بها مفكرونا ( الملحدون ) كل يرى صحة تفسيره فمنهم من يرى ان مفهوم الاله قد جاء من طريق شعور الانسان بالعجز وافتقاره الى من يحميه ، ومنهم من يرى ان جهل الانسان بعلل الحوادث وقوانين الفيزياء هو ما دفعه الى افتراض اله مسبب ، ومنهم من يرى ان عوامل الاقتصاد وسيادة الطبقات المستغلة قد عملت على إشاعة المفاهيم الدينية التي من شانها قبول الطبقة المستغَلة بالرضوخ لمن استغلهم وقبول ما فرض عليهم من النظام ، ومنهم من رأى ان أحلام النوم التي مر بها الانسان منذ بدايات وعيه قد دفعته الى الاعتقاد بان ما كان ما يراه في مناماته من تجوال وتنقل الى أماكن بعيده ، وهو باقي في المكان النائم فيه ، انما بسبب تنقل روحه المفارقة لجسده ومن هنا خلق مفهوم الاله .. الى غير هذه من التفسيرات كالذي جاء به فرويد وسناتي على ذكره بعد قليل باذن الله ... ولا بد من ذكر ان مسالة الالحاد والايمان لا تحددها مكتشفات العلم وما يمر به من مراحل تطور، فان من علماء الفلك والفيزياء وباقي العلوم مؤمنون ، مثلما ان منهم من ملحدون .. ولعمري هذا ما صرح به احد اعلام الملاحدة المعاصرين من العلماء في مناظرة منشورة على الانترنيت حينما استشهد على صحة مقولته هذه بالآخرين المؤمنين من زملائه العلماء ))
لقد تغافل فرويد عن ذكرهما وكأنه قد بنى افكاره على هدي من تجاربه الخاصة ، الا ان ما ظهر لاحقا من الوثائق قد اثبت العكس وانه قد اطلع على ما جاء في فكر نيتشه ، منها الرسالة التي وجهها الى صديقه ( ارنست جونز ) يعترف فيها بالاثر الكبير الذي احدثه نيتشه في نفسه وفكره .
الاحلام وتفسيراتها
اما عن الاحلام وتفسيرها ، التي اولاها التحليل النفسي الفرويدي اهتماما كبيرا باعتبارها من انشطة النفس البشرية وتعمل ضمن السياق العام للهيكل الذي بناه فرويد وتعتبر من المصادر المهمة في فهم النفس ومعالجة امراضها ، فقد لاحظ العلماء انها من الامور التي تعارف عليها الانسان منذ اماد بعيدة ، ومن الدلائل القديمة ، تلك التي حدثت في الالف الثالث قبل الميلاد حينما كان خادم إله احدى البلدات ، الملقب بـ ( انسي) يتلقى تعاليم الهه عن طريق احلام تتراءى له بعد اجراء طقوس محددة ، وقد اشتهر هذا الخادم برؤيا كان من نتائج تأويلها ان قام باعادة بناء هيكل الاله الذي كان متداعيا وآيلا الى الانقضاض . واتخذ ابو خذ نصر مفسر احلام خاص به وقد اعانه هذا الاخير على استعادة حلم نسيه الملك وظن انه مهم وينبغي عليه تذكره ..
ولقد طرأ على مفهوم الاحلام وتأويلاتها الكثير من المفاهيم عبر مسيرة الانسان على طريق الخبرات المتراكمة والمعارف المتنامية والمدنيات المتطورة .. وربما كان العرب هم الاكثر اهتماما بظاهرة الاحلام ، وقد ابدعوا في الاشارة الى المصادر التي يمكن ان تكون سببا في حدوثها لدى الانسان ورأوا انها من فعل قوى خارقة ، منها الالهة والشياطين والقوى الشريرة .
ولعلمائنا العرب المسلمين كثير من المؤلفات التي توسعوا فيها بدراسة الاحلام وتاويلاتها وقد اجادوا في شروحاتهم وبحوثهم عن مصادرها وبينوا لنا ان منها ما يصدر عن اسباب بدنية بما فيها اضطرابات البطن مثلا او تجارب يومية مررنا بها ، ومنها تلك التي تقذفها الشياطين في قلوبنا او النبوءات التي توحيها ملائكة الرحمن الينا والى الصالحين منا عند النوم ،
وظهرت تفاسير عديدة قبيل قدوم فرويد تميزت بفكرة عامة مفادها ان الاحلام مرآة لأخلاق الانسان وطبائعه ، فسلوك الشخص ومنحاه الخلقي عند شوبنهور يتوافقان مع شخصية النائم وخصاله ، وعلى هذا التصور وردت تفسيرات علماء اخرين منهم ( فشر ) و ( شولز ) و ( فخته ) . الا ان جديد فرويد في مسالة الاحلام هو ربطها مع منظومة اللاشعور واليات النفس عند الانسان واعتبارها طريقا ملوكيا للولوج الى اعماق النفس والوقوف على حقيقة سلوك الانسان ومنشأ امراضه النفسية ومفتاح العلاج . فهي في دور من أدوارها ( تحقيق مقنع لرغبة مقموعة او مكبوتة ) .
