قديم 02-22-2016, 02:46 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
Aug 11, 2014

Hala rated it it was amazing
عن Goodreads

فعليًا لم أقرأ رواية عربية بهذا الكمال الصاخب من حيث البنية السردية والتراكيب اللغوية ، سليم .. هذا الكردي الذي طالما تسآءل امامه محمود درويش مندهشًا ه
:" !!
ماهي مصادر لغتك وماهي مصادر خيالك ?"

انها محن الطفولة المبكرة حتما والتي ينفتح بها الدماغ على عوالم اخرى عوالم سحرية تفوق تصور العقل العادي !!!!

قديم 02-22-2016, 02:49 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
Oct 20, 2015
Halima Rida rated it really liked it

لم أرَ كاتباً ينفذ إلى عمق الموجودات مثل سليم، هذا الكاتب الفذ الذي منح الرواية بعداً جديداً والذي يصنع عالماً خيالياً كاملاً غير منفصل البتة عن الواقعية المحضة قدم هنا نموذجاً لإطار المكان السكني الذي ترعرع فيه وربط الخرافة بالواقع بالهزل وغمس الجميع في عالم بيكاس الذي كان يكبر كل عدة ساعات سنوات عدة
سليم الذي يمنح الجمادات قيمة وينفخ الروح فيها

قديم 02-22-2016, 02:52 PM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صدرت له "الأعمال الشعرية" في مجلد واحد:
سليم بركات: كل عمل أدبي تلزمه ألف عام ليشارف اكتماله
استوكهولم - الرياض، خاص:

قلائل هم الذين استطاعوا أن يطوعوا جزالة اللغة العربية بهذا القدر من الرشاقة والمهارة والعمق كما فعل الشاعر والروائي الكردي السوري سليم بركات، فاللغة، واللغة وحدها، غدت هاجس هذا الكاتب الذي تمكن من اقتحام الأسوار العالية لها مقتنصا أسرارها، وجمالياتها، وألوانها، وظلالها، ومجازاتها، وموسيقاها، وسلاستها ما دفع بشاعر كبير مثل محمود درويش إلى وصفه بانه "أفضل من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان".

ولد سليم بركات العام 1951في مدينة القامشلي (أقصى شمال شرقي سوريا) المتاخمة للحدود التركية. بعد إقامته لفترة في دمشق لدراسة اللغة العربية سافر، منتصف السبعينات، إلى بيروت حيث عمل في الإعلام الفلسطيني، ومع مطلع الثمانينات سافر إلى قبرص حيث عمل سكرتيرا للتحرير في مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها محمود درويش. هاجر في نهاية التسعينات إلى السويد، وهو يقيم حتى اللحظة في هذا البلد.

أصدر نحو ثلاثين كتابا. في السيرة الذاتية له: "الجندب الحديدي - سيرة الطفولة"، "هاتِه عالياً؛ هاتِ النفير على آخره - سيرة الصبا". في الشعر له: "كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا"، "هكذا أبعثر موسيسانا"، "الجمهرات"، "بالشِّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح"، "طيش الياقوت" وسواها. في الرواية له: "فقهاء الظلام"، "أرواح هندسية"، "الريش"، ثلاثية الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس، "الأختام والسديم"، "موتى مبتدئون"، "السلالم الرملية" وغيرها...

أصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مؤخرا، "الأعمال الشعرية" لبركات في مجلد واحد يضم أحد عشر ديوانا، وبهذه المناسبة آثرت "الرياض" أن تحاور هذا الكاتب الذي لم ينل حظه من الاهتمام، رغم فرادة، وعذوبة النص الذي يصوغه. فيما يلي نص الحوار:

قديم 02-22-2016, 02:53 PM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
في نصوص سليم بركات تكاد تغيب الحدود بين الشعر والرواية. في تجربتك، هل تؤمن، حقا، بالفصل بين الفنين؟ أي حوار يقوم بين بركات الشاعر، وبين بركات الروائي حتى يقرر أحدهما أن ما يروم كتابته هو هذا وليس ذاك؟

- لا أحاول تعليل الأمر كثيراً. ربما شرحتُ التحصيل، من قبل، على نحوٍ لا أتذكَّره الآن، أو أنني، في كل مرة يعرض عليَّ هذا السؤالُ مرتبتَه "القلقة"، أهدِّئ من روعه: قطعاً، لا أعرف ما هو الشعر، تعريفاً، إلا بالحدس الغامض في كونه انتساباً إلى عودة اللغة أنساقاً ذهولاً، أو ماهيَّات يشترك في توصيفها اللاتعريف. لكنني أعرف ما هو النثري، بخصائص نحوله إلى خطابةٍ، أو سرد حكائي، أو أي جنسٍ آخر. لقد قيِّض لمثلي، حين جمعتُ سرداً من خيال الشعر ونثره، بنازع "الملحمية"، في "الجمهرات"، و"الكراكي"، أن يقود السرد إلى شعريته الأصل - خيالِ الكلمات. وها أنا أرى سرديات شعرية تتنامى، بعافية استراق السمع على الشعريِّ من أذن النثريِّ السارد، مع ملاحظة غير شقية، وهي أن الكثير من هذه "السرديات" تصل منتهى بنائها عارية من الشعريِّ، منقلبة إلى أقصوصة محضاً.

هناك، في البرزخ بين الحدس اللغوي متحرراً من مرجعية اللسان العلائقي، وبين اليقين "القانوني" من جمع اللغة نسقاً لتوثيق الفكر، والعبارة، بخصيصة المرجعية الجمعية، واشتراك اللسان في التعريف بالحدِّ؛ - هناك يقف من يستطيع لمَّ نفسه على اختصاص المرجع الناظم (السرد، وعلومه، ومنطقه)، أو لمَّ نفءسه على اختبار اللغة "يجهالةً" تتكشف عن المحيِّر القائم بشأن ابتكاره "العالِم": الشعر على جهة، والنثرُ الحكايةُ على جهة؛ بينهما النَّماءُ المعرِّش على صورة سرد شعري، أو شعر سردي، يتبادلان خصائص النُّقلة بالجسم الواحد نصّاً على "شكل" حديقة، أو هاوية. وأنا صرتُ مدرَّبا على أخذ الكلمات عن جهتيِّ البرزخ، لأنشئ بها نقاءً سرداً، أو نقاءً صوراً إيماءاتٍ، أو مزءجاً كنشاة تاريخ العقل بلا فصل في ممكنات تعبيره - شعرا يروي "الصورَ"، والوقائع، متجانسةً في النسق.

لماذا ينبغي أن أفرط، هنا، باقتدار النص المزجي على بناء تأويليَّة جامحة؟ جمعُ "النثريِّ" و"الشعري"، ردُّ اعتبار إلى الإنشاء المبتكِر. جمءعُ الخيال، واللغة، هدايةٌ إلى المتعدِّد، وتدويلٌ للبراعات.

2- من الملاحظ أن سليم بركات في رواياته الأخيرة "كهوف هايدراهوداهوس"، "ثادريميس"، "موتى مبتدئون"، و"السلالم الرملية"...بات يميل إلى تناول تواريخ وأساطير تبدو إغريقية أو اسكندنافية، بحيث تشكل قطيعة مع رواياته الأولى مثل "الريش"، "فقهاء الظلام"، "معسكرات الأبد"، "أرواح هندسية"، وحتى ثلاثية "الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس"، ناهيك عن سيرة الطفولة وسيرة الصبا. كيف تفسر هذا الانتقال؟ وما الذي أرغم سليم بركات إلى ارتياد تلك الأماكن الوعرة؟ هل مللت من الجغرافيا التي وثقتها، بعناية وعذوبة، في "معسكرات الأبد"، "الريش"، "فقهاء الظلام"...وسواها؟

- عليَّ تقديم تقرير عادي عن كوني مسكوناً بشخص آخر لا يُشبهني في طباعه، ولديَّ في ذلك قرائن لا تحصى. وهذا الآخر، الذي فيَّ، موكل بتقدير المسافات الأرضية تحديداً، قياساً بالأشبار، والأمتار، والأذرع، والأقدام، وسواها، التي إنء جاوزتُها بعقلة إصبع لم يعد في وسعي العودة إلى المكان. بعد كل خمس عشرة دقيقة ابتعاداً عن البيت عليَّ النظر إلى الوراء لأتأكد أن الجهات لم تتخالط بعد، ولم تُزِح الأمكنةُ الأمكنةَ عن مواضعها. منذ خُذِلت، كآدمي، في تدبير ساق مائية، أو رملية، على أرض تخصُّني (أرض ممتعة، أو مملة) عَمَّني نازعُ التعميم في الريبة من المكان: داخل البيت، وحده، هو حصانتي، كأنه ليس مكاناً، بل نصٌ. خارج البيت لا حصانة لي مع الجهات، حتى أخالني، بزعم ينبغي أن يؤخذ على محملٍ، لا إقامة لي في جسدي ذاته. وإن كانت لي إقامة فيه فهي موضع جدل.

تخطيط لا يوصف في التراجع إلى الحد الأدنى من المكان. إيمانٌ بالكهف كآخر كونٍ: ذلك ما شئته، بثقة المُحءتَمَل، وصفاً لجسارة "الانقلاب" على أمومة المسافة وأبوَّتها. غير أنني، أميناً للمجازفة كاستعراضٍ للاخوف من الخوف، تكفَّلتُ لنفسي مخرجاً يُرضي: كل مكانٍ ساحرٌ ما دمت لم أره بعد. لكن على الأمكنة "الساحرة" هذه أن تبادلني بعض امتنانها على الوصف: هكذا توالت جغرافيات كثيرة على أعماقي، على بُعءد شبر من أنفاس قلبي وبصره: أرض هايدراهوداهوس في "كهوف هايدراهوداهوس"؛ أرض ثاروس في "ثادريميس"؛ أرض السحلبية الزرقاء في "موتى مبتدئون"؛ إقليم كاروكشين في "السلالم الرملية".

أضفتُ إلى الأرض أقاليم لم تكن فيها. وسَّعتُ الأرضَ في تراجعي إلى الكهف. وهذه الروايات، المختلفة ظاهراً عن شقيقاتها، هي استحواذ نفسانيٌّ على الواقعي المُحءتَمَل، بانتخاب الخيال لمثاله الواقعي إرثاً من خصَّيصته الخيالية: لقد قلَّبت بين يدي رواية "كهوف هايدراهوداهوس" أربع عشرة سنة قبل كتابتها. ظننتُ أن لديَّ متسعاً من الوقت يكفي لترتيب حقولها، وكائناتها، ومراتب مجتمعها، في كتاب كبير. حالت هجرتي الأخيرة دون ذلك. عدتُ بالرواية إلى تأويلي للزمن كخاصيَّة لا تكفي بناء عمل واحد في ألف سنة. كل عمل أدبي تلزمه ألف عام ليشارف اكتماله. لكننا نعمد إلى اختزال أعمالنا استباقاً للغدر: الوقتُ مهينٌ، عادة، والالتفاف عليه، اختزالاً، يُهينه، تماما كما يهينُ المنتحرُ الموتَ.

"كهوف هايدراهوداهوس" افتراضٌ لممكن خلائقي بعد انقراض الإنسان. في كل متخيَّل خلائقي، أبعد من راهن الإنسان وجوداً، عود على بدء: الأنساق الاجتماعية. الطبائع. صروف القوة. هوميروس لم يبتعد شبراً عن تراتبية السلطة البشرية في ابتكاره لسماء الآلهة. سويفت في "رحلات غاليفر"؛ أورويل في "مزرعة الحيوان"؛ كارول في "أليس في بلاد العجائب"؛ غودنغ في "ملك الذباب" (الواقعيُّ بانعطافته على البدء نشوءاً اجتماعاً، ومثله "حي بن يقظان" مثلاً). أمثلة لن تنتهي، اقحمتُها هنا بلا تفصيل في دواعي الإسهاب تحليلاً، لكنها، جملةً، ابتكار لمفتَرَضٍ محتَمَل.

لو تخيلنا، مزاحاً، أن ديناصوراً صارح الآخر بهاجسه في انقراض جنسه، وظهور كائن يمشي على ساقين، بعد آلاف السنين من ذلك، ويقرأ صحيفة في قطار، لقهقة صاحبه. فليبثَّ أحدُنا الآخر، الآن، هاجسه بانقراض الآدمي، وظهور النسطور (النصف البشر والنصف الجواد) بعد آلاف السنين.

رواية "ثادريميس" شكوى مرحة في سوادها، عن اقتدار أطفال على إشعال حرب "الفناء". لقد "أنقذتُ" رهطاً من الفلاسفة والمتكلمين، في أيامنا، بحرب استباقية تتبعها القيامة، من جدوى "الحقائق في لعبة لغوية"، و"ادعاءات الحقيقة"، في السجال حول "الدلالة النووية"، التي ليست سوى نص. واقعنا راهن خرافي؛ حروبه خرافية بدورها. حروبٌ نصوصٌ حتى لو سقطت أشلاء جار في يدي جاره. لقد نقلتُ الراهن الخرافي إلى "حقيقة في اللغة". جئت بالتماثيل لتنحت جرماً للإنسان يلتقطه، بعد انقراض الإنسان، مخلوق السنتوروس، متأملاً شكله الآدميَّ المحيِّر. "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس"، روايتان تتصلان بحبل سُري عن نهاية بلا تفجُّع، عن انقراض بلا هلع من اختفاء "سجل الذاكرة الإنسانية". فلءنتهيِّأء للأمر: المسألة لعبة أطفال؛ مصادفةٌ أن أطفالاً أرادوا الحصول، بطريقتهم، على تمثال ناطق فتقوَّضت آخر المدنيات.

"موتى مبتدئون" نسجٌ آخر. شأن من شؤون أعماقي في خيبتها حتى العظم. كانت المرة الأولى، التي أسلك ب "المناجاة" مبلغها من الطول لوعةً: قاد جيلي سفناً، عبر البر (!!!)، بحثاً عن تماثيل هيلاكريتوثينيس. لم أشهد لمصائرَ؛ لم أشهد عليها. لم يعد أحد منا إلى إيثاكا.

