احصائيات

الردود
5

المشاهدات
6841
 
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية

فارس كمال محمد is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
65

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Apr 2014

الاقامة

رقم العضوية
12850
04-15-2014, 10:59 AM
المشاركة 1
04-15-2014, 10:59 AM
المشاركة 1
افتراضي فردريك نيتشه .. بين الايمان والالحاد
المقالة سبق لي نشر اجزاء منها .. وقد اعانني الله على تنقيحها والاضافة عليها
والعمل كله قد تم بجهد خاص .. فكل خطأ فيه فو مني ..

فردريك نيتشه .. بين الايمان والالحاد

فارس كمال محمد


لم يكن الوهم الذي عشش في راس نيتشه كالوهم الذي يتملك عقول المجانين ... حقا ان مسحة الاعجاب التي ابداها في نفسه عندما قال عنها ما قال وهو يمتدح اسلوب كتابته وفرادة افكاره والحكمة الطافحة التي تفيض بها بحور علمه وان التاريخ الفكري سيشهد انعطافة حادة في النقطة التي ظهر هو فيها ، وسيقسم تاريخ الفكر الى مرحلتين احداهما تلك التي سبقت ظهوره اما الثانية فهي التي بدأت منذ ان اشعت شمس افكاره لتنير للانسانية ظلمة دنياها وتهديها الى طريق النجاة والنجاح ، قد كان فيها شيء من المبالغة كبير وخصوصا حينما ذهب به الزهو الى وصف احد كتبه بانه اعظم كتاب ظهر في العالم ، وان الفكرالذي جاء به هو اعلى من المستوى الفكري الشائع ذلك الوقت ولن يفهم الناس افكاره الا بعد مرور مائة عام اخرى .
وصحيح ان من الاحتمالات الممكنة ان تكون هذه الاندفاعات (( المبالغة )) مظاهر اختلال طارئ على كيمياء دماغه والسبب الذي انهى حياته الفكرية واطفأ جذوة الابداع ومخايل العبقرية في رأسه ، فعاش بعدها سنينا قاسية غارقا في سورة مؤلمة وشدة قاسية وآلام ممضة وجنون اطبق على عقله باحكام .. وربما بعث هذا الاختلال برسائله فطرقت ابواب وعي نيتشه في شكل خفي كما تطرق الاحساسات الخفيفة الصادرة من الاعضاء المعتلة في جسم الانسان ابواب وعي صاحبها فتبدوا له على هيئة احلام سماها فرويد بالـ (( تنبؤية )) يرى فيها ((على سبيل المثال)) ان عملية جراحية تجرى له في احد اعضاءه وهو لا يدري انها رسائل استغاثة بعثها عضوه المعتل ذاك ، لكنها من الخفة التي لم تحرك ملكة الانتباه فيه ، وان الصورة التي بدت فيها عند نيتشه كانت في ادراكه للواقعة الطبية الصحيحة التي عبر عنها بقوله (( ان قطرة من الدم تزيد او تنقص في المخ قد تسبب لحياتنا من الشقاء والالم ما يجعلنا نقاسي اكثر مما قاسى بروميثيوس في عقابه ...)) .. قد يكون كل هذا صحيحا لكنه لا ينفي ان نيتشه كان (( واحدا من اعظم الشخصيات المصيرية في التاريخ الروحي للغرب )) وفيلسوف له من التاثير العميق والواسع ما نلمسه في كثير من النظريات النفسية والاجتماعية والمدارس الفلسفية والسياسية ، وقد قيل عنه (( رجل اقدار يرغمنا على اتخاذ قرارات نهائية )) حينما دعى الى رفض كل ماهو(( مقدس)) و((خير)) و((حق )) في حياتنا والعودة بالفكر الى بداياته الاولى واخضاع نشاطات العقل وما ولده من اعتقادات واخلاق وافكار الىى تحليل جديد ووزنها بميزان غير الذي كنا نزن فيه ونستند اليه .. وعلى الرغم من مبالغاته التي ذكرت فقد شهدوا له ((بان سناء الفلسفة الاوربية قد صفا وراق جوها بعد ان كتب فيها نيتشه )) وشهدوا له ببراعته الفائقة في كتابة النثر الالماني وتميز اسلوبه في الكتابه حينما خلط المداد بالروح وكتب بقلم كأنه مطرقة .
راى بعضهم ان نيتشه ((صاحب قلب مؤمن وان كان عقله كافرا )) وقالوا ان الاله الذي قال عنه(( قد مات)) لم يعن به الله (( تعالى الله عما يصفون )) بل اله الناس الذي رسموه بايديهم وعبدوه بما يتماشى مع الموازين الخاطئة التي عندهم ، وراى اخرون ان نيتشه ملحد القلب والعقل ، و من يعتقد ان له اساسا متينا من الروح الدينية المؤمنة فهو مخطئ، واذا كان له عمر قضاه في رعاية ابوين متدينين واب قسيس حريص على نشر التعليم والتربية الدينية الملتزمة ، فان ما خلفه من اثار في قلب نيتشه كان سلبيا تماما وقد ولد فيه ردة فعل عنيفة لدرجة انفجر فيها غيضه وانطلق لسانه فقال الذي لم يجرؤ على قوله احد من الذين امتلات قلوبهم الحادا وكفرا .
ولنيتشه اهتمام كبير في اوساطنا الفكرية وبشكل اخص عند الشرائح المنفتحة على مدارس الفكر الغربي الحديث ، ولهم اعجاب وتقدير بالثورة التي اعلنها على الاصنام المصنوعة من الوهم ودعوته الى رفض الموروث الثقافي كله ، الموروث المبني على فكرة الثبات والمركزية ((الواقعة خارج الانسان او داخله )) بالشكل الذي يجعل من المكونات المادية للوجود ((الفيزيائي)) والانساق الفكرية والاجتماعية التي ينتظم فيها الانسان ، كيانات متوحدة ومتماسكة تدور حول مركز يضفي عليها صفات الدوام والثبات ، ومثلما ابدى نيتشه انكاره للموروث وتهكمه من القناعات التي آمن بها الناس ابدى مثقفونا و مفكرونا انكارهم لموروثنا الفكري وتهكموا من القناعات السائدة عندنا ، اذ الشبه كبير بين حالينا ، حال اوربا ايام نيتشه وحالنا الذي نحن عليه في يومنا هذا ، وكما انكر نيتشه الاله ونبذ الدين فعل اصحابنا مثله ، وان من يتصفح مواقع الانترنيت على اطلاع وبينه من الكم الهائل من المواضيع المدبجة باقلام هذه الشريحة المثقفة ، تعلن الانكار وتثير الشكوك وتظهر التهكم بكل مكونات ثقافتنا الموروثة بما فيها نصوص كتاب الله ((تعالى)) وسيرة نبيه ((صلى الله عليه وسلم ))، انهم يثيرون التساؤلات ويعرضون النصوص بما يعجز عن رده المؤمنون .
وهذا لا يعني ان الحقيقة هي في الجانب الذي وقفت على صعيده هذه الطبقة من ابناء امتنا ، فان ممن يقف في الجانب الاخر ، اناس آمنوا بالله واقروا شريعته. والتزموا باحكام الدين في حياتهم وهم في ذات الوقت ينظرون الى العالم نظرة لاتنكر التقدم ولا تنفي التطور في مفهومه الصحيح ، ولهم اطلاع ومعرفة بمدارس الفكر الغربي في وضوح اكبرومعرفة ادق، وان منهم من امتهن العلم ومارس تدريسه في بلاد الغرب . ومنهم علماء ابدعوا في مجالات علمهم ومنهم اصحاب اعمال حققوا نجاحات وجمعوا ثروات وفي صدورهم قلوب يملؤها الايمان ومحبة الخير .
فعلى كلا جانبي الطريق يقف اناس تفتخر الانسانية بنتاجاتهم وتبعث في نفوس الاخرين الاعجاب بذكاءهم وعلو همتهم .. ولن ينفي هذا تلك الاستثناءات التي يحلو ذكرها عند من عزم على رمي المقابل بسهام نقده .
ولا ادري ان كان لي مسوغ للكتابة عن نيتشه فاقول فيه اقوالا قد قالها الاخرون اذ لم يترك مثقفونا شيئا الا ومروا به وقالوا فيه قولتهم ، ولم يدع اساتذتنا ممتهنو الفلسفة وكتابها جانبا دون اضاءة فاناروا لنا المظلم وكشفوا المبهم وابدعوا لنا فكرا وادبا يلزمنا بالسكوت تادبا وبالاصغاء اليهم تعلما منهم ، لكن عذري ان ممن كتبوا اناس امتلات رؤوسهم بالافكار وفاضت، وصار حالهم كحال النحلة التي اثقلها العسل الذي تحمله ، او كحال الشجرة التي نضج ثمرها فلم يعد لها الا ان تسقطه، وهؤلاء هم صناع الحضارة والعجلات التي تتدحرج عليها عربة التطور .
وان ممن كتبوا اناس جعلوا من الكتابة وسيلة للاستزادة والتعلم بما ينتشلهم من هوة الجهل التي هم فيها وانا واحد منهم .


