احصائيات

الردود
1

المشاهدات
1623
 
الضيف حمراوي
من آل منابر ثقافية

الضيف حمراوي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
9

+التقييم
0.00

تاريخ التسجيل
Apr 2012

الاقامة

رقم العضوية
11047
11-26-2012, 08:39 PM
المشاركة 1
11-26-2012, 08:39 PM
المشاركة 1
افتراضي الجيفة
الجيفة.

المدينة الصغيرة السعيدة الحالمة في حجر الجبل على ضفة الوادي السعيد ، كان مصطفى يقصدها في طفولته ، يقضي يومه في مدرستها ، وأثناء الاستراحة يتوجه إلى مياه نهرها الكريم ، العذب الرقراق ، فيسبح فيه مع الأسماك ما شاء ؛ ويشرب من ينابيعه المتفجرة؛ من خلال صخور ضفتيه، تتساقط في شكل شلالات من خيوط فضية متعة للناظرين ، ولذة للشاربين وطهرا للمتطهرين.
انتقل مصطفى إلى مدينته الصغيرة، العزيزة على قلبه، منذ سنوات؛ قادما إليها من مسكنه في الريف، بعد أن بنى للريف مقاما في زوايا فؤاده الصغيرة. حيث احتفظ فيها بكل صغيرة وكبيرة ، ما فوق ترابها وما تحته ،في أشجارها وأحجارها.
فأل شؤم هل به مطلع هذا الصباح انقبض له قلب مصطفى، وسكان المدينة ، جثة مشوهة مجهولة الهوية، مرمية بشكل مفضوح وسط الساحة العامة ، أمام مقر البلدية تسد بابها ، كانت بها ندوب غائرة وثقوب كأن صاحبها قضى نحبه في ميدان لمبارزة الثيران .
من أين جاءت الجثة ومن جاء بها، ومن صاحبها، ما تاريخه، هل هو ضحية لغيره أم هو ضحية لنفسه ؟.
مع اللحظات الأولى لظهورها ؛ نفر الناس هاربين من نتانة رائحتها ، وسارعوا بأخبار رجال الحماية المدنية ، والسلطات المحلية ، وهالهم بل وأرعبهم الأمر حين شاهدوا بأمهات أعينهم أولى ضحاياها من رجال الحماية الذين سقطوا صرعى حين عافت صدورهم استرجاع أنفاسها ؛ وعجز زملاؤهم على استرجاع جثثهم؛وفي الحين لاحت بوادر الخلاف.
ربما هلك الرجال بسبب نتانة الرائحة المنبعثة من الجثة التي كانت لا تحتمل ؛ بحيث كان بمقدورها أن تجعل أقوى كائن لا يسارع بالابتعاد عنها يخرج أمعاءه ؛ ويطرحها على الرصيف قال البعض ؛ممن كان قريبا منها؛ قبل أن يطلق رجليه للريح.
وربما لعدم وجود التجهيزات اللازمة لمثل هذه الحالة الغريبة لدى المركز الاستشفائي ؛ قال بعض آخر . وربما خشية وحفاظا على صحة طاقم المشفى و مرضاه كما ذهب إليه المتكهنون ممن يقدرون العواقب كما يجب. وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة ،أو لغيرها .
و في حالة من الشلل ، والعجز عن التصرف بفعالية ؛ راح الكل يضيف تفسيراته ؛ معللا توانى مسؤولي قطاع الصحة والمسؤولين المحليين؛ وتلكؤهم في استرجاع جثث الضحايا من رجال الحماية؛
و إجلاء هذه الجيفة من الساحة
ولسوء حظ المدينة ؛ كانت درجات الحرارة ترتفع بسرعة غير عادية ،وهو ما فاقم المصيبة ،وزرع القلق والاضطراب والفوضى في المدينة ، وفتح باب الإشاعات واسعا.
لم يُتفق في شأن الجثة ؛ رغم المناقشات الطويلة التي استمرت طوال الصبيحة؛ كما لم يتفق في شأن مظاهرها و أوصافها ،فملامحها توحي بغرابتها ، وهي تبدو ممتلئة ،سمينة أو منتفخة ، لا أحد يستطيع أن يجزم ، ولا أحد يستطيع أن يقترب منها ليقطع الشك باليقين. ومهما يكن ؛ فقد أجمع أهل الرأي من عقلاء المدينة على وجوب إجلائها