جيل متقوَّض. بذخ في الخسارة. "غريب" لا يتذكر أنه غريب، مذ كان غريباً أبداً. والذين صعدوا إلى غابة سكوغوس بحثا عن غريب يسلُّونه ارتجالاً تساليَ لم تُستحضَر بعد، لم يروا غريبا من قبل. معنى "الغريب"، في "موتى مبتدئون"، غارق في الشرود؛ معنى مفرط في عبث اللاتحديد. المقيم، والعابر، والمهاجر، والوافد، أسماء في سجل "الغريب" المدوَّن بلا انتظام في سطوره، أو تجانس في الكلمات. "الغريب" مائيَّةٌ لن ينجزها أحد؛ لونٌ أسقطه الرسم من ضرورته. "الغريب" افتراض، أو مصطلح افتراضي.

رواياتي الأخيرة، هذه، استكمالُ الرحَّالة "صحوة" جغرافيا لا تعرض الملل، بل الموت. وهي روايات (أخص بإشارتي "كهوف هايدراهوداهوس"، و"ثادريميس") تمنيتُ أن أقرأها مكتوبةً عن يدي غيري. وإذ تأخَّر أن يكتبها "الغير" كتبتُها لكلينا.

3- ثمة من يشكو من صعوبة ما يكتبه سليم بركات، ومن غموض العوالم والمناخات التي يرسمها، وخصوصا في أعماله الأخيرة، شعرا أو رواية. هل من رد على هؤلاء؟

- لم أَشَأء؛ بخيال القارئ فيَّ، أن أتوسط للمعهود أحوالاً ومصائر، ومخاطبات، كي يتعهد لكتابة أريدها بالتخطيط بناءاً. لم تفتنِّي التبعية ل 99% من المسطَّر، قصداً، ل 99% من المستجمِّين في "منتزهات" الأدب شمساً مُطءربة، وهواءَ بحرٍ مغن، ومقهى دافئ المقاعد. منذ شبابي المبكر توجهت إلى "المُنتَخَب" الأدبي بحصالة القراءة المجرِّبة تاريخاً وتقادماً: أولئك الكبار، الذين تعرفونهم، جميعا، في الترجمات جميعها. لقد حرَّرني "المُحيِّر" من تبعات العادي، حرَّرني من كتابة "العادي" بجودة معقولة، أو أقل قليلاً (أترك الحكم للآخر، الحصيف في قراءته). لكنء ببقاء امتناني، غير مشروط، لمن أخرجوا العادي من بين أيديهم رسولا إلى أبوَّته الفاتنة، المُلهِمة.

قد يكون انطباع "الغرابة" في سجال النظر إلى نصي الروائي من مشارف ثلاثة (أزعم أنني أعرفها):

أ - المحاورات، التي بإهمال المرجع في "أسس" المحاورات "منطقا"، لا تتساوق مع "ضرورات" الحصر الواقعي لمواقف "حية". أشخاصي يتحدثون جملةً لا تتفق للحياة، في المحاورات المتكافئة بين لسانين. يتناهبون ما لا تقوله إلا "براعات" وجودهم في البرزخ، متحرريءنَ من أية ضرورة في "محاكاة" الواقعيين.

ب - المسالك اللغوية، وهي ممتنَّة لقواعد "كسر اللعبة" في "المنطقي" (ألسنا نخترع عوالم، ومجابهاتِ أفكارٍ، ونستنهض "المختارين" كشخوص للأدوار المختارة في نص شَرءعُهُ أننا "انتخبنا" لكتابة الحكاية قَدءراً من "الفريد الواقعي" يبرر كتابتها؟). أن نكتب "الواقعي" عُرءفاً، في محاكاة له، نمسخه ونهينه. أن نختزل "اللغوي" إلى صدى كسول في المقابسات عن منطقها المتصرِّف بسيطاً، فإنما نشهد لكسل اللسان بسلطته على العقل. ما قصديَ "ضراواتٍ" في استعراض "الفيهقة"، بل استدراج المحيِّر، الذي فينا. واللغة، وحدها، شَصُّ الصَّيد، وخراطينُه.

لم أسعَ، قط، إلى الاستعانة بمحاورة من مذاهب الشارع، والمقهى (الذي ما دخلته من ألف عام)، والبيت. ما حاجة القارئ إلى سماع نفءسه مطمئناً إلى اقتداره في الزعم أنه كتب هذه الرواية، أو تلك، بيد غيره؟ لا أقدم له مرآة في اللغة؛ أقدم جرحاً لم يفطن إلى وجوده تحت ثدييه. (حاشَ، هنا، أن أتطاول على كل الرواية العربية. فأنا منقطع عنها من أمد، وحُكمي مثلوم).

ج لا أبدأ رواية إلا من مأزق. أرتِّب المأزق أحوالاً في كل رواية. آخذ القارئ معي إلى المأزق.

هذا ما يخص الرواية، بزعمي. أما الشعر فلا أجد ما أدفع عنه "غموضه"، و"صعوبته"، مذ لم أجد الشعر إلا محيِّراً، وعراً، نهباً، يقلِّب الباطن أعلى أسفلَ على ظاهره.

4- العنوان هو "مؤشر تعريفي وتحديدي ينقذ النص من الغُفلة"، وعناوين سليم بركات صادمة، تخلق فضولا طاغيا، للتلصص على مغاليق المتن. كيف يختار بركات عناوين أعماله؟

- العناوين هي إلهام النص عندي، أتدبَّر بها قَدءرا موصوفا من خصائص قلِقة في التوصيف. لكن لا منجى. أتمنى، أحيانا، وضع إشاراتٍ رسومٍ، "آثارٍ" بلا حروف، على الأغلفة. لا أريد للعنوان أن يتحمل بنفسه شقاءً مختزلا إلى هذا الحد. العنوان ضحية، عادةً. النص، برمته، هو "عنوان" ذاته، لكننا مجبرون على "التضحية" بأحد اثنين: المؤلف، أو "النص". وقد شاء التاريخ أن نساوم على هذه الفداحة بأضحية ثالثة هي العنوان، الذي أَعِدُه أبدا باعتذاري إليه، فأورَّطه، وأنجو في الأغلب (أأنا أنجو، حقا؟).

5- هل أنت راض عن النقد الذي حاول قراءة أعمالك؟ وهل تشعر بان هؤلاء النقاد كشفوا، ولو جزءا يسيرا، مما تختزنه نصوصك من بلاغة وخيال وأسطورة ورمز...؟

-لا أعرف تقديراً "مُنصفاً" للموقف: إن "اتَّهمتُ" النقد أعفيتُ نفسي، وإن اتَّهمتُ نفسي أعفيتُ النقد. كلانا عنيد: هو يريدني أن أتقدم خطوات في اتجاه آلته مساوماً، وأريده أن يتقدم أشباراً في اتجاه لغتي أميناً لأخلاق النقد. لم أُنصف "النقد" بإعطائه دفائن الظاهر من خزائن النص "المُرفَّه" بالقبول، ولم يُنصفني بقبول ترِكة المقامِر في مجابهاته.

سأعثر على النقد يوماً؛ سيعثر عليَّ.

6- كيف قيِّض لسليم بركات، الكردي، أن يجوب فضاءات اللغة العربية حتى عثر على أسلوب لغوي فاتن، بارع وساحر، ومختلف...عجز شقيقه العربي عن العثور عليه؟

- لم يقيَّض لي شيء. ليس في الأمر امتياز. أجاهد أن أكون أميناً، قدر ما أستطيع، لآلة الكتابة بما تقتضيه من رعايةٍ تحفظها فتحفظني في مهنتي - وجوديَ كلماتٍ. ربما يحسُّ العربي (من غير تعميم كبير) باطمئنان إلى هويته في لغته، وانتصارها له، فلا يتحوَّط لانقسامها عليه كتابةً. لا يتهيَّبها مثلي - ربما - تهيُّبَ ميثاقٍ حسبُهُ إنء خنتُ اللغة خانتني؛ إن أهنتها أهانتني؛ إن خذلتها خذلتني؛ إنء دوَّلتُها أكثر بعقد اجتماعِ نُظُمها، وجسارات أحوالها، وتأليف ما نازعها اللسانُ النفعي فيه فشتَّتها، بانتقائيته الظرفية، على مقاصد الضحل السهل، أحكمتءني - هي - على المعنى.

آلاتنا، مذء أبرمتِ المصادفةُ خيالنا بقضاء المكتوب كَتَبَةً، هي الكلمات. لم تعد اللغة منفصلة عن سلوكنا حتى في اللحظات الأكثر خَرَساً بلا حبر. إنها طباعنا؛ سمعنا؛ لساننا؛ جبهاتنا الأخيرة؛ انتصارنا المُحتمل الأوحد في "الوجودِ الخسارة".

هكذا أرى إلى اللغةِ أعضائي الثانية "أصحَّح" بها خطأَ جسدي، الذي لم أرتكبه.

7- بأية هواجس يقترب سليم بركات من الورقة البيضاء كي يدوِّن؟ هل ثمة طقوس معينة تمارس الكتابة خلالها، أم أن الكتابة تفرض شروطها وطقوسها؟

- بهاجس الاقتراب من الهاوية أتقدَّم إلى الورقة البيضاء، كل يوم، ملقياً حجراً في سحيقها، وأتنصَّت - متهيباً - من سماع وصوله إلى القرارة فلا يصل. لا طقوس كادَّعاء المشعوذ. إصرارٌ يوميٌّ على الذهاب إلى ما أمتحن به الخفيَّ، الذي في الكلمات ذاتها، التي امتحنتُ خفيَّها ذاته، استنطاقاً بعد آخر يذهلني أنني أسمع فيه، كل مرة، محيِّراً يضاف إلى محيِّر.

البياض، الذي في الورقة، نقشُ الأبدية على الكلمات محنةً.

8- إلى أي مدى تتواصل مع ما يكتب في سوريا والعالم العربي؟ وكيف تقيِّم، باختصار، هذا النتاج الإبداعي؟ هل ثمة أسماء لفتت انتباهك في السنوات القليلة الأخيرة؟

- أتخبط في الإحراج إذء أُسأل عن تقويم الحاصل الأدبي. لطالما اعترفت أنني أصير بلا ذاكرة، إلا التفصيل اليومي المحيط بي. لم أحصل على صحيفة منذ اثنتي عشرة سنة. لم أحصل على كتب إلا بعض التراثيات، وترجمات فكرية، منذ ثماني سنين. لا أحد أعيره، وأستعير منه مؤلفات عربية، جديدة، كما كنا نفعل (في أحيان قليلة) بقبرص. آخر ما استعرضه على نفسي ثلاث روايات، لا غير، مطلع التسعينات، ثم لا شيء: ثلاث، أو أربع مجموعات شعرية، ورواية واحدة وصلتني من صديقة، في البريد، قبل ثلاث سنين. لم أعد أعرف إذا كنت أنتمي إلى أدب ما، أو حُكءمٍ أدبي. لقد درج الكثيرون، إن سُئلوا في الصحافة عن أدب غيرهم، على الهرب من جواب، تجنُّباً ل "مزالق" الإرضاء والإغضاب. أجد نفسي في هذا الموقف، معتذراً بقسوة. قطعاً، هناك شعراء جيدون، وروائيون كذلك، حُجِبءتُ قسراً عن قراءة جديدهم، من جيلي، أو من هم أكبر بقليل. فإن سألتني: "وَمَن بعد هؤلاء؟"، أو مَنء لفت نظري، في السنين الأخيرة، فهذه حالي تجيبك. لستُ مرجِعاً في الحكم على كِتاب.

9- بعيدا عن العوائق السياسية، إلا تفكر في العودة، يوما، إلى سوريا، والقامشلي، وموسيسانا...ألا تشتاق إلى مواطن الطفولة التي خلدتها بغنائية عذبة في أشعارك ورواياتك؟

- لم أغادر قامشلوكي. أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين. تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرتء - فيما بعد - بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها: بيروت، ونيقوسيا، وغابة سكوغوس - ابنة الأرخبيل العائم على غمامات ضواحي العاصمة الأسوجية.

لن يقيَّض لي، في المنظور راهناً أو ما يليه، أن أتبع طيوري الأولى، بالبندقية، من شمال العالم إلى الشمال السوري. أوصيتُ أن أُحرَق لأتناثر على كل شمال في الكلمات وهي تتقدمني، في غضب، إلى الوجود اللامنصِف. هكذا - ربما - أعود بقامشلوكي، وأولادها - المنافي الرحيمة، كي نلقي النظرة اللانهائية على أختها الصغرى: القامشلي، زائراً أصدقاء طفولتي؛ زائراً أصدقاء سيرتيَّ "الجندب الحديدي"، و"هاتِه عالياً، هاتِ النفيرَ على آخره"، الذين كبروا في القراءة مع قامشلوكي، التي معي - معهم.

في السويد، خارج النقد المكتوب، تلقيت ردودا طريفة من "جمعية الرفق بالحيوان"، عبر الهاتف، مستنكرة ذلك السياق "الوحشي" في علاقتي ببهائم الطبيعة. أظنني شرحت لإحدى سيدات جبهة الرفق، بانكليزية "ضارية" في الالتفاف على الترجمة اللاموثوقة، التي نقلتها من خيالي إلى لساني ويديَّ: لم نملك ثلاجات لحفظ الطعام. الهررة تسرق ما تخبئه العائلة من طعام تحت القُفَف، في الحوش. الهررة تصطاد الصيصان. الكلاب تغزو البَيءض. كلابكم وقططكم خارجة، تواً، من تربية في مدارس لم يحلم بها نشءٌ مثلي. والطيور؟ إنها، يا سيدتي، لغز. نتصيدها لندرب أعضاءنا على خيال الحرية في لحم الطير غذاءً.