النظرة الجديدة
لقد جمع فرويد كل ما لديه من الخبرات والمشاهدات والمعارف والمعلومات ، تلك التي تراكمت لديه وهو يشاهد ويطالع ويمارس العلاج بمشاركة اخرين او وحيدا بمفرده ، وصاغ منها نظريته الجديدة المتميزة عن كل الذي شاع عند الاخرين من العلماء العاملين في مجال العلاج النفسي فقد اهمل التركيز على الجانب الواعي من شعور المريض و ركز على المدفون في القعر .
وقد استعار فرويد تصور ( فخنر ) للعقل حينما رآه كجبل الثلج الطافي على سطح البحر، جزء منه ظاهر شعوري واخر مخفي لا نشعر به ، فجعل فرويد الشعور الظاهر جزء صغيرا طافيا اما الاكبر فمخفي تحت السطح ، وان من يحرك الجبل هذا ويدفع به ، هو الأمواج العميقة المتحركة بقوة جارفة واندفاعة هائلة، تهون معها الرياح المتحركة فوق السطح وكأنها انسام عابره على قمة جبل يرسخ في ارض صلبة لا سطح ماء.
من هناك في عمق اعماق العقل تقبع طاقة ولدتها عمليات الغذاء والايض اسماها فرويد بـ ( اللبيدو ) تلك الطاقة النفسية المرنة المتجهة الى أي نشاط بدني نفسي في عموم جسم الانسان ، تتحرك وفق نسق ونظام وتناغم وتعاون ، ان اضطرب اصاب النفس اضطراب ومرض وان انسجم واستوى فتلك لحظات ينعم صاحبها بسلوك سوي متزن وراحة نفس يغبطه عليها المجتمع . .
مكمن العبقرية وسر الابداع
وهنا مكمن عبقرية فرويد وسر ابداعه ومن هذا القعر خرجت نظرية التحليل النفسي ولمع اسم فرويد كصاحب اكمل هيكل او نسق نفسي ، تتحرك في مساربه طاقة ( اللبيدو ) وفق ديناميات واليات لها من المرونة والسرعة في التنقل والتحول والتسامي والنكوص والاسقاط والارتداد لتشمل فعاليات البدن كله بما فيها مشاعره واحاسيسه واحلامه ، المشعور بها او اللامشعور .
الشعور ، ما قبل الشعور ، اللاشعور
كيفيات الشعور عند فرويد ثلاثة ، القسم الذي نحس به وكأنه احداث فلم سينمائي تتوالى صوره على شاشة وعينا فهو ( الشعور ) ، وما مرّ منه ولم يعد ظاهرا فذاك الذي اسماه بـ ( ما قبل الشعور ) اذ في الإمكان استرجاعه الى ساحة الشعور .. اما الاحاسيس والرغبات والدوافع المنبعثة من داخل الجسم ( الدوافع الغريزية البدائية الجنسية والعدوانية ) والمتجهة الى الأعلى نحو السطح طالبة من الانا ان يتولى عملية اشباعها ومنحها ( اللذة ) فهي تتعارض في مراميها مع معايير المجتمع الخلقية والاجتماعية والدينية وليس امام ( الرقيب ) ذلك الجزء الغير المشعور به من الانا ، الّا صدّ اندفاعتها وردها لتترسب في قاع ( الهو ) غير مشعور بها مع انها باقية على شحنتها وسعيها للانفلات من جدار المنع وقد تنجح في الظهور تحت اشكال مموهة من مظاهر سلوكية ، منها سامية يرتفع فيها شان صاحبها فيكون فنانا مبدعا او وطنيا بطلا او مكتشفا فريدا او سياسيا لامعا الى ما هو غير ذلك من صور تبعث على فخر صاحبها واعجاب الناس بها ، ومنها صور تهبط بصاحبها الى مدارج الانحطاط والانحدار او الانحراف والهستريا والجنون ، الى غير ذلك مما يبعث على اشمئزاز الاخرين ونفورهم .
من كل هذا تكون القسم الذي اسماه فرويد بـ ( اللاشعور) .
موارد اللاشعور وتكوينه