العبقرية بين الاضطراب الانفعالي والجنون المطبق

من الصفات التي يمتاز بها العبقري وتبدو في سلوكه بوضوح ، رفضه للمالوف من الامور، وحبه الشديد للتغيير، وسعيه الحثيث نحو التفرد والابتكار ، والمعاناة والتوتر النفسي الشديدين المفضيين الى الجنون عند الكثير من الاشخاص الحائزين على درجات مرتفعة في مستويات الذكاء والمقدرة العالية على الابداع ، وهو يرى العالم بشكل غير الشكل الذي في عيون الباقين ويتعامل مع مايدور حوله ويعالج مشاكله بصورة قد تبدو شاذة ومستنكرة وقد تبعث في نفوس مشاهديه مشاعر الاسى والعطف المبنية على الاعتقاد في كونه من المتخلفين في عقولهم والعاجزين عن ادارة شؤونهم والفاشلين في اقامة العلاقات الاجتماعية مع اقرانهم .. ويذكر لنا كتابنا ، المختصون ان فكرة الربط بين الاعراض النفسية المنحرفة والخلل العقلي عند الناس بشكل عام ليست وليدة ايامنا هذه بل لها جذور عميقة واغوار بعيدة في تاريخنا الاجتماعي ، وبالتاكيد انها سابقة على العهد الذي نبغ فيه فلاسفة اليونان لكنها مع ذلك اصبحت في فكر افلاطون ومن بعده ارسطو من المظاهر الموضوعة على مسطبة التشريح الفلسفي ومبضع الفيلسوف الحاذق في صنعته (( لقد ركز افلاطون على ظاهرة الانفعال والغضب الواضحة لدى هذه الشريحة من الناس وكيف انهم يخرجون بسهولة عن اطوارهم وكأنهم يعيشون خارج الزمن والوجود ، واكد ارسطو على مشاعر الاكتئاب والنظر السوداوي لديهم)) ولم تزل هذه المعاني تدور بدوران عجلة الزمن ورافقت الفكر البشري في رحلته التاريخية حتى يومنا هذا ، ولم تخرج عن الثوابت التي اقرتها دراسات علمائنا ومفكرينا المحدثين ، فقد ايدت الاحصاءات التي اجروها على عينات تاريخية معروفة او مختارة من المجتمع الحالي ، العلاقة الموجبة التي تقرن الزيادة في نسبة الانحرافات التفسية والاختلالات الانفعالية بازدياد معدلات الذكاء والسلوك الابداعي، لكنها رفضت ان يكون الجنون امرا محتوما عند هؤلاء العباقرة . وفسرها احد اعلام الفكر الحديث بان الجنون كان سيقع لهم حتما لولا مسارب الابداع التي طرقوها ، وان الاعمال الابداعية التي انتجوها والاستغراق فيها هي التي قطعت طريق الخطر وانقذتهم من السقوط في هاوية الجنون .
لقد توفرت في شخصية نيتشه كل مقومات العبقرية التي ذكروها لنا ، فقد كان ذكيا بشكل لافت للانتباه نال شهادة الدكتوراه وهو في سن الخامسة والعشرين وشغل كرسي الاستاذية لاداب اللغة الالمانية وتاريخها في جامعة بازل السويسرية وتميز باسلوب فني رائع وملكة تحليلية دقيقة وقدرة على السخرية اللاذعة حتى عد ((من اعظم فلاسفة القرن العشرين تاثيرا)) وقالوا انه قد شكل مع كل من ماركس وفرويد الركائز التي قام عليها بناء فكر القرن العشرين كله ، وكان حساسا، كئيبا متشائما ، رفض المالوف من القناعات التي امن بها الناس في وقته وتحدى الاقوياء وطالب بالحرية ورفض الدين واعلن الالحاد ودعا الناس الى انكار ذواتهم والعمل على الارتقاء بانفسهم وتهيئتها لمرحلة يحل فيها ((الانسان الاعلى )) باعتباره الهدف من وجودهم . ثم عاش احد عشر عاما في معاناة وألم نفسي وجسدي شديدين حتى انتهى به الحال لينضم الى قائمة المجانين في آخر عامين من حياته


الانقلاب على النفس والثورة على المالوف وانكار الدين

على عكس ما امن به نيتشه طوال ايام طفولته وما تلقاه من ابويه من تعاليم وافكار، تبنى نيتشه افكاره الجديدة ومبادئ فلسفته على صورة اخرى مناقضة ، كان ابواه مؤمنين بالرب ومن عائلتين متدينتين اذ كان ابوه واعضا بروتستانتيا ومنحدرا من اباء امتهنوا الدين وكذلك امه التي عرف عنها تدينها العميق والتزامها الصادق بتعاليم الدين وشرائعه فتمسك هو ايضا بما تمسك به ابواه واراد ان يصير قسيسا كما كان ابوه ، لقد عاش طفولة هادئة وادعة تختلف كثيرا عما كان عليه اطفال الحارة اجمع ، فلم يهتم بالعابهم ولم يرتض فيهم قسوتهم على الحيونات بل احب القراءة والتامل واستمتع بقراءة نصوص توراته وكثيرا ما كان يتلو على مسامع الاخرين بعض هذه النصوص بصوت شجي مميز طافح بنبرات الصدق والايمان يبعث العيون لترسل دموعها في سخاء وخشوع ولقد اطلق عليه اصدقاءه لقب ((القس الصغير )) ووصفه احدهم (( كأنه المسيح في المعبد ))، وفي وقت مر سريعا و على حين فجأة انقلب ميزان عقله ودارت عجلة فكره فانكر الرب وقال عنه قد مات وتهكم من تعاليم الدين واعتبره من الاصنام التي صنعها الانسان من الوهم وانقلب طبعه وتغيرت هواياته فبدلا من الاهتمام الذي كان يبديه في قراءة الانجيل والترنم به (( حتى صار الدين قلب حياته ولبها)) انغمر مع رفاق له من طلبة الجامعة التي انتسب اليها اخيرا لدراسة الفلسفة مرحلة شبابه ((في حياة داعرة و بحر من الخمور والفجور)) عاشر فيها النساء واحتسى الخمور وتعود التدخين ..
وعند نيتشه شهد المفهوم العام للعقل انعطافة شديدة وانحرافا تاما عكس فيه الاتجاه الى الجهة المعاكسة من رؤيته له فبعد ان كان الفكر الفلسفي العام ينظر الى العقل على انه المفتاح المناسب لفتح ابواب المعرفة و الشرفة العريضة المطلة على عالم الحقيقة فقد سخف هو العقل وانكر قدرته على فهم الوجود بل اعتبره اداة ضلال ، ووسيلة جهل وتضليل وانحطاط ، وما مبادئ الفكر التي يرتكز عليها العقل في بناء يقينياته وانشاء تصوراته تلك التي اسميناها بـ ((الشيئ)) و((الجوهر )) و ((الذات )) و((الموضوع)) و((العلية)) و((الغائية)) الا اوهام ليس لها وجود ماثل في الخارج اخترعها لتعينه على التفكير وتمكنه من الامساك بالموجود. ومن الخطأ زعمنا انها قوانين ومبادئ يتحرك على وفقها الوجود والاصح انها انشاءات وقوالب صنعها بنفسه ليفرغ فيها ما يطرق حواسه ويومض في خياله من رؤى وافكار.. فليس للظواهر التي تعن لنا في حياتنا تلك الاطر والحدود التي تجعل منها صورا ثابتة ومفاهيم ساكنة وجامدة لاتتحرك بل انها في حقيقة الامر في تحرك دائم وتبدل مستمر وصيرورة لاتنقطع ..
لقد بدا نيتشه في انعطافته هذه لاعقليا بالشكل الذي احرج المتنورين واصحاب الافكار العقلانية التي تزن الامور بميزان العقل والمنطق وترفض ما يثار امامهم من افكار بنيت على اسس غير تجريبية واعتبارات ظنية وتاويلات خارجة عن حدود المقبول ، وعلل مفكرونا ثورتة هذه باعتبارها امرا مبررا وله سبب مقبول اذ ان العصر الذي عاشه نيتشه غير العصر الذي نعيشه اليوم ودعوات العقل والاحتكام اليه ان كانت اليوم مقبولة وصحيحة تماما فانها على العكس منه ايام نيتشه حينما كان الجو الفكري العام السائر في توافق مع مصالح المتنفذين واصحاب السلطة والقوة بشكل يجعل من العمل العقلي والتفكير خادما للافكار التي تدعم وجودهم ، وتبرر استمرارهم وتضفي على هذه القناعات صفة الثبات والمطلق
.. فاذا كان هذا صحيحا فان سمة التباين في نظرة العبقري الى العالم واختلافه عما هو معهود في طريقة التفكيرعند باقي الناس عموما ، ظاهرة وواضحة عند نيتشه بشكل كبير .
لقد دعا نيتشه الى العودة الى الوراء في تاريخنا واعادة النظرفي كل ما مر بنا او فعلناه فقد سلكنا طريقا خاطئا ابعدنا كثيرا عن جادة الصواب واوغل بنا في درب الضلال ولم يعد لنا الا الانقلاب على انفسنا ورفض كل منقول وهدم الاصنام التي بنيناها بانفسنا من مادة الاوهام والتخاريف ونصبناها داخل اروقة الاخلاق والسياسة والدين والفلسفة ، ورفض كل ماهو مقدس آمنا به منها الاله ((استغفر الله تعالى ، وله بعض عذر في ذلك سنبينه بعد حين)) والخير والشر والحق ..... لقد كان تاريخنا مبنيا منذ البداية على خطأ جسيم