سألتُها: أتأكلين النبات؟

ردت مستغربة: بالطبع. ما قصدك؟

قلت: أنتِ تأكلين أرواحاً.

أتعبتُ رُسُل الجمعية بشروح عن هدنة مع الطبيعة، الآن: نحن مُنءهَكون. الطبيعة مُنءهَكة. كوكب مُنءهَك، برمته، من خذلان الآدمي للتراب، وخذلان التراب للآدمي، والأرواح للأرواح... الخ.

10- هل تشعر بان لغتك العالية، الصعبة على الترجمة، قد حالت بينك وبين جائزة نوبل؟

- مَنء لم يساوم، مثلي، على لغته؛ على المحيِّر "مقدَّمةً" لكل اصلٍ، لا يأمَلَنء في حظوظٍ كبرى.

11- في المنفى السويدي البعيد، كيف يقضي سليم بركات أيامه؟ الآمال..الأمنيات..جهات الحنين..!!

- أقضي جلوساً إلى نافذة المطبخ. طبخٌ بعد العودة من التسوُّق الصباحي. قراءة على مساررات الأفاويهِ. بزور لإطعام العصافير خارجاً، واحتراس من القطط تحت مقعد الحديقة أن تتربص بالعصافير. أطفال لا يجاوزن مدخل الحديقة فيعرِّجون عليَّ زائرين، يطلبون سكاكر (مذء عرفوني دهقاناً في وَهءبها). جيران يسلِّمون، في عبورهم، حتى لو لم يرني البعض من انعكاس النور على الزجاج المزدوج، لكنهم يعرفون أنني هناك، في كمين الطهوِ الصَّياد. حياة تُحسب وقائعها بالأشبار في عصف الغابة بجن شرقي من ظلال شجر التنُّوب الغربي، والبتولا. شواء أسبوعي. سناجب بنِّية تتقافز قرب شباك غرفة النوم، من صنوبرة إلى أخرى. زريابٌ مليح الجانحين، أخضرُ رماديٌّ بنيٌّ بقودام قوس قزح، لم أرَ غيره في الأنحاء، يقاسم السناجب البنية، وطيور القرقف، والشحارير، وكسَّار الجوز، أشجار الحديقة الخلفية، في المشهد المغلق بسماءٍ من شجرٍ يسند السماء التي تليها. (لماذا صنَّفت العربُ الزريابَ - القيءقَ مؤذَّناً في حجيج من الغربان؟). قيامة اليوميِّ بعد نفير السكينة المدوِّخ، في كل حين. لا أمل في شيء حتى لا أتعثَّر. عودٌ إلى الدائرة في حدائق اللاموصوف، المفقودة في متاهات من بياض الورق.

لا أنسى، بالطبع، أن المشهد لا يكتمل توثيقاً إلا بملءءٍ يُشغله الأقرَبانِ إليَّ: زوجتي سِنءدِي، وابني رَان.

لقد سلَّمتُ الأبديةَ بقشءرٍ رقيق كقشر حبة الكستنة، ناضجةً شواءً في الجليد الإسكندنافي.
Tweet

عفواً هذه الخدمة متاحة للأعضاء فقط... يرجى تسجيل الدخول أو اضغط هنا للتسجيل احصل على رابط الخبر عبر رمز الإستجابة السريع QRcode تابع آخر الأخبار عبر تويتر
Follow @alRiyadh

قديم 02-22-2016, 05:19 PM
المشاركة 15
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ندوات: «قراءة في روايتي سيرة الصبا و الجندب الحديدي لسليم بركات» عنوان محاضرة للسيد عبدالمجيد محمد خلف

*
الجمعة 19 تشرين الاول 2012


نظم اتحاد الشباب الكرد يوم أمس الخميس 18/10/2012 محاضرة للسيد عبدالمجيد محمد خلف في مركز زلال بعنوان: «قراءة في روايتي سيرة الصبا و الجندب الحديدي لسليم بركات». بدأت المحاضرة*بسرد سيرة حياة*الكاتب سليم بركات, وأهم إبداعاته الفكرية*ومن ثم تطرق المحاضر إلى كيفية سرد الكاتب للأحداث التاريخية التي مرّ يها والتي عاشها وعاصرها كمدينة الملاهي في القامشلي والمشكلات الاجتماعية في طفولة سليم بركات و انتقالاً إلى نشوء الأحزاب الكردية, مروراً بتنصيب ملا قاسمو إماماً لجامع قاسمو الذي سميّ باسمه لاحقاً و ما تلاها من أحداث تاريخية مهمة كحريق سينما عامودا و وصفه لهذه الحادثة المريرة , التي أصبحت مفترقاً تاريخيا للشعب الكردي (قبل الحريق و بعد الحريق) مادحاً لشخصية الشهيد محمد دقوري الذي فدى بروحه و جسده فداءً لإنقاذ 11 طفلاً من الموت و الحرق حتى استشهد في هذه الحادثة ,


*مع ذكر الواقع الاقتصادي والاجتماعي السيئ الذي كان يعيشه الكرد في تلك الفترة وزيارة جمال عبد الناصر للقامشلي و المشكلات التي خلقتها هذه الزيارة*و بعد انتهاء المحاضرة , تمّ فتح باب المناقشة و الحوار بين المحاضر و الحضور الكريم استهلّها الأستاذ درست عزت بشكر للمحاضر وللمركز على الاستضافة الجميلة*منبهّاً إلى أهمية التكلم باللغة الكردية حفاظا على خصوصية شعبنا, و سرد عددا من الأحداث التي كانت معاصرة لحياة سليم بركات, وقد حثّ الشباب الكرد في حديثه على أهمية *توحيد جهودهم للوقوف في وجه المخططات الرامية إلى شقّ الصف الكردي ببثّ الفتن و الخلافات, و من ثم استمع الحضور إلى الأستاذ ريوي و إلى نقده البناء للمحاضرة بدأها بالعنوان العام للمحاضرة *منتقداً *أن العنوان أكبر من المضمون والأفضل أن يكون العنوان (قراءة في رواية لسليم بركات) و تحديد *رقم الصفحات *حين يقتبس المحاضر من كتابات سليم بركات,*و من ثم استمع الحضور إلى حديث الأستاذ أحمد*إسماعيل و نقده البنّاء حيث شكر اتحاد *الشباب الكورد yck "*" على التحضير لهذه المحاضرة*موضحاً أن كتاب سيرة الصبا ليست إلا سردا لسيرة سليم بركات و لم يكن سردا للتاريخ الكردي بشكل عام, بالإضافة إلى عدم ذكر المحاضر لشروط تناول التاريخ في كتابات سليم بركات منوّهاً إلى مشكلة نقص الكتابات التي تتناول التاريخ المعاصر للشعب الكردي في سوريا .
المصدر: المكتب الثقافي و الإعلامي لاتحاد الشباب الكورد **y.c.k
قامشلو 19/10/2012

قديم 02-22-2016, 11:42 PM
المشاركة 16
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقالات سليم بركات …أبعد من الأعراق وأقرب من الهوية ـ مقال إبراهيم الجبين

Ibrahim Aljabin 16 مايو,2014مقالات
العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 11/05/2014، العدد: 9555، ص(9)]

*
“إبتدْع أيها اليأسُ في مهبِّكَ يأسي
وليكُنْ قِرانٌ يُعجِّلُ الخواتيمَ، والعرسُ نفسي

وليكنْ سَهَرُ الغبارِ من عَلِيِّينْ يرمي عليَّ الحِليّ حتى أبدَّدَ بعضي

في امتداحِ الغبار؛ أو أستدَقَّ كالسهمِ حتى

تمهِّد الريحُ بي غدرها وهي ترمي منازلَ الماءِ شتى.

ومن ختامٍ،

من غدٍ أو رنينٍ،

من مجاهلَ تعلو كهندباءٍ، ومن لهاثٍ كأرضِ

يجرِّدُ القلبُ سيفَهُ الرمادَ: هاكم شهوديَ ما بين إبرامِ شكْلٍ ونَقْضِ

يدجِّجونَ البعيد بي أو ببعضي”.

أبعد من الأعراق، وأشدّ حرارة من العروق النابضة بالهوية، كلّها هويات، وفي لغته التاريخ والخيال وسحر الكلمات، اختار لغة الشريك كي يذهب بها إلى الآخر، ماضياُ في فتنته، مستعرضاً قدراته التي بلا حدود، “لغة الدين ولغة الفقه والشريعة.. اللغة العربية هي بيتي وجمهوريتي، وهي ليست كلغة المحتل الفرنسي، ليست وافدة”، هكذا يقول سليم بركات، وهكذا يرى، وهكذا يكتب، شعراً ونثراً وعالماً لا آفاق تقدر على حصره وتقييده.

من بين القرى المتناثرة في الشمال السوري، ولد سليم بركات، ابن الملاّ، الذي ورث عن بيته وأسرته العلاقة مع التراث كما ورث الكرد علاقاتهم مع الطبيعة، مع الثلج والجبال، مع الرحيل والهجرة والتبغ والأغاني ذات الأصوات العميقة الجارحة كعواء الذئاب.

الجزيرة السورية قطعة السماء

كان للخمسينات التي رأى فيها سليم بركات النور، وهج خاص في القطعة الجغرافية الإنسانية المسماة “الجزيرة” في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، على تخوم تركيا والعراق، حيث تركيبة السكان الخاصة، واللغات العتيقة للشرق مجتمعة في مثلث خير وفير وأنهار وعوالم قلما عرفتها بقية المناطق السورية التي غالباً ما كانت منسجمة الأهلين، وبينما خضعت المدن لتقلبات السياسيين والعسكر، عاشت الجزيرة تلك التقلبات ببعدها الثقافي أكثر من عصفها المباشر، فكان إهمالها في ذلك الحين نعمة، شاء لها القدر أن تقلب في سنوات الاستبداد إلى نقمة كبيرة، أدّت إلى زوال امتياز الجزيرة، وجفاف أنهارها وهجرة أبنائها وتفرقهم في أنحاء العالم، فأخذت ثقافة العالم الكرد والسريان والعرب والآشوريين والأرمن، كتّاباً ورسامين وموسيقيين لتتبعثر حمولتهم في الخرائط كما تنبأ سليم بركات لبلدته في ديوانه القديم “هكذا أبعثر موسيسانا”.

ذهب إلى دمشق لدراسة اللغة العربية، أواخر الستينات، ولم يبق فيها سوى سنة واحدة غادر بعدها إلى بيروت، ليجد الحرية التي طالما بحث عنها، وسيتحدث عنها بعد ذلك كثيراً، حيث لا حد لحرية خياله ولا لحرية جسده، ثم نشر سليم بركات أول قصيدة له بعنوان “نقابة الأنساب” في مجلة “الطليعة” الأسبوعية السورية، في العام 1971، وانقطعت أخباره حيناً عن الشام ومناخها الأدبي، ثم ما لبثت أن عادت بقوة بعد سنوات قليلة حين وصل كتابه الأول ” كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضاً” بقطعه الصغير وتصميمه الغريب، ذلك الكتاب الذي بقي يباع سرّاً في مكتبات سوريا من أقصاها إلى أقصاها حتى هذه اللحظة، وكأن عدد نسخه لا نهائي، فكان شعراء سوريا يحصلون عليه متى شاؤوا بهمسات بينهم وبين باعة الكتب في دمشق وحلب والقامشلي، ولم تمض سنتان حتى صدرت مجموعته الشعرية الثانية “هكذا أبعثر موسيسانا” في العام 1975.

شاعر كردي في ثورة فلسطين

انخرط سليم بركات سريعاً مع الثورة الفلسطينية في بيروت، وأصبح أحد أعضاء المنظمة والعمل الثوري الفكري، لتندلع الحرب في لبنان، وتأخذها معها في مهبّها، ولكنه شاء ألا يشدّه المهبّ على هواه، بل كما يريد سليم بركات لسيرته أن تكتب ذات يوم، فكان سليم بركات شاهداً على الحرب مشاركاً فيها، كمقاتل سرد أيامه وقطع حباله نهائياً ودون تردّد مع سوريا الرسمية، التي دخلت بجيشها كقوة احتلال لأرض لبنان، وقوة ردع ليس لغير الفلسطينيين والمقاومة الوطنية اللبنانية، ليكتب سليم بركات كتابه الذي تسبب بمنع تداول اسمه في سوريا بعدها “كنيسة المحارب” في العام 1977 فوثّق فيه الحرب، ورسم جنونها بالكلمات في مغامرة نثرية أولى، وفي السنة ذاتها أصدر المجموعة الشعرية الثالثة “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك”، وتابع في الحرب وكأنه أحد تفاصيلها، بارودها أو متاريسها، مبانيها المتهدمة، إنسانها، ولكنه كان لا يزال في عالمه الخاص، فكتب ” الجمهرات” في العام 1978 و” الكراكي” في 1981 عن ديلانا وديرام عاشقي سليم بركات الخالدين: “أيقِظْها يا ديرام، أيقظْ فراشةَ الغيبِ ويُعْسُوْبَهُ الذهبيَّ… أيقظْ ديلانا، وأيقظْ معها البيتَ حجراً حجراً، ثم أيقظِ الساحةَ المحيطةَ بالبيتِ، وأيْقظِ السياجَ. وإذ تنتهي من ذلك كُلِّهِ أيقظِ الصباحَ النائمَ قربَ السياجِ، وقُلْ تعالي ديلانا، تعالي لنشهدَ السطوعَ الحيرانَ للأرض وهي تَذْرُفُ الحديدَ والبهاءَ على درعنا الآدمي، ولنكْشِفْ، بعد ذلك، ثديَيْنا لنصلِ الحقولِ، مرتجفيْنِ من عذوبةِ النَّصلِ إذْ يغوصُ إلى حيث يجري السمسمُ والزعفرانُ، كأنَّما نحاولُ، معاً، أن نكونَ الجراحَ التي لا جراحَ بعدَها… هيا أيقظْها يا ديرام”، “أيقظيهِ ديلانا، أيقظي الفتى الذي يتململُ تحت الشُّعاعِ المنسابِ على صدرِهِ العاري.