في منطقة اللاشعورهذه تجتمع الموارد الآتية ارثا مع البدن عند الولادة متمثلة بالغرائز التي اجاد علماء الفسيولوجيا في تبيان اعدادها وانواعها ، منها الحاجة الى الغذاء والتنفس والتناسل والتبرز والى كل ما من شانه الحفاظ على حياته وديمومته ، مع تلك التي دفع بها الرقيب الى الأسفل وحرمها من الا شباع .. فتكون ( هذه المنطقة ) القسم الذي اطلق عليه فرويد اسم ( الهو ) باعتباره واحدا من البنى الأخرى المكونة للنفس البشرية بشكل عام - ( الهو ) و( الانا ) و ( الانا الأعلى ) – انه ( الهو ) يعمل وفق ( مبدأ اللذة) واشباع الحاجة دون اعتبار لأي خلق اجتماعي او منطق عقلي او واقع مفروض يلزم الغير بالامتثال .
اما الطاقة المحركة لكل الآليات العاملة في هذه المنظومة المعقدة ، فقد اُستمدت مما خلفته عمليات الغذاء والايض في البدن انها ( اللبيدو ) تلك الطاقة التي بالإمكان اعتبارها ( الجوهر السحري) الدائر في انفاق الهيكل النفسي الذي بناه فرويد، والظاهر في اشكال السلوك الإنساني كله ، في صحة النفس او مرضها ، وفي عمليات العقل ونشاطاته ، في أحلام الانسان وجنونه وفي ابداعه وفنونه وفي بناء الحضارة وصناعة التاريخ ... انه المنصة التي وقفت عليها عبقرية فرويد .
ولا بد هنا من الإشارة الى ما لاحظه فرويد من اليات أخرى عاملة في منظومته لا تتحدد بمبدأ الاشباع واللذة ، منها ظاهرة ( تكرار الخبرات المؤلمة ) كتلك التي شاهدها عند مرضى نفسيين ، فهي تتكرر عندهم تحت تاثير دافع قوي ملزم ، وبدون ان تشبع لديهم حاجة او تمنحهم لذة ، مما دفع بفرويد الى الاعتقاد بوجود دافع غريزي اكثر بدائية وفطرية من مبدا اللذة يعمل في منطقة ( الهو ) واسماه بـ ( اجبار التكرار ) .
وهناك آليات أخرى تعمل في هذه المنطقة (اللاشعور) ليس من أهدافها الحصول على اللذة بل الرجوع الى حالة ( السكون ) التي هي الأصل في وجود المادة قبل ان تتطور الى الاعقد ، وتدب فيها صور الحياة ، تلك التي اطلق عليها اسم ( غريزة الموت ) .
فعمل هذه الغريزة – داخل الجسم – هو الهدم وانهاء الحياة على عكس الغريزة المقابلة ، تلك التي تدفع بمكونات الجسم والنفس الى التآلف والتطور والبقاء ..
فالموت عند فرويد هو الهدف الذي تترسمه كل حياة ، ونحن مقدرون به ، فهو حتمية بيولوجية ونفسية ... وان الحركة التي تضطرب بها الحياة ليست على دوام واستمرارية بلا توقف بل هي عائدة الى حالة الثبات والموت والسكون ( انه قانون يحكم المادة والطاقة ومظاهر الكون ) لقد تعلم فرويد هذا المبدأ منذ أيام طفولته فقد كانت امه مؤمنة بان الانسان مخلوق من التراب وعائد اليه ، وكانت تستشهد على ذلك بفرك يديها حتى تتخلف فتائل سود ... انها من ذرات التراب المكونة للجسم
ولقد تنبه الى الظاهرة هذه مفكرونا حتى دارت على السنة الكثير منا اقوال تشير الى المعنى نفسه .. منها ( ان الحياة طريق دائري الى الموت ) و ( ان عملية الحياة هي عملية موت ) , (وان الكائن الحي كرجل سيرك يمشي على خيط ممدود بين الحياة والموت كلما طال سيره وازداد عمره ، قصر اجله واقترب من النقطة ينتظره فيها الموت والهلاك ) .
ولابد لنا في نهاية الامر من الإشارة الى دور ( الانا الأعلى ) ذلك الجزء الفاعل في عمليات النفس ، اذ اختزنت في هذا الجزء خبرات الطفولة والاوامر التربوية التي تلقاها الطفل في ضبط اندفاعاته الغريزية والسيطرة على أعضاءه الجسمية ومناطقه الشبقية ، والصورة المثالية للوالدين وسلطانهما عليه ، والتربية الاسرية ذات التوجيهات المسايرة للاعراف الاجتماعية السائدة والقيم الخلقية المحمودة ، لتكون في نهاية الامر ( الضمير ) بما يملكه من سلطان وتاثير على شخصية الفرد كلها بما فيها ( الانا ) ذاك الجزء الذي تولى امر إدارة الجسم والتصرف فيه ، في معنى مقارب لما ذهب اليه افلاطون بما معناه ان ( شهوة البطن وعاطفة القلب كحصاني عربة تقودهما حكمة الرأس ) ، و ( الهو ) الساعي الى ما يحقق أهدافه في تفريغ شحناته وارضاء رغباته واقتناص اللذة ولو على حساب الصحيح والمقبول من السلوك ، فمن منا من لم تلذع قلبَه سياطُ ضميره ، وتؤرقه وخزاته المؤلمة ، اذا ما ارتكب جرما ، فلا يهدأ له بال الا بالرجوع عن تجاوزه وطلبه المغفرة من سلطان الله المتربع على عرش ( الضمير ) .
