احصائيات

الردود
26

المشاهدات
4610
 
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


عمرو مصطفى is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
417

+التقييم
0.12

تاريخ التسجيل
Nov 2014

الاقامة
مصر

رقم العضوية
13385
04-29-2019, 04:13 PM
المشاركة 1
04-29-2019, 04:13 PM
المشاركة 1
افتراضي قردة وخنازير (رواية)
تهميد

(في البدء كانت الفكرة)

اجتمعوا في قبو أحد القصور المهجورة..
تسعة متشحين بالسواد، يرتدون أقنعة بيضاء و يجلسون حول طاولة مستديرة عليها شموع بعدد الجالسين..
هذه ليست حفلة تنكرية، وليست جلسة لتحضير الأرواح .. حينما تنصت لما يقولون ستدرك أن هذا اجتماع لإحدى الحركات السرية..
قال كبيرهم :
ـ بسم المهندس الأعظم لهذا الكون، نفتتح الجلسة..
عطس أحد الجالسين فطار قناعه وكاد يطفئ الشموع.. حدجه كبيرهم من وراء قناعه بنظرة حادة.. لو انطفأت الشموع لفروا أجمعين..
ضحكة رقيعة أفلتت من أحدهم فازداد الموقف سوءاً.
كل ذلك كان يجرح جو الرهبة الذي تعمدوا بثه في ذلك الاجتماع..
لكن لا بأس.. فكل الحاضرين من الشباب.. وغداً حينما يعرفون مدى المسئولية الملقاة على عواتقهم فسيودعون نزق الشباب للأبد ..
بعد برهة عاد السكون يغلف المكان، وواصل كبيرهم الكلام :
ـ إن العالم يسبح في الفوضى مذ نشأ.. لأن مقاليد الأمور توسد إلى العقليات الرجعية التي تقدس الظلام ، وتكره النور.. لقد قضيت ليلة أمس مفكراً في إيجاد حل لمأساة عالمنا.. العالم مقسم لدول وممالك متباينة فيما بينها من حيث اللون والجنس والدين.. وهذه الاختلافات الثلاث كانت أحد الأسباب الرئيسة في النزاعات والحروب التي جرت بين الأمم على مدار التاريخ.. ولقد حان الوقت لمحو كل تلك الأسباب التي تعيق التعاون والتآخي بين البشر..
وجال فيهم ببصره قائلاً :
ـ لاحظوا أن بيننا يهود ومسيحيين ومسلمين وهندوس وبوذيين.. بيض وحمر وصفر وزنوج .. هذا ليس متحفاً للأجناس أو مجمع للأديان.. نحن هنا لنعلن للعالم أن المرء أذا أراد أن يزيل الغشاوة التي على عينيه ويبصر النور الحقيقي، يمكنه أن يسمو فوق الجنس واللون والدين.. يمكنه أن يندمج في عمل جماعي يرتقي بالبشرية كلها..
ثم استطرد :
ـ إن لدينا فرصة لإقامة مشروع نظام عالمي جديد.. لكن أقول لكم بصدق: أن فكرتنا لا يمكنها أن تنجح في ظل الحكومات القائمة اليوم.. لذا..
وضرب المائدة بقبضته مردفاً :
ـ لابد من تدمير سائر حكومات العالم وبلا استثناء..
كاد قناعه أن يسقط عن وجهه لولا أن تداركه بيده بسرعة.. تأكد من تثبيته جيداً ثم عاد ليواصل الكلام لكن بحماس أقل:
ـ فقط ينقصنا لتحقيق ذلك الهدف السرية التامة.. والتمويل.. وحتماً سنجد بعض السادة الأثرياء من الهواة ومحبي الغموض والإثارة.. فمثل هؤلاء يغدقون الأموال على حركات سرية بعدد شعر الرأس.. لكن ليس بين هاته الحركات من يرقى إلى عقولنا كاملة الاستنارة..
تدخل أحد الأعضاء قائلاً:
ـ اسمح لي أيها الأستاذ الأعظم.. فأنا لدي عم عجوز وثري وليس له وريث غيري..
ـ هذا النوع لا يموت ميتة طبيعية غالباً.. لأن الوريث المنتظر حتماً سيفتقر إلى الصبر..
قال العضو بلهجة ساخرة :
ـ أنت تقرأ أفكاري أيها الأستاذ الأعظم.
ـ وأنهاك كذلك عن التصرف بحماقة حتى لا تخسر ثروة عمك.. وربما حياتك نفسها حينما تعلق في حبل المشنقة.
تحسس العضو عنقه لا إرادياً على حين عاد الأستاذ الأعظم يواصل حديثه لبقية الحضور.. قال:
ـ وإلى أن نجد الممولين المناسبين لهذا المشروع الكبير فسنقسم الآن جميعاً على المضي قدماً في هذا المشروع مهما كلفنا من تضحيات.. ومهما واجهتنا من عقبات..
تنحنح أحدهم.. ثم تساءل :
ـ معذرة أيها الأستاذ الأعظم.. ولكن لماذا أغفلنا العنصر النسائي في تنظيمنا هذا.. فكلنا هنا من الذكور.. وهذا منافي لنظرتنا التقدمية التنويرية.
وانبرى ثان قائلاً :
ـ هذا سيظهرنا بمظهر الحركات الذكورية الرجعية.. وستسود صورتنا أمام بقية الحركات السرية المنافسة.
رد كبيرهم قائلا:
ـ مازال أمامنا وقت طويل حتى نجد العناصر النسائية المناسبة للتضلع بدورهن إلى جوار الرجال.. فنحن سيكون لدينا طقوس رذيلة حتمية في المستقبل القريب.. نحن لسنا بأقل من الحركات السرية الأخرى..
ابتهج الجالسون للأخبار السارة وبدو أكثر انسجاماً.. فواصل كبيرهم بلهجة منتصرة :
ـ أرى أننا الآن مستعدون للقسم..
قالها ثم وضع كفيه مبسوطتين على المنضدة، فحذا الجميع حذوه.. بعدها قام كل منهم بوضع راحته اليمنى على يسرى المجاور له والعكس بالعكس.. فكونوا دائرة مغلقة من الأكف المتلاحمة.. عندها قال كبيرهم بصوت جهوري :
ـ لنردد معاً القسم..
هنا تحطم باب القبو وأحاط بهم جيش من رجال الشرطة مدججين بالسلاح..
نظر الأستاذ الأعظم للفوهات المصوبة إلى رؤوسهم، ثم التفت للعضو الذي تكلم عن ميراث عمه وسأله في مغضباً :
ـ أقتلت عمك؟
هز العضو رأسه نافياً في عنف.. فالتفت الأستاذ الأعظم لرجال الشرطة قائلاً في سخط :
ـ ما هذه الهمجية ؟ نحن جمعية سرية محترمة ولا نمارس أي نشاط معادي للدولة..
قال كبير الشرطة :
ـ تقصد لا تمارسون نشاطاً معادي لدولتنا وحدها.. لقد تم تسجيل كل شيء.. مؤامرتكم قد انكشفت.
صرخ الأستاذ الأعظم :
ـ خيانة..
رد عليه قائد الشرطة بنبرة ساخرة :
ـ بل هي حماقة.. فنصف أعضاء جمعيتك من رجال الشرطة.
صاح الأستاذ الأعظم متشدقاً:
ـ كجماعة محترمة لابد أن يكون لنا رجال في شتى المجالات.. لدينا أطباء ومحامون ومهندسون كذلك و..
ـ وفر هذه المعلومات المهمة لحين يتم استجوابكم.
لم يكد كبير الشرطة يتم عبارته، حتى هجم رجاله على أعضاء الحركة وطرحوهم أرضاً، ثم قاموا بتقييدهم قبل أن يسحبوهم للخارج وسط ضجيج وصراخ وتوسلات وعويل..
لكن لم ينس الأستاذ الأعظم وسط كل هذا الصخب أن يصيح برفاقه وهم يسحبون على وجوههم :
ـ غداً حينما نسيطر على العالم.. ذكروني أن أمحو هذا المشهد من ذاكرة التاريخ.
***


الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 04-29-2019, 06:31 PM
المشاركة 2
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
الشرطي

(1)