نظرته الى الاخلاق

على خلاف من نظر الى الاخلاق باعتبارها منظومة ((متعالية)) وقواعد سلوكية واحكام تقويمية صيغت من خارج العقل(( الفردي الجزئي)) لكي يهتدي بنورها الانسان فيحفظ لنفسه حسن السلوك و طيب المعيشة ورضا الرب ، انكر نيتشه ان للاخلاق معايير عامة تختص بالنوع الانساني في ذاته ، ونظر اليها على انها انتاج مرتبط بالشعوب والاجناس والطبقات ومكونات النوع الانساني اجمع ، وهي وليدة التعامل مابين الناس ومحكومة بمصالحهم المختلفة فيما بينهم والى موقع كل واحد ضمن الطبقة التي ينتمي اليها والفئة التي ينضوي تحتها بشكل قد يجعل المقبول والمستحسن من الاحكام الاخلاقية عند فئة مرفوضا ومستهجنا في اخلاق المنتسبين الى الطبقة الاخرى .. فالخير والعدل عند القوي المستبد هو غيره عند الضعيف المستبد به .. والفتك بالضعيف واحتقاره او اذلاله امر يدعو الى الفخر والاعتزاز عند ا الارستقراط الاقوياء لكنه ظلم وشر عند المستضعفين .
ارجع نيتشه الاخلاق الى منبعين رئيسيين ، اخلاق ((السادة) واخلاق ((العبيد)) . والسادة هم الطبقة الممتازة في المجتمع صاحبة الاخلاق العليا والقوة والجرءة وهم المسيطرون الفخورون بما امتازوا به من صفات ‘ والحريصون على بقاء الحاجز الذي يمنع امتزاجهم بطبقة العبيد المنحطين المستضعفين المتصفين بصفات الضعة والضعف والخنوع .

