قديم 09-14-2014, 01:09 PM
المشاركة 31
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قراءة ايوب صابر في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

بداية لا يمكن القول أن هذه القصيدة من أجمل قصائد الشاعر الأستاذ عبد اللطيف غسري فكل قصائده جميله إلى حد الإدهاش.
ولا اعرف أن كنت سأستطيع تقديم قراءة معمقة لها فالقراءة الشعرية لمثل هذا الشعر العميق ليس أمرا سهلا.
فهي كالبحر حتما عميقة، وغامضة، والجمال يعبر إلى قلب وعقل المتلقي أمواج فوقها أمواج، لكن البحر يظل غامض وعميق وقد لا نصل إلى كل ما يختزنه من جمال وأسرار في أعماق أعماقه.

طبعا باستخدام هذا العنوان " إلى البحرِأطوي كُلَّ مَوجٍ " يضع الشاعر غسري المتلقي في جو النص المفعم بالحركة والرومانسية والغموض والرهبة والإثارة والخطورة، والخوف، والجمال، والتحدي... وكأن المتلقي انتقل فجأة إلى شاطئ البحر يشاهد الشاعر وهو يطوي الموج ولك أن تتخيل جمال تلك الصورة وأثرها على المتلقي.

فماذا يقصد الأستاذ غسري في البيت الأول؟


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!


==

قراءة في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!

الأغلب أن الشاعر يخاطب ذاته هنا إذ يقول: ألا ترى بأن حصان الشمس، وفي هذا تشخيص للشمس..أي جعلها كائن حي مثل حصان، تعدو باندفاع شديد؟ وفي ذلك كناية عن سرعة حركة الزمان... وكأن الشاعر يقول ألا ترى يا صاحبي بأن الشمس تهرول مسرعة في السماء فيمر الزمن بسرعة فائقة...بينما أنت واقفٌ في مكانك لا تتحرك، وغير مدرك أو منتبه لسرعة مرور الزمن والوقت، ودليل الشاعر على ذلك أن ظله واقف لا يتحرك.

ويضيف الشاعر أيضا محذرا أو معاتبا أو منبها ذاته بقوله... وبدلا من أن تندفع لتستفيد من الوقت وتلحق بحصان الشمس الذي يعدو ويخب مسرعا أنت تقف هناك تداعب حلمك وتعكف على تشذيبه.

وكأن الشاعر يقول لنفسه ايضا تذكر يا صاحبي أن "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" لكنه يقولها من خلال صورة شعرية بالغة الجمال والتأثير وبلغة غاية في التأثير وبأسلوب ساحر... حيث يصور الشمس الجامدة، والحارقة، والبعيدة جدا في كبد السماء...بحصان جميل يخب مسرعا باندفاع... بينما أنت تقف مداعبا حلمك ومشذبا له غير مدرك لسرعة مرور الوقت!

وكأن الشاعر يدعو نفسه للانتباه لسرعة مرور الوقت ويحثها على أن تتجاوز مرحلة الأحلام وتنتقل إلى العمل.

ونجد أن الشاعر يُسخر هنا أهم عنصرين من عناصر الجمال والتأثير على ذهن المتلقي وهما:

- الحركة المتمثلة في حركة الحصان الذي يخب مندفعا في كبد السماء...مما يجعل النص ينبض بالحيوية والحركة والحياة.

- التضاد والمتمثلة في حركة الشمس مقابل وقوف ذات الشاعر، إضافة إلى الشمس والظل...والمعروف أن تسخير التضاد هو أكثر العناصر تأثيرا على عقل المتلقي.

ثم هناك عنصر الحوار الذي يخلقه الشاعر من خلال تجريد شخص من ذاته ليخاطبه ويعاتبه وينبهه بأن الزمن يمر بينما هو يقف هناك يداعب حلمه.

وإذا أضفنا إلى كل تلك العناصر صورة الحصان الذهنية وما يرتبط بها تراثيا في ذهن المتلقي...ذلك الحصان الذي يخب مسرعا في كبد السماء، نجد أن تلك الصورة تستحضر في ذهن المتلقي كل ما يرتبط بالحصان من جمال، وقوة، وعنفوان، وخير الخ....فالخيل مقعود بنواصيها الخير إلى يوم ألقيامه....حتى اننا نكاد نرى حصان المتنبي والذي خلده في اشعار كثيره...

وعليه نجد أن هذا البيت من الشعر لوحده يقول الكثير جدا...وهو حتما بالغ التأثير والجمال...حد السِحر.

==
وَأوْراقُكَ العَذْراءُ سِفْرٌ طَوَيْتََهُ = وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيهِ قطائِفُ

في البيت الثاني نجد وكأن الشاعر يستمر في مخاطبة ذاته فيقول ...أي صاحبي ، لماذا تقف هكذا مشغول بتشذيب حلمك؟ وأنت ترى الشمس تخب في كبد السماء مسرعة...والوقت يمر بسرعة.

وكأنه في هذا البيت يلوم نفسه ويحضها ويحثها بأن لا تقف مكتوفة الأيدي، وان تستمر في الحركة والنشاط وبذل الجهد، وربما كتابة القصائد تحديدا.

حيث يشير إلى تلك الأوراق العذراء التي ضمنها سفر طواه، (سِفْرٌ طَوَيْتََهُ )، وفي ذلك كناية على أن تلك الأوراق جديدة، لم يمسسها القلم بعد فهي عذراء...وطواها الشاعر في ذلك السفر الذي يحتوي أصلا على قطوف من ثمار شجر الإحساس، وهي حتما القصائد حيث يشبه الشاعر القدرة على الكتابة الشعرية بشجر الإحساس، والقصائد بثمار هذه الأشجار.


وكأن الشاعر يلوم نفسه على العزوف عن الكتابة الشعرية، والتوقف عن تسجيل وتدوين ما تجود به قريحته، رغم أن تلك الأوراق الجديدة التي أعدها جاهزة لتستقبل مزيد من قصائده الجديدة، التي هي بمثابة ثمار شجر الإحساس لديه والذي سبق له أن دون مثلها وضمنها ذلك السفر....كل ذلك والوقت يمر مسرعا بينما هو مشغول في تشذيب حلمه بدلا من العمل على مزيد من الانجاز.

وما يميز هذا البيت هو استخدام الشاعر لكلمات غنية يرتبط بها تراث ديني قديم، ويوقظ في ذهن المتلقي ذلك التراث العبق. وذلك يتأتى تحديدا من خلال استخدام كلمات (العَذْراءُ ) و (سِفْرٌ).

ولكن الشاعر لا يكتفي باستخدام تلك الكلمات وما تحمله أو يرتبط بها من معنى تراثي عميق يغني النص ويجعله بالغ التأثير، ولكنه يشخصن الأوراق حين يصفها بأنها عذراء...فيجعل النص ينبض بالحياة والحيوية....وكأنها أنثى عذراء.

وتقفز حدة تلك الحيوية بشكل مهول حينما يجسد الشاعر، في الشطر الثاني من البيت، الأحاسيس بأن يجعلها مثل الأشجار التي تثمر قصائد (قطوف).

ولا شك أن لاستخدام وتكرار حرف الهمس (السين أو الشين) ثلاث مرات في هذا البيت له سحر استثنائي...واثر بليغ على نفس المتلقي.

==
وَلِلماءِ أُخْدودٌ يَقولُ لكَ اقْتحِمْ = عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟

ويستمر الشاعر في معاتبة الذات، مخاطبا نفسه قائلا....كيف تقف مكتوف الأيدي أي هذا، وأنت ترى الأشعار تتدفق مثل ماء يتدفق في أخدود؟ .. .كيف تقف مكتوف الأيدي وهذه الأشعار تتدفق كما هي عيون الشتاء المنهمرة من السماء؟ هي تناديك وتقول لك اقتحم...أي احمل قلمك ودون ما تجود به قريحتك فلماذا تقف هناك خائفا عاجزا؟
هنا يشبه الشاعر ما يدور في خاطره من أشعار تتفلت بأنها مثل ماء يتدفق في أخدود، أو عيون الشتاء المنهمرة من السماء، وفي ذلك كناية عن غزارة قريحته الشعرية.

وكأن الشاعر يعاني من صراع داخلي بين ما يشعر به من قطوف الأحاسيس التي تحاول أن تتفلت وتخرج إلى الوجود ، وعزوف، ووقوف وعدم رغبة في تجسيد اللحظة الشعرية المتأتية، وعدم ميل إلى تدوين ما يدور في خلده من صور شعرية بل نزيف شعري كما يصفه في بيت لاحق.

ويضاف إلى ذلك الصراع الذي يدور في نفس الشاعر والذي يجعل النص اقرب إلى الحياة كونها صراع متعدد الأوجه، نجد في هذا البيت أيضا الكثير من الحركة المتمثلة في جريان الماء في الأخدود، وفي انهمار المطر من عيون الشتاء...هذه الحركة التي تجعل البيت ينبض بالحيوية والحياة، خاصة انه وباستخدام كلمة " الماء" يستحضر في ذهن المتلقي ما يرتبط بهذه الكلمة من تراث ومعنى، وهي حتما كلمة مرتبطة بالحياة..."وجعلنا من الماء كل شيء حيا".

وباستخدام كلمة ( عيون ) استنفار لحاسة البصر لدى المتلقي...هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأتي استكمالا لرسم صورة بالغة الجمال تتمثل في أخدود من المياه المتدفقة، وعيون من أمطار الشتاء المنهمر من السماء.

وفي استخدام كلمة أخدود استحضار غير مباشر للتراث المرتبط بقصة الأخدود "قتل أصحاب الأخدود" وهي طريقة ذكية لاغناء النص من خلال حشد كلمات يرتبط بها عمق تراثي غني.

أما استخدام كلمة "اقتحم" ففيه تضخيم للصراع القائم في نفس الشاعر.

وفي كلمات "يقول لك" استثارة لحاسة السمع لدى المتلقي وتعزير للحوار بين الشاعر ونفسه.

وفي استخدام كلمة "واجف" تلاعب على مشاعر الخوف عند المتلقي ومحاولة لاستثارتها.
ونجد في محصلة ما حشده الشاعر هنا، في هذا البيت، من عناصر قوة وجمال، وتأثير، وخاصة عنصري الصراع الداخلي، والحركة، ومن ثم صورة المياه المنهمرة من عيون الشتاء، والأخرى المتدفقة من أخدود الماء، وتلك الكلمات التي تحمل في ثناياها الكثير من الإرث الحضاري والديني، والأخرى التي تستثير الحواس والمخاوف...نجد أن الشاعر نجح هنا في نسج بيت شعر اقل ما يقال عنه انه ...رائع بحق وبالغ التأثير والجمال.
===
دَعِ القَلَمَ الوَرْدِيَّيَرْسُمُ دَرْبَهُ = زَوَاحِفَ ضَوْءٍ ما لهُنَّ حَرَاشِفُ

في هذا البيت أيضا يستمر الشاعر في مناجاته لذاته معاتبا لها على وقوفها مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا، في ظل ما يتدفق من أحاسيس في داخله وأشعار تتدفق في ذهنه وقلبه مثل المطر المنهمر من السماء أو المتدفق في أخدود الماء.

ويخلص الشاعر من هذه المناجاة والعتاب إلى دعوة نفسه إلى المبادرة بحمل القلم أو تركه ليرسم دربه بما يدونه من أشعار وقصائد.

وفي الشطر الثاني من البيت يشبه الشاعر القصائد والأشعار بزواحف من ضوء ولكن ليس لهن حراشف كالزواحف الحقيقية، وفي ذلك كناية عن غزارة ما يتوارد في ذهن الشاعر من أفكار وأشعار وقصائد هي في تدفقها جميلة وأشبه ما تكون بزواحف لكنها من دون حراشف.

وفي هذا البيت يلمح الشاعر إلى غزارة قريحته الشعرية وتلقائية ما يشعر به من أحاسيس وإشعار، تتدفق بسهولة وانسياب ودون عناء، فبمجرد حمل القلم سيبدأ القلم في خط ورسم دربه في عالم الأشعار والأحاسيس، دون تكلف أو عناء أو جهد يذكر، وستكون النتيجة تدوين الأشعار والقصائد والتي ستكون أشبه ما تكون بزواحف من الضوء لكنها خالية من الحراشف.

وفي البيت تلميح إلى أن الصراع الداخلي في نفس الشاعر ما يزال مستمرا، فمن ناحية هناك نزوع إلى الكسل والوقوف دون بذل جهد لتدوين تلك اللحظات الشعرية، ومن ناحية أخرى حث على ضرورة الاستفادة من ذلك الدفق الشعري وتحويله إلى قصائد.

كما نجد في البيت الكثير من الحركة والتي توحي بها كلمات "دع القلم يرسم" وكلمة "الزواحف"، وفي استخدام كلمة زواحف يرسم الشاعر صورة مهيبة مهولة لتلك الحالة التي ستنهمر فيها القصائد من خيالة وكأنها زواحف، والذي يجعل تلك الصورة شديدة الجمال والتأثير هو أنها زواحف من ضوء وليس لها حراشف.

ونجد أيضا أن الشاعر يشخصن القلم ويجعله كأنه قادر بذاته على رسم دربه وتدوين ما تجود به قريحة الشاعر من قصائد.