أول ما يفتح عينيه.. يطالعه شعار النظام العالمي الجديد..
صورة رمزية لقرد وخنزير كتب تحتهما :
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري!.."
إنه يدعوك للفخر والانتشاء.. يدعوك لاحتقار الأجيال السابقة التي لم تعش تلك اللحظة ولم تملأ عينيها كل صباح من ذلك الشعار..
ثم يظهر ذلك الممر المعدني البارد، ومعه عبارة :
" شرطي مكافحة التمرد.. هل أنت جاهز؟.."
قال بلا تردد أنه جاهز.. جاهز جداً.. ترسانة الأسلحة التي معه تقول هذا.. أعصابه المشدودة تقول له هذا..
ظهرت له عبارة تقول :
" في نهاية الممر ستجد غرفة على اليسار.. هناك خمسة يجتمعون للكيد لنا.. أقتل هؤلاء الحثالة البشرية. "
هتف :
ـ المجد للنخبة في الأعالي.
ظهرت له عبارة " انطلق " لكنه لم يكد يتحرك خطوتين حتى ساد الظلام ..
***
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري "
حينما قام من الفراش تعثرت قدمه في بقايا طعام الأمس.. الأمس كان حافلاً وعليه أن ينتظر فرق التطهير الألية حتى يعاوده الإحساس بأنه في وحدة آدمية وليس في حظيرة خنازير..
غسل وجهه في كابينة التطهير العضوي الملاصقة لفراشه، ثم تأمل وجهه في المرآة قليلاً.. همس لنفسه :
ـ إيهاب أنت مقبل على الحياة بلا داعي..
إنه يتقدم في السن .. لا زوجة.. لا أسرة.. لا مستقبل ..
لكن أليس هذا الوجه البائس الذي يرمقه الآن عبر المرآة هو وجه أمه؟ هذا الذبول الذي يعتريها، ليس بسبب فقدان الزوج الذي مات بالسلالي، لكن بسبب إصابتها هي أيضاً بالسلالي.. لقد حل على بدنها الهش كضيف ثقيل لا يمكنها رده.. ومع الوقت صارت روحها ضيفاً ثقيلاً علي بدنها الذي صار ملكاً لضيف الأمس..
نام نوماً مثقلاً بالهموم مفعماً بالكوابيس، واستيقظ ليجد روبوت مفزع قد حل محل والدته.. قال له بلطف ألي: أن أمه تركته ورحلت هي أيضاً إلى حيث رحل والده.. وأنه سيتولى تربيته من اليوم حسب القانون .. هكذا صار هو تربية روبوتات.. وحمد الله على أنه كان قد فطم، فلم يضطر للرضاعة من روبوت.. يتذكر هذا وهو يضحك.. طبعاً نشأته في كنف روبوت محترم أهلته للالتحاق بشرطة مقاطعة إلوسيوم.. هذا لم يحلم به والديه.
أن تثق فيك النخبة وتقبلك في صفوف شرطييها، فهذا يعني أنك صرت مواطن نخبوي من الطراز الأول..
يداهمك هذه الأيام إحساس غريب بأنك مفتقد لشيء ما.. هل هو فقدان الوجهة والهدف؟.. كيف وأنت تعمل من أجل رضى النخبة الأممية؟ أليس هذا هدف سامي بحد ذاته .. إذن ما سبب هذا الإحساس؟ .. قديماً كانوا يقولون هذه وساوس شياطين، لكن النخبة الأممية حسمت الأمر في ميثاقها.. لا وجود للشياطين على الحقيقة في هذا العالم، وإن كانت الأديان قد ذكرت الشياطين في كتبها فهذا من قبيل الرمز .. فوسوسة الشيطان ترمز لرغباتنا السيئة والمكبوتة، وعلاجها الوحيد هو جلسات البرمجة اللغوية العصبية في الوحدات النفسية.. في بعض الحالات يتحول المواطن بسبب تلك الجلسات إلى نوع جيد من النبات .. لقد فكر إيهاب في تجربة تلك الجلسات كثيراً، ثم قرر أن يؤجلها إلى حين يقرر التقاعد من الحياة..
فيما بعد قرأ عن مذهب فلسفي يسمى العبثية وقد راق له كثيراً.. إنه سيزيف أخر لا يكل ولا يمل من العبث بدحرجة الصخرة عالياً وهو يعرف أنها حتماً ستعاود السقوط.. العبثية هي قانون هذا العالم ..
إذن سيظل منطلقاً في عالمه، كرصاصة مجهولة المصدر، إلى هدف غير معروف.. لا يهم إلى أين ومتى.. إنه بانتظار الارتطام العظيم والانفجار المروع.. ثم لا شيء..
غادر كابينة التطهير، وفتح المرئي فطالعته المزيد من الإعلانات..
الإعلانات معظمها عن رحلات لعوالم افتراضيه .. رحلات صيد في البراري الافتراضية، وكذلك رحلات فضائية لاستكشاف الكون عن طريق كبسولة المحاكاة ..
المواطن من الشريحة جـ لا يظفر بالحقائق غالباً، بل بالمزيد من العوالم الافتراضية ..
عليك فقط أن تقوم بتحميل البرنامج المعلن عنه، عن طريق شريحة التواصل المزروعة خلف أذنك، ثم تدخل في غرفة مظلمة وتضع عصابة سوداء على عينيك.. بعدها ستجد نفسك تسبح في المستنقعات وتدخل رأسك بين فكي تمساح.. أو تلمس النجوم.. يمكنك أن تقود جيوش الإسكندر، أو تهزم نابليون في واترلو.. يمكنك أن تدمج أشياء من ذكرياتك وواقعك الكئيب بالعوالم الافتراضية في محاولة لتغييرها للأحسن على طريقة ماذا لو الشهيرة..
ومقابل ذلك تدفع المزيد من العملة الافتراضية، التي تتسرب عبر شريحتك الائتمانية المزروعة تحت إبطك.. تتسرب كالتبول اللاإرادي..
لماذا يلجأ المواطن من الشريحة جـ للعوالم الافتراضية مادام يحيا في ذروة المجد البشري؟
هذا السؤال ببساطة يعد نوع من التجديف..
كذلك ليست العوالم الافتراضية هي وسيلة المتعة الوحيدة في النظام العالمي الجديد..
في تلك اللحظة طالعت عيناه ذلك الإعلان الهام.. الليلة سيكون هناك حفل إعدام للمتمردين .. بالأمس كانت سهرة ممتعة.. بث مباشر من هيدز التي تعج بحثالة البشر أعداء المجد..
أما اليوم فالسهرة ستكون مشاهد ممتعة لعملية الإعدام على الخازوق النيوتروني..
المتمردون لا يكاد يخلوا منهم زمان.. وكذلك الخوازيق بشتى أنواعها..
إنهم كالعادة يعتبرون أنفسهم ثوار، ويعتبرون النخبة التي تحكم النظام العالمي مجموعة من الطغاة ، وأن العالم سيصير أفضل بدونهم.. النتيجة هي سلسلة من العمليات التخريبية بين الحين والحين، تنتهي بسلسلة من المداهمات لأوكار المتمردين، ومن يبقى حياً بعد المداهمة يصير فرجة العالم في المساء والسهرة..
إيهاب يعتبر المتمردين جماعة تبحث عن تغيير لنمط حياتها الذي تعتبره مملاً خالياً من الإثارة.. يريدون بعض الإثارة الحقيقية لا الافتراضية.. ولهذا يسببون المتاعب لشرطة النظام العالمي ..
هل هذا نوع تعاطف معهم؟
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. ثم استعاذ بالله من استعاذته من الشيطان الذي لا وجود له على الحقيقة! .. هؤلاء المتمردون كفار نعمة.. يريدون أن يعود العالم فوضى كما كان قديماً قبل أن يوفق الله النخبة الأممية في تدشين النظام العالمي.. هكذا صرف الخاطر السيء عن ذهنه وقرر أن يواصل برنامجه اليومي الممل..
***
" أقتل الحثالة.."
تتردد الكلمة بين الحين والحين بينما يتقدم إيهاب في الممر شاهراً مسدسه الألي.
الغرفة على اليسار.. لا يجب أن ينسى هذا.. الحثالة هناك.. سيمزقهم بالرصاص.. أمامه طريق طويل لابد أن يقطعه حتى يحصل في النهاية على نجمة الوحدة .. ويصير هو الشرطي الأول..
" أقتل الحثالة.."
الباب يلوح.. عليك أن تكون حذراً يا إيهاب.. ليس مداهمة حشد من المتمردين بالأمر الهين.. كتم أنفاسه ووقف على جانب الباب.. أعد مسدسه للإطلاق ثم دفع الباب بقدمه..
لم يحدث شيء .. إنهم حذرين جداً.. أم تراه أخطأ الغرفة.. هذه أول غرفة على اليسار تقابله.. فكر في أن يعود للخلف ليتأكد.. إنه يسرح كثيراً هذه الأيام.. ذكرياته لا تتركه حتى وهو في خضم معاركه مع المتمردين..
لم يكد يتراجع بظهره خطوتين حتى برز له من الغرفة أول متمرد..
رباه أنها الغرفة الصحيحة إذن.. وبلا تردد ضغط على الزناد.. كان المتمرد ـ لحسن الحظ ـ مجرد مستكشف أعزل.. لذا فقد خر صريعاً قبل أن يفهم..
هنا فتحت أبواب الجحيم.. وابل من الطلقات انهمر عبر فتحة الباب، جعله يتراجع ملتصقاً بالجدار أكثر..
ظهرت له عبارة مساعدة من مركز القيادة " معك ثلاث قنابل يدوية"
هذا خبر سار جداً.. لكنه لا يريد استنفاذها بهذه السرعة.. إنه مازال في بداية الطريق..
لحظة.. لقد هدأت أصوات النيران.. إنهم يلقمون أسلحتهم .. إذن هي فرصتك يا إيهاب، ولتوفر قنابلك اليدوية..
أولج مسدسه عبر فتحة الباب وأفرغ خزينة كاملة.. هناك أصوات صرخات.. لكنه لم يقتلهم كلهم..
لم ترسل له القيادة تأكيدها بعد.. لقم مسدسه بخزينة جديدة ووقف مستنداً على الجدار وهو يتنفس بعمق.. لقد قتل اثنين على أقل تقدير
بالإضافة للمستكشف الأعزل.. إذن مازال هناك اثنين من المتمردين بالغرفة .. إنه يسمع تهامسهم بالداخل..
هنا سمع صوت الارتطام المكتوم.. بعدها تدحرج جسم كروي على الأرض ليستقر في النهاية بين قدميه..
لقد ألقوا عليه قنبلة يدوية !..
فكر بسرعة، هل يحملها ويعيدها إليهم أم يجري مبتعداً عنها؟..
في مرات عديدة لا يفلح في تناول القنبلة من ثم تنفجر في وجهه وترديه قتيلا.. لذا قرر سلك الطريق الأسلم.. جرى بكل قوته وانبطح أرضاً ..
القنبلة لم تنفجر.. لقد أخرجت أدخنة خضراء اللون سرعان ما بدأت تنتشر في الممر.. إنها قنبلة دخان ستخدره أو ستشل حركته.. أو على الأقل لن تجعله يرى مهاجمه الذي سيلوز بالفرار..
" معك قناع الغاز الواقي "
شكراً للقيادة.. إنهم حاضرون معه دائماً.. والفضل للشرائح الذكية التي تملأ جسده..
ارتدى القناع بسرعة ووثب قائماً وهو يشهر مسدسه.. القناع يمكنه من الرؤية كذلك وسط الدخان.. إنه يعطيه إشارات تشبه علامة التصويب على الهدف.. صوب مسدسه على علامتي التصويب التي ظهرتا أمامه وأطلق النار..
سرعان ما اختفت علامتا التصويب .. وبدأت الأدخنة الخضراء تلاشى بالتدريج..
ها هو الممر يعج بجثث المتمردين، بينما وقف هو يعبئ سلاحه وينتظر الجديد..
هنا سمع صوت خطوات معدنية ثقيلة قادمة من جهة الغرفة فصوب سلاحه متأهباً..
ثم أدرك سريعاً أن مسدسه الألي ما هو إلا دمية أطفال بالنسبة للخطر الذي يواجه الآن..
كان العنصر الأخير من المتمردين روبوت متحمس تشتعل أضوائه غضباً.. إنه من النوع المقاتل الذي يحتاج إلى طائرة حربية لإيقافه لا إلى فرد في شرطة المكافحة..
إن فرص نجاته تكاد تكون منعدمة..
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 04-30-2019, 06:13 PM
المشاركة 3
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(2)

يذكر إيهاب اليوم الذي ابتاع فيه روبوت رياضي مستعمل للتدريب على بعض الرياضات العنيفة في المنزل، حتى يحافظ على لياقته البدنية، التي يحتاجها في مواجهاته التي لا تنتهي مع المتمردين..
ثم اكتشف أن الروبوت مصاب بتصلب في المفاصل وحركته بطيئة كأنه يتدرب مع عجوز قعيد في التسعين .. لذا اضطر لاستقدام بعض الخبراء لمعالجة برنامجه وتزويد سرعته بمقابل فلكي جعل شريحة النقود لديه تئن جوعاً..
لكنهم على الأقل استطاعوا إحياء ذلك الروبوت التحفة ..
وهكذا وقف أمامه وقفة الاستعداد ثم أعطى الإشارة الصوتية لبدء الهجوم ..
شعر بسعادة غامرة حينما تلقى لكمة عاتية في فكة وركلة ساحقة في خاصرته .. بالأمس كان يصاب بالنعاس أثناء اللعب مع نفس الروبوت ..
ـ مرحى .. أعطني أكثر ..
وبالفعل أعطاه أكثر.. أكثر بكثير مما كان يأمل في الحقيقة..
ضربات الروبوت صارت كالبرق .. لم يعد الأمر مجرد تدريب .. هذا الروبوت المجنون سيقتله حتماً.. يبدو أن الفني الوغد قد أخطأ في شيء ما و......
صرخ وهو يتمرغ في الأرض :
ـ أوقفوووووووه !..
لكن الوغد الألي لا يتوقف ولا يعطب .. سحب إيهاب مسدسه من جرابه الملقى على الفراش واستدار ليفرغه في صدر الروبوت .. لكن الأخير ضرب كفه بخفة، فطار المسدس ليخترق جهاز الميكروويف ..
نظر إيهاب بجزع وغير تصديق للميكروويف المهشم .. طبعاً ليتلقى لطمة عاتية على صفحة عنقه ألقته أرضا..
بعدها وثب الروبوت فوقه وأخذ يشيع لكماته وركلاته إلى كل الأماكن التي تم تخزين مواضعها في ذاكرته ..
بعد نصف ساعة كانت بطارية الروبوت قد فرغت، وتحول إلى قطعة حديد جامدة على وقفة قتالية شامخة.. ومن حوله تناثر أثاث الوحدة أشلاء، فبدا المشهد كلوحة معبرة عن الانتصار الساحق للألة على الإنسان ..
لكن أين إيهاب ؟
***
إيهاب الآن يواجه روبوت مختلف..
إنه مزود بمدفعين سريعي الطلقات بالإضافة لكون جسمه المعدني مضاد للرصاص.. ولديه عين في منتصف جبهته تطلق شعاع ليزر قادر على شطر فيل إلى نصفين..
" مهمتك التالية.. سيطر على الروبوت.. "
انهالت عليه الطلقات كالمطر وهو يعدو في الممر بخط متعرج.. طبعاً هذا الكابوس لا يمكن أن يدمر..
إنه صناعة نخبوية عالية الجودة والكفاءة.. ولسوء الحظ تمكن المتمردون من السيطرة عليه .. المطلوب منه الآن إعادته إلى صوابه..
لكن كيف؟
لاح له باب في نهاية الممر كأنه نشأ من الفراغ فقط ليعطي له حبل نجاة في أخر لحظة من الطلقات وأشعة الليزر..
اقتحم الغرفة وأغلق بابها خلفه بإحكام، ثم وقف يلهث وهو يفحص أسلحته.. لا يوجد من بينها وسيلة للسيطرة على ذلك الكابوس..
" ستجد جهاز التحكم مع أحد المتمردين.."
أطلق سبة بذيئة وضرب كفه بالجدار.. كيف سيعود ثانية ليفتش في جثث القتلى وذلك الكابوس قادم من أجله.. عليه أن يهدأ ويفكر..
صوت الخطوات المعدنية الثقيلة يقترب .. سيقتحم عليه الغرفة بعد ثوان وعليه أن يكون قد أعد خطة..
لا مجال لاستعمال الأسلحة التقليدية.. عليه أن يناور الوغد الألي كي يتمكن من الانسلال إلى غرفة المتمردين.. وهكذا انتظر بجوار الباب حتى سمع صوت الليزر يذيب الإطار من الخارج.. وسرعان ما تهاوى الباب تلقائيا بعد عملية الجراحة الممتازة التي أجراها له الروبوت.. كتم أنفاسه منتظراً اللحظة المناسبة.. واللحظة المناسبة حانت حينما عبر الروبوت الباب، وتقدم داخل الغرفة وهو لا يرى إيهاب الذي وقف منتظراً في الركن.. وهكذا انسل من خلفه وانطلق يعدو خارج الغرفة بكل قوته..
ها هو الممر المفروش بالجثث.. هناك خمس جثث.. ترى هل سيجد الجهاز مع أول جثة.. مع ثاني جثة..
تباً .. خطوات الروبوت المعدنية تقترب من جديد.. هذا يثير أعصابه ويفقده التركيز..
ثالث جثة إذن..
ها هو قادماً من أجله بعد أن اكتشف خدعته البسيطة..
رابع جثة..
أخيراً.. ها هو ذا..
بعدها ظهرت له عبارة " حصلت على جهاز التحكم.. قم بالسيطرة على الروبو..."
لم ينتظر إكمال العبارة.. استدار بسرعة مصوباً جهاز التحكم ناحية الروبوت الذي ظهر في تلك اللحظة وهو يستعد لنسفه نسفاً..
لكنه لم يكد يضغط على أزرار التحكم حتى بدأ الروبوت يرقص.. نظر لجهاز التحكم في يده بدهشة.. هناك شيء ما خطأ..
" قم بالسيطرة على الروبوت "
صاح في غيظ وهو يعيد ضغط الأزرار:
ـ إنني أحاول بالفعل..
هنا توقف الروبوت عن الرقص..
للوهلة الأولى خيل إليه أن الروبوت سيعاود الهجوم عليه .. لكن فجأة صدرت عنه أضواء بنفسجية هادئة وبدأت مدافعه اليدوية ترتخي ببطء.. ثم سمع الصوت المعدني الذي أثلج صدره:
ـ تحت أمرك سيدي.
هنا ظهرت عبارة " تمت المهمة بنجاح "..
بعدها ساد الظلام..
***
ـ وصل فريق التطهير .. على سائر المواطنين إخلاء الوحدات ..
تردد الصوت المعدني في أذن إيهاب، وهو قابع في الظلام أسفل الفراش، مختبئاً من الروبوت الرياضي الذي جن تماماً..
ضغط على أذنه بكفه بطريقة معينة ليتمكن من الرد عبر شريحة التواصل.. قال بصوت مهشم :
ـ جاري إخلاء الوحدة..
لم يصل صوته للأسف، وشعر بتلك الوخزة في أذنه، فعاد يضغط عليها بكفه.. شريحة الاتصالات بحاجة لشحن، أو .. تباً يبدو أن الروبوت الوغد قد أفسدها، أو أفسد أذنه ذاتها ..
لكنه يدرك أنه لو فقد أذن فسيزرعون له شريحة جديدة في أذنه الأخرى.. وطبعاً سيفقد وظيفته الحالية، لأنه سيصير من أصحاب العاهات..
وهكذا زحف خارجاً من تحت الفراش بحذر وقد تحول وجهه إلى لوحة لمأساة إغريقية .. رمى الروبوت الرياضي بنظرة خاوية قبل أن يبصق عليه بصقة دامية أودعها كل حنقه وألمه .. ثم واصل زحفه لوحدة التطهير العضوي في محاولة لإسعاف ما يمكن إسعافه ..
وخرج بعدها وقد امتلأ وجهه بالضمادات .. ارتدى زيه بسرعة وهو يتجاهل حركة روبوت التطهير، الذي اقتحم الغرفة وبدأ يقوم بعمل التنظيف اليومي.. إنه يشبه الخنزير في الهيكل الخارجي ويقوم بنفس دوره.. يأكل القمامة أكلاً .. وكذلك هو لا يكف عن التعليقات الروتينية التي يعتبرها إيهاب فضائح..
ـ بقايا طعام.. مشروبات.. مخدرات من النوع المصرح به للشرطة.. التهوية لا بأس بها هنا.. هناك حالة فوضى عارمة كأن الوحدة ضربها زلزال عنيف ..
ثم إن الروبوت اكتشف وجود إيهاب فالتفت إليه قائلاً :
ـ لم يتم الإخلاء بعد.. هذه مخالفة يا سيد إيهاب سيتم خصم جزء إضافي من شريحتك الائتمانية..
مازالت الروبوتات هي سيدة هذا العصر بلا منازع..
لكنهم ولله الحمد لم يستغنوا عن العنصر البشري تماماً.. وإلا فمن التعس الذي سيذل..
لقد كادت البطالة أن تكون هي التحدي الأكبر للإدارة النظام العالمي الجديد؛ وذلك بسبب الاعتماد شبه الكامل على الآلات..
ولما حدث التمرد الكبير من الآلات وواجهت النخبة الأممية أزمة كادت تعصف بها، لم تتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها إلا بالعنصر البشري.. إيهاب كان أحد أبطال تلك الملحمة.. يذكر حصار مبنى الكابيتول بمقاطعة إلوسيوم.. الروبوتات تعتصم بالداخل والشرطة من الخارج.. أوقات عصيبة مضت حتى تم اقتحام الكابيتول والسيطرة على الروبوتات الشقية.. ثم حفل التكريم الذي نال فيه نوط الواجب والشرف، وامتلأت شرائحه الذكية بالنقود الافتراضية..
توقع كغيره من رجال الشرطة، أن تتغير سياسة الاعتماد على الآليين بعد حادثة التمرد تلك .. لكنهم فوجئوا حين عودتهم لوحدة مكافحة التمرد أنهم عينوا روبوت يدعى (س-600) قائداً للوحدة!..
ترك إيهاب الخنازير الألية تأكل قمامة وحدته السكنية وغادر.. بالخارج ظل يذكر نفسه .. هذه ستكون المرة الأخيرة وعليه أن يجدد الترخيص.. يمكن لتلك الروبوتات أن تهشم رأسه لو انتهى ترخيصه..
ابتسم بكأبة للدعابة وهو يتحسس شريحة النقود المزروعة تحت إبطه الإيسر.. إنه يعرف معنى تلك الذبذبات التي تدغدغه كلما تم سحب جزء من رصيده.. إنها بحاجة إلى شحن.. وعليه أن ينتظر حتى موعد الشحن الشهري..
لما خرج إلى الشارع سمع صوت حوامات التطهير تجوب السماء.. إنه الصباح حيث يتم رش سماء إلوسيوم بمواد كيماوية مثل تلك التي كانت تقتل الحشرات والآفات الزراعية بالحقول.. لكنها هنا تعمل على قتل ما بقي فيهم من آدمية..
يقولون أن هذه من ضمن برنامج النخبة للرعاية الصحية لمكافحة السلالي.. بالرغم من ذلك فإن المرض اللعين يحصدهم حصدا.. ربما لو كانوا يرشونهم بالسلالي نفسه لما كانت نسبة الإصابة ستتجاوز الرقم الحالي.. بل ربما تقل..
بعد حمام الكيماوي الذي حول المارة إلى أشباح بيضاء اتجه إيهاب إلى رصيف القطار الكهربي.. جلس بجوار النافذة ليستمتع بوميض الأضواء التي تمضي بسرعة خاطفة على جانبي القطار..
بعد ثوان قليلة سيصل إلى مقر عمله.. لديه لقاء مهم في مركز القيادة
وعليه أن يكون مستعداً..
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 05-01-2019, 03:49 PM
المشاركة 4
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(3)