حركة التاريخ

لما كان تاريخ الانسان يصنعه الانسان نفسه فان حركة هذا التاريخ ((عند نيتشه )) مبنية على سلوك هاتين الطبقتين من البشر . فلو رجعنا الى الوراء واطلعنا على ما فعله الانسان لراينا ان من صنع الحضارات العظيمة انما هم اولئك السادة الارستقراط الابطال الاشداء حينما جابوا الارض وساحوا فيها ، مغيرين على بلدانها، فاخضعوا الشعوب الضعيفة واستعبدوا اهاليها وآمنوا بمبادئ القوة واحتقار الضعفاء .
.. من هنا نشات احكام الاخلاق وتوضحت تفاصيلها فكانت تدور في جوهرها (( عند الاقوياء )) على محبة الغزو و تمجيد القوة والتحلي بصفاة البطولة والفتك بالاعداء و((الاشمئزاز من علامات الضعف والضعة والاستخذاء )) واحتقار الضعفاء والتسلي بمباريات القوة والقتال والتحلي بمزايا النشاط البدني وسرعة الحركة وقوة العضلات وحب الصيد والرقص والالعاب البدنية العنيفة وكل (( ما يكشف عن حيوية فياضة حرة مسرورة)) واذا ما ابدى احدهم شيئا من العفو على الاخرين فلانه قوي يفيض عليهم بقوته لكنه يرفض العفو منهم اذ لو كان له حق عندهم لاخذه منهم بالقوة والاجبار .. وهو ((يشعر بسرور عميق حينما يعذب غريمه وما دونه من الضعفاء)) .. ومن هنا نلمس في هذه الطبقة حبهم للماضي والسلف وتوقير الاجداد لدرجة ألّهوا البعض منهم وقدموا لارواحهم القرابين، ثم انهم حافظوا على نقاوة صفاتهم وتجنبوا الاختلاط بمن هم دونهم ((بما يحفظ لهم استمرار السيادة والبقاء)).
اما الضعفاء فلهم احكام اخلاقية اخرى تختلف عن تلك التي عند المتسلطين ، ولدها فيهم ما عانوه من المآسي والالام التي كابدوها حينما رزحوا تحت نير اولئك المتسلطين وظلمهم ، واكتووا بنارالذل والاستعباد وتجرعوا مرارة الخذلان والهوان ،ولم يتسن لهم صد الهجمة وتحرير انفسهم لما كانوا يعانونه من عجز في القوة واحباط في الهمة وخوف على الحياة ولم يكن لهم الا الخضوع والخنوع والقبول بالامر الواقع واضمار مشاعر الحقد المدفون في الاعماق ، ولو وقعنا على اعمق اعماق مشاعرهم لراينا ايمانهم الراسخ ووعيهم الواضح بان القوة والسطوة هي القيمة الحقيقية التي تنشدها النفس والهدف والغاية التي يسعى اليها الانسان الا ان الضعف في القوة والخور في العزيمة والعجز في الانجازلديهم دفعهم لان ((يخلقوا لانفسهم قيما اخلاقية جديدة صارفيها معيار الخير الذي في اخلاق اولئك المتسلطين شرا عندهم والعكس من ذلك ايضا صحيح فبدلا من ان يكون الرجل (( محاربا مغامرا ينشد السيطرة والغزو ويحتقر التواضع والجبن فلا يعرف رحمة ولا تلطف ويفيض قوة وشدة ، يحتقر العبد ويرهقه وينكل به ويعذبه ويحط من كرامته ومركزه )) صار على الانسان في نظر هؤلاء الضعفاء التحلي بصفاة ((التواضع والسماحة والتعاطف والرحمة والعزوف عن نشدان البطولة ومحاربة الاخرين واحتقار الحياة والسعي لها ونكران النفس والرغبة في الزهد والتقشف ...)) .
لقد آمن(( ديوجنس)) بالذي امنت به ((الرواقية )) و(( الكلبية)) فدعى الى الاكتفاء بالذات والعيش بالحد الادنى من مقومات البقاء وامتهن التسول والنوم في الطرقات وحسد الحيوان على طريقة حياته البسيطة لدرجة ان تقبل لقب ((الكلب )) الذي اطلقوه عليه دون تذمر مع ان ما يتمتع به من الامكان والقدرات كفيل لان ييسر له العيش في صورة اخرى على عكس التي هوفيها ولتمتع بالسمعة العالية والدرجة المرموقة والثراء الفاحش بكل تاكيد ، قيل انه لما بيع عبدا من قبل قراصنة قبضوا عليه اثناء تجواله ، اوكل اليه سيده الذي اشتراه تربية ابناءه والاشراف على شؤون قصره فاحسن القيام بالمهمتين احسانا ادهش السيد فاطلق عليه ((العبقري الصالح )) وهو قبل كل هذا رجل مصرفي لكنه افلس فجره افلاسه الى السير على طريق آخر جديد ، وقيل عنه ((صاحب جدل بارع )) مكنه من التغلب على كل من خالفه الراي في حياته كلها . لقد كان ديوجينس مثالا واضحا وصورة حية للمثل الذي اراد نيتشه وصفه لنا عند الحديث عن اخلاق (( العبيد )) واي مثل اكثر بلاغة من اعجاب ديوجنس بمعيشة الحيوان فقام بتقليده ونام مثله في الطرقات وقضى حاجته ((على مرأى من الناس اجمعين )) ، راى طفلا يشرب الماء بيديه فرمى هو بكوب الماء الذي يحمله وبدا شرب الماء كالطفل بيديه... وصار الفقر صفة حميدة تقرب المخلوق الى خالقه وتزيد الحسنات في رصيده ..
ومع كل هذا فان رغبة االانتقام والثأر باقية على شدتها تغلي وتفور في اعماق نفوسهم مهما اهالوا عليها من اتربة التقادم والنسيان او برروا وعللوا اوفلسفوا ، اواخضعوا هذه الاندفاعات لتحولات النفس من تسامي و كبت وتحويل بين وسائل الاشباع وديناميات النفس، وكم مرة شهد التاريخ انفلات بعض هذا المدفون فيخرج من بين ركام هائل وصبر نافد والام لاتحتمل فيطفو على السطح في شكل متخفي تارة (( كانكارهم للقيم والافكار السائدة السائرة على درب تركيز مصالح الطبقة المسيطرة واستمرارية وجودهم )) وتارة اخرى في صورة رفض واستنكار ومقاومة وثأر، تلك الصورة التي اسماها (( بثورات العبيد))
واذا كانت الصراحة والصدق ومواجهة الاخرين بما يختلج في النفس من مشاعر وافكار سمات واضحة وسجايا يتحلى بها القوي، فقد صارت المراوغة والمكر والمداورة والنفاق بدائل موفقة واخلاق فاضلة يحفظ بها الضعفاء العاجزون عن المواجهة ماء وجوههم ويداروا جبنهم ويعفون بها انفسهم من الزامات الدفاع عن النفس وحفظ الكرامة ورد الاعتداء بعد ان غيروا تسمية ((العجز)) الذي فيهم (( بالاحسان والطيبة والصبروالرحمة والتواضع )) ليقروا في نهاية الامر ((قيم الضعف والذلة والخنوع والعجز ))
من الصور التي جمعت بين القوي والضعيف او السيد والعبد ذلك المشهد الذي جمع بين (( الاسكندر الاكبر )) بكل ما يحمله من روح ارستقراطية واحساس بالسمو وهمة عالية وشدة بالغة لدرجة انه لم يخسر حربا واحدة طيلة احد عشر سنة قضاها في الحرب ضد قوات فاقته عدة وعددا وتمكن من توحيد الشرق والغرب مما ترك اثرا بالغا وتاريخا (( مشرّفا )) عند من امن بمبادئ الشجاعة والجرءة والاقدام .. وبين (( ديوجنس الكلب )) الذي ذكرناه حينما كان نائما تحت اشعة الشمس على طريقته التي اعتاد عليها في تشبهه بمعيشة الحيوان ((وقيل انه اتخذ لنفسه دنا - وعاء كبير - ينام فيه)) .. وقف الامبراطور العظيم على راس ديوجنس معرفا نفسه بانه (( الاسكندر الاكبر)) وعرف الاخر نفسه بانه ((ديوجنس الكلب )) وقيل ان الاسكندر لما سال ((الكلب)) عن جدوى سلوكه المهين هذا وقبوله حياة الابتذال والكسل في طلب مقومات الحياة ، كان جواب ديوجنس مسبوقا بسؤال وجهه الى الاسكندر عن المغزى من سعيه في دنياه وطلبه الرفعة والسمو والقوة ومن تجييش الجيوش وخوض المعارك دون اشفاق على الارواح التي تزهق والخراب الذي يتخلف ، وكان الجواب هو انه سيقوم بغزو دول واحتلال اراض وتكوين امبراطورية تضم الارض كلها ، الا ان ((الكلب)) عاود السؤال عن الذي سيفعله لو حقق كل ذلك ..فاجاب الاسكندر بما معناه انه سيجلس عندئذ مرتاحا سعيدا (( على اعتبار ان هذا هو الهدف )) اجاب ديوجنس بقوله .. ها انا جالس وكلي سعادة وارتياح ، ...... كانت الصورة تجسيدا موفقا لاخلاق وسلوك كل من طبقتي الاسياد والعبيد .

اوهام الدين واصنامه
ومن الوسائل التي لجأ اليها الضعفاء لتبرير ما اقروه لانفسم من انتهاج سلوك استسلامي وعجز فاضح اختلقوا للوجود تصورا يدعم الذي اقروه ويجعل من اعمالهم واحكامهم التي تبنوها ((بقبولهم واستحسانهم الظاهري لكنهم في حقيقة الامر على النقيض من ذلك)) ظواهر متوافقة وسجايا مستحسنة وردود افعال مترابطة تنتظم داخل تصور شمولي كلي للوجود يعطي لكل الذي اعتمدوه صورة منطقية وشكلا عقلانيا مقبولا .. فاصبح للانسان وفق تصورهم الجديد روح مفارقة للجسد وارادة حرة بامكانها التحرك وفقا لاملاءاتها الذاتية المبنية على التفهم والاقتناع الذاتي وغير محكومة باي الزام خارجي قاهر فصار العجز الذي عانوه والذل الذي رضخوا له اختيارا حرا وسموا اخلاقيا رفيعا تقره الاخلاق ومبادئ الانسانية التي امنوا بها اذ ان ما ينتظرهم في اخر الامر جزاءا حسنا واجرا كبيرا وربا رحيما وجنة ونعيما دائمين ..
لقد جعل نيتشه من صراع طبقتي السادة والعبيد الاساس الذي قام عليه تاريخ الانسان الاجتماعي كله ابتداء من انتشار الابطال الاقوياء على بساط الارض فاخضعوا الضعيف واذلوه واستعمروا الاراضي واستباحوا خيراتها لانفسهم واقروا الاخلاق التي تناسب مواقعهم وسنوا القوانين التي تخدمهم .. ومرورا بردود افعال الضعفاء المستكينين عندما رضخوا للضغوط القاهرة وامتثلوا للاوامر المجحفة واضمروا في انفسهم مشاعر ((الذحل)) المنطوية على الاندفاعات الدفينة في صدورهم للرد والانتقام والتحرر من سطوة الاقوياء . تلك الاندفاعات التي امكن لها ان تظهر على السطح في ثورات العبيد ومن هذه الثورات تلك التي قام بها اليهود (( حينما تجاسروا على قلب معادلة القيم )) .. لقد راى نيتشه ان مشاعر ((الذحل)) هذه تعيش في قلب اليهودي في اعنف صورها واشد تأثيراتها بعد تاريخ عاشه في ذل وخضوع ومن هنا كان الصراع المرير بين اليهود والرومان، الصراع الذي انجب ((المسيحية لتحمل لواء النضال ضد السادة )) .. لقد راى نيتشه ان المسيحية ابنة اليهودية استقت منها التراث والقيم ومنها استوردت رجالا كبارا واعلاما بارزة منهم القديس بطرس والقديس بولس ..
ولقد كان للصراع هذا مراحل وجولات دارت بين الشد والارخاء والنصر والهزيمة ..كان اخرها انتصار الثورة الفرنسية التي اعدها انتصارا لقيم العبيد المبنية على مشاعر الذحل الممقوت (( وظهور نابليون كان من الامور الهائلة التي حدثت في الفترة هذه و لم تكن مما يرد في الحسبان اذ نهض بنهوضه المثل الاعلى على قدميه في جلال وجسارة امام اعين الانسانية وضميرها ليسيرمع نابليون بالعجلة على طريق القيم التي بناها السادة الابطال ، لكنه سقط سريعا وغاب فخفت معه نور الشعاع الذي اطلقته امجاد الابطال ))