وفي البيت أيضا تسخير للألوان ( الوردي ) و (الضوء)، ولكن ربما أن أجمل ما في البيت هي تلك الصورة التي رسمها الشاعر بأن جعل الأشعار والقصائد وكأنها زواحف من الضوء.

كل ذلك يجعل البيت عظيما كتلك التي سبقته من الأبيات وهو أيضا ينبض حيوية وجمال، وله وقع عظيم.

==
وَكُنْ وَتَرًا لايَسْأمُ الليلُ عَزْفَهُ = وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِهِ مِنهُ طائِفُ

يكمل الشاعر حديثه مع ذاته مناجيا نفسه ويحثها أولا على أن تبادر إلى فعل الكتابة الشعرية وعدم الوقوف مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا كما الحصان يخب خبا.

ويدعو الشاعر في البيت السابق نفسه أن تدع القلم يكتب ما شبهه الشاعر بزواحف من الضوء وهي القصائد الجميلة.

ويضيف الشاعر هنا وفي هذا البيت إلى ذلك دعوة ذاته الشاعرة إلى أن تكون مثل الوتر الذي يعزف موسيقى جميلة فلا يسأم الليل من عزفه لشدة جمال ما يقول.

كما يدعو الشاعر ذاته الشاعرة بأن تبدع وتزيد في العطاء حتى ينتشر خبر عبقريته الشعرية ويكون لشدة ما أنجز من عمل فني جميل ومؤثر مثل خبر تتناقله الألسن في جوف الليل.

ومن عناصر الجمال التي ضمنها الشاعر في هذا البيت تشخيصه للوتر وكأنه لوحده يعزف الحان جميلة وتشخيصه لـ الليل والذي جعله كشخص يُسر لما يسمع من الحان موسيقية هي قصائد الشاعر التي يحث ذاته الشاعرة على تدوينها.

وفي البيت ما يُحفز حاسة السمع، وفيه تسخير للألوان من خلال ما يشير إلى اللون الأسود وهو الليل.

ولا شك أن الموسيقى الداخلية في البيت لها وقع مؤثر على مسامع المتلقي خاصة بتكرار الألفاظ كن وترا ثم كن خبرا.

==
أوِاخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَة اللظى = هُنالِكَ جِسْرٌ نازحٌ بكَ عَارفُ

وهنا يخير الشاعر ذاته الشاعرة بأن تكون مثل الوتر الذي يعزف عزفا جميلا فلا يَمله الليل ولا الساهرين فيه، وحتى يصبح خبرا على كل لسان لجودة ما يقول من أشعار، أو إن كان لا بد من الوقوف فليكن ذلك الوقوف (عند ناصية اللظى) أي بالقرب من الطريق المشتعل نارا (لظى)، لعل ذلك الوقوف يزيد الشاعر اشتعالا واحتراقا وتألقا، فينتقل الشاعر من حالة ذهنية إلى حالة أكثر سموا وصفاء عبر ذلك الجسر.

وكأن الشاعر في هذا البيت يقول ما قاله نيتشة الفيلسوف الوجودي والذي قال " ليكن شعارك أن تعيش في قلق دائم وان تبني بيتك فوق بركان"، وكأن نيتشه بدوره يقول "أن الألماس يصنع تحت الضغط والنار الحاميةDiamonds are made under pressure"، وكذلك الشعراء والنساك، تصنعهم الآلام والمآسي، وإن لم يصبحوا شعراء فأنهم وبفعل تلك النار المشتعلة في ثنايا قلوبهم يتحولون إلى ما يشبه الملائكة في سموهم وصفاء روحهم، وحينما يقفون عند ناصية اللظى.

أو ربما أن الشاعر هنا يقول لذاته الشاعرة إن لم تُقدمي على فعل الشعر، وإن لم تكوني لحنا جميلا لا يمله الساهرون، فربما عليك احتمال ذلك الاحتراق الداخلي الذي ينتج على اثر امتناع الشاعر من تفريغ تلك الشحنات العاطفية الملتهبة في ثنايا قلبه وذهنه والتي تتشكل على شكل قصائد.

ففي البيت إذا مزيد من الدفع باتجاه كسر حالة الجمود أو العزوف والوقوف عن ممارسة فعل اللحظة الشعرية، من خلال تهديد الشاعر لذاته بأن تفعل ما ينبغي، وان تتحرك وتمارس فعل الشعر وإلا فلتشتعل احتراقا بفعل لهيب تلك القصائد التي تتفلت لتخرج إلى حيز الوجود.

وابرز ما في البيت من عناصر جمالية هو ذلك الحوار الذي نسمعه يدور بين الشاعر وذاته الشاعرة ، و ذلك الصراع الذي نراه يحتد ويتعمق بين الفعل والسكون وبين الشاعر وذاته الشاعره، ثم اللعب على مشاعر المتلقي من خلال استخدام كلمات ملتهبة يكاد المتلقي يصطلي بنارها ( ناصية، اللظى ).

ثم هناك استثمار للتضاد من خلال الحث على الحركة والفعل من ناحية وفي نفس الوقت الدعوة هنا إلى الوقوف عند ناصية اللظى، ومن خلال استخدام كلمة (نازح) وفيها ما يشير إلى الحركة.

وكل ما في البيت يجعله جميلا، حيويا، رائعا ويزيد من حدة التأثير للقصيدة بشكل مهول. ويرسم الشاعر من خلال هذه الكلمات صورة شعرية نادرة في جمالها وتأثيرها... بل قَلَ مثيلها.
===

بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنتَ تَنْزِفُ طُهْرَهُ = فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَما أنتَ نازفُ؟

في هذا البيت يوضح الشاعر سبب دعوته لذاته الشاعرة الى ضرورة الحركة والإقدام على فعل الشعر. فهو يرى بأن ما يكتبه من قصائد تحمل في ثناياها ولادة فجر طاهر جديد يظهر في عيني الشاعر.

ويطرح الشاعر هنا سؤالا استنكاريا: هل يا ترى يقدر المتلقيين (والراءون ) ما تنزفه من أشعار؟ تلك الأشعار التي ترسم ذلك الفجر الجديد.

وفي هذا البيت صورة شعرية جميلة للغاية حيث يشبه الشاعر فعل الشعر بالنزيف، ويشبه اثر الشعر بالفجر الجديد، ذلك الفجر الذي يكاد يطل من عيني الشاعر.

وكأن الشاعر يخاطب ذاته قائلا: كيف تقف مكتوف الأيدي وأنت بما تقوله من شعر جميل ترسم وتصنع فجرا جديدا.

ولا يخفى أن الشاعر هنا يفتخر بملكة الشعر لديه...إذ يرى بأن ما يقوله من شعر إنما يساهم في صناعة فجر جديد. وهو ليس شعرا ينز نزا، وإنما هو شعر غزير وهو أشبه في ولادته بالنزف.

وفي ذلك أيضا وصف للحظة الشعرية فهي ليست أمرا هينا وإنما عملية صعبة ومؤلمة وأشبه ما تكون بالنزيف النازف من العين.

وفي هذا البيت يستخدم الشاعر صورة شعرية ومحسنات أضافت إلى البيت جمالا وسحرا. فباستخدام كلمات ( عينيك + تشهد ) يوقظ في المتلقي حاسة البصر. وفي النزف ما يوحي بالحركة بل ربما بصورة الدم النازف من الجرح، ولكن النزيف هذه المرة هو نزيف قصائد تصنع فجرا جديدا، يولد من عيني الشاعر، الذي نراه يفتخر بأهمية دوره كشاعر.

ففي البيت إذا تأكيد على دور الشاعر في المجتمع ..فالشاعر ينزف شعرا..ويصنع فجرا.

==
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضورِ وَإنَّمَا = حُضورُكَ طَيْفٌ فَيالقراطِيسِ هَاتِفُ

وفي هذا البيت نسمع صوت الشاعر من جديد وهو يمجد ذاته ويمدح نفسه واصفا ما حققه في دنيا القصيدة من انجازات فيقول: أي هذا ...لقد كان لك حضورا جليا في عالم الإبداع الشعري، حضورا بارزا واضحا، عميق المعنى واضح الأثر، وكأنك الشمس الساطعة تظهر بعد ليل طويل فيكون ظهورها بارزا واضحا جليا.

وهكذا يصف الشاعر ما قدمه من انجازات شعرية، لكنه لا يكتفي بهذا المديح لذاته من خلال وصف حضوره المميز، بل يضيف إلى ذلك وتأكيد على شعوره بالفخر ومادحا نفسه، بأن ذلك الحضور لم يكن عابرا، ولا هامشيا، ولا يصعب ملاحظته... فهو بالإضافة إلى انه جلي واضح، فهو أيضا (طيف والطيف من الخيال والنور وهو ما يمكن أن يعبر إلى الذهن والقلب دون حواجز أو معيقات ).

وهذا الطيف استوطن دواوين الشعر، يكاد يسمع صوته، وهتافه، من بين أوراق تلك الدواوين، وفي ذلك ما يشير إلى مدى افتخار الشاعر بقدرته الشعرية التي يرى أنها أصبحت مثل الطيف الهاتف من بين الدفاتر ليخترق القلوب والأذهان، وكأنه يعيد إلى الأذهان قول المتنبي:

أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

لا بل هو يتفوق على المتنبي فهو لا يكتفي بالقول انه ولبلاغته وحضوره الشعري، كان قادرا على أن جعل الأعمى يرى شعره، وان يجعل الأصم يسمع قوله، بل إن شاعرنا يجعل حضوره (هتاف طيف) ذلك الهتاف الذي يخترق كل الأشياء والأجسام فحتى الجماد يمكنه أن يسمع لحن شعره الهاتف من بين ثنايا الكتب وليس فقط الأعمى والأصم.

ويبدو أن شاعرنا في طريقه لان يتفوق على المتنبي في فخره ومدحه لذاته ووصفه لقدراته على القول الجميل المؤثر.

ولا شك أن في البيت صورة شعرية بالغة الجمال فلك أن تتخيل عزيزي المتلقي صورة هذا الحضور فكلمة ( تجلى – تجليت ) توقظ في ذهن المتلقي معاني القوة، والرهبة، والنور الساطع، الذي لا مثيل له، والذي لا يمكن إلا أن يترك أثرا مزلزلا.

وفي الشطر الثاني يعزز الشاعر تلك الصورة الجميلة فيؤكد على أن ذلك الحضور لا يقتصر على التجلي وإنما هو في الواقع يصبح مثل الطيف الذي يستوطن الكتب ولكن الشاعر يشخصن الطيف هنا فيجعل له هتاف، ولا بد أن هتاف الطيف سيكون قادر على اختراق القلوب والعقول.

وباستخدام كلمة هاتف يوقظ الشاعر حاسة السمع لدى المتلقي مما يجعل لبيت الشعر هذا اثرا عظيما ومزلزلا.

ولا شك ان كاتب مثل هذا البيت من الشعر يستحق ان يفتخر بقدرته على قول الشعر الجميل.

يتبع..

قديم 09-14-2014, 01:18 PM
المشاركة 32
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ...
قراءة ايوب صابر في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:


ضِفَافُ الصَّدى تنزَاحُ.. أمْسِكْ ذُيُولهَا = إذا الصوتُمَعْنًى لِلصَّدى وَمُرَادِفُ

يعود الشاعر في هذا البيت لاستنهاض الهمة، همة نفسه الشاعرة طبعا، ونسمعه وهو يخاطب ذاته من جديد، حاثا إياها على أن تُقدم دون تردد على الكتابة الشعرية ، ومخاطبا ذاته بقوله "لا تقف هناك جامدا، وأنت تداعب حلمك، غير مدرك لسرعة مرور الزمن".

وفي هذا البيت الجميل والذي يشتمل على صورة شعرية معقدة وجميلة، نجد أن الشاعر يحث نفسه على الإسراع في العمل، والتصرف قبل أن يتلاشى صدى ما حققه من نجاحات في مجال الكتابة الشعرية، حيث شبه الشاعر صدى ما حققه من نجاح بنهر جارف، جاري، لكن الشاعر يرى ضفاف ذلك النهر من المجد والشهرة تنزاح بعيدا عنه، وفي ذلك كناية عن تلاشي صدى ما حققه من نجاح... لذلك فهو يخاطب ذاته حاثا أيها على الإمساك بذيول ما حققه من نجاح، قبل أن تتلاشى تماما كما يتلاشى الصدى.

وفي استخدام كلمة ذيولها ما يشير إلى صفة الاستعجال التي يضمنها الشاعر لهذا الشطر من البيت فهو يرى بأن توقفه عن ألكتابه جعل صدى ما حققه من نجاح يكاد يختفي وفي ذلك حثٌ على الاستعجال في التصرف والعودة إلى الكتابة، وهذا ينسجم مع حالة الاستعجال التي ضمنها الشاعر في البيت الأول من القصيدة.

ونجد أن الشاعر قدم الصدى على الصوت لان التلاشي هي صفة الصدى، الذي يقع كنتيجة للصوت، ويتلاشى تدريجيا.

