احصائيات

الردود
5

المشاهدات
7713
 
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي


ايوب صابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
12,766

+التقييم
2.39

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7857
07-31-2013, 01:59 AM
المشاركة 1
07-31-2013, 01:59 AM
المشاركة 1
افتراضي الواقعية السحرية في رواية الفينكس قراءة دينا نبيل
توطئة: قد يُظن بالأعمال الأدبية التي تدخل في نطاق تيار الواقعية السحرية أنّها تلك المتضمنة لحكايات الجن والعفاريت، والحقيقة فإنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير؛ إذ إنّ الفنتازية وحدها لا تكفي كي تقدّم فن الرواية المعقدّ الذي يجسّد ملحمية الحياة البشرية . فلا تقتصر الواقعية السحرية على ما هو عجائبي على الرغم من كون العجائبية وشيجة رئيسة في هذا التيار ؛ فالجانب السريالي الباحث في الماورائيات والأغوار النفسية للإنسان وانعكاسها على نظرته لما حوله ركيزة رئيسة لهذا التيّار أيضاً، ليس ذلك فحسب ولكن وعلى حدّ قول الأديب الأرجنتيني خورخي يوليوس بورخيس: " إنّ الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه "، فإنّ الجانب الأسطوري يعدّ كذلك بعداً محوريّاً في الواقعية السحرية .
*يجمع تيار الواقعية السحرية بين القديم والحديث ؛ (القديم ممثلاً في العجائبي، والحديث ممثلاً في استخدام الأسطورة بالمفهوم الفني والأدبي والثقافي، والسريالي أو ما فوق الواقع والبحث في الجوانب الباطنية للإنسان وانعكاساتها على الواقع [...] وتأثيرها على وجوده ورؤيته للعالم وللكون)[2] . لذا فعند النظر إلى أجواء الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية – قارة الصدامات الزمنية -* وظهور الأوضاع المتناقضة التي نجم عنها الدكتاتورية وتفشّي الفساد، يتضح سبب ازدهار هذا التيار الذي يربط الماضي بالحاضر ويغوص في أعماق الزمن البدائي ليخرج بأبطال الأساطير الذين يحيلون الواقع المرير إلى جو غرائبي ؛ يجسّد الكاتب فيه عالماً أفضل ممسكاً بالسراب على أرض الواقع . وعند النظر إلى واقعنا العربي المأزوم، نلحظ خصب الأجواء التي أدّت إلى ازدهار الواقعية السحرية في الرواية العربية الحديثة ؛ فالمنطقة العربية متشظية بين بلدان واقعة تحت نير الفساد والدكتاتورية بعد نيل استقلالها السياسي، مما أدى إلى ظهور المعتقلات والحجر على حرية التعبير بشتّى أشكاله، بينما صارت مجتمعات أخرى فريسة لاستغلال الغرب لثرواتها لاسيما النفطية . فغدا المجتمع العربي على شفى الثورة بين ليلة أو ضحاها ؛ ومن ثمّ يتضح سبب توجه الأدباء - المسرحي والشاعر وكاتب القصة القصيرة - إلى كتابة الرواية ؛ لأنها الأقدر على (تصوير المجتمع والتعبير عن ضمير الإنسان وأشواقه ومصيره واستيعاب التاريخ والتنبؤ باتجاهات المستقبل)[3]، بل ويمكن من خلالها رصد وضع الأمة وواقعها المأزوم في مواجهة آمالها وتطلعاتها .
وفي رواية " الفينيكس " للكاتب الليبي محمد المغبوب يلحظ المتلقي ملامح الواقعية السحرية بدءً من العنوان " الفينيكس " أو الفينيق – الطائر الأسطوري، ليتوازى بدقة محسوبة الجانب الواقعي الممثل لأحوال ما قبل الثورة من أوضاع فساد متفشية، جنباً إلى جنب مع عوالم ماورائية تتبدّى في الأحلام والتخاطر والأحوال الصوفية والعالم العجائبي الذي يزوره البطل فضلاً عن الدلالات الأسطورية ذات المحمولات الرمزية المنسوجة حول بطل الرواية الذي يشترك مع طائر الفينيكس في كثير من الملامح، حتى إنّه من الممكن إطلاق اسم " الرجل الفينيق " عليه . فيضع الكاتب روايته التي تمسك بخيطي الواقعية - التي (لا ينفك أدبها يلازم المجتمع وحياته في مشكلاتهما وأحداثهما)[4] – مع السحرية بجوانبها الأسطورية والسريالية والعجائبية لينطلق بها مؤثثاً فضاءات الثورة وكيفية تولّدها من رحم المعاناة الإنسانية التي تهيم في شتى العوالم متخبطة في حياة بينية بين الحياة والموت بحثاً عن الحياة الحقيقية .
*
المعلومة السردية:
تقع الرواية في تسعة فصول يشترك في روايتها بالتناوب أربعة رواة هم: (الدكتورة وُدّ – راضية – سارة – البطل)، بينما ينفرد البطل ووُد برواية الجزء الأخير من الفصل التاسع " طريق آخر " . فالرواية من ثمّ رواية بوليفونية أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية تتنقل بين عوالم عدّة ما بين الواقعي والعجائبي والسريالي والأسطوري . تدور أحداث الرواية عن حادث شاحنة يقع لأحد المثقفين الذين تعرضوا للاضطهاد في بلادهم فاختاروا المنفى في تونس، مما أدى إلى إصابته البالغة ومن ثمّ دخوله في غيبوبة طويلة . تظهر على صعيد حياة البطل ثلاث نساء يتبادلن الأدوار بين ظهور واختفاء لتتضح لهن حقيقة مشاعرهن تجاه الرجل الفينيق الذي كان محوراً في حياة كل منهن . تختفي كل النساء من حياته وتبقى وُد حتى إفاقته من الغيبوبة لتبدأ معه رحلة العلاج، مما يصادف اندلاع الثورة في بلاده فكان قراره بالعودة إلى الديار مجدداً . تبدو المعلومة السردية الرئيسة حول الرواية واقعية ممكنة الوقوع لاسيما عندما يعرض الكاتب أحوال المثقفين وأهل الإبداع وسط أجواء الفساد المستفحلة في مجتمعاتنا العربية والتي هي أصدق الواقع بلا مواراة، يقول:" أنا جثة تمشي على الأرض يريدونها أن تسير على أسنانها كي يضحك منظرها ويشبعوا نهم سلطتهم، وفي أحسن الأحوال يا سيدتي لست إلا وليمة شهية لأسنان الزمن الردئ الذي نعيشه بزعامة الغلمان الذين يسيرون بنا إلى هاوية لا قرار لها / 131 - 132 " ولكن الكاتب يدمج مع تلك الواقعية المريرة عوالم سحرية ليعطي مستوىً جديداً للعمق الدلالي والجمالية البنائية لعمله الأدبي .
*
المحاور:
1- الملمح السريالي
2- الملمح العجائبي
3- الملمح الأسطوري
4- الحياة البينية
*
1- الملمح السريالي:
يلجأ الكاتب في رواية " الفينيكس " للمزج بين العالم الواقعي والسريالي، فقد ( يبلغ النفور ببعض النفوس حداً لا تستطيع معه أن ترى ما في الواقع من قبح، فتظن أن باستطاعتها أن تحيله جمالاً إذا مسته بجناح الخيال)[5]، أو إضفاء ما يعطي للأشياء روحاً جديدة تشجع النفس على رؤية واستنباط الخلل والسعي نحو تغييره ؛ لذا فيعتمد الكاتب السريالية ركيزة رئيسة في واقعية روايته السحرية. والسريالية ( ترفض التسليم بما هو واقع ومألوف وتقليدي وتعيد اكتشاف الأشياء في نقاء وتلقائية وبكارة وفطرية، بما يعيد للأشياء نضارتها وطزاجتها)[6]، فيبحث الكاتب في الماورائيات وما فوق الواقع ويستخدم تقنيات تساعد على هذا المزج بين الواقع اليومي الآني والعالم السريالي . ولعل أشدّ ما مكّن الكاتب من استكناه عالم الماورائيات هو اعتماده لتقنية " تيار الوعي "، وهو (أحد أنماط الخطاب المباشر الحر [...] الذي يحاول اقتباس مباشر للذهن [...] بالتركيز على التدفق العشوائي للفكر [... فـ] يمكن لـ" تيار الوعي " أن يقدم كلا الانطباعات والأفكار)[7] حال ولادتها ويرصد تداعيها . مثال ذلك* تقاطع السرد مع ذكر وُدّ لانطباعاتها نحو راضية وتداعي أفكارها وتدفق مشاعرها المتضاربة حولها بحسها الأنثوي ثم التعريج للحديث عن رجلها الفينيق الذي يستحيل بشخصيته أن تكفيه امرأة واحدة ثم الانتقال لبعض الاسترجاعات الخاصة بها أو بالبطل وربطها بالتاريخ ثم العودة إلى الواقع . وهكذا أفاد الكاتب من نوع هذه الرواية - الرواية البوليفونية في رسم استقلالية الشخصيات النسبية للقفز بالقارئ إلى عوالم الشخوص الداخلية وولوج خباياها وتعقيداتها حد التناقض .
يستعين الكاتب في رواية " الفينيكس " بتقنية الأحلام التي تمثل في حد ذاتها ( صورة مختزلة للواقع أو هو اختزال للعلاقات الاجتماعية عبر الرموز)[8] ذات الإحالات التي ترتبط بالواقع . يأتي الحلم في خمسة مواضع متفرقة على لسان الرواة (راضية – سارة – ود) وكلها تدور حول " الرجل الفينيق " . تستعرض راضية حلمها مبتوراً ثم تكتمل صورته في نهاية روايتها، تقول: " جاءني يرتدي ثوباً أبيض ويضع على رأسه لحافاً يظهر وجهه الوسيم بلحية بيضاء أيضاً ساهم الطرف في هدوء كبير يكتسي الجلال والوقار / 48 ... كأنني كنت عارية وجدته يضع اللحاف على جسدي، ويمسح بيده جبهتي، وأنا أحاول أن أكلمه، فلم تخرج الحروف حلقي وهو يبتسم لي .. وأنا التي فرحت بلقياه حتى وجدته يبتعد عنّي خلف المجهول فلا أجده / 67 – 68 " يمثّل هذا الحلم المليء بالرموز حقيقة بواطن راضية التي تقول عن نفسها أنها قريبة للبطل . إن الجدلية بين التعرية والتغطية في الحلم على المستوى المجازي وثيقة الصلة بدواخل راضية وباستشراف نهاية علاقتها بالبطل الذي أسهم في تعرية ذاتها أمام عينيها، تقول: " لقد اكتشفت نفسي من جديد وكان هو من نزع الغطاء عن جهلي وجعلني أراني في مرآة ذاتي على الشكل الذي أنا عليه / 76 " فقد كان للبطل دور كبير خلال مدة تعرفها إليه في تنوير عقلها وتبصرتها بحقيقة الحرب الدائرة في بلادها الجزائر وصراعها الداخلي بين البقاء في المنفى أو العودة إلى وطنها المشتعل ؛ فليست الحياة هي الشهادات العليا وإنما هي العودة إلى الوطن وربط مصير الإنسان بمصيره ليشعر أنه يحيى من أجل قضية جليلة.