تكملة المقال في صفحة اخرى تالية[/font][/size]


قديم 04-15-2014, 11:17 AM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرحبا استاذ فارس كمال محمد

لما كان الموضوع واحد ومن اجزاء ثلاثة ارتأيت جمعه في ملف واحد لعل نقاشا يجري حوله في نفس المكان:
مع التحية ،،
==

الجزء الثاني


العقل واوهامه
.. لما كانت عقولنا تتعامل مع موضوعات الوجود الخارجي على انه متكون من معطيات وموضوعات تمتاز بصفة الاستمرار والثبات على الحال ذاته وهو امر خاطئ في حقيقته ومخالف له ، ولو اصغينا الى ما تمده الحواس لنا لادركنا ان كل ما موجود في العالم في تغير دائم وليس فيه معلم واحد باقي على حاله دون تبدل، ولو نظرت الى نفسي كاقرب مثل واكثرها وضوحا لدي فاني انظر الى نفسي على انها اناي نفسها مهما مر بي الزمن وتوالت علي السنون واهمل كل التغيرات البيلوجية والنفسية والعقلية التي طرات وستطرا ان امد الله عمري دون ان اتنبه او قل اني اتناسى اني الان غيري بعد لحظة اذ ان مايجري في من تغيرات نفسية وفسلجية امر هائل وكبير جدا اذا ما اخذنا بالحسابات والمقاييس الحديثة وكيف سيكون حجم التغير بعد شهر وسنة او اكثر وخذ المثل نفسه في رؤيتنا للاصدقاء وكل ما هو موجود حولنا من حيوان او جماد ، كلها في تبدل وتغير ان لم يكن في الصورة الظاهرة ففي التركيب الفيزيائي والكيميائي ، وان ما قاله هيراقليطس (( انك لن تنزل الى النهر مرتين فان مياها تتجدد من حولك دائما)) كان صحيحا فكل ما موجود غير باق على حاله وهو في تغير وانتقال دائم من صورة الى صورة ومن حال الى حال اخر وليس في الواقع الا التغير والصيرورة دون توقف ، لكن عقولنا هي التي تغض النظر عن حقيقة التطور وتضع للصورة اطارا وترمي بفكرة التبدل والتحول فتفترض ان الشيء الذي تدركه ((ماهية ثابتة )) ليس لها تاريخ متسلسل يحكي قصة التبدل والتحول والتغير والانتقال، وتعليل ذلك ان عقولنا غير مهيئة لادراك هذا وان تصوراتنا في حقيقة الامر اوهام لا حقائق ، وهي من الاخطار المحدقة بنا حينما توهمنا بالاعتقاد في اننا بالعقل قد فهمنا الذي فهمناه وبه سنفهم كل شيء ونمسك بمقاليد الموجودات ونطوع ما استعصى منها وننجح في التعامل مع الموجود مع اننا في الواقع ((لم نعلم عن طريق العقل الا شيئا ضئيلا لا يكفي للوفاء بمقتضيات الحياة ))
ان مفهوم (( العقل )) الذي تحدثنا عنه باعتباره اداة لازمة لتكوين القناعات والتصورات هو فرض اخر كباقي الفروض التي انشاناها، انه فكرة مفترضة و صورة متوهمة .. وليس في الخارج (( عقلا مطلقا وعاما )) يحل في كل الافراد ليجعل مما يكونونه من تخيلات وتوهمات بمثابة نتاج موحد صادر عن عقل كلي مستقل يمثل الانسانية اجمع فليس في الوجود سوى ((عقول صغيرة و كثيرة بعدد ما موجود من الناس يتميز بعضها عن بعض ، وينتج عنها الاختلاف الذي نشهده في الراي والنظر الى الامور، والعقل بعد هذا شيء نادر في الوجود))
ومن الاوهام الكبيرة التي وقع فيها فلاسفة التاريخ والوجود (( في نظر نيتشه )) زعمهم ان ما يسير الانسان والموجودات اجمع وما يحكم حركة الموجودات ومسار التاريخ (( عقل كلي )) يخضع له الكون في حركته، سواء كان عقلا مفارقا للمادة (( الله)) او كامنا فيها
.. لقد كان العقل عند نيتشه صنما كبيرا ووهما عظيما له من الاثار والنتائج ما له وقع شديد وضرركبير .
لقد انتهى به الحال لان يقر ان دعوى (( برمنيدس)) بعدم قدرة الانسان على تصور شيء ليس له وجود، خطا ومناقض للواقع ، والصحيح ان كل ما يتصوره العقل وهم لاحقيقة وخيال لا واقع اذ ان تصوراتنا للاشياء تضفي عليها صفة الثبات والدوام والهوية المحددة الجامدة في وقت انها متحركة ومتغيرة وتجري في صيرورة مستمرة لا توقف فيها عند نقطة معينة
ثم اتم ثورته على ما شاع في زمنه من مفاهيم فانكر القول بوجود مستقل للحقائق مفارق للعالم المدرك وان ما ندركه في عقولنا من ظواهر يقابله شيء اخر مختلف هو (( الشيء في ذاته )) على حد تعبير ((كانت)) ..
ثم ادى به حاله هذا الى هجوم شديد على اول من قدس العقل من الفلاسفة وجعل منه اداة تقود الانسان الى الفضيلة والكمال فجعل نيتشة من سقراط بداية انحلال الفلسفة اليونانية واضمحلالها بعد ان عاشت فترة من الازدهار والابداع حينما كان اليونانيون ((مليئين بالحياة الاصيلة والقوة الساذجة والشجاعة التي دفعتهم الى قبول الحياة وتحدي مخاطرها فرددوا الاناشيد وحكوا الاساطير وقصص البطولة ونشدان الخلود وعمت التراجيديا التي مجدت القوة ومغالبة القدر ))