ومن هنا نفهم الشطر الثاني من البيت على انه مخاطبة للذات من اجل الاستمرار في قول الشعر الجميل، الذي يمثل رفع الصوت والجهر به، مما يؤدي إلى وقوع الصدى.
وعليه فأن مخاطبة الشاعر لذاته بأن يستعجل في الإمساك بذويل الصدى قبل أن تتلاشى هي في الواقع استنهاض للهمة على الاستمرار في قول الشعر، الذي هو الصوت والذي ينتج عنه الصدى الذي يكاد أن يتلاشى.

فخوف الشاعر الذي يدعوه إلى الاستعجال في التصرف نابع في الواقع من خشيته أن يتلاشى صوته الشعري الذي ترك صدى عظيما...وذلك إذا ما استمر في الوقوف جامدا كالظل بينما الوقت يمر مسرعا.

ونجد أن لهذا البيت وقع عظيم على المتلقي، ناتج أولا من تشبيه الشاعر لصدى ما حققه من نجاح بالنهر الجارف العظيم ودليل عظمته تلك الضفاف التي كادت أن تتلاشى لأنه توقف عن الكتابة.

ثم من استخدامه لكلمات توقظ حواس المتلقي، وأهمها حاسة السمع باستخدام كلمات (الصوت و الصدى)، وفي استخدام كلمة ( امسك ) إيقاظ لحاسة اللمس عند المتلقي. وفي الشطر الأول تشخيص لضفاف النهر وكأنه كائن له ذيل. وفي استخدام كلمات ( الصوت والصدى ) استثمار للتضاد الذي له أعظم اثر على ذهن المتلقي.

والصورة الشعرية المتمثلة في ( ضفاف وتنزاح ) ما يوحي بالحركة،وهو ما يجعل البيت ينبض بالحيوية والحياة.

وفي هذا البيت ما يشير بوضوح إلى قدرة الشاعر عبد اللطيف غسري المهولة على تطويع الكلمات ليوصل لنا ما يريد أن يقوله عبر صورة شعرية غاية في الجمال والتأثير رغم ما يشوبها من تعقيد ظاهر هنا، وتقديم للصدى على الصوت.

ولا عجب إذا أن يفتخر بقدرته ويمدح ذاته الشاعرة.
==
على عَجَلٍ أبْحِرْ بِأشْرِعَةِ الأنا = لعَلَّكَفُلْكَ الذكْرَياتِ تُصادِفُ

وفي هذا البيت يستعجل الشاعر ذاته من جديد ( على عجل) طالبا من نفسه الإسراع في القيام برحلة شبه بحرية هذه المرة، ولكن باستخدام أشرعة ( الأنا ) والأشرعة جمع شراع، وهو ما يثبت على السفينة لتتمكن من الإبحار، ولكن البحر هنا هو الذات الشاعرة.
فالشاعر هنا يستعجل نفسه للإبحار في أعماق ذاته الشاعرة لعله يلتقي مصادفة بفلك الذكريات. والفلك هو السفينة وفي هذا البيت ما يشير إلى اعتزاز الشاعر بذاته الشاعرة التي يشبهها بالبحر الواسع، ولذلك فأن الإبحار في هذه الذات يحتاج إلى أشرعة والالتقاء بفلك الذكريات ربما يحدث، وربما لا يحدث وان حدث فسوف يكون ذلك صدفة، وذلك كناية عن ضخامة الذات الشاعرة.
وهذا البيت يشير إلى مدى اعتداد واعتزاز الشاعر بذاته الشاعرة التي يشبهها بالبحر، لكنه واسع بدليل حاجته إلى أشرعه تنقله عبر هذا البحر ولعله يتلقي صدفة بفلك الذكريات.
وأي ذكريات هذه ؟ هذا ما نجد جوابه في البيت التالي.


تركْتَ رَياحِينًا هُناكَ نَدِيَّةً = ـأتذكُرُهَا؟ـ حيثُ الظنونُ عَواصِفُ
وفي هذا البيت يعود الشاعر ليتذكر بداياته في كتابة الشعر، والتي يشبهها الشاعر هنا بالرياحين الندية، وهو يسأل هل ما زلت تذكر تلك القصائد الندية التي كتبتها على الرغم أن الظنون كانت كبيرة وعاصفة؟

وحيثُ لِسَانُ الوقتِ يَجْرَحُ حَرْفَهُ = وحيثُ قُصَاصَاتُ السؤالِ صَحائِفُ
وفي هذا البيت يصف طبيعة ذلك الزمن الذي ترك فيه الذكريات. وهو في هذا البيت يشخصن الزمن ويجعل له لسان.
ولا شك أن هذا الشطر كناية عن الحالة النفسية التي كانت تسيطر على الشاعر في تلك المرحلة الزمنية، وفيه كان الزمن يجرح الشاعر ( ربما لصعوبة الظروف) فينعكس ذلك على حروفه وقصائده.
وربما يريد الشاعر هنا أن يصف لنا شكوكه التي كانت تسيطر عليه أحيانا فتجعله متشكك في الوصول إلى النجومية والشهرة ولكنه وحيث حقق النجاح يستعجل نفسه للامساك بالقلم من جديد.

مَتَى يَشْرَئِبُّ النَّجمُ مِن شُرْفَةِالمدَى؟ = سُؤالٌ لِأسوارِ الإجَابَةِ ناسِفُ
وفي هذا البيت يشبه الشاعر نفسه بالنجم الذي ( يشرئب ) أي الذي يظهر من شرفة المدى وكأنه شخص يمد عنقه، وهو حتما يتساءل متى يظهر نجمكَ ويترفع؟ أيها القادم من المدى البعيد.
لكنه سؤال ليس في مكناه، فهو لا يحتاج إلى أجابه، لان النجم قد وصل ، والمقصود به هنا (الشاعر) وهو موجود أصلا من خلال ما حققه من نجاخات سابقة. وليس هناك حاجة لانتظار ظهوره من المدى البعيد.

وَنادَيْتَ عِشْتارَ القصيدةِ أنْضَعِي = نسِيغَكِ فوقَ الجِذعِ، فالغُصنُ راجِفُ
وفي هذا البيت يقول الشاعر انه خاطب آلهة الشعر (عشتار القصيدة )، وعشتار هي آلهة الخصب ولكن المقصود هنا هو وحي الشعر، وهو منبع الشعر لديه..
مناديا أيها ويطلب منها أن تضع وشمها ( نسيغ ) أي الوشم أو الأثر( القصائد) فوق الجذع، وفي ذلك كناية عن حث الشاعر نفسه على الإقدام على كتابة القصائد التي شبهها بوضع الوشم على الجذع المرتجف. وربما الارتجاف سببه الخشية من فقدان القدرة على الكتابة الجميلة.

ألم تعْلمِي أنِّي عَصِيٌّ بنِينَوَى = وأنِّيَ طَوَّافٌ عَنِ النهرِ عَازفُ؟
وهو في هذا البيت ما يزال يخاطب آلهة القصيدة ( عشتار القصيدة) ويقول لها ألا تدرين بأنني في حالة جعلتني غير قادر على الكتابة ( عصي بنينوى )، وأصبحت عازف عن قول الشعر..الذي سبق ان تدفق مني مثل النهر..
فلا تترددي يا آلهة الشعر أن تطلقي لنفسك العنان لتضعي نسيغك من جديد فوق الجذع المرتجف.

إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ وَطِئْتُهُ = أليْسَ لِأسْمَاكِي لديهِ زَعانِفُ
وإنِّي لَمَوْلودٌ بِزاوِيَةِ الرِّضَا = وَلَكِنَّ ظِلَّ الحُلمِ في القلبِ وَارفُ
وَإنِّي لِفَتقِ الأمْنِيَاتِ لَرَاتِقٌ = وإنِّي لِنَعْلِ القافِيَاتِ لَخَاصِفُ


قديم 09-14-2014, 08:07 PM
المشاركة 33
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
بوركتَ وبورك نبض قلمك الزاخر أخي الكريم الأستاذ أيوب صابر..
إنه لعمل جليل غير مسبوق هذا الذي تقوم به في قسم الدراسات النقدية.. أسأل الله أن يمتعك بالصحة والعافية فيستمر هذا العطاء وارف الظلال..
تقبل تحياتي العطرة.

قديم 09-14-2014, 08:08 PM
المشاركة 34
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
قراءة أخرى في قصيدة ( الجرس الخفي )
بقلم : د مرتضى الشاوي
تبدو للقاريء عتبة العنوان أنّها مكونة من موصوف وصفة يقع الموصوف خبراً لمبتدأ محذوف قد يفهم من السياق لعلم المتلقي به .
إلا أنّ في دلالتها المجازية رمزاً يعود لذلك الشيء المستور بالرغم من مفردة ( الجرس ) توحي بتنغيم خاص ربما تطرب له الإذن ، وقد يكون ثقيلاً لا تحبذه حتى خوالج النفس المطمئنة ، فليس كلّ جرس مسموع محبوب وليس كلّ جرس مسموع مطروب إلا أنّ وصف الجرس بالخفاء لكونه مستوراً دليل على أنّه مقيد مكبوت لا يسمع إلا في حالة نادرة استثنائية .
هل يمثل الجرس الخفي المرموز له صوت الضمير الحي ؟ أو إنّ نوازع النفس في تداخلها
إنّ قصيدة الجرس الخفي بمضامينها الذاتية تعدّ تنفيساً عن الذات وهي من الشعر التأملي الفلسفي لأنّها بوح خاص فريد عن النفس بهواجسها الشفافة .
والقصيدة في مبناها العمودي تمثل شكلاً غرة القصيدة العمودية إذ ابتنت على بحر البسيط بتقفية موحدة في الشطر الأول مع قافية واحدة سينية الروي وهو التزام فني في مراعاة الصياغة الشعرية .
اشتملت القصيدة على معان ومضامين متنوعة تآزرها وحدة موضوعية ليس هناك شطط ولا تكلف ولا اجترار في الوصف .
والقصيدة كلّها أنغام وترانيم هواجس النفس في خلجاتها وشفافيتها وهذا دليل على هدوء الشاعر وقدرته على ضبط النفس وعدم انفعاله داخل القصيدة مما لا يؤدي به إلى الزلل الفني .
من المضامين والمعاني الإنسانية في أبيات القصيدة :
1- تنطوي على معالم الاعتزاز بالنفس بمكامنها ومشاربها كما في قوله :
بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَرَسُ = مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِسُ
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
2- البحث عن غاية مهمة للوصول إليها عبر وسائل نافعة كما ورد في قوله :
أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْثَقَةٌ = حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبَسُ
أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَةٌ = فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

3- التحلي بالثبات والتصبر دليل على الاستقرار على حالة واحدة لا تتغير والحنين إلى الماضي والتذكير به بسبب تأنيب الضمير كما في قوله :
وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَةٍ = وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِسُ
أنا المَشُوقُ إلى ما فاتَ مِنْ زَمَنٍ = أطْلالُ قَلْعَتِهِ تَهْوِي فَتَنْدَرِسُ
هَذِي نسَائِمُهُ حَمَّلْتُهَا كُتُبِي = وكُلُّ حَرْفٍ بِها فِيهِنَّ مُنْطَمِسُ
4- الاستئناس بهذا النداء الخفي القادم من موطن الروح لما يملك من علة الاستيقاظ كلما ابتعدت النفس عن خطها للوصول إلى الهدف لأنّ الإنسان في تحركه الطبيعي يمثل مرايا عاكسة للكون .
لَكِنَّمَا الجَرَسُ المَخْبُوءُ فِي جِهَةٍ = مِنْ مَوْطِنِ الرُّوحِ يُغْرينِي بهِ الأنَسُ
يَهُزُّنِي كُلَّما أغْفَيْتُ عَنْ هَدَفِي = وَالكَوْنُ فَوْقَ مَرَايَا النَّفسِ يَنْعَكِسُ

5- اعتزاز الشاعر بنفسه في ضوء الفخر بشعره .كماورد في قوله:
وَلَسْتُ آنَفُ إنْ أسْرَجْتُ قافِيَتِي = إلى المُنَى، حَوْلَهَا مِنْ أدْمُعِي حَرَسُ
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ

6- الإشارة إلى التواضع في العيش في الملبس والمأكل وهذا ناتج عن ترويض للنفس في الحياة كما في قوله :
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ
7- الإطالة في التفكير الصافي للوصول إلى نهاية المطاف برجاء اللقاء وبوساطة اكتشاف مكامن هذا الصوت التأملي المخفي في أعماق الروح ولا يتم ذلك إلا بأشياء :
1- مجالسة الطبيعة وتحقيق الهدوء والطمانينة والنهر يمثل رمزاً للطبيعة بوصفه المادي ويتضمن معالم العطاء وسر الحياة في الوجود .
2- طلب الرحلة في رجاء الوصول ناتج عن إلقاء زورق النجاة بعاطفة الهجر للتغريب النفسي في أعماق الروح رغم التحدي القائم على إنكار استحلال الدنس من الخبائث وعدم الإرتكاس إلا أنّ أشرعة الرجاء والأمل في أعماق الروح تجوب حاملة البلاء بسبب الانغماس في التفكير ورغم كلّ ذلك إنّ دلالات النهر المتنوعة تمرّ في خشوع لإستئناسه إياها لأنّ صوت الفكر قد أطبق عليه بعدم الكلام وهي نتيجة حتمية قد أملاها الشاعر في طمأنينة النفس البشرية التي جبلت على صفاء التفكير وترويضها وابتعادها عن كمائن النفس في رغباتها غير العقلية .
إذا يَضُخُّ المَدى فَوقِي غَمَائِمَهُ = مَاءُ التَّفَكُّرِ مِنْ عَيْنَيَّ يَنْبَجِسُ
أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِهِ = لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَسُ
أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَةً = لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِسُ
لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بهِ = أعْمَاقَ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِسُ
تَمُرُّبِي كَلِماتُ النَّهْرِ صَامِتَةً = صَوْتُ التأمُّلِ مَحْفُوفٌ بِهِ الخَرَسُ
من الملامح الفنية والأسلوبية الطارئة على القصيدة :
فقد وظف الشاعر أدواته الفنية في إنتاج معاني أدبية رائعة تتساوق مع البعد الدلالي لهواجس النفس .
ويبدو ذلك من العنوان الذي أطل بترميز وإشارة إلى ذلك الضمير الحي الذي يختفي تحت جوانح الصدور ومكامن النفس .
وكل ذلك جاء عن وصف مكثف قائم على توليد المعاني بوسائل المجاز الإستعاري من أنسنة وتجسيم وإغراق قي الوصف .
وقد ورد ت الصور المجازية بكثرة نتيجة لتوليد قدراً من المعاني الجديدة مؤطرة بحيوية وموسيقى هادئة
مثل ( هرولة الذات ، تجنيح المسافات ، تلابيب المدى ، جعل النفس مرآة عاكسة ، إسراج القافية ، أسمال الخواطر ، انبجاس ماء العين ، أنسنة النهر بمجالسته للصحبة وتجسيمه برسم ملامح له مثل خدود الضفة ونهر هاديء مثل إنسان صامت إلا أنّ صوت التفكير لا يبان له بصوت فهو يشبه إنساناً اخرس ، أنسنة الزورق وجعله المعشوق في مرتبة الحب ، جعل للأمل أشرعة بوصفه السفينة الناجية في أعماق الروح )
وكذلك ورود الصور الكنائية مثل ( طعامي التمر والعدس = للدلالة على التواضع ) و( ماء التفكر = للدلالة على انسيابية الفكر وصفائه ) و( جيب الوقت = للدلالة على الثبات والاستقرار والاحتواء )
وأيضاً توافر الرموز الهادفة مثل ( الجرس الخفي ، ، الوميض ، البرذون والفرس ، البوصلة ، الجرس المخبوء ، صوت التأمل ) في دلالتها على التفاعل الحيوي الكامن في خبايا النفس البشرية .
2- من الملامح الأسلوبية الصوتية :
حقق الشاعر ملمحاً أسلوبياً في الانتقاء على مستوى ( المفردات ) من أجل إضفاء الحس الإيقاعي الذي ينسجم مع النفس البشرية بصفائها وهدوئها .
لهذا السبب قد اختار المفردات الإيحائية ربما جاءت عن قصد أو عفوية بسبب الخبرة والممارسة وقوة الحافظة في جلب المعاني باستعمال مفردات تتناغم دلالياً وحسياً على مستوى الصوت مع الإيقاع الخارجي ولهذا نجد شيوع المفردات المتضمنة على حرف ( السين ) بكثرة على مستوى القصيدة وعلى مستوى البيت الواحد لتشكل منعطفاً بارزاً في الانزياح الأسلوبي على مستوى الصوت مثل مفردات القافية كلّها وغير ذلك .
كما نجد ذلك بارزاً على تواجد صوت داخل القصيدة يتجاذب في الإيقاع الداخلي في قوله :
بداخلي من كنيات الأنا جرس = معنى السكون به ناء وملتبس
أين السبيل ، مسير الذات هرولة = في مهمه الليل لم يفطن لها العسس
ولست آنف أن أسرجت قافيتي = إلى المنى ، حولها من ادمعي حرس
أجالس النهر مفتوناً بجدته = لا يستحل خدود الضفة الدنس
فوجود صوت السين وتكراره في القصيدة على مستوى القافية ومستوى المفردات في داخل القصيدة قد شحن القصيدة بجو من التنغيم الهاديء كأنّه همس في الإذن وتطريب للمشاعر والأحاسيس فضلاً عن ذلك أنّ صوت السين من الأصوات الذي يتناغم مع مثيله أو ما يناضره كصوت الصاد فوجود الصاد بالأقرب من السين يفاجأ المتلقي بهمس خفي دون أن يشعر به مثل ( يصب ، الصدر ، بوصلتي، صامتة ، صوت ) كما في قوله :
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
أين الوميض وهذا الصدر بودقة = حمراء من كلّ إحساس بها قبس
فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي = إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِسُ
تمر بي كلمات النهر صامتة = صوت التأمل محفوف به الخرس
وكلّ ذلك جاء عن طريق التراكم الصوتي الذي يسجل للشاعر ميزة في تداعي الأصوات داخل القصيدة وأبعادها النفسية ؛ لأنّ صوتي السين الليّن والصاد المفخم من الأصوات المهموسة والرخوة جاءا في تناسق خاص قائم على الانسجام والملاءمة.

قديم 09-28-2014, 05:25 PM
المشاركة 35
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
رؤية الأديب عبد الإله الزاكي لهذه القصيدة..


سؤالُ النهرِ: ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟
عبد اللطيف السباعي


بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا
هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى
وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا
يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى
آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا
أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا
آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى
أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا
أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟
يا أيُّها المتجَهِّمونَ بلا رُؤًى = شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ على المُدَى
صُلِبَ الزمانُ على مشارفِ يوْمِكُمْ = لا تذكُرُونَ الأمْسَ منْهُ ولا الغدَا
النهرُ فيكمْ لوْ أضاعَ ضفافَهُ = أنَّى لِمَجْرَى مائِهِ أنْ يُفْتدَى
هُنْتُمْ بمْشكاةِ التجَلّيِ مِشْعلا = خِبْتُمْ بمرآةِ التصَوُّرِ مَشْهدَا
أوَ حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى = إلا عُيُونًا مُقْفِراتٍ مِنْ نَدى
أوْ ألْسُنًا قدْ يَغْتسِلْنَ بوابلٍ = مِن أحْرُفٍ يَذهَبْنَ مِنْ ضَجَرٍ سُدى
أوْ أوْجُهًا كمُنَغِّصاتِ البحْرِ مِنْ = عرَقِ الهموم جَبينُهُنَّ تفَصَّدَا
الحِسُّ أجْمَدُ منْ مَلامِحِ صَخْرةٍ = تحْتلُّ حقلا مُسْتطيلا أجْرَدَا
لا نوْرسُ الغاياتِ يُسْكِرُهُ إذا = غنَّى ولا بَجعُ المسافةِ إنْ بَدَا
والقلبُ يَسْرقُ بعضَ خُبزِ نهارهِ = مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودِ إذا اغْتدَى
في كلِّ يوْمٍ يرْتدِي أحْزانَهُ = ويَظلُّ يسْعى غافلا عمَّا ارْتدَى

آيت اورير _ المغرب
03/09/2014

خريدة رائعة بصور شعرية مبتكرة تنتمي لروح العصر وثقافته.
قرأتها أكثر من مرة، وحاولتُ التعقيب فأعجز لفك رموزها وتبقى مستعصية بإيحاءاتها وشامخة ببلاغتها.

بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا

لعلّ الشاعر هنا يتسائل عن معنى الوجود. البعدان في نظري قد يكون الموت والحياة، أو الدنيا والآخرة.

هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى

لعلّ الشاعر ساءه الزمان ويتعجب من أحوال النّاس.

وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا

هذه الهموم وهذا الواقع المرّ تحرّك أحاسيس الشاعر فينزل الشعر دمعا أسودا. كأن الشاعر يبكي لما آلت إليه الأمور في البلاد.

يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى

يبدو الشاعر محتضرا بهذا الواقع الذي يخنقه ويستغيث بساقي الأحلام. فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح.

آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا

كأن الشاعر يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الواقع إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا

البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض الحنين إلى زمن عزّة الأمة.
رغم أن البيت جميل في بناءه ورمزيته، لكنّني لم أصل إلى معنى لجنوب الريح. فكأن للريح جهات أربع؟!

آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى

إذا صدق حدسي، فالفعل ( شط ) يعود على الشاعر وليس على ساقي الأحلام، وبذلك يفقد كلّ أمل في التغيير.

أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا

هذا البيت بليغ في التشبيه، جزيل اللفظ وعميق الدلالة ولايحتاج إلى شرح.
حسُن الحامل والمحمول .

أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

لا شك أن النهر و الماء هنا رمزي الدلالة.
فهل يقصد الشاعر هنا الوجود فيعيدنا إلى مطلع البيت الأول وتكتمل بذلك حلقة الجزء الأول من القصيدة؟ أم أنّ الشاعر يتساءل عن جوهر النفس البشرية ؟
سواءا أكان المقصود الوجود أو الجوهر، فالقصيدة تخوض في المواضيع الفلسفية الكبرى بإيحاءات سياسية.

يا أيُّها المتجَهِّمونَ بلا رُؤًى = شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ على المُدَى
صُلِبَ الزمانُ على مشارفِ يوْمِكُمْ = لا تذكُرُونَ الأمْسَ منْهُ ولا الغدَا
النهرُ فيكمْ لوْ أضاعَ ضفافَهُ = أنَّى لِمَجْرَى مائِهِ أنْ يُفْتدَى
هُنْتُمْ بمْشكاةِ التجَلّيِ مِشْعلا = خِبْتُمْ بمرآةِ التصَوُّرِ مَشْهدَا
أوَ حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى = إلا عُيُونًا مُقْفِراتٍ مِنْ نَدى
أوْ ألْسُنًا قدْ يَغْتسِلْنَ بوابلٍ = مِن أحْرُفٍ يَذهَبْنَ مِنْ ضَجَرٍ سُدى
أوْ أوْجُهًا كمُنَغِّصاتِ البحْرِ مِنْ = عرَقِ الهموم جَبينُهُنَّ تفَصَّدَا
الحِسُّ أجْمَدُ منْ مَلامِحِ صَخْرةٍ = تحْتلُّ حقلا مُسْتطيلا أجْرَدَا
لا نوْرسُ الغاياتِ يُسْكِرُهُ إذا = غنَّى ولا بَجعُ المسافةِ إنْ بَدَا
والقلبُ يَسْرقُ بعضَ خُبزِ نهارهِ = مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودِ إذا اغْتدَى
في كلِّ يوْمٍ يرْتدِي أحْزانَهُ = ويَظلُّ يسْعى غافلا عمَّا ارْتدَى

هنا تتكّشف رؤية الشاعر وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

يفنّد الشاعر ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من أنّه (الشاعر) طوبويا وإنّما هو يعزف لحن الحياة لمن كان عالي الهمّة وقويّ الإرادة.

لا أدّعي أني سبرت أغوار النص، ولا توصلتُ إلى كنه مراد الشاعر. لكن قصيدة بهذا العمق، والرمز، واللفظ لتستوجب توقف عقارب الساعة معلنة عن ميلاد عصر جديد....

قديم 11-09-2014, 03:04 PM
المشاركة 36
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
استفاضة الأستاذ عبد الإله الزاكي في تحليل قصيدة "سؤال النهر"..


هذه أول قصيدة شعرية عمودية- حسب علمي- تحمل فكرا عميقا تعكس اتجاها فلسفيا كاملا حول الوجود. والفلسفة الوجودية تؤمن بأن الإنسان قادرعلى أن يصنع ذاته وكيانه بإرادته، وأن يختار القيم التي تنظم حياته. وهذه النزعة الفكرية تهتمّ بالوجود والواقع بعيدا عن الماهيات او جوهر الاشياء.
يبقى أن نشير إلى أنّ الفكر الوجودي يحمل توجهين: أحدهما إيماني ( من رواده كيركيجارد ) والآخر إلحادي ( من رواده سارتر)، ولسنا هنا لمحاكمة النوايا ولكن لنبرز هذا السبق الأدبي في طرح فكر فلسفي شامل بكلام موزون ولفظ متقون، وإيحاء يستجيب لروح العصر وثقافته.

1- بُعدانِ يَسْتَعِرانِ في قيظِ المَدَى = حينَ الوجودُ يذوبُ فيهِ مُجَرَّدَا
جاء إسقاط الموت والحياة في مطلع القصيدة من دون مقدّمات، يصوّر الشاعر هنا هاذين البعدين كأنهما ندّان يتنازاعن هذا الوجود الإنساني، ويبدو الشاعر كأنه لايهتمّ لأمرهما ( الموت والحياة) لأنهما من الميثافيزيقيات، وإنّما يهمّه هذا الوجود الواقعي الذي يأتي مجردا وهو حقيقة يقينية.
الصورة الشعرية مبتكرة، واللفظ جزيل، والرؤية فلسفية محضة. مجمل القول أنه بيت شعري رائع البناء اهتمّ بعنصري التعبير والتفكير معا وهذا ينطبق على كلّ أبيات القصيدة.

2- هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ إذْ = شَقَّ الكلامُ به سَرابيلَ الصدى
يعكس هذا البيت القلق الوجودي عند الشاعر نتيجة الفوضى والعبثية التي تتجسّد على أرض الواقع. فالشاعر ساءه الزمان ويتذمر مما آلت إليه أحوال العباد والبلاد.

3- وهَوَى الكتابةِ إذْ يَشِفُّ كأنَّهُ = مطرُ الجَوَى ينثالُ مِنِّيَ أسْوَدَا
الهوى معناه ميل النفس إلى الشهوة، والقلق هو من يحرّك ملكة الكتابة. والقلق والشهوة لايتجمعان، فكأنّ الشاعر يسخر من نفسه ومن هذه الهموم التي تؤرقه فينزل الشِّعر دمعا أسودا حُرقة لاهوى. وهذه البلاغة كناية عن هذا الواقع المرّ والمحبط.

4- يا سَاقِيَ الأحلامِ ويْحَكَ هاتِها = منْ غُرْفةٍ بُنِيتْ على سُقُفِ الرَّدى
يدعو الشاعر ساقي الأحلام لنتشله من هذا الواقع البائس الذي يبدو مستعصيا! فإمّا إلى حياة كريمة أو موت مريح. فهذا الحاضر يخنق الشاعر ويدفعه إلى تغيير قناعاته الراسخة وهذه قمّة اليأس في تحقيق التقدّم المؤمّل.
البيت رائع السبك ويجمع متضادين هما الأحلام والموت وساقيهما واحد.

5- آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مُتعَجِّلٌ = مِن وَشْوشاتِ الليلِ تشْرُد مُفْردَا
الشاعر هنا يعترف في قرارة نفسه أنّه لا ملجأ ولا منجى من تغيير الحاضر إلا أن يشرب من كأس الحلم! والحلم سلاح العاجزين.

6- أوْ منْ جنوبِ الريحِ تحملُ دَوْرقًا = منْ ذكرياتٍ هُنَّ نغْمةُ مَنْ شدَا
البيت هنا في معنى سابقه، وفيه بعض السخرية أو التشكيك في إشارة إلى زمن عزّة الأمة الغابر. لم أًصل في البداية إلى معنى لجنوب الريح، ولكن قد يعني بها الشاعر العدم! والعدم ضد الوجود.
البيت جميل جدا ورائع.

7- آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في = جَسَدِ الرتابة أن تشِطَّ بلا هُدى
سواءا عاد الفعل ( شط ) على الشاعر أو على ساقي الأحلام فإن الشاعر فقد كلّ أمل في التغيير.
هذا البيت مدهش تصويرا وبلاغة ولفظا.

8- أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في = صدْرِ المساءِ.. يَمُدُّ للأفُقِ اليدَا
قد يرمز الوثن إلى معتقد أو شخص ويشكّل هذا البيت ثورة ( رغم أنّه يبدو في نفس سياق البيت السابق) مُفاجِئة في نسق القصيدة الذي يتحول من النبرة الانطوائية والانهزامية في مواجهة المشكلات التي تفرضها التحدّيات الحالية إلى النبرة الانتصارية التي تدعو إلى الانعتاق من الجهل والتخلف وحقّ تقرير المصير وعدم الركون إلى الوضع الراهن.

9- أوْ في سؤالِ النهرِ حينَ يطِنُّ في = وعْيِ الترابِ وَمَسْمَعَيْهِ مُرَدَّدَا
الماءُ ذاتي.. لستُ أدْري كُنْهَهُ = ما مُنْتهاهُ إذا جرَى؟ ما المُبْتدَا؟

النهر و الماء هنا رمزي الدلالة. فقد يرمز النهر إلى الوجود والماء إلى الماهية فيكون بذلك التساؤل عن الواقع والحقيقة. فالجسد واقع والروح حقيقة لا نعرفها إلا من خلال أثرها على المادة (الجسد ). والوجود واقع، لكن الكُنه حقيقة. ولعلّ الشاعر هنا يعيد طرح سؤال كانط : هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟ ويذهب الشاعر إلى تبني موقف كانط نفسه حيث يرى أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في الفلسفة الوجودية التي تبني المعرفة على العقل وقواعد المنطق.


10- يــــــــا أيُّــــهــــا الـمـتـجَـهِّــمــونَ بـــــــــلا رُؤًى
شاهتْ وجوهُ القاعدِينَ علـى المُـدَى
صُلِبَ الزمانُ علـى مشـارفِ يوْمِكُـمْ
لا تــذكُــرُونَ الأمْــــسَ مــنْــهُ ولا الــغــدَا
...........................
.................................

يوجه الشاعر اللوم والتقريع إلى الانهزاميين الذين يرضون بالواقع البائس بل ويكرسونه بسبب اليأس الذى تملكهم ودفعهم إلى التنازل عن حقوقهم بحجة أنه لا يمكن استرجاعها فهم ليسوا قادرين على ذلك و بالتالى فعليهم الرضا بما هو مقسّم لهم فهو أفضل من اللا شئ وكأن حال لسانهم يقول لا طاقة لنا اليوم بهذا " الوثن الممتدّ " الذي يقف الشاعر وحيدا في مقارعته.

تتكّشف هنا نفس الشاعر الثورية التي تأبى الذل والخنوع مستنهضا الهمم ومفنّدا ما قد يعلق بذهن القارئ جراء مطلع القصيدة من أنّه (الشاعر) طوبويا أو انهزاميا مثل العامية بل هو يعزف لحن الحياة لمن كان حرّا وقويّ الإرادة، وكأنّه يستحضر الآية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11]
أو قول الشاعر أبو القاسم الشابي : إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ.

طبعا يمكن الغوص أكثر في أعماق القصيدة واستخلاص الخلفية الفلسفية والفكرية للشاعر الكبير عبداللطيف السباعي لكن ليس هذا هدفنا ( محاكمة النوايا ) كما قلنا سابقا بل نقف عند حدود النصّ( للأمانة العلمية والأدبية ) لما تمثله من قيمة فنّية وسبق في المزج بين الأشكال الجديدة في التعبير( من خلال الرمز، الإيحاء، العمق الفلسفي...) والإبقاء على قيود القافية والأوزان الموسيقية للشعر العربي الأصيل ( البحور، العروض، الإيقاع، القافية، ...). ففي قصيدته الرائعة هذه نقلة نوعية تشكل مدرسة جديدة في الشعر العمودي تخرجه من دائرة الجمود والرتابة والسطحية.


قديم 11-17-2014, 04:36 PM
المشاركة 37
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
قراءة نقدية لقصيدة ( قراءة جديدة في أيام العرب) للشاعر عبد اللطيف السباعي
بقلم: الأستاذ محمد ثلجي

قراءة جديدة في أيام العرب
عبد اللطيف السباعي

ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ = عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ
أسْبَلَ الحُزْنَ منْ أساهُ يراعِي = في ندى الحِبْرِ حَرُّهُ مَحسوسُ
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي = خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ = بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا = في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ = ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ = "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
إخْوةٌ دبَّتِ العداوةُ فيهمْ = بأسُهمْ بينهمْ شديدٌ ضَروسُ
غَزواتٌ تخَبَّطَ العقْلُ فيها = منْ زمانٍ كأنَّهُ ممْسوسُ
فإذا عَنَّ في دُجانا غريبٌ = في إهابِ العَداءِ جاءَ يَجوسُ
خرَّ في الصمتِ عَزْمُنا المُتداعي = ضَجَّ في الليلِ خوْفنا المهْموسُ
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ = ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها = فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً = في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ
قائدٌ يُغْمِدُ السلاحَ انْقِيادًا = ورئيسٌ في حُكْمِهِ مرْؤوسُ
وشعوبٌ تثاءَبَ العزْمُ فيها = هَدَّها العيشُ.. أثْقلَتْها المُكوسُ
دَجَّنَ القهْرُ وعْيَها ليسَ تدْري = أبَشوشٌ مصيرُها أم عَبوسُ؟
وهَلِ الحُكْمُ بينهمْ مَحْضُ شورى = وهَلِ الشعبُ سائسٌ أم مَسُوسُ؟
كمْ زعيمٍ تقلَّدَ الأمْرَ فرْدًا = قمَرٌ حولهُ تدورُ الشموسُ
حدَّثَ النفْسَ قائلاً: أتُراني = أحْكمُ الشعْبَ أمْ عليهِ أدوسُ؟
مَرْجِعُ الأمْرِ لي وإنِّي لمُبْدٍ = منْ قِوَى الحزْمِ ما تهابُ النفوسُ
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ = تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
سِمةُ اليعرُبيِّ همٌّ قديمٌ = سَمْتُهُ فيهِ بائسٌ منْحوسُ
واقعٌ لا يُعيذنا - لو عَلِمْنا- = منهُ إلا المُهَيْمِنُ القُدُّوسُ

آيت اورير _ المغرب
15/11/2014

1- الفكرة والبنية العامة للنص

تعتبر قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي المعنونة بــ ( قراءة جديدة في أيام العرب) من القصائد البارزة في مسيرة الشاعر الإبداعية. فهي فضلا عن كونها تؤكد سطوة الذاكرة المشبعة - على النص الشعري - بموروث أخلاقي مضطرب لأمه سقطت لعقود في دهاليز التردي والظلمة فضلا عن نعرات ونزاعات قبلية أهرقت خلالها أرواح وسكبت دماء وأشيعت الفرقة والانحلال الأخلاقي والديني حتى وصل ذروته قبل أن تجتاحها العناية الإلهية برسالة الإسلام السمحة والتي قدمها نبينا الأمين محمد عليه الصلاة والسلام على طبق من نور وهدى. ناهيك عن قدرة هذه الذاكرة على تشكيل النص بقالب أبداعي يجسد المحسوس باعثا الحياة مجددا في أماكن قديمة ومهجورة عسى أن يؤخذ ويستفاد منها العبر والدروس. كما أشار الشاعر في مطلع النص:
ذِلَّةُ الحالِ واقعٌ ملموسُ \ عِبَرٌ مُستَـجِدًَّةٌ وَدروسُ

من جهة أخرى ينقد النص واقع الحال العربي بلا نكران أو تحيز نقدا لاذعا وعنيفا بربطه مباشرة بتلك الأيام الغابرة متخطيا المساحة المضيئة كونها بعيدة عن مخيلة الشاعر حين الكتابة وهي أشبه ما تكون بقعة نور وضاءة داخل نفق مظلم مكفهر. وقد نجح الشاعر - تماما - بعملية الربط حيث أتم توظيف المفردة اللغوية الدالة والقادرة على استنطاق واستحضار تاريخ وفكر أمه في نص معاصر وحديث مصورا - إذ ذاك - تلك المأساة بإشارات ودلالات تضرب في العمق . بل في أعماق الأعماق.
يقول الشاعر معلنا عن ذلك الحال:
نحنُ قومٌ بالنائباتِ عُرِفْنا \ في الترَدِّي تاريخُنا مدْروسُ
حظُّنا منْ وجودِنا ثوبُ خِزْيٍ \ ورغيفٌ في علْقمٍ مغْموسُ
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!

الشاعر هنا حاله كحال غيره ممن ينذر بخطورة ما آلت إليه الأمور حيث أبصر ببصيرة الشاعر وفكره سوء الحال وترديه فجاء صوته عاليا رافضا للواقع معلنا انسحابه الكامل منه ونأيه بعيدا عنه رغم ما يعتصر قلبه من الم وحرقة.
فيقول :
كلَّما رُمْتُ صَدَّهُ بالقوافي \ خانني الحَرْفُ.. خاصَمتْني الطرُوسُ
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟

بما أن الشاعر شاهد على الواقع - كما ذكرت - وحاله من حال غيره ممن يستظلون في ظلاله وتحت أفيائه رغم رفضهم له كان لا بد أن يعمل على نقده ومجاراته ما أمكن ذلك. ليبرئ بنفسه - لاحقا - عن المسائلة التاريخية, وهذا أمر طبيعي قد تسرّ أو تعلن أي ذات رافضة عنه بما تستطيعه أو تراه مناسبا ومتفقا معها .. والشاعر هنا جزء من الكل تماما كأن يبتدع الرسام لوحة تتضارب فيها الألوان وتتزاحم بأشكال ورسوم تعبر عن رفضه ونقده .. أو كأن يطرق - المؤرخ أو الروائي أو الكاتب أو أي صاحب موهبة - أبوابا ثمة من يضع خلفها الحواجز والعوائق لتظل مغلقة ومظلمة لا يعبر منها ولو بصيص ضئيل من أمل وحياة. يقول الشاعر معلقا:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
أمَّةٌ تحْسبُ الوهادَ جبالاً \ في المهاناتِ أنْفُها مدْسوسُ


2 - البلاغة والإحالات التعبيرية في النص

يستمد النص بلاغته من لغة جزلة عميقة تتكئ على دراية ومعرفة تامة بأدق التفصيل فضلا عن كونها مشبعة حتى العظام بالحداثة والصور المبتكرة بعناية شديدة ورماية سديدة. فالشاعر كما يبدو جليا لنا.. بأنه يقسو كثيرا على نصه قبل موعد إطلاقه بل ويعمل على تشذيبه وتتميمه ليظهر - لاحقا - بأبهى وأتم صورة وهذا بالطبع من المهم والضروري بما أن البلاغة في اللغة وظيفتها " استدراج القارئ إلى الإذعان والتسليم لأنه لا انتفاع بإيراد الأفكار المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها " كما أشار ابن الأثير .. والنص الذي نحن بصدد الحديث عنه لا يكاد يخلو بيت واحد فيه من حسن تدبير وطلاوة تعبير . فاللغة حاضرة بكامل أناقتها وجزالتها .. والدلالات في أعلى مراحل النضج والنمو. يقول الشاعر:
كيفَ يشْدو بفَرْحَةٍ كرَوانٌ \ بينَ أقفاصِ عِلَّةٍ محْبوسُ؟
دلالة الكروان وشدوه بفرح يتناقض تماما مع كونه محبوس داخل علته أي مصابه .. ولو أحلنا ذلك إلى واقع الحال لوجدنا أن الشاعر أثار قضية الكروان في سجنه ليأخذنا مباشرة للشاعر أو من هو على شاكلته ممن يصبون للغناء والإنشاد رغم كونهم محرومون من كامل حريتهم فثمة عائق يقف بينهم وبين المزيد من إبداعهم وانطلاقهم على نحو مكتمل.