*تأتي سارة كذلك بحلم مبتور تستأنفه في الجزء الثاني من روايتها، تقول: " هيئته كانت على صورة شيخ جليل يرتدي ثوباً ناصع البياض، بوجه له عينان قلقة تحملقان حولهما وتصيبني بسهام نارية .. يقول: تبدين كأنك لست أنت وفي الوحل تمشين بصعوبة بالغة / 94-95... كما عهدته واثق المشية يكسوه الجلال اقترب مني ومسحت يده اليمنى شعر رأسي ومضى / 150-151" . إن رمزية هذا الحلم لا تقتصر على استخراج بواطن سارة وإحساسها بالذنب بسبب خيانتها للبطل الذي تدعي أنها كل ما لديه ولا ينازعها فيه أحد، على الرغم من أنها خانته مع صديقه زهران، فقد أفاقت إلى نفسها ولم تكتشف سوى أنها كانت تلبي نزواتها الداخلية وأدركت خلال غياب البطل البرزخي أنه كان حاضراً بقوة ينير طريقها في الوقت المناسب، تقول: " سأعود إلى النقطة التي انطلقت منها بمسوح ناسك وثياب راهبة / 256 " وهكذا رجعت كما تقول إلى وطنها.
يختلف حلم ودّ اختلاف دورها عن سائر نساء البطل ؛ فهي المتحملة للمسئولية حتى النهاية والمتابعة إياه في مرحلة الغيبوبة (البرزخية) حتى استجاب لمؤثراتها الخارجية وأفاق نتيجة لذلك، تقول في الحلم: " وجدته بجانبي نتمرغ على رمال الشاطئ خال إلا منّا ولا من صوت غير شهقاتنا نطارح غرامنا كما ينبغي لتا وكأنني شجرة يقتطف من خوخها وعنبها وكرزها وتفاحها وأوراقها تظللنا وأنا أشرب من جدوله كأن عطش السنين كان يسكنني حتى ارتويت / 183 " ؛ فيجتمع الضدين في رجل واحد - العربيد والناسك - ولكن عمق دلالة هذه الثنائية يكمن في التكامل ؛ الناسك كما ظهر في حلميّ راضية وسارة كالشيخ العارف الذي يبصرهما بحقيقة الطريق الذي يسلكانه ووجوب تعديل الطريق عن اللزوم . أما في حلم ودّ فلم يكن نقيضاً ؛ إذ تكمن دلالة اللقاء الحميمي بين ودّ والبطل الذي لا تفتر عن تسميته بـــ" رجُلي " في التكامل بين عنصري الخليقة (الرجل والمرأة)، وتوحد الكون بين قطبيه السالب والموجب ؛ وعلى حدّ قول ابن عربي أن (أتمّ وأكمل شهود الرجل الحق إنما هو في المرأة فالرجل كما قال صدر عن النفخة الإلهية والمرأة صدرت عنه فهو فاعل منفعل في وقت واحد)[9] ؛ تقول ودّ: " هكذا أنا ورجلي هذا كل منا يريد أن يكون للآخر، وصرنا أكبر من أي شيء بيننا إذ اتحد قلبانا وعقلانا وجسدانا معا، دون أن يلغي أحدنا الآخر / 286 " وهذا الاتحاد مرمى خلاصة الفكر الصوفي . وهكذا تعبر وُدّ جسر التخاطر بينها وبين البطل وتبعث إليه إشارات تجد آثارها في استحلامه في اليوم التالي وسط اندهاش من طبيبه المعالج لمصدر تلك النداءات.
*تتبدّى من خلال الأحلام ملامح الصوفية بأكثر من شكل كما أشرنا ؛ وفي الحقيقة فإن للصوفية في هذا العمل بالتحديد دور هام ؛ فالصوفية دخلت (ساحة الإبداع الأدبي بوصفها أحد العناصر المهمة في التيارات الحديثة وخاصة السريالية)[10] . تصل الصوفية المادة بعالم الروح، بل وتهدف إلى سمو الإنسان بروحه فوق المطالب الدنيوية ( فيشف البدن وتتحرر الروح وتتصل بأصلها الإلهي مما يمكّنها من تكشّف المستقبل والرؤية السليمة)[11] لمجريات الأحداث حولها، يقول البطل: " يبصر الصوفي جلال الله ونوره يرى به ما لا يراه غيره، لهذا فهو مكتفٍ بعبادته ولا شغل له إلا المزيد من العبادة حيث تقربه إلى مولاه الذي يهديه إلى المعرفة وفك طلاسم كل شيء / 217-218 " . يأتي دور البطل في الرواية كما أشرنا للمجسّد لدور الصوفي المكاشف لحقيقة الآخرين أمام ذواتهم ؛ فأبصرت شخوص الرواية كل منها حقيقتها الغائبة عبر تراسلهن معه روحانياً، إلا أنّ أكثر ما تتجلى فيه الصوفية عند آخر الرواية هو مشهد قيام الثورة وعقد المقارنة بين البطل الفينيق وصديقه زهران الحمادي . يؤثر زهران الديمقراطية (الجاهزة) في المنفى على العودة إلى الوطن لمعاركة الفساد وتحقيق الرخاء كما يعزم البطل أن يفعل، تقول ودّ: " زهران بغربته انفصل عن مجتمعه فلم يعد يتعرف عليه، أما رجلي هذا فإنه حمل هم الوطن وما وعى وهو يغادره لا يلوي على شيء تاركاً قلبه يقوده وأحسب أنه قارب على الوصول / 300 " . وبناءً عليه يتضح للقارئ كيف أن جوهر الصوفية يدعو إلى التجرد من المطالب الشخصية ونبذ الدعة والخمول في سبيل إعلاء الروح الإنسانية والثورة على شتى أنواع الجواذب الأرضية التي تحط من شأنها وهذه هي المبادئ الأولية للثورة في كل مكان أيّاً كان نوعها ؛ فالبطل الفينيق لم يكن شيخاً، وإنما كان صاحب قلم ثائر ورسالة ترك من أجلها فراش المرض وتعافى كي يعود إلى وطنه مقاتلاً على طريقته .
*فالاعتقاد أنّ الصوفية هي الانقطاع عن الدنيا اعتقاد خاطئ، وإنما هي التجرد من مطالب الذات الشخصية من أجل الذوبان في الكل واستبصار حقيقة واقع الإنسان بغية تغييره دون التعذّر بأعذار واهنة . ولعل أكثر ما يجسّد قضية " وصول " البطل الفينيق لمبتغاه كما ذكرت وُدّ، هو أحد الاقتباسات الميتانصية التي تكلمت عن طائر " السيمُرغ " الذي ذكره الشاعر الفارسي فريد الدين العطّار في ملحمته الشعرية " منطق الطير " . إن هذا الطائر يربط بين ملمحي الصوفية والأسطورية في آن واحد، فطائر السيمرغ طائر أسطوري يمثل إله الطيور الذي خرجت من ظله أشكال الطيور الأخرى، وهو يرمز لطريق السالكين من الصوفيين إلى طريق الله ويعرض للصعاب التي تواجه الطيور / الآدميين والأعذار التي يتحججون بها في طريقهم إلى عالم الروح بينما لم يفلح من أمة الطير سوى ثلاثين فقط من الوصول إلى آخر الطريق، فإن طريق الوصول جدّ طويل وشاق ومليء بالاختبارات التي تنقح وتمحص الصادقين من الأفاكين . وهكذا مكنت الصوفية شأنها شأن السريالية من الوصل بين العالم الجواني والبراني ؛ الجواني باستكناه خباياه النفسية واضطراباته وصراعاته الباطنية التي لا تنفك عن الواقع الخارجي المحيط، والبراني في استبصار حقيقة مجريات الأمور والسعي نحو تبديلها إلى الأفضل .
*
2- العالم العجائبي:
** يمتزج في رواية " الفينيكس " العالم الواقعي بالعجائبي - أحد الركائز الرئيسة في تيار الواقعية السحرية ؛ والعجائبية هي (شكل من أشكال القص، تعترض فيه الشخصيات، بقوانين جديدة، تعارض قوانين الواقع التجريبي)[12]، فتقدم بعداً دلاليّاً جديداً يتآزر مع الواقع (غير أنها تنضاف هنا وبصورة أساسية أيضاً إلى تفاصيل الواقع إذ يرسم القاص رسماً موغلاً في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل فيه)[13] ؛ فيذكر الكاتب على سبيل المثال معلومات علمية عن المخ غاية في الدقة يعقبها برحلة البطل البرزخية العجائبية التي تأتي بدورها في سياق قصة واقعية لمعاناة أحد المثقفين ممكنة الحدوث كما أسلفنا بالذكر . فالبطل الفينيق يدخل في غيبوبة لم يستطع العلم تفسيرها وينتقل خلالها إلى عالم جديد، لا نستطيع القول أنه حلم لأنه ليس نقلاً لبواطن الذات أو استشرافاً لواقعة ستحدث ؛ وإنما هو انتقال روحاني إلى عالم برزخي بين الدنيا والآخرة، يقول البطل:" شعرت أنني بين فضائين، أحدهما كأنني عشته وآخر أعيشه الآن، والأكثر من ذلك أنني أراني أتواصل مع عالم خارجي بحواسي وعدة وجوه تطفو على حيز مرئي من خلف ضباب خفيف / 235 "، وهذا العالم تعبر عنه ودّ بقولها: " تخوم الآخرة " ويسميه البطل نفسه بـــ " مدينة النفق " التي يمتد السرد عنها عبر فصلي (الهوة – ولوج النفق) .
*
*يتبدّى للقارئ أن " النفق " كوحدة لغوية تحمل دلالات سيمائية تدور حول البينية بين بداية وغاية، كما أنه ليس عالماً حقيقياً يعيش فيه الإنسان بل هو منفصل تحت الأرض، يقول:" وجدتني من فوق سحابة في القطب الشمالي معلقة في سماء الرحمن، تنزلني كآخر حبة ثلج أنزلتها، منزلقاً إلى فوهة أرض تبتلعني كلقمة سائغة دفعة واحدة ./ 205 " . يسيطر اللون الرمادي على المشهد والذي هو بصفته لونٍ بينيّ بين الأبيض والأسود يمثل أجواء هذا العالم الضبابي الغريب. تظهر في ذلك العالم متناقضات وفوضوية عمرانية وكلاب ذات أجنحة وأشباح وكائنات خرافية غريبة، يقول: " على مدى البصر كان النفق يمتد أمامي، إلى ناحية اليمين كائنات شبه بشرية، بقامات طويلة ورؤوس بشعر كثيف وأعين حادة خضراء اللون وآذان متوسطة وأفواه بشفاه حمر بصفوف أسنان ناصعة البياض ... ولم أر أي امرأة، وهو ما استغربت له ./ 207 ". لا يوجد في هذا العالم شيء مطلق وإنما كل ما فيه نسبي يتغير، فالرجال يختفون ويحل محلهم النساء العاريات في قصر الحاكم الطاغية الذي يستعبد شعبه ويحوله إلى أشباه بشر يستمتع بشذوذهم في سبيل الحفاظ على كرسيه.
*ومن هنا تتبدّى علاقة الصوفية بالعجائبية حول قضية النسبية، تقول ودّ: " مع أن الأشياء ليست على ما تبدو عليه فأنت باسمك وصورتك لست أنت بل شيئاً مفترضاً ويمكن أن تكون محض كذبة فكل ما يمكن أن يعبر عنك لدى الآخر ليس كما تبدو له / 172 "، فكل ما في الكون صور متباينة من أصل مطلق . وإن كانت الصوفية في جوهرها هي الوصول إلى الثورة، فإن العجائبية قد جسّدت الواقع بشكله الغرائبي المشوّه الملامح، وهذا على حد قول ماركيز رائد الواقعية السحرية أنه لا يكتب شيئا منبت الصلة عن الواقع . فإن ما عاينه البطل في مدينة النفق هو الحياة البينية التي تعيشها المجتمعات العربية حالياً فهم أنصاف أحياء، يزجّ بهم في السجون وتقيّد أفكارهم وتقهر أحلامهم وتضيع حقوقهم أو ينفوا من البلاد ؛ فتتشوه أشكالهم وأرواحهم ورغائبهم ويصيرون وسيلة لإمتاع الطغاة بينما يرتع أصحاب النفوذ في كل مكان.