أيقظيهِ وأيقظي النهارَ والأرغفةَ، ثم املئي دلوَكِ -الدلوَ الذي تسقيْنَ به حيواناتِ الصباحِ التي لا تُرى -املئيهِ شَرانِقَ قَزٍّ وتوتاً مما يتساقطُ من المدائحِ، لتخيطي بالحريرِ والتوتِ هذه العذوبةَ المُسْدلةَ حول ديرامَ. أيقظيهِ أيقظيهِ ديلانا”، في أكثر من مشهدية سينمائية سحرية فائقة بدأها سليم بركات هكذا: ” تيتل على الهضبة، وسكون يرفع قرنيه عاليا كالتيتل، فلا تقتربنّ أكثر أيها الدليل، ولا تبتعدنّ أكثر، مكانك هو المكان الذي ترى منه الجذور الجذور، والأرض ميراثها. تيتل على الهضبة، وسكون صلد يرفع قرنيه عاليا كالتيتل”.

سيرة الطفولة والصبا

لم يغادر القامشلي، رغم أنه غادرها، كتب محموماً بها في بيروت سيرتيه الشهيرتين، “الجندب الحديدي ـ سيرة الطفولة ” في العام1980 و”هاته عالياً، هات النفير على آخره – سيرة الصبا” في العام 1982، يقول عن القامشلي: ” أستطيع أن أصفها سنتيمتراً بعد آخر بعينيها هي، في الأطلس، الذي لم تغادره من أعوامي العشرين.

تستطيع، هي، أن تصفني نحيلا نَزقاً، عاقلاً كهواء طائش. ليس هنالك من قامشلوكي أخرى. عندها أخت، بالاسم ذاته، كبرت – فيما بعد – بالذين يعرفون أن أختها الأولى تقيم معي حاضنةً أطفالها”، في تلكم السيرتين، كتب سليم بركات ذاكرة من عاشوا، ومن سيعيشون فيما بعد أقصى فقْدِ ما رآه هو وجيله، بعد أن زالت ملامح المكان وتخالط الزمان بالاعتيادي والمألوف، فلم يتبق سوى غرابة سليم بركات الراوي والشاهد والحي، “السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا” كتب سليم بركات فيها يوميات الطفل المسكون بالحياة: “إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي”، سجّل مشاهد الجزيرة ووثائقها كما في صورة ساحرة لشيخة قبيلة طيء: ” كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ”.

الخروج من المنافي الجديدة

كتب الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف: ” في العام 1979 ، كنّـا في بيروت ، بين أضلاع ما سُـمِّيَ الكيلومترَ الأخير، وقد تأكّدَ أنه أخيرٌ، بعد أن طردتنا دباباتُ آرييل شارون في صيف 1982 وخريفها، فلم نجدْ، بَعدها، أرضاً ثابتةً ثباتَ ذلك الكيلومتر المربع الأخير، كنتُ أعرفُ أن سليم بركات مقيمٌ مثلنا، في الفاكهاني، سألتُ عن مَـظانِّهِ، وعرفت عنوانه، دخلتُ المبنى، وتوجّهتُ إلى باب المسكن، ضغطتُ الزرَّ، مضت دقائقُ، حتى لقد خِلْـتُ أنني أخطأتُ المقصدَ… البابُ يوارَبُ بطيئاً، ومن الفتحة بين الباب والجدار تظهر فوّهةُ مسدسٍ، تتلوها ” سبطانةٌ ” كأنها لطولها وشناعتها سبطانةُ بندقيةٍ،

ـ من؟

ـ أنا سعدي يوسف ، يا سليم بركات… أرجوكَ اخفضْ فوّهةَ المسدس″، ليقول عنه سعدي بعد ذلك :” قلتُ لسليم بركات ، مرةً: إنكَ أعظمُ كرديٍّ بعد صلاح الدين، واليومَ، بعد رُبع قرنٍ من مَـرِّ الزمان، أعود إلى القولة ذاتها، وأنا أكثرُ اطمئناناً إلى صوابها، بعد أن شهدتُ ما شهدتُ، وعرفتُ من عرفتُ”.

ولكن سليم بركات المحارب، غادر كنيسته اللبنانية الفلسطينية، وخرج من بيروت مع من خرجوا، في تغريبة كردية سورية فلسطينية عربية متجددة، إلى تونس ثم روما ثم قبرص، حيث استقر هناك وصنع “الزاوية التي يطل منها على روحه وعلى العالم” في بيت جمع في حديقته مئات الشجيرات حافظاً أسماءها باللاتينية، متابعاً جنونه في اللغة والخيال، ليتابع مع الشاعر محمود درويش مشروع مجلة الكرمل، مطلاً هذه المرة على العالم العربي، والقارئ العربي وسوريا ولبنان اللتين باتتا خلف البحر، من نافذة واسعة، وراقية كلغة سليم بركات، وجدّية سليم بركات. “بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح” مجموعته الشعرية البيضاء، ومعها أولى رواياته الكبيرة ” فقهاء الظلام” كانتا تأسيساً جديداً لما يريد سليم بركات لطريقه أن تمضي عليه، رصفٌ حجري رفيع، ليس فقط لأن اللغة رفيعة، ولكن لأن المقاصد تسطّر ذاتها في البعيد من العشرات وربما المئات من السنين، ليصبح عالم سليم بركات مفتوحاً على الماضي والحاضر والأمكنة والتفاصيل، يغرق قارئه تارة في تأريخه الخاص للكرد في وصف أسمائهم وثيابهم وعاداتهم وهواجسهم وأحلامهم كما لم ولن يفعل أحد مثلما فعل سليم بركات، وتارة يذهب إلى بيروت ونيقوسيا، والحروب الصليبية والطيور والكائنات والعاشقين والمفاهيم والأشخاص والفلزّات.

طفل بفرح لا يتوقف

وبحزن كبير أيضاً، وحكمة وطيش ودهشة، واصل سليم بركات نقل الفضاء الواسع الذي يسكن داخله، حتى حانت ساعة مغادرتها قبرص مرغماً، إلى منفاه الجديد في السويد، ليعيش منذ العام 1999 في شمالٍ قال إنه “ليس الشمال الذي كتب عنه طيلة حياته” عالم بعيد وجديد، قوانين، ومطر، وضجر، تفاصيل كثيرة ولكنها ليست كتلك التفاصيل التي تولّع بها ونقلها إلى العالم كله من عالم الشمال السوري البسيط، وعن روايته “الريش” التي كتبها في قبرص قال الكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو: “نثر سليم بركات، مثل نثر ليزاما ليما، هو هدية ابتكارات دائمة، وصور مستوحاة، واستعارات أخاذة، وانعطافات غير متوقعة، وشرارات شعرية، وتحليقات مجنحة. إنه مزيج فريد من الواقع والحلم، الأسطورة والحدث المرير، لا يطيع قوانين الزمان، ولا قوانين المكان. النصّ يتجوّل طليقاً في طراز من الجغرافيا الرؤيوية، حيث المعالم خاطفة ومتبدّلة: كردستان، التي راودها الحلم ألف مرّة، تتقاطع مع قبرص الإقامة؛ الطفولة مع الرشد، والواقعي مع الغرائبي. من، الشخصية الرئيسية، يتحوّل على مدار الرواية، فهو تارة عصفور، وطوراً ابن آوى، يحادث البشر والحيوان. وإبداع بركات الأكثر حرّية يعبر كلّ حدود الممكن المعقول”.

وقال عنه الناقد والباحث السوري صبحي حديدي بأنه “الكردي- البازيار الذي شق معاني العربية من تلابيبها”.. وأيضاً “حين يتحدثون عن نوبل كردية.. فإن المرء يفكّر بأدوار الشاعر والروائي الكردي ـ السوري سليم بركات، ليس في إغناء الأدب العربي وحده، بل في الارتقاء باللغة العربية ذاتها، وصياغة بيان عربي رفيع بديع″.

الأمة الرعاعة

كتب سليم بركات قبل سنوات، مقاله الغاضب” إنها ليست الأندلس يا يسوع″ ضارباً ما سمّاها بالرعاعة الأمة، التي تنجب الإرهابيين والعبيد، وتغط في سبات وصمت القبور، فلم يدرك كثيرون جوهر الزفرة التي أطلقها صدر سليم بركات، وهو وارث تلك الأمّة ثقافياً وإنسانياً، فهوجم وانتقد وعدّه البعض متعصباً لكرديته عنصرياً ضد العرب والمسلمين، ولكن آخر من يتهم بالتعصّب العرقي والديني، صاحب الأعمال التي احتفت بالأمّة، وهابت حضارتها وانحنت لجلال صنعتها، والكردي ذاته الذي انتقد الأمة ونعتها بالرعاعة عاد ليعصف بوجه الكرد أنفسهم من جديد مع تصاعد انتفاضة السوريين، كتب سليم بركات: ” نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه، تماثيل العائلة الحاكمة الدموية تستجمع ظلالَ حجارتها هاربةً وهي تضع إزميلَ النحت في أيدي عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي ـ كي تنحت لأوجلان تمثالاً من خُدعة الأسد، لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث إلى عبادة أصنام الحزب الجاثمة بمخيلتها الركيكة في لقب (العمِّ) هوشي منه، وماو، وقبعة ستالين. حزبٌ آمن بإلغاء كل مُخالف لضحالة منطقه السياسي، أفراداً أو تجمعات، يستلم، الآن، سلاحَ الأسد، ـ كفعلِ الأسد وحلفه الإيراني، بالسلاح حكراً في لبنان على مستبِدٍّ بالدولة قراراً، ـ وخططَ الأسد، لنقل كرد سوريا من عبودية عانوها والشركاءَ إلى جحيم المجابهة مع شركاء الكرد أنفسهم، وجحيم التمزيق بمخاوف الجار التركي؛ بل أخذهم إلى نكبةٍ أينَ منها نكبةُ البرامكة”.

محمود درويش وسليم بركات

قدّم سليم بركات شعراً متطوراً من حيث البنية والتراكيب واللغة والصورة في وقت كانت لغة الخطابة ما تزال تطغى على الشعراء، والحداثيون منهم كانوا يحوّمون في التغريب واستنساخ تجارب شعراء أوروبا وأميركا. ولم تنتج الثقافة السورية، بعد سليم بركات مثله، وعاش الشعر والرواية السوريان سباقاً كبيراً مع سليم بركات على اللغة والمعاني والصور، فمن لم يتأثر بسليم بركات، الذي قال عنه صديق رحلته محمود درويش، في ندوة جمعتهما بإحدى مدن أسوج الاسكندنافية: “بذلتُ جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات”، ولكنّ كثيرين ممن ظهروا بعد سليم بركات في سوريا والعالم العربي وفي ثقافة المشرق بعمومها، لم يفلتوا من فخاخ بركات التي نصبها في كل مكان لطيور السحر والإبداع والترف الرفيع الذي حلم به الطفل الشقي، ابن الملاّ بركات، ذات يومٍ لأهله كلّهم في الشمال… الذي استهلّ كتابه الأول يوماً بهذه الصورة:

“عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجرّ مؤخراتها فوق الثلج وتعوي فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب، أسمع حشرجة دينوكا. في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا”.

الموسوعي مسبع الكارات ـ مقال إبراهيم الجبين
قبر مولانا

قديم 02-23-2016, 12:27 AM
المشاركة 17
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الحوار المتمدن - موبايل
حوار مع الروائي والشاعر السوري سليم بركات

عدنان حسين أحمد

11 - 2 - 2004
•*حاوره: عدنان حسين أحمد
•* الروائي والشاعر السوري سليم بركات لـ ( الزمان )
-*لستُ من المحيطين بخزائن اللغة قط، لكنني أتتّبع أخبار القيّافين المفقودين