3- البنية الموسيقية في النص

جاءت القصيدة على بحر الخفيف على الرغم من ثقل مضمونها وعبئ ما كان يشغل بال الشاعر ساعة كتابتها.. وهذه المفارقة الجميلة أسبغت على النص مزيدا من الأهمية والأحقية.. للبحر الخفيف ميزة ينفرد فيها عن باقي البحور الخليلية .. ويبدو أن هذا البحر كما أراه - دون أن ألزم فيه غيري - بأنه قادر على إراحة بل وترويض الذاكرة المتخمة بالصور والأخيلة والرؤى لسهولة جريان المفردات على لسانه وذوبانها داخل تفعيلاته وانسجامها أكثر مما يحتمله بحر آخر .. كما أنني أرى أن هذا البحر بتفعيلاته السلسة والطيعة يملك موهبة ربط الصور والابتكارات على نحو بديع وملفت ولنا في قصيدة المعري خير دليل وبرهان وهو ينشد:
غير مجد في ملتي واعتقادي \ نوح باك ولا ترنم شادي
أبكت تلك الحمامة أم غنت \ على فرع غصنها المياد
وشبيه صوت النعي إذا قيس \ بصوت البشير في كل وادي

هذا الربط الآسر بين المفردات والجمل الشعرية كان في غاية الأناقة والبلاغة ناهيك عن الحزم والقوة .. وهذا ما تضمنته قصيدة الشاعر عبد اللطيف السباعي .. حيث عجنت القوة والجزالة مع الحزم والإحاطة وامتزجت الصورة المكثفة مع الإيقاع الهادئ السلس الطيع. يقول الشاعر:
وأوَيْنا إلى مكانٍ قصِيٍّ \ ضَمَّنا فيهِ مَخْدَعٌ وعَروسُ
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ

4- الاستحضار والتقمص الفني داخل النص

تعتبر التجربة الشعرية الطويلة والحصانة المتمثلة بالخبرة والجزالة والرشاقة فضلا عن الموهبة عوامل مهمة وفاعلة في عملية الاستحضار والتقمص في اللحظات الأولى للكتابة ويمكن اعتبارها مجازا الآلام الدقيقة التي تصاحب المخاض قبل الولادة الفعلية للنص. تختمر الصور والمدخرات الرؤيوية بأشكال مموهة وغير مفهومة على الأغلب قبل انتقالها لمرحلة البناء والإثراء والتي تكتمل مراحلها لحظة الكتابة الفعلية على الورق قبل تشذيبها وتنقيحها على النحو الذي يضمن لها موضعا ومتكئا مريحا في الجملة الشعرية. ولمزيد من التوضيح والإحاطة بهذه الثيمة يقول الشاعر:
ألنا في القتالِ مجْدٌ تليدٌ؟ \ "داحسٌ" بعْضُ مجْدِنا و"البَسوسُ"!
أيضا قال:
كالنعاماتِ أوْضَعَ الرعْبُ فيها \ فاخْتفتْ في الرمالِ منها الرؤوسُ
ويقول كذلك:
يُرْسِلُ الخُطْوةَ اخْتيالاً كما قدْ \ تاهَ عُجْبًا بريشِهِ الطاووسُ
داحس \ البسوس \ النعامات \ الطاووس .. ليست مجرد مفردات أو مسميات عابرة لوقائع تاريخية أو أسماء طيور.. لكنه استحضار عميق وتقمص أنيق لحدث ما لتكثيف المعنى وصبغه بتلك الميزة لتحقيق الدهشة والإفاضة لمزيد من وضوح الصورة إزاء فكر خاص أو عام أو حالة نفسية تجاه موقف أو حالة أو واقع. لذلك أمكن القول أن هذا الاستحضار - المكاني والزماني لموروث ديني كان أو تاريخي أو أسطورة أو فعل غريب كدفن النعام لرؤؤسها في الرمل لحظة شعورها بالخطر- يعتب محاولة جادة لدى الشاعر الفذ لتأصيل مفهوم القراءة الواعية للأحداث وبالتالي وصولها للذائقة المتطلعة للبيان المختلف والأنيق والآسر.

5- الانزياح الدلالي في النص

بديهيا يمكن القول أن أهم ما يميز لغة الشعر هو انزياحها عن الاستخدام النثري للسياقات الأدبية السائدة.. وهذا يعمق من أصالة الشعر وتفرده وانجذاب الذائقة إليه على نحو أعمق واشمل. لكن يظل ثمة ما يمنع من شمولية تلك الثيمة الأساسية في بعض من المناسبات الشعرية مثل الشعر الخطابي الموجه أو الشعر المغنى أو شعر المقاومة أو الشعر المؤرخ للأحداث والوقائع .. وذلك أن الانزياح بطبيعة يتقمص جانبا من الغموض في سياقه الدلالي بعيدا عن الإبهام في الشعر والذي يعتبر مثلبة يعمد إليها كثير من الكتاب بحجة أن المعنى في بطن الشاعر مع التأكيد أن ليس هنالك من شاعر حقيقي سيعمل على دفن وإغلاق نوافذ إبداعه عن القارئ بشقيه العادي والمثقف. من هنا اوجب القول أن عدم تطبيق مبدأ الانزياح على بعض المناسبات الشعرية لا يتعارض كما ولا نوعا مع قوة النص ورغبته في قول ما يتحتم على الشاعر قوله وإيصاله بلغة شعرية سلسة أنيقة وصورة فنية ملفتة جديرة بالاهتمام والإشادة.


محمد ثلجي
17\11\2014

قديم 12-05-2015, 03:27 PM
المشاركة 38
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
فيما يلي قراءة انطباعية للشاعر والناقد الأستاذ ماجد وشاحي لقصيدتي "مأساة الياسمين"..

مأساةُ الياسمين..
عبد اللطيف السباعي

كنتُ في عتْمةِ الحنينِ سَجينا = لا أناجي غَيرَ الفراغِ خَدينا
في قطارٍ ينْسَلُّ منْ ذكْرياتي = أتمَلَّى شمْعاتِيَ الأرْبَعينا
أرْقُبُ الأفْقَ منْ زجاجِ شُجوني = وهْوَ يَعْدو إلى الوراءِ حزينا
فُتِحَ البابُ عنْ مُحَيًّا تجَلَّى = بيتَ شعرٍ لا يَقْبلُ التضْمينا
بدْعةُ الحُسْنِ فيهِ فتْحٌ جديدٌ = نُبْصِرُ الضوءَ إثْرَهُ إنْ عَمِينا
كلُّ لفظٍ يُرامُ في وصْفِهِ في = رَحِمِ العقْلِ ما يزالُ جَنينا
غادةٌ غَضَّةُ الملامِحِ وَسْنى = قدْ تَخَطَّتْ سِنونَها العشْرينا
أتْلفَتْني بنظرةٍ رَشَقَتْها = في تلافيفِ مهْجتي سِكِّينا
لمْ تذرْ لي بِساحةِ النبضِ إلا = شَرَيانًا مُضَرَّجًا ووَتينا
أتْبعَتْها بضَحْكةٍ مُشْتهاةٍ = أنْبتتْ في حُشاشتي يَقْطِينا
أخْرَجَتْ بَغْتةً لُفافَةَ تِبْغٍ = لَفَّ منْ طيبِ شَكْلِها الوعْيُ حينا
ثارَ ظنِّي ورُحْتُ أسْألُني هلْ = كانَ شكًّا ما عَنَّ لي أمْ يَقينا
حينَ مُدَّتْ يدي بعودِ ثِقابٍ = شَعَّ نورُ العِرْفانِ منها مُبينا
خِلْتُ أنِّي سَمِعْتُ للقُرْطِ جَرْسًا = كشَهِيقِي وللسوارِ رَنينا
أوْمَأتْ لي ببَسْمةِ الثغْرِ جذلى = ثمَّ أحْنتْ بالاِمْتِنانِ الجَبينا
أشْعَلتْها فأضْرمَتْ فِيَّ نارًا = قدْ خبَتْ من جِمارِ قلبي سِنينا
وتعَجَّبتُ.. إنَّ أعْجَبَ شيءٍ = ربَّةُ الحُسْنِ تعْشَقُ التدْخينا!
شَرِقتْ عَيْنُها بدَمْعِ كلامٍ = يحملُ الحرفُ فيهِ حُزْنًا دفينا
فتحَتْ شُرْفةَ الحديثِ فقالتْ = أوْشَكَ الهَمُّ فيكَ أنْ يسْتبينا
إنَّ في مُقْلتيْكَ موْجَ ادِّكارٍ = هاجَ في لُجَّةٍ تُقِلُّ سَفينا
أصْغِ لي.. إنَّ لي حكايةَ جرحٍ = سوفَ تُنسيكَ بالتأسِّي الحنينا
أنا يا شاردَ العيونِ سِراجٌ = أفَلَ الضوءُ منهُ حينَ أُهينا
في انْتصافٍ منَ الزمانِ قريبٍ = لمْ أجِدْ لي على البلاءِ مُعينا
عَضَّني فيهِ هِجْرِسٌ آدَمِيٌّ = يعْتلي في العَواءِ رُكْنًا رَكينا
نَطَّ في مِزْهَريَّتي غِبَّ يوْمٍ = مُكْفَهِرٍّ فمَزَّقَ الياسمينا
بعْدَها قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي = نَصَبَتْ لي بكلِّ فجٍّ كَمينا
ليْتني في الهوى رَبَأْتُ بحظي = فيهِ منْ أنْ أُدانَ أو أنْ أُدينا
شَجَّني صَوْتُها الشَّجيُّ ابْتداءً = ثمَّ فاضتْ منهُ الحنايا أنينا
فتواثبْتُ للكلامِ عَجولاً = بعدَ أن كنتُ بالكلامِ ضَنينا
قلتُ إنَّ الحياةَ قدْ عَلَّمَتْني = في دُنا الرأيِ أنْ أكونَ أمينا
نحنُ في قبْضةِ القضاءِ، سَواءٌ = أأبَيْناهُ أمْ بهِ قدْ رَضينا
بُرْعُمُ الوردِ فيكِ مَوًَّالُ طُهْرٍ = كيفَ يرضى بذا الغثاءِ مَعينا؟
لمْلمي الجُرْحَ ما أصابكِ ولَّى = فعْلُ ماضٍ لا يقبَلُ التسْكينا
واظْعَني فوق هَوْدَجِ التوْبِ حتى = يسْكُنَ الروْعُ منْكِ أو يسْتكينا

آيت اورير - المغرب
02/11/2014

كنتُ في عتْمةِ الحنينِ سَجينا = لا أناجي غَيرَ الفراغِ خَدينا
في قطارٍ ينْسَلُّ منْ ذكْرياتي = أتمَلَّى شمْعاتِيَ الأرْبَعينا
أرْقُبُ الأفْقَ منْ زجاجِ شُجوني = وهْوَ يَعْدو إلى الوراءِ حزينا

يصور لنا الشاعر هنا رحلته في قطار وجلوسه وحيدا في مكان مظلم ...فخطر بباله أن يجلس قرب النافذة الزجاجية لعله يرى من خلالها ما يبهج النفس ويريح البصر أو يتسلى بالنظر إليه ليهون عليه مشقة السفر ويختصر الزمن......ولكنه لا يرى في الخارج سوى الظلمة والفراغ الذي يلف المكان .......وهذا ما يشير إلى أن السفر كان ليلا...فاجتمعت على الشاعر ظلمة المكان الذي يجلس فيه والظلمة في الأفق الخارجي ...وكذلك الفراغ في الأفق الذي لا يرى منه شيئا والفراغ الذي هو فيه حيث لا شيء لديه ليعمله أو يتسلى به...حيث لا يوجد سوى الفراغ والظلمة وأصوات عجلات القطار على سكة الحديد والتي تأتي متناغمة كأنها موسيقى (...هذا ما عهدته في قطارات الفحم ...أو الديزل القديمة التي سافرت بها كثيرا في سبعينيات هذا القرن ....) ولا شك أن مثل هذه الأجواء تكون مدعاة للفكر والذاكرة كي تسرح كيف تشاء حيث لا يوجد ما يشغلها عن ذلك...وهنا ينطلق الشاعر بخياله الخصب فيتخيل القطار وكأنه قطار العمر فأخذ يعيد شريط الذكريات التي مرت به والمحطات التي توقف بها فترة من الوقت ثم يتابع المسير من جديد حتى وصل المحطة التي تقول له أنك بلغت من العمر سن الأربعين...وهنا تبدأ شجونه وأحزانه لما مر من ماض جميل وذكريات الشباب .....