*
3 - الملمح الأسطوري:
لا تمثل الأسطورة إحدى مفردات التراث وإنما هي جزء لا ينفصم عن اللاوعي الجمعي لدى الشعوب، ومن ثمّ فهي (تراث اشتراك لا تراث حكر، فلا يوجد شعب يزعم أن التعبير الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى)[14]، بل إن الأساطير تنماز بعالميتها وتلاقحها فيما بين الشعوب نظراً للتشابه النسبي بين المجتمعات على الرغم من تباين الطباع والأمزجة . والأسطورة* (سرد قصصي مشوّه للأحداث التاريخية التي تعمد إليه المخيلة الشعبية، فتبتدع الحكايات الدينية والقومية والفلسفية لتثير بها انتباه الجمهور)[15] . تشكّل الأسطورة ركيزة رئيسة في تيار الواقعية السحرية ؛ إذ يمزج الكاتب بين الواقع والأسطورة ؛ فيقوم بخلخلة هيكل الأسطورة ليعيد ربطها بالواقع مما يفتح دلالات جديدة للأسطورة وهذا ما يكسبها تجدداً ويمنح العمل الإبداعي حياة وقوة مستمدّة من الأجواء الأسطورية. يظهر الملمح الأسطوري في استجلاب مشاهد تاريخية إلى الواقع، تقول راضية: " عندما تذرع أحد الشوارع في ليبيا أو هنا في تونس أو تمضي إلى الجزائر ثم المغرب حيث آخر أعمدة هرقل العظيم ... فإنك تمشي في شارع أرضه مشى عليها من قبلك أقوام عدة ... حتى الأوربيون من إغريق ورومان وجرمان وإسبان وليست قرطاج بعيدة عن هنا، وصدى سنابك جواد حنا بعل تتردد مع تيار الهواء وأخيرا اتراك خطت أقدامهم هذا الشارع او ذاك / 63 "، فالتاريخ يخلل ويوضع جنباً إلى جنب مع الحاضر للوقوف على أوضاع الحاضر وحال التدهور والكساد التي صارت إليها البلاد بعد أن كانت أرضاً لأعظم الإمبراطوريات، فاستحضار التاريخ تقنية يعتمدها الكاتب لتقديم وحدة الوجود الذي تنتمي إليه الإنسانية بأسرها، وهو ما قالت عنه راضية " الزريبة الإنسانية ".
يتضح الملمح الأسطوري في رواية " الفينيكس " منذ عتبة النص الأولى " الفينيكس / الفينيق / العنقاء " وهو ذلك الطائر الأسطوري الذي ذكره تفصيلاً في اقتباس فصل " العنقاء " . وتأتي استعانة الكاتب بالأسطورة من خلال إسقاط سمات هذا الطائر على أحد شخوص الرواية وهو البطل الذي كما تعارفنا على تسميته " الرجل الفينيق "، بل وإعطاء أبعاد رمزية يستشفها القارئ عند انتهاءه من قراءة الرواية .وهكذا يلجأ الكاتب المعاصر إلى (الرمزية للتعبير عن الحالات النفسية المركبة العميقة .. وذلك بفضل الخيال الذي يستعين به لتصوير رؤى شعرية تعبر عن مكنونات النفس وخواطرها)[16] ووسيلة للبوح بالمسكوت عنه لاسيما في عصور الدكتاتورية والفساد التي تعاصرها مجتمعاتنا العربية . يلتجأ الكاتب إلى أسطرة البطل، فيجرده من الاسم ولم يحدد اسم موطنه، ويقرن صفاته بالفينيق ليصير رجلاً خارقا للعادة، تقول راضية: " أ يمكن لهذا الصعلوك العربيد فاتن النساء بعسل كلامه، أن يكون في الحلم ناسكاً يغطي عرى الآخرين، أن يكون مفتتحاً لبرق يلمع حتى في وضح النهار وعند الليل البهيم يشق الظلمة بألف قمر وقمر حتى يغشى العيون فلا تراه / 69 " فهو يهب الآخرين الحياة الحقيقية ويبصرهم بذواتهم ويشبع احتياجاتهم، كما أنه في كل مرة يكون فيها محاصراً من الموت، يفلت منه بأعجوبة، تقول ودّ: " رجلي هذا كطائر الفينيق تماماً فأكثر من مرة يسحبه الموت إليه، ويلامس تخوم الآخرة، لكنه يعود به إلى حيث المكان الذي اختطفه فيه ... ليس ترك الموت له يُعدّ " فينيق " بل قدرته على تحويل الخسارة إلى مكسب والقهر إلى كبرياء، والفشل إلى نجاح، وعلى أية حال فهو يمارس العودة من ثانية / 268" أو أن الموت يكتفي فقط بمجرد زيارته وهكذا تضيف أعماله ومواقفه إلى عمره الزمني فكأنه يعيش ألف عام .
إن رحيل البطل عن موطنه ثم وقوعه في الغيبوبة ومن ثمّ عودته مجدداً للحياة* وقراره بالعودة إلى الوطن تتماهى مع أسطورة الفينيق ومراحل حياة الطائر الخارق ؛ ففي الاقتباس الذي يضعه الكاتب في مقدمة فصل العنقاء، يقول: " وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولد ثانية، فتركت موطنها وسعت صوب هذا العالم واتجهت إلى فينيقيا واختارت نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى السماء وبنت لها عشاً . بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد .. دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي /* 259"، فالكاتب لم يضع اقتباسات ميتانصية اعتباطيّاً وإنما كان توظيفها مناسب تماماً للنص وللفكرة الرئيسة فيه . فقد غدا (الرمز طريقة تعبيرية لا يستغنى عنها [...] - والرمز هو الإيحاء – هو وسيلة للتعبير عن زوايا غامضة في النفس لا تقوى لغتنا أن تعرب عنها – هو صلة بين الذات والأشياء بحيث تتولد عن طريق الإثارة النفسية لا عن طريق التسمية والتصريح)[17] ؛ فالعنقاء رمز للحياة المتجددة، والبعث من الرماد، لذا فلم يكن عبثاً أن يأتي عدد فصول الرواية (تسعة فصول) وهذا الرقم في حدّ ذاته رمز للولادة والحياة الجديدة . وهذا ما ينطبق على البطل الفينيق الذي كانت حياته إحياءً لغيره وحتى غيبوبته البرزخية كانت تغييراً لحياة نسائه، وهنا تكمن الروعة إذ لا شيء عند المرأة أشد وطأة من شعورها أنها ليست الوحيدة في حياة رجلها وأن لديها ضرات، لذا فالكاتب وفق في اعتماد المرأة لتكون محور السرد الروائي في النص ؛ ومن ثمّ يدخل إلى خبايا مشاعرها لمعاينة كيف استطاع هذا الرجل تغيير نفسية وطبيعة المرأة الفطرية . كما يقف البطل الفينيق معادلاً موضوعياً للثورة وكيفية ظهورها ونباتها من الرماد وكيف تشتعل من الرماد بعد عدّ همم شعوبها في عداد الأموات ولكنها تنبت من جديد متحدية الموت الذي فرض عليها من قبل حكامها، فتشتعل نارها في الرماد لتؤذن بولادة حياة جديدة.
*
4- الحياة البينية:
يكثر في طيات النص الحديث عن البينية وكل ما يشبه المحطات، فالنص حافل بالترحال والسفر والتنقل بين المنفى والوطن وانعدام الاستقرار على صعيد حيوات شخوص النص. وقد أفاد مجدداً الكاتب من نوع الرواية البوليفونية التي تتسم بكرنفالية الفضاء ؛ فـــــــ(يمثل الفضاء " الزمكاني " للرواية فضاءً للصدامات والأزمات، ويتسم بالكرنفالية والتعددية حد التناقض، فتتنوع الأمكنة وتتحول إلي أماكن معادية تثير الاشمئزاز والقلق والموت، بينما يكون الزمن مهدمّاً مفككاً )[18] فالزمن واقع في النسبية فالرجل الفينيق تمثل سنوات عمره ما يعادل ألف عام، ولكن الاعتماد على المكان الروائي هو أكثر ما يحتفي به الكاتب باعتبار الرواية تقع ضمن الواقعية السحرية.
فالشارع مكان بيني بين رصيفين، تقول راضية: " الشارع في أي مكان عبارة عن فضاء محصور بين صفين من المباني [...] فالجميع لديه مارة يعبرون عليه أو يذرعون مسافته وهم يفكرون في شيء ما / 62 "، يتسم بالتعددية والمرور وتباين الأجناس والأقوام . وحتى المطعم يتسم باللا انتماء بل ويتحول إلى مكان مثير للقلق والترقب، تقول سارة:" كل من في المطعم جاء هارباً من أو فاراً إلى هنا حيث يجالس أحدنا وحدته مثلما أفعل الآن / 101 "، وكذلك الحياة البينية التي يخبرها البطل عند مروره بمدينة النفق ووقوفه في مرحلة بينية بين الموت والحياة . إن قضية الحياة البينية التي لا تجد الروح مستقراً فيها وتظل هائمة مترددة في الفضاءات بلا غاية أشبه بحياة الزومبي أو حياة أشباه الأحياء / الأموات التي يعيشها الإنسان العربي حالياً، فهو حيّ ولكن بلا حرية ولا حقوق ويعامل مهملاً كالميت . وقد تجسّدت تلك الفكرة عبر الفضاء الكرنفالي المليء بالمتناقضات لاسيما في عالم النفق العجائبي كما أسلفنا . فيطرح الكاتب قضية الوطن وحضنه الدافئ الباعث للأمان والاستقرار، فقد ظلت الشخوص على مدى الرواية بما يصورون مدى القلق النفسي الحاصل لهم بسبب الابتعاد عن الوطن حتى وإن وجدوا المعاملة الإنسانية والكرامة في المنفى، ومن ثمّ تلح الفكرة على القارئ، هل الوطن هو الذي يعطي الكرامة والحقوق للإنسان وإن كانت في بلاد الغربة أم أنه الأرض التي نبت فيها وعليه أن يتحمله ويبذل حياته فداءً لتخليصه من براثن الفساد .
*
خاتمة:
إن رواية " الفينيكس " رواية تنتمي إلى تيار الواقعية السحرية ليس لكونها تتسم بملامح سحرية فانتازية وإنما لتعانق ثلاثة جوانب ترسم ملامح هذا التيار وهم: السريالية والعجائبية والأسطورية . وقد نجح الكاتب في نقل هذه الملامح باستفاضة مستعيناً بجنس الرواية البوليفونية التي كانت أداة طيّعة في يده تمكنه من ارتياد فضاءات الواقعية السحرية المتباينة ؛ حتى أنه عند نهاية الرواية تتبدّى إمكانية الكاتب في التحكم بالخط الروائي على الرغم من ظهور قصة كل راوية كأنها قصة قائمة بذاتها لها استرجاعاتها وتشعباتها الخاصة . وهكذا فإنّ رواية " الفينيكس " تتماس مع الواقع وتنقله إلى القارئ بمرارته أحياناً وبمتناقضاته التي تصل حدّ العجائبية ليوصّل الكاتب إلى القارئ رسالة جليلة تتمثل في كيف تُولد الحياة من رحم الموت وتتأجج الثورة في الرماد وتحدث المعجزة نبذاً لحياة بينية لا يرتضي عيشها إلا أصحاب الشذوذ أو الأموات .
*
دينا نبيل
....................
*