و تطهير الساحة منها بأسرع وقت ؛ حتى ولو بحرقها في مكانها. غير أن رأيا مخالفا لشباب المدينة شاع وانتشر بسرعة ، مفاده أن للجثة حق البقاء في الساحة حتى وإن كانت جثة فاسدة ، كما أن لها حق التحول من مكان إلى آخر، و من حي إلى حي ، فهى في رأيهم عنصر عادي ضمن ديكور الفساد الذي غزا المدينة ؛ في السنوات الاخيرة، وأصبح سمتها ولونها الذي يؤكد طابع التحضر والمعاصرة ؛خاصة وأن الفساد قد اكتسب منذ أمد طويل الحق والمشروعية في التجول أمام أعين الجميع وبمباركتهم ، بل وفي حماية القانون ورعايته .
وقد يكون في هذا الرأي سوء تقدير للعواقب ؛ نتيجة لعدم خبرة الشباب بمخاطر الأوبئة التي عايشها آباؤهم ، وبصعوبة التصدي لها أو حصرها إذا تفشت ؛ وفي خلال هذا التداول بين الأجيال ، والأحياء المتباعدة ؛ كانت قوافل الذباب والصراصير والجرذان قد اتفقت على الغزو، فاندفعت من المجاري وحاويات القمامة ، وتوافدت أرتالها من كل صوب متتابعة لتتراكم على سطح الجثة التي كانت ما تنفك تتضخم بفعل الحرارة أو تنسرب في جوفها وتحت الطنين الذي كان ما ينفك يشتد ويقوى بدوره ويختلط ، بالنميم والصرير حتى اصبح بوسع من له سمع مرهف ان يدرك مدى شراسة المعركة من بعيد .
لاحظ الناس ، وتناقلوا فيما بينهم أخبارا تجمع على أن الجثة تنتقل بطرق غريبة ، مفاجئة ، من مكان لآخر - وكأنها تلبي رغبة الشباب الساذج الذي فرط في حقوقه لمصلحة حقوق الجثة - تنشر روائحها النتنة القاتلة ؛ تنحل في الماء والهواء والتراب ، تقتل الحواس ، وتشل الأعصاب ويكون حظ المرء في النجاة من مخاطرها ؛ على قدر ابتعاده عنها ، و من جديد ، أجمعوا رأيهم - بعد اختلاف - صاغوه في تقرير مفصل ، وجهوه إلى السلطات ، وأعلموها أن الأمر لم يعد متوقفا على جثة واحدة ، بل أن الجثث قد غطت ساحاتها وأحياءها ، وأن الجثة الأعجوبة ، مازالت تتنقل من ساحة لأخرى ومن حي لآخر .
هرب الناس إلى أطراف المدينة وضواحيها ، وهجروا مركزها متخليين عن مساكنهم وعن أغراضهم وممتلكاتهم ؛ وعن مصالحهم . قهرتهم، روائح الجيفة المتجددة ، التي دعمتها روائح جثث الكواسر والجوارح والزواحف النافقة التي تسممت بمجرد ملامسها للجيفة فهلكت في حينه ، وفي مكانها ..
تسربت النتانة عبر الأبواب والنوافذ إلى البيوت والمخابئ ، وعلقت بالملابس والأفرشة والأغطية التي كانت منشورة على الحبال في المساكن والعمارات ، واضطر مصطفى كباقي سكان المدينة إلى الهروب بعائلته عائدا إلى مسكنه في الريف .
لم يجد مصطفى راحته كما كان يأمل ويتوقع ، لأن قلبه سقط منه و تخلف في المدينة التي أحبها ، و أحب ساحاتها وأحياءها و مركزها ، وفي غفلة منه انحرفت به الذاكرة إلى نهرها الذي قضى بين أحضانه أعز أيام حياته قبل أن يجف ، حيث ماتت أسماكه منذ زمن طويل ،قبل أن تظهر الجثة ، وتحول إلي مفرغة لمذابح المدينة ، ولما تطرحه مجاريها .
بصق مصطفى على الأرض وسار بين الأشجار هائما على وجهه ، واضعا منديله على أنفه.
و مرت أيام وأسابيع ؛ والوضع يتدهور ؛ ويزداد سوءا، دون أن يلوح في الأفاق أي مؤشر على أن هناك من يهتم بمصير المدينة ،أو يدرك حجم مأساتها ، حتى ليخيل للملاحظ أن الجثث والأحياء قد غدت شيئا واحدا عند المعنيين بتدبير الشأن العام
