قديم 02-26-2016, 11:58 PM
المشاركة 31
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فنون وعلوم / ثقافة
«سوريا» سليم بركات: نشيد النهايات الهوميري


ع* ع*
بطرس الحلاق
am 02:16 2015-10-02
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-10-02 على الصفحة رقم 11 – السفير الثقافي
بوركت سليم، بركاتٍ على بركات. بوركت أيها الكردي الوطن، الشاعر ناطقا بلسانٍ نسيه القتلة. نشيدك المأساة سيبقى، إذا ما قدّر للوطن أن يزول، صورةً عن حلم وشاهدا على بهيميّة لم يبدّل من جوهرها علم ولا دين.
ينيخ الموت، يتناسل طوفانا يمحق في كل حيٍّ نسغه، يزلزل المكان فيزيل منه الروح والذاكرة، يجمّد الزمان فينتصب حادا كشفرة الموسى. هي «الأعالي مُخبّلة مزّقت صُدرتها، والأسافل مخبّلة كالأنحاء الخبَل لا تُرتجى بعد الآن». من هنا مرّ «الغزااااة، الكفر، البراميل ...». لا حياة إلا للموت، موت يحرسه «البلد»: «أنتَ حولَ الموت، لا حولَك الموت». ومن الفناء المسبطِرّ ينقدح وعي شاعر، فيتدفّق نشيدا، ملحمة ـ مأساة، تستعيد هوميروس وملاحم آرام ومراثي الأنبياء، لتستنطقها عن عدم حاضر توالد من زيف «الأسلاف» والتاريخ.
أنّى لك أن تنفذ إلى هذا العالم المتطاير حمما ملتهبة؟ ينغلق عليك مسار الدلالات العقلاني، وتتيه في تدفق مفردات طالعة من سحيق التراث، قد تفوت حتى على صاحب «لسان العرب»، وفي تسلسل تراكيب نحوية تناساها أبو الأسود الدؤلي؛ فلا تُقارب معانيها إلا حدسا؛ ذلك الضباب من الحمم الدلالية والانفعالية يلفك آخذا بمجامعك، فلا تنفذ إليه إلا بالانصياع لهديره الغاضب الملتاع، الذي يحيل بِشَواش طبقاته ونغماته إلى سديم بداياتٍ أو نهايات رؤيوية. وإن لاح لك معنى في ذلك الطلسم فبالاستهداء بعبارات وصور تتردد في المتن بمثابة معالم مساحة أو لازمة في نشيد متهدّج، تُرشدك إلى إيقاع تعتمده مفاصل لتلمّس المعنى. ذاك النشيد الحمم صورة عن حالة راهنة أشبهُ بيوم حشر لمن لا يؤمن بآخرة، يعصف بتراث أُضفيت عليه سمة القداسة فضلا عن العقلانية، ويفضح حاضرا مسخا بُني على منجز تليد تمّ إخصاؤه. غير أن في الومضات التي تبلغ ناظريك نورا يدلك على قسمات ذلك المبدع الفذّ، إنسانا ومواطنا وشاعرا عاشقا مهيما.
انهيار الكون ـ الجسد: «خارت رُكبتاي».
العالم ينحلّ، فينحلّ معه الإنسان، جسده قبل روحه وثقافته. كل ذرة تنحلّ في «البلد»، ينحلّ ما يقابلها في الشاعر. فبركات هو الشاعر بالمعنى الأول: مندمغ بالكون فكأن الكون جسده. يحس بالمكان وما فيه لأنه يستبطنه من الأعماق. النبات والحيوان، ما يمشي منه وما يدب وما يطير، وكذلك عناصر الطبيعة وتضاريسها؛ ذلك كله ينبض في وعيه وفي إحساسه بحيث لا وجود ولا وعي إلا به. ليس الكون عنده إطارا أو حاضنة أو معاشا. إنه به وفيه فلا عافية بدونه: حين «لا/ باب/ لا/ نافذة/ لا بيت... لا سهل هناك/ لا جبل هنا/ بلاد تطبق الكتاب على سطوره الطويلة...»، عندها «لا عافية تعيدني إلى ما كنته/ لا إخلاص الجبل/ لا الجبليّ/ لا جدّي الجبل/ لا جدتي الغابة/ لا إخوتي الطرق الضيقة/ لا شقيقاتي الصخور الصقيلة في مجاري الأنهار/ لا فجر يعيدني إلى ما كنته». فلم لا يأسى على الأشياء: «هوّن عليك أيها الزبيب/ هوّني عليك أيتها المشمشة المجففة». «هرب/ الأرض/ من/ نفسها» يجعله خارج نفسه، كما أن «انهيار الأمكنة على أسمائها» يُفقده اسمه. الجسد المنهار، تحيل إليه عبارة تتردد كاللازمة من افتتاح النص حتى نهايته: «ركبتاي خارتا». الجسد جغرافيا الروح، كما المكان جغرافيا الوجود. هل يكتمل إبداع حين ينقطع المبدع عن الإحساس والوعي بالمكان ـ الكون؟ سؤال يُطرح على الإبداع العربي المعاصر، رواية وشعرا.
الصرخة
الأسلاف ـ التراث «الخدعة».
وإذ ينحلّ المكان، تتكشّف ذاكرته، ثقافته، وينفضح الزغل. فالأمجاد مجرّد تشدّق بلغوٍ لا يشير إلى معنى: «لم تكن بلدا إلا في النشيد المختنق... شدخ طويل في قلبك من أبهَر السهول إلى وَتين الساحل». والأسماء لا مُسمّى لها: «براعات كخلع الأضراس. الحروب الأقسى. نِكال الكلمات بالكلمات؛ نكال المعاني بالكلمات». القيم يلتبس فيها الحق بالباطل وكل نقيض بنقيضه. فالقدسيّ وثنية والإيمان كفر والبطولات خيانات. ولا يبقى من جوهر الأشياء إلا زينتها، على أن تؤخذ «الزينة» بمعناها القرآني المرتبط بوسوسة شيطان رجيم، الزينة الخدعة. نعم، «مُزيّنٌ كلُ شيء: الأقدار الزينة/ النهايات الزينة/ الجبهات الزينة/ المقاتل الزينة... القدسي الزينة/ الأولياء الزينة/ القلوب الزينة/ الشعب الزينة...». أما «الأسلاف» فليسوا بسلف؛ لذا يكتفي الشاعر بالمفردة الأولى دون الثانية التي تشير عادة إلى حكمة تتراكم: «ذي طباع الأسلاف معذورين أنهم لم يكونوا أسلافا قطّ. تصاريف كمُحّ البَيض». «الرُجعى إلى الأسلاف أنصفتهم أواصر/ الدمِ/ وأواصر/ القتل من سيئ الموت إلى أسوئه. غزااااااةٌ. كلّهم غزاةٌ». هم أسلاف لم يكونوا إلا حلقة وصل بين غزاة: «شركاؤك عجايا استوهبوك الغزااااااة أُكارعَ وكلىً، أطعموك الغزاة سهولا تتصل بخلجان الشرق. هياط ومياط». وفي هذا التراث الخدعة لم يصدق إلا «المُشكل»، إلا «الخدعة»: «الخدعة مذ/ كنت ما كنته، أيها البلد». ومع «صدق المشكل» يستقر «صدق الخوف/ الهتك/ الذبح...»، فإذا «بالخوف عريقا/ بالخوف خالقا/ وارثا . وريثا، بالخوووووف مائلا كقلب». فهل يبقى بعد ذلك إلا «الصرخة» بمعناها الأقوى: الاستصراخ لثأر، للنجدة من حتف محدق: «لا/ بقاء/ إلا/ الصرخة. أعطنيها/ الصرخة/ معشبةً». وإن لم تجد من تستصرخه، تلجأ إلى «القير» تطلي به روحك كي لا ينفذ إليها إحساس: «لا نفاذ للماء من شقوق الأرواح مذ طليت قيرا. شكرا/ للقير./ شكرا للغراء./ شكرا للصمغ/ فوق الغراء.»

الوارثون
الحاضر: «وارثون وغزااااااة».
عن ذلك الإرث ـ الخدعة لا ينجم إلا حاضر غدا نهبا لكل مستفحل غاشم. لا، ليست مؤامرة، بل توزيع غنائم، من أرض وأهل مستعبدين، بين نخب محليين أصبحوا «وارثين» وبين «غزاة» طامعين. والنخب المحلية على أنواع، شرعيتها الوحيدة هي قدرتها على التسلط، تستمدها من آلة دمار توفرت لها، أو من سلطة رمزية آلت إليها بفعل التقاليد والأعراف الاجتماعية والدينية، أو بفضل موقع اجتماعي وفّرته ثقافة أو حداثة مُزيفتان. فإذا البلد نهبا لمن يملك «البراميل المُلك إقطاعا في أرجاء الوقت، وأقبية الوقت. البراميل الأنخاب، الدَمِجانات. البراميل الشرح/ والتوضيح/ والتصحيح». فتتراكم «كِدسٌ من المدن في المصفاة»؛ وها «الجيش العودة من معاركه اللهوِ في الأناشيد إلى لهوٍ بالأشلاء... جيش الخسائر منتصرةً، والنهبِ منتصرا، جيش الأخوّات الفظة/ والأنساب الفظة». بلد يتقاسمه الحكام الفرحون «بنجاة/ أسمائهم/ في انهيار الدول»، مع النخب القادرة على «المناشدات بين السحر والشعر، المآتم إجماعا، والدعارة شتّى. التفاسير مغرية، والشُرّاح نوتيون». هؤلاء، باسم الكفاح ضد صاحب البراميل، يبرّرون لأنفسهم كل مسلك وتحالف وانزلاق، بما يملكونه من ثقافة مطّاطة تحلّل وتحرّم وفق المصالح والأهواء. هؤلاء جميعا هم «الوارثون مدنَ الآباء سُرقت بالشعوب فيها/ والكلمات فيها/ والذبائح فيها مُلوّنةً كأعلام القاهر وثياب عاهراته، أيها البلد».
وما عساهم يفعلون بالغنيمة، هؤلاء الوارثون، إذا ما أصابهم وهن أو خصام؟ يورّثونه الغزاةَ: «أيها البلد... لم نعرفك إلا مغنما وُرّثتَ فأورثوك الغزااااا/اااا/اااةَ... كنتَ للغزاة فينا، وللغزاة ليسوا فينا استدانوك دَينا لن يُسدّد إلى أحد». والغزاة وفدوا من كل حدب وصوب، من شرق ومن غرب: «الفرنجة في غابرٍ، والغزاة اليوم. لم نحتسب للفرنجة الغزاة ثانيةً. مُلهمون الفرنجة يحشدون من شرقك الآن... مُلهمون غزاة الآن من فرنجة الغابر. منتقمون مذ لم يأخذوا معهم قبلا رفاتَ القتلى من مراقد الأرض إلى نصرهم المنتظر».
مكان هباء، وإرث هباء، ووارثون وغزاة. إنها النهايات والفجيعة إذ تطبق بلا رجاء. لإرميا ويوحنا ربٌّ سينتصر للحق. الأول يهدد أهله بدمار شامل إذا ما استمر في غيّه: شموس تنخسف وأقمار تنكسف وجبال تتدحرج وبشر نهب للشر والخوف... إلى أن يتوب الشعب إلى ربه فيتوب عنه ربه. ويتكشف ليوحنا في رؤياه عالم ينهار وبشر يمسخون ويفنون، ولكن «الحمَل» سينهض شمسا لعالم جديد، هو الملكوت. أما سليم بركات فلا يرى إلا الرحى تطحن الموجودات فلا وجود بعدها، لا قيامة، لا فداء. هو يأبى أن يكون من سلالة الأنبياء يرون الخلاص الآتي على يد «رب القوات»؛ وإن كان نبيا فنبيّ لا رجاء له. إنها الفجيعة مضاعفة: « طَويتُ ما لا يُطوى ـ نفسي طويتها عليّ/ كي لا أُبعث من شكي نبيا إليّ، أيها البلد». فيعلن على الملأ: «لا شيء يعيدني إلى ما كنته». ويستخلص العبرة: «جرائم الأمهات أن يلدن بعد الآن/ والآباء أن يستولدوا. هي ذي تقوى المدية فوق النحر».
البلد
الحب إرهاص ببدايات: «بلدي أنت».
يغمرك ذلك الدفق اللامتناهي من العويل والمراثي، بحيث لا ترى سوى الفناء منفذا... لولا تلك العبارة المزروعة في أرجاء النص لغما ملغزا، تتواتر على نحو ملحّ مريب، تتكرر مرات في الصفحة الواحدة ودائما بصيغة المنادى المعرّف المقصود الذي يفيد علاقة شخصية مباشرة مع المُخاطَب: «أيها البلد». ترد في سياق الرثاء والأسى والتفجّع والعتاب والأسف والاستغاثة، كما في سياق الاستنكار والاستهجان والتخوين والإدانة حتى الكراهية. لغم مُكثّف من الانفعالات المتناقضة مشحونة بتاريخ كامل من الإحساس والفكر والحدس والخيال على المستوى الفردي والجماعي معا. لغم يساور الشاعر بلا هوادة وكأنه نفَسه، نفَسه الأخير. وإذا بالشاعر يفاجئك في الجملة الأخيرة من نشيده بموقف لا تتوقّعه، حيث يجهر بانتسابه لهذا البلد بعد أن صبّ عليه جام غضبه: «بلدي/ أنت/ أيها البلد.» بومضة، يسترجع القارئ النص بجملته ولكن من منظور آخر: على ضوء ضمير المتكلم المتصل «ي»، يستهدي في ذلك الدفق العكر من الغضب والحزن وحتى من التحقير إلى نبع فوّار من الحياة والعاطفة يحيي ذلك العالم الموات فإذا بقصيدته نشيد حبّ وهيام. وإذا بالشاعر مجنونَ «البلد» يضارع «مجنون ليلى»، لا في جنونه بل في حبه، الذي به قد يتسنى له أن يبعث «البلد» الحبيب وهو رميم. فكأنه الإلهة إينانا أو أوزيس تهبط إلى الجحيم لتفتدي، بقوة حبّها لا غير، حبيبها الإلهي. ويلوح لك أن الشاعر في نشيده هذا أقرب إلى هوميروس منه إلى إرميا ويوحنا. فهوميروس في إلياذته يتفجّع على مصير أمته المأساوي، ولكنه في آن ـ حسب الدراسات الحديثةـ يدعو أهله إلى التخلى عن آلهة يوغل في وصف وحشيتها وأنانيتها ليقنع ذويه بأن لا خلاص يرتجى من أمثال تلك الآلهة، وأنهم وحدهم قادرون على بناء مصيرهم ـ وذلك ما شرعوا به فكان أن تأسست الفلسفة على يد أحدهم، سقراط. فألا يكون نشيد سليم بركات نشيد نهايات هوميريا يبشّر ببدايات جديدة؟
ومما يعزّز هذه الفرضية علامتان واضحتان في النص: تواتر مفردة شعبية بدل كلمة مرادفة شائعة الاستعمال، ومسار إبداعي خاص. فالمفردة هي «البلد» يستعملها بدل لفظة «وطن» التي لا ترد أصلا في النص، ربما بسبب المعنى الذي اكتسبته في العصر الحديث. فقد شُحنت هذه اللفظة بمفاهيم عقائدية تعددت بتعدد الأنظمة التي توالت على العالم العربي، ثم تناقضت بحيث أنها أُفرغت من مضمونها. هكذا استعملتها أدبيات الأحزاب القومية غطاء لسياسة هي على النقيض منها. فهل أفاض في استعمال عبارة «الوطن العربي» أكثر من الأنظمة القطرية المتشدّقة بالوحدة؟ وهل تستّر بمضمونها أكثر من الأنظمة الدكتاتورية، عسكرية كانت أو شبه عسكرية من ملكيات وإمارات؟ وهل تغنّى بها أكثر من مثقفين «باعوا» الوطن لمصالحهم؟ أما مفهوم «البلد» فلم يتعرض لمثل التعسّف، فضلا عن أن له بعدا شعبيا ومكانيا وحسيا يستشعره «المواطن» بالفطرة. أما لفظة «سوريا» فلم يستعملها الشاعر في نصه إلا مرة واحدة، وفي العنوان لا غير، ربما لأنها هي أيضا ابتذلت واستبيحت؛ ومع ذلك تبقى شديدة الارتباط بوعي الناس ولاوعيهم بالمكان ـ البلد، على عكس بلاد الشام أو الرافدين وقد آل أمرهما إلى قبضة «داعش».
وأما المسار الذي اصطفاه فهو الحفر في اللسان العربي للكشف عن أركانه الأساسية ومنابعه الثقافية والإبداعية، التي بها بنت أجيال هويتها وحضارتها الحقيقية على توالي العصور. ينبش اللسان بقاموسه ونحوه لا لكي يذريه ويمحوه، بل ليصفيه من الزغل ومن الانتهاكات التي أصابته، ومن تراكمات عقائدية جامدة شلّت حيويته، فيعيد له عافيته. فهل يحذو، بفعله هذا وبدون وعي منه، حذو أهل «بلده» القدامى ـ أهل ما بين النهرين ـ حين كانوا على مدى آلاف السنين وبعد كل غزو مدمّر، يزيلون أنقاض مدنهم ليعيدوا بناءها على الأسس الأولى الركينة التي لم يستطع أي غزو أن ينال منها؟ وعلى منوالهم، أزال الشاعر طبقات من أنقاض لغة سلطوية، غيبية، فوقية أو شكلية تراكمت عبر العصور، لا سيما عصور الدول المركزية المتجبرة. أزالها ليعود باللسان إلى ذلك العصر الشعري بامتياز، عصر المعلقات، عصر شعراء ماتوا من فرط الحب والهيام. والحال أن ذلك تماما ما حاوله شعراء النهضة المجددون. أكتفي بالإحالة إلى موقف خليل مطران تجاه بعض المتعنّتين، في مقدمة ديوانه الأول الصادر عام 1908: «فيا هذا، نعم، إنه شعر جاهلي، وفخره أنه جاهلي». وبركات «جاهلي» بهذا المنظور: العودة إلى الينبوع المتفجر طليقا قبل أن يُقيد بالعقيدة والقياس كما يقرّره الحاكم بأمره. إلى الينبوع نفسه، غالبا ما يحيل مفهوم «الصحراء» عند محمود درويش وهو القائل: «أنا لغتي». وما عدا ذلك فبركات شاعر الحداثة الحقيقية، بما يملكه من وعي ثقافي إنساني طليق، متجاوزا ـ وهو الكردي بالصميم ـ حواجز الطائفة والإثنية والعقائديات المبتسرة العقيمة.
بوركت، شاعر الحداثة، تبني وطنا من رحم اللغة، على خطى صديقك ورفيق نضالك محمود. بوركت، شاعر الإنسان والوطن بمعناه الأكيد.
(كاتب سوري)
السفير