في الشعر، كما في الرواية أو السيرة الذاتية، يظل النص الذي يكتبه سليم بركات عصياً، متمرداً، وإشكالوياً، لا يرخي الطبع، ولا يسلس القياد للقارئ والناقد في آن معاً. فكاتب من طراز سليم بركات لا يعّول كثيراً على البناء المعماري التقليدي الذي استنفده نجيب محفوظ ورعيل طويل من الدائرين في فلكه، لأن نصوصه شائكة ومشاكسة تستمد قوّتها من كنز الميثيولوجيا الكردية، ذلك المنجم الفريد الذي وقع عليه سليم بركات بعد عناء طويل، فلا غرابة أن تأتي أبنيته السردية متداخلة متنافذة مع بعضها البعض حد التماهي، وبالتالي فأن مدوّنته السردية تحتاج إلى قارئ من طراز رفيع مدجّج بمعرفة شمولية لا تبدد عزمه عند الصفحات الأولى من متاهة النص المحبوك بالملغز والمحيّر الذي لا تستوعبه الحواس الخمس دون الاستعانة بالحاسة السادسة، أو الركون إلى المخيلة إبّان تأججها وإنخطافها الصوفي. في هذا الحوار ركّزنا على سليم بركات روائياً، ومع ذلك لم نفِ هذا الرجل المبدع حقه، فعالمه الروائي أكبر من أن يستوعبه حوار، أو حفنة حوارات جادة رصينة، آملين أن نلج، عمّا قريب، غابته الشعرية المكتظة بالتساؤلات العسيرة الغامضة. وفيما يلي نص الحوار الشيّق مع الروائي والشاعر الكردي السوري سليم بركات.
•*رسن الخيال المشاكس
•*مَنْ دلّكَ على خزائن اللغة العربية، ومَنْ قادكَ إلى أدراج البلاغة المقفلة، وكيف تسنى لك الإلمام بها حد التألق والإدهاش. مَنْ مِن هؤلاء الأدلاء الذين أخذوا بيدك إلى منجم اللغة والأدب، وضيّعوك في براري الإبداع الشاسعة؟
-*محاكاة المجهول هي التي قادتني إلى أن أتتَّبع ما تبيحه اللغةُ لنفسها مِن تهتُّك، وما يُبيحه اللفظ من الانقلاب على معناه، وما يبتكره نظام المعنى، في انحلاله سديماً إلى سديم، من الخيانة الطاهرة. النِّكال بالحقائق التي ليست حقائق، والنِّكال بطبيعة النسق المدَلَّلة كدِيْن، والنِّكال بتاريخ العلائق بين الإشارة ومفهومها، هو بعض مما يلهمني أن الحرية في البلاغة ليست إلا قيادة البلاغة، برسن الخيال المشاكس، إلى عبودية اللامحدود. إنه أمر على قدْرٍ شيطاني من الإدعاء. لا بأس.لكنني، قطعاً، أبيح لنفسي إدعاء الانتساب إلى المعُضْل، ذلك الشريك الذي ينتظرنا في المنعطفات النبيلة، التي تحفظ للغة قَدَرَ وجودها الشهويِّ الهاذي، وقَدَرَ إيمانها بالفراغ الموَّلد لأنساق الثِّقل الكبرى: مغامرات العدم الذهبية التي يقرؤها أطفال الوجود الذهبي. النمطية الجمعية للسان المتناسخ صورة عن صورة حرّضتني على أن الممكن الساحر لا يمكن ذبحه فداءً لقدسية التاريخ المرتجل زمنياً، والهوية المرتجلة زمنياً، والكمال المرتجل تفصيلاً على مقاس الأمم ( الخالدة ). وأنا، إنصافاً لي، لست من المحيطين بخزائن اللغة قط، خزائن اللانهاية المسحورة، لكنني أتتَّبع أخبار القيَّافين المفقودين.
•*الخرائط الخفية
•*يحلم الفنان التشكيلي بالوصول إلى ذروة التجريد، كما يحلم الكاتب بالوصول إلى ذروة الاختزال والتكثيف، وقد وصل الروائي سليم بركات إلى برزخ الاختزال والكثافة المنشودة، لكنه ضحّى بالمبنى الحكائي الذي يقوم عليه معمار الرواية. ألا تعتقد أن حركة القص والروي لا يمكن لها أن تكتمل دونما نواة حكائية متنامية؟
-*كنا أتمنى أن أكون من هؤلاء الذين يسهون عن ( النوى ) الحكائية في أقاصيصهم كي أتشرد في ( نفْسي ) على أبواب السرد المنقلب إلى تيه. لكنني ( صارم ) في بناء البرج ( المتهدم ). أبنيه مهَّدماً كما هو في خيال ذاته,كما يحلم برج أن يبني نَفْسَه مهَّدماً. لا انقطاع في السيرورات عندي: بداية أولى، ونهاية أولى لما ليس بداية أو نهاية. ذلك أمر في صلب النقصان الساحر الذي سيغدو عادياً ميتاً إذا صار كمالاً. وتخمينك أنني أضحي بالمبنى الحكائي فيه قدر من المبالغة. فرواياتي تبني أحداثاً، وشخوصاً في سيرورة واضحة جداً، من مطلع شمس السرد حتى مغيبها. والأرجح أن ما أضحَّي به، حقاً،هو أن أقدّم للقارئ سياقاً مريحاً يؤكد به مقدرته على قراءة عادية كرتابة التدخين. يقيناً كلما وضعتُ ورقة بيضاء أمامي أجدِّد امتحاني المخيف أمام قارئ طالما ظننته شرهاً إلى المجهول، ذكياً حتى التخمة، فطِناً،قديراً في التقويم، عارفاً، لا تفوته السهولة أو الركاكة. يصيبني هلع من أن أكون نسخة أخرى من النص المتداوَل. أبدأ بالإشكال لأُقارب هذا الوجود المُشكل. أدفع الامتحان إلى النهاية أمام نقد العقل، ورقابة الخيال الموهوب: معمار الرواية، عندي ، هو اشتراك قارئي في صوغ الخرائط الخفية لمحنة الكتابة ذاتها.
•*غموض المصادفة الطاحنة
•*لقد صرّحت غير مرة بأنك لا تبدأ كتابة الرواية من غير إشكال،ورواية ( فقهاء الظلام )تعزِّز هذا الإشكال وتؤكده من خلال شخصية ( بيكاس )، أليس كذلك؟
-*أظنني تحدثتُ مراراً عن شخصية ( بيكاس ) الغريبة في ( فقهاء الظلام ). وها أنا أحاول، من جديد، أن أجد شرحاً يقنعني أولاً ، لأنني- نفسي – وجدتُ ( بيكاس ) يذهب في كل اتجاه، كأنه يمتحنني. لم أعرف، وأنا أُقلِّب في خيال علومي الصغيرة، كيف اختصر عبثَ القَدَر الكردي في نسق يحفظ لنفسه صموداً أمام مقدرة التحليل على استنفاده. ولأنني كنت بصدد كتابة رواية، للمرة الأولى، بعد حذر طويل خوف الوقوع في براثن المعطى الروائي العربي الموقوف على شهوة المُستعاد، بناءً ولغةَ بناءٍ، فقد آثرتُ دفع الأمور إلى أقصى ما تحتمله من سطوة الإشكال. لن أدعي، قط، ولم أدَّع قط، أن هذه الرواية على قدر كبير أو صغير من الأهمية. لكنها ،قطعاً، لا تشبه رواية أخرى في اختزال قَدَر إلى إِشكال على هذا النحو: يولد طفل غريب لعائلة. ينمو في يوم، ويختفي. إنها لعبة فانتازيا عادية. لكن تلك العائلة، التي يتوجب عليها تقديم أجوبة،في كل برهة من غموض المفاجأة المصادفة الطاحنة، هي صورة المشهد الكردي على درجة الحقائق المُمزقة كأجوبته المُمَّزقة في بحثه عن إِقناع نَفْسه أولاً، والآخر ثانياً، أن( بيكاس ) مخلوقٌ عارض، عقاب، امتحان من الله، عبث. ( ببكاس ) ليس شكلاً، والعائلة تريده شكلاً لتؤكد مقدرةَ لسانها على الوصف: ذلك هو الكردي. فيما الآخرون، من حوله، يصِفون الأشكالَ التي تخص تواريخهم، والتي ينسبونها إلى تواريخهم عنوةً.
•*ديمومة البراهين
•*لماذا اعتبرتَ رواية ( أرواح هندسية ) من أعقد رواياتك. ألأنها عالجت الحرب اللبنانية بوصفها نموذجاً للحرب الكونية القذرة. كيف تنظر إلى أسلوب السهل الممتنع الذي يعالج أفكاراً بسيطة بأساليب فنية عالية؟
-*لطالما أُعجبت ب ( الأمير الصغير ) لإكزوزبري، و ( أليس في بلاد العجائب )للويس كارول، و( رحلات غاليفر ) لجوناثان سويفت، وقصص الأخوين غريم. أمثلة صغيرة على البسيط الساحر، المُلْغِز في آن واحد، المُتراكب عُمقاً في التحليل. أُعجبت بقصص والتر سكوت، وفيكتور هيغو، وألكسندر دوماس، السلسلة في سردها. كثير آخر، لا يُحصى، أَلهبَ خيالي أمام باب ( السهل الممتنع ) كتعبير مصكوك ردئ في دلالته الجوفاء. أيُّ سهل في( غاليفر ) أو ( أليس ) أو ( بيضاء الثلج ) أو ( الأمير الصغير )، أو نوادر جحا؟ فلنصرف النظر عن( السهل ) إلى ( الممتنع ) ولنجعلْ إقامة خيالنا فيه، حيث الامتحان الحقيقي لمَلَكة الرؤيا. لا أفكار بسيطة في( أساليب فنية عالية )، بل أفكار عالية، لا غير. البسيط استدراجٌ كالمعّقد الغامض. البسيط شقيق المركَّب. قطبان لا يستقيم أحدهما إلاّ بالآخر. البسيط بسيط لأنه اختراع التعقيد. والتعقيد تعقيد لأنه اختراعُ الممكنات التي من صفات البسيط. هناك، فقط، ما هو فنيُّ راقٍ، أو تلفيق ركيك. بورخيس متاهةُ معنى دانتي سطوة المتعدد. هوميروس هذيانٌ. جويس ثرثرةُ المعنى حتى الإغماء. ثرفانتس شوق المعنى إلى القطيعة مع ذاته. ( ألف ليلة وليلة ) لعبة شطرنج بين يدي معنىً هاوٍٍ ومعنىً محترف. واللائحة لا يطولها تقدير. أنا في صفِّ ( المحنة ) التي لا تطهِّر الروح، بل تعيدها أكثر دَنَساً كالحقيقة. أَتلحقُ أنتَ ، بي؟. ( أرواح هندسية ) نزوع شرير إلى مقاربة القطيعة مع ( السرد الطاهر )و ( المعنى الطاهر )و ( التشخيص الطاهر ) للعلائق المعرفية. هي رواية حرب لا تلد من حرب، بل من ديمومة البراهين على أن الحرب إرثُ ذهنيُّ خالص كالمخيلة الإنسانية.
•*فخاخ التقنية
•*في رواية ( الريش ) يتداخل الواقع والحلم، بل يصل إلى ذروة التشويش السردي أحياناً حينما نشكِّك في مجيء ( مم زاد ) إلى قبرص للبحث عن الرجل الكبير. هل تتعّمد هذا النوع من الكتابة المتأرجحة التي تترك القارئ معلقاً ببندول الوهم الذي يتحرك بين مِدْماك الحقيقة وبرزخ السراب؟
-*من حقي كروائي، أن ( أتعمّد ) نصب فخاخ للقارئ. التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها على رقعة العقل. لكن تلك القصدية هي ما ينجزه التلقائي من المشافهة حكياً حين يغدو تدويناً. الوصل، والقطْع، والتدوير، والبدء من النهاية، والانتهاء بالبدء، وإعادة توزيع المشهد على نحوٍ ملتوٍ، والإيهام، كلها مراتب نقْضٍ وإبرامٍ هما من عِقْد التأليف وخواصه. هما احتيالٌ يبتدعه الزمن للإيقاع بالزمن. التقنية دورةُ تخريب نبيلة للتاريخ ( القدسي ) الذي يقدم به عقل النظام الاجتماعي، ولسانه التعليمي،( حقائق ) هويته ( الطبيعية ). في( أرواح هندسية ) تتبلبل الملائكة في سعيها إلى تأكيد ( النسق الواقعي ) لزمن الإنسان بالبحث عن أربعة أيام مفقودة من حياة طفل. في ( الريش ) حلمُ ( آزاد ) هو واقع ( مم ). وما يفعله ( مم ) داخل حلم أخيه هو واقع أبيهما. وما يفعله الأب في واقعه هو إشكال التاريخ السحري: كل واحد يخلق الآخر من ضرورة حاجته إلى نصٍّ أكتبه أنا. أعلى القارئ أن يتبلبل في هذا؟ منذ متى كان( القارئ ) واقعياً واثقاً حتى التخمة من تلفيق الفكر الكسول للواقعية المغمى عليها من ثرثرة ( رُسُل ) الواقعية المنكوبة؟ تعالوا إليَّ كي يلفِّق أحدنا الآخرَ على قَدْر ( هيامه ) بالحقائق.
•*العلوم الجسورة
•*في ثلاثيتك المهمة ( الفلكيون في ثلثاء الموت ) وفي أغلب أعمالك الروائية الأخرى ثمة نزوع لشحن النص الروائي بالمعارف المتنوعة حتى لتغدو الرواية حقلاً سيميائياً يستدعي الشرح والتأويل. ما أهمية هذا الشحن المعرفي في البنية الروائية؟
-*حين ينكبُّ القارئ العربي على جيمس جويس، وبلزاك، وكونراد، ودستويفسكي، على سبيل المثال، سيتباهى في عرض علومه الثقافية، أمام الأقران، عن تعدد لا نهائي لخطاب المعرفة في سطورهم، من اللغة حتى النفسانيات، ومن اعتقال برهات ( الانعطاف التاريخي) لظواهر الواقع حتى البحث الأعمق في خصيصة ( العالم الجديد )، الجشع، وعلاقته ب( العالم القديم ) المنهوب بعبودية علاقاته الداخلية قبل أن ينهبه أحد. وفي سياق ( المنازلات ) الكبيرة هذه سيتشعب التحليل، كالمؤسسة القائمة منذ قرن على قراءة ما لا يمكن استنفاده في ( يوليسيس ). القارئ العربي هذا، المتتبع للناقد العربي الباحث في ( أساطين ) الرواية الغربية، يَنْشَدِه ب ( العلوم الجسورة ) في البلورات عند هرمان هسه، إلى الانحلال العضوي للخلية عند هنري باربوس. ومن مراتب فلسفة الزمن عند بورخيس إلى ( منابع الحدس ) في القرون الوسطى عند إمبرتو إيكو: يا للشساعة!!! حقل المعرفة مباح للحصاد في الرواية الغربية. إيتالو كالفينو سيعتبر كل عمل أدبي لا يتمتع بصفة( حقل معرفي ) عملاً سطحياً. نحن نحب إيتالو كالفينو، أليس كذلك؟ لم تكن هناك حاجة للإقتداء بتصريح لإيتالو* حتى أعرف أن استدعاء أي عنصر طبيعي هو استدعاء من عمق خصائصه، ومن عمق اللغة التي تدل عليه في خيال العلم المحيط به. للأشياء أسماء، وصور، وتاريخ، وأفكار، ومخاطبات خفية، وحروب وصيرورات من الغيب حتى المُخْتَبر. لا أستطيع تفادي تقليب النشآت المجهولة والمعلومة لكل شاردة أو واردة في كتاب لي. سأهين الوجود وأهين العدم معاً، إذ سهوتُ عن ذلك. والكتابة سلطة لا ينبغي صرفها في إهانة ما تتغذى منه، وإلا صارت سوء استخدام للسلطة: كما يفعل موظفو أممنا.
•*نسيج البسالة المحيِّرة
•*في الحوار القيِّم الذي أجرته معك مجلة ( تافوكت ) قلت بأنك ( تريد أن تكتب عن شخوص لن تلتقيهم في حياتك قط، وأن تكتب عن وقائع لن تحدث قط ) هل صادفك مثل هؤلاء الشخوص، ومثل هذه الوقائع؟ ألا تثيرك الحياة اليومية، شديدة الواقعية؟ ألم تكتب قط عن أناس واقعيين، وهل نعِّد مجمل رواياتك من نتاج المخيلة؟
-*الواقع، غني، مذهل، نسيج البسالة المحيّرة في خصائص يغذِّيها حتى الإعجاز. أنه( حدث )لا تجاريه اللغة، ولا يقاربه الوصف. و ( الواقعية ) ليست مشهداً، أو علاقة. إنها حالة ما ورائية إلى ملموس لا يتفق ذوقان في تأكيد عناصر الطعم فيه. أيعني كلامي أن لا نقترب من الواقع، أو أن لا نمحض ( الواقعية ) ثقة التأليف والتدوين؟لا.لكننا، في بساطة، نسفِّه الأمرين بالإدعاء أن العالم هو ما يقتبسه لسان الكاتب ( الواقعي ) لدعم شهوة بامتلاك المعرفة الكلية عبر بصره، وبعض أفكاره التي تتلجلج من مرحلة إلى أخرى. سأترك الواقع،و (الواقعي ) يتدبرَّان لي، باقتدارهما العاصف، ما لا يحتاجان إلى تكراره حول صفاتهما. سأتركهما حرَّين ليحرَّراني من نير الدوران حول نفسي حتى الاحتراق في التبسيط، والتلفيق، باسميهما. سأذهب لما هو لي: الشخص الذي يحرِّضني بالمجهول فيه على صوغ المجهول فيَّ، والحدث الذي يحرِّضني، ب (لا – حدوثه )،على أن شغفي هو حدوثُه في خيال كتابتي.
•*الوجود الممزَّق
•*هل تعتقد أن كتابة الرواية هي كشف للذات ( العالم الأكبر ) أم أنها كشف للوجود برمته.وأما زلت تمتحن خيالك بعد كل هذه النتاجات الراسخة التي أثريت بها المشهد الروائي العربي؟
-*الرواية ليست كشفاً عن شئ. الشعر ليس كشفاً عن شئ. عالم الذات ( الأكبر ) وعالم الكون ( الأصغر ) صفات من خطاب النظر التأويلي، والنظر السببي المعلول. لا عالم كبيراً ،أو صغيراً، هنا أو هناك. البرهة الواحدة من برهات النَّفْس، في انشغالها بتدبير اللُّحمة لما هو ممزَّق من هذا الوجود الممزَّق، هي كل شئ، من الأزل إلى الأبد. لا أعرف معنى لسياقات الكشوف، من الخيال الصوفي حتى خيال الألسنية النبيلة.لا أبحث عن كشف، بل عن المُعْضل، المُشْكل، المتمرد على فظاظات المعنى، اللامتصالح، المتحايل، المارق، المسكون، المختبل، المنغلق، المستوحد في قطيعته الإلهية مع أي تقديم للمعرفة، من فوق، إلى القارئ. ليبقَ المُعضل معضلاً، والمُشكل مشكلاً. فليتقدم معي القارئ إلى التيه. أريدُهُ جَسوراً.
•*ملابسات الخيال الفكري
•*كثيرة هي الأنساق الدلالية والعلائق اللغوية المبتكرة في نصوصك الروائية. هل أفدت من المدارس والتيارات الأدبية الأوربية الحديثة في كتابة نصوصك الروائية التي لا تنتمي إلى الأفق السائد، بل تتقاطع معه، وتنبو عنه كثيراً؟
-*لم يحصل في حدود قراءاتي غير الكثيرة، أنني عثرت في النقد العربي للرواية سؤالاً يضع اللغة الروائية العربية على محك. كل الذي يتداوله، بسذاجة لا مثيل لها، هو سطر واحد: ( هل لغة الحوارات بسيطة واقعية، أم صعبة متكلِّفة؟ ). لا محاكمة لطبائع السرد، ومراتب الوصف، وملابسات الخيال الفكري، أفلسفة كان أم تأملاً وجدانياً؟، أم تحليلاً للعلائق وتأويلاً للظواهر في المشهد النفساني والطبيعي. أعترف،بأسى، أنني لستُ ممن يقرأون الأدب بلغات أخرى. أقرأُ الترجمات. وبالرغم من التفاوت الهائل في مراتب الترجمة نفسها أستطيع، بحدس ما، أن أعيد صوغ التقنية اللغوية للذين أجد لغتهم خيالاً من عواصف المعرفة، في الرواية، من هرمان ملفيل إلى بورخيس، ومن وليم فوكنر إلى توماس مان،ومن دانتي إلى رابليه، ومن شارلوت برونتي إلى فرجينيا وولف، ومن الإيطاليين كالفينو إلى ميشيما، ومن كازانتزاكيس إلى أوستورياس.هنالك كثيرون في السياق الذي يجعلهم كتَّاباً على صرامة* (أسلوبيتهم )، يدفعون السرد، باللغة عمودياً، حتى حُمَمَة البركان. ذلك ما لا يوجد في تاريخ الرواية العربية، المستأثرة بالقصِّ على عواهن الكلام المستوفي قصدَهُ الإخياري، أو بإضافة بعض الإنشاء المصكوك بالتلقين، كأنَّ اللغة، في ذاتها،واسطة إلى محاكاة الحركة في الحيِّز، أمام البصر، فيما تُعفى من مهمتها كمعرفة تبتكر، بالمحوِ المتكرر، تاريخاً إضافياً للمعنى.قطعاً، يوجد روائيون جدد جيدون في العربية، وهم من جيلي. لم أجد في السابقين ما أنتمي إليه خيالاً أو لغة، لم أجد همَّاً هناك، لم أجد امتحاناً أم نكبة، لم أجد امتلاءً أو فراغاً.
•*الإلغاء بالتجاهل
•*روايتك لا تمنح نفسها بسهولة في القراءة الأولى، لصعوبتها، وتلونها، واغترافها من حقول معرفية عديدة، فالثيمة الأساسية تتوامض بين السطور، ومن الصعب الإمساك ببؤرتها. هل تعتقد أن هذه الصعوبة هي السبب الأساس في خلق هذه القطيعة بينك وبين النقاد؟
-*تحدثتُ عن تشُّق النقاد العرب باستعارة السطور من لوكاتش، وباختين، وبارت ربما. والظاهر لي، ولغيري، في سنين انقراض النقد المتخصص هذه، أن الوافدين من أنقاض ( الواقعيات ) النظرية، ( يسندون ) مباحثهم بأسماء الأساطين الكبار، دستويفسكي، غوغول، جويس، كونراد، كافكا، هنري جيمس، توماس مان أسماء يستعرضونها في السطور كتلاميذ إتقنوا حفظ الدرس حرفياً. لكنهم ، في تطبيق، ( معارفهم ) البائسة على نص يخرج على سياق المُعطى المنكود، السهل الكسول، يتبلبلون، فيتجاهلون النص. ذلك أسلم السُّبل: الإلغاء بالتجاهل، والمحو بالإهمال، والإعدام بالاستنكار.
-**هل نستطيع أن نفتح كوّة صغيرة لنطل من خلالها على بالون خيالك السحري الذي يتنّقل بين مضارب الكرد التي امتدت من مهاباد شرقاً حتى سوريا غرباً، ومن أقصى العذاب الكردي شمالاَ، حتى أقصى الفجائع جنوباً؟ ما الذي لم يفصح عنه سليم بركات في هذا الشأن حتى الآن؟
-*أنا، نفسي، لا أعرف مدخلاً إلى خيالي. أنه امتحاني حتى الموت، لكنني ألمح ما يعرضه الوجودُ عليه من صورته كعدم، في الفاصل الذي مصيراً، وألمحُ الكرد يقودونه كقطيع ضأن إلى مراعي النكبات. صمت لا أخلاقي يحيط بمصائر الكرد. والصمت العربي هو الأكثر ضراوة. لا أشحذ خيالي على هذا المبرد. خيالٌ جُرْحٌ يستلهم البسيطَ ذا التاريخ المفرط في تعقيده.
•*توصيف الفاجع
•*في رواية ( أنقاض الأزل الثاني ) يموت الهاربون أو الغرباء الخمسة الذين يغادرون جمهورية مهاباد المفجوعة، لكن موتهم كان موتاً درامياً مروّعاً، هل أردت لموتهم أن يكون معادلاً موضوعياً لموت مهاباد الرمزي والمؤقت؟
-*ليس الفاجع مقتل خمسة أكراد، في سياق ( إعدام ) جمهورية بأكملها، بل تلك المطاردة، بإصرار، لكردي يحلم بكونه كردياً. من ( مهاباد ) إلى ( حلبجة ) نزيف واحد في المشهد، ومكافآت القتل تتوالى بسخاء على القاتل. لن أسترسل في توصيف الفاجع، المعادل لميتات رمزية أو واقعية. كل الدول المحيطة بكردستان، تتلمس في ذبحها الحلال، رقبة الكردي، وتاريخ الكردي، وأسماء آبائه وأحفاده، كأنه طفرة لم يكن حرياً بحقائق الطبيعة أن تُنشئه على مثال شعب ووجدان.
*الكاتب في سطور
•*من مواليد 1951 القامشلي/ سوريا.
•* في الشعر:
-*كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً.
-*هكذا أبعثر موسيسانا.
-*للغبار، لشمدين،لأدوار الفريسة وأدوار الممالك.
-* الجمرات.
-*الكراكي.
-* بالشِّباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح.
-**** الديوان ( الأعمال الشعرية الكاملة ).
-* البازيار.
-* طيش الياقوت.
-* المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف وغيرها.
•*في الرواية والسيرة الذاتية:
-*الجندب الحديدي.
-*فقهاء الظلام.
-* هاته عالياً، هاتِ النَّفر على آخره.
-* أرواح هندسية.
-* الريش.
-* معسكرات الأبد.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت:عبور البشروش.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت: الكون.
-* الفلكيون في ثلثاء الموت: كبد ميلاؤس.
-* أنقاض الأزل الثاني.