قديم 03-12-2014, 03:21 PM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الواقعية السحرية نمط ردي استثنائي واظن انه لا يتقنه الا من عمل دماغه بصورة فوق طبيعية.

قديم 05-11-2015, 08:19 AM
المشاركة 3
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شارك من خلال
تويتر
فيسبوك
جوجل بلس
اكتب رأيك
حفظ
تعرفت بالصدفة على أعمال خوان رولفو الفوتوغرافية سنة 2009 بمعرض إقامة معهد سيرفانتس بالرباط، كنت أعتقد كما أغلب القراء أن رولفو صاحب الرواية البديعة «بيدرو بارامو» يكتب الرواية والقصة فقط ولا علاقة له بالتصوير الفوتوغرافي، لكن اكتشافي المبهر عرفني عن قرب بولعه الراقي بالفوتوغرافيا، وقد ساعدني هذا الاكتشاف على تفسير سبب تقشفه في الكتابة السردية.
الفوتوغرافيون يحبون الصمت والتكثيف وقد كان خوان رولفو من هؤلاء المحبين للصورة والإيحاء البصري. فيما بعد اهتممت بالجانب الفني لروائي الأمريكي اللاتيني المفضل، فوجدت أنه ترك أكثر من 6000 صورة فوتوغرافية.
يحب رولفو الأماكن المنعزلة، والنساء في حالة الحداد، والطبيعة القاسية، والوجوه المعذبة.. عالم صوره الفوتوغرافية يعرفه رولفو جيدا لأنه يلتقط مشاهد عن شعبه، الشعب المكسيكي وطبيعته القاسية، فقد طوال حياته يعيش بعمق وانفعال في هذه الصور التي التقطها، نرى ثقل الزمن كله، صور الأطلال تذكرنا بالماضي، زمن معلق، إلى أجل غير مسمى. تنضح أعماله الفوتوغرافية بأشكال متعددة من النسيان، والصفاء والصمت، صورة كلها بالأبيض والأسود يتجلى منها ضوء خاص ضوء جدا، يعكس بحفاوة حدادية عوالمه الأدبية وفي مقدمتها روايته «بيدرو برامو» الشهيرة، بحثت عن مدينة كومالا فوجدتها في كل مكان من صوره. بحثت عن أصداء الأسلاف فوجدتها في الأرض واليباب والسماء.
بدأ خوان رولفو التصوير منذ بداية الثلاثينيات متنقلا بين القرى المكسيكية، مستكشفا الجغرافيا والأنثروبولوجيا وتاريخ المكسيك، الصور التي التقطها تعكس شغفه بالمناظر الطبيعية المكسيكية والثقافات المحلية والعمارة المكسيكية. يتحدث كارلوس فوينتس عن صوره قائلا: «يبدو أن صور خوان رولفو تصور الصحاري والأراضي الحجرية، والجدران العارية، بشفافية سائلة وعذبة، كما لو كانت صورا مائية، وكأن رولفو انبثق من خارج قبور كومالا ليكتشف الظلال الساطعة».
تستدعي صوره الكثير من التأمل والاحتمالات فهي تعالج عالما إيقونيا بطريقة سردية كثيفة تتجنب قدر الإمكان الوصف والتفسير، قد يهيمن عليها الجانب السيرذاتي، فيغلب عليها التضخيم والتكرار الموضوعاتي، الذي لا يعيب تجربته الفنية بل ساهم في ازدهاء وعيه البصري المزدوج بين الرغبة في سيطرة على الكتابة العسيرة وإغراء الصورة المكملة والمحققة لإشباع روحي لفنان متقشف في الإبداع لا يستسهل الكتابة ولا ينقاد وراء وهم تحقيق تراكم كمي.
ولد خوان رولفو عام 1917 في منطقة من أفقر مناطق ساحل المحيط الهادئ في المكسيك، تدعى خاليسكو، وتوفي بميكسيكو في الثامن يوليو عام 1986. كانت طفولته مأساوية إثر اغتيال أمه ووالده وأعمامه، خلال (ثورة كريستيرو). هذا الحادث المؤلم ترسب في وجدانه وشكل النواة الجنينية لمعظم أعماله السردية والفنية.
عرف عن رولفو تضامنه مع الفلاحين والمهمشين في القرى المكسيكية، ولم يقتصر الاهتمام بالجانب الإنساني والاجتماعي بل أصبحوا موضوع قصصه وصوره، نال جائزة الأدب الوطنية في المكسيك عام 1970 وجائزة سرفانتس بأسبانيا عام 1985، حاز شهرة عالمية بفضل روايته الفريدة والوحيدة «بيدرو برامو» التي استلهمها من التمرد والعنف، الذي عاشته المكسيك نهاية العشرينيات حينما قتلت أسرته، ومعها آلاف الأشخاص.
وعلى الرغم من أنه كانت شهرته العالمية، ككاتب، إلا أنه التقط بحرفية ورؤية فنية عالية مئات الصور في ضواحي مسقط رأسه خاليسكو، هذه الصور تقدم واقعا مظلما ومثيرا للدهشة عن الحياة في المناطق الريفية في المكسيك في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
وعن هذه التجربة، يكتب إدواردو ريفيرو في كتابه «إشراق الكتابة وفوتوغرافيا الكلمات» عن تجربة خوان رولفو قائلا: إذا كانت طريقة رولفو السردية مماثلة لصوره الفوتوغرافية، فإنها تعرفنا وتدفعنا لرؤية ما لا يرى في أغلب الأحيان، يتحدث فنه الفوتوغرافي من خلال صمت صوره، يبدو أن خوان رولفو يقول لنا من خلال كتبه وصوره: انظروا! ابصروا! هذا العالم الذي أمامنا، وهذا يمزقنا بعبء كرب وحزن الواقع الملموس. تعالوا لتكتشفوه!

قديم 05-11-2015, 08:23 AM
المشاركة 4
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
خوان رولفو: كاهن الواقعيّة السحريّة
عمّار أحمد الشقيري
13 أبريل 2015

أكثر من مرة اعترف غارسيا ماركيز بفضل تقنية رواية "بيدرو بارامو" على مسيرته في الكتابة؛ الرواية التي أمضى كاتبها المكسيكي خوان رولفو (1917 ـ 1986)، سنوات طويلة في تشييدها، ومرّت ستون سنة على صدورها هذا العام.
تبدأ الرواية بمحاورة بين الأم دولوريس مع ابنها خوان بريثيادو توصيه فيها بزيارة والده المجهول بيدرو بارامو في كومالا: "لا تطلب منه أي شيء، طالبه بحقنا، طالبه بما كان مجبراً على إعطائه إياي ولم يفعل".
فيدخل الابن الإقليم وتستقبله صديقة والدته القديمة دونيا إيدوفيغس التي تبدأ بسرد الحكايات عليه، عن ميغيل بارامو، قاتل شقيق الأب رينتيرا، ومغتصب ابنته، وعن حصانه الذي رجع بعد مصرعه، وتسمع أثناء حديثها صهيله: "لا أفهم ما تقولين، بل حتى أني لم أسمع جلبة أي حصان"، يرد عليها. وشيئاً فشيئاً، يكتشف القارئ أن كل شخصيات الرواية ما هي إلّا أشباح لموتى خرجوا للتجوال.
"
نكتشف أن شخصيات الرواية ما هي إلّا أشباح لموتى خرجوا للتجوال
"
تعتبر رواية "بيدرو بارامو" إحدى أهم ركائز مدرسة الواقعية السحرية، وتكاد تكون محل إجماع من قبل الكتّاب والقرّاء على فرادتها، إضافة إلى اعتبارها بمثابة موجّه للكتّاب الجدد في أميركا اللاتينية إبان صدورها؛ إذ يورد الباحث الكولومبي داسو سالديبار، كاتب سيرة ماركيز، أن ألبارو موتيس ظل يحمل نسخاً منها لإهدائها للكتّاب الشباب في بلده، طالباً منهم "تعلّم كتابة الرواية"، رغم أن بنية الرواية لم تتضمن فصولاً، بل مقاطع سرديّة غير متسلسلة ومتداخلة وضعت الجميع، نقاداً وقرّاء على حد سواء، في متاهةٍ دائريّة وأمام معضلة فك رموزها وإعادة ترتيب هيكلها أثناء القراءة.
من جانب آخر، يظهر منذ الجملة الأولى في العمل وحتى آخر صفحة فيه، مدى احترام رولفو لعقل متلقيه، إذ لم يذهب إلى وصف شخصياته، إنما ترك للأفعال التي تصدر عن هذه الشخصيات مهمة التعريف بها، ملتزماً في الوقت ذاته أقصى درجات الحياد، كأنه كان يوظف حياته في روايته:
"كنت أعمل في أرشيف للهجرة، في الإدارة الاتحادية للحكومة، منسيّاً. وفي الأرشيف يستبدلون الوزارء والموظفين المهمين، أما نحن الأرشيفيون فإنهم ينسوننا، وهذه هي الطريقة المُثلى ليتركوا أحدنا هادئاً".
حين صدرت الرواية في العام 1955، أطرى النقاد في أميركا اللاتينية عليها في البداية من دون تقديم رأي قاطعٍ فيها. ومع ابتعاد كاتبها عن الأوساط الثقافية وإقلاله في الكتابة (لم ينشر سوى مجموعة قصصية بعنوان "السهل الملتهب"، 1953)، ترسّخ شبح خوان رولفو في الأذهان كأحد كهنة الحكايات الأكثر فتنةً وتجديداً، إلى جانب لويس بورخيس وكاربنتير وأونيتي، ومعلماً خفيّاً للكثيرين، وأحد آباء الواقعية السحرية.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن هذه الرواية دفعت المخرج والمنتج الإسباني كارلوس فيلو إلى إخراجها سينمائياً عام 1967، وقبله كتب كل من كارلوس فوينتيس وماركيز وخوان خوسيه أريولا سيناريوهات أفلام نهلت أفكارها من هذا العمل.