قديم 02-27-2016, 12:33 PM
المشاركة 32
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
Komela Perwer a çanda Kurd
March 26, 2015 ·

سليم بركات حالة أدبية خاصة
:

لم تشهد ساحة أدبية حالة خاصة مثل سليم بركات ذلك المسكون بالشجن المفعم بالشعر و المطارد بالرواية ، حين يأتي الحديث عن سليم بركات يجد المرء نفسه في حالة حيرة شديدة من أمر هذه الروح التي خطفت الألباب بسحر شعرها و بغزارة رواياتها ، لا يمكن إغفال سليم بركات كشاعر كما لا يمكن إغفاله كروائي متميز سرقته الرواية من أجواء الشعر الكردي الحديث الذي يعد من رواده في سوريا بلغته الخاصة المميزة الحية ، حيث دائما ما يتم الإشارة إلى أن الأصوات الشعرية الحديثة جميعها لم تخرج من عباءة ( جيكر خوين ) أو( سليم بركات).
اهتم سليم بالتأريخ الذاتي و أدب السيرة حيث كتب سيرة الصبا في رواية (هاته عاليا ً هات النفير على آخره ) التي صدرت في العام 1982 و كذلك كتب في سيرة الطفولة في روايته ( الجندب الحديدي ) عام 1980 ، ببنما يعتبر سليم أن أولى رواياته هي (فقهاء الظلام ) و التي صدرت في العام 1985،يبلغ إنتاج سليم بركات عشرة أعمال نثرية و عشرة دوايين شعرية أولها كان المجموعة الشعرية ( كل داخل سيهتف لأجلى و كل خارج أيضاَ ) و التي أصدرها في العام 1973 و أخرها المجموعة الشعرية ( المثاقيل) و التي صدرت عام 2000.
اهتم سليم بركات بالشعر القصصي ذو النكهة الحداثية ، يرصع لغته بالسحر و كلماته باللاممكن فحين نقرأ سليم نشعر بأجواء خاصة تبتعد بنا عن أرض الواقع لتحلق في سماء الشعر و الأمنيات و الخيال فنراه يقول في قصيدة (استطراد في سياقٍ مُخْتَزَلٌ):
إنها البراهينُ الحمّى،
وأنتَ تظلِّلها بالحبرِ من تهتُّكِ اليقين،
وتُوْقِعُ بالكلماتِ لتغفوَ البراهينُ على شِجارها.
لا دِيَكَةَ هنا،
لكنها أَعرافُ النارِ المتمايلةُ كأعرافِ الدِّيكة،
والوجودُ المارقُ يروِّعُ السياقَ المكنونَ للظُّهُوْراتْ.
لا بلاءَ هنا إلاَّ من وَرْدٍ،
لا مِزْراقَ طائشاً إلاَّ مِزْراق الكونْ؛
والبرقُ زِرايةُ الليلِ بالمكان، ثمَّ، والمياهُ هُزْوٌ،
فمالَكَ تتلقَّفُ المشيئاتِ بشعاعٍ منكوبٍ،
وتُغْدِقُ على الألمِ إيمانَ المساء؟
سليم بركات شاعر المحال و روائي النضال و البارود يتجلى دوما في دواوينه و رواياته بهموم الإنسان العربي و الكردي على نغمة شجنية واحدة ، و حاول الكثيرون من الشعراء الأكراد المعاصرين تقليد سليم بركات و السير على نهجه في كتابة القصيدة إلا أنه لم يتمكن أي منهم من رسم خط شعري خاص به سواء ممن كتبوا الشعر المقفي أمثال جميل داري و عبد الرحمن ألوجي أو الغالبية التي تكتب شعر التفعيلة و القصيدة النثرية ، إلا أنه هناك مجموعة من الأسماء قد برزت على الساحة الشعرية الكردية الحديثة و يعتبر أشهرها الشاعر (محمد عفيف الحسيني ) الذي يكتب القصيدة الحديثة نقرأ له في قصيدة (شجرة الميلاد):
ثم تنتهي الحكاية،
كما سينتهي هذا العام،
وتنطفىء أشجار الميلاد،
ويعود الساهرون إلى منازلهم الصفراء؛
وتغيب الحكاية، والسيدة الصغيرة،
لاريح تذكرها بالرجل،
وهو يقدم لها حنيناً ويأساً، ومساء الخير.
ثم ينطفىء كل شيء،
كأنْ لم يحدث شيءٌ
سوى مرآة مشروخة، تحمل صورتين جميلتين،
ووردة ذابلة،
وشجرة الميلاد المطفأة.

قديم 02-28-2016, 09:03 AM
المشاركة 33
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات والكتابة الشذرية *كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا

بقلم الاعلامي عبد العزيز كوكس

ليس ما أقدمه هنا قراءة نقدية بالمعنى الحصري للكلمة لأعمال الشاعر الفاتن سليم بركات الذي نحتفي به، وتستدفئ ببعض مما أنجبه، وإنما هو شهادة محض ذاتية على هامش متن كبير، كلما قرأته أحسست بتواضع لغتي ورموزي، وأن الدرب لا زال أمامي طويلا للإحساس ولو للحظة أنني اكتسبت أدباً، ولو كنت ابنا شرعيا للأدب..



تعرفت على سليم بركات في زمن متأخر عبر سيرة صباه: “هاته عاليا.. هات النفير على آخره”.. وقادني إلى أعماله الكثيرة الصديق العزيز سعيد الوزان.. فاكتشفت كما لو أن المبدع بركات يخبئ عنا معاجم ضخمة للغة العربية لا تحفل بها خِزاناتنا.. تلك الكثافة اللازمة للكتابة، الوصف الباذخ المغرم بالتفاصيل.. لغة تقول الصمت الكثير الذي يسكن غُموض الأشياء، وتنقل أسرارها في لغة متفردة، هي جوهر شعرية سليم بركات، لغة شذرية تستمع للصمت الكبير لتقول الكلام الأقل، ولا يهمها ضجيج العالم الخارجي المفتون بوجع ما يجري على سطح الأشياء.. نحس في لغة بركات الانفلات من أسر اللغة المسكوكة والمعنى المكتمل والدليل الجاهز الممتلئ.

إنه مثل صائغ يعيد إذابة المجوهرات المتشكلة لديه سلفاً، ليصنع منها بحذق ومهارة شكلا إبداعيا جديداً.. في شعر سليم بركات، وكل كتاباته تمثل هدم الحدود بين الشعر والنثر، نحس ذلك السهر الدقيق على حسن انتقاء الحروف والكلمات والمعاني التي لا تدل على الطرق المرصوصة سلفاً في المتون السابقة أو المجايلة، أو حتى في كتابات بركات الإبداعية السابقة، مهندس ذكي هو يفتح طرقاً غير مسبوقة لأعالي الروح، بحساسية مفرطة يحرص سليم على التدمير الرصين لذاكرة الكلمات والمعاني، وتعابيره تلجأ إلى الحمية للتخلص من الفضلات، تحافظ على رشاقتها وهي تمر في حقل ألغام الروح..

في كتابات سليم بركات، نحس أن كل نص إبداعي متعدد، لا يشبه ذاته.. كلما قرأناه وجدناه مختلفا عن قراءتنا السابقة له، ولا يشبه النصوص السابقة أو اللاحقة لما اختطه سليم بركات نفسه، كل نص هو اغتيال للشبيه، لأن اللغة الشذرية في نصوص بركات لا تخلق النموذج، ولا تسعى إلى جمع الحشود وخلق الأتباع، لأن كل نص يُدخلنا إلى عتمة لا يُرى فيها إلا أثر الأشياء، لغة متشظية مضادة للنسخ وصنو الشبيه، تخلق فرادة كون مستقل عن فراغ العالم، هو بوابة الروح الإنسانية حيث نلامس تمزقات الهوية، غربة اللسان الذي سيصبح وطنه، ذلك الكردي الذي كان أكثر إتقاناً للعربية من بني ذات اللسان، جرح التاريخ، العيش الدائم في المنفى ليس كانتماء للجغرافيا بل ككينونة متشظية بين ألوان تسمو على علم وطني يعلو بناية حكومية أو يرسم الحدود والأسيجة، لذلك كان مطمئنا أن “كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا”، من “الفلكيون في ثلثاء الموت” حتى “هياج الإوز” و”ترجمة البازلت” و”أنقاض الأزل الثاني”… يعلمنا سليم بركات ذلك القفز الحر نحو الغياهب، صدى الفراغ، القبض على اللامرئي… لعل هذا ما دفع بالرائع قاسم حداد أن يعتبر أن أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً وحده، يقول: “كلما قرأت شعر سليم بركات سمعت صوتا غامضا يستعصي على التفسير، لكنه أكثر السبل متعة في التأويل، الشعر هو هذا في الأصل: شأن لا يستقيم مع التفسير، ولا يمنحه جدية وجمالا مثل التأويل.. فالشعر مع سليم بركات، هو الرمز الخالص المصفى الذي يصقل مخيلة القارئ لكي تصير جديرة به، بالشعر”.