قديم 02-23-2016, 03:15 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
«سوريا» سليم بركات
يوسف بزي

على امتداد 147 صفحة بالتمام، تحتشد الصرخة العالية أو النشيد الهادر، العريض الصوت والعبارة والنبرة، لقصيدة سليم بركات «سوريا»، التي طبعتها دار «المدى» (2015)، وبالكاد كان الالتفات إليها قراءة وتداولاً حتى الآن.

منذ قراءتنا لـ»كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً» ومعها «هكذا أبعثر موسيسانا» و»للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك»، كذلك «الجمهرات» و»بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح»، بالإضافة طبعاً إلى السيرتين الساحرتين «الجندب الحديدي» (سيرة الطفولة) و»هاته عالياً، هات النفير على آخره» (سيرة الصبا)، وكلها جزء من إنتاج شعري وروائي غزير، ونحن نقرّ لسليم بركات بمكانة بارزة في حركة تطور القصيدة العربية الحديثة، خصوصاً في طورها الثاني، أي بعد ما سميّ بـ»رواد الحداثة». وأسهمت كتابات بركات على نحو جلي في تطوير لغة النثر نفسها، رواية وشعراً، موسعاً من القاموس المتداول أكثر بكثير من معظم الشعراء الذين ادعوا ذلك، متجاوزاً بقوة فائقة الإرث المتداول للشعر الحديث. حتى أن محمود درويش يعترف: «بذلت جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات»، فيما ذهب سعدي يوسف للقول:» إنه أعظم كردي ظهر بعد صلاح الدين الأيوبي».

ما من شاعر حديث (بالعربية) على هذا القدر من التمكن لغة واشتقاقاً ونحتاً وكسراً وبناء في العبارة ومعناها، وفي ابتداع خيال من اللفظ نفسه، من داخله، إذ يشحن كل كلمة بطاقة تخييلية، قادرة على رسم عوالم وعلاقات بين المعاني والصور، لم تنوجد قبل أن يجترحها هو.

منذ البداية كان نص بركات قائماً على الثأر. ثأر من النفس ومن التاريخ والجغرافيا واللغة والقهر السياسي والجهل الديني.. ثأر مشحون بالنقمة والغضب، سيحيل كل ما يكتبه إلى نصوص من حمم لاهبة، مضيئة بحرارتها واشتعالها وشظاياها الحارقة.

كل أرض الريف وحيواته وكائناته وأشيائه وبشره، كل كثافة المدن وهندساتها ومعالمها وسراديبها وحيواتها المحتشدة، كل الكتب والقواميس والحكايات والأساطير والموروث الشفهي والمدون، المنسي منه والمتداول، الغائر في الماضي والعائم الآن، كل الأصوات والصور التي تحوم في الأمكنة وتخترق النظر والنفس.. كل المشاهد والمشاعر والأفعال، الرفيعة والوضيعة، وكل الرواسب الخفية والآثار الظاهرة في الوجوه والأجساد والذاكرة، وما لا ننتبه له وما نهمله وما نعاينه عابراً أو ساكناً.. ما نذكره هنا أو سهونا عنه، هو مادة سليم بركات، إذ يمسك بها ويغزلها خيطاً مديداً نكاد نظنه لانهائياً. يقبض عليها ويبتلعها قبل أن «تنفجر» نشيداً ملحمياً عاصفاً ومدمراً، كثأر شامل من العالم واللغة، كبيان قيامة.