ولقد راى فرويد مشاهد سلوكية عند مرضى تجلت فيها اليات مرضية كان السبب فيها سلطان الضمير ، منها احاسيس غامضة عن ترقب وتجسس ومراقبة وترصد ، وهلوسة وظنون باصابع اتهام موجهة ، وتهديدات بعقاب شديد سيحل بكل تأكيد ، دون ان يكون لها مصدر حقيقي خارج رؤوسهم .. وكم من مريض كان يلجأ الى عيادة الطبيب النفسي يشكوه من أولئك المطاردين له والمتربصين به ، فيعرف الطبيب انها اعراض مرض نفسي وليس هناك تهديد خارجي ، بدليل ان المصاب نفسه لجأ اليه لا الى مركز الشرطة ، لإحساسه العميق بحقيقة ما يعانيه .
انها النظرة المغايرة
كانت عبقرية فرويد وابداعة في استحداث طريقة علاج نفسي مغايرة لما كان مالوفا لدى أطباء النفس ، فهم يسلطون أضواء الفحص على الجوانب الشعورية من الانسان ، اما هو فيهبط الى الأعماق واغوار اللاشعور بعد ان اكتشفه مع استاذه ( شاركو ) عندما لاحظا ان مصابي امراض الهستيريا يتماثلون الى الشفاء اذا ما تذكروا احداثا كانوا قد نسوها واعيدت الى وعيهم تحت تاثير التنويم المغناطيسي الذي اشتهر به شاركو ومارسه ردحا من الزمن بعده فرويد . ولقد انكر كثير من أطباء النفس ، وجود اللاشعور واعتبروه مناقضا لحقيقة العقل والمنطق، وتعرضت نظريته للسخرية والنقد ، انه حال العبقرية عندما تخرج على الناس بما لم يألفوه ..
وليس هذا كل السر، بل ان الهيكل النفسي الذي بناه ، واليات العقل الفاعلة داخل الهرم ، واللبيدو المتحرك في صور تبعث على الاندهاش والانبهار وفق آليات (الكبت) و (الاسقاط ) و(التكرار) و(الارتداد) و(التثبت) و(النكوص) و(التقمص) و(التسامي) وغير ذلك ، استوعب فيها كل ما من شانه ان يقدم تفسيرا وتعليلا للظواهر الفردية والجماعية والمظاهر الحضارية والاجتماعية بما فيها من المنتجات الثقافية والفلسفات والفن والادب والأعراف والأخلاق والاديان حتى قيل ان نظريته ، كلها كانت مبعث فخر لرجل امتلك كل مقومات العبقرية بما فيها مزايا الهمة العالية والإصرار القوي العنيد ، وقوة الملاحظة وشدة الذكاء وسعة الاطلاع ، ولعل غزارة انتاجه الفكري الذي حضي باعجاب قارئيه سواء بالمضامين التي جاء بها او الأسلوب النثري الرائع ، واجادته للغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والاسبانية ، ومنحاه الفلسفي ومنهجه العلمي الذي اسبغ على نظريته صفة الشمولية وهيكل الأيديولوجية ، شواهد شاخصة تحمل اسم هذا الرجل وهي تمتد على طول الدرب الذي سار عليه عباقرة العالم.. لقد احدث فرويد انعطافة حادة في تيار الفكر العام ومسيرة التطور الحضاري للإنسان .
لقد كان فرويد من سعداء الحظ اذ ارتفع نجم عبقريته مبكرا – بعد رفض واستنكار واستغراب واحتجاج - والتمّ حوله علماء كبار، و وتاثر به مفكرون وفنانون وسياسيون .. وصار له تلاميذ ومريدون وترك تراثا يشهد له بالعظمة والتأثير على من جاء بعده في نواحي الفكر اجمع .
لقد شاهد شوبنهور بعينيه اصحاب المحلات يستخدمون اوراق مؤلفه العزيز على نفسة ( العالم ارادة وفكرة) في لف قطع الجبن التي يبيعونها لروادهم ، فاحس بمرارة تجاهل المثقفين للكتاب واستخفافهم بمضمونه وقيمته ، في وقت كان يعتقد انه قد فسر فيه حقيقة العالم والوجود وان ما ينتظره من الاصداء شيء كبير و سرور عظيم وشعبية قد تفوق تلك التي ينعم بها معاصره هيجل ، ولم ينل من الشهرة ومعرفة الجماهير به الا في نهاية رحلته من العمر