في نصوص سليم بركات نحس بقيمة المعجز اللغوي، كيف نتوفر على ذات المعاجم والقواميس التي أحاطت باللسان العربي، ونتساءل كيف يمنح بركات للغة نصوصه الإبداعية زهو الربيع، شموخ الجبال، صفاء الماء.. مجنون هو هذا الفتى المسكون بالتحول، اكتشاف الغامض، زرع الفخاف في طريق القراءة الكسولة.. كم هي متعبة نصوص هذا المشاكس الكردي؟

كيف تقبض لغته المتشظية على لآلئ الغموض، وتنشر الحقيقة في ظلال الظلمات؟ كتابة هي سليلة المحو، حيث تظل حروفه وكلماته مثل آلة حربية – كما عبر جيل دولوز – تدمر الثابت، المألوف، المسكوك، تزرع الشعر في قلب نثر الحياة اليومية، تفكك سنن المعيار وطمأنينة المؤسسات، وببراعة البستاني وهو يشذب الأغصان ويطهر الربيع من الفضلات والطفيلات دون أن يئد الحياة في الشجرة أو الوردة، يحرص سليم بركات على مد تعابيره بما لا يحتاج إلى الإسعافات الأولية لإنقادها من السكتة القلبية، لأن اللغة الشعرية التي رفعها إلى مرتبة القداسة بعد هدم ما امتلأت به الحروف والمفردات والتراكيب المسطرة في المعاجم أو بطون الأدب، هي صلب كينونته، هي هويته التي أنقذته من التشظي الهوياتي والمنفى وبؤس العالم، فخلق نصاً جميلا مهماً تعددت مسمياته وأجناسه، يظل نصاً واحداً، لعل هذا هو المعنى العميق لعبارة قاسم حداد: “أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً واحداً”، فلكي تفهم سليم يجب أن تكون سليما معافى من لغة البحث عن المعنى الصحيح، عشق الفضلات والزوائد، الافتتان بلغط العالم، فتنة المعنى المكتمل والدليل الجاهز، سحر الإيديولوجيا الزائف، الهوية المتشرنقة على ذاتها مثل بيت عنكبوت هو أوهن البيوت، الفناء في الثبات والاطمئنان لسلط اليقين..

اللغة الشذرية عند سليم بركات تقربنا مما أسماه نيتشه بـ “رنة الجسد”، أي تلك السعادة الزمردية ذات الأضلاع المتعددة مبنى ومعنى، التي تمنح العالم المرح الضروري لكي لا يفنى أو يُصاب بكسر في منتصف الطريق.. يركز بركات على منح الدليل اللغوي أقصى درجات انشطاره واعتباطيته كما استخلص ذلك فرديناند دوسوسير… لذلك اعتبر أن كل نصوصه المتعددة من الشعر إلى الرواية هي نص واحد مختلف عن ذاته، في الرواية نلمس شعرية التفاصيل، نحو الفضاء grammaire de l’espace، شذرية الزمن الذي يحاكي ملامح الشخوص والوقائع حتى في أدق تفاصيلها.. في الشعر، نعثر على حكي السيرة التي عشقها الأكراد وخوَّنوه لأنه لم يبْق وفيا لما اعتبروه قضية منحصرة في تمجيد الزعماء والألقاب والجغرافيات المصنوعة في دهاليز الأروقة السرية لمخابرات النظام العالمي الجديد.

سيظل سليم بركات وشما على جسد الإبداع العربي، وستظل كتابته الشذرية تلتقط الثابت والعميق من قلب الزمن المتحول..

ستبقى نصوصه حاضرة رغم أنها سليلة الغياب لأنها تزلزل ثرثرة الأشياء، وتغوص بعيداً في خلجان الذات، التاريخ والعالم، ويحق له أن يردد مع نيتشه: “لم تستطع لغة ألبته أن تعبر قبلي عن هذه السعادة الزمردية وهذا الحنان الإلهي”.. سيظل غموض بركات واضحاً فيَّ، وسيستمر حرصه على العناية الفائقة بما كان قد أسماه ابن قتيبة بماء النص، المعبر الأساسي على أن الشعر لا يوجد في العالم، وإنما في اللغة التي لا تحاكيه وإنما تصنعه وتبدعه أو تعيد خلقه.

قديم 02-28-2016, 09:17 AM
المشاركة 34
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات شاعر صرخ بشعوب المشرق: أيتها الأمة الرعاعة

سليم بركات يتميز بجديته فاختار أن يصنع الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم في بلد غير بلده ليتابع جنونه في اللغة والخيال.
العرب*إبراهيم الجبين [نُشر*في*11/05/2014، العدد: 9555، ص(9)]

بركات ورث عن أسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة
“إبتدْع أيها اليأسُ في مهبِّكَ يأسي
وليكُنْ قِرانٌ يُعجِّلُ الخواتيمَ، والعرسُ نفسي

وليكنْ سَهَرُ الغبارِ من عَلِيِّينْ يرمي عليَّ الحِليّ حتى أبدَّدَ بعضي

في امتداحِ الغبار؛ أو أستدَقَّ كالسهمِ حتى

تمهِّد الريحُ بي غدرها وهي ترمي منازلَ الماءِ شتى.

ومن ختامٍ،

من غدٍ أو رنينٍ،

من مجاهلَ تعلو كهندباءٍ، ومن لهاثٍ كأرضِ

يجرِّدُ القلبُ سيفَهُ الرمادَ: هاكم شهوديَ ما بين إبرامِ شكْلٍ ونَقْضِ

يدجِّجونَ البعيد بي أو ببعضي”.

أبعد من الأعراق، وأشدّ حرارة من العروق النابضة بالهوية، كلّها هويات، وفي لغته التاريخ والخيال وسحر الكلمات، اختار لغة الشريك كي يذهب بها إلى الآخر، ماضياُ في فتنته، مستعرضاً قدراته التي بلا حدود، “لغة الدين ولغة الفقه والشريعة.. اللغة العربية هي بيتي وجمهوريتي، وهي ليست كلغة المحتل الفرنسي، ليست وافدة”، هكذا يقول سليم بركات، وهكذا يرى، وهكذا يكتب، شعراً ونثراً وعالماً لا آفاق تقدر على حصره وتقييده.

من بين القرى المتناثرة في الشمال السوري، ولد سليم بركات، ابن الملاّ، الذي ورث عن بيته وأسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة، مع الثلج والجبال، مع الرحيل والهجرة والتبغ والأغاني ذات الأصوات العميقة الجارحة كعواء الذئاب.


الجزيرة السورية قطعة السماء

كان للخمسينات التي رأى فيها سليم بركات النور، وهج خاص في القطعة الجغرافية الإنسانية المسماة “الجزيرة” في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، على تخوم تركيا والعراق، حيث تركيبة السكان الخاصة، واللغات العتيقة للشرق مجتمعة في مثلث خير وفير وأنهار وعوالم قلما عرفتها بقية المناطق السورية التي غالباً ما كانت منسجمة الأهلين، وبينما خضعت المدن لتقلبات السياسيين والعسكر، عاشت الجزيرة تلك التقلبات ببعدها الثقافي أكثر من عصفها المباشر، فكان إهمالها في ذلك الحين نعمة، شاء لها القدر أن تقلب في سنوات الاستبداد إلى نقمة كبيرة، أدّت إلى زوال امتياز الجزيرة، وجفاف أنهارها وهجرة أبنائها وتفرقهم في أنحاء العالم، فأخذت ثقافة العالم الكرد والسريان والعرب والآشوريين والأرمن، كتّاباً ورسامين وموسيقيين لتتبعثر حمولتهم في الخرائط كما تنبأ سليم بركات لبلدته في ديوانه القديم “هكذا أبعثر موسيسانا”.

ذهب إلى دمشق لدراسة اللغة العربية، أواخر الستينات، ولم يبق فيها سوى سنة واحدة غادر بعدها إلى بيروت، ليجد الحرية التي طالما بحث عنها، وسيتحدث عنها بعد ذلك كثيراً، حيث لا حد لحرية خياله ولا لحرية جسده، ثم نشر سليم بركات أول قصيدة له بعنوان “نقابة الأنساب” في مجلة “الطليعة” الأسبوعية السورية، في العام 1971، وانقطعت أخباره حيناً عن الشام ومناخها الأدبي، ثم ما لبثت أن عادت بقوة بعد سنوات قليلة حين وصل كتابه الأول ” كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً” بقطعه الصغير وتصميمه الغريب، ذلك الكتاب الذي بقي يباع سرّاً في مكتبات سوريا من أقصاها إلى أقصاها حتى هذه اللحظة، وكأن عدد نسخه لا نهائي، فكان شعراء سوريا يحصلون عليه متى شاؤوا بهمسات بينهم وبين باعة الكتب في دمشق وحلب والقامشلي، ولم تمض سنتان حتى صدرت مجموعته الشعرية الثانية “هكذا أبعثر موسيسانا” في العام 1975.


شاعر كردي في ثورة فلسطين

انخرط سليم بركات سريعاً مع الثورة الفلسطينية في بيروت، وأصبح أحد أعضاء المنظمة والعمل الثوري الفكري، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذها معها في مهبّها، ولكنه شاء ألا يشدّه المهبّ على هواه، بل كما يريد سليم بركات لسيرته أن تكتب ذات يوم، فكان سليم بركات شاهداً على الحرب مشاركاً فيها، كمقاتل سرد أيامه وقطع حباله نهائياً ودون تردّد مع سوريا الرسمية، التي دخلت بجيشها كقوة احتلال لأرض لبنان، وقوة ردع ليس لغير الفلسطينيين والمقاومة الوطنية اللبنانية، ليكتب سليم بركات كتابه الذي تسبب بمنع تداول اسمه في سوريا بعدها “كنيسة المحارب” في العام 1977 فوثّق فيه الحرب، ورسم جنونها بالكلمات في مغامرة نثرية أولى، وفي السنة ذاتها أصدر المجموعة الشعرية الثالثة “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك”، وتابع في الحرب وكأنه أحد تفاصيلها، بارودها أو متاريسها، مبانيها المتهدمة، إنسانها، ولكنه كان لا يزال في عالمه الخاص، فكتب ” الجمهرات” في العام 1978 و” الكراكي” في 1981 عن ديلانا وديرام عاشقي سليم بركات الخالدين: “أيقِظْها يا ديرام، أيقظْ فراشةَ الغيبِ ويُعْسُوْبَهُ الذهبيَّ… أيقظْ ديلانا، وأيقظْ معها البيتَ حجراً حجراً، ثم أيقظِ الساحةَ المحيطةَ بالبيتِ، وأيْقظِ السياجَ. وإذ تنتهي من ذلك كُلِّهِ أيقظِ الصباحَ النائمَ قربَ السياجِ، وقُلْ تعالي ديلانا، تعالي لنشهدَ السطوعَ الحيرانَ للأرض وهي تَذْرُفُ الحديدَ والبهاءَ على درعنا الآدمي، ولنكْشِفْ، بعد ذلك، ثديَيْنا لنصلِ الحقولِ، مرتجفيْنِ من عذوبةِ النَّصلِ إذْ يغوصُ إلى حيث يجري السمسمُ والزعفرانُ، كأنَّما نحاولُ، معاً، أن نكونَ الجراحَ التي لا جراحَ بعدَها… هيا أيقظْها يا ديرام”، “أيقظيهِ ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململُ تحت الشُّعاعِ المنسابِ على صدرِهِ العاري.

كتب عنه الشاعر العراقي سعدي يوسف قائلا: "أعظم كردي ظهر بعد صلاح الدين الأيوبي"، ولم يتردد بركات بمهاجمة متطرفي الأكراد كما حارب طويلا من أجل قضيتهم
أيقظيهِ وأيقظي النهارَ والأرغفةَ، ثم املئي دلوَكِ -الدلوَ الذي تسقيْنَ به حيواناتِ الصباحِ التي لا تُرى -املئيهِ شَرانِقَ قَزٍّ وتوتاً مما يتساقطُ من المدائحِ، لتخيطي بالحريرِ والتوتِ هذه العذوبةَ المُسْدلةَ حول ديرامَ. أيقظيهِ أيقظيهِ ديلانا”، في أكثر من مشهدية سينمائية سحرية فائقة بدأها سليم بركات هكذا: ” تيتل على الهضبة، وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل، فلا تقتربنّ أكثر أيها الدليل، ولا تبتعدنّ أكثر، مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها. تيتل على الهضبة، وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل”.


سيرة الطفولة والصبا

لم يغادر القامشلي، رغم أنه غادرها، كتب محموماً بها في بيروت سيرتيه الشهيرتين، “الجندب الحديدي ـ سيرة الطفولة ” في العام1980 و”هاته عالياً، هات النفير على آخره – سيرة الصبا” في العام 1982، يقول عن القامشلي: ” أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين.

تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرت – فيما بعد – بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها”، في تلكم السيرتين، كتب سليم بركات ذاكرة من عاشوا، ومن سيعيشون فيما بعد أقصى فقْدِ ما رآه هو وجيله، بعد أن زالت ملامح المكان وتخالط الزمان بالاعتيادي والمألوف، فلم يتبق سوى غرابة سليم بركات الراوي والشاهد والحي، “السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا” كتب سليم بركات فيها يوميات الطفل المسكون بالحياة: “إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي”، سجّل مشاهد الجزيرة ووثائقها كما في صورة ساحرة لشيخة قبيلة طيء: ” كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ”.
رسم سليم بركات بكتابته عالما ملؤه الحجل والريش المتطاير مستعرضا عضلاته اللغوية وبلاغة العقل والمخيلة فكانت تجربته فضاء واسعاً لا حدود له

الخروج من المنافي الجديدة

كتب الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف: ” في العام 1979 ، كنّـا في بيروت ، بين أضلاع ما سُـمِّيَ الكيلومترَ الأخير، وقد تأكّدَ أنه أخيرٌ، بعد أن طردتنا دباباتُ آرييل شارون في صيف 1982 وخريفها، فلم نجدْ، بَعدها، أرضاً ثابتةً ثباتَ ذلك الكيلومتر المربع الأخير، كنتُ أعرفُ أن سليم بركات مقيمٌ مثلنا، في الفاكهاني، سألتُ عن مَـظانِّهِ، وعرفت عنوانه، دخلتُ المبنى، وتوجّهتُ إلى باب المسكن، ضغطتُ الزرَّ، مضت دقائقُ، حتى لقد خِلْـتُ أنني أخطأتُ المقصدَ… البابُ يوارَبُ بطيئاً، ومن الفتحة بين الباب والجدار تظهر فوّهةُ مسدسٍ، تتلوها ” سبطانةٌ ” كأنها لطولها وشناعتها سبطانةُ بندقيةٍ،

ـ من؟

ـ أنا سعدي يوسف ، يا سليم بركات… أرجوكَ اخفضْ فوّهةَ المسدس″، ليقول عنه سعدي بعد ذلك :” قلتُ لسليم بركات ، مرةً: إنكَ أعظمُ كرديٍّ بعد صلاح الدين، واليومَ، بعد رُبع قرنٍ من مَـرِّ الزمان، أعود إلى القولة ذاتها، وأنا أكثرُ اطمئناناً إلى صوابها، بعد أن شهدتُ ما شهدتُ، وعرفتُ من عرفتُ”.

ولكن سليم بركات المحارب، غادر كنيسته اللبنانية الفلسطينية، وخرج من بيروت مع من خرجوا، في تغريبة كردية سورية فلسطينية عربية متجددة، إلى تونس ثم روما ثم قبرص، حيث استقر هناك وصنع “الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم” في بيت جمع في حديقته مئات الشجيرات حافظاً أسماءها باللاتينية، متابعاً جنونه في اللغة والخيال، ليتابع مع الشاعر محمود درويش مشروع مجلة الكرمل، مطلاً هذه المرة على العالم العربي، والقارئ العربي وسوريا ولبنان اللتين باتتا خلف البحر، من نافذة واسعة، وراقية كلغة سليم بركات، وجدّية سليم بركات. “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” مجموعته الشعرية البيضاء، ومعها أولى رواياته الكبيرة ” فقهاء الظلام” كانتا تأسيساً جديداً لما يريد سليم بركات لطريقه أن تمضي عليه، رصفٌ حجري رفيع، ليس فقط لأن اللغة رفيعة، ولكن لأن المقاصد تسطّر ذاتها في البعيد من العشرات وربما المئات من السنين، ليصبح عالم سليم بركات مفتوحاً على الماضي والحاضر والأمكنة والتفاصيل، يغرق قارئه تارة في تأريخه الخاص للكرد في وصف أسمائهم وثيابهم وعاداتهم وهواجسهم وأحلامهم كما لم ولن يفعل أحد مثلما فعل سليم بركات، وتارة يذهب إلى بيروت ونيقوسيا، والحروب الصليبية والطيور والكائنات والعاشقين والمفاهيم والأشخاص والفلزّات.


طفل بفرح لا يتوقف

وبحزن كبير أيضاً، وحكمة وطيش ودهشة، واصل سليم بركات نقل الفضاء الواسع الذي يسكن داخله، حتى حانت ساعة مغادرتها قبرص مرغماً، إلى منفاه الجديد في السويد، ليعيش منذ العام 1999 في شمالٍ قال إنه “ليس الشمال الذي كتب عنه طيلة حياته” عالم بعيد وجديد، قوانين، ومطر، وضجر، تفاصيل كثيرة ولكنها ليست كتلك التفاصيل التي تولّع بها ونقلها إلى العالم كله من عالم الشمال السوري البسيط، وعن روايته “الريش” التي كتبها في قبرص قال الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو: “نثر سليم بركات، مثل نثر ليزاما ليما، هو هدية ابتكارات دائمة، وصور مستوحاة، واستعارات أخاذة، وانعطافات غير متوقعة، وشرارات شعرية، وتحليقات مجنحة. إنه مزيج فريد من الواقع والحلم، الأسطورة والحدث المرير، لا يطيع قوانين الزمان، ولا قوانين المكان. النصّ يتجوّل طليقاً في طراز من الجغرافيا الرؤيوية، حيث المعالم خاطفة ومتبدّلة: كردستان، التي راودها الحلم ألف مرّة، تتقاطع مع قبرص الإقامة؛ الطفولة مع الرشد، والواقعي مع الغرائبي. من، الشخصية الرئيسية، يتحوّل على مدار الرواية، فهو تارة عصفور، وطوراً ابن آوى، يحادث البشر والحيوان. وإبداع بركات الأكثر حرّية يعبر كلّ حدود الممكن المعقول”.

وقال عنه الناقد والباحث السوري صبحي حديدي بأنه “الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها”.. وأيضاً “حين يتحدثون عن نوبل كردية.. فإن المرء يفكّر بأدوار الشاعر والروائي الكردي ـ السوري سليم بركات، ليس في إغناء الأدب العربي وحده، بل في الارتقاء باللغة العربية ذاتها، وصياغة بيان عربي رفيع بديع″.

انخرط سليم بركات في بيروت مع الثورة الفلسطينية ناشطا في العمل الثوري والفكري معاً، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذه معها فكان شاهداً على الحرب مشاركا فيها كمقاتل وشاعر

الأمة الرعاعة

كتب سليم بركات قبل سنوات، مقاله الغاضب” إنها ليست الأندلس يا يسوع″ ضارباً ما سمّاها بالرعاعة الأمة، التي تنجب الإرهابيين والعبيد، وتغط في سبات وصمت القبور، فلم يدرك كثيرون جوهر الزفرة التي أطلقها صدر سليم بركات، وهو وارث تلك الأمّة ثقافياً وإنسانياً، فهوجم وانتقد وعدّه البعض متعصباً لكرديته عنصرياً ضد العرب والمسلمين، ولكن آخر من يتهم بالتعصّب العرقي والديني، صاحب الأعمال التي احتفت بالأمّة، وهابت حضارتها وانحنت لجلال صنعتها، والكردي ذاته الذي انتقد الأمة ونعتها بالرعاعة عاد ليعصف بوجه الكرد أنفسهم من جديد مع تصاعد انتفاضة السوريين، كتب سليم بركات: ” نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه، تماثيل العائلة الحاكمة الدموية تستجمع ظلالَ حجارتها هاربةً وهي تضع إزميلَ النحت في أيدي عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي ـ كي تنحت لأوجلان تمثالاً من خُدعة الأسد، لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث إلى عبادة أصنام الحزب الجاثمة بمخيلتها الركيكة في لقب (العمِّ) هوشي منه، وماو، وقبعة ستالين. حزبٌ آمن بإلغاء كل مُخالف لضحالة منطقه السياسي، أفراداً أو تجمعات، يستلم، الآن، سلاحَ الأسد، ـ كفعلِ الأسد وحلفه الإيراني، بالسلاح حكراً في لبنان على مستبِدٍّ بالدولة قراراً، ـ وخططَ الأسد، لنقل كرد سوريا من عبودية عانوها والشركاءَ إلى جحيم المجابهة مع شركاء الكرد أنفسهم، وجحيم التمزيق بمخاوف الجار التركي؛ بل أخذهم إلى نكبةٍ أينَ منها نكبةُ البرامكة”.


محمود درويش وسليم بركات

قدّم سليم بركات شعراً متطوراً من حيث البنية والتراكيب واللغة والصورة في وقت كانت لغة الخطابة ما تزال تطغى على الشعراء، والحداثيون منهم كانوا يحوّمون في التغريب واستنساخ تجارب شعراء أوروبا وأميركا. ولم تنتج الثقافة السورية، بعد سليم بركات مثله، وعاش الشعر والرواية السوريان سباقاً كبيراً مع سليم بركات على اللغة والمعاني والصور، فمن لم يتأثر بسليم بركات، الذي قال عنه صديق رحلته محمود درويش، في ندوة جمعتهما بإحدى مدن أسوج الاسكندنافية: “بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات”، ولكنّ كثيرين ممن ظهروا بعد سليم بركات في سوريا والعالم العربي وفي ثقافة المشرق بعمومها، لم يفلتوا من فخاخ بركات التي نصبها في كل مكان لطيور السحر والإبداع والترف الرفيع الذي حلم به الطفل الشقي، ابن الملاّ بركات، ذات يومٍ لأهله كلّهم في الشمال… الذي استهلّ كتابه الأول يوماً بهذه الصورة:

“عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا”.

قديم 02-28-2016, 09:36 AM
المشاركة 35
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقولة ساخنة

منذ ايام وانا اتعرف على أدب سليم بركات وهو كردي الاصل عربي اللسان وقد احترت في مصدر خياله السحري وعبقريته الابداعية في مجالات الشعر والنثر والفن لأنني لم اعثر على تفاصيل عن طفولته المبكرة وهل عاش اليتم او لا رغم انه دون سيرته الذاتية في كتابين وليس كتاب واحد...صحيح ان الشعوب المهمشة والمشردة تعيش يتم الوطن وصحيح ان الغربة المبكرة عن مسقط الراس ثم السفر والتجربة النضالية حيث يجد الانسان نفسه على حافة قبر مفتوح وفي مواجهة الموت في كل لحظة ثم الغربة... كلها عناصر يمكن ان تجعل الدماغ يعمل بصورة فوق عادية ويبدع أدبا جميلا سحريا لكن ما ابدعه هذا الانسان يتعدى مثل تلك العوامل العامة ولا بد ان يكون قد اختبر اليتم على الصعيد الشخصي والبيولوجي ... فلا يعقل ان تبدع مخيلة مخرجات بهذا السحر والجمال والقدرة الفلسفية التعبيرية واللغوية وان لا يكون الموت منهلها. وعليه استطيع ان اجزم بان سليم بركات يتيم وان لم يكن فان هناك سر عظيم في طفولته جعلته يختبر اليتم وهو بين ظهراني والديه .

قديم 02-28-2016, 04:23 PM
المشاركة 36
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات
بواسطة جارسيا

ما زال المبدع الشاعر والروائي سليم بركات يمارس طقوس جنون الإبداع بالمضي بالقارئ نحو عوالمه الخلاقة العجيبة التي لم يعهدها من قبل لأى كاتب آخر ...

ترجمة البازلت هو عبارة عن قصيدة طويلة يتابع فيها سليم بركات مغامرته اللغوية الساحرة , ومحق الكاتب السوري ابراهيم حاج عبدي عندما قال : في "ترجمة البازلت" يواصل بركات قنصه المتقن في حقول البلاغة والاستعارة والرمز، ويمضي في قطف درر اللغة النفيسة، ورغم غموض عوالمه الشعرية لكن القارئ يستشف بان بركات يصوغ في هذه القصيدة الطويلة ملحمة ذات مذاق كوردي، ويقدم مراثي لأبناء شعبه الذين تاهوا في الجهات، إذ لفظتهم الجغرافيا، ولم يرأف بهم التاريخ يوما، وكأنهم ضيوف أبديون على هذا الكوكب، يقول بركات:

طووا معاطفَهم بأناةٍ.

وضعوها جانباً على المقاعدِ الأزلية.

وضعوا قبعاتهم جانباً.

وضعوا الرياحَ، والسهولَ، والجهاتِ جانباً.

وضعوا الكونَ جانباً على البساطِ الخيش، الذي تلقَّفوا عليه زيتونَهم في حصاد الألقِ اللاذع كخريف.

وضعوا الأقدارَ جانباً، كي يشدُّوا بأيدٍ حُرَّةٍ على الأيدي الممتدة إليهم من صدوع المعقول.

وضعوا أنفسهم ملبَّدةً، كخيال الجوز، جانباً.

وأفاقوا مقتولين.

ترجمة البازلت ديوان شعري مدهش ومجنون بمعنى الكلمة جنون من النوع الذي قال عنه الناقد عابد إسماعيل :
جنون المعنى المنفلت من كلّ يقين، وجنون الأسلوب المتحرّر من كلّ نسق. وبالجنونِ يدوّنُ الشاعر سيرةً ذاتيةً وعامةً،مؤسّسةً على نفي متواصل، وهجراتٍ متواصلة،وموتٍ متواصل ....

----

الرائع سليم بركات ( عرّاب المتاهة وخيّال الهاوية )كما يسمي نفسه فهو صاحب إبداع لا يعرف حدود و مازال منذ أربعة عقود يقدم كل عام للمكتبة العربية كتاب جديد في الشعر والرواية .....أعماله تبدو أقرب إلى أن تكون ملحمة أدبية وليست مجرد روايات أو دواوين شعرية ..... وليتك تجدي فرصة للإطلاع على عوالمه الساحرة ...
---
الكتابة عند سليم بركات لها عالم خاص و مختلف كثير عن الأعمال التي عهدنا الإطلاع عليها من قبل ..
إنه صوت متميز وفريد بمعنى الكلمة فقد منحت أعماله للرواية العربية نكهة لم تعهدها من قبل على الإطلاق .... وخير نصيحة للذين يودون الإطلاع على أعمال سليم بركات ما قالته الكاتبة إلهام ملهبي في الحوار المتمدن ( قبل أن تقرا أي نص من نصوصه البس درعا واقيا يحميك من شراسة لغته و جسارتها المحمومة، و استحضر كل تعويذات الجدات التي تحفظها كي تسلم من سحره المقرون في شكل حروف و حتى لا تصيبك لعنة ما و أنت متوغل في هضابه و سهوله و جباله التي لا تنتهي) ...أتمنى أن تجدي له بعض الأعمال وتطلعيعليها و عليك بموقع نيل وفرات مضمون وعن تجربة ....