كانت روح نيتشه كفرشة الرسام المغموسة في خليط من الالوان ، ابدعت لوحة رائعة تمتاز بالفرادة والابتكار لكن مضمونها لم يخرج كما تخرج الفكرة من راس الاله ، بل كانت لافكاره اصول ومنابع كما كان لمزيج الالوان على فرشة الرسام تلك الالوان ((الرئيسية)) قبل الامتزاج ، ان نظرنا اليها بتمعن لتبين لنا اية الوان اشتركت في ذلك ..
ولقد جمعت روح نيتشه بين الرقة التي تربي عليها ايام طفولته حينما تولت امه وشقيقاته تربيته بعد وفاة ابيه وبين الطبع الذي ولد معه والجنس الذي انتمى اليه باعتباره ولدا ((من الذكور )) وللذكورة اثارها المعروفة في تركيبة النفس وشخصية صاحبها من التحلي بصفات القوة والشجاعة واقتحام المصاعب والجراة والاقدام ...
كان رقيقا في نفسه ومرهفا في مشاعره وضعيفا في بنيته لكنه في ذات الوقت متألم من حاله ورافض لواقعه ومتطلع الى امتلاك مزايا البطولة والرجولة وثبات النفس وشجاعة المحارب ذي القلب القوي والعزيمة التي لاتلينها الصعاب والخطوب .. وقد بدا هذا الصراع واضحا في سلوكة حتى انهم وصفوه ((كفتاة رقيقة ترتدي درع محارب )) ..
احب الموسيقى وهام بها فعزف والف قطعا منها ، وكتب الشعروشرب من رحيقه فخرجت مؤلفاته كانفاسه يفوح منها شذى الشهد الذي امتص رحيقه حتى قيل عنه كان شاعرا قبل ان يكون فيلسوفا ومع هذا فقد مجد القوة واعجب بالابطال ومقت الضعف ونصح مواطنيه(( بالقفز فوق الصعاب وليملؤا حياتهم بالخطروليبنوا بيوتهم عند فوهات البراكين وليبعثوا بسفنهم الى البحار المجهولة ويعيشوا في حروب دائمة )).
لقد وجد في روح اليونان مزيجا كالمزيج الذي كون روحه .. فصارت اليونان ((ايام سقراط وما قبله)) مادة دراساته ومرتع فكره وملهمته في كل ما ابدعه من فن وفلسفة ..
وراى ان الهواء الذي ملا به اليونانيون صدورهم كان مبعثه من الهين اثنين ((ديونيسوس اوباخوس، اله الخمرة والموسيقى والرقص والعربدة والمغامرة والنشوة والغريزة والدراما والجراة والاقدام )) و (( ابولو ، اله التعقل والمنطق والتامل الفلسفي والرسم والنحت ووالشعر الملحمي))، من توازن المزيج بين هاتين الروحين والريحين تنسم شعب اليونان عطر الابداع والارتقاء وكتبوا اشعار البطولة واساطير الخلود وارتقوا سلم المجد وانشأوا حضارة لم يزل الغرب يتغنى بالذي قدموه فيها من الفنون الرفيعة والعلوم البديعة والرقي الذي بلغوا فيه اعلى الدرجات ولم يستخف اللاحقون من مفكري الغرب (( ليتنا نحن العرب فعلنا مثلهم في نظرتنا الى تجربتنا الحضارية الرائعة مع اننا من السائرين على خطاهم والحاذين حذوهم والمقلدين لهم احسن تقليد)) بما فيهم نيتشه بهذا التراث العظيم ولم يابهوا بقصر فترة ازدهاره واندثار تراثه واثاره بل جعلوا منه دلالة على رفعة جنسهم ورقي اعراقهم .
ولقد امتدت فورة الابداع والعطاء الحضاري طوال الفترة السابقة على سقراط، ذلك الفيلسوف الذي اطفا الجذوة وارخى العقدة وثبط الهمة ، ذلك الرجل العامي ذو الاصل الوضيع الذي تملك عقول شباب اثينا النبيل فافسد اخلاقهم وبث فيهم مفاهيم الديمقراطية البغيضة اذ ان ما غرسه فيهم من ثقافة عقلية وفلسفة نقدية وحب للحوار والنقاش بدلا من التحلي بقوة الجسد والتغني بالاشعار التي نظموها والابداع الفني الذي برعوا فيه وفورة الغريزة وحب الحياة والرياضة واللعب ، كان بداية انحدار ومؤشر افول نجم حضارتهم وانطفاء شعلتهم .
من هنا بدأ نيتشه رسم معالم فلسفته ومن تحليله هذا صنع مقياس الخطا والصواب ومعيار الارتقاء والصعود او الانحدار والهبوط ، ذلك المعيار الذي حمله اينما ذهب وبمنظاره راى كل شي .. انها روح ((ديونيسيوس )) ... الروح الطامحة للارتفاع والعزيمة القاهرة على تجاوز الصعاب ، الروح الصاعدة سفوح الجبال الخطرة دون تهيب او وجل ، الروح الممتلئة بحب الحياة وروح البطولة واقتحام المخاطر ، المتطلعة الى ذرى المجد والتالق .. ان بدت هذه الروح وعلت وصارت السمة البارزة في حياة المجتمع او في نفوس الاشخاص اوالاحزاب اوانظمة الحكم .. كانت له علامة رقي وارتفاع وتطور وسمو ونجاح التجربة الحضارية الخاصة ..
اما ان طغت روح ابولو وسادت ، الروح التي تقتل الاسطورة بالعقل وتقتل الرجولة بالعاطفة وتقتل القوة بالتراخي فانها نذير بالشؤم وعلامة انحطاط وتدهور ونزول الى اسفل ،
ووفقا للمقياس هذا كان حكم نيتشه على حياة اليونان ، فاعجب بالحياة السابقة على سقراط ، الرجل الذي جاء لينشر التراخي وتثبيط الهمم ومجد التعقل والتامل ودعى الى ديمقراطية تقتل التفرد والتميز والى اخلاق العامة المتدنين الخالية نفوسهم من روح المغامرة والبطولة واقتحام المخاطر ...
وللاعتبارات هذه كان حكمه على الاديان ، كره المسيحية بعد ان راى فيها طغيانا غامرا لاخلاق الخنوع والخضوع والاستسلام، وكره فيها تقبل الصفعة الموجهة الى الخد الايمن وكره فيها ادارة الخد الايسر ليعاود الذي صفع صفعه. واحب في الاسلام ما فيه من غرائز فحولية وروح ارستقراطية (( حسب فهمه )) وتحلي ابناءه بالشجاعة واستخفاف الحياة والاقدام على اقتحام المصاعب دون وجل ، وراى ان من الاحرى بالصليبيين الذين حاربوا هذا الدين وتوجهوا نحو اسقاطه وطرده الانحناء له احتراما ويطاطئوا لهم رؤوسهم حتى تتمرغ في التراب..ولا ينفي هذا الاعتبارات الاخرى التي قيل انها داخلة في تفضيله الاسلام منها رؤية الاسلام الى المسيح باعتباره انسانا لا اله، واعتقادهم بان ما جاء به من كتاب قد حرفه اتباعه ، فاندثر الاصل بعده ، وكذلك حظ الاسلام على ((مراعات حق النفس وطهارة البدن وتحريم شرب الخمر ))
ومن المنطلق هذا احب نيتشه اصداقاءه ثم ابغضهم ، منهم فاجنر صديقة الذي مع تحوله عنه كن له حبا باقيا في قلبه حتى نهاية نصيبه من عمره العاقل ، واعجب بالقادة والابطال ، وكره المراة واوصى (( بالذي اوصت به المراة العجوز في احد كتبه )) ان يحمل معه سوطا اذا ما هم بالذهاب اليها ، انها ضعيفة في طبعها وصاحبة عقل منحط ، ان منحتها حرية لم تحسن التصرف ولفسدت وافسدت ، لم تعش يوما في منعة وعلو منزلة الا في ظل ارستقراطي قوي . وبالمعيار هذا كره الانظمة الديمقراطية ودعى الى المحافظة على النظام الطبقي ومنع الاختلاط بين الطبقات ، وحرص على نقاوة الارستقراط ، لدرجة جعلوا منه الداعية الاكثر تاثيرا الى حركات التمييز العنصري والانظمة الفاشية في الفترة اللاحقة من بعده.. وبنى قواعد التربية والاخلاق ومباديء السياسة واختيار الحكام .. ثم صارت قاعدته هذه اساسا ترتفع فوقه ابنية فلسفته بشكل عام.
بالضرب على هذه الاوتار عزف نيتشه سيمفونيته وعلى اوزانها انشد شعره ، فقدم لنا فلسفة تنبض حياة ، ثرية في مواضيعها وواسعة في افاقها ، وان من يصغي اليها لن يصعب عليه سماع صوت الوتر الذي اصدر النغمة المعبرة عن ارادة القوة المتدفقة و الروح المنطلقة في همة ما بعدها همة نحو ذرى الجبال .