فُتِحَ البابُ عنْ مُحَيًّا تجَلَّى = بيتَ شعرٍ لا يَقْبلُ التضْمينا
بدْعةُ الحُسْنِ فيهِ فتْحٌ جديدٌ = نُبْصِرُ الضوءَ إثْرَهُ إنْ عَمِينا
كلُّ لفظٍ يُرامُ في وصْفِهِ في = رَحِمِ العقْلِ ما يزالُ جَنينا
غادةٌ غَضَّةُ الملامِحِ وَسْنى = قدْ تَخَطَّتْ سِنونَها العشْرينا
أتْلفَتْني بنظرةٍ رَشَقَتْها = في تلافيفِ مهْجتي سِكِّينا
لمْ تذرْ لي بِساحةِ النبضِ إلا = شَرَيانًا مُضَرَّجًا ووَتينا
أتْبعَتْها بضَحْكةٍ مُشْتهاةٍ = أنْبتتْ في حُشاشتي يَقْطِينا

وفجأة... وهو في أوج أحزانه يُفتح الباب وتدخل منه صبية لتشاركه المكان ويخبرنا أن هذه الصبية في العشرينيات من عمرها وأنها أثارت إعجابه بما تمتلكه من مقومات الفتنة والجمال ....وما تلاها من نظرات وابتسامات ...ولكن كيف رأى هذا الجمال الذي يصف وهو في غرفة مظلمة....وهنا سأقول نيابة عن الشاعر لأنني سافرت كثيرا في القطارات أيام دراستي الجامعية في الهند .......أن الغرف المغلقة في القطارات ال ( chambers ) لا تكون مظلمة جدا ولكنها قليلة الإنارة ...ثم أنه عندما فُتح الباب لتدخل تلك الفتاة أضاء المكان .......



أخْرَجَتْ بَغْتةً لُفافَةَ تِبْغٍ = لَفَّ منْ طيبِ شَكْلِها الوعْيُ حينا
ثارَ ظنِّي ورُحْتُ أسْألُني هلْ = كانَ شكًّا ما عَنَّ لي أمْ يَقينا
حينَ مُدَّتْ يدي بعودِ ثِقابٍ = شَعَّ نورُ العِرْفانِ منها مُبينا
خِلْتُ أنِّي سَمِعْتُ للقُرْطِ جَرْسًا = كشَهِيقِي وللسوارِ رَنينا
أوْمَأتْ لي ببَسْمةِ الثغْرِ جذلى = ثمَّ أحْنتْ بالاِمْتِنانِ الجَبينا
أشْعَلتْها فأضْرمَتْ فِيَّ نارًا = قدْ خبَتْ من جِمارِ قلبي سِنينا
وتعَجَّبتُ.. إنَّ أعْجَبَ شيءٍ = ربَّةُ الحُسْنِ تعْشَقُ التدْخينا!

ولكن افتتانه بتلك الجميلة تحول إلى عَجبٍ واستهجان عندما رآها تخرج لفافة تبغ وتضعها بين شفتيها ...ومع ذلك فقد تعامل معها بكل لطف واحترام وأشعل السيجارة لها ...وهو يتساءل في نفسه ...ما الذي دفع هذه الجميلة للتدخين...فهل مثلها من يحمل من الهموم ما يجعلها تلجأ للتدخين.....!!


شَرِقتْ عَيْنُها بدَمْعِ كلامٍ = يحملُ الحرفُ فيهِ حُزْنًا دفينا
فتحَتْ شُرْفةَ الحديثِ فقالتْ = أوْشَكَ الهَمُّ فيكَ أنْ يسْتبينا
إنَّ في مُقْلتيْكَ موْجَ ادِّكارٍ = هاجَ في لُجَّةٍ تُقِلُّ سَفينا

وهنا ابتدأت بالحديث معه قائلة ...أراك مهموما جدا ...وهذا واضح من تعابير وجهك...ومهما حاولت لن تستطيع كتمان ما تحمل من هموم..........ومع ذلك لن أتطفل عليك وأسألك عن ماهية همومك ...ولكن أريدك فقط أن تسمع قصتي ومبعث حزني وهمي ...لعلك تتأسى بها وتنسى همومك...وبدأت تقص عليه حكايتها.......

أصْغِ لي.. إنَّ لي حكايةَ جرحٍ = سوفَ تُنسيكَ بالتأسِّي الحنينا
أنا يا شاردَ العيونِ سِراجٌ = أفَلَ الضوءُ منهُ حينَ أُهينا
في انْتصافٍ منَ الزمانِ قريبٍ = لمْ أجِدْ لي على البلاءِ مُعينا
عَضَّني فيهِ هِجْرِسٌ آدَمِيٌّ = يعْتلي في العَواءِ رُكْنًا رَكينا
نَطَّ في مِزْهَريَّتي غِبَّ يوْمٍ = مُكْفَهِرٍّ فمَزَّقَ الياسمينا
بعْدَها قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي = نَصَبَتْ لي بكلِّ فجٍّ كَمينا
ليْتني في الهوى رَبَأْتُ بحظي = فيهِ منْ أنْ أُدانَ أو أنْ أُدينا

وهنا تبدأ الفتاة برواية قصتها المحزنة المبكية والتي ملخصها أن ثعلبا بشريا اعتدى على عفتها وهتك عرضها ...وهنا لا بد من الإشارة والإشادة بجماليات التعبير والتصوير والتشبيه والمحسنات اللفظية من استعارة وتمثيل...الخ ومن ضمنها ...أنه وصف المعتدي بالثعلب لما عُرف عن الثعلب من مكر ودهاء وخديعة....// نط في مزهريتي //....فالفعل نط ...يعني أن الفعل لم يكن بإرادتها ...وإلا لما احتاج للنط ...وكلمة مزهريتي... تعني مواطن الجمال والعفة التي تحافظ عليها كما يحافَظ على الورود في المزرية.....// وصف ذلك اليوم أنه يوم مكفهر...// ...تمزيق الياسمين ....يعني تمزيق الشرف والعفة...// قدَّتِ الخطيئةُ ثوبي...يعني افتضاح أمرها وانكشاف سرها وسترها...فالثوب يعني الستر ..وقدّه أو تمزيقه يعني إزالة الستر.......

شَجَّني صَوْتُها الشَّجيُّ ابْتداءً = ثمَّ فاضتْ منهُ الحنايا أنينا
فتواثبْتُ للكلامِ عَجولاً = بعدَ أن كنتُ بالكلامِ ضَنينا
قلتُ إنَّ الحياةَ قدْ عَلَّمَتْني = في دُنا الرأيِ أنْ أكونَ أمينا
نحنُ في قبْضةِ القضاءِ، سَواءٌ = أأبَيْناهُ أمْ بهِ قدْ رَضينا
بُرْعُمُ الوردِ فيكِ مَوًالُ طُهْرٍ = كيفَ يرضى بذا الغثاءِ مَعينا؟
لمْلمي الجُرْحَ ما أصابكِ ولَّى = فعْلُ ماضٍ لا يقبَلُ التسْكينا
واظْعَني فوق هَوْدَجِ التوْبِ حتى = يسْكُنَ الروْعُ منْكِ أو يسْتكينا

وهنا ينسى الشاعر همومه كلها ويتفاعل مع قصة تلك الفتاة موقنا أنه ما من حزن ولا هم إلا وهناك ما هو أعظم وأشد إيلاما منه...وأن علينا أن نوقن بحتمية وقوع ما كتبه الله علينا من أقدار مقدرة حيث لا رادّ لقضاء الله ....فما علينا إلا أن نلملم جراحنا وننسى الماضي ونلتفت للمستقبل وأن لا ندع تلك الأحداث والأحزان تقودنا إلى اليأس ..........وأن نتوب لله من أي ذنب اقترفتاه في ساعة غفلة ...........

وفي الختام أقول سواء كانت القصة حقيقية أم لا...فإنها تبقى واقعية وقد استطاع الشاعر بحنكته المعهودة وامتلاكه لأدوات الشعر واللغة أن يوصلها للقارئ بكل شفافية وإتقان مما جعلنا نتفاعل معها وكأنها تقع أمامنا ونشاهد كل تفاصيلها........

قديم 12-11-2015, 06:00 PM
المشاركة 39
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
فيما يلي فصل عن الشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري) جاء ضمن بحث الناقد المصري الأستاذ عبد الله جمعة بعنوان (الطريق إلى الشعر)

نتناول في هذا الفاصل مجموعة من زوايا الرؤية التي يتخذ منها الشاعر وجهة نظر في مواجهة واقعه الشعري محاولين تطبيق كل فلسفة من خلال نص شعري من شعراء القناديل قدر الإمكان حتى يكون الأمر قريبا من تفاعلنا ...
1 – فلسفة الشكوى :
وهي واحدة من دوائر النضج الفكري الشعري تتولد من الصراع النفسفكري بين الشاعر وواقعه الشعري وفيها يتبنى الشاعر قيم الشكوى وعدم الرضا والسخط المستمر على كل ما يواجهه من مثيرات في هذا الواقع وفي هذه الدائرة يقوم الشاعر بتركيز تصويره على أدق تفاصيل الواقع القبيحة من خلال شكواه المستمرة متهما الواقع المحيط بفعل كل منتقص مفندا نواقص هذا الواقع وهذه الطبيعة الشعرية ترتكز على تضخيم المشكلة التي يتناولها في تجربته وتعد هذه الفلسفة خيطا يمتد عبر أغلب تجاربه على تنوعها وتقلبها ومن ثم يمكن وصف هذا الشاعر بالشاعر الشكّاء ومن هؤلاء الشعراء الذين دخلوا تلك التجربة بقوة وقاموا بملئها الشاعر الكبير ( عبد اللطيف غسري ) وسوف نتحقق من معالم تلك الفلسفة من خلال تعرضنا لبعض من نصوصه محاولين تحقيق معالم تلك الفلسفة من خلال نصوصه .
من قصيدته ( قدر القصيدة ) :


أنينُ الحَرفِ في السَّحَرِ انْشِغالُ
بِـآلامِ القصِـيـدَةِ وَابْتِـهَـالُ
ولِلكلمَاتِ في وَصـفِ اللآلـي
جنوحٌ بالبَيَـانِ لـهُ اشْتغـالُ
فإن صَدَحتْ قرَائحُنا ببَعـضٍ
منَ الأشجانِ يرسُمُهُ الجَمَـالُ
فما كنَّـا علـى وَتـرٍ وقوفًـا
ولا أغرى جوانِحنَـا الـدلالُ
ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ
فكيفَ نُلامُ مِمَّنْ ليسَ تُرْعَـى
لهُ في الشِّعر نُـوقٌ أو جِمـالُ
وكيف يُقالُ ليـسَ لنـا ذِمـامٌ
وكيفَ يُقالُ فُـكَّ لنـا العِقَـالُ
وإنَّـا لا نبَـالـي باعْتـقـادٍ
ولا مَا تستقيـمُ بـه الخِـلالُ
إذا عَنَّتْ لنا بيـضُ القوافـي
على كثبٍ أوِ انْفتَـحَ المَجـالُ
لزرْعِ غيَاهبِ الأوقاتِ بِشْـرًا
فيُصبِحَ للوجـودِ بـهِ اكتمـالُ
وتلـكَ مقالـة ٌ لِلجَهـل فيهَـا
نـزُوعٌ واحتِبَـاءٌ واتِّـصـالُ
قديمًا أبْـرَقَ الجُعْفِـيُّ قـولاً
إلى مَن في مَدَاركِهِ عُضـالُ:
"ومن يكُ ذا فمٍ مُـرٍّ مريـضٍ"
فلا يَحلو لهُ المـاءُ الـزلالُ*
بِزندَقـةٍ قـدِ اتُّهِـمَ المعَـرِّي
ولمْ يكُ فِي الضمير لها احتمالُ
أدِينَ بمِثْلِِها الحَسَنُ بْنُ هانِـي
وقِيلَ لَبِئسَ قَوْلُـكَ والخِصـالُ
وبَعضُ النَّاسِ ليسَ لهُمْ عقـولٌ
فتُدركَ ما يَقولُ بـه الرجـالُ
فكيفَ إذا أتى الشعـراءُ يومًـا
بقولٍ لا يُحيـط بـهِ الخيـالُ
ترَاهمْ يَنظرونَ إلـى قُشـورٍ
لهَا عَن زُبْدَةِ المَعنى انْفصـالُ
ويَنتبذونَ عَـن عَمْـدٍ مكانًـا
قَصِيًّا في الجَهالـة لا يُطـالُ
فَذا قدَرُ القصِيدَةِ ليتَ شعـري:
عروسٌ لا يَطيبُ لهَا الوصالُ