---
عوض عيد قال عنه

Awad Eid
01-13-2010, 01:38 AM
أنا تركت بيتي في مرحلة كتير مبكرة من حياتي كطفل حتى، الطفل كان بيحس نتيجة الضغوط الهائلة عليه بإحساس أن يترك عائلته وهو طفل بعد، مسألة الهجرة كانت تتراكم عنده وهو في سنوات عمره الصغيرة جداً، الطرية جداً، مسألة التخلص من العائلة مش مثل الآن بمعنى الاستقلالية، بس طيلة 18 سنة، لا، على الإطلاق، نتيجة تراكمات ضغوط، وقهر وكبت كان الطفل يتمنى أن تلتغي العائلة، أن تموت العائلة من أجل أن يستقل، أو أن يتحرر كونها هي سقف من سقوف القمع

هذا ما قاله الروائي والشاعر سليم بركات في برنامج موعد في المهجر عام 2001 وهو الذي ظل في دوائر الهجرة بحثا عن اقامة دائمة ,,

ملاحظة مهمة : هنا يصرح سليم بركات ويتحدث عن يتم ما وظروف صعبة ولو انه لن يفصل لنا عن تلك الضغوط التي يمكن ان تدفع طفل لترك عائلته في سن مبكرة ولا بد ان الوضع كان صعبا بحق؟

قديم 02-28-2016, 04:29 PM
المشاركة 37
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات في مهبّ الفانتازيا

حسين بن حمزة

كردي ينتظر «غودو» بين أنفاق استوكهولم
في السرد، كما في الشعر، نصّه مجبول بالبلاغة. وروايته الجديدة المرصّعة بالألغاز، تدور أحداثها في السويد حيث يقيم هذا الشاعر السوري الذي يقف على حدة فوق خريطة الأدب العربي الحديث ما إن ينتهي القارئ من رواية سليم بركات الأخيرة «السلالم الرملية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) حتى يقول لنفسه: حسناً... يمكنني الآن العودة إلى الواقع والحياة الاعتيادية. ولعل قارئاً غير صبور، وغير مستعد لبذخ سليم بركات المعجمي وخصوبة مهاراته البلاغية الأخاذة، سيضجر قبل اكمال الرواية. بركات يكتب رواية فانتازية، يمكن القول إنّها من اختراعه ولن تحدث في الواقع أبداً. ففي حدود علم القراء العاديين، لم يحدث أن كتب أحدٌ رواية عربية محشوة بهذا المقدار من الشعر والتخييل والتوريات والابتكارات اللغوية. ولعل رواية كهذه لا تتوافر في آداب ولغات أخرى... القارئ يعرف أنّ بركات لا يعبث، وأنه يحتفظ بأصل واقعي ما لروايته، إلا أن النتيجة النهائية أن الغرائبية والغموض يسودان عالم الرواية. تتحول الكتابة إلى لعبة أسلوبية يجاري فيها المؤلف مهاراته وقدراته، غير مكترث بأنّ الرواية ستخاطب قراء من شرائح متفاوتة. لا يهتم بركات إذا زادت الحمولة التخييلة على حساب السرد الروائي أو إذا انجرفت الرواية إلى حجب كل تفصيل واقعي بغلالات رقيقة أو سميكة من الترميز أو إذا كان انهماكه الدائم في التوريات يؤثر سلباً في حسن سير الرواية. وهذا يعني أنّ رواية بركات تطرد طائفة واسعة من قراء الروايات الاعتيادية. سرد بركات، مثل شعره، لا يقيم في أعالي البلاغة فحسب، بل في أعاليها الأكثر وعورة أيضاً. ما من عبارة أو مشهد يمكن أن يمر في نصه خالياً من ممارساته البلاغية إلى حد يمكن القول إن روايته تنتمي إلى الخيال المعجمي، مثلما يُقال عن فيلم ينتمي إلى «الخيال العلمي». تتحرك الرواية على خطّين حكائيين. الأول حديث يدور في محطات عدة لقطار الأنفاق في استوكهولم، ويتمثل في انتظار عائلة يالوه في بلدة سكوغوس قرب استوكهولم لنبي مفترض سيلبّي دعوة الأب إلى العشاء. أما الخطّ الثاني فيعود إلى زمن قديم، حيث يرسل تيغوتكين شاه (حاكم كاروكشين) ستة سعاة على جمالهم (تالماجور، وتاهشين، بالبور، جانكوه، باكالبا، بيغون) في رحلة غامضة إلى ممالك زاهينغ. يقطعون جبال كاكونت وإقليم مودابورك وصحراء لوكهين، ليدونوا هناك كتاب «التمويه على الأقدار المعلومة»، ويستنسخوا «ثقة الملتبس»، ويحضروا رقعة الشطرنج ذات الحجارة الأكثر صقالة المصنوعة من خشب «قسطل الخيل»، من أجل تعليم ابنه لنك شاه الذي يعدّه ليكون نبياً في كاروكشين. يتوزع أفراد عائلة يالوه على الأنفاق، إبيريم ابن يالوه يسأل القادمين في نفق سودرمالم إن كان أحد منهم جاء باحثاً عنه (الصورة تذكرنا بمَن ينتظرون في المطارات حاملين اسم ضيف أجنبي). نوهين الابن الآخر ليالوه، ينتظر في نفق فريدهيمسبلان، والضرتان ميريما وسارها، زوجتا يالوه، تتسوقان في نفق باغرموس. وفي نفق سلوسن، تجري مطاردة بين الأخوين أكيلون وبارسيس، حيث يحاول الأول قتل الثاني الذي يقول له إنه لن ينجح إلا إذا صوب سهمه إلى رضفة ركبته اليسرى (ينجح في إصابته في نهاية الرواية). وفي نفق هوفودستا، نجد الأختين سالوميا وهيدجيرا. وفي نفق رينكبي، يكتشف يوش أن القطارات لم تعد تمر فيه. ثم نجد أشمانو ينتظر النبي الموعود في نفق رودمانشغاتان، وفي نفق شارهولمن، تنتظر الابنة ليداليا. وفي المحطة الرئيسية «سنترال»، نجد يالوه نفسه ومعه عائلته كلها. ثم تجتمع العائلة في البيت منتظرة النبي على العشاء. لا يأتي النبي، بل تأتي امرأة ومعها كلبها وتدعي أنّ البيت ملكها، ثم تغادر، بينما ينجح بارسيس في قتل أخيه أكيلون. فكرة النبي الموعود تجمع خطي السرد. ففي رحلة السعاة الستة، يلتقي هؤلاء برجل لا يلبث أن يحتضر بين أيديهم، ويجدون في متاعه شيئاً من كتاب «ثقة الملتبس» وصندوق الشطرنج المطلوب. في تلك اللحظة، يسأل بالبور رفاقه: «أكان هذا الغريب يهيّئ لظهور نبي في قومه؟». بالبور وباكالبا يقرران العودة بالكتاب والشطرنج إلى كاروكشين، بينما يرفض الأربعة الباقون العودة. أثناء العودة، يقطع عليهم تسعة أنفار الطريق ويسلبانهم متاعهم بينها الكتاب والشطرنج. يقولون لهم: «أعيدوا إلينا متاعنا، أو اقتلونا». فيجيب زعيمهم: «لا نقتل من لم يتدبروا لأنفسهم نبياً بعد». في «السلالم الرملية»، اعتنى بركات بكل ما من شأنه أن يجعل عمله غرائبياً وغامضاً وبعيداً عن الواقع. الرواية، وهي الرابعة عشرة له، مكتوبة وفق هاجس إيقاعي وشعري. السرد بنبراته العادية مستبعد كلياً. البنية الإيقاعية (أكاد أقول الموزونة) تفرض قراءة بطيئة ومتمهلة على القارئ، كي يلمّ بالمعاني المدفونة تحت حركة الابتكارات والانزياحات التي لا تتوقف. الأسماء والتسميات الغريبة تضيف جرعة أخرى من الفانتازيا والمشقة على الرواية. لا تنجو أي كلمة في الرواية من حمولة الفصاحة والمتانة، ولا يسلم أي تفصيل صغير من «شر» النبرة غير المروّضة لصاحب «كهوف هايدراهوداهوس». مثال على ذلك، وصفه ــــ على لسان أفراد عائلة يالوه ــــ الرسوم والملصقات والموجودات التي تزين جدران الأنفاق، كما هي الحال حين يكتب عن «كهف الصرافة» (الصراف الآلي): «في اللوح الزجاج جحور تتبادل الأيدي، عبرها، المكاشفات الأزلية، المحصورة في تحويل المال إلى إيمان بالأمكنة، والأقاليم، والدول، والعناصر التسعة للطبائع المنفصلة عن أمهاتها، فتتطابق بحكمة الميثاق في ورقٍ نقدٍ، أو معدنٍ مصكوكٍ. نقدٍ ناطقٍ بلسان التراب والماء الإلهيين». قد ينسى القارئ بعد صفحات قليلة أنّه يقرأ رواية. ولا يبقى أمامه ــــ إن كان من هواة هذه الكتابة ــــ الا التلذّذ بمهارات سليم بركات وفتوحاته اللغوية. وربّ قارئ آخر سيسأل: أين الرواية في كل هذا المعمار الغرائبي والتخييلي والمعجمي؟
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر | hbinhamza@
ثقافة وناس
العدد 313 الثلاثاء 28 آب 2007

قديم 02-28-2016, 06:01 PM
المشاركة 38
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الملحق النسق والكاوس في روايات سليم بركات
علي جازو
13 حزيران 2015

يفيد النسق نظاماً واضحاً للسرد الروائي، فيما يعني الكاوس العماء والفوضى واللاتعيين. وإذا كان النسق شكلاً تتخذه الرواية لطرح خصوصيتها الأسلوبية، فإن الكاوس يعمد إلى كسره وإحلال نسق آخر محله بغية خلق مساحة خيال جديدة داخل وعي القارئ، وداخل اللغة.

يعكف الدكتور محمد بوعزّة في بحثه الأكاديمي الجديد، "هيرمينوطيقيا المحكي" (دار نايا، بيروت، 2014، 368 صفحة)، الذي نال عليه رتبة "مشرّف جداً" تحت إشراف الدكتور سعيد يقطين في جامعة محمد الخامس في الرباط، على تناول ثلاث روايات لسليم بركات، متلمساً طرق السرد لديه ونماذج الحكايات الأسطورية والفولكلورية الكردية، وعلاقاتها المتشابكة، أفقياً وعمودياً، مع النسق الغرائبيّ المكثف (الحلم، الفانتازيا) الذي يسم أسلوب الشاعر والروائي سليم بركات في معظم أعماله. الروايات الثلاث موضوع البحث والدرس هي: "فقهاء الظلام" (1985)، "الريش" (1990)، و"معسكرات الأبد" (1993).


المحكيّ في "فقهاء الظلام"
نجد في راوية "فقهاء الظلام"، شخصية بيكاس التي تولد وتكبر خلال 24 ساعة من لحظة ولادتها إلى لحظة هروبها وضياعها (الموت) في خاتمة الرواية التي ما هي سوى اختصار لعمره القصير والمضغوط في يوم واحد فقط، وما يحمله من أسئلة تربك الأب التقليدي والده (الملا بيناف) وأمّه، مع حكايات فرعية مستلة من محيط القرية حيث يعيش المجتمع الكردي شمال شرق سوريا.
"يجمع بيكاس في كينونته بين ما ليس قابلاً للجمع، بين المتناهي واللامتناهي، بين الإنساني والخارق، بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين المرئي واللامرئي... وتتداخل المتناقضات في مساره السردي: الاختفاء والظهور، العقل والجنون، الطبيعة والإنسان، المقدس والمدنس. إنه الظلام الشامل، المتاهة والعماء، ما دام يحطم كل مرجعيات الفهم، ويوقع بالشخصيات في فخاخ الحيرة والجنون والعبث" (ص322).
تنقسم الراوية في خطين سرديين متوازيين ومتقابلين، إذ يحمل كل فصل حياة خاصة مقابلة لفصل تالٍ. ثمة حركة الكائن الحيواني اللزج، وهو وصف لما قبل تكوّن الإنسان في الرحم جنيناً. ثمة في المقابل حياة بيكاس، والده وأصدقاء والده وأقربائه، التي تنضغط وتتحول وفق مسار سريع غير عابئ بالزمن الفيزيقي الطبيعيّ. يشكل ذلك عامل ضغظ على وعي الوالد (السلطة والعائلة) حينما يولد بيكاس، وتختلط لديه فرحة تجدّد أبوّته مع مشاعر الخوف والرهبة، مما يدفعه إلى الإحساس بمصيبة حلت عليه، وفي الآن تشدّه إلى بيكاس مشاعر الأبوة والعطف.
يرى الباحث أن "المحكي المركزي في "فقهاء الظلام" يتفرع عبر آلية التوالد الذاتي إلى محكيات عديدة، هي محكي بيكاس ومحكي الملا بيناف ومحكي عفدي ساري، ومحكي مجيدو بن عدفي ساري...، مما يحفز آلية التوالد الذاتي بين هذه المحكيات عبر ارتباطها بواسطة علاقة قرابة، ذلك أن الشخصيات الأساسية في هذه المحكيات تربط بينها علاقة أخوة أو صهارة أو أبوة".
من ضمن ما يخلص إليه الباحث وجود تقاطع بين أقدار أسرة الملا بيناف والتاريخ الكردي. فمدار رواية "فقهاء الظلام" هو الإشكال القدري من خلال سؤال الحيرة التي تحاصر الأب وعدم قدرته على قول الحقيقة ولا نقلها إلى أبنائه. ومثلما "كانت مصائر بيكاس خارج أي تدبير عقلاني، فإن التاريخ الكردي ظل خارج تدبير الأكراد، حيث تتحكم فيه قوى إقليمية خارجية وتدبره وفق مصالحها" (ص 174). تتضمن الصفحات الأخيرة من "فقهاء الظلام" رحلة في عاصفة ثلجية حيث تنتهي سيرة بيكاس مساءً، فيما يجهد الأب بحثاً خائباً عنه، كما لو أن ولادته التي بدأت بأعجوبة صباحية مبكرة ما هي سوى تمهيد إلى نهايته المسائية الملغزة التي تنتهي برحلة ثلجية.