قديم 05-11-2015, 08:29 AM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وقفة مع جماليات رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو
د.ماجدة حمود
مجلة الموقف الأدبي
العدد 430 شباط 2007


يكشف لنا خوان رولفو في كتابه "سيرة ذاتية مسلحة" أن أحد الدوافع التي دفعته إلى تأليف روايته "بيدرو بارامو" هي زيارته لقريته ومرتع طفولته بعد أن هجرها ثلاثين عاماً، فعاد إليها ليجدها طللاً، تلف الوحدة شوارعها وديارها، ولا يعمّرها سوى حفيف شبحي، حفيف أشجار الكازورينا تعصف بها الريح (1).‏

آلمت الوحدة الكاتب، وسيطرت على مخيلته، أثناء كتابة الرواية، أصوات الحفيف الشبحي، لهذا كانت هذه الأصوات مهيمنة على فضاء الرواية، كما كانت أحد عنوانين مبدئيين لها.‏

قد بدت لنا قرية (كومالا) أحد الأبطال الأساسيين في الرواية، عايشناها عبر ذاكرة زمن مضى، هو زمن طفولة الراوي، فوجدناها في قمة بهائها، كما عايشناها عبر زمن حاضر انحدر بها إلى درك البؤس والجفاف!‏

لكن التجربة الأهم التي لمسنا ملامحها في الرواية هي التجربة التي تعرض لها (خوان رولفو) في طفولته، إذ قتل والده وهو في السادسة من عمره، فظلت هذه الحادثة جرحاً نازفاً في أعماق روحه، تركت بصمتها على إبداعه! وارتسمت في ذاكرته آلام تلك اللحظة التي أخبرته فيها أمه بموت أبيه، فجسّد لنا حزن والدته الغارق في اللوعة "لقد مات أبوك"...‏

ثم كما لو أن نوابض حزنها قد أفلتت، دارت حول نفسها مرة ثم أخرى، ومرة ثم أخرى، إلى أن وصلت يدان إلى كتفيها، وتمكنتا من وقف تحرك جسدها... وكأن الأرض تحتها غارقة بالدموع، ثم النحيب، بكاء ناعم، لكنه حاد مرة أخرى، والحزن الذي يلوي الجسد (2).‏

تسجل ذاكرة (رولفو) لحظة الصدمة، حين أخبر بمقتل أبيه، فانتزعت منه أفراح الطفولة، وسلب الإحساس بالأمان! وقد أسقط هذه التجربة على شخصيات روايته! وخاصة على الراوي البطل (خوان بريثيادو) الذي يتماهى مع الكاتب في كثير من المشاهد (البحث عن الأب، موت هذا الأب، معايشة أرواح الموتى، وبؤس المكان (كومالا)...) وكذلك يشاركه في النصف الأول من اسمه (خوان).‏

ولعل المشهد الذي يعكس ردود فعل أمه، حين فاجأها النبأ الحزين، هو أكثر المشاهد حياة في وجدان الكاتب! لهذا أسقطه على أم الراوي، وقدّمه عبر مشهد (سينمائي) مؤثر في حركته (انفلات نوابض الحزن إلى درجة استمرت الأم في الدوران حول ذاتها إلى أن أوقفتها يدان) كان حزنها طاغياً، تجلت ردود فعله على جسدها وعلى الطبيعة من حولها، حتى إنه منع النهار من القدوم، فتناثرت بقايا ضوء حول الأم، أما الأرض فقد بدت غارقة بدموعها!‏

يختار (رولفو) لهذا المشهد إطاراً زمنياً أسقط عليه حزنه! فجعل وصول الخبر الأليم في لحظة الفجر، حيث أحدث انقلاباً في الطبيعة! فبدا النهار ظلاماً دامساً أضاع نجومه "لم يكن ثمة نهار يبتدئ وإنما بداية ليل آخذ في القدوم".‏

لقد أحدث هذا الخبر خللاً في لحظة الشروق، فأدبر نوره، وسادت الألوان الحزينة (الرصاصية، الرمادية، الشاحبة) فضاء هذا المشهد!‏

لم يمت الزوج ميتة عادية، لهذا كان الألم الذي عانته الأم أكثر حرقة، وغصة الفقد أكثر لوعة، فقد آلمها أن يحاصرها إحساس بالظلم والعجز معاً، حتى الانتقام لن يعيد الحياة لزوجها القتيل! لذلك لم يكن أمامها سوى البكاء، الذي تبدى لنا بكل أشكاله (الغرق في الدموع، النحيب، بكاء ناعم لكنه حاد).‏

بناء الرواية:‏

هاجم بعض النقاد رواية خوان رولفو "بيدرو بارامو" لافتقادها الوحدة العضوية، مما أحبط الكاتب، ودعاه إلى التأكيد بأن أولى اهتماماته كانت البنية!‏

اعتمد بناء (بيدرو بارامو) أسلوب الرواية الحديثة، التي تهدف إلى إشراك المتلقي كي يملأ بمخيلته الفراغات التي تركها المؤلف، خاصة أنها تقدم عالماً مستحيلاً، هو عالم الموتى، لذلك لم يكن بوسع صوت المؤلف أن يتدخل!!‏

لكن رغم ذلك شكلت شخصية (بيدرو بارامو) أحد العوامل التي نسجت وحدة الرواية، وحفظت بنيتها من التفكك، باعتقادنا، إذ كانت محوراً تدور حوله معظم الكوابيس والأحداث والشخصيات (الراوي البطل، ابنه، زوجته، وكيله، رجل الدين (الأب رينتيريا...) فبدا (بيدرو) مؤثراً في حياتهم وفي موتهم! في حين اختفى المؤلف وترك "شخوصه يتحدثون في حرية، وهو ما عزّز انطباعاً خاطئاً بعدم وجود بنية...‏

هناك بنية غير أنها تتأسس على الصمت على خيوط معلقة، مشاهد مقطوعة، يحدث فيها كل شيء في زمن آني، هو ليس بزمن (3) مألوف.‏

بدا الخطاب الروائي مقسماً إلى وحدات أشبه بمقاطع شعرية، يؤسسها مبدأ ثابت يعتمد اللغة الذاتية في التعبير، لهذا سيطر ضمير المتكلم (صوت الراوي المشارك، وأعماق الشخصيات) من أجل تقديم الرؤية الداخلية العميقة للشخصية، وإن كان يتدخل أحياناً في ضمير الغائب ليسرد علينا ذكريات أو مواقف تبرز وجهة نظر أخرى.‏

نوّع الروائي بين السرد والمشهد الحواري، وقد تميّزت لغة الحوار بشدة التركيز والفاعلية، وقد كان مثل هذا الانضباط اللغوي نتيجة خبرته في القصة القصيرة باعتقادنا.‏

ومما أضفى حيوية على بنية الرواية تعمّد الكاتب المفاجأة من أجل تشويق المتلقي، إذ إن الراوي المشارك أثناء طريقه إلى (كومالا) يلتقي بشخص يرافقه في طريقه إليها، فيكتشف أنه شقيقه (ابن بيدرو بارامو) وأن لديه الكثير من الأشقاء في القرية، بعد أن كان يظن نفسه الابن الوحيد له!‏

نُفاجأ بطريقة غير مألوفة للاعتذار عن القتل يمارسها ميغيل (ابن بيدرو) الذي يصعد إلى غرفة (آنا) ليلاً ليطلب الصفح منها (بعد قتله أبيها) فتقابله بصورة تناقض أفق توقع المتلقي، فنسمعها تقول: "وما إن وصل حتى عانقني، كما لو كانت هذه هي الطريقة للاعتذار عما اقترفه، وابتسمت له".‏

تبدو الفتاة في غاية الطيبة في تعاملها مع القاتل، وهي تطبق التعاليم التي لقنها إياها (الأب رينتيريا) "فكرت بما كنت قد علمتني إياه: يجب علينا أن لا نكره أحداً أبداً، ابتسمت لأقول له ذلك".‏

وبذلك تحل لغة الحب محل لغة الكره، كأن الفتاة هنا تريد أن تفتح أفقاً آخر أمام القاتل، عساها تستطيع نقله من بؤس عالمه إلى روعة عالم أرحب!!‏

ومما أضفى الحيوية على بناء الرواية، باعتقادنا، تعدد وجهات النظر في تقدم الشخصية الرئيسية (بيدرو) وغير الرئيسية (الراوي المشارك) فمثلاً دميانا وأخوها (اللذان التقاهما الراوي في القرية لحظة انهيارها) فنجدهما يختلفان في وصفه، فيقدمان رؤية مناقضة، فتقول الأخت لأخيها "إنه يتلوى على نفسه كالمحكوم باللعنة، وله كل مظاهر الإنسان الشرير..." أجابها أخوها برأي مناقض "لا إنه رجل بائس... لابد أنه متصوف من هؤلاء الذين يقضون حياتهم بالتنقل بين القرى "ليروا ما تمنحهم العناية الإلهية" لكنه هنا لن يجد حتى ما يخلصه من الجوع..." (4)‏