وفي فترة وجيزة انتقلت التجارة إلى الضواحي، وانتشرت القذارة بشكل ملفت للنظر؛ وأصبحت معظم بضائعها الروائح والمطهرات ، ومضادات الصداع والحمى والغثيان
حملت الريح نتانة الجيفة المستشرية والمتعاظمة ساعة بعد ساعة ؛ ويوما بعد يوم ؛ إلى ضواحي المدينة ، وإلى الغابات المجاورة؛ فأغرت مزيدا من الكلاب المستأنسة والضالة ؛ والذئاب والثعالب ، والقطط والجرذان ، والغربان والنسور ومختلف أنواع الكواسر ، فتوافدت مجموعات وقطعانا ، و أسرابا من كل صوب ، تطلب نصيبا من الجيفة؛ تستثمر فيه جهدها وعبقريتها ، ولكنها كانت تسقط نافقة بمجرد أن تقترب من الجثة وتنهشها ، وبذلك ازداد عدد الجيف ، وصارت جثثها غذاء لغيرها ، وتعاظم الخطر ، فمزق الناس ثيابهم ليسدوا بها أنوفهم,؛ ويضعوها على أفواههم ،وراحوا يدورون حول المدينة حسب دوران اتجاه الريح متجنبين اتجاهها لتخفيف المعاناة.
قام أهل المدينة بكل ما في وسعهم من مجهود ؛ ومن حيل لإخراج الجيفة ، فهزموا ؛ وباءت كل محاولاتهم بالفشل ، وأدركوا مدى ضعفهم أمام هذا الامتحان الغريب .
كان حجم الجثة يكبر، ويتضخم يوما بعد يوم ، و:كأنها تتغذي على ما يسقط صريعا حولها من الجثث ؛ مسموما برائحتها ؛ حتى فاقت الجيف كل تصور ، وتضخمت الجثة الملعونة حتى غدت تبدو من بعيد حسب روايات من رصدوها بمناظرهم ؛ في هيئة جسم بشري لكنه جسم بحجم فيل مسن ؛ أو حوت ضخم ، و كانت تزداد ضخامة كلما غيرت مكانها.
وما زاد في مأساة الناس ، وفاقم أحزانهم هو اقتناعهم بأن السلطات ؛على عكس ما كانت تنفك تصرح به؛ - كما ألفوا منها ذلك دائما- ترغب في بقاء الجثة هناك ، بل همهم البعض أن للسلطة يد في وجود هذه الجثة حيث هي ، فقد ردعت رائحتها الأهالي عن المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية التي ما فتئُوا ينظمونها بمركز المدينة ،وأنها قد أغنتها عن الغازات المستوردة ؛ وهي أكثر فاعلية وأكثر ردعا ،بل هي تقضي في شأن المتعصبين والمقامرين الذين يتحدونها ويقتربون منها ، بأن تحولهم إلى جثث في صفها دون أن يترتب على ذلك أي مسؤولية قانونية ، ودون أن تتحمل السلطة تبعة ذلك.
طالت معاناة الناس وهاجوا وماجوا، واضطربت آراؤهم واختلفت وتدهورت أحوالهم، وأخذت الأمراض والأوبئة تتسع؛ خاصة بعد أن أجلوا مرضاهم من المستشفى ، لقربه من مركز المدينة ،وحولوا بيوتهم إلى مصحات .
كانت الريح تهب جنوبية ، حارة لافحة ؛ مثقلة برطوبة مياه السد والاتربة المستثارة ،تلتصق بالجلود وتثبت معها نتانة الجثث المتفسخة وتبخر بحرها الدماء المتفجرة من الحيوانات النافقة ، وتنثر روائحها بكرم وسخاء على الأغنياء والفقراء ، تقتحم بها الأنوف المسدودة ، والحلوق الجافة الغثيانة لتستقر في الصدور المتعبة المنهكة .
توارى جمال المدينة وروعتها ؛ بفعل ما تعرضت له الحواس من دمار؛ ففقدت الورود والأزهار روائحها ؛و المأكولات والمياه طعومها ومذاقاتها.
استولى اليأس على بعض النفوس بشكل كامل ، فأخذت بعض النسوة تنتحب ، وغدت الأعراس محتشمة حزينة ، تقيلة كأنها مآتم ، وتبين أن معظم أهل المدينة قد استسلموا ، وتخلوا عن مدينتهم.