القرين والروح المزدوجة في "الريش"
تتناول "الريش" أزمة النظير أو الندّ (القرين) حيث يتناوب التوأم مَمْ محطات حياة مزودجة، حيوانية وإنسانية معاً، إحداها في قرية الهلالية (قامشلو) والأخرى في قبرص حيث مهمة البحث عن "الرجل الكبير".
يرى الباحث أن اللغز في هذا النص الساحر يخالف بنية اللغز في الرواية التقليدية التي يتم فيها طرح اللغز في البداية وتأجيل حله بواسطة إبطاءات سهلة ومعروفة إلى النهاية المتوقعة، حيث ينكشف اللغز، بغرض التشويق وإثارة القارئ. في المقابل، لا يأتي اللغز في رواية "الريش" إلا ليزيد عماءً وتشويشاً في مسار تصويره، ولا يتم حله ولا إضاءته قطّ. يتضاعف اللغز في دوائر أصغر وأكثر التصاقاً وعضوية داخل جسد البطل مم، حينما يتحول إلى ابن آوى ويكتسب خاصياته الحيوانية التي تحرره من معايير العقلانية المقيدة لهويته الإنسانية.
على هذا النحو، كما يرى الباحث محمد بو عزة، تنهار مبادئ الهوية والعقل بمعناهما الحصري والحاصر، ومعها يتمزق منطق الراوية التقليدية أمام ظاهرة التحول والمسخ الفريدة، إذْ في ليلة واحدة يتحول مم إلى ابن آوى ويتجه إلى الحقول ليتلحق بفصيلته الحيوانية: "ومم آزاد يطلق عويله أيضاً بين جنسه الحيواني، رافعاً عنقه على شكل قوس مشدود، فيما يهتز لسانه الطويل اهتزازاً قاسياً داخل فكيه المفتوحين في صرامة" ("الريش"، ص 26، ص 324 من الكتاب). وفي الفجر يعود إلى المنزل وقد تحوّل إلى إنسان.
يلاحظ الباحث المغربي أن شخصية مم في راوية "الريش" تتقاطع مع شخصية بيكاس في "فقهاء الظلام"؛ فلا قواعد تتحكم بتحولاتهما سوى الهذيان والتناقض والطفرة التي تحطم حدود العقل. ففي إمكان مم أن يكون إنساناً وحيواناً في الوقت نفسه، وهو كحال بيكاس لا يستقر على هوية واحدة ثابتة، أو يتجدد وفق حال في عينها، وبذلك يخرق الحدود والمعايير.
في شبكة التحولات اللاعقلانية هذه، على تقاطعها مع الجغرافيا الكردية المتأزمة وصراع الهويات، وعنف السلطات الديكتاتورية المتلاحقة، يطير الملا سليم، والد مم، حينما يتكلم مع النهر والنبات والطيور، ويلاحقه ابنه في رحلة صيد إذ يتمنى بذلك اللحاق أن يغدو مثل أبيه، أو ليصير أباً في التو والآن، فيجمع الطفولة إلى الرجولة والبراءة إلى القوة بقبضة واحدة.
هكذا إذاً، تسقط الحدود، التي طالما مثّلت جرحاً في الوعي الكردي بالمعنى السياسي، وتنهار فواصل الحواس أمام قوة الخيال المحلق، ليتشيّد عاملٌ تتفاعل فيه الكائنات من بشر وحيوان ونبات، من سماء وغيوم ومطر وعشب وزهور برية، وتتبادل الخصائص والهويات؛ غير عابئة بمبادئ العقلانية والمنطق المعهودة والمستقرة.

ملائكة وأشباح في "معكسرات الأبد"
تعدّ رواية "معسكرات الأبد" تلخيصاً عجائبياً لأعوام وجود الفرنسيين في شمال شرق سوريا. وتأخذ الرواية على عاتقها تظهير تلك الفترة وفق مسار ومصائر شخصيات هامشية طَرَفية، لكنهم يظهرون كأشباح (أحمد كالو، موسى موزان، وخاتون) من جهة، مع وجود ملائكة يحملون خرائط (مكين، نفير، وكليمة)، إضافة إلى بحث عبثي للوصول إلى مكمن الكائن الناري، وهو أحد ألغاز الراوية، الماكث خلف الهضبة التي تعدّ مسرح الراوية ومجال تحرك حوادثها.
يرى الباحث محمد بو عزة أن السرد في هذه الراوية يتجه إلى "تفريد الشخصية الطفلة هبة، حفيدة موسى موزان، حيث يشكل هذا التفريد العتبة الأولى نحو تفريغ محكيّ فردي خاص، يستقل عن محكيّ عائلي تقليدي لبنات موسى، غير أن هذا النموذج الفردي لا يذهب بعيداً في الانفصال عن النموذج العائلي، ربما لأن الفاعل ليس سوى طفلة" (ص 106),
عدا الطفلة هبة، ثمة المحكيّ السرديّ لكل من الديكَين، رَشْ وبَلَكْ، ومحكيّ الملائكة الثلاث، مكين وكليمة ونفير، والأوزات الثلاث أيضاً. هكذا نعثر على تقاطع تاريخي وجغرافي مع تسليط الضوء على وجود حيواني أليف يربط الريف بمشقة تجاوز حدود الجغرافيا المغلقة والخيال الجمعي (ثورة عامودا) مع واقع الألم والصراع السياسي العربي الكردي الفرنسي، حيث تأخذ معارك الديكين رش وبلك بداية الرواية ونهايتها، بما يشي كونهما رمزَين عن صراع عبثي سرعان ما ينتهي حينما ينال التعب منهما، ويهبطان الهضبة نحو الدغل، ويختفيان مثلما ظهرا في بداية الراوية.
تأخذ الحوارات بين الشخصيات، في رواية "معسكرات الأبد"، طابعاً واقعياً وخيالياً في وقت واحد، ففي الوقت الذي تنصرف فيه بنات موسى موزان إلى تدبير شؤون الحياة اليومية (التنظيف، جلب المياه، الطبخ، استقبال الضيوف...)، يأتي كل من مكين، وكليمة، ونفير، كي يدخلوا سردهم اليومي العادي في طور آخر، إذ يبحثون عن الكائن الناري، مع تبادلهم بعضهم مع بعض كلاماً لا يفهمه أحد من بنات موسى موزان، ولا الحفيدة – الطفلة هبة. في المقابل يستمر موسى موزان في اخفاء الكائن الناري تحسباً منه على اعتباره "الشيطان" الذي يجب مدّه بمياه باردة كي لا يخرج من مخبئه ويطيحهم. هناك إذاً ما يجعلنا نفهم عن وجود حوار "أجنبي" غير مفهوم بين طرفين، الأول يرى في الكائن الناري شراً مطلقاً يجب تحاشيه، والثاني يأتي كي يكتشف مكانه، كما لو أنه كان كنزاً ينبغي إماطة اللثام عنه.
تتجسد الأبعاد الزمانية في هذه الرواية، كما يلاحظ الباحث، في صورة فقدان الأرض ومعاناة الاحتلال، ويتم ترهين هذه الوضعية من خلال صورة الحملة الفرنسية التي تؤسس لنمط ونظام عيش جديدين، بما تمثله من تداعيات رمزية على نماذج الفهم والتمثل الذاتيين لدى أبطال الرواية، الذين تشكل الهضبة، كمعطى جغرافي محدد من مدينة قامشلو في عشرينات القرن الماضي حتى أربعيناته مكاناً تجتمع من حوله الحوادث: "وفوق ذلك الجزء من الهضبة، على مبعدة غير هينة من حوافها بالطبع، كانت الحفارات والمحادل الفخمة التي جاء بها الفرنسيون لتعبيد طرق الإمداد تعمل في صخب على ترتيب أمور استغلقت على قاطني المنزلين فوق الهضبة، وعلى طيور الهضبة، ونباتها" (ص 245).
بسبب هذه التحولات المفاجئة للهضبة، تنهار الحدود والمعايير. يُقتل موسى موزان وأحمد كالو وخاتون؛ يغيبون عن الهضبة، لكن لا شيء يفوتهم مما حدث، فالموت لا يشكل حداً فاصلاً بين سكان المكان وسكان المعنى حسب التخيل الروائي لسليم بركات.

صحيفة النهار

قديم 02-28-2016, 07:20 PM
المشاركة 39
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات ؛ الملامحُ الفنيّة لرواياته الأولى
دلور ميقري
2006 / 9 / 22
عن الحوار المتمدن - موبايل

1

بظهور ثلاثيته الروائية ، " الفلكيون في ثلثاء الموت " (1) ، إتضحت أكثر فأكثر ملامح أدب سليم بركات ، الفنية . هذا الكاتب ، الذي خط لنفسه أسلوباً خاصاً ، فريداً ، غيرَ مطروق من قبل في فن الرواية العربية . ولكي يستجلي المرءُ تلك الملامح ، الموسومة ، فلا محيدَ عن إلقاء نظرة خاطفة ، شاملة لأعماله السابقة وتقييم بعض الدارسين لها . فإذا كانت رواية بركات ، الأولى ، " فقهاء الظلام " ، قد إختارت وقائعها من الشمال السوري ، المحاذي للحدود التركية والعراقية ، فقد تفردت التالية ، " أرواح هندسية " ، بإختلاف موقعها المكاني ؛ حيث تدور حكايتها في بيروت عشية الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 . إنّ " الريش " ، هي العمل الروائي ، الثالث ، الذي فيه يعود المؤلف إلى التطرق لموضوعه الأثير ، والمنابع التي سبق له أن نهل منها فنه لما يزيد على العشرين عاماً : نعني إتجاه الخارطة ثمة ، إلى الشمال المحتضن طفولة مؤلفنا وصباه ، وما يفتأ مساكناً ذاكرته ؛ هذا بالرغم من وقوع حوادثها الرئيسة في قبرص . وإذاً مع " معسكرات الأبد " ، تكون التجربة الروائية لسليم بركات ، قد إنتشرتْ على مساحة زمنية تقاربُ العشرة أعوام ، يستطيع فيها المتتبع لرحلته الإبداعية أن يتلمّس الوشائج الممتدة بين تلك الروايات ، الموسومة . هذا ، وعلى الرغم من تميّز " أرواح هندسية " ، الملاحظ آنفاً ، بيْدَ أنّ روايات الكاتب ، إجمالاً ، تعالج قضية أساسية : هيَ المصير الإنساني في بحثه المثابر عن هويته ومغزى حياته . هيَ ذي إذاً ، روايات أربع ، لم تتطرق لموضوع مشترك زمنياً ، إلا أنّ أسلوبها الفني كان واحداً ؛ لا من حيث شفافية الرمز حسب ، بل وأيضاً لكون نماذجها البشرية تشترك في سمات متماثلة ، فضلاً عن المرامي الهادف إليها كل من تلك الأعمال .

2

" فقهاء الظلام " ، تدور حوادثها في " القامشلي " ؛ هذه المدينة ، التي تبعد أمتاراً قليلة عن الحدود التركية ، المحاطة بسياج من الأسلاك وأرضها مزروعة بالألغام . واقعٌ مأزقٌ ، لم يمنع المهربون ، على الأقل ، من تحديه بالتسلل عبر حدوده ، جيئة ً وذهاباً . سردُ الكاتب هنا ، المتسم أحياناً بالمبالغة ، يتطرق لحركات أولئك الرجال الجسورين ، الخارقة ؛ وهيَ أساطيرٌ ، على الأرجح ، يتناولها الأهلون في أحاديثهم من جيل لجيل ، مستقرة هكذا في لا وعي الكاتب ، منذ طفولته . سمة موحدة لهذه الرواية الأولى ، مع شقيقتها " معسكرات الأبد " ؛ ألا وهيَ " التكرار " ، الحاصل للحدث نفسه ، عند كل بداية للفصل المقترح : ففي تلك الأولى ، يضعُ كاتبنا تحت مجهره ـ حاله في ذلك ، حال المخبريّ ـ كل خلية من خلايا البطل ، راصداً عملية تكوينه الجنينيّ في رحم أمّه . فيما نتابع ، في " معسكرات الأبد " ، تفاصيل الصراع الضاري بين الديكيْن : هنا وهناك ، يشكل التكرارُ هذا ، جزءاً صادقاً وعميقَ الدلالة في النسيج الكليّ للسرد ، كما سيمرّ معنا في حينه بخصوص العمل الروائي ، الأخير . حكاية " فقهاء الظلام " ، يمكن تلخيصها ببضعة أسطر ، لا أكثر : " الملا بيناف " ، الرجل المكتهل ، يُرزق بمولودٍ ذكر ، ذي طبيعة خارقة للمألوف ؛ يُعطيه إسم " بيكس " . فهذا الأخير ، ينمو بصورة عجيبة ، فلا يمضي نهار اليوم الأول ، الشاهد لولادته ، إلا ويضحي رجلاً مكتملاً ، ناضجاً ؛ حدّ أنه يطلب من الأب عروساً لنفسه (!) .. لا بل سيضطردُ المولودُ الجديد في العمر ليلتئذٍ ، فيماثل أبيه سناً ويحرجه قدام أهالي الحيّ ، الذين قدموا لمباركته فيه : " هكذا ينسج الكاتب سليم بركات روايته ، " فقهاء الظلام " ، خالقاً جواً من الفنتازيا المستمدة من الحياة الواقعية لهذا المجتمع الكردي " . (2)