الشاعر في هذه القصيدة يحاول أن يرسم لنا ما آل إليه قدر القصيدة من هوان على يد من لا يرعون للشعر حرمة ولا يقيمون لرحم الشعر وزنا حيث يسيطر بعض من لا يملكون حسا نقديا أو دعما معرفيا على دائرة الشعر فيطلقون أحكاما لا علاقة لها بالإبداع بل تنم عن جهلهم في تحويل مسار القصيدة بعيدا عما خلقت له وهذا هو الواقع الذي يتصادم معه الشاعر ومن ثم فقد أعد عدته وجهز أسلحة الشكوى التي يمتلكها ودخل دائرته الفلسفية التي تمثل وجهة نظره وبدأ في عرض تفاصيل تلك الشكوى الممثلة في :
أولا : مدى المعاناة التي يعيشها الشاعر في إنتاج الحرف الشعري وآلام المخاض الشعري العسر حيث يبدأ الأمر بالانشغال بأنين الحرف وتوجعه وكأن آلام الطلق الشعري قد بدأت تعلن عن ميلاد تجربة ولكي يعد تمهيدا منطقيا للشكوى القادمة في الأبيات التالية جعل ذلك الأنين في أكثر الأوقات التي يكون فيها الناس العاديون في حالات الاسترخاء ورفاهية النوم ولكن الشاعر في ذلك الوقت يكون قد بدأ مرحلة المعاناة الشعرية فهو يعيش نقيض ما يعيشه الناس ففي وقت راحتهم هو ساهر على تجربته يعاني من آلامها ووجعها وحين تتحرك دوافعه النفسية راغبة في التفجر باحثة عن ممرات تعبيرية مناسبة يبدأ الانشغال في البحث عن تلك الممرات الممثلة في المركبات البيانية والتي هي تمثل جنوحا من قبل الشاعر عن الواقع ومحاولة منه للالتفاف حول هذه الواقع لإعادة تصويره وبنائه في الحيز الشعري فيتحول الأنين والألم لدى الشاعر إلى جمال تتقبله ذائقة المتلقي فيستمتع هو على الرغم من أن من أنتج هذا الجمال كان يعاني تماما كالأم التي تتألم في المخاض وتعاني أشد المعاناة لتخرج وليدها بهي الطلعة كل من يراه يتعجب من جماله ؛ " أمن الألم تولد هذه الجمال ؟" ولكن من يراهن على جمال الوليد لم ير ولم يستشعر ضراوة الآلام التي مرت بها تلك الأم ( الشاعر ) في ولادة هذا المخلوق الجميل الممتع ... ثم يبدأ الشاعر في تبرير رغبة الشاعر في ممارسة هذا العذاب بكامل إرادته فهو لا يبغي من ورائها ثمنا اللهم إلا رؤية وليده في صورة صحيحة جميلة يعجب الناظرون لرؤيتها ...
ثانيا البدء في عرض تفاصيل الشكوى : حتى الآن الشاعر يمهد لعرض خيوطه النفسية التي ستمثل زاوية رؤيته وهي ( فلسفة الشكوى ) فيبدأ الانطلاق نحو تلك الصبغة التي يصطبغ بها ( عبد اللطيف غسري ) في الكثير من قصائده وهي الرغبة في الشكوى المستمرة من هذا الواقع وتكون إشارة البدء لعرض تلك الفلسفة من أول البيت السادس , حيث يعلن عن تعجبه ممن لا يمتلكون حسا شعريا أو نقديا ويتعرضون باللوم لذلك المنتج وهم لا يدركون مدى معاناة الشاعر في تخريج ذلك الوليد المرهق وقد مرت شكواه في هذا البيت من خلال ثقافة عربية ضاربة بجذورها في التاريخ ممثلة في مثل عربي - تناص معه الشاعر بمهارة وإتقان - حين قال ( فكيف نلام ممن ليس ترعى - - - له في الشعر نوق أو جمال ) فأحال المعنى على الحكمة العربية حيث لا يحق لمن ليس له ناقة ولا جمل في الأمر أن يدلي بدلوه في مضمار ليس له فيه شيء .. [ وهذا ماكنت أعنيه في المحاضرة السابقة من (((الامتلاء الفكري))) ... وهي قدرة الشاعر على استدعاء ما يشاء من رافده المعرفي وقتما يشاء بأي حيثية يشاء ] ثم ينتقل الشاعر بين تفاصيل شكواه ممررا خيطه الفلسفي الشاكي في الأبيات التالية للبيت السادس من خلال الاستفهام التعجبي الذي جعل منه الشاعر صابغا لفلسفة الشكوى التي اصطبغ بها سائلا : فكيف نتهم بأننا ليس لنا ذمام من هذا الأخرق الذي لا يعرف قيمة العمل الشعري وكيف يتهمنا بالعشوائية الفكرية وأننا لسنا من أصحاب الاعتقاد ونحن الذين نكمل النواقص ولا تصبح للدوائر معان إلا بنا لأننا المتممون لتلك الدوائر فنحن بسمة اللذة في الوجود ونحن أمل التائه في صحراء النفس القاحلة , إن من يدعي ذلك علينا إنما هو جاهل موغل في الجهل ثم استدل من خلال ظاهرة التناص مع تراث شعري حيث اتهم من يقول هذا بمرض الفم وخبثه وعدم قدرته على صياغة الجمال أو التلفظ به ... ثم بدأ في استحضار الشعراء الذين يثبتون أن الشعر كائن مقدس ومحراب للزاهدين فجاء بالمعري وأبي نواس " الحسن بن هانئ " ذلك المتهم بالزندقة أليس قد ختم حياته زاهدا من أتقى الزاهدين والعبرة بخواتيم الأعمال وقد سُبِق بتلك التهمة من قبله المعري ... ( إن هذا ما عبرت عنه سالفا من الحديث عن الامتلاء الفكري عند الشاعر فلولا وجود هذا الجانب المعرفي بحياة المعري وأبي نواس في مخزون الشاعر ما استطاع جلب هذا المعنى الخالد الرقيق الشفاف )
وتتجلى هنا فلسفة الشكوى الظاهرة في شعر عبد اللطيف غسري وكأنها عرق رخامي يمر في حائط البناء الشعري للقصيدة واضحا جليا حين يبدأ في إلقاء اللوم على بعض الناس ممن ليست لهم عقول فيستقبلون قول ذلك الناقد المريض على علاته ويصدقونه فيكون هذا الناقد المريض قد شوه صورة الشعر دون أن يدري وبجهل مقيت ..
ومن عيب هؤلا النقاد أنهم غير قادرين على الغوص في أعماق المعنى وإدراك ما وراء الكلمات فيشغلون أنفسهم بالقشور دون الغوص وراء الدرر الكامنة في قاع القصيدة الشعرية
ثم يختتم بتلك الحكمة الرائعة الهائلة التي جسدت وكثفت هدف التجربة كلها إن القصيدة بين أيدي هؤلاء الأغبياء مثل العروس التي تزوجت ولكنها لم تنل من متعة الزواج شيئا وكأنها ( كالبيت الوقف ) كما يقول المصريون
لم أكن من خلال العرض السابق أعني شرح الفكرة العامة للقصيدة فهي واضحة وضوح الشمس ولكنني مررت من بين افكارها لأبين كيف أن هذا الشاعر قد اتخذ من ( فلسفة الشكوى ) زاوية رؤية فكرية يرى من خلالها الواقع
وسوف أستعرض جزءً أخر من تجارب للشاعر ( عبد اللطيف غسري ) محاولا تحقيق معالم تلك الفلسفة أو زاوية الرؤية أو وجهة النظر في مواجهة واقعه الشعري ومنها قصيدته ( إلى البحر أطوي كل موج ) وهي واحدة من الروائع التي نستدل منها وبها على معالم تلك الفلسفة التي تقوم على الشكوى يقول في مطلعها :


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِـفُ
وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِـكَ عَاكِـفُ
وَأوْراقُـكَ العَـذْراءُ سِفْـرٌ طَوَيْتََـهُ
وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيـهِ قطائِـفُ
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟



إنه يبدأ بالشكوى إذ يقول ( يخب حصان الشمس والظل واقف ) لقد أحسست أمام هذه الجملة بأن الشاعر يصرخ إلى الداخل تاركا صدى الصوت هو الذي يخرج لنا مرتدا من داخله فإن ترك صراخه منطلقا إلى الخارج لأصبنا بالصمم من شدة صراخ الشكوى ... إن ( الخبب ) هو السير السريع فإذا خب الفرس نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدوة الواحدة من سرعة العدو فصور الشمس جوادا ينطلق بسرعة مخيفة ثم مرر خيط الشكوى واللوم في قوله ( والظل واقف ) ويستمر في تفريغ شحنة الشكوى اللاحقة ( وأنت على تشذيب حلمك عاكف ) إن انفجار الشكوى كان مكمنه ( إنك تقوم بتهذيب حلمك الذي لم يعدُ كونه حلما والشمس التي هي رمز للحياة تتحرك بسرعة والظل الذي هو رمز لك مازال واقفا ... والمفارقة الرهيبة في أننا حين نرى الشمس تتحرك يكون المتوقع أن الظل يتحرك معها ولكن الشاعر أبى إلا أن يحقق التناقض في مفارقة غاية في الروعة والابتكار فجعل الظل تاركا الشمس واقفا لا يتحرك فالحياة تسير وأنت واقف ما زلت تسعى بحلمك إلى غاية الاكتمال لم تصل به إلى حيز الوجود بعد ...) إن الشاعر هنا يشكو ولكن ما قضية الشكوى المتفجرة في ذلك المطلع الذي هو بوابة الولوج إلى مضمون وهدف القصيدة ... ؟ إنها الشكوى من سرعة الحياة التي لم يعد المتقن المتأني قادرا على ملاحقتها ولم يعد له دور فيها ومن ثم فمن أراد ملاحقة الحياة عليه أن يخرج أحلامه منقوصة غير تامة أي يقتل ضميره ويسير على مبدأ الغش وتزييف بضاعته حتى يستطيع أن يواكب سرعة تلك الحياة ...
إن الشاعر عبد اللطيف غسري تضج قصائده بالشكوى ولا يكاد يمر بيت علينا من قصيده إلا ولاحظنا تلك المسحة من الشكوى العارمة من كل شيء , كل شيء ...

قديم 02-21-2016, 02:46 PM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مقطع من قصيدتة الاستاذ غسري الذي نفتقد جديده ونتمنى ان يظل هناك اهتمام في شرح ديوانه الشعري:

تعالي وحطي على كلكلي
...

وَيغْتسِلُ الجَمْرُ مِن ماءِ حَرْفِي
وَمِن وَدْقِ قافِيَتِـي المُنْـزَلِ

غَزَلْتُ رداءَ الحِكاياتِ حتَّـى
تَوَعَّدَنِـي ضَجَـرُ المِـغْـزَلِ

وهـذَا الفـؤادُ فـلاةٌ بَـرَاحٌ
بهَا غَيرُ خيْلِكِ لـمْ تصْهَـلِ

ألمْ يَخْتبِرْ فِيكِ غَيْظَ المَرَايَـا
وَمَوْجِدَةَ الكأسِ والمِشْعَـلِ؟

ألمْ يَغْفُ فِيكِ؟ ألـمْ يَلْتَحَـفْ
بِثَـوْبِ نَضَارَتِـكِ المُخْمَـلِ؟

ولولا شُموعٌ بِكَفَّـيَّ يَقْظَـى
أفَـاقَ قليـلاً ولـمْ يَعْجَـلِ

فإنْ تسْألِي كَيفَ يَذوِي الرَّبيعُ
يُنَبِّئْكِ صَيْـفٌ، وَإنْ تسْألِـي

لِماذا هَوَتْ لَبِنَـاتُ الأمانِـي
تُخَبِّـرْكِ ذاكِـرِةُ المِـعْـوَلِ

وها أنتِ في نَزَقِ الياسَمِيـن
تعودِيـنَ بالعَبَـقِ الأكْـمَـلِ

إلَـيَّ فَعُـودِي وَأَلْقِـي إلَـيَّ
بأجْنِحَـةِ الخَبَـرِ المُهْـمَـلِ

ألـمْ تعْلمِـي أنَّ يَوْمِـي إذا
توَارَيْتِ فِي لَهَبٍ يَصْطلِـي؟

إليكِـ أَقُبَّـرَةَ القلبِـ أهـفُـو
تعالَيْ وَحُطِّي على كَلْكَلِـي!


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: قراءة معمقة لبعض روائع الشاعر عبد اللطيف السباعي
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اِبتهال في ليلة القدر / الشاعر عبد اللطيف زغلول لطفي زغلول منبر مختارات من الشتات. 8 02-08-2021 09:12 AM
قراءة نقدية معمقة لقصص مبارك الحمود ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 41 12-11-2017 11:26 AM
سر الابداع وآليات توليد القصيدة لدى الشاعر المغربي عبد اللطيف السباعي (غسري) عبد اللطيف السباعي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 09-11-2014 05:18 PM
تتويج الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري أميرًا للشعراء العرب (صنف القصيدة العمودية) عبد اللطيف غسري منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 9 12-08-2011 09:09 PM
جلسة إلى الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري (1) المقدمة والاستهلال _ الشكل والمضمون عبد اللطيف غسري منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2 11-26-2011 12:24 PM

الساعة الآن 11:39 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.