" مقر القيادة "..
وقف على الباب المعدني بانتظار الإذن بالدخول ..
القائد (س ـ 600) ينتظره شخصياً.. لابد أن المهمة هذه المرة غير تقليدية..
غاص الباب في الجدار كاشفاً عن حجرة ضخمة تعج بالروبوتات المتحمسة، التي تنبعث منها أضواء عديدة بحسب الحالة المزاجية لكل منها.. وفي وسط الحجرة يجلس القائد (س ـ 600) على مقعد يشبه العرش .. ذكره مشهده بملكة نحل في وسط الخلية وحولها تحوم اليعاسيب.
ـ مرحباً.. إيهاب..
ابتلع ريقه بصعوبة وتقلصت أحشائه كلما كان مقدماً على مهمة جديدة..
ـ مرحباً سيدي.
كانت أذرع (س-600) الأربعة مشغولة في عدة اتجاهات ..
إحداهما تفحص صورة خارطة ثلاثية الأبعاد، بينما الثانية تحاول ضبط التكييف .. وذراعه الثالثة والرابعة كانتا خاضعتان للصيانة من قبيل فريق من الآليين من القسم الفني لشرطة المكافحة.. طبعاً فالقائد لا يثق في الفنيين البشريين..
لقد ولى زمن الروبوتات التي تقترب لحد مريع من البشر في شكلها الخارجي.. فمن حق الروبوت التميز عن باقي البشر.. حتى وإن كان في الأصل من صنعهم.. اليوم خلقت أجيال من الآليين تم صنعهم بمعرفة آليين أمثالهم.. هؤلاء آليون أبناء آليين.. وكان السيد (س-600) من هذه النوعية المعتزة بعرقها الآلي!..
كان جسده يصدر أضواء بنفسجية هادئة مما يعني أن حالته المزاجية مستقرة..
ـ كيف أنت إيهاب؟
رد بتلقائية :
ـ أحيا بشرف في ذروة المجد البشري..
رآه يلتفت لينهر أحد الفنيين ـ الذي يبدو أنه قد آلمه بشدة ـ ثم عاد لإيهاب قائلاً:
ـ أنت أحد الضباط المميزين بالوحدة وتعرف أنني كروبوت، مولع بالتميز.. لذا فقد اكتشفت أن قرار إحالتك للأعمال المكتبية كانت خطأ محض..
قال إيهاب بدهشة:
ـ لكنه كان قرارك أيها القائد..
ـ لا يمكن إيهاب .. تعرف أننا لا نخطئ أبداً..
يتذكر إيهاب تلك الأيام.. حينما أحاله (س ـ 600) بعد أحداث التمرد الكبير للأعمال المكتبية.. كان يقوم بوظيفة مراقبة شرائح المواطنين في إلوسيوم ..
هناك شاشات مراقبة الشرائح الذكية لآلاف البشر في المقاطعة..
هناك شريحة الهوية المزروعة عند الصدر فوق موضع القلب تماماً طالما هذه الشريحة تضيء بلون أخضر فهذا يعني أن صاحبها مواطن شريف لا يفكر في شر.. وإذا ما بدأ الأخضر يتحول للأصفر فهذا مؤشر غير صحي.. نحن على وشك التفكير في الشر.. هنا يبدأ إيهاب في تسليط الضوء أكثر على صاحب الشريحة.. أما تحول الإضاءة للون الأحمر فهذا يعني وقوع المحظور.. يتم رفع تقرير بالحالة ويتم البت في أمره خلال ثوان.. إما أن يخرج القرار بإعادة تأهيل المواطن من جديد، أو بتحرك فرق المكافحة لشطب اسم المتمرد من الوجود .. وفرق المكافحة هنا ليست إلا الشريحة الذكية ذاتها. تتحول إلى شرائح للقتل الذكي والنظيف .. فلان المواطن أصيب بالسكتة الدماغية فجأة .. فليرحمه الله ..
وهكذا صار من الصعب اليوم التفرقة بين حالات السكتة الطبيعية والذكية!
وهكذا ظل إيهاب يمضي أيامه في إحصاء أنفاس البشر ورفع التقارير التي تساهم في تحديد مصائرهم..
إلى أن جاء اليوم الذي عاد فيه مرة أخرى إلى العمل الميداني الذي يعشقه..
قال :
ـ للأسف النسيان أفة بشرية لا فكاك منها يا سيدي..
قال القائد بانتشاء ألي :
ـ هذه فائدة أن تكون روبوت.. أنت لا تخطئ ولا تنسى أبداً.. الروبوتات هي آلهة العصر بلا منازع.
قال إيهاب وهو يكتم أفكاره السوداء:
ـ إننا نتشرف كوننا نعمل بناء على توجيهاتكم سيدي..
قال (س ـ 600) :
ـ حسناً إيهاب.. مهمتك القادمة ستكون في النطاق النظيف!
يتذكر إيهاب متى ظهر هذا المصطلح لأول مرة.. لقد ظهر بعد حادثة التمرد الكبير مباشرة..
منذ هذا اليوم بدأ الاعتماد على الروبوتات يقل وإن لم يتوقف.. بل بدأ البعض يفكر في أن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي يمثلان تهديداً للأمن والسلم العالمي..
من هنا بدأ الأثرياء من الشريحة ب يفكرون في إنشاء نطاق خالي من التكنولوجيا الحديثة..
وهكذا ظهر في العالم مصطلح النطاق النظيف.. هناك قطاعات صممت على الطراز الروماني واليوناني والفرعوني.. وبعض القطاعات يعتمد على الحياة البرية في الغابات..
لابد أن تكون مواطن من الشريحة ب كي تتمكن من الذهاب إلى هناك كسائح أو مقيم.. أما أبناء الشريحة جـ فهم بحاجة إلى وساطة كي يذهب الواحد منهم إلى هناك ضمن العمالة التي لا يستغني عنها الأثرياء في أي نطاق كانوا..
في البداية لم يهتم إيهاب بشأن النطاق النظيف.. إنه لا يعرف كيف يعيش المرء بلا شرائح ذكية تحصي عليه أنفاسه.. أنت بدون تلك الشرائح في العراء وبلا غطاء.. كيف يستغني المرء عن العين التي تحرسه ليل نهار..
لكن رأيه هذا تغير حينما قررت هالة الذهاب إلى هناك..
***
هالة كانت تملك أجمل عينين وتقيم روحها في وحدة قلبه..
إنه الحب في ذروة المجد البشري..
في ذلك اليوم الموعود، حلقت روحيهما ساعة بين المروج الخضراء وفوق قمم الجبال الشاهقة.. ساعتها فكر إيهاب في أن الشريحة واحدة والمقاطعة واحدة.. فلماذا لا يتحد قلبانا إذن في وحدة سكنية واحدة.. حتى يتم حرق ذراتنا بفرق التطهير العضوي بعد عمر طويل؟..
السبب وجيه جداً وقد صرحت به هالة في ذلك اليوم..
ـ أنا أطمح في الذهاب إلى النطاق النظيف..
فتقول لها بدهشة :
ـ هل هبطت عليك ثروة؟..
ـ لا.. تعرف أنهم هناك يحتاجون بشدة للأيد العاملة من الشريحة جـ..
ـ ولماذا لا نقنع بحياتنا هنا؟
ـ القناعة بالموجود سبة في جبين المجد البشري..
ـ أنا لا أستطيع ترك عملي هنا لألحق بك هناك .. معنى هذا أننا سنفترق..
تبتسم لك هالة في ود مفزع وتقول :
ـ ستكون هذه فرصة جيدة ليبدأ كل منا من جديد..
تلاشت صورة الجبال والهضاب والمروج الخضراء حينما ضغط إيهاب على ذر وقف بث صور الخلفيات الطبيعية.. كانا منذ البداية في وحدة التنزهات الخلوية الافتراضية.. ووقف هو مصدوماً يتأمل هالة كأنه يراها للمرة الأولى..
قالت لك وهي تمسك بساعدك فيرتجف في يدها:
ـ إيهاب لقد سئمت شريحة ألعاب الفيديو هذه..
تبعد يدها عنك في رفق وتقول هامساً :
ـ أنت لا تعرفين ما الذي قد تجدينه هناك ..
ـ بل أعرف.. والكل هنا يعرف.. هناك النقيض لكل ما نحياه هنا.. هناك لفظوا التقنيات الحديثة بكل أنواعها وعادوا للماضي.. لا ملوثات ولا أمراض سلالية.. حياة مديدة بلا ملل ولا أوجاع العصر الحديث..
كانت تتكلم بحماس ملتهب كأنها رأت ما تحكي عنه رأي العين .. يبدو أنها قد تلقت عرضاً ما من أحدهم.. تمنى لو عرف هذا الوغد ليأكله بأسنانه.. للأسف قد لا يستطيع المساس به أصلاً لو عرفه..
لم يجد شيء يرد به عليها فسألها :
ـ و ماذا ستعملين هناك؟
تتسع ابتسامتها وهي تداعب خصلات شعرها فتفهم..
ـ لا يهم .. المهم أن أصير هناك وكفى.
شعر بقبضة من حديد ساخن تعتصر قلبه.. مشكلة إيهاب أنه مازال يحمل بداخله مشاعر كادت أن تنقرض.. ربما وجوده هو الذي يمنعها من الانقراض..
تمنى لها إقامة سعيدة في نطاقها النظيف، وتمنت له حياة سعيدة في نطاقه المسموم.. ووقف وحيداً يراقبها وهي تبتعد .. وتبتعد ..
حتى ابتلعها الزحام.
رباه.. ماذا لو تحليت بالصبر يا هالة..
***
ـ هل أنت معي يا إيهاب؟
انتفض قائلاً :
ـ معك سيدي.
أدار (س ـ 600) صورة الخريطة ثلاثية الأبعاد ليريه الموضع الذي سيذهب إليها.. بدا له المشهد كحفل تنكري أسطوري لا يمت لذروة المجد البشري بصلة.. إنه أقرب لجو ألف ليلة..
ـ هذا حفل سنوي يعقده أثرياء الشريحة ب في قطاع الأساطير.. قطاع الأساطير !.. الحفل هذه المرة على شرف ثري يدعى جعفر..
قال لنفسه : أكيد ستكون هالة هناك.. إنها أقرب لحسناوات ألف ليلة فعلاً.. مؤكد سيلقاها هناك..
وضع كفه على قلبه كي لا يصل صوت دقاته العنيفة إلى أذن القائد فائقة الحساسية.. لكنها حتماً ستصل للوغد الذي يراقبه في قسم الضمير الشرطي.
قال له القائد وهو يصفع أحد الفنيين الآليين على قفاه كي لا يسرح أثناء عملية الصيانة :
ـ إن مهمتك ستكون الاندساس وسط الحفل ولتكن مستعداً للتدخل في أي لحظة لإنقاذ السادة الأثرياء ..
انتهى عمال الصيانة من عملهم فقام بفرد ذراعيه وثنيهما عدة مرات قبل أن يقول بلهجة آلية راضية :
ـ تعرف أنا أشفق على البشر لأن لهم ذراعين فقط.. أنت لم تجرب أن يكون لك أربعة أذرع مثلي..
قال إيهاب منافقا:
ـ هذا قصور بشري لا شك فيه..
حرك القائد رأسه المستدير وأضاءت عينيه كناية عن مشاركته نفس الرأي..
ـ إن عملي هنا يتلخص في معالجة قصوركم البشري هذا.. مهمتك تلك ما هي إلا معالجة للقصور البشري الناتج عن رغبة بعض الأثرياء في التخلص من التكنولوجيا والعودة للماضي.. كنت أتمنى أن يقوم بهذه المهمة روبوت من لحمي ودمي.. لكن هذا محال في النطاق النظيف كما هو معلوم.. لذا سنعالج هذا القصور البشري بعنصر بشري..
ثم أردف:
ـ لا تنس أن عقوبة من يدخل للنطاق النظيف بوسائل تقنية حديثة، قد تصل لحد الإعدام على الخازوق النيوتروني ..
قال في توتر وقد قرأ ما بين السطور :
ـ هذا يعني أنني سأعمل بمعزل عن أي دعم خارجي..
قال القائد برنة ألية ساخرة :
ـ طبعاً هذا محال.. ستظل محتفظاً بشرائحك وأسلحتك سراً.. وفي الوقت المناسب لن يلومك أحد لو استعنت بالشيطان نفسه من أجل حمايته من خطر محدق..
ـ والخازوق النيوتروني؟
ـ كل قانون وله استثناءات كما تعرف.. لكن لو انكشف أمرك قبل الأوان، فربما كانت نهايتك على يد رجال جعفر الأشداء أسوأ من الإعدام على الخازوق النيوتروني.. إنهم قوم يبغضون التكنولوجيا كالعمى.
ـ إذا كان لديهم أمنهم الخاص فلم لا يتعاملون هم مع متمردي الحفل؟
قال (س ـ 600) بسخرية ألية:
ـ هؤلاء المجانين يمنعون حتى أمنهم الخاص من استعمال التقنيات الحديثة في عمليات التأمين..
ثم أردف بشراسة مفاجئة:
ـ إنها فرصتنا لنثبت لأثرياء الشريحة ب أن النطاق النظيف ليس نظيفاً كما يدعون.
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 05-02-2019, 05:21 PM
المشاركة 5
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(4)