جلس مصطفى تحت ظل زيتونة ؛ بقرب بيته ،كان قد ألف اللعب تحت ظلالها منذ أن كان يحبوا ، غزت النتانه أنفه بفعل زخات من الريح الجنوبية الحارة ؛ المثقلة بالرطوبة. وآذت حلقه فهاجمه الغثيان ..فأخرج منديله ووضعه على أنفة ، وتمدد .
وراح يستعيد للمرة المائة ذكريات ماضيه في المدينة ، وندم لأنه لم يغادرها قبل اليوم كما فعل أنداده ،و لكن سرعان ما أنبه ضميره على هذا الإحساس ، فحاول أن يغير تفكيره ، وفجأة تذكر، تذكر أنه قبل سنوات عديدة ، كان قد أحضر ربطة من أصابع "الديناميت" حين كان يشتغل بأحد المحاجر، بنية بيعها لحفاري الآبار ، وحين تفجرت الاضطرابات ، وانهار النظام، وسادت الفوضى ، خاف أن تضبط لديه فوضعها في صندوق بلاستيكي ، ودفنها ، دون أن يعلمها بما يرشده إليها عند الحاجة ودون أن يعود إليها منذئذ، و، وراح يمن ذاكرته ؛ في مدى قدرتها على تحديد المكان ، وأخيرا اقتنع أنه من الصعب عليه العثور تحديد المكان.
عاد مصطفى ودخل إلى البيت، وأغلق النوافذ، وضخ بعض العطور، وتمدد لينام وقت القيلولة..
في الليل أرق مصطفى ، وندم لأنه ارتكب خطأ حين نام وقت القيلولة ؛ ولو لم يفعل ذلك لنام الآن ، وزاد من عذابه هذه النتانة التي انتشرت على امتداد مساحات شاعة ، وتقاعس السلطات المسؤولة بهذا الشكل المستهتر.
في اليوم الموالي ، حمل فأسه ورفشه مستغلا هدوء الريح الجنوبية ، وذهب إلى حيث دفن المتفجرات ، وراح يحفر مهتديا بذاكرة أضعفتها نتانة الجثث ، آملا أن يحصل على بغيته قبل اشتداد الحر ، وأخيرا عثر عليها.
أخيرا ها هي قطع "الديناميت" بين يديه ، ترى هل مازال لها زبائن؟ و ما هو ثمنها الآن في السوق ؟ .
رتب مصطفى أموره كما يجب ، ولف المتفجرات في كيس ، مع لوازم أخرى ، وعاد إلى البيت ، وجد زوجته وإحدى بناته تتقيأ ، دنف إلى حجرته ، أغلق النوافذ ورش بعض المعطرات ، ووضع منديله المعطر على وجهه ونام .
قال مصطفى بينه وبين نفسه :من باب العدل ، يجب الإقرار ،بإن هذه النتانة القاتلة هي ما يستحق سكان المدينة استنشاقه ، وما كان من حقهم أن يفروا من هذه الجيفة ففيهم من هو أنتن منها ،أو يساويها في الضرر وقد يفوقها؛ ثم استدرك ولكن .... .ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ، واستغفر ونام وهو يحلم لو ينهض غدا صباحا فيجد الهواء النقي الذي كان يستنشقه من قبل قد عاد كما كان .
مع فجر اليوم الموالي ، سمع السكان انفجارا ضخما ؛ باتجاه ناحية السد الذي يحتجز مياه النهر في أعلى المدينة تلاه انفجار آخر اهتزت له الأرض ، ثم هدر أعلى الواد ، واندفع الماء مكتسحا ما بين الجبلين ، تحت أنظار الناس المندهشة وصراخهم، جارفا كل فاسد في طريقه ، منظفا شوارع المدينة وأحياءها وأزقتها ،حاملا كل غريب ؛ ضعيف فاسد فيها متضعضع الأسس ، وسعد الناس و أدركوا لأول مرة بأن الهواء النقي كان دائما أثمن من الماء والخبز.

الضيف حمراوي 25/11/2012


قديم 12-27-2012, 12:29 PM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اين انت يا ضيف حمراوي ؟ اريد منك ان تظل في الجوار وان تمتعنا بقصصك الرائعة.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:59 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.