شتان بين رؤية الأخت (رجل شرير) يتوجب الابتعاد عنه، وبين رؤية الأخ (رجل متصوف) يعيش على بركة الإيمان، يجب مساعدته! وإن كانت كلتاهما لا تقدمان صورة حقيقية لـ (خوان بريثيادو) فهو يعيش انهيار ما قبل الموت!.‏

جماليات المكان:‏

يرى بعض النقاد أن عنوان رواية "بيدرو بارامو" عنوان مخادع، لأن المكان هو بطلها الحقيقي، لا الشخصية، فقد تأثر خوان رولفو إثر زيارته للقرية التي ولد فيها، وعاش بعيداً عنها حاملاً أجمل الذكريات، وحين رآها "منطفئة" "وحيدة" أصيب بالصدمة فقد شوّهها هجران أهلها! فأسقط خيبته على الراوي المشارك (خوان بريثيادو) فتماهى صوت المؤلف مع صوته، لهذا يسأل أحد أبنائها:‏

ـ ولماذا تبدو كئيبة هكذا!!/ ـ إنه الزمن يا سيدي..."‏

نعايش هنا وقع الزمن الذي لا يعرف الحياد، وإنما تعبث أصابعه في الوجود والأمكنة، فتزرع الكآبة حيثما حلّلت، دون أن تفرّق بين ملامح مكان أو إنسان!‏

لهذا نهب الزمن جماليات (كومالا) وارتدّت الذاكرة باحثة عن صورته التي ارتسمت (في زمن مضى) هاربة من صورته (في زمن حاضر) مما يتيح للمتلقي معايشة مشهدي الجمال والقبح، فينتقل من روعة زمن مضى إلى بؤس زمن حاضر يجثم بثقله على الروح!‏

يجسد المشهد الأول عبر ذاكرة أم الراوي (خوان بريثيادو) التي عاشت تتنهد شوقاً إلى (كومالا) تحلم بالعودة إليها، لهذا توصي ابنها، أثناء احتضارها، بتحقيق حلمها!‏

يأتي ابنها إلى (كومالا) حاملاً معه عينيها اللتين لم تريا فيها سوى الجمال، حيث "يوجد أروع منظر لسهل أخضر تخالطه بعض الصفرة التي تنشرها الذرة الناضجة..." (5)‏

لهذا توصيه بأن يذهب إلى (كومالا) لا ليرى أباه فقط، وإنما ليلتقي بروحها بعد موتها، وسيسمع هناك أصوات ذكرياتها التي تمحو موتها!‏

اكتنزت القرية بأفراح الأم، لهذا دعتها "كنزيّة" إذ خبأت فيها ذكريات طفولتها، فكانت لا تشمّ فيها سوى "رائحة عسل مراق..." ولا تتذوق سوى "طعم أزهار البرتقال" ولن تتنفس في كل الأوقات سوى الهواء المنعش، مما يضفي على الأشياء ظلاً جميلاً، ويمنح الحياة روحاً شفافة كالهمسة، فيختلط علينا الأمر هل نسمع حفيف نسيم الأشجار أم همسات الحياة إذ "يبدّل الهواء لون الأشياء حيث يهوّي الحياة وكأنه الهمس، كأنه همسة نقية من همسات الحياة" (6).‏

قد ينقلب هدوء الطبيعة "ترعد السماء فجأة ويهطل المطر". لكن أصوات الطبيعة لن تثير الرعب، لأنها تحمل للإنسان، أجمل المفاجآت "قد يأتي الربيع، ستعتاد هناك على المفاجآت يا بني".‏

مع تداعيات الأم تنساب ذكريات الحياة اليومية في القرية! فنعايش لحظة نهوض القرية فجراً، إذ تضج بالحياة، ونسمع أصوات العربات التي تأتيها من الجهات الأربع محملة بالخيرات، ونشمّ رائحة الخبز الطازج! لهذا كانت (كومالا) جنتها، وحبها الوحيد، خاصة بعد أن تخلى عنها (بيدرو) "ستجد هناك حبي... ستشعر بأن المرء يتمنى هناك لو يعيش إلى الأبدية".‏

إن وجهة نظر الأم التي ترى المكان رديفاً للجنة (في زمن مضى) نجد ما يناقضها (في الزمن الحاضر) حين نسمع وجهة نظر الابن، إذ بدا لـه ضريح الآمال، نقيضاً للجنة، يقبع "فوق جمرات الأرض، في فم الجحيم تماماً... إن كثيرين ممن يموتون هناك يعودون بمجرد وصولهم إلى الجحيم بحثاً عن لحافهم". (7)‏

مع مرور الزمن باتت القرية جحيماً، بل أقسى من الجحيم، لهذا من يأتي لزيارتها بعد الموت يفضل العودة إلى الجحيم، إذ قد يجد فيه ما يخفف قسوة الحر، وهذا ما يفتقده في كومالا!‏

لهذا لن نستغرب أن الحياة لم تعد تهمس فيها، فقد أفسحت المجال لانتشار همسات الموت، لهذا يصرح ابنها "لقد قتلني الهمس".‏

هنا نتساءل: هل تغير المكان نتيجة لتغير الزمان؟ أو نتيجة تغيّر الإنسان؟ خاصة بعد استيلاء (بيدرو بارامو) عليه، وإهماله بعد وفاة زوجته (سوزانا) عندئذ باتت "مهجورة" "منطفئة".‏

اختفت ملامح الجمال التي عايشناها عبر ذاكرة الأم، وتبدّل طعم زهر البرتقال، وبات لها "طعم التعاسة؟ إذ لم تعد تشهد الولادة لدى الإنسان، حتى الطبيعة أصبحت عقيماً، ولم تعد تعرف لحظة الميلاد ما تحمله من مظاهر الجمال (الغيوم، العصافير، العشب) لذلك انتشر فيها الهواء "القديم والخدر، البائس والنحيل مثل كل شيء هرم" لينبئ باقتراب النهاية! وبذلك غادرها رونق الحياة، وسيطرت عليها رائحة صفراء هي رائحة الموت! وباتت "مطلية كلها بالتعاسة" ما إن يراها المرء حتى تصفعه الكآبة! حتى إن قسيس (كونتلا) يخبرنا "إننا نحيا في أرض تعطي كل شيء بفضل العناية الإلهية، ولكن كل شيء تعطيه حامض..." يؤكد كلامه (الأب رينتيريا) "هذا صحيح حتى البرتقال والريحان"‏

حتى أمطار (كومالا) لم تعد تجلب الفرح، بل صارت تجتثه وتمطر نجوم سمائها، فبات ليلها أشد سواداً، وأكثر كآبة، فلم يجد الأب (رينتيريا) اسماً يدعوها به سوى "وادي الدموع" فقد اختفت منها همسات الحياة التي عايشناها سابقاً.‏

حين هجر الإنسان القرية هجرتها الحياة وسكنتها أصداء الموتى، فتحولت الغرف الموحشة والمهجورة إلى قبور، كأن أصوات الحياة في القرية قد انطفأت، بعد أن أنهكها الاستعمال، وتبدلت معالم الفرح إلى حزن، حتى إن أصداء القهقهات التي توحي بفرح الحياة عادة باتت هرمة!‏

الغرائبية في رواية "بيدرو بارامو"‏

تعدّ رواية "بيدرو بارامو" مثلاً أعلى للغرائبية التي تنأى عن (الفانتازيا) لاقترابها من عالم الإنسان، وإن غامرت بدخول عوالم مجهولة، فهي تظل ملتحمة بهمومه وقضاياه، فقد عايشنا فيها إشكالية الموت الذي هو أحد إشكاليات الوجود الإنساني، بعد أن جعله الروائي جزءاً من الحياة فهدّم الحاجز بينهما! وأتاح الفرصة لاختلاط الموتى بالأحياء، فاستطاع أن يمنح شخصياته فرصة الحياة تحت الأرض وفوقها!‏

وقد رأى (ماريو فارغاس يوسا) هذه الرواية إحدى القفزات النوعية الأكثر فاعلية في الأدب اللاتيني الأمريكي المعاصر، إذ صيغت ببراعة، إلى درجة يصعب معها تحديد مكان القصة أو زمانها، وبالتالي تحديد أين ومتى حدثت النقلة (الزمانية والمكانية) فقد تمت شيئاً فشيئاً، وبصورة تدريجية من خلال تلميحات وإشارات مبهمة، وآثار باهتة، تكاد لا تسترعي انتباهنا حين نمر بها، لكننا سنلاحظها لاحقاً فقط وبصورة استرجاعية، خاصة حين نتأمل تراكم الأحداث القريبة التي تتيح لنا أن نعي بأن (كومالا) ليست قرية كائنات حية، وإنما هي قرية أشباح (8).‏

يدهشنا في رواية "بيدرو بارامو" تواصل الأموات مع الأحياء، فحين وصل الراوي البطل إلى (كومالا) تقول له (دونيا أدوفيخس) وهي صديقة أمه التي توفيت منذ أسبوع "أخبرتني بأنك ستأتي" فيجيبها الابن (الراوي) "أمي توفيت" فترد عليه قائلة "هذا هو إذن السبب الذي جعل صوتها ضعيفاً"‏

يتم التواصل بين الصديقتين الحميمتين، رغم موت إحداهما! فنعايش في هذه الرواية علاقة صداقة أشبه بحلم، إذ لم يتم التعاهد بين الصديقتين على الحب والوفاء بل على أمر لا يخطر على بال أحد، فقد تعاهدتا على الموت معاً، وبما أن أم الراوي قد سبقت صديقتها، لهذا تقرر اللحاق بها سريعاً!‏

يصل التوحد بين الصديقتين أقصى حدود اللامعقول، حين يتنبأ أحدهم لأم البطل أن عليها أن لا تضاجع زوجها (بيدرو بارامو) ليلة زفافها لأن القمر هائج، فتطلب من صديقتها النوم مكانها!!!‏

تبدو لنا هذه الصديقة (دونيا أدوفيخس) امرأة الحدس والتخاطر، مما يتيح لها التواصل مع الموتى، لهذا عاشت حياتها مؤرقة بسماع أنينهم! وهي تعي أنها تمتلك حاسة سادسة هبة منحها إياها الله، وربما لعنة بسبب معاناتها ذلك الأنين!.‏

تتسع قدرات هذه المرأة (الحدسية) التي تعتمد التراسل عن بعد (التخاطر) فنجدها تتواصل مع الحيوان كتواصلها مع الإنسان، حتى أنها تسمع وقع حوافر حصان (ميغيل بيدرو بارامو) رغم أنه قُتل إثر مقتل صاحبه! وقد تعدى ذلك إلى الغوص في أعماقه، والإحساس بمعاناته الداخلية، إذ "ربما المسكين لا يحتمل تبكيت نفسه". فهو قد يكون سبب مقتل صاحبه، وقد لاحظت (دونيا أدوفيخس) أنه أبدى من الحزن على صاحبه (ميغل) أكثر مما أبداه والده (بيدرو بارامو) فهو "لم يأكل ولم ينم ولا يفعل شيئاً سوى العودة إلى الطواف فحسب... كأنه يشعر بالتمزق والتآكل في داخله".‏