" مرحباً بكم في الحفل السنوي بقطاع الأساطير.."
الحفل كان مزيجاً فريداً من رائحة البخور الممتزجة بالشواء والتوابل، الممتزجة بالموسيقى التي تخدر الأعصاب.. وسط حشد من كبير من أثرياء الشريحة ب.. رجال ونساء يرفلون في ثياب حريرية على وسائد من ريش النعام وحولهم الخدم والحشم..
كادت أن تفلت منه شهقة حينما لمح الجواري يطفن على رؤوس الحضور بالكؤوس.. هؤلاء لسن مجرد جواري .. هؤلاء حوريات.. اكتشف في لحظة أنه كان واقعاً في غرام قردة اسمها هالة..
هناك كميات مريعة من الطعام والشراب سيفتك بها حشد من الكروش المنتفخة.. أحد تلك الكروش يخص جعفر حتماً.. لابد أنه أكبرهم كرشاً هنا..
هؤلاء لا يشعرون بالعالم الخارجي.. هم غارقون حتى الآذان في العسل.. مالهم وللعالم الغارق في التلوث والمحاصر بالروبوتات المعصومة..
تحرك بحذر وسط هؤلاء السادة المنعمين وهو يشعر بالدوار.. عليه أن يحترس كي لا يدوس على ذيل أحدهم فتحدث الكارثة.. أخيراً وجد له مكان بجوار أحد الأعمدة الرخامية.. فوقف هناك يرتقب..
للحظات كاد أن ينسى مهمته وسط كل هذا الجو الساحر..
ثم تذكر أن هؤلاء في نطاقهم النظيف قد يتعرضون في أي لحظة لاختراق من المتمردين.. ولن ينقذهم سواه.. هو المواطن من الشريحة جـ الحقيرة سينقذ أثرياء الشريحة ب المرفهين..
ـ أنت!
تسمر في مكانه وقد هرب الدم من عروقه.. التفت ليرى ذلك الرجل النحيل ذو اللحية القصيرة والغديرة التي تنسدل على كتفيه من تحت العمامة.. وثيابه تشبه ثياب البحارة العرب القدامى.. هيئته تشير إلى أنه غير مرفه ولديه قوة شكيمة واضحة كأنه قائد عسكري.. كان ينظر إلي إيهاب في شك..
ـ يخيل إلي أنني أعرفك.
اندفع إيهاب يقول بحماسة :
ـ كيف لا تعرفني.. أنا علاء الدين ..
كان هذا هو التنكر الخاص بإيهاب في هذا الحفل لكن يبدو انه كان غير مقنعاً.. قال الرجل في ملل :
ـ تباً.. لقد قابلت عشرة أشخاص كلهم يتنكرون في شخصية علاء الدين.. وكأنه لا يوجد في عالم ألف ليلة سوى علاء الدين هذا..
سأله إيهاب بفضول:
ـ وأنت ..
هز رأسه في خيلاء قائلاً :
ـ أنا مختلف طبعاً.. إنني وبلا فخر السندباد البحري!
قال إيهاب وهو يمد إليه كفه مصافحاً :
ـ مرحباً يا سيد سندباد .. أعتقد انك ستكون الفائز في هذا الحفل.. صافحه السندباد بتعالي قائلاً:
ـ أنا لم آت هنا للفوز في مسابقة أفضل تنكر يا هذا.
قال إيهاب باسماً :
ـ ولا أنا..
ـ غريبة!
قالها السندباد وهو يعقد ساعديه أمام صدره وعينه تجوب الحفل.. قبل أن يتوقف على مجموعة من الرجال الأشداء يرتدون مثله ثياب بحارة وإن كانوا أكثر شراسة وفوضوية ..
ـ ها هم رجالي..
ثم ترك إيهاب واتجه إليهم صائحاً:
ـ أين كنتم يا حثالة؟
تجاهلهم إيهاب وقرر أن يمارس عمله الذي جاء من أجله.. سيجلس ويراقب..
كان هذا حينما تعالى الهتاف :
ـ وصل السيد جعفر..
خفتت أصوات الصخب المنبعثة دفعة واحدة.. وكأن أحدهم قد ضغط على زر كاتم للصوت.. ورأى إيهاب أعناق المدعوين تشرئب إلى السماء ..
***
كان هناك صوت خفقان أجنحة قوي يأتي من أعلى..
وحينما رفع الجميع أبصراهم ، سرعان علت شهقاتهم..
تمتم إيهاب بذهول :
ـ يا أبناء المجانين!
كان السيد جعفر قد قرر أن يظهر بصورة لا تقل أسطورية عن كل ما حوله.. بل تفوقها بمراحل.. الجواد المجنح أيقونة مهمة في عالم الأساطير، خصوصاً ألف ليلة؛ لذا كان من العار أن يمر حفل كهذا من دون حصان مجنح أو بساط سحري..
أما جعفر نفسه فكان بعكس غالب المدعوين، شديد النحول شديد جحوظ العينين.. كأنه يريد أن يقول لكل من تقع عينه عليه : أنا شرير يا حمقى .. إنه من هؤلاء المفتونين بأدوار الشر لا الخير .. فالخير بالنسبة إليه خلاعة وابتذال.. لذا بدا منظره وهو يركب الجواد المجنح متناقضاً.. الشر المطلق يمتطي الجمال والرقة المطلقة..
ـ ووو..
ـ رائع..
ـ مذهل..
وهتفت إحدى الحسناوات :
ـ هذا هو فتى الأحلام!..
حط الجواد المجنح بين الحضور المنبهر، وترجل من فوقه جعفر وهو يجول ببصره في الجموع بنهم عجيب، كأنه يتغذى على نظرات الافتتان التي تطل من أعينهم..
صاح أحد أصحاب الكروش المنتفخة :
ـ إذن هذه هي مفاجأة الحفل يا سيد جعفر..
لوح الأخير بكفه بخيلاء مشيراً للجواد الذي بدا أشد خيلاء من سيده..
ـ لقد وعدتكم وأوفيت بوعدي..
اقتربت إحدى الفاتنات من الجواد وهي تقول بلهجة حالمة:
ـ هل ستسمح لنا بتجربة هذه التحفة؟
كان إيهاب يحاول التوغل بين الجموع ليرى أقرب.. هل هذا حصان حقيقي أم خداع بصري؟.. أم..
أم خداع تقني؟..
وهل لهذا السبب لا يسمح لأحد هنا باستصحاب أي تقنيات حديثة؟.. كي لا يسهل انكشاف أمر واحد مثل جعفر ..
إذن فجعفر هذا نصاب كبير.. أخ لو كان معه جهاز كشف الروبوتات الأن، لكشف للحضور أنهم يقفون أمام جواد ألي ليس إلا..
ـ هذا الجواد السحري سيختار من بينكم سعيد الحظ الذي سيركبه..
قالها جعفر كأنه مقدم لأحد برامج المسابقات.. علت همهمات الجموع المستغربة فرفع كفه صائحاً :
ـ هدوء يا سادة.. إن الصخب يزعجه.. ربما رفض أن يلمسه أحد غيري..
عض إيهاب شفته السفلى وهمس :
ـ طبعاً يا ابن النصابة!
كان قد اقترب من الجواد جداً لدرجة أنه بدأ يشعر بأنفاسه.. لا يمكن.. إنه يبدو حقيقي أكثر من اللازم.. الروبوتات مهما بلغت دقتها فهي لا تكون لهذه الدرجة من الإتقان.. داعب إيهاب أنفه مفكراً.. ثم لاحت له الفكرة فبرقت عيناه.. نعم ربما كان الجواد حقيقي لكنه تم تزويده بأجنحة ألية مثلاً.. إذن لنقترب من الأجنحة لنفحصها عن قرب و..
هنا رفرف الجواد بجناحيه..
هاج الحضور وتراجعوا إلا إيهاب الذي كان يتجه لفحص الجناح الأيمن حينما فوجئ بلطمة الجناح العاتية ترفعه من أسفل لأعلى بحركة خاطفة أفقدته توازنه.. ووجد نفسه يدور في الهواء دورة رأسية وهو يصرخ صرخة مدوية .. وحينما اكتملت دورته وعاد للهبوط، وجد نفسه مستقراً على ظهر الجواد..
وكان مشهداً مهيباً.. إيهاب فوق صهوة الجواد المجنح يرمق بذهول الجموع المتحلقة من حوله وهي تهلل ..
ـ مرحى .. لقد اختار الجواد فارسه..
الوحيد الذي لم يهلل مع المهللين كان جعفر.. وقف يداعب ذقنه المدبب وهو ينظر لإيهاب نظرة شك واضحة ..
ـ من أنت يا هذا؟..
هز إيهاب كتفيه قائلاً بتلقائية :
ـ أنا علاء الدين..
هتفت الجموع :
ـ هذا هو المختار يا سيد جعفر..
أشار الأخير إلى الجواد وصاح في حنق :
ـ الجواد لم يتحرك بعد لنجزم أنه قد اختاره..
ثم أشار إليه فوق صهوة الجواد صارخاً بحراس الحفل :
ـ انزلوا علاء الدين هذا من فوق جوادي..
هنا وقبل أن يتحرك الحراس لتنفيذ الأمر، فرد الجواد جناحيه وأطلق صهيلاً قوياً، ثم انطلق محلقاً كنسر عملاق في سماء الحفل ..
ـ وووه..
ـ إنه المختار بلا شك..
ونتف جعفر حاجبيه صارخاً في الحرس :
ـ أريد جوادي أيها الحمقى.
ثم التفت إليهم وقد تصلبوا جميعاً :
ـ ما ذا دهاكم؟
هنا أدرك لماذا وقفوا متخشبين.. كان في قفا كل واحد منهم مدفع ألي أما حاملي السلاح انفسهم فلم يكونوا سوى بحارة السندباد ..
وقبل أن يفوه جعفر بكلمة وجد مسدس السندباد نفسه في قفاه هو ، وسمع صوته البارد القاسي يفح في أذنيه :
ـ لقد قدمت عرضك الخاص.. وحان الوقت لتقديم عرض أفضل.
هنا علت صرخات النساء وشهقات الرجال لكن قطعها سيل من الطلقات التحذيرية في الهواء..
وصاح السندباد وهو يدفع جعفر أمامه بمسدسه :
ـ مازال الحفل في أوله.. لا ينبغي أن تستهلكوا طاقتكم في الصراخ هكذا..
هنا حاول بعض رجال الأمن التحرك، فكانت النتيجة أسرع من الخيال وامضى من السيف.. لقد حصدته طلقات البحارة وحصدت معه كل الحراس دفعة واحدة..
و صاح بحار عجوز في السندباد وهو يعيد تلقيم سلاحه:
ـ كان ينبغي أن نتخفف من عبء الحراس منذ البداية..
صاح به السندباد وهو يخطوا فوق جثث الحرس :
ـ معك حق يا جدي.. لكن تذكروا .. لا أريد أن ينتهي الحفل وقد تخففنا من كل هؤلاء السادة الظرفاء.. ما زال لدينا وقت طويل لنساوم النخبة الأممية..
قال جعفر وهو يرمق السندباد بحقد طبقي رهيب :
ـ هل تعرفون عقوبة دخول النطاق النظيف بأسلحة نارية؟
كانت العبارة كافية لينفجر المتمردون كلهم في الضحك..
ثم أن السندباد اقترب بوجهه من جعفر، وهو يمسح الدموع التي سالت من عينه من شدة الضحك..
ـ تقصد الخازوق النيوتروني؟
ابتلع جعفر ريقه ولم يرد.. فالتفت السندباد للجموع الممتقعة وهتف:
ـ الحقيقة أن هذا تناقض لا شك فيه يا سادة الشريحة ب.. من يدخل النطاق النظيف بتقنيات عصرية يعاقب بعقوبة عصرية.. أليس هذا تناقضاً؟
ثم رفع قبضته عالياً وصاح برجاله :
ـ أليس من حقنا أن نطالبكم بخازوق حقيقي من خوازيق الزمن الجميل..
هنا هوى فوقه إيهاب بالجواد المجنح وهو يصيح :
ـ ما رأيك بهذه الوسيلة الأسطورية؟
ولم ينتظر إيهاب ـ الذي نسى الجميع أمره تماماً ـ ليرى مصير قائد المتمردين الذي سحق غالباً تحت أقدام الفرس.. كان يمسك بمسدسين آليين في كل يد ويطلق منهما الرصاص ببزخ من فوق صهوة الجواد المجنح..
صراخ.. عويل.. هرج.. دماء.. وحينما أفرغ أول خزنتين كانت الأرض قد افترشت بجثث المتمردين المتنكرين في ثياب البحارة..
وزحف جعفر من بين الجثث والشظايا مقترباً من إيهاب.. رفع كف مرتجفة إليه وقال بصوت مبحوح:
ـ لقد.. لقد أنقذت حياتنا.. لقد كان الجواد محقاً حينما اختارك.
و ظهرت عبارة تقول " تمت المهمة بنجاح".. ثم ساد الظلام..
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 05-03-2019, 06:30 PM
المشاركة 6
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(5)