هنا، في قصيدة «سوريا»، يتدفق بركات سيلاً جارفاً من الغضب، يتجدد فيه هذا التوق لقول الفجيعة، لابتلاع المأساة والتماهي مع عذابات الضحايا، للثأر لهم ببلاغة الصرخة ومداها الشاسع. وسليم بركات يعود هنا بجرعة عاطفية عالية، يكتب بنسغ الألم، وبتفنن أقل مما كان عليه في كتبه الأخيرة. إنه الآن مباشرة في لجة الانفعال، متدفقاً بتلقائية، بحسبان أقل للشعرية وبانقياد أكثر إلى التصريح. لذا، ستكون «سوريا» واحدة من أشد قصائده تأثيراً، بوصفها «إنجازاً» في زمن الثورة السورية وعنها ونكبتها. هي المرشحة لتكون النص الشعري المرجع، في «قول» سوريا ما بعد العام 2011.

تنتصب القصيدة كلها على كلمة مفتاحية «أيها البلد». ومن هذه المخاطبة التي تمتزج فيها نبرتا الحب والمرارة، ينطلق هذا النشيد المرثية، كتدوين للمحرقة، كشهادة أخيرة على النهاية. لكنها أيضاً هي عودة مظفرة إلى القصيدة السياسية، التي كان هجرانها مبرراً في العقود الأخيرة، بعد وقوعها في التبشير والدعاية واليقين «الملتزم»، وها هي اليوم أشبه بالواجب الأخلاقي على الشعراء، بل هي التي تمنح مشروعية الكتابة ومعناها، في لحظة «خيانات المثقفين» الموصوفة، وانكشافهم كرديف خبيث لأيديولوجيا الإستبداد وخطابه.

تبدو قراءة «سوريا» مدوخة، ركضاً لاهثاً في أرض وعرة، افتتاناً لا يتوقف، هو عينه افتتان بركات ببراعته وبقدرته على الخطف والاستحواذ: «... خُذها الحرب الناعسة طولاً. خذ يد الشجاع المنكوب بظلم سلاحه، أيها البلد. خذ الشّيع الهمج، وانتصارات المحنة زلّات على ألسنة السبي فصيحاً. خذها مني: انحلال السماء. لا آلهة إلا آلهة الصرخة. لا سوى الغريب الجسارة في النحر، لا سوى الغريب وكيلاً في نقل المدن حطاماً إلى الآلهة الحطام. المآذن الدخيلة. القلوب الدخيلة. المستعمرات المراقد جوفاً، والفتاوى المستعمرات. السماء الدخيلة، أيها البلد. الذهب المنحور. الغيوم المنحورة، أيها البلد. محاكاة الطرق للمذابح، محاكاة القتلى للقتلى، والموتى للموت، والبساتين المهجورة للبساتين المهجورة. محاكاة الدوي المذهل للشكران يرفعه العدم مضطرباً في التوضيح، أيها البلد...».

في «سوريا» سليم بركات، الشعر يسترد لسانه.

قديم 02-23-2016, 03:24 PM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
سليم بركات والمشروع الروائي المديد: امتزاج الوثيقة بالعجيب، والواقع بالفانتازيا، والتاريخ بالحلم
صبحي حديدي* - باريس
s.hadidi@libertysurf.fr
صبحي حديدي (albawaba)

في العام 2001 صدرت "الأختام والسديم"، رواية سليم بركات الثامنة. و إذا احتسبنا في عداد النوع الروائي العملين المكرّسين للسيرة، أي "الجندب الحديدي" (الطبعة الأولى 1980 وهي سيرة الطفولة) و"هاته عالياً، هات النفير على آخره" (1982 وهي سيرة الصبا)، فإنّ الحصيلة تصبح عشرة أعمال نثرية – سردية، مقابل عشرة أعمال شعرية (أوّلها "كلّ داخل سيهتف لأجلي، وكلّ خارج أيضاً"، 1973، وآخرها "المثاقيل"، 2000).
وسليم بركات شاعر أساساً، أو هو شاعر أوّلاً في ظنّ كاتب هذه السطور، ولكنّ أعماله تتساوى – وكانت قبل صدور مجموعة "المثاقيل" تتفوّق على – أعماله الشعرية، بالمعنى الكمّي في الأقل ّ(1). أمّا بالمعنى النوعي، فقد لاح أنّ انكبابه على الخيار الروائي أخذ يتكامل في "مشروع" روائي مديد، يستأثر بالكثير من طاقات بركات الإبداعية، ويستحوذ على الكثير من ترسانة اللغة الرفيعة الفريدة التي تميّز بها الشاعر على الدوام، ولعله سوف يكون قميناً بإزاحة الخيار الشعري إلى الصفّ الثاني.
وإذا كان خيار كهذا من حقّ بركات، وأيّ مبدع متعدد الأجناس في الواقع، فإنّ ممارسة هذا الحقّ على النحو الراهن لا تحول دون بروز مقدار من "التنازع" في استقبال النصوص الشعرية والنصوص الروائية، لجهة القارىء هذه المرّة، أو لجهة ذلك القارىء الذي توسّل إبداع بركات في الشعر أوّلاً وعلى وجه التحديد.

ذاكرة "الجزيرة"

وبينما كان مشروع بركات الشعري يسير وفق أواليات تطوّر "هادئة" نسبياً، أي أنها لا تنهض على انعطافات أسلوبية كبرى أقرب إلى الهزّات التي تقطع أكثر مما تتابع، فإنّ مشروعه الروائي كان هو الحقل الإبداعي الذي شهد مثل تلك الهزّات. وقبل رواية "أرواح هندسية"، (1987)، دارت أعمال بركات الروائية حول بعث الحياة في ركام هائل من الشخوص والحوادث الخاصة بالذاكرة الشعبية لمنطقة "الجزيرة" السورية بصفة عامة، وذاكرة مواطنيها الأكراد بصفة خاصة.
ولعلّ بركات يظلّ المتأمل الأعمق لتلك المنطقة الخصبة، بأقوامها ولغاتها وتواريخها وحكاياتها وأساطيرها، والمسجّل الأصدق (والأبرع والأذكى حتى اليوم) للخيوط الفلسفية التي تختفي وراء بساطة عوالمها الطريفة وعمق أغوارها التراجيدية في آن معاً. ولأنّ سرد الأحدوثة Episode ، ثمّ طرح الشخصية على مساحة تلك الأحدوثة باستخدام نثر تصويري مشحون، كانا يكفيان لمراكمة الإنطباعات وخلق الإيحاء الأقرب إلى الصدمة والسحر والفانتازيا، فقد نَدَر أن يهتم بركات بفحص مصادر السلوك أو تخطيط الشخصية على نحو دائري (أي على نحو درامي – اجتماعي – سيكولوجي). يُضاف إلى ذلك أنّ تزاحُم الأحداث وتعاقب الشخوص واختلاط الحدود الفاصلة بينها، كان أدعى إلى إضعاف الجوانب الإجتماعية، وأقرب إلى ترسيخ الغموض حول مصادرها وديناميات تكوينها.

"الجندب الحديدي"
ففي "الجندب الحديدي" كان توصيف بركات لذاكرة الطفولة الفردية بمثابة مدخل لتكوين المشهد الجَمْعي ودمج العناصر الحكائية (المتباعدة في المظهر، والتي سرعان ما تتواشج في العمق)، لنماذج وأنماط وحالات طريفة وعجائبية وخارقة. إنّ تفاصيل السلوك العصابي للطفل الراوي (حفر طريق عربات التبن وتمويهها لكسر قوائم بغل "سمعان"، وإيصال سلك الكهرباء بباب فرن "مرادو" فما أمسكه أحد إلا وصُعق، ودحرجة المدحلة الحجرية عن سطح البيت لتهوي على كلب "فلمز" فتصيبه بشلل نصفي...) كانت، إلى جانب طرافتها العنيفة، تقوم بتأهيب ذلك الثقل النوعي الذي يتركه سرد أحدوثات "أوسمانو" الشاب المحبط الذي تتعلّق "المسوخ اللامرئية" بدرّاجته في مكان قفر بين القرى، وجَدّته التي أسرت أحد هذه الكائنات بإبرة الخياطة فصار الكائن اللامرئي وديعاً أليفاً يضع يده على جرار السمن فتفيض وتظلّ تفيض حتى تأمره الجدّة بالتوقف، فيتوقف.
تكامُل هاتين الوظيفتين في صياغة سردية توثيقية جعل الباب مشرعاً أمام تقديم الحياة الإجتماعية كما تتجلى في جملة من أشكال النشاط الجماعي (الحصاد، التهريب، إعادة توزيع الحيازات الزراعية، الإنتاج البضاعي العائلي...). بيد أنّ هذه الأشكال ظلت ضعيفة في درجة إفصاحها عن أواليات التطور الإجتماعي – التاريخي، إذ كانت قد تحددت مسبقاً في ذلك المحور السردي من جهة، وبنثر سليم بركات الخاصّ الطاغي الذي لا يكفّ عن الضغط عليها من جهة ثانية.

"هاته عالياً"
في "هاته عالياً، هات النفير على آخره" اتخذ توصيف المصائر الفردية شكل سيرورة تفكيك وأعادة تركيب لذاكرة الأفراد الذين تقاطعوا، بهذه الصفة أو تلك، مع شبكة التحولات الكبرى التي عصفت بالبيئة الجغرافية إياها، وأفرزت بنية سيكولوجية جَمْعية مستترة تارة، ومفتوحة طوراً. ولقد تفجرت هنا وهناك في صيغة نهايات اجتماعية فاجعة هي، في المحصلة الأخيرة، مصائر تلك الانماط الأساسية ذاتها، الأمر الذي يفسّر ابتداء العمل بالهياج الجماعي الذي أعقب سماع بيان انفصال 1961 وانهيار تجربة الوحدة السورية – المصرية. وفي حلقة أشمل تنقلب الظاهرة الطبيعية (انحباس المطر، على سبيل المثال) إلى معادل جبّار يدمج المصائر الفردية بالمصائر الجماعية، ويسفر عن سيرورة رهيبة من ولادة "مزاج" جَمْعي يتواتر جيئة وذهاباً بين الذاتي والموضوعي، الخاص والعام، الحقيقة والوهم.
في "فقهاء الظلام"، (1985)، العمل الأوّل الذي يندرج في مصطلح الرواية حسب تصنيف بركات لأعماله، يتحوّل الميدان الطبيعي والبشري لمنطقة "الجزيرة" إلى منبسط درامي حاشد، يجثم على عناصره ذلك الإحساس العميق بوطأة التاريخ: تاريخ البلاد، تاريخ الأسرة المتسلسلة التي حلّت محلّ العشيرة والقوم، تاريخ الخرافة الشعبية التي استباحت الماضي حتى انقلب أساسها الأسطوري إلى منفذ تخييلي لمغالبة ذلك الماضي. الملاّ "بيناف" ينخرط في موقف عبثي يضمّ الطرافة والعجب إلى المحنة والمأزق: وليده "بيكاس" يتخطى الحاجز الزمني للعمر البشري، فهو يبلغ الثلاثين بعد سبع ساعات من ولادته، ويبلغ الأربعين عصراً، والخمسين مساءً!
وهو ينطق فور ولادته، ويخاطب والديه هكذا: "إنها محنة ستنسيانها حين تنقضي، أما أنا فلن أجد الوقت لأنساها". ويخرج الملاّ عن طوره ويكاد يجدّف – هو الشخصية الوقورة الدينية والدنيوية – حين يصرخ: "لا أريد أن لأفهم شيئاً فيما بعد ولا أريده الآن. لست معنياً بفهم هذه المحنة، فليفهمها ربّك"! وتشهد ساحة الدار، مثل البيئة بأسرها، طغيان أسطورة "بيكاس" وامتدادها المتسارع إلى جغرافية وتاريخ هذه المجموعة البشرية، فتنصهر الخرافة بالطرفة، والوثيقة بالعجيب، والوقائع بالفانتازيا، والرؤى الشعبية بالحلم الصوفي، وعادات الحياة بالكابوس.

المشهد التسجيلي المتضاعف

"أرواح هندسية"، الرواية الثانية، بدَت أقرب إلى "فقهاء الظلام" من حيث تشييدها لعمارة فانتازية ومنطق خاص يسوّغ تأرجح الخيال بصورة حرّة (في المظهر فقط، لأنها مقيّدة بقوانين صارمة في الجوهر) بين المشهد التسجيلي والأجواء السحرية. لكنها تمتاز بخصيصة الخروج من عوالم منطقة "الجزيرة" وعوالم الأكراد إجمالاً، وفي الإضعاف المقصود لطغيان اللغة ذات الأداء الشعري والمجازي العالي، وفي اختيار هيكلية سردية محكمة ذات تركيب دائري حَلَقي.

سليم بركات
وبقدر ما يبدو مكان الرواية غير المصرّح به (بيروت) وزمانها غير المدوّن (الحرب اللبنانية ونهايات الإجتياح الإسرائيلي لعام 1982، وخروج الفصائل الفلسطينية) مسلّماً بهما، بفضيلة الدلالات العديدة الصريحة، فإن اقتفاء المطابقات بين شخوص الرواية وما يمكن أن تمثله في الواقع الفعلي (داخل الساحات السياسية والإجتماعية والجغرافية والتاريخية التي تمتدّ عليها الرواية) لن يخرج عن إطار التمرين الذهني الذي لا يجدي كثيراً، خصوصاً إذا ما قُورن بحجم مزالقه وأفخاخه. وهذا إنجاز أوّل للرواية.
وبين أن تكون المدينة الكونية، الجاثمة بكل ثقلها على مناخات الرواية، حلقة جهنمية تنتظم في سلسلة متتابعة من وقائع خراب شامل قابل للحدوث هنا أو هناك، بمعظم شرطه العبثي الجوهري أساساً؛ وبين أن تكون المدينة إياها مزجاً متأنياً لجملة معاني الموت في حاضرة معاصرة واضحة المعالم ومكسوّة بلحم الحياة اليومية وبساطة / رهبة الوقائع، ينجح سليم بركات في إغلاق الهوّة الفاصلة بين مشهد تسجيلي بات مألوفاً ويرخي ظلاله على وجدان القارىء (بيروت الحرب والخراب)، وبين :توليف" فنّي للمشهد التسجيلي ذاته وقد تضاعفت فيه صُوَر المدينة حتى بات من النافل إعادتها إلى مساحة الواقع التي انتُزعت منه.
وكان لا بدّ للرواية الثالثة، "الريش"، (1990)، أن تواصل خيارات الإشتغال على مشهدية تسجيلية متضاعفة، ولكن في العودة إلى الموضوعات الكردية التي لن يغادرها سليم بركات بعدئذ. النقلة إلى الموضوع الفلسطيني في "أرواح هندسية" كانت محطة طبيعية، حتى من باب التقاط الأنفاس، ومدوّنة تسجيلية في إطار السيرة الذاتية أيضاً، قبل الغوص مجدداً في التاريخ الكردي. ولا ننسى، بالطبع، أن بركات خرج من بيروت إسوة بفصائل المقاومة الفلسطينية، وكان قد عمل مع الفلسطينيين سنوات طويلة، سواء في الميادين الثقافية (فصلية "الكرمل" ودار "العودة" مثلاً)، أو في الميدان العسكري المباشر (وهو يسجّل في "كنيسة المحارب" مذكراته عن حرب الجبل وجولات الصراع العسكري بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وأحزاب وميليشيات اليمين اللبنانية من جهة ثانية).
و"الريش" تعتمد، في البنية الهيكلية الأساسية، على سلسلة من عمليات التخييل السردي التي تتيح تحويل عدد من الشخصيات الفعلية الواقعية إلى شخصيات روائية من جانب أوّل، وتعتمد من جانب ثانٍ على زجّ هذه الشخصيات في سياقات واقعة مفصلية كبرى هي انتفاضة الكرد الأولى. الجانب الثالث، الذي يشكّل محور التنقّل الحرّ في الزمان والمكان، هو الراوي الذي يقيم في قبرص، ومنها يسرد ويستعيد ويعيد إنتاج وقائع الماضي (ولا ننسى، هنا أيضاً، أنّ بركات خرج من بيروت إلى قبرص، وأقام فيها طويلاً قبل أن يضطرّ إلى مغادرتها إلى السويد، حيث يقيم الآن).
ومنذ الصفحة الأولى يسعى بركات إلى تثبيت استراتيجيات التسجيل المتضاعف عن طريق "حيلة" عتيقة تُستخدم غالباً في الروايات ذات الطابع التاريخي (ولكنه يجددها على نحو بارع)، هي عرض لائحة الشخوص الصانعة للرواية: إلى جانب الراوي الشاب "مَمْ بن حمدي آزاد"، ثمة والده "حمدي آزاد" بائع القماش، و"الرجل الكبير" (الذي لا يظهر في الرواية!)، و"رجل ذو يدٍ كالجناح"، و"أحمد كليم" الصياد، و"دينو" توأم "مم"، وبنات حمدي آزاد (هيفين، لات، عيشانة، رحيمة، روهات، هيلين) و"كسبو" زوجته، و"شيرو بابان" صاحب الحصادات، و"جبّور مرقص" السرياني وجار العائلة، وسواهم.
هذا في مستوى الشخصيات الروائية، التي تتقاطع – دون أن تتلاقى بالضرورة – مع الشخصيات الفعلية الواقعية: "الملاّ سليم البدليسي" صاحب ثورة مغدورة، و"الشيخ محمد سعيد النقشبندي" قائد انتفاضة الكرد الأولى، و"حسين مقرياني" صاحب أوّل مطبعة كردية، و"أحمد خاني" الشاعر الكردي الكلاسيكي ومؤلف مأساة "مم وزين"، و"القاضي محمد" رئيس الجمهورية الكردية الأولى، و"اسماعيل سمكو" الآغا. وأمّا في مستوى المشهدية الجغرافية والعناصر الطبيعية، فإنّ لائحة بركات تتضمن التالي: كردستان، ثلاث شجيرات ورد، شجيرة فلفل ذابلة، طائران ذوا قنزعتين، قبر غير مكتمل، مهاباد (البلدة التي أُطلق اسمها على أوّل جمهورية كردية في العام 1946)، مذياع جديد، شجرتا كينا، أقمشة، أسرّة خشبية ضخمة، حصان أسود، حصادات آلية، بنات آوى، نهر، مستشفى، حقول، سماء، ريح، مصائر، مطر، وثرثرات...
هذه، بالطبع، ليست اللائحة الكاملة للشخوص والشخصيات والعناصر والمواقع، الفعلية الواقعية أو التخييلية المجازية، الصانعة للرواية. وليست اللائحة التي يقترحها بركات في مستهلّ الرواية سوى "تمرين" افتتاحي يقوم بتهيئة القارىء لعشرات الجولات القادمة التي يمتزج فيها العجائبي بالطبيعي، والتسجيلي بالإفتراضي، واللغة الإستعارية الرمزية باللغة الخطابية التقريرية. ففي الفصل الواحد ذاته نشهد حواراً فلسفياً ورمزياً وشاعرياً بين "حمدي آزاد" والنحل أو زوجته "كسبو" والحقل، ونشهد القاضي محمد يلقي خطبة سياسية، يقول عنها بركات ما يلي:

"كانت خطبة القاضي محمد، ببلاغتها الكردية، وسط حشد يعرف الروسية، والتركية الأذربيجانية، وفي حضور اللجنة المركزية لحزب كردستان الديمراطي، مشمولة برضا موسكو، لذلك شدّد الرجل على أواصر الأخوة الكردية – الأذربيجانية في تلك المنطقة، حيث النزاعات المختبئة تحت غطاء الوجود السوفييتي تكاد تطلّ برأسها. والواقع أن جمهورية أذربيجانية، ذات حكم ذاتي، كانت تنافس جمهورية "مهاباد" على الأرض، وتتداخل قرى الجانبين ومسالكهم بعضاً في بعض. أما الفارق الفكري فكان أساساً بين الجمهوريتين، ففي حين تسلّم الشيوعيون حكم أذربيجان إيران، بمساندة المهاجرين من أذربيجان السوفييتية، بطموحات اشتراكية كبرى، لم يكن أكراد جمهورية "مهاباد" غير قبليين دينيين، وقد ساءهم أن ينشر الأذربيجانيون الحمر – وهم بقايا حزب "تودة" الذي تحوّل إلى "حزب أذربيجان الديمقراطي" – المخبرين والشرطة السرية في كلّ مكان، ليضمنوا "عدم عرقلة الرجعيين للمدّ الجماهيري". وبالطبع لم تمض أيام على قيام الجمهورية الكردية، برغم تطمينات "القاضي محمد" أن الأمور على ما يرام، حتى خرج النزاع بين الشعبين إلى العلن... (ص 173).

- للبحث صلة


(*) ناقد من سورية يقيم في باريس


-----------------
(1) كنت قد عالجت هذه المسألة، وإن على نحو تطبيقي مختلف، في مقالة بعنوان "سليم بركات والحاجة إلى حصيلة قياس زمني وأسلوبي"، "القدس العربي"، 18/11/1998.

قديم 02-25-2016, 11:16 AM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

سليم بركات، العاشق والقطب الكبير
أحمد الحسيني
(سوريا)

في تاريخ الآداب العالمية، ثمت نجوم ساطعة على شعوبها أبدا، وثمة رموز استطاعت من خلال قدراتها على الخلق والابتكار ومن خلال وعيها الفردي العميق أن تشكل وجدان ونبض تاريخ شعوبها. تلك الرموز تحلم، تتأمل، وتعشق أيضاً. وتكتب كتابة لكل زمان ومكان. هؤلاء الى جانب انتمائهم الى هوية قومية وجغرافية وطنية يظلون في نهاية الأمر منتمين الى هوية أشمل وأعمق وأقصد بذلك هوية الإبداع.
هؤلاء المواطنون في مملكة الإبداع، يسعون بدأب الى اكتشاف جوهر الذات الإنسانية ويحفرون في جسد الكون بحثاً عن الحقيقة وحين يؤسسون لمبادئ في الفكر والمعرفة، يخففون عن كاهلنا وطأة الزمن ويمنحون حضورنا قي هذا العالم الكثير من الدفء والأمان. أنهم وباختصار لا يتركوننا وحيدين مع أسئلتنا.
و سليم بركات، العاشق أو القطب، الى جانب انتمائه الأصيل الى مملكة الإبداع، كان ولا زال وسيظل نجمة من الذهب على الكرد؟ هو أكثر من ذلك بكثير.
في الأدب العربي هناك القطب الأكبر، الشيخ الأكبر: محي الدين بن عربي وسليله ادونيس. الإنكليز عندهم شكسبير، السويديون عندهم سترنبرغ و غونار إيكلوف، الأسبان عندهم سرفانتس، والروس عندهم دستوفسكي، التشيك عندهم كونديرا، الطليان عندهم امبرتو إيكو، والكرد عندهم سليم بركات. الميدالية الأكثر لمعاناً وجدارة على صدر الكرد وثقافته الحديثة.
وأجمعهم، ملّكٌ للإنسانية كلها، أجمعهم كنوزها التي في البريق، مثل النجوم.
سليم بركات هو القطب الكردي الكبير، مع ملاي جزيري الذي سبقه بمئات السنين، في دمهما تجري روح العاشق.
لماذا العاشق أو القطب، لأنهما وحدهما يفعلان، ما يفعله سليم بركات.
منذ ثلاثين عاماً يكتب روح الكردي ونحاسه بلغة صارمة ونزقة لا تليق إلا بالملحمة المأساوية للشعب الكردي. لم يستخدم المشهد الكردي في إبداعه كمادة استهلاكية كما يفعل الكثير من كتاب الكردية كي يكسبوا العاطفة السطحية والتضامن المؤقت من القارئ. إنما الكرد في إبداعه، يتواجد دائماً في الموقع الأكثر دوياً للكلمة وفي المتراس الأكثر خطورة للتعبير.
يحفر بعيداً في دهاليز الذاكرة الكردية وبخياله الأسطوري الوقاد ينفذ الى جسد التاريخ الكردي القريب والبعيد، ليجعل لنا من كل أسطورة حقيقة ومن كل حكاية فرصة تأمل ممتعة، ومن كل حدث مشجباً نعلق عليه دهشتنا. كل ذلك بجسارة فانتازية مذهلة تؤمن بأنه على الإبداع الحقيقي أن ينميّ ذوق القارئ ويطور وعيه وملكاته وفهمه لأسرار الوجود.
وككردي، ودون أي تردد، أؤمن بأن التجربة الإبداعية للقطب سليم بركات هي المشروع الثقافي والحضاري والمعرفي الوحيد التي ستؤهل الكرد للدخول الى الألفية الثالثة، المشروع الذي سيوقظ العالم على روح الكردي، كي يعود مثل طائر الفينيق من رماده ويحصل، بعد كل هذا الموت بالخردل، على شرعية انتماءه الى حضارة هذه القرية الكونية.
لكن لماذا حياة الكبار دائما صعبة وملآى بالعذاب؟
هكذا رأيت في حياة سليم بركات.. المنفي من القامشلي الى دمشق، ومن دمشق الى بيروت، ومن بيروت الى نيقوسيا ومنها الى ستوكهولم التي لم تدرك حتى الآن بأنها تستضيف مؤسس مذهب جديد في الشعر والرواية باللغة العربية وأستاذ بدون منازع للرواية الكردية كما يقول الروائي الكردي بافي نازي، كما أنها أي ستوكهولم ستظل فترة طويلة كي تعرف بأنها تستضيف أكثر الحراس أماناً لثلجها ولإيقاع شتاءها الطويل.
ومع ذلك فعل ما يفعله العاشق أو القطب.
الأدب المؤسس، المكوِّن، هو المتفرد والمتسلط أيضاً، كل سطر فيه جديد، مبتكر، عاصف: لغة، مخيّلة، مكاناً، عذاباً، أشخاصاً وقصص حب، وقد دأب سليم بركات هكذا منذ أولى سطوره قبل ثلاثين عاماً الى اللحظة هذه وهو جالس بيننا.
كتب سليم بركات أكثر من عشرين كتاباً، ما بين قصص الأطفال والسيرة الذاتية والرواية والشعر، وفي كل كتاب كان يقوض، ويزيل، ثم يبني بناء لا يشبه بناء أحد سوى نفسه.
من أين كل هذه المخيلة؟
أهي صلصال إنساني شامل؟ أم روح الكرد في الإبداع؟ في الظن هما الاثنان مضافاً إليهما عبقرية سليم بركات المتقدة مثل الحياة نفسها.
في شعره أسس لغة صعبة، وعرة، فيها من الغناء والملحمة والحساسية والانفجار والعذاب ايضاً الشئ الكثير، وهو في كل نص شعري يذهل قارئه ويدفعه الى التساؤل، من أين تأتت له مقدرة الخلق المستمر!
في رواياته كذلك والتي يستحضر فيها مكانه الكردي مشفوعاً بمكان إنساني عميم، فيه من السحر والذكاء الخارق، يجعل القارئ في السؤال مرة ثانية، والحيرة: أمن المعقول كل هذا الفيض الإبداعي؟
في السيرتان هو كذلك.
في حوار مع الروائي والقاص الكردي بافي نازي الذي عاش لسنوات في استوكهولم والمقيم الآن في موسكو، يقول سليم بركات هو أستاذ الرواية الكردية بكل امتياز.
وأقول هو العاشق وهو القطب، فلولا وجود هاتين الصفتين فيه، لما استطاع أن يخلق ويؤسس. هو مثل طاغية يترك أثرا يدوم طويلاً
.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي) عبدالله علي باسودان منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 02-04-2016 08:49 AM
ما الذي يصنع القائد العسكري الفذ؟؟!! دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 108 12-09-2015 01:17 PM
فرويد العبقري الواهم فارس كمال محمد منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 2 06-29-2014 10:02 PM
النحو العربي - إبراهيم بركات د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 05-29-2014 10:40 PM
رحبوا بالأديب والفنان التشكيلي الشاعر عمر مصلح فاطمة جلال المقهى 18 09-10-2013 12:42 AM

الساعة الآن 05:25 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.