تعدد جوانب فكره

ما قدمه من فكر كان ضخما وعميقا وحيا ، بعمق الحياة وسعة مجالاتها وانفتاح افاقها ، له اراء في علوم النفس والتحليل النفسي فصار رائدا من روادها وله تاثير كبير على العلماء اللاحقين به في انشاء مدارسهم منهم ((فرويد)) و((ادلر)) و((يونج ))، ويحدثنا اساتذتنا المختصون في الفلسفات الحديثة عن الاثر الكبير الذي خلفه نيتشه في الفكر الوجودي بشكل عام ،الفكر الذي جعل من الانسان ومعاناته الروحية ميدان دراساته ، فحلل المواقف الوجودية ذات البعد المصيري من حياته وما تنطوي عليه من القلق والخوف والشك والاحساس بالالتزام تلك الانفعالات التي تبعثها فيهم الارادة الحرة في مواجهتها لمواقف الاختيار المتاحة وتحمل النتائج المترتبة على ذلك ، لقد كتب عنه هيدجر مقالة ذكر فيها ان نيتشه قد قلب الميتافيزيقا رأسا على عقب فلم يبق لها بعد ذلك الا التنحي الى زاوية الفوضى واللاجوهرية ، وجوهر الانسان عند نيتشه هو الإرادة الحرة المندفعة نحو امتلاك مقومات التفوق والقوة والتحدي والانتصار فان ماهيته في حالة تشكل دائم وتطور مستمر وهوية لاتكتمل ، وهذا عين ما ذهب اليه سارتر و المثل الذي قدمه توضيحا للفكرة حينما صور الذات بحصان العربة الذي علقت شدة من البرسيم على لوح ممدود امام عينيه بصورة يبقى فيها على حالة السير وجر العربة املا في ان يصل الشدة ، وان من الافكار التي تطرق اليها نيتشه تلك التي صنفها الوجوديون تحت ظاهرة ((الانتحار الفلسفي )) حينما يجد الانسان نفسه امام موقف لايملك زماما للسيطرة عليه ، واشدها وقوفه امام المحال او العبث او الإحساس بان العالم او الوجود ( شيء غير معقول) حينما ترين على عينيه ظلمة دامسة ويخرق قلبه هلع المجهول ويشل عقله فلا يملك فهما ولا قوة على حسم موقفه واتخاذ قراره ، فينتهي به الحال لان ينبذ عقله ويقنع نفسه بان للعالم ابعاد رحبة ومرحلة متممة تبدا بعد الموت وان هناك جنة ونار ورب غفور .
اما ان دفع به الحال الى هروب اخر فقد ينتحر انتحارا جسديا وينهي حياته او أدى به حاله الى الانتحار العقلي كالذي ذكره لنا كولن ولسون عن لورنس العرب حينما أدى يه الحال الى ان يلتحق بسلك الطيران في هروب من ازمته العقلية المؤلمة وعجزه عن فهم جوهر الاشكال عنده ، وحينما دفع فان كوخ الى الوقوع في حومة الجنون المطبق ، الجنون الذي انتهى به لان يطلق رصاصة على احشاء بطنه ثم اطبق عليها ازرار جاكيته وعاد الى منزله ثم نام على سريره حتى انتهى به الحال الى الموت بعد ثلاثة أيام . لقد صور نيتشه حالة الانتحار الفلسفي هذه في تفاصيل كثيرة منها هروب المستضعفين العاجزين عن مواجهة القهر والاضطهاد الموجه اليهم من السادة المسيطرين وما فرضوه عليم من القوانين والاحكام فما كان منهم الا اللجوء الى حل الاشكال بالايمان بتلك المبادئ والأخلاق ومشاعر الدين والايمان بالحياة الاخرة والجزاء والعقاب ومنظومة الاخلاق التي جعلت ما هم عليه من مهانة وضعف وخور، سجابا سامية ومبادئ عليا ومكارم لاينالها الا الصابرون ذوو الحظ العظيم .. .
ويحدثونا عن اثره في افكار الحداثة وما بعدها ، وان(( دريدا )) الذي ابتدع طريقته في تحليل النصوص (( بما فيها ظواهر المجتمع )) تلك الطريقة التي تفصل الظاهرة عن مضمونها فترمي بالمضمون جانبا وتمسك النص ((او الظاهرة )) لتعمل فيه بمبضع التشريح و ((التفكيك) فتكشف عن العلاقات والدلالات التي لم يكن لها حضور في الوعي ، لم يكن من الاوائل الذين لا اول قبلهم بل سجلوا لنيتشه سابقة عليه حينما رفض الاخلاق والمعتقدات السائدة ذلك الحين وجعل من اصنام الدين والفلسفة رموزا لها ابعاد تاريخية تغاير الذي تعارف عليه الناس وتكشف عن حقائق جديدة تزرع في قلوبهم الشك وتفجر فيهم الرفض لكل الموروث الفكري والثورة على واقعهم المعاش... ومع انه يكره السياسة ويقول ما انا بحيوان سياسي الا انه اعجب ببسمارك واعتبر المانيا الوريث الذي خلف اليونان في عظمتها حتى قيل انه فيلسوف المانيا في ذلك العهد .
وكتب في التاريخ واصوله ، والدين ومنابعه ، ونقد الاخلاق وابدع في نقده وله اراء في النقد والشعر والموسيقى وله المام واسع في اللغة مما اهله لتسنم منصب استاذ مساعد لعلوم اللغات القديمة في جامعة بازل ثم استاذا بعد مرور عام على ذلك .
لقد كان نيتشه صاحب افق رحب وجوانب عديدة كحال اي ((مفكر حقيقي ضخم )) يرى البعض ان فلسفته قد دارت في اروقة الفكر منذ امد طويل (( نسبة الى زمن ظهوره)) ولا زالت تدور و ان عالميته ستبقى على ازدهارها في المستقبل القادم ، اذ ان ما حضي به من منزلة باعتباره من كبار الفلاسفة القرن التاسع عشر لم تكن مزية وحيدة بل ان له من الخصوبة والثراء ما جعل من افكاره مفتاحا سحريا لفتح مغاليق تكشفت من بعده في النقد المعاصر.

هل كان نيتشه فيلسوفا

يرى (( برتراند رسل )) ان نيتشه فيلسوف اديب اكثر منه فيلسوف اكاديمي ، وان انتاجه الفكري لم يكن كانتاج الفلاسفة المحترفين وان اهمية انتاجه في شكله الرئيسي كان في الاخلاق ثم النقد التاريخي ، ولم ير في فلسفته (( اية نظريات فنية في الوجود او في المعرفة )) ...
ويرى الدكتور يوسف كرم ان نيتشه (( اديب في طبعه)) وعد فيلسوفا لما ابداه من اهتمام في الانسان ومصيره والاخلاق وقيمتها وان اعماله في جملتها تعطي انطباعا بملكته الادبية في الكتابة واسلوب التفكير . ولم يكن مبدعا في ما قدمه من الافكار وانما يدين بها الى ملهميه ((شوبنهور)) و (( فاجنر)) وليس له في اخر الامر(( الا الاسلوب الذي عبر به عن مذهبه )) ...
ويرى اخرون انه لم يكن فيلسوفا بالاحتراف ، وان سيرة حياته لم تشر الى انه تردد يوما الى كلية الفلسفة طوال فترة دراسته ، وان من يمعن النظر في اعماله يلاحظ بوضوح ((النقص في التوثيق والتسرع في الاحكام ، وغياب في الاستشهاد بالمراجع ،والاهتمام بالشعر المشبع بالخطابة والشعر ))
قد تكون الاشارات التي اوردها بعض دارسي الفلسفة الذاهبة الى (( تخفي كتابات نيتشه وراء اقنعة مجازية تستعصي على الفهم ، والى تشتت غاب معه التناسق والترابط ،وتشذر احال افكاره المطروحة الى امثال وحكم وجمل متقطعة )) من الاسباب التي دعت الى الامعان في استقراء المعاني الغزيرة واستكشاف الافاق الرحبة والى المراجعات المتجددة ، الامر الذي اضفى على فلسفة نيتشه خصوبة وثراء وحياة ممتدة .. انه حال الاعمال الابداعية العظيمة بشكل عام ، فيها من الثغرات ما يبعث على التامل وحب الاستطلاع والى ملئها بما يدور في رأس المشاهد او الناقد من افكار، فيحس عندئذ بجمال وكمال قد اشرق من باطن ذلك العمل ونشر بنوره على محياه.
ان النظرة العامة على اعمال نيتشه وشخصيته لتبعث الى الاقتناع بان في روح هذا الرجل شيئا من الماضي يمتد الى فترة الطفولة التي مر بها في ظل التربية التي تلقاها من والديه ... ومهما ابداه من انكار لهذا الراسب ورفض للموروث فانه باقي على رغبته الاولى في ان يكون كوالده قسيسا واعظا وداعية للدين ، لقد وعظ الناس ودعاهم الى ((اصلاح احوالهم )) والى التحلي باخلاق من انكر نفسه ((وتجاوز ذاته ومهد لولادة الانسان الاعلى )) واتخذ له الها (( السوبرمان )) وبشر به كما يبشر الانبياء برسالاتهم ويدعون الى الله ، وبدلا من خلود الاخرة بجنتها وجهنمها امن بخلود اخر و(( عود ابدي)) تعود فيه الابدان والاشخاص والاحداث الى نفس صورها وتجسداتها مرات ومرات دون انتهاء .. لقد كان نيتشه قسيسا ملحدا ، وداعية متمردا قبل ان يكون فيلسوفا ، اما الفلسفة فقد طوعت واما العقل فقد روض على يديه في مشروعه الحضاري الكبير نحو اصلاح العقل والاخلاق والمجتمع ....