كان (س ـ600 ) منهمكاً في شحن بطارياته التسع باستمتاع حينما تحطم زجاج نافذة مكتبه، وعبرها إيهاب فوق صهوة الجواد المجنح..
ـ إيهاب هل جننت؟
هبط إيهاب من فوق صهوة الجواد، وربت على منخره ثم التفت في برود إلى قائده قائلاً :
ـ لقد أنهيت مهمتي.. وحصلت على ذلك الجواد الأسطوري كمكافأة.
قال (س ـ 600) :
ـ يمكنك أن تحتفظ به للتنزه فيما بعد..
أطلق إيهاب صفيراً مميزاً ففرد الجواد جناحيه وانطلق مغادراً حجرة القيادة من حيث أتى..
ـ هل هناك مهام أخرى؟
ـ هل أوحشتك الإقامة في وحدتك بالشريحة جـ ..
أجاب كاذباً :
ـ جداً.. من الجنون أن يسعى المرء للحياة بعيداً عن تكنولوجيا عصره..
ـ رائع .. لقد صرت فيلسوفاً كذلك.. لكنك لن تعود لوحدتك بهذه السرعة.. مازال لديك مهام أخرى في النطاق النظيف..
ابتهج إيهاب وتجدد الأمل في أن يلقى هالة هذه المرة.. قال له الروبوت القائد بأن مهمته هذه المرة ستكون في القطاع الديني! ..
قال مستغرباً :
ـ هل لدى مواطني الشريحة ب دين؟
ـ إنها أديان يا عزيزي.. كل منهم يمارس دينه كما يحلوا له.. ومهمتك أنت ستكون في كاتدرائية كاثوليكية.. هناك تنظيم سري للمتمردين يجتمع هناك للكيد للنخبة.. عليك أن تصل إليهم وتدمرهم.. لا تنس أن القطاع الديني بالنطاق النظيف أكثر تشدداً من غيره بخصوص التقنيات الحديثة.. خصوصاً الكاثوليك إنهم يعتبرون التكنولوجيا الحديثة ضرب من السحر الأسود ..
وسكت هنيهه قبل أن يردف :
ـ وطبعاً أنت تعرف ما الذي قد يفعلونه بك لو اكتشفوا أمرك..
***
وقف إيهاب يتأمل الصرح الكاثوليكي ذو الطراز القوطي، والذي كان ينقصه لسان من البرق يضرب بين أبراجه ليكتمل فيلم الرعب..
كان يرتدي ثياب تشبه ثياب الرهبان ففهم أنه سيدخل الكاتدرائية بصفة دينية..
" اتبع الرهبان "
لم تكد العبارة تتلاشى حت لمح طابور من الرهبان، يتحرك بالفعل
باتجاه بوابة الكاتدرائية.. انضم إليهم وسار في ركابهم حتى نجح في عبور البوابة..
داخل الكاتدرائية تخلف عن الطابور وتوارى بين الأعمدة.. الآن هو بحاجة لإرشاد أخر..
" فتش عن القبو "
مرة أخرى يتذكر إيهاب حبيبته هالة.. إنه لم يجدها في قطاع الأساطير فهل يجدها هنا في قلب القرون الوسطى..
من يدري ربما وجدها قد صارت راهبة.. هذا أفضل بكل تأكيد من جواري ألف ليلة المائعين..
هبط درجات السلم المؤدية لقبو الكاتدرائية ولم يكد ينتهي عند الباب الخشبي العتيق حتى بدأ يسمع الأصوات الغريبة..
***
وضع أذنه على الباب ليسمع أوضح..
شعر برجفة في أوصاله لا يدري سببها.. هل بسبب تلك الأصوات الرتيبة أم اللغة الغريبة التي يتكلمون بها أم..
وارب الباب قليلاً حتى يبصر ما بالداخل..
هناك مشاعل بالداخل تضفي على المكان جو مثير وخانق.. ماذا يفعلون بالداخل؟
إنهم حتى لم يحكموا غلق الأبواب.. الرجفة تزداد كلما اقترب من المجتمعون بالداخل.. لا تبدو هذه تراتيل صلاة.. هؤلاء المدثرون بالعباءات السوداء والمتحلقين حول ذلك الصنم الغريب ليسوا كاثوليك أصلاً..
وقف إيهاب يراقب المنظر من خلف أحد الأعمدة.. هؤلاء جماعة تمارس طقوس وثنية ما.. نظر بتركيز للصنم وبدأ يحاول التذكر..
كاثوليك ليسوا كذلك.. صنم له رأس جدي.. تراتيل غامضة.. الآن فهم إيهاب من يكونون.. ترى هل يعيد المتمردين إحياء ذلك التنظيم القديم أم.. أم أنهم امتداد له..
إنهم يمارسون هنا نفس الطقوس بحذافيرها.. يسبحون في النهار باسم الصليب وفي الليل يقلبونه ويبصقون عليه ويتقربون إلى رأس صنم يدعى بافوميت..
ما سر تلك الرائحة القذرة التي هلت فجأة؟..
هنا شعر بالملس البارد على صفحة عنقه وسمع من يهمس كأنه لا يريد أن يشوش على المجتمعين:
ـ تحرك معي ولا تصدر أي صوت..
كالعادة يأتي هذا الكشف المهم في اللحظة السوداء التي ينكشف فيها أمره..
قال بصوت مبحوح وهو يندفع تحت حد السيف :
ـ أنا راهب مثلكم..
ـ لقد اكتشفت بنفسك أننا لسنا رهبان ..
ـ دعوني أعتذر.. فقد دفعني الفضول لا أكثر..
ـ وماذا فعل الفضول بالهر..
هنا وجد نفسه وسط حلقة الرهبان المزيفين وفوقه رأس التيس مباشرة والمشاعل تلقى عليها ظلال مريعة.. بسبب هذا المشهد لن يفكر في أكل رأس التيس حتى يموت..
قاموا بتفتيشه واستخراج كل ما معه من أسلحة أمام عينيه..
الآن صاروا متعادلين.. هم ليسوا كاثوليك وهو ليس راهباً كما يدعي..
وتقلصت أحشاء إيهاب وهو يتخيل مصيره.. الكاثوليك كانوا سيحرقونه لو اكتشفوا حقيقته.. ماذا إذن سيفعل به هؤلاء المارقين من الكاثوليكية؟.. بل من النظام العالمي كله؟..
ـ ما هو اسمك الحقيقي يا فتى؟
ـ إيهاب.. الضابط إيهاب لا تنسى هذا جيداً..
ـ إيهاب اسم عربي .. ربما مسلم كذلك..
قال إيهاب بتلقائية حمقاء :
ـ وموحد بالله ..
قال الصوت الذي يصعب تحديد مصدره وسط تلك الحلقة المحدقة به كالسوار بالمعصم..
ـ عربي مسلم بيننا يا رفاق .. إنه يوم تاريخي ..
تعالت الصيحات المنذرة من حوله ففطن إلى مدى حماقته لكن بعد فوات الأوان طبعاً .. عربي مسلم بين جماعة من المتمردين يحيون طقوس فرسان الهيكل القدامى.. لو كان محظوظاً فلسوف يأكلونه حياً كالضباع ..
ـ سيحدد الرأس المقدس مصيرك..
وتعالت الضحكات.. هؤلاء ليسوا مخابيل.. طريقتهم ولهجتهم توحي بالثقة وكذلك توحي بشيء ما شيطاني ..
لماذا يدورون من حوله؟.. سيصيبونه بالدوار حتماً.. لماذا عادو لتلك التراتيل الغريبة والمخيفة؟..
ـ لا.. توقفوا..
هكذا صرخ إيهاب فتوقف الجمع فعلاً لكن ليس من أجله..
صاح أحدهم :
ـ انصتوا للرأس المقدس!.. من الفم للأذن.
وأمام عيني إيهاب الذاهلة بدأ رأس التيس يهتز.. الفم المدبب يتحرك.. وهناك صوت قادم من حفرة من حفر جهنم يتردد بلغة شيطانية ما.. أكيد هي اللاتينية.
هلل الجمع في حبور فيبدو أن ما قاله الرأس أعجبهم.. يبدو أنه أمرهم بذبحه وأكله..
ـ ستنال تحية البركة..
ـ تا.. تحية ماذا؟
مال عليه أحدهم وهمس في أذنه بنبرة ساخرة:
ـ إننا نمارس هنا كل طقوس الفرسان الأوائل، والتي اعترف بها بعضهم فعلاً.. نبصق على الصليب ونحتقر المسيح ونعبد رأس بافوميت.. ونمارس الشذوذ.. وهو ما نطلق عليه مجازاً تحية البركة..
وتعالت الضحكات الشيطانية المجلجلة من حول إيهاب، الذي صرخ بكل ما يعتمل في نفسه من رعب وغيظ وتقزز :
ـ اللعنة عليك يا (س-600) ..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 05-04-2019, 08:18 PM
المشاركة 7
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(6)