قدمت لنا آلام الحصان بصورة مدهشة، حتى إن جميع أهالي القرية أحسوا بها، وحين رأته إحدى النساء يجري وقوائمه منحنية كما لو كان سينكفئ على وجهه قالت "سيحطم هذا الحيوان رأسه" بعد ذلك رأته وهو ينتصب بجسده، دون أن يخفف من سرعته، وهو يلوي بعنقه إلى الوراء، وكأنه مرتعب من شيء خلّفه وراءه" (9).‏

وقد أثَّر حزن حصان (ميغيل) بأقسى القلوب (بيدرو بارامو) لهذا وجدناه يأمر بإنهاء أحزانه! وقتله كي يلحق بصاحبه!‏

يدهشنا حزن هذا الحصان على صاحبه وذكّرنا بحزن الحصان (مهيوب) على صاحبه (بدري) إثر مقتله في رواية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف (10).‏

عرفت (دونيا أدوفيخس) بين أهالي القرية ليس بحاستها السادسة فقط، وإنما بإيمانها بالخوارق أيضاً، لهذا يلجأ إليها (ميغيل) حين يعترضه أمر غير مألوف (ضياع قرية خطيبته: كونتلا) قائلاً: "لقد أضعت القرية. كان ثمة ضباب كثير ودخان، ولست أدري أي شيء.. لكني أعلم أن (كونتلا) لا وجود لها، ذهبت بعيداً، حسب تقديراتي، إنني آت لأروي لك أنت ذلك، لأنك تفهمينني، لو أخبرت الآخرين في كومالا لقالوا إني مجنون، كما يقولون عني دائماً" (11).‏

تعيش المرأة في عالم أقرب إلى الخيال، يعتمد قوانين خاصة، لا علاقة لها بالواقع، فهي تصدق الخوارق، (كاختفاء القرية عن سطح الأرض) في حين لا يؤمن أهالي القرية بذلك، ويعدّونه جنوناً!‏

وهكذا شكلت البنية الغرائبية لرواية "بيدرو بارامو" ملامح شخصياتها، وهدّمت الفاصل بين الحياة والموت عبر لغة تفيض حساسية، كما عبثت هذه الرواية بالملامح الطبيعية للمكان، فقضت على المعنى الجغرافي وما يحمله من دلالات ثابتة لهذا اختفت القرية عبر الضباب والدخان، كما اختفى الأشخاص وتحولوا إلى أشباح، حفيف صداهم يملأ أجواء القرية!‏

وقد أمعن الراوي في وصف هذا الصدى الذي أضاع قواه، فبدا مخنوقاً، يخرج من شق ما، ومن عالم بعيد، لكنه واضح يمكن التعرف عليه، ويبدو مترافقاً أحياناً مع الحضور الجسدي لا الشبحي، فمثلاً نجد الأخت (داميانا) تلتقي مع أختها (سيستينا) التي توفيت منذ سنوات طويلة، وتسمع رجاءها في أن تتوسل من أجلها إلى الله!‏

يستعيد المكان عبر الوصف المؤثر بعض ملامحه الطبيعية، فبعد أن هجرته الحياة! وعلاه غبار الزمن! وبدت شوارعه خالية ونوافذه مشرعة للسماء، تتخللها تفرعات العشب الناشف، أما جدرانه المقشرة فتكشف عن طوبها المتفتت، لكنه سرعان ما ينتقل إلى عالم غرائبي حين يجعل الكاتب حشود الأرواح تهيم في الشارع ليلاً فيغلق الأحياء الأبواب على أنفسهم خوفاً، إذ "ليس هناك من يحب رؤيتهم".‏

تتسع حدود الغرائبية فتغمر أرض (كومالا) أشباح الموتى "إنهم كثيرون ونحن قليلون جداً، حتى إننا لا نتكلف مشقة الصلاة من أجلهم، ليخرجوا من أحزانهم، لأن صلواتنا لن تكفي لهم جميعاً" (12).‏

وهكذا يختلط الواقع بالغرائبي اختلاط الأموات بالأحياء، وإن كنا قد لاحظنا طغيان عالم الموتى على الأحياء، فلم يعد ممكناً مساعدة الموتى بالصلاة من أجلهم، إذ عجز الأحياء لندرتهم عن القيام بواجبهم تجاه الأموات لكثرتهم!! مما جعل الحياة أكثر قتامة وبؤساً!‏

تبدو الغرائبية أيضاً حين يحس الأحياء برائحة الموت لدى مفارقة أحد أبناء قريتهم للحياة، لهذا وجدنا بائعة النبيذ تقول لابنها "أشم أن أحداً في القرية قد مات". فيأتي الحوذي، الذي يسكن بعيداً عنها، ليخبرها بأن زوجته قد ماتت!‏

ـ لكن الغرائبية الأكثر إدهاشاً في هذه الرواية، باعتقادنا، هي معايشة هموم الموتى داخل القبر، فنفاجأ أن الآلام التي نغصت حياتهم لم تنتهِ بموتهم، بل صحبتهم إلى القبر، فالمرأة التي آلمها عدم تحقق حلمها بإنجاب طفل ستشكو همها للراوي (خوان بريثيادو) حين دفنت إلى جانبه، بسبب العوز الذي لاحقها في حياتها ومماتها، حتى أنها لم تستطع الاستقلال في قبر خاص بها، وقد شكت له أيضاً وحشة الوحدة التي لاحقتها في قبرها، كما لاحقتها في حياتها!‏

أكسبتها تجربة الحياة والموت حكمة، وأدركت قيمة التفاؤل، لهذا لن تسمح للمخاوف بتدمير حياتها داخل القبر، فلو قارنا بين تفسيرها لأصوات تسمعها فوق القبر بـ (أصوات المطر) وبين تفسير الراوي لها (خطوات تدوس على القبر) مما يثير الخوف في نفسه!‏

إذاً علّمتها التجارب الحياتية القاسية ومعايشتها للموت ضرورة أن يبحث الإنسان عما يفرحه! لهذا تنصح الراوي ألا يستسلم للمخاوف، ولا يدع الأفكار السوداوية تسيطر عليه وتنغص إقامته الطويلة في القبر! لأن الإنسان ابن أفكاره التي تنعكس على مشاعره وأحاسيسه سواء في حياته أم في مماته!! فتنغص أيامه سواء أكان فوق الأرض أم تحتها، حين يرى الأمور بمنظار التشاؤم!‏

لا أحد يموت في هذه القرية وتنتهي صلته بالحياة، لهذا شاهد الناس روح (ميغل) تتجول في أنحاء القرية، وتقرع نافذة إحدى النساء، كما كان يفعل أثناء حياته، والمدهش أن روحه كانت ترتدي ملابسه نفسها (السروال الجلدي).‏

أما (سوزانا) التي تعيش بعيداً عن والدها فقد أحست بزيارته لها ليلاً، وفي الصباح أخبرتها خادمتها بوفاته، فتقول لها لقد جاء لوداعي!‏

يختلط في تصرفات (سوزانا) الواقع بالكابوس، فتصبح ملامحها أقرب إلى الشخصية الغرائبية، فحين يزورها الأب (رينتيريا) "تقترب منه، فنظر إليها وهي تحيط بيديها الشمعة المشتعلة، ثم تدمج وجهها بالفتيلة المحترقة، حتى اضطرته رائحة اللحم المحترق على هزّها وإطفائها بنفخة واحدة" (13).‏

كأن المحتضرة تريد أن تنبئ الأب (رينتيريا) بأنها باتت تعيش قوانين حياة أخرى، لذلك لم تعد تبالي بالقوانين الدنيوية المألوفة، لهذا تلتحم بنار الشمعة دون أن يهمها الاحتراق!‏

حين تموت (سوزانا) تختلط طقوس الحداد بالفرح بصورة غرائبية، مما يجعل المتلقي يعيش عالماً غير معقول! فقد توافدت الناس كأنهم في موسم حج، وجاء سيرك ومغنون، وامتلأ فضاء القرية بالألحان وصرخات السكارى، حتى أصيب الجميع بالصمم! في حين غرق بيت (بيدرو بارامو) بالصمت، حتى التجوال كان يتم بأقدام حافية، والكلام بصوت خافت!!!‏

هنا نتساءل: ما السبب في اختلاط طقوس الحداد بالفرح؟ هل هو انتقام من (بيدرو بارامو) وتدمير لهيبته، بعد أن كثر فساده! أم هو تعبير عن الفرح بخلاص (سوزانا) من آلامها ومن حياتها مع زوج مثل (بيدرو)؟‏

جماليات الخاتمة:‏

أوحى لنا مشهد موت البطل (بيدرو بارمو) في الخاتمة بان الرواية تنسجها خيوط بناء فني محكم، فقد أنهت حياة الشخصية التي كانت الافتتاحية تبحث عنها بناء على وصية أم لابنها في ضرورة أن يرى أباه (بيدرو) في كومالا.‏

عايشنا في الخاتمة لحظات احتضار هذا البطل، وتأملاته وهو يراقب موت كل عضو من أعضائه على حدة! فيحس في تلك اللحظة بوحدة مع الكون، فهو يتماثل مع شجرة تفلت أوراقها ورقة ورقة! فتنطقه تلك اللحظات بحكمة بسيطة لكنها تشكل حقيقة أزلية "الجميع يتخذون نفس الطريق، الجميع يذهبون".‏

تحث الخاتمة المتلقي على التأمل، ومما أكسب هذه الدعوة فرادة أنها جاءت على لسان محتضر، فتتيح للمتلقي فرصة عيش هذه التجربة على صعيد تخييلي قبل أن يعيشها على صعيد واقعي! فربما يصل إلى حكمة تجعله يتقبل الموت بهدوء، إذ ثمة عدالة إلهية توحّد نهاية الجميع، فالموت ينتظر كل الكائنات الحية! لا يمكن لأحد أن يفلت منه!‏

المدهش في الخاتمة هذا التنوع اللغوي، فبدت اللغة الحكيمة (المستمدة من معاناة اللحظات الأخيرة للمحتضر) إلى جانب اللغة الشعرية (المستمدة من تجربة حبه لـ (سوزانا)، فقد صاحبته ذكراها الجميلة حتى آخر لحظة من حياته).‏