العبقرية والوهم


وللمقال بقية بإذن الله


قديم 06-28-2014, 10:29 PM
المشاركة 2
خالد البلوشي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الأستاذ الفاضل فارس كمال محمد

بدايةً مُبارك عليك شهر رمضان الكريم .. أسأل الله أن يتقبل منك صالح الأعمال .. و أن تكون من العتقاء فيه ..

و بعد : سجلني هنا متابعٌ لك .. جئت لأضع وردة تليق بك و بما كتبت ولابد لنا من الوقوف و التعمق أكثر

دمت بحب ..



الأَفكارُ مُعْفَاةٌ مِنَ الضّرِيبَة.

" كامدن "

*
twitter : @k4rak

قديم 06-29-2014, 10:02 PM
المشاركة 3
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
استاذنا الكبير خالد البلوشي المحترم
شرفتنا بزيارتك واسعدتنا بمرورك وان الوردة التي وضعتها في صفحة المقالة هي رضاك عنها ، ومع ان الرضا النهائي مشروط بوقوفك وتعمقك ، فان لمرورك اثرا كبيرا علي ، ورؤيتي لك يا أستاذي خالد البلوشي رؤيتي لكاتب اصيل مبدع ، لك في الوجود وجهة نظر ومن المعارف نصيب كبير يعينك على قول الذي تريد قوله
وتختط لنفسك منهجا خاصا ، وترسم صورة تليق بك ، ولا ترضى ان تكون من مثل كثير من كتاب الانترنيت ، يلتقطون الكلمة المنشورة والخبرالطارئ فيقدموه على انه من بنات أفكارهم وصيد ابحارهم .. وربما دليلي الأكبر على صدق رؤياي فيك ، انتماؤك الى هذا المنتدى العظيم فرواده كلهم مبدعون اصلاء ولهم في الفكر صولات وجولات ، وقد صح المثل ( الطيور على اشكالها تقع ) و ( شبيه الشيء منجذب اليه ) .. ولن اكتمك سرا اني لم انتمِ لهذا المنتدى الّا للتعلم منه وساكون رابحا حينما اتابع نتاجاتك وابداعاتك وتطورك ورحلتك الموفقة ان شاء الله
كل عام وانتم بخير وتقبل الله الطاعات


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: فرويد العبقري الواهم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 50 09-04-2017 03:26 PM
مهمة فرويد .. تحليل لشخصيته وتأثيره - أريك فروم د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-02-2014 09:56 PM
آرا في أشهر الآراء : سيجموند فرويد (تفسير الأحلام) .. أحمد الورّاق منبر الحوارات الثقافية العامة 18 04-27-2012 10:58 PM
** "أوديب" .. خرافة يتبناها فرويد سحر الناجي منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 7 04-26-2011 12:22 AM

الساعة الآن 01:05 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.