لم يتصور إيهاب يوماً أنه سيتعرض لموقف كهذا.. ولا في أسوأ كوابيسه حالكة السواد..
أكيد (س-600) ينتقم منه شر انتقام..
لكن رب ضرة نافعة.. فقد جعله هذا يصاب بسعار حيواني.. سيأكل حنجرة أول وغد يفكر في الاقتراب منه.. صحيح انه فقد كل أسلحته الحديثة لكن من قال انه سيستسلم لهذا المصير المشين؟
رآهم يتخففون من ثيابهم ويريحون أسيافهم على الأرض فازداد جنونه.. وبدون تفكير وثب على أقرب قراب منه، وبمجمع قبضتيه سل منه السيف بالغ الثقل..
ـ سأفصل رأس من يقترب مني عن جسده..
تبادلوا النظرات ثم انفجروا في الضحك الشيطاني إياه..
إنهم لا يبالون به.. الأمر يبدو لهم أقرب إلى رجفة ذبابة تحتضر.. ربما جرح واحد أو اثنين ثم.. لا وقت للمجازفة إذن .. لابد أن يحدد هدف واحد ويوجه له ضربة واحدة ..
وبدون تردد دار على عقبيه وهوى بالسيف على رأس بافوميت نفسه..
هنا انفتحت أبواب الجحيم..
دخان أزرق كثيف تصاعد من مكان الرأس المبتور مع صوت خوار حيواني امتزج بصرخات الفرسان الذين روعهم المشهد.. رأس صنم يتكلم ويطلق خوار ثور ذبيح حينما تبتر رأسه، ويتصاعد من موضع البتر دخان أزرق .. هذا سحر أسود لا شك فيه.. الحقيقة التي اكتشفها من خلال تجربتين في النطاق النظيف، أنه لا يوجد نطاق نظيف في هذا العالم، أنت محصور إما بين جنون التكنولوجيا الحديثة وملوثاتها، أو هوس العودة للماضي المظلم بكل وثنيته ودجله وسحره ..
حينما نظر إيهاب للفرسان أدرك فداحة الأمر بالنسبة إليهم .. إنهم ينتفضون.. يتشنجون.. ينتفون شعورهم كالثكالى، ويتمرغون في الأرض.. ترى ما هي العقوبة الجهنمية التي تليق به بعد ما فعل؟
لم ينتظر ليفكر.. كان عليه استغلال الدخان الكثيف وحالة الجنون التي انتابت فرسان الهيكل كي..
كي يسترد أسلحته التي سلبوها منه وكوموها في جانب.. كي يستدير إليهم بكل مقت وتقزز.. كي ينظر لهم نظرة الوداع وهو يضغط على زناد سلاحه الألي..
كي يراهم وهم يتساقطون كالذباب تحت قدميه..
ـ موتوا.. موتوا..
ووقف ينتفض والدخان يتصاعد من فوهة سلاحه بانتظار رسالة من القيادة تعلمه بنجاح المهمة..
" أيها الشرطي.. خطر المتمردين لم ينتهي بعد.. لقم سلاحك وكن على حذر.."
ـ تباً..
قالها وهو يلقم سلاحه وعينه تجوب المكان من حوله.. لا شيء سوى جثث.. ورأس تيس مقطوع.. و..
هنا بدأ يلاحظ..
رأس التيس المقطوعة ليست على ما يرام.. هناك شيء يبرز بالتدريج من عند العنق.. بل أشياء.. وبدون تفكير صوب ناحية الرأس قبل أن يستكمل نموه الغريب وأطلق النار..
لكن الرأس لم ينتظره.. سرعان ما تحرك على ما يشبه الأقدام متوارياً خلف أحد الأعمدة..
" دمر رأس الشر"
أنه لا يحب المفاجئات في العمل.. لكن ليس لديه حل أخر حتى يخرج من هنا سالماً.. تقدم من العمود الذي توارى خلفه الرأس وقلبه ينبض بعنف.. ثم دار بحذر من حوله وهو يكتم أنفاسه وأصبعه السبابة يداعب الزناد..
هنا شعر أن الدنيا قد أظلمت فجأة أمامه فتراجع تلقائياً وهو يصيح في فزع..
الخوار المريع يصم أذنيه والمشهد الأبشع يذهل عقله عن الاستيعاب. لقد نبت للرأس جسد ضخم له فراء كفراء الدب.. لقد عاد للحياة كالعنقاء لينتقم.. الوثبة الهائلة التي قطعها المسخ كانت لا تتناسب مع حجمه الهائل.. وسرعان ما كان يجثم فوق أنفاس إيهاب..
دوت عدة طلقات مكتومة بعدها طار المسخ من فوق إيهاب وهو يطلق خواراً متألماً.. ونهض الاخير من تحته وهو يعب الهواء عباً..
إنه لا يموت.. سرعان ما يعاود الهجوم بضراوة أشد.. لكن لاحظ إيهاب أن حجمة قد قل عن ذي قبل..
وقفز إيهاب جانباً متفادياً الوثبة العارمة وهو يطلق الرصاص..
إن مؤشر صحة إيهاب يتضاءل.. لقد أصيب من جراء هجوم ذلك الكيان المريع، لكنه في المقابل يفقد المزيد من حجمه وقوته..
لا بأس أنت تقترب يا إيهاب.. أخيراً صار المسخ يزحف وهو يجر أطرافه الأربع.. بدا حجمه أقرب للجدي الحقيقي.. فقرر إيهاب أن يوفر طلقاته ويتعامل معه على أنه مجرد جدي ضال..
انتزع مديته ووثب فوقه فاطلق الرأس ثغاء أقرب للبكاء.. بسرعة مرر المدية من تحت الذقن المدبب ولم يتوقف حتى انتزع الرأس كاملة.. حينما رفعها عالياً اكتشف أن جسد المسخ تحول إلى بقعة سوداء بلا معالم.. شعر إيهاب بأنه يقف في بركة وحل ..
" دمر رأس الشر"
فهم الرسالة هذه المرة.. لن يكرر خطأه.. أخرج قنبلة يدوية ونزع صمامها، ثم حشرها في فم التيس ورماها بعيداً..
لم يكد يدوي الانفجار حتى ظهرت له عبارة " تمت المهمة بنجاح "
و ساد الظلام..
***
تأمل (س-600) التقرير الرقمي الذي قدمه له إيهاب فور عودته إلى الوحدة وبدا راضياً من إضاءته البنفسجية..
ـ ممتاز يا إيهاب.. لكن لماذا ترغب في طلب نقل من وحدتك؟
قال إيهاب وهو يتذكر رحلته المرة من النطاق المشئوم حتى وصل إلى هنا بثياب الرهبان :
ـ لقد تعبت..
قال (س – 600) بلهجة استخفاف معدنية :
ـ هذه طبيعة عمل الشرطة في أي وحدة أخرى..
كان يتمنى لو صارحه بأن هذه طبيعة من يعمل مع روبوت مثله، لكنه آثر السلامة قائلاً :
ـ أريد أن أعود للأعمال المكتبية..
ـ خسارة.. أنت ضابط ممتاز..
ـ مهمتي الأخيرة كانت مباراة اعتزال..
ـ حسناً.. سأقبل طلب نقلك لكن بشرط.. أن تقبل مهمة أخيرة.. مهمة أخيرة من أجلي..
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 05-05-2019, 06:13 PM
المشاركة 8
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(7)

ركب إيهاب حوامة الشرطة وهو يسب ويلعن..
هذه المرة ستكون مهمتك مختلفة.. لن تسعى خلف المتمردين في قلب النطاق النظيف.. بل ستذهب لتتسلم أحدهم من على مشارف غابات القطاع البري.. وتعود به سالماً إلى الوحدة..
لم ير إيهاب غابات حقيقية من قبل هذه المهمة.. ولم يتخيل أن يكون هناك بشر أثرياء أسوياء قد قرروا ترك العمران والحياة على الطريقة البرية .. لكن مازال النطاق النظيف يتحفه كل يوم بمفاجأة..
هبطت الحوامة بالقرب من مجرى مائي صغير ينطلق كالأفعى بين الأشجار صاعداً إلى أعلى.. في بقعة خالية من الأشجار حيث وقف بالأسفل مجموعة من الرجال والنساء يرتدون أسمالاً بالية ، وأحدهم تم تقييده بحبال غليظة من ليف.. وكان فمه مكمماً بخرقة ربما كانت كم قميص مزقه أحدهم ليصلح ككمامة..
هبط إيهاب وبدأ تعارف سريع بينه وبينهم.. هؤلاء مجموعة من الأثرياء المعاتيه يعيشون هنا في البرية على طريقة الإنسان البدائي الأول.. لكنهم لم ينسوا واجبهم تجاه النظام العالمي الذي سمح لهم بهذا، فقاموا بالقبض على ذلك المتمرد المكبل وجاءوا به هنا لتسليمه..
تفرس إيهاب في وجوه النسوة فلم يعثر على وجه هالة للأسف..
قال له أحدهم وهو يركل المتمرد :
ـ إنه خطر جداً.. كان القبض عليه أصعب عملية صيد واجهناها..
رمق إيهاب الرجل المكبل.. كان يرتدي نفس الأسمال من باب التنكر طبعاً، في عينيه نظرة خاملة تقول أنه قد خسر كل شيء ولم يعد لديه ما يخشى عليه..
قال إيهاب :
ـ لننهي إجراءات التسليم سريعاً..
قال أحدهم وهو يلوح برمح في يده :
ـ بلغ تحياتنا للسيد (س-600)..
تساءل وهو يضغط على أسنانه :
ـ أتعرفونه؟
ردت إحدى النساء وهي تهرش تحت إبطها كالقردة :
ـ إنه من ألطف الروبوتات..
حرك إيهاب فكه يمنة ويسرة وهو يرمقها بعين لا تطرف..
ـ تخيلي يا سيدتي هذا هو رأينا كلنا في وحدة مكافحة التمرد..
الوغد الألي يجامل هؤلاء على حساب راحته.. لكن لا بأس.. ستكون هذه أخر مهمة له مع ذلك الأخطبوط المعدني القبيح..
ساعدوه على حمل المتمرد إلى الحوامة التي تدار ألياً، ثم وقف إيهاب يلوح بكفه متمنياً لهم أن يصادفوا فيلاً غاضباً يسحق عظامهم جميعاً..
أقلعت الحوامة وبدأ إيهاب في حل قيود المتمرد ليستبدلها بقيود الشرطة المصنوعة من الألياف المرنة..
ـ معي تصريح بقتلك عند أي بادرة سوء..
قالها للمتمرد محذراً.. فرمقه الأخير بنظرة خاوية ولم يرد طبعاً بسبب الكمامة التي ظلت على فمه.. فقط تركه يحل قيوده بلا أدنى مقاومة.. لم يكن هناك غيرهما بالحوامة التي تدار آلياً بواسطة عقل إلكتروني لذا لم يستغرق الأمر سوى دفعة قوية وخاطفة، وجد إيهاب نفسه يطير ليرتطم رأسه بجدار الحوامة.. وحينما أفاق من الدوار والمفاجأة، ونهض مستلاً سلاحه، جحظت عيناه وهو يرى المتمرد يعبث بأزرار الحوامة بطريقة سريعة وخاطفة و.. ومحترفة..
ـ توقف وإلا..
التفت إليه المتمرد بسرعة ورفع كفيه مستسلماً وهو يقول بابتسامة بريئة وقد تخلص من الكمامة التي أخرسوه بها:
ـ لا بأس.. لقد انتهيت..
صرخ فيه إيهاب:
ـ ماذا فعلت أيها التعس؟
هز كتفيه قائلاً :
ـ لقد غيرت مسار الرحلة.. سنخترق النطاق النظيف بحوامة ألية.. هذه جريمة في عرف النظام العالمي عقوبتها تصل للإعدام على الخازوق النيوتروني كما تعلم..
***
إيهاب لم يكن يفقه شيئاً في كيفية التعامل مع الحوامات التي تدار ألياً..
فقط هو يركبها وهي التي توصله للمكان الذي تمت برمجتها عليه.. الآن يدفع ثمن جهله في مواجهة ذلك الموقف الصعب..
قال له المتمرد باسماً :
ـ حتى لو قتلتني فلن تستفيد شيئاً.. أنت تعرف عقوبة خرق النطاق المحظور بشريحة ذكية فما بالك بحوامة شرطة..
قال إيهاب وهو يجذب إبرة إطلاق النار:
ـ أنت تثير حماستي فعلاً..
أشار له المتمرد بسبابته قائلاً :
ـ لكن لو أبقيت على حياتي فربما أخرجتك من هذا الموقف الحرج مثل الشعرة من العجين..
ـ تريد مساومتي؟
ـ أكيد!
هنا سمع إيهاب صيحة القائد الألي الباردة تنذرهم بأنهم يخترقون النطاق المحظور لقطاع الحياة البرية.. نظر للمتمرد في رعب وقال :
ـ ماذا تريد بالضبط؟
فرك المتمرد كفيه ومط شفتيه قائلاً :
ـ الانتقام!
لم يفهم إيهاب في البداية لكنه استدرك :
ـ تنتقم من النخبة طبعاً.. هذا هو هدف كل متمرد..
هز الرجل رأسه كأنما يخاطب طفلاً..
ـ أنت كأغلب شريحتك لا تجيدون سوى دور الببغاء.. يردد كل ما يتلى على مسامعه بدون إعمال للعقل..
لوح إيهاب بالسلاح في وجهه وهو يقول بسخرية لا تخلوا من رنة سخط:
ـ مرحى .. لأول مرة أقابل متمرد من شريحة راقية..
ـ لا يوجد متمردين هنا أيها المغفل الكبير.. نحن مجموعة من أثرياء الشريحة ب جئنا إلى قطاع الحياة البرية للاستمتاع بالحياة على طريقة الإنسان الأول..
ضحك إيهاب بافتعال، وهتف متجاهلاً إنذارات القائد الألي المتكررة والمستفزة :
ـ خدعتك تلك لا تنطلي على طفل صغير..
واصل الرجل كأنه لم يسمعه :
ـ كنا نجري مسابقة في الصيد رصدنا لها مكافأة من الذهب الخالص.. وكنت على وشك الفوز لولا الغش في اللعب..
بدأ إيهاب يتوتر.. ما معنى هذا كله؟..
ـ لقد دبروا لي تلك المكيدة.. لا أدري هل رؤسائك في الشرطة مشتركون فيها أم لا، لكن أقسم بشرف عائلتي أن يدفع كل من تورط في هذه العملية القذرة الثمن غالياً ..
قال إيهاب بجزع :
ـ يعني.. لا يوجد متمردين؟!..
قهقه الرجل قائلاً:
ـ المتمردون أسطورة اخترعتها عقلية النخبة الأممية للسيطرة على العامة..
ـ لكنني واجهت العشرات منهم بنفسي..
قال الرجل بسخرية لاذعة :
ـ هل اطلعت على أرواقهم الثبوتية.. قالوا لك أقتل الحثالة فقتلت بلا وعي.. الحقيقة انه لا يجرؤ أحد على التمرد الحقيقي في هذا العالم.
ـ لكنني شاركت بنفسي في مواجهة تمرد الآلات الكبير..
ـ بالضبط.. لا يوجد بشر متمردين.. لأنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً في ظل قبضة النظام العالمي المحكمة.. أما تمرد الآلات المزعوم فقد يحدث هذا فعلاً، من قبيل الخلاف العائلي..
حك إيهاب قذاله بكعب مسدسه وقال في غباء:
ـ لا أفهم..
ـ النخبة التي تحكم العالم، ما هي إلا آلات فائقة الذكاء..
شعر إيهاب كأنه تلقى لطمة عاتية على وجهه.. الحقائق أحياناً تؤدي نفس عمل الصفعات المؤلمة، حتى أنه تخيل وجهه الآن أحمراً كالطماطم ..
ثم شيئاً فشيئاً بدأ يسترجع ذكريات قريبة.. بعد تمرد الآلات الشهير عاد ليجد روبوت متربع على وحدة مكافحة التمرد.. نفوذ الروبوتات المريب استمر رغم حادثة التمرد إياها.. لكن لابد أن القيادة ترى وتسمع هذا الحوار الآن.. أن كل نفس يتنفسه يصلهم عبر شرائحه الذكية..
ما معنى هذا كله؟..
في تلك اللحظة كانت الحوامة تهبط بسلاسة إلى المكان الذي حدده لها الرجل الغريب في قلب غابات القطاع البري..
قال الغريب لإيهاب وهما يغادران الحوامة كصديقين:
ـ إنه النظام العالمي الجديد يا فتى.. صفقة عقدت منذ عقود بين أغنياء العالم المتنفذين والآلات الذكية.. ستعمل الآلات على إدارة العالم وإحكام السيطرة على البشر من الشريحة جـ .. وينعم الأغنياء من الشريحة ب بالثروات في النطاق النظيف بعيداً عن التكنولوجيا.. أما حادثة التمرد إياها فكانت خلاف عائلي بين الروبوتات وبعضها البعض.. أو سمه خطأ تقني تم تداركه بمعرفة الإدارة الألية نفسها.. وانتهى الأمر..
تساءل إيهاب بصوت كالبكاء :
ـ ومشاهد إعدام المتمردين اليومية على الخوازيق النيوترونية؟
ـ كلها جزء من العوالم الافتراضية التي تقنع بها شريحتك البائسة..
ـ و.. وهيدز؟!
ـ هيدز الحقيقية ليست تلك التي كنت تشاهدها عبر الشاشات، هيدز الحقيقية هي كل ما حولك، العالم كله هيدز ..
كان إيهاب في أسوأ حال ممكن.. لا يمكنه تصديق الرجل وفي نفس الوقت لا يستطيع تجاهل عشرات الأسئلة التي تنهش رأسه، ولا يجد لها إجابة إلا من خلال تصديق نفس الرجل.. هنا تنبه لنقطة مهمة فهتف كمن وجد قشة في خضم الغرق :
ـ لكن لحظة.. لماذا تخبرني بكل هذه الحقائق التي ينبغي إخفائها عن أمثالي؟
هنا شاعت ابتسامة ماكرة على وجه الرجل..
ـ هذا هو الذكاء الذي يأتي متأخراً جداً.. الإجابة ببساطة هو أنك لن تعيش يا مسكين بعد كل ما سمعت..
لم يكد يقولها حتى رأى إيهاب عشرات الرماح تحاصره من كل جانب، ووراء كل رمح وجه إنسان بدائي ملطخ بالأصباغ التي تثير الرعب في القلوب..
وسمع الرجل يكمل وهو يتمطى متنفساً هواء البرية :
ـ هؤلاء أصدقائي من السكان الأصليين هنا.. ويؤسفني أن أقول لك أنهم لن يتركوك تخرج من هنا قطعة واحدة.. لديهم طقس وثني لا يكتمل من غير أضحية بشرية كما هو معلوم.. لا أنصحك باستعمال سلاحك لأنه سيزيد من مأساتك..
هكذا إذن..
لقد فهم إيهاب أخيراً حقيقة اللعبة التي أقحم فيها.. لعبة الأثرياء من الشريحة ب التي أتت به إلى هنا.. واللعبة الأكبر التي يدار من خلالها العالم..
إنه الآن في قمة الرضا عن النفس.. صحيح أنه لن يلتق بهالة أبداً في هذه الحياة، لكنه على الأقل لن يموت حماراً!
" فشلت المهمة "
ظلام
***