بين التاثر والتاثير

لو امتدت حياة شوبنهور قليلا لادرك ما صنعه كتابه (( العالم كارادة وفكرة )) في عقل نيتشه ونفسه ، ولرأى في ذلك رد اعتبار له لما ابداه العالم من اغفال لهذا الكتاب ولشوبنهور نفسه فترة استغرقت الشطر الاكبر من عمره كله اذ لم يلق من الشهرة التي حلم بها الا في نهايات حياته، وان كتابه هذا ظل مطمورا مع اكداس الاوراق المتروكة والكتب المهملة في المكتبات طوال فترة جاوزت الستة عشر عاما حينما اخبره بائعو كتابه ان اعدادا منه قد بيعت جملة لغرض استعمالها في المحلات وفي رزم ولف ما يبيعونه من بضائع ، ولوجد في حالة نيتشه مصداقا للتعليق الذي ابداه عن كتابه المرمي في ادراج الاهمال والنسيان بعد ان آلمت قلبه وخزات النفوروالتغاضي عن الكتاب، بانه - مع تصرف في التعبير- كالمرآة التي ان نظر فيها قرد فلن تتوقع ان يرى انسانا ، ولقال ها قد نظر في الكتاب انسان فوجد فيه صورة انسان .. والحكم كان صحيحا فما اعجاب نيتشه بهذا الكتاب وما الافاق الواسعة والمعاني العميقة التي وجدها فيه الا انعكاسات لروح نيتشه واسقاط ما في نفسه عليه بعد ان قدح زناد ذهنه بريق الحكمة البالغة والمعاني الدافقة التي حملها شوبنهور كتابه ، لقد اعرب نيتشه عن اعجابه المفرط وتاثره العميق بالكتاب فقال واصفا اياه (( انه قد وجد فيه العالم والحياة ووجد فيه نفسه قد صورت في عظمة مخيفة .. وان شوبنهور كان يخاطبه شخصيا ويوجه كلامه اليه ، وكأنه ماثل امامه كلما باشر القراءة فيه.. وان كل ما فيه يبعث على التصديق والتسليم )) .
لقد اولى شوبنهور في تاليف كتابه هذا كل عنايته ، افرغ فيه ما راى انه حكمة بالغة وراي اصيل ورؤية غير مسبوقة في عرض من البيان الواضح ومسحة من الجمال البادي رغما عن العنف الذي شاب اسلوب كتابته ..
ولما كان الكتاب وعاء صا حبه ، مملوء بما فاض من معين نفسه وعصارة عقله فان في نفس شوبنهور وفي روحه وعقله نقاط التقاء واتفاق مع نيتشه يبعث على الاقتناع بما قاله نيتشه وهو يصف تجربته مع هذا الكتاب بما يؤكد صدق قوله حينما جعل من شوبنهور مربيا عظيما وابا له بالذات ..
كلاهما كان انطوائيا في طبعه ومتشائما في مزاجه.. مستغرقا في تاملاته وعميقا في تفكيره .. ولكليهما تجارب اليمة مع المرأة .. فلم يتزوجا واظهرا لها مقتا شديدا ولدتها فيهما التجارب الاليمة التي مرا بها والمواقف المؤثرة الباعثة على الاسى في النفس. . آمن الاثنان بالقوة المحركة التي تقف خلف سلوك الانسان ، الارادة العمياء عند شوبنهور وقوة الحياة عند نيتشه . كلاهما قد اعجب بنابليون وتاثر به، فقيل ان شيئا من تمجيد شوبنهور للارادة كان بتاثره بنابليون وان في يأسه شيء من واقعة الهزيمة التي اودت به. وصار نابليون مثلا اعلى وحضورا مجسدا لاخلاق الطبقة القوية والسادة المسيطرين عند نيتشه ... كان لقاء الاثنين في هذا الكتاب خالدا، وبقيت اثاره في نفس نيتشه في تلازم لم تحله السنوات التي تتالت ولا التطورات العقلية والتبدلات النفسية التي مرت عليه حينما انقلب على نفسه بعد ان نهض معافى من مرض اوشك فيه على الموت فاحب الحياة والصحة والعافية والضحك والرقص ورفض التشاؤم ، وامن بالحياة المنفتحة والارادة المشدودة الى امتلاك مستلزمات القوة ، فقد بقيت افكاره وفلسفته تسبح في بحر مملوء بالألام التي عاناها في نفسه وجسده ..
ولم يكن المزاج المشترك والطبع المتشابه بينهما سببا وحيدا للذي ابداه نيتشه عن تاثره بفلسفة شوبنهور وعما بعثته فيه من المواساة والتسلية فاعانته على المضي في عالم التامل المكتئب والفكر المشوب بمسحة الالم والمعاناة .. بل ان في فلسفتيهما تفاصيل كثيرة يمكن ان نقارب بينهما وننظر اليهما باعتبارهما فرعين من شجرة واحدة يغذيها النسغ الصاعد من مسحة التشاؤم التي امتاز بها الجو الفكري السائد في اوربا ذلك الحين ((التشاؤم الذي مد بشعاعه بعيدا مع اطلالة القرن التاسع عشر، و التي عبرت عنها اصوات كل من (بيرون) و ( دي موسيه) و ( هيني) و (ليوباردي ) و ( بوشكين ) وموسيقى ( شوبرت ) و ( شوبان )... )) لقد جعل نيتشه من فلسفة شوبنهور واحدة من الاشياء الثلاثة التي واسته في حياته ...مع موسيقى شومان وجولاته التي كان يقوم بها في عزلة وانفراد ..كما وان الاحساس بالارادة ودورها في حركة المجتمع وسلوك الانسان بدا واضحا في فلسفات كثير من فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وقد كان للارادة عندهم مقاما عاليا يتجاوز المنزلة التي اوليت الى المعرفة عند السابقين ، ثم انتشر هذا الاحساس الى خارج دائرة مفكري الفلسفة المحترفين ..
وقد كره شوبنهور المسيحية ايضا ، واحب الفن وله فيه نظرة ، واهتم بالاخلاق ودورها الاجتماعي ، وكلها من المجالات التي يشترك فيها الاثنان ، وكلاهما موسوعي في تفكيره ويميل الى اسلوب التفكير المنفتح المتحرر من الزامات التفكير الاكاديمي المنضبط بمناهجه الخاصة ، وكلاهما يرى ان في الارادة الم ومعاناة يصاحبان رحلتها نحو تحقيق ذاتها واهدافها في الوجود .
لم يكن العالم المادي والوجود الظاهر عند شوبنهