قديم 03-07-2011, 12:35 AM
المشاركة 31
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(10)


اليوم صرت طفلا .. أو على الأصح عدت طفلا ..كما كنت منذ الأزل .. هل كان القرار قراري ؟ لا أدري ، ولكني وجدت نفسي ألهو و أرتع هنا و هناك .. ألملم أشيائي الخاصة .. وأقطف باقات ورد حين أشتهي ذلك .. أو أقذف بالحجر بعيدا حتى يتوارى عن ناظري أو أرمي به على سطح الغدير لينط مرات ومرات قبل أن يهبط و يستقر في قعره ..
استطابت نفسي هذا التحول المفاجئ ، وكان لا بد لي أن أبحث عنك كما اعتدت على ذلك في كل ضحى لنخرج سويا ممسكين بيدي بعضنا البعض .. نتحدث دون رقيب أو حسيب في داخلنا .. حين أغضب فإني لا أواري غضبي ، وحين تزعجك تصرفاتي تعبسين في وجهي وتنصرفين غير مكترثة ببقائي وحيدا .. لم يتنازل أي منا عن أنانيته الطفولية ، لكننا سرعان ما كنا نهدي بعضنا البعض أحلى و أجمل ما وقعت عليه أيدينا .. هل تذكرين كم باقة ورد أهديتك وكم إكليل زهر وضعته تاجا على رأسك أو طوقت به عنقك ؟
صرت شقيا كما كنت ، بل أكثر شقاوة من ذي قبل .. وزادت مشاكساتي لك بقدر ما كنت تتدللين و تثيرين غضبي بتصرفات ربما هي غريزة في الأنثى . كنت تغيبين في الوقت الذي كنت أبحث عنك متلهفا .. وكنت تظهرين دون أن يبدو عليك شيئا ينم عن لهفتك .. بينما أنا أتحرق شوقا لرؤيتك .. لكنك في المقابل كثيرا ما تأخذك نوبة من البكاء وعلى حين غرة ، فأفاجأ بك تلقين ما بيدك أرضا وتولين الأدبار ثم تهرولين لا تلوين على شيء .. فأغتم لذلك ، و أظل أنتظر إطلالتك من جديد حتى تقبلين علي ، ربما بعد يوم أو يومين مبتسمة مشرقة و كأن شيئا لم يكن .
أنا الآن أنظر إليك من عشي .. تلتقطين بعض الأعشاب الجافة لنرمم بها أعشاش العصافير التي تضررت من الرياح العاتية التي هبت أمس .. أراقبك تنحين و خصلات شعرك تحجب الرؤية عن وجهك فتلوحين بها إلى الوراء .. يعجبني فيك ذاك الوجه الطفولي المشاكس .. عيناك أيضا تنطقان بشقاوتك .. لم أعرف قط كلمة حب .. ولم يذكرها لساني لأنني بكل بساطة لا أعرفه .. أو على الأقل لا أعرف هذا المصطلح .. قد أكون متلهفا إليك كلما غبت أو حضرت .. وقد آخذ بيديك وأنا في قمة سعادتي لأذرع بك هذه الربى ..وحتى حين أقطف لك وردة ، فإني لا أفعل ذلك سوى لأنك تحبين الورود و تسعدين بإهدائي لها إياك ..
ألا ترين أننا نتحكم في كل شيء يخصنا ؟ .. نعدو حين نريد .. نجلس لاهثين حين يجد في الجلوس متعة .. نلتقي متى شئنا .. نفترق متى رأينا أنه علينا أن نفترق .. نلتقي في الصباح لأجدك في انتظاري أو العكس .. حتى أحلامنا ، ربما كانت تغوص في الليل على سجيتها .. فألتقي بك وأعيد صخب النهار و عربدة الضحى و تأملات المساء ونحن على ضفة الغدير الساكن في تأملاته مثلنا .
لا أحد يمنعنا من التحدث طويلا عبر شباك نافذتينا .. حقا ، هناك زجر لكي نخلد إلى الراحة و نستعد للذهاب إلى المدرسة في الصباح الباكر .. فنظل نهمس حذرين ، ونكتم بين الفينة و الأخرى ضحكاتنا حين نتذكر شيئا مر بنا أثناء النهار .. أذكرك بالعجل الذي وخزته بإبرة فانطلق يخور عبر الحقول و صاحبه يتوعد بالويل و الثبور من تسبب في ذلك ، و أنت منبهرة بما فعلته .. كنت أستلذ أن أبدو أمامك رجلا بكل معنى الكلمة .. ثم تذكرينني بالهرة التي وضعت في قوائمها حناء و بالدجاجة التي ألبستها قبعة صغيرة حتى غطت عينيها و حجبت عنها الرؤية فلم تعد ترى طريقها . ثم نتساءل متى سنخرج إلى المدرسة في ذلك اليوم الخريفي الزاهي .. وهل سنتمكن من الجلوس جنبا إلى جنب مثل العام الماضي .. لا أنسى يوم فرق بيننا المدرس لأننا سهونا عن الدرس و أخذنا نتحدث عن جني البلوط ..كم كان ذلك التفريق بيننا قاسيا علي حتى كدت أبكي لأنني لا استوعب درسا إلا و أنت بجانبي .
أنتظر الصباح بكل شغف رغم أنني هنا من نافذتي أسمع همسك الضاحك و أفهم إشاراتك .. تلوحين لي مودعة فأعلم أنك تعبت ..
الطريق إلى المدرسة ممتع .. نجري هنا و هناك .. نلتقط بعض الحصى دون أن نعرف ماذا نفعل بها .. أو نتسلق أغصان شجرة صغيرة ، ونشرب من منبع في الطريق وأرش عليك الماء بحفنة من يدي فتولولين وتاخذين أنت أيضا حفنة منه وتظلين تلاحقينني حتى تفرغ راحتك من الماء .. ثم نصل إلى الجسر لنعبر فوق النهر .. أحدثك عنه كما حدثتني جدتي التي تهديني كل ليلة حكاية دون أن أسمعها إلى النهاية .. لكني أتلذذ بالبداية المعتادة : - سالتك .. فأجيب بحماس .. " سال لا تخاف " .. فتبدأ الحكاية .
مرة واحدة استطعت مغالبة النعاس حتى النهاية .. كانت الحكاية لأميرة اغتسلت عند المنبع ، وحين أتى أخوها الأمير ليشرب حصانه ، علقت شعرتها بأسنانه ، فأقسم على أن يتزوج الفتاة صاحبة الشعرة .. وحين علمت الأميرة بقرار أخيها هربت وجلست على صخرة وطلبت منها أن تعلو بينما أهلها يترجونها أن تعود ، فتجيب أباها أولا :
في الأول كنت أبي
و الآن ستصير حماي
اعلي بي يا حجرة
فتصير الحجرة صخرة ثم تلا ، إلى أن تتحول إلى جبل .. ويتقدم كل فرد من أفراد أسرتها يستعطفها كي تنزل فتعيد قولتها كل حسب قرابته لها ..
وحين تقترب الحكاية من نهايتها أسمع جدتي تقول :" وفي الطريق .. اشتريت حلوى .. وهي تذوب .. وتذوب .. وتذوب .. حتى صار كل شيء كذوب .( كذب ).
أذكر يوما أنك طلبت مني أن أروي لك هذه الحكاية لكثرة ما حدثتك عنها .. وحين وصلت إلى ذكر الحلوى .. كنت قد وضعت رأسك على كتفي و نمت وضفيرتك مدلاة على صدري.. كم كنت جميلة في ذلك اليوم و نحن جالسان قرب النهر .. ربما شعرت بشيء غريب نحوك دون أن أدري ما هو ..
سأبقى طفلا مادمت تدلينني وتشبعين غروري .. وستبقى الطفولة سمتي ما دمت تصفحين عن زلاتي وتقابلين إساءتي بابتسامة و رحابة صدر ..
سأكبر يوما ما .. لكني سأبقى طفلا .. فكوني أبدا طفلة ودعي طفولتك تسكنك مثلي ..

قديم 07-22-2011, 04:15 AM
المشاركة 32
رشيد الميموني
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(11)



قضيت اليوم في تعهد عشي بما يلزمه من عناية ، ثم نزلت أتمشى قليلا شارد الفكر حتى وصلت الغدير .. جلست على ضفته .. كانت هناك ضفدعة تراقبني بعينين جامدتين .. كنت على وشك أن أبدأ برمي الحصى على سطح الماء الراكد كعادتي ، لكنني عدلت عن ذلك خشية إزعاج الضفدعة الجاثمة على حجر بجانب الغدير .. لم يكن في الجو ما يشي بالجديد .. سكون تام ورتيب لكنه يسري في النفس فيكسبها حبورا و متعة ..

لبثت على تلك الحالة إلى أن شد انتباهي رفرفة أجنحة أتية من ناحية شجرتي الكبيرة .. هل يكون عصفوري عاد مع رفيقته ؟ .. خفق قلبي بعنف فرحا و لهفة لرؤيتهما قرب عشي ، ونهضت مسرعا لأتسلق الدوحة بخفة .. وهناك في أحضان العش المقابل كانت عصفورتي مستلقية في وهن .. حسبت أن إطلالتي عليها ستجعلها تطير .. لكنها ظلت هناك تنظر إلي .. في عينيها ألم أحس به .. مددت يدي نحوها بحذر فلم تتحرك . وضعتها في كفي ، فإذا بريشها يصبغ يدي بلون قاني ..

هكذا إذن .. عصفورتي جريحة .. وعودتها لعشها كانت فقط لتبتعد فرارا ممن آذاها و التماسا لمكان آمن تتألم فيه بكل هدوء .. لكن .. ألا تكون هذه العودة من وحي غريزتها الحيوانية لتلتجئ إلي ؟ .. هل كان إطعامي لها بداية للاستئناس و الثقة بي .. إذا كان كذلك ، فما أسعدني به .. و علي أن أعتني بعصفورتي و اتعهدها بالرعايةو الاهتمام ..

عصفورتي .. لا تبالي . أعرف أنك تألمت كثيرا من جرحك هذا .. آه لو أعرف فقط من فعل بك هذا .. لكن لا يهم . أنت الآن معي و في حمايتي .. لن تصل إليك يد آثمة بعد الآن .. سأعالج جرحك وستعودين كما كنت .. دعيني أنظر أين موقع جرحك .. ياللقساة وغلاظ القلوب .. كم هوغائر جرحك تحت هذا الجناح الصغير .. الحمد لله أن هذا الجناح لم يصب وإلا لكنت الآن طريحة الأرض ولعبثت بك أيدي العابثين .. طيب انتظريني هنا يا عصفورتي ولا تخافي .. سأعود إليك بعد قليل .. ماذا ؟ ما معنى هذه النظرة المفعمة رجاء و توسلا .. لاتريدين تركك لوحدك ؟ .. حسنا ، سآخذك معي .

كنت أهمهم و أنا في طريقي إلى المنزل لجلب ما يلزم من دواء .. ولم أتمالك من تقبيل عصفورتي المرتجفة في راحتي .. أحسست بخوف كبير وتساءلت : هل تموت عصفورتي ؟

طردت عن ذهني تلك الأفكار السوداء وعدت إلى عشي بعد أن ضمدت جرح العصفورة .. وضعتها في عشها و نثرت بعض البر أمامها .. فلم تأكل في الحال .. حز في نفسي منظرها .. لم كل هذا الألم ياعصفورتي ؟ ألا يزال يوجعك جرحك ؟ أم أن ألما آخر يعصر قلبك كما يعصرني أنا أيضا ؟ .. ماالذي تريد قوله عيناك الصغيرتان؟ أكاد أحس بما تعبران به عما يعتلج به قلبك الصغير .. أنا أعرف قلقك و خوفك من أن يكون مصير رفيقك مثل ما حصل لك أو اسوأ منه .. لا تقلقي عصفورتي .. سوف يعود إليك ليجدك قد شفيت وعادت إليك عافيتك لترفرفا عاليا .. فقط لا تياسي .. فيأسك يعديني ويجعلني فريسة للإحباط .. كوني قوية كما عهدتك دائما .. لا يوحشك منظر الغيوم الداكنة المعلنة عن حلول فصل الشتاء .. سأبني لك وكرا منيعا أضع فيه عشك حتى لايكون في متناول العابثين و المتطفلين .. وسأظل ارعاك و أحميك حتى تتماثلي للشفاء ..أنا هنا معك ما حييت .. لأن عشي هو ملاذي وملجئي .. أنت تنتظرين عصفورك و أنا أيضا أنتظر عصفورتي .. لنحتفظ بالأمل حتى نتغلب على الألم .. فبعد الشتاء و صقيعه ومطره و برقه و رعده ، سيأتي الربيع زاهيا ليمحو ما علق بقلبينا من حزن و أسى .. وتتفتح ورودهما بكل الألوان ..

هيا يا عصفورتي .. نامي الآن .. وسوف أظل هنا مادام الجو رائقا هذا المساء .. وسآخذك معي إذا بدا المطر لتؤنسي وحدتي و تشاطريني أحاسيسي .. هيا ياصغيري .. ها هو البر أمامك .. يا لفرحتي .. هكذا أريدك .. أن تأكلي وتنسي للحظة ألامك ..

تصبحين على خيرعصفورتي .


[/justify]


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: عش رشيد الميموني الدافئ
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رائعه من روائع جبار رشيد أميرة الشمري منبر الشعر الشعبي والمحاورات الشعرية. 0 03-15-2011 10:05 PM
أتذكرين ؟ - رشيد الميموني - رشيد الميموني منبر البوح الهادئ 18 12-26-2010 02:40 PM
الصبــــــــــــار - رشيد الميموني - رشيد الميموني منبر القصص والروايات والمسرح . 8 12-24-2010 09:19 PM
أسمعيني/////// للشاعر جبار رشيد أميرة الشمري منبر الشعر الشعبي والمحاورات الشعرية. 2 09-30-2010 08:26 AM

الساعة الآن 03:06 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.