(8)

نزع إيهاب العصابة السوداء عن عينيه وأدار بصره فيما حوله..
هذه وحدته الشخصية في عالم الواقع.. خيوط العناكب تحاصره من كل جانب .. حتى بدا كذبابة وقعت في شباك عنكبوت..
لقد كفت روبوتات التطهير عن زيارته منذ.. منذ.. وما قيمة الزمن..؟ لم يعد للزمن قيمة لديه منذ.. منذ..
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري "
شعار النظام العالمي لم تطمس معالمه خيوط العناكب بعد..
حسناً إنه فقط بحاجة لكوب من الديسكافيه بسرعة.. طاشت يده في المطبخ وأسقط عشرات الأطباق والملاعق التي علاها التراب، إلى أن اكتشف في النهاية أن وحدته خالية من الديسكافيه..
هل يبحث عند صديقه وجاره باسم؟
ذلك الوغد المختفي.. ترى ماذا يفعل الآن وفي أي العوالم يسرح؟
طرق على وحدته حتى أيقظ جميع الجيران في إلوسيوم.. ولما تأكد أن باسم قد غادر أو مات، قرر أن يغادر المجمع وهو يترنح كالسكارى متوجهاً لأقرب مطفح..
كل هذه أعراض طبيعية لمن أدمنوا العوالم الافتراضية.. شيئاً فشيئاً تعود له ذكرياته الحقيقية لا تلك التي حشرتها اللعبة الافتراضية في رأسه.
بالخارج اكتشف أن الوقت ليلاً.. إضاءة الشارع خافتة، لكن رائحة الأسلاك المنصهرة، التي تميز مقاطعات الشريحة جـ الملوثة تنعش ذاكرته أكثر..
إيهاب أنت شرطي سابق تم الاستغناء عن خدماته منذ عدة سنوات.. هناك روبوت وسيم قد حل محلك هناك .. أما أنت فقد صرت تعمل في تجارة الروبوتات الخردة.. إنها تدر عليك ربح يسمح لك بالغياب في العوالم الافتراضية الممتعة وقت الفراغ.. تلك العوالم التي تسمح لك بلعب دور الشرطي الذي خسرته للأبد في الواقع..
مع الوقت يصاب مدمني هذه العوالم باختلال وعدم اتزان عقلي.. ويصير يتعامل مع الواقع على أنه خيال افتراضي والعكس بالعكس.
هل وصل إيهاب لهذه المرحلة؟
مازال قادراً على تذكر بعض المعلومات الحقيقية عن نفسه.. لكن البعض الأخر صار يختلط عليه.. هل هو حقيقي أم افتراضي؟
بعض ذكرياته الحقيقية تقتحم عليه العوالم الافتراضية ، فيحدث الخلط بين ما هو حقيقي وافتراضي..
ويظل يسأل نفسه : هل أنت في الواقع أم في عالم افتراضي ؟.. هل الطعام الذي تأكله ، والفضلات التي تخرجها حقيقية؟ .. أم هي أيضاً جزء من العوالم الافتراضية..
من أدراه أنه عاد الآن لواقعه الحقيقي؟.. لعله مازال يسبح هناك في العوالم الافتراضية ولم يخرج منها بعد..
هذا مجرد عالم افتراضي أخر، سيستيقظ منه بعد أن تنتهي صلاحية اللعب.. هذا كله مجرد جزء من لعبة..
إذن عليه أن يستمتع بذلك العالم، ولا يضيع وقته وماله في أسئلة سخيفة عما هو حقيقي وزائف.. وما جدوى البحث عن ذلك أصلاً؟ أنت ربما لم توجد أصلاً في هذا العالم.. ربما أنت مجرد شخص افتراضي يحلم به أحدهم الآن.
إيهاب أنت لم توجد..
هي العدمية إذن..
نعم هي العدمية.. هؤلاء المارة مكتئبي الوجوه، وهذا الشارع البارد، وهذه الأبنية المعدنية، والأضواء الواهنة، ورائحة الأسلاك المنصهرة.. كلها أشياء ليست حقيقية..
وحتى خيط اللعاب الذي بدأ يسيل من فمك على صدرك ليس حقيقياً..
***


نهاية الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني (المتمرد ) إن شاء الله بعد شهر رمضان المبارك.

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 06-17-2019, 05:27 PM
المشاركة 9
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
المتمرد

(1)

كتب باسم على الجدار :
( الاكتئاب في ذروة المجد البشري..)
ما حدث لصديقه وجاره إيهاب كان درساً قاسياً له ولغيره.. لقد زاره في وحدة مجانين إلوسيوم، ورأى بعينيه ما صار إليه.. صحيح أن الأطباء يقولون أنه يعاني من صدمة مؤقته، وأنه قد يعود لحياته الطبيعية من جديد. لكن باسم كان قد اتخذ قراره النهائي.. لابد أن يتوقف عن ارتياد العوالم الافتراضية التي تدفع الناس للجنون ببطء..
كان ينبغي عليه أن يكف يوم أن طلق زوجته ليلى في إحدى تلك العوالم..
المشادة جرت بينهما داخل لعبة ( الزومبي يجتاح المدينة ).. والسبب كان الخلاف على طريقة اللعب.. اللعبة زوجية وتقتضي اللعب بروح الفريق وإلا فتك بهما الزومبي الحانق.. لكن الأمور تطورت بينهما وحدث ما حدث..
لكن هل طلقها فعلاً بسبب تلك المشادة؟ أم لأنها فشلت في منحه الطفلة التي كان يتمناها.. كان بعكس غالب الرجال الذين يتمنون إنجاب الذكور ويتعبون معهم زوجاتهم.. لكن هذا لم يشفع له لدى زوجته.. لم تعطيه الطفلة التي تمناها من الدنيا .. ولم تكن ممن يتحلون بالروح الرياضية في اللعب كذلك!
الزواج في ذلك الزمن يحتاج شجاعة غير عادية.. إنه كزواج اليعاسيب.. تعرف أنك ستموت مبكراً جداً بالسلالي، فيكون قرار زواجك معناه أنك تريد أن تفعل شيئاً ما قبل أن تموت.. على الأقل ستجد من يدفنك.. والطلاق قبل الإنجاب معناه أنك غالباً ستموت وحدك كالكلب..
ثم حدثت واقعة صديقه إيهاب، فدق جرس الإنذار في عقل باسم وقرر أن يقلع عن ارتياد العوالم الافتراضية للأبد..
لكن فائدة العوالم الافتراضية أنها تنسيك واقعك الكئيب.. ومعنى أن تقلع عن ارتيادها أنك ستصاب بالاكتئاب.. إذن أنت مخير بين اختيارين إما الاكتئاب أو الجنون.. وهكذا فضل الاكتئاب فصار ملفه في العمل يحتوي على الكثير من الدوائر الحمراء المشعة، والتي كلما ازدادت كلما ازدادت احتمالات طرده من العمل..
من قال أن الاكتئاب لن يصل بك لحد تلف الأعصاب والجنون.. كل شيء في هذا العالم يقود للجنون في النهاية..
لهذا تلفت أعصاب باسم وصار كالقنبلة التي تنتظر الأحمق الذي سينزع فتيلها..

***

كان يعرف أن بقائه حياً مرهون بالوقت الذي سيستغرقه فحص حالته شرائحه في وحدة مكافحة التمرد. هل هي حالة تمرد أم جنون؟
وكان باسم ينتظر.. يخط على الجدار عبارات تسخر من النظام العالمي الجديد، ثم يستلقي على ظهره وينظر لسقف وحدته.. أحلام اليقظة هذه لا تتركه وشأنه .. حلم الفرار من ذروة المجد البشري..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
ويستيقظ من صحرائه على صوت أزيز شرائحه الذكية الجائعة.
لكن مهلاً هذا الأزيز يبدو أكثر حدة هذه المرة.. كما أنه قد بدأ يتشنج.. أه.. يبدو أن ساعته قد حانت.. في الصباح سيجدونه قد مات بالسكتة الذكية..
تمرغ في الأرض.. حاول التشبث بأحد قوائم الفراش، لكن أعصابه خانته .. ها هم قد جاءوا من أجلك..

***

ادخلوه في كابينة تخاطر تشبه ثمرة خرشوف كريستالية، ثم قاموا بسرد تاريخه المظفر أمام عينيه، قبل أن تظهر له صورة ثلاثية لفاتنة شقراء تلوك اللادن.. أعلنت له أنه مواطن ذو سجل غير مشرف.. إنه عار على مقاطعة إلوسيوم المجيدة.. هنا انفجر فيها باسم:
ـ وما الجديد أيتها القردة الشقراء؟
تباطأت سرعة مضغها للادن وكأنها تزن كلمات باسم الغريبة..
ـ هل تراني قردة شقراء؟
قال ملوحاً بذراعه في وجهها :
ـ نعم.. أنا أراك قردة شقراء.. لا تنس تدوين ذلك في سجلي الغير مشرف..
هتفت كأنها تخاطب شخص أخر لا يراه باسم :
ـ لديه هلوسة بصرية كذلك يا سيد جاد..
وثب باسم ناحية صورتها ثلاثية الأبعاد، وظل يوجه لها لكمات متتالية وهو يصيح :
ـ أنا لم أخرج كل ما لدي بعد يا أبناء الـ... هه.. هه..
ـ جنون عام.. مسكين..
وقف يلهث من فرط الجهد، لكنه شعر بتحسن حتى توقع أن يرى وجه الشقراء متورماً.. صاح وهو ينظر لوجهها البارد في غل :
ـ متى ستذهبون بي إلى الشريحة صفر؟
سألته باستمتاع:
ـ من قال لك أن هناك شريحة صفر..
ـ أكيد هناك واحدة..
ـ المؤكد أن هناك وحدة خاصة للمجانين..
خر باسم على ركبتيه وقبض على عنقه صارخاً :
ـ بل أريد أن أذهب للشريحة صفر..
اختفت صورة الفتاة، وسمع صوت باب الخرشوفة الكريستال يفتح.. استدار ليجد ذلك الروبوت العملاق ذي الكلابات يقترب منه.. وقبل أن يبدي أي حركة أطبقت كلاباته على أطرافه الأربع وثبتتها إلى الأرض..
بعدها شعر بتلك الوخزة فتشنج جسده قليلاً ثم بدأ يرتخي.. لقد تم حقنه بمخدر ما.. شعور لذيذ ووعيه يتسرب منه كما يتسرب الهواء من البالون المثقوب.. لقد ثقبه ذلك الروبوت؛ لذا سيظل يطير كأي بالون يحترم نفسه .. يطير.. يطير .. حتى يصل إلى ذاك الكوكب البعييييييييد............
...........................