هذه الرواية ، التي إمتزج فيها ، ككل إبداعات الكاتب ، الجانبُ الواقعي بجانب ميتافيزيقي ، حالم باليوتوبيا المؤملة في مستقبل مخلّص ؛ تتجلى واقعيتها ، أيضاً ، بإضاءاتٍ ضافية في هذا الإتجاه . فهيَ تذكّر المرءَ بسيرة كاتبنا ، الذاتية ، كما قرأناها في مؤلفيْه " الجندب الحديدي " و " هاته عالياً .. " . في هذه الأخيرة ، رأينا كيف كان المعلم الحزبيّ الغريب ، المستبدّ ، يضطهد التلامذة ويشتم أمهاتهم ، كونهم أكراداً . ولكنه لا يلبث مع سقوط النظام الحاكم آنئذٍ ، أن يلقى مصيراً قاسياً على أيدي هاته الأمهات ، جزاء غروره وصلفه وعنصريته (3) : بينما في رواية " فقهاء الظلام " ، يقدّم مؤلفها صورة اخرى للمعلم ، الغريب ؛ هذا الشاب المستنير ، الذي يحاول نشر معتقده التقدميّ بين تلامذته . بيْدَ أنه ، بدوره ، يلقى مصيراً لا يقل قسوة على أيدي الأهالي ، وهذه المرة بسبب إستهانته بمعتقداتهم وتقاليدهم ، ليكون جزاؤه بترهم لأصابع يديه ، ومن ثم طرده خارج منطقتهم . على أنّ المجتمع يدفع أيضاً ثمناً لتلك الفعلة ، الموصوفة ، بما يلقاه من عذاب الضمير . فها هيَ أصابع تنمو في الأرض ، مشيرة نحوَ الأهلين بالإتهام والإدانة . فكان أن عمد هؤلاء إلى تكليف الجدّ " عفدي " حارساً للحقل ، ليحصدَ ثماره الدامية تلك ، كلما نمت من جديد . جديرة بالمقارنة كذلك ، وظيفة الجدّ " عفدي " ، المذكورة آنفاً ، مع وظيفة الحارس " شاشان " في رواية " معسكرات الأبد " . لا بل إنهما هنا وهناك ، كما لو كانا إنعكاساً لصورة اخرى ، واقعية ، سبق وقرأنا عنها في سيرة الكاتب الذاتية ؛ ونعني بها " سيفي " ، حارسة الجداول . (4)

3

الخيوط السحرية ، المنتهية ببيئة الكاتب ، كما تأثرنا بعضها في كلتا الروايتيْن الأولى والرابعة ، والمنسوج منها عالمهما ؛ هذه الخيوط ، تتقطع بنا نوعاً ، ونحن في المعبر المودي إلى روايته الثانية ، " أرواح هندسية " ، التي تدور حوادثها في بيروت خلال أوائل الثمانينات . ولكن لمَ آثر كاتبنا كسْرَ الإمتداد الأفقي ، البيئي ، عند منعطف هذه الرواية ؛ بيئته الكردية نفسها ، المنتقي منها موضوعاته المفضلة والمستغرقة معظم إبداعه الشعري والنثري ؟ .. الجواب ، على تقديرنا ، عائدٌ لما يمكن وسمه بـ " إلتزام " أدب سليم بركات للفنّ الخالص ، المجسّد لإسترجاعات ذاكرته / وتجارب حياته الشخصية ، سواءً بسواء . هذا الأدب المجسّد ، خصوصاً ، حيواتَ الآخرين في بيئته تلك ، وعبْرَ تأملاته المستغرقة ، القلقة ، لكائناتها وأشيائها وموجوداتها ، خالطاً مصائر الجميع ببعضها البعض . هي ذي ، إذاً ، مدينة كبرى بحجم " بيروت " ، مختلفة عن مدينة مسقط رأسه بكل شيء ، وبالتالي تعكس إختلافها على أسماء أبطاله وأبعاد مكانهم ومسافات زمنهم . ها هنا ، على سبيل التمثيل ، رجال التنظيمات اليسارية والفلسطينية ، المتجولون علانية بأسلحتهم وعتادهم .. ، وها هنا ، أيضاً ، قادتهم على مثال " الزعيم " ؛ الشخصية الروائية ، التي جسدها فنّ كاتبنا ، الرفيع .

شخصية البطل هنا ، قد لا تفاجيء القاريء الجيّد لأدب بركات ، من حيث كونها صورة مقاربة لشخصيته بالذات ؛ وهوَ الأدب ، الذي وسمناه آنفاً بالحنين الدائب إلى ماض ضائع . يبدو أنّ إيثاره لهذه الثيمة ، في روايته الثانية ، لأنها كانت تلحّ عليه بشكل معذب . جدير بالقول ، في هذا المقام ، أنّ بركات لم يتعجل البتة في نقل تجربته البيروتية إلى القاريء ؛ حال تلك الأعمال ، الروائية ـ أو سمّها ، ما أردتَ ـ المدونة من لدن بعض الكتاب العرب ، ممن شاءَ لهم الإنفعال وردّ الفعل أن تكون أعمالهم ، حول تجربة بيروت ، غير ناضجة ولا تستحق القراءة . على العكس من اولئك الرفقة ، بدا كاتبنا في " أرواح هندسية " مترفعاً ومتحرراً من تلك الشوائب ، الموسومة ، مخضعاً قلمه لذاكرة حارة وذهن بارد في آن ؛ فلم يبتده الكتابة إلا وقد إختمرتْ بفعل السنين ، الصبورة ، صورة ُ ما يصبو إليه داخله المتململ . ولكن ما الذي يربط هذا العمل برواياته الاخرى ، السابقة واللاحقة ؟ .. إنه كما يجوز لنا تأكيده ، دوماً ، الصدق في نقل التجربة الإنسانية ، علاوة على الأجواء الغرائبية / الفنتازية ، المميّزة لأدب سليم بركات . هكذا أجواء ، تخترقها الأرواح الملازمة بطل الرواية ، خلل رحلته في السفينة المتجهة به ورفاقه الآخرين إلى منافي الله ؛ أرواحٌ ، سنتعثر بأشباهها منذ الصفحات الأولى لقراءتنا رواية الكاتب ، الرابعة ، " معسكرات الأبد " ، وهي تلازمُ أقرباءها الأحياء .

4

ثمّ نصل ، أخيراً ، إلى رواية " الريش " ، المستعيد فيها مؤلفها بركات ملامحَ بيئته ؛ هذا على الرغم من حقيقة ، أنّ المكان الرئيس لأبطالها ثمة في جزيرة المنفى ، القبرصية . وعلى كل حال ، فلم يختلف دارسو الكاتب حول إسلوبه وإيحاءاته الرمزية هنا ، بل إستوقف إنتباههم ما كان من تعامله مع مسألة التاريخ القومي ، التراجيدي ، لشعبه الكرديّ ما بين الأعوام 1900 ـ 1947 م (5) . ونقدّر بأنه ما كان في إعتبار بركات ، بطبيعة الحال ، كتابة رواية تاريخية . فها هنا ، إذاً ، كما كان الأمر في ثيمة " أرواح هندسية " ؛ تطغى أجواء الغربة على حيوات الأبطال ومصائرهم ، على حد سواء . نحنُ بصدد تتبع حركة إبن الشمال ، " مم " ؛ الشاب العاثر الحظ ، الحامل همومه الشخصية ، ومن ثمّ القومية ، من مكان إلى آخر : في البدء ، بلدته الصغيرة المحاذية للحدود التركية ، مروراً بحلب ، مدينة الدراسة ، وإنتهاء في مستقره الكئيب ، المتوحّد ، في جزيرة قبرص . على أنّ ذلك المكان ، ينحو بنا تبعاً لحركة اخرى ، زمنية ، مستعيدة لحقبة تاريخية ، مفصلية ، من التراجيديا الكردية ، المعاصرة لعشية الحرب العظمى . وعلى هذا ، نجدنا من جديد متلمسين ذلك الخيط السحري ، الموصوف آنفاً فيما يخصّ أدب بركات ؛ أيْ حنين الذاكرة ، الدائب ، للجذور المترسبة في البيئة الأولى .

لا غروَ إذاً ، أن يتمثل بطلنا ، " مم " ، تجربة الكاتب بركات ، الشخصية ، في ذلك المنفى ، الموسوم . فضلاً عن إضفاء مزيد من الجوّ الغرائبي / الفنتازي ، الغامض ، على المكان وكائناته جميعاً : تلك التجربة ، القبرصية ، ربما أفادت الرواية في محاولتها تقديم صورة دقيقة ، صادقة ، للمكان ؛ بما في ذلك ، نقل مشاعر كاتبنا الذاتية ، الأكثر خصوصية ، كمغتربٍ يشاركُ بطله مسار حياته ومآلها . على أنّ تصويره ، الموصوف ، ما كان سطحياً أو فوتوغرافياً ، بقدر ما كان فنتازياً . علاوة على أن كاتبنا لم يعمد إلى إلباس بطله ذاك ، وغيره من الشخصيات ، حللاً جاهزة تحلّ محل السياق الدرامي ، بما يسمح لكل منها التطور المستقل ـ والمنفعل ، في آن ، بوعي بما حولها ، وحتى بلوغها الكمال الذي يصبوه لها الروائي : " فهذه الشخصيات ، مسلحة بالوعي بإعتبار أنّ مشكلة الأكراد ، مشكلة سياسية . لذلك فتاريخ الحركة السياسية للأكراد هوَ التاريخ الروحي لشخصيات الرواية ، وإنكسار هذه الحركة هوَ إنكسار الشخصيات الروحي أيضاً " (6) . على أنّ أدب سليم بركات ، الروائي ، لا يخلو من الإشكال ؛ هذا الأدب ، المهيأ له الإنفتاح على قراءاتٍ لا تنتهي ؛ لا لكي تتضح رموزه ومراميه على وجهها الحقّ ـ فهذا مخالف لوظيفة النقد والقراءة ـ بل وخاصة ، كيما تتسع آفاق ذلك الأدب وتتناهى إلى اللا نهاية .

الهوامش :

1 ـ بصدد الجزء الأول من هذه الثلاثية : يمكن مراجعة دراستنا ، المنشورة في " إيلاف " / الأرشيف ، في 10 مايو 2006
2 ـ فؤاد حجازي ، فقهاء الظلام : فانتاسيا تستلهم واقعاً ـ مجلة فلسطين الثورة ، عدد 511 لعام 1985
3 ـ سليم بركات ، هاته عالياً ، هات النفير على آخره ( سيرة الصبا ) ـ بيروت 1982 ، ص 14
4 ـ المصدر نفسه ، ص 40
5 ـ فرهاد بيربال ، الريش ـ مجلة " بربانغ " الصادرة في ستوكهولم ، عدد 93 لعام 1993
6 ـ ابراهيم عبد المجيد ، الريش ـ مجلة " الكفاح العربي " الصادرة في بيروت ، عدد 668 لعام
1991

للبحث صلة ..

قديم 02-29-2016, 01:58 AM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ما فوق الغرائبية
في روايات سليم بركات:
د. محمد بوعزة
august 14, 2013