أمام الموت لم يجد (بيدرو) أمامه سوى ذكرى الحب يلجأ إلى ظلالها يتفيؤها، رغم ما حملته له هذه العلاقة من إحباطات، تجلت في قوله "فقدت عيني وأنا أتطلع إليك" إذ لم تتغير أحاسيسه بعد موت (سوزانا) واقترابه من النهاية ذاتها! فمازالت حلماً جميلاً، يسعده الاستسلام له، لعله ينقذه من وحشته وبؤسه!‏

كما أنقذت هذه الذكرى (بيدرو بارامو) من بؤس لحظاته الأخيرة أنقذت لغة الخاتمة من القتامة التي ترافق الاحتضار، قد أحاطها (بيدرو) بصفات مدهشة (مضمخة بقمر، فمك مقزّح بالنجوم، جسدك يشفّ في مياه الليل) مما يوحي للمتلقي أنه أمام جمال مستحيل لهذا حاول جاهداً "رفع يده ليوضح الصورة، ولكن قدميه أوقفاها وكأنها قدّتا من حجر، أراد رفع اليد الأخرى فسقطت ببطء إلى جانبه، حتى استندت على الأرض مثل عكاز يسند كتفه المتعرق عظماً.‏

"أهذا هو موتي؟"‏

لم يجدِ (بيدرو) الهروب إلى الحلم، إذ لاحقه الموت، وأُحبط مسعاه في الإمساك بصورة (سوزانا) والاستمرار في تأملها، أي الإمساك بخيط يشدّه للحياة! فقد تحجّرت قدماه، ومنعت يده من الحركة، فحاول تحريك يده الأخرى لكنها سقطت جانباً مثل عكاز، باتت وظيفته حماية كتفه من السقوط!‏

تدخل صوت الراوي ليصف لنا زحف الموت على جسد (بيدرو) بلغة محايدة! أمام هذا العجز الحركي تأكد أنه يواجه موته، لهذا عمد المؤلف إلى إتاحة فرصة أخيرة أمام صوت (بيدرو) كي يعبّر عن أفكار تراوده، فيتساءل متحسراً عن حقيقة بات متأكداً منها! لهذا أبعد صوت الراوي، ليعود ثانية إليه، فيضفي مع تبدل الضمائر (غائب ومتكلم) حيوية على الفضاء السردي!‏

ومثل هذا التبدل يتيح للمتلقي فرصة تأمل المتغيرات التي حدثت في الفضاء الخارجي، الأمر الذي لن يستطيعه (بيدرو) المشغول بعالمه الداخلي وبتأمل موته، مما منعه أن يرى مشاركة الطبيعة لـه في هذا الاحتضار! فيأتي صوت الراوي ليصف ذلك "كانت الأرض الخراب أمامه خاوية" من مظاهر الحياة، وكيف حاولت الطبيعة مساعدته حين بدأت أعضاء (بيدرو) بالتلاشي، وانتشرت البرودة فيها فـ "كان الحر يحمّي جسده".‏

أتاح لنا صوت الراوي تأمل تجليات احتضار البطل! وتدرج موته، فتابعنا ضعف حركة عينيه اللتين "تقفزان من ذكرى إلى أخرى، معيدتين رسم الحاضر" وكيف تغيّرت مع ملامسة الموت زاوية الرؤية للأشياء والذكريات!‏

وكذلك عايشنا تلك اللحظة المصيرية في حياة المحتضر حين يبدأ نبض الحياة (القلب) بالتوقف فـ "كأن الزمن يتوقف أيضاً، ويتوقف هواء الحياة".‏

هنا يتغلغل الراوي إلى أعماق المحتضر، لينقل إحساسه بالزمن وكيف فقد معناه مع توقف القلب، ولم يعد هواء الحياة من نصيبه، فقد أبعدته عنه يد الموت!‏

بدأ المحتضر يضيق ذرعاً بعذاباته، لهذا بات يستعجل الموت، كي يتخلص من أشباح تلاحقه، ولم يعد يستطيع الخلاص منها، وبذلك تحولت حياته إلى سجن رهيب، تملؤه الأشباح!‏

حاول المؤلف أن ينوّع في رصد مشهد الاحتضار، فلم يكتفِ بتقديمه عبر لغة السرد، بل لجأ إلى اللغة المشهدية (الحوار) "أحس أن يدين تلمسان كتفيه، فقوّم جسده مصلباً إياه، وقالت داميانا...‏

إذاً يأتي صوت الخادمة (داميانا) ليصله بالعالم الخارجي، ويذكره بحاجته إلى الطعام، لكن (بيدرو) كان قد حزم أمره، وقرر مغادرة هذا العالم، لهذا يخبرها برحيله، ويؤكد لها عزمه عن طريق تكراره جملة "ها أنا ذاهب".‏

كذلك أَضفى وجود الخادمة حيوية، إذ منح (بيدرو) إمكانية الحركة واختبار قواه "استند على ذراعي داميانا وحاول المشي وهوى بعد بضع خطوات وهو يتضرع في داخله. دون أن يقول كلمة واحدة.‏

وارتطم بالأرض ارتطامة جافة، وأخذ ينهار، وكأنه كومة من حجارة" (14).‏

عايشنا هنا مشهداً سينمائياً، فتجسدت لنا تلك اللحظة الحرجة لمفارقة الحياة (استند، حاول المشي، هوى، ارتطم، أخذ ينهار).‏

يلفت نظرنا تضرع (بيدرو) الصامت، دون أن ندري المبتغى من تضرعه، مما يحفّز أفق التوقع لدى المتلقي، فيتساءل هل يدعو ربه أن تكون في هذه السقطة نهايته؟ أم أنه يتضرع من أجل العفو عما ارتكب من أخطاء وآثام؟‏

وقد حرص الروائي أن يكون التشبيه "وأخذ ينهار كأنه كومة حجارة" هي آخر ما يتلفظ به الراوي، ليثبت بؤس المصير الإنساني الذي ينتظر الجميع، فتتحول حياة إنسانية بأكملها إلى مثل هذه الكومة، لهذا جاء اسم (بيدرو الذي يعني الحجارة والأرض) منسجماً مع هذا المعنى! فرغم جبروته وعدوانه حوّله الموت إلى كومة حجارة!‏

كأن (رولفو) في هذه الخاتمة يريد أن يذكر المتلقي بالمصير الذي ينتظره في نهاية حياته، لهذا يحفّزه على التأمل في هذا المصير، لعله يحاول تنقية حياته من الأذى! ويبحث عما يمنحها معنى!‏

يجدر بنا أن نلفت النظر إلى أننا لم نعايش مشهد الاحتضار في الخاتمة فقط بل في المتن الروائي، حين تحدث الراوي البطل (خوان بريثيادو) عن احتضاره دون أن نلمح تكرار مشهد احتضار (بيدرو) فهنا عايشنا افتقاد المحتضر للهواء، ومعاناته من همس الأشباح، كما عايشنا احتضار (سوزانا) بصوت الراوي تارة، وعن طريق حوارها مع خادمتها ومع (الأب رينيريا) فتعرفنا على الطقوس المسيحية المصاحبة له.‏

هنا لابد أن يتساءل المتلقي: لِمَ عني (رولفو) بمشاهد الاحتضار وبعالم الموتى؟ أ بسبب مقتل والده وهو ما يزال طفلاً؟ أم معايشته لاحتضار أمه أو أحد أحبائه؟ ترى هل كانت هذه المشاهد ترياقاً له ينقذه من ذكريات تجارب مؤلمة!؟ هل كان الإبداع تفريغاً لتلك الآلام الداخلية التي عاناها بسبب تجارب مرت معه في طفولته!؟‏

مهما يكن نعتقد أن (رولفو) بتقديمه عالم الموتى ومشاهد الاحتضار قد افتتح فضاء جديداً للرواية، سيترك أبلغ الأثر في الرواية العالمية وخاصة في رواية أمريكا اللاتينية، فقد لاحظنا أثر ذلك لدى الروائي (ماريو فارغاس يوسا) خاصة في خاتمة روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" (15) إذ عايشنا مشهد اللحظات الأخيرة للفنان الفرنسي (غوغان) لكن (يوسا) امتلك بصمة خاصة به، فلم نجده أسير مشهد احتضار (بيدرو بارامو).‏

في الختام يمكننا القول إن هذه اللغة التي أرّقها الموت والإحساس بالإثم هي التي شكلت جماليات رواية (خوان رولفو) ومنحت إبداعه بصمة خاصة! وأدت إلى سيطرة عالم الموتى على فضاء الرواية بصورة مدهشة!‏

قديم 05-11-2015, 08:33 AM
المشاركة 6
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
خوان رولفو
1917 توفي سنة 1986 المكسيك


يعد الكاتب المكسيكي الأشهر والأب الروحي للواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية. ولد في سايولا (المكسيك) في 16 مايو 1917. وتوفي في مدينة مكسيكو في 8 يناير 1986. عمل رولفو في شركة لبيع الإطارات وفي مشاريع الري ودائرة الهجرة ،وكتب للسينما، لكنه جعل من المدينة التي ولد فيها محوراً لأحداث قصصه.

حقق خوان رولفو شهرة عالمية بفضل روايته "السهل يحترق" (1953) التي ترجمت إلى عديد من اللغات وكان له تأثير حاسم في مسار أدب أمريكا اللاتينية. وكان لظهور روايته (بدرو بارامو) (1955) تأثيرا كبيرا في التعريف باتجاه الواقعية السحرية وهي من أشهر مدارس الكتابة في أمريكا اللاتينية. يعتبر رولفو من أهم الكتاب العالميين في القرن العشرين على الرغم من قلة إنتاجه القصصي، وتضاهي قامته الأدبية الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، بناء على استطلاع رأي قامت به دار النشر الإسبانية الفاجوارا.

و ترجع شهرة خوان رولفو كالأب الروحى للواقعية السحرية إلى مقدرته على المزج بين الواقع والخيال حيث قدم في أعماله أحداثا لها علاقة بمجتمعه، بجانب شخصيات تقدم وتعكس نمطية المكان والمشاكل الاجتماعية والثقافية، وذلك بعد مزجها بالعالم الخيالي.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: الواقعية السحرية في رواية الفينكس قراءة دينا نبيل
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
شعورك بعد قراءة رواية أو كتاب ؟ ياسر حباب منبر رواق الكُتب. 21 11-27-2020 10:43 AM
قراءة على رواية (36ساعة في خان شيخون) محمد فتحي المقداد منبر القصص والروايات والمسرح . 2 06-02-2020 10:11 PM
مادوليا: تجدد الواقعية السحرية في تجارب أدبية شابة ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 0 08-22-2015 03:17 PM
قراءة في رواية الدفلى لـ ماري رشو ريم بدر الدين منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 08-05-2013 07:21 PM
قراءة في رواية الطريق لكورماك مكارثي ريم بدر الدين منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 0 08-08-2010 06:32 PM

الساعة الآن 05:02 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.