***

حينما فتح عينيه ثانية وجد نفسه مقيداً في فراش وهناك خراطيم تدخل وتخرج من كل شبر في جسده.. حوله عدد من الصور ثلاثية الأبعاد تصور فصوص دماغه.. حركة أمعائه.. قلبه.. هناك رجل ودود يبتسم له برقة وهو لا يدري إن كان حقيقة أم صورة ثلاثية أخرى.. كان يرتدي زي الأطباء المميز..
قال له الودود :
ـ عود أحمد..
انفرجت شفتي باسم عن ابتسامة منهكة وهو يتمتم :
ـ لم أر أحدهم يبتسم في وجهي منذ قرون.. هل أنت حقيقي؟
اقترب منه الودود وهو يقول :
ـ لقد وجدنا أنك مجنون بشدة..
ـ ولي الشرف..
ـ سيتم إيداعك في وحدة خاصة بالمجانين الخطرين..
ـ أحب العزلة..
مال عليه الودود بوجهه وازدادت ابتسامته وهو يقول بخفوت:
ـ حمداً لله على سلامتك يا بطل..
همس باسم وهو يشعر بثقل في جفنيه:
ـ بطل؟
ـ تكلم على راحتك.. المكان نظيف كقلب طفل.. ولقد تم تخليصك من كل الشرائح البغيضة التي زرعوها في جسدك لتحصي عليك أنفاسك..
ـ من أنت بالضبط؟
ـ يمكنك أن تعتبرني مندوباً من عند الرفاق..
اتسعت عينا باسم وبدأت ضربات قلبه تتسارع.. الرفاق هو الاسم الذي يطلقه المتمردون على أنفسهم.. لكنه ممنوع على أي مواطن خاضع للنخبة بأن يسميهم بغير اسم المتمردين..
ـ كيف؟
تساءل باسم بصوت مبحوح فبدأ الودود يشرح له.. إنهم يرصدون أي بادرة تمرد تطرأ على مواطني الشريحة جـ الكادحة.. من ثم يتدخلون في الوقت المناسب لالتقاطهم.. من حسن الحظ أنهم نشطون جداً في مقاطعته إلوسيوم، لذا فحينما أفقدوه وعيه في وحدة التخاطر وقاموا بنقله للوحدة الطبية للكشف على قواه العقلية، كانوا لا يدرون أنه سيكون بانتظاره مندوب من الرفاق يتولى أمره..
ـ التنظيم لا يقبل متطوعين أبداً.. بل هو الذي يختار دائماً..
قال باسم وقد بدأ يستوعب المفاجأة:
ـ لقد كنت بدأت أشك في وجودكم أصلاً..
ـ هذا جزء من خطة الخداع..
الآن هو خارج عن سيطرة النظام العالمي.. لم يشعر في حياته بمثل هذا الإحساس.. كلمة حر لا تعبر أبداً عما يجيش بنفسه الآن..
ربما عبرت تلك العبرة الحانية التي سالت على خده.. سينضم للأخيار ويحارب الأشرار.. تماماً مثلما كان يفعل في ألعاب الفيديو..
ـ ماذا بعد؟
قالها وهو يغمض عينيه مسترخياً في فراشه فسمع صوت الودود يجيب :
ـ سيتم إرسالك إلى مقاطعة أخرى لتبدأ فيها من جديد مع إحدى أسرنا هناك.. ستذهب إلى .. تارتاروس..
فتح باسم عينيه متسائلاً :
ـ تارتار ماذا؟!
ـ تارتاروس.. ستصير هناك شخصاً مختلفاً.. ستنس كل شيء عن حياتك الماضية.. أنت منذ هذه اللحظة إنسان جديد..
تمتم باسم :
ـ أنتم متغلغلون جداً في النظام العالمي..
ـ النظام العالمي كأي نظام لا يخلو من الثغرات .. ونحن نحسن استغلال تلك الثغرات..
هنا سأل باسم سؤالاً مباشراً :
ـ ماذا تريدون من النخبة ؟
ظل الودود صامتاً وإن كف عن متابعة الشاشات.. ثم استدار ببطء ليواجه باسم.. لقد تلاشت ابتسامته الودودة وحلت محلها صرامة وقسوة غير عادية وهو يجيب:
ـ لا نريدهم على الإطلاق.. العالم سيكون أفضل بدونهم..
***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..
قديم 06-18-2019, 10:27 PM
المشاركة 10
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(2)

عفاف كانت زوجة وأم..
زوجة لرجل يعمل ضابطاً في الجيش الأممي.. يدعى حسن..
وأم لطفل جميل في السادسة أصر والده على تسميته عماد الدين لسبب غير مفهوم..
زوجها كان طبيعياً حتى قرر أن ينغمس في قراءة كتب الماضي.. فغاب عن حاضره.. وكانت عفاف تخبره أنها تنتظر اليوم الذي سيعرضونه في متحف للحفريات بفارغ الصبر..
كانت تدرك أنه قد بدأ يبغض النظام العالمي وكل ما يمت إليه بصلة منذ انغمس في القراءة.. زوجها هو الوحيد الذي ما زال يملك كتباً حقيقية في عالم الإلكترونات السابحة والعوالم الافتراضية.. وكان بحكم كونه في الجيش الأممي يخضع لنظام شرائح مستقل غير شرائح المدنيين .. وتعرف أنهم قريباً جداً سوف يستدعونه ويحاسبونه على أفكاره المعادية التي لا يمكن كبحها.. سيحاكم بتهمة الخيانة ويضرب بالرصاص .. ربما سيجعله هذا سعيداً فعلى الأقل سيموت بوسيلة قديمة.. لن يقضي بسكتة قلبية كما هو الحال مع المدنيين المتمردين..
هكذا كانت عفاف تعد نفسها لحمل لقب أرملة من قديم.. لكن زوجها قرر أن يرحل بدون صخب.. لا تهم خيانة ولا رمي بالرصاص..
واستيقظ عماد الصغير يوماً ليجد فراش أبيه خاوياً.. واستغرب لماذا لم تبك أمه وهي تعلمه بالخبر.. ولماذا اختفت كتب أبيه مع رحيله عن العالم..
هل كانت تنتظر وفاته بفارغ الصبر لتتخلص من كل ما يمت له بصلة ؟
حينما كانت تنظر في عيني ولدها كانت ترى نظرة انكسار تثير أعصابها.. كانت تردد في نفسها بغيظ : أفهم أنه قد صار ظهرك مكشوفاً للعراء.. مهما دثرتك بالأغطية الثقيلة.. فغطاء الوالد لا يعوض.. أفهم هذا ولا أجد لك حلاً إلا أن تسكت عينيك التي ترمقني بها بهذه الطريقة..
ـ لماذا مات والدي؟
قالت له وهي تقلب بصرها في إعلانات المرئي :
ـ كل الناس يموتون..
ـ ويذهبون إلى الجنة..
تركت النظر في الشاشة بعد أن اكتشفت أن ولدها بدأ يستعمل عقل الطفل الجهنمي في جلب المتاعب عن طريق الأسئلة المستفزة.. قالت: :
ـ الطيبون منهم فقط، و المزعجين يذهبون لهيدز..
ـ وأبي كان طيباً؟
قالت من بين أسنانها :
ـ أكيد..
ـ متى أراه ثانية؟
ـ اطلب له الرحمة.. وغداً حينما نموت جميعاً سنلتقي جميعاً في الجنة..
ـ ولماذا نؤجل عمل اليوم للغد؟
أغلقت المرئي بعصبية..
لعلها الآن تدرك فائدة الأب في حياة الأسرة.. فهو الشخص الذي كان سيريحها من كم الأسئلة والاستفسارات التي تنهال على رأسها الآن.. هذا يذكرها باختبار لمادة لم تذاكر منها سوى صفحة واحدة من أول الكتاب وصفحة من أخره.. وعليها أن تستنج ما بينهما..
لكن عذابها هذا لم يطل.. لأن عذاب أكبر كان بانتظارها.. كان طفلها الوحيد على موعد مع المرض الذي سيعجل به..
سيكون لديها متسع من الوقت لتجن.. لتظل تنهش مرتبة الفراش التي ترقد عليها جثته.. جثة تركها السلالي اللعين هيكلاً عظمياً مدهون بالشمع..
في الأيام التالية سيكون لديها متسع من الوقت لتكره نفسها وتكره النظام العالمي الذي تحيا فيه، وستتمنى لو شاركت في هدمه على رؤوس من فيه..
لم تكد تفكر في هذا حتى فوجئت بأن كل شرائحها الذكية معطلة.. وحينما غادرت وحدتها متجهة إلى أقرب مركز معتمد للصيانة فوجئت بذلك الزائر الودود على باب دارها..
ـ الشرائح الذكية لا تعمل في وجودنا..
ـ من أنتم؟
ـ نحن العدو رقم واحد للنخبة الأممية..
قالت وهي تبتسم ابتسامة غامضة :
ـ لقد وقعتم على منافس جيد لكم في كراهية النخبة..
كانت جملتها تلك بمثابة توقيع على عقد انضمامها للرفاق..
نزعوا عنها شرائحها وأخبروها أنها سترحل إلى مقاطعة أخرى
لتبدأ فيها من جديد..
قال لها الودود :
ـ في تارتاروس حيث ستذهبين.. توجد أسرة من أعرق أسر الرفاق.. ستكونين واحدة منهم.. عسى أن يعوضك هذا عن حياتك الأسرية التي دمرت في إلوسيوم..

***

في تارتاروس نسب التلوث مرتفعة جداً.. لذا لن يمكنك السير خطوتين في الهواء الطلق بدون قناع واقي على وجهك..
والبعض كذلك كان يحمل على ظهره أنابيب أكسجين للطوارئ.. والجو أصفر مكفهر كوجه الزمنى، والزحام شديد ودرجات الحرارة مرتفعة بفعل التلوث والعوادم..
هذا هو المكان الذي اختير لباسم ليبدأ فيه من جديد..
إنه انحدار في مستوى المعيشة بلا شك، لكنه انحدار من أجل القضية.. هكذا قالوا له هناك.. وهكذا مضى في طريقه بحذر كي لا يصطدم بأحد بسبب قناعه الذي يرى منه بالكاد.. الجو العام هنا يذكره بجو الحروب الكيماوية القديمة..
المقاطعات الأسوأ هي الملاذ الآمن للرفاق دائماً، فمع ارتفاع نسب التلوث والعوادم تخف قبضة النظام العالمي، ويدب العطب في أجهزته الذكية.. وهذا هو كل ما يريده الرفاق..
يخيل إليه أنهم توصلوا لاتفاق ضمني بينهم وبين النخبة ههنا.. لكم الاسم ولنا نحن الإدارة الحقيقية.. فمن يعبأ بمشاكل تلك المقاطعات التي هي على شفا البركان..
كان على وشك فقدان الوعي حينما قابل عارف لأول مرة..
كان طويل القامة ضخم الجثة وعضلاته تعلن عن نفسها من تحت الثياب.. تبادل معه كلمة السر بالإشارة، لأنهم لن يستطيعوا الكلام من وراء الأقنعة.. لذا يلتزم جميع المواطنين هنا بتعلم لغة الصم والبكم للتفاهم في الطرق العامة..
سيتولى عارف تدريبه وأقلمته على حياته الجديدة.. سيكون رفيقه الأكبر، أي أستاذه ومعلمه..
بعد التعارف اصطحبه إلى فندق لوتس حيث سيقيمان سوياً.. حينما دخلا إلى اللوبي سلموا أقنعتهم لأحد العاملين ووقفوا يتنفسون هواءً نقياً نوعاً ما.. هناك فلاتر تقوم بتنقية الهواء بالداخل حتى يتمكن البشر من التحرر من الأقنعة المرهقة والتخفف من حمل أنابيب الأكسجين..
صاحبة الفندق عاهرة قديمة وجاسوسة نشطة لصالح شرطة النظام العالمي .. اسمها ليليان.. يمكنك أن ترى في عينيها وتجاعيد وجهها تاريخها الأسود المليء بالمآسي والويلات..
قال له عارف فيما بعد أنه فخور لكونه يعمل تحت سمع وبصر تلك البومة العجوز.. ليس من السهل خداع العقارب كما هو معلوم..
لكن لماذا نسكن في فندق صاحبته عميلة للشرطة؟
الجواب أن هذا ليس من شأنك أنت، لكل مقام مقال..
المكان بالداخل لا يشجع على الإقامة فهو قاتم وغير نظيف.. كاد يصارح عارف برأيه لكنه فوجئ به يقول وهو يغمز بعينه كأنه سمع أفكاره:
ـ هذا أرقى فندق في تارتاروس كلها..
طبعاً ابتلع باسم ريقه ولم يعقب..
بعد أن أكلا طعاماً لا يقل شناعة عن المكان طلب منه عارف أن ينام قليلاً قبل أن يبدأ التدريب.. نام باسم قليلاً جداً حتى اضطر عارف في النهاية إلى هزه في عنف كي يهب من فراشه مفزوعاً وهو يصيح:
ـ من أنت؟
تجاهل عارف سؤاله وهو يقول ببرود :
ـ لم أطلب منك أن تموت هنا.. قم فلدينا عمل طويل..
علمه الرفيق عارف كيف ينظف المكان الذي يسكن فيه من أجهزة التنصت التقليدية.. كان يتمنى لو علمه كيف ينظف المكان من الحشرات والأتربة والبقع الصفراء كذلك ، لكن هذا لم يكن يوماً من اختصاصهم .. الرفاق يريدون تنظيف العالم من النخبة التي تحكمه بالحديد والنار.. أما القذارة فستزول بالتدريج مع زوال الطغاة..
بعد درس التنظيف بدأ عارف يلقنه أساليب الرفاق في التخفي.. كيفية المراقبة والهروب من المراقبة..
ولما تحول عقل باسم إلى خلية نحل طنان قال له عارف :
ـ لنواصل غداً..
ـ هل تستعدون للحرب ههنا؟
قالها باسم مداعباً، لكن عارف لم يبتسم كعادته.. قال :
ـ أنت لم تنضم لفريق الكشافة المدرسية..
هز باسم رأسه محبطاً بمعنى بلى.. الحقيقة أنه لم يتصور التمرد بهذه المشقة..
كان يسمع عن عملياتهم من خلال النشرات فيمتلئ بالإثارة كأنه يتابع مباراة كرة قدم لفريقه الأثير.. ولما صار جزء من الفريق نفسه تبين له أن صناعة الإثارة ليست مثيرة دائماً..
إنه يتلقى تدريبات غاية في الغرابة والخطورة.. كيف تصنع متفجرات من الطعام الذي تطهوه لك الأخت ليليان؟.. كيف يمكنك تحويل مسكنك لجحيم لو تمت مداهمتك في أي لحظة؟.. هؤلاء محترفون للغاية في التدمير.. تخيل باسم أنهم ربما يفكرون في تدمير نصف الكرة الأرضية حتى يتمكنوا من حكم النصف الأخر ببال رائق..
بعد عدة أيام من التدريبات القاسية والمتواصلة قال له عارف أن عليهما زيارة الأسرة الكبيرة في تارتاروس .. هذا يعني أن باسم قد اجتاز تدريبات القبول الأولية داخل الأسرة بنجاح .. وأنه قد حان الوقت لمقابلة ربها..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قردة وخنازير (رواية)
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قرية الفاو أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 0 06-17-2016 11:50 PM
قرية ذي عين أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 0 08-24-2015 10:10 PM
إيتزار أو قرية الصبا المصطفى العمري منبر البوح الهادئ 2 08-06-2011 11:43 PM
إيتزار .... أو قرية الشجون المصطفى العمري منبر البوح الهادئ 1 07-19-2011 01:04 AM

الساعة الآن 03:56 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.