تطرح روايات سليم بركات في استراتيجيتها الغرائبية أسئلة شائكة ومربكة بصدد شعرية العجائبي، تدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم العجائبي كما صاغه تودوروف في كتابه الرائد ‘مدخل إلى الأدب العجائبي’. في هذا الكتاب يتحدد العجائبي بشرط أساسي هو تردد القارئ في تفسير أحداث فوق طبيعية بالقوانين الطبيعية. وهذا يفترض أن’ تودوروف’ يحدد مفهوم العجائبي في مقابل المحكي الواقعي ، حين يقابل بين الحدث فوق الطبيعي والحدث الطبيعي، بين الخارق والمألوف. وبالتالي ظلت هذه الثنائية بين الطبيعي وفوق الطبيعي، العقل واللاعقل، الخارق والمألوف تحوم حول هذا التعريف وتحد من رؤية أشكال أخرى للكتابة الغرائبية تتحرر من هذه الثنائية، أو على الأقل لا تتقيد بحدودها الفاصلة وزمنيتها الخطية، وتبدع غرائبيتها فيما وراء الحدود والثنائيات.
هل رواية سليم بركات رواية فانتاستيكية أم لا؟
تذهب أطروحة هذه الورقة إلى أن رواية سليم بركات أكثر من مجرد رواية فانتاستيكية. بمعنى أنها لا توظف المحكي الفانطستيكي كبنية تناصية أو مستعارة إلى جانب المحكيات الأخرى الواقعية. ذلك أنها لا تتقيد بالفصل بين فوق الطبيعي و الطبيعي، الخارق والمألوف، ولا تتقيد بقوانين التفسير الطبيعية، أي قوانين العقل في بناء عوالمها الحكائية والدلالية والمعرفية. فالعقل والجنون، اللوغوس والميتوس، الألفة والغرابة، النظام والكاوس، القانون والصدفة، العمى والبصيرة، تتفاعل فيما بينها وتتداخل مشيدة عالما بينيا، هو عالم الظلام ، أي اللاشكل في رواية (فقهاء الظلام)، كمحنة ‘ بحث عن الشكل في السديم العاصف للغريزي’ (ص18).
وفي رواية ‘الأختام والسديم’ يتشخص الما بين في مجاز السديم، المادة اللامتشكلة ، ما يسمى في الفلسفة بعالم الهيولى. وفي رواية (دلشاد أو فراسخ الخلود المهجورة) ينبثق عالم المابين من متاهة النسخ اللانهائية بفعل خيال المترجم اللامحدود،وانزياحات السيمولاكر عن الأصل. وفي رواية (أرواح هندسية) يتجسد المابين في عالم الكثافة اللامرئية للأرواح .
في هذه العوالم الإنتهاكية التي تتورط فيها الشخصيات، ‘كلما أوشك العقل أن يلمس شمس اليقين، انحجبت في ستار محدوديته’.
إن القاعدة في رواية سليم بركات هي الغرائبية، وذلك على خلاف الرواية الفانتاستيكية ، حيث يشكل الخارق استثناء يقتحم مجرى الأحداث الطبيعية، فيخرجها من زمنيتها المألوفة. مع سليم بركات أصبح العالم غرائبيا في كينونته وزمنيته، وانتفى عنه سحر الألفة. وهذا ما يمثل مصدر المصائر العبثية الساخرة لشخوصه وكائناته . ما من يقين يسعف الشخصية في تحمل مصائرها، وما من عقل أو معرفة تسعفها في فهم أقدارها، لذلك يكون مصيرها الانهيار في عالم الظلام، الجنون والحمق، أو النفي بعيدا في أقاصي العزلة الأبدية، حيث تتحول الذات إلى كائن شبحي، أو صيرورة شبح.
هذه الصيرورة الغرائبية ترتبط بإستراتيجية الكتابة عند سليم بركات التي تقوم على فهم لوظيفة الكتابة يتجاوز منطق العقل، يذهب في حفرياته السردية الاستكشافية إلى ما وراء العقل. ويتم تحقيق هذا الرهان الأنطلوجي عبر فعل سردي يشخص الحياة عبر الاشتغال في الجانب الغامض من المصائر، حيث’ الكمال يعمي، حيث رهان الحرية على أتمه في سباق المعنى…حسبي أن أكتب هكذا، دون تفسير، في اتجاه نفسي التي تقامر بها الكتابة ، وأقدارها….حيث الرهان رهان على كمال الوحشة الأقصى للكينونة…إنني في خجل ، أستعير من الراهن فظاظات لغته، لأكد انتمائي إلى خسارة الماضي الذي يوحد الكون كعقل لا يكل عن ترداد أقداره في المرآة، مجرة بعد أخرى، حتى الحدود القصوى المفتوحة على حدود قصوى من يأس المخيلة.) (ص14)
مخيلة تنفتح على تخوم المجهول، ذلك هو خيال السديم الذي يقود مجازات السرد ‘بعيدا عن مسالك العقل، واستيلاد شخوص تقف على العدم والعبث’، ولا تحقق كينونتها أبدا، أو بالأحرى تحقق كينونتها في المصائر الحدية، الجنون، العبث، المتاهة، العزلة الشبحية، في تخطي حدود المعقول والمحتمل، (في الكمين الأقسى للكتابة، حيث المصائر ليست مشهدا، بل دوي في الكثافة اللامرئية للحياة) (ص18)، إذ تفاجأ الشخصيات بالثغرات والفجوات في مصائرها، والمجاهيل والكمائن، (الثغرات التي هي انقطاع التدبير العقلي النسبي، وارتباك البراهين) (ص21) ‘وتصون حتى النهاية أسرارها وتتحدى كل من البسيكلوجيا والمنطق’. إن ما يهم في هذا العالم السديمي الذي يؤسس خرائطيته على أراضي المجاهيل والتخوم القصوى للوجود المعضل، ومحاكاة المجهول بخيال السديم، ليس رهان الكشف سواء بالمعنى الصوفي، أي الكشف عن حقائق محجوبة، ولا بالمعنى الجدلي، أي حل التناقض ، بل على العكس، الإصرار على الحفر في طبقات المجهول في انتقاله من سديم إلى سديم بغواية مطاردة اللامحدود (الرواية ليست كشفا عن شيء..عالم الذات (الأكبر) وعالم الكون (الأصغر) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول.لا عالم كبيرا، أو صغيرا،هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النفس، في انشغالها بتدبير اللحمة لما هو ممزق من هذا الوجود الممزق، هي كل شيء، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى الألسنية النبيلة. لا أبحث عن كشف، بل عن المعضل، المشكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل ، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبق المعضل معضلا، والمشكل مشكلا. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريده جسورا) (ص22) .
إن ما يهم هذا الخيال السديمي (هو أن تظل الأشياء ملغزة، لكن ليست اعتباطية، اي بايجاد منطق جديد، منطق بامتلاء، لكنه لا يعيدنا إلى العقل، ويقدر أن يقبض على صميمية الحياة والموت) يقول سليم بركات ( لا أكتب الرواية لأستميل قارئا إلى ‘مقدرة’ إضافية بعد سخاء الشعر المؤلم…مصائر إشكالية تلك هي جسارتي…لا أبدأ رواية بلا إشكال. الحياة إشكال. الأمل إشكال كاليأس. الحضور والغياب إشكالان. أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصل إلى مخرج. أحيانا يقع كلانا في المتاهة) (ص20)، ولذلك فإن المعارف العقلية وكل ما بناه العقل من صروح وأنساق تصبح موضع انتهاك وهدم وتجاوز.
رواية ‘فقهاء الظلام’ ، منذ عتباتها التدشينية، ومع انبثاق حكاية المسخ بيكاس، تقذف بالقارئ في عالم الغرائبية، لأننا ندخل عالما غير مألوف، هذا المولود العجيب الذي يولد ويكبر ويتزوج ويشيخ في ليلة واحدة ، وفي الصباح الباكر يغادر زوجته ويختفي، يدخل إلى عالم الظلام، يتحول إلى شبح( أتمزح؟ قل إنك تمزح لن يصدقوا ما سنقول. نحن لم نصدق الأمر بعد. فمن سيهب ابنته من أجل كذبة يا بيكاس، رد الابن’ عليك أن تحاول يا أبي. لم يبق الوقت الكثير.’ فاحتدم الأب: ‘ وقت من ياعجيب؟ من يهتم إذا بقي وقت أو لم يبق؟ ولماذا علي أن أنصت إلى إلحاحك هذا لتجعل إلحاحك أقسى؟ استرنا بحق الله. فأنت تجهز علينا’ لا رد بيكاس.’ الأمر محسوم، وستفعلها يا أبي’. نهض الملا على ركبتيه، متوعدا: ‘ ومن حسم الأمر؟’ فأجابه ابنه ‘ ستفهم ذلك فيما بعد يا أبي’. ‘ لا أريد أن أفهم شيئا فيما بعد، ولا أريده الآن، لست معنيا بهذه المحنة، فليفهمها ربك’ (ص 17)
يختفي بيكاس وتقرر الأسرة ادعاء موته أمام الناس اتقاء للفضيحة. وتؤول الأسرة هذه المحنة (بيكاس) على أنها ابتلاء من الغيب، لا تستطيع تحمله ولا فهمه، لأنه يفوق طاقتها البشرية،( إذا كنت المختار لهذا الامتحان فلست بقادر عليه. للإنسان حدود في الاحتمال، ولا تجاوز حدودي هذه الساحة التي يتصيد فيها أخوك العصافير…يتهيأ لي أنك تعرف كل شيء فدلنا على منفذ) (ص18) وهو ما سيعجل بسيناريو انهيار أفرادها والسقوط في فخاخ الظلام الشيطاني.
يشكل بيكاس عماء قدريا. إنه ‘ المحنة’ و’ القدر’ و ‘الامتحان’ بالمفهوم الميتافيزيقي والأنطلوجي، امتحان كينونة الإنسان على الفهم، واختبار التناهي في مواجهة اللامتناهي، المحدود في مواجهة اللامحدود، محنة فهم سديم الوجود، العقل في مواجهة تناهيه (الأبوان يرقبان فحسب. الأمور تأخذ مجراها خارج أي تدبير) (ص221)
كما تنبأ الأب ستجهز هذه المحنة على عالم الأسرة. وبذلك يمثل بيكاس الحد الفاصل بين عالم النظام والألفة وعالم الفوضى والظلام، حيث يتساقط أفراد الأسرة في فخاخ الجنون والاضطراب والموت والاختلال: يختفي الأب وبيكاس الذي يتحول إلى شبح يسكن الغابات والظلام، ويصاب ‘مجيدو بن عفدي ساري’ و’حشمو’ بالجنون، ويختلي ‘عفدي ساري’ بنفسه في عزلة مطلقة شبحية. تنتهي أغلب الشخصيات بالوقوع في شرك الظلام بوصفه استعارة لثيمات الجنون ومحنة اللامعنى.
في زمنية الظلام تتضاءل الشخصية إلى مجرد شبح وطيف لكينونة متلاشية، تتجاوز الحد الفاصل بين عالم الأحياء والنور والشكل والعقل، وتقع فريسة لعالم الظلام والجنون واللاشكل. إنها أقدار ومهازل كما جاء في النص خارج أي تدبير منطقي. وبيكاس المسؤول عن هذه المحنة ليس (سوى محض لعبة، محض سؤال مرح، محض فضول منبعث من أعماقه وأعماق إخوته.)
يجد القارئ نفسه مورطا في لعبة بيكاس السديمية، لعبة متاهة، لابد أن يحتمي بفضيلة التأويل في مواجهة محنة المعنى والفهم: فهم قوانين عالم مختلف لا يستجيب لقوانين مرجعيته. وبهذا القطع الزمني، ينتقل من زمنية الألفة والنظام إلى زمنية الغرابة والكاوس. وفي هذه المسافة الفاصلة بين التجربة والنص، بين المرجعية والمخيلة، يكون على القارئ خوض تجربة جديدة، هي تجربة المابين التي تميز هذا العالم المختلف:
ـ عالم بيني: يتشكل على تخوم المابين ، يتداخل فيه ماهو طبيعي بما ليس طبيعيا، الواقع بالغيب، الظلام والنور، العقل والجنون، الأشباح والأحياء والأموات، وفق ابستيمولوجية أنطلوجية تضمينية، عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هويات بينية هجينة: تنتج عن هذا العالم المابيني بالضرورة هويات بينية هجينة غرائبية، إنساني/ نباتي/ حيواني، بدون حدود فاصلة أو خاصيات جوهرية محايثة. بدل الهوية يقترح هذا العالم مفهوم الصيرورة، حيث يمكن لهوية الإنسان أن تكون صيرورة حيوان، أو صيرورة نبات، أو صيرورة طير . وبالعكس يمكن لهوية الجماد أو الحيوان أن تكون صيرورة إنسان .في البداية تتشكل هوية بيكاس كصيرورة حيوان في ظلام الرحم. وبميلاده وخروجه إلى عالم النور والشكل، ينمو في صيرورة مسخ. ينمو بمقدار سنة كل ساعة، وينتهي إلى صيرورة شبح، أي ظلام. صيرورة ارتحال من الظلام (الرحم) إلى الظلام (شبح غير مرئي). وبالتالي فإن ما يحكم هوية بيكاس هو الطفرة، وليس العضوية، اي الانتقال من حالة إلى أخرى، في أفق صيرورة مفتوحة على التحولات، وليس التطور وفق النموذج العضوي.
ـ عالم كاوسي: محكوم بقانون الطفرة الذي يطيح بالقوانين الطبيعية، حيث تخضع الكائنات للتحولات اللاخطية، وتمحي الحدود بين العوالم: تداخل العقلاني واللاعقلاني، الجنون والعقل، الموت والحياة، الغياب والحضور، الوجود والعدم. عوالم داخل عوالم.
ـ عالم هولامي: يتجاوز منطق الخطية الذي يفصل بين الماضي والحاضر، لأنه في صيرورة تحولاته الكارثية وطفراته الانتقالية لا يتقيد بانتظام التطور، ولا يذعن لحدود الأزمنة، بل يتحرك ويتنقل بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والتاريخ والحلم والأسطورة، حيث المخيلة تحلق فوق الحدود وتعيد بناء جغرافيات جديدة في المجازات القصوى للخيال السديمي.
ما ذا نستخلص من هذا التشكيل الغرائبي للنص؟:
ـ على مستوى التكون، نلاحظ أن الفعل السردي المولد للحكاية ومساراتها وتشعباتها الأفقية والعمودية هو فعل غرائبي، لأنه ينطلق من موتيف معقد ومركب يرسخ غرائبية الحكي والخطاب، يمزج بين العقلي واللاعقلي، بين الحياة والموت، بين الحلمي والوهمي والواقعي ، بين قانون الطفرة والصدفة و الألفة والنظام. وتتفاعل هذه العناصر المتناقضة تفاعلا ديناميا إلى المدى الجذري الذي تمحي فيه الحدود، وتتداخل الهويات و تشتبك العناصر والصفات، بحيث تتولد جغرافية نصية جديدة، عوالم داخل عوالم، بديلة ومنتهكة لعالم الخطية الذي يقوم على انفصال العوالم .
ـ إن الغرائبي في هذا المتن هو القاعدة والنواة التأسيسية، وليس الاستثناء كما في النصوص التقليدية. وإذا ما كانت هذه النواة الغرائبية هي الأصل، وليست عنصرا دخيلا أو مستعارا من أنساق أخرى سابقة على وجود النص، فإن هذا الانتظام الذاتي للغرائبية لا يمنع تطعيم النص بخطابات عجائبية مستعارة من أنساق متنوعة، دينية وعجائبية وتاريخية وأسطورية.
ـ لا يتولد العجائبي في هذا النص من أحداث وكائنات فوق طبيعية، بل يتشيد من ‘الإنسان العادي’، وينطلق أحيانا من اليومي العجيب، من تغريب اليومي.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:49 AM
ما الذي يصنع القائد العسكري الفذ؟؟!! دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 108 12-09-2015 01:17 PM
فرويد العبقري الواهم فارس كمال محمد منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 2 06-29-2014 10:02 PM
النحو العربي - إبراهيم بركات د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-29-2014 10:40 PM
رحبوا بالأديب والفنان التشكيلي الشاعر عمر مصلح فاطمة جلال المقهى 18 09-10-2013 12:42 AM

الساعة الآن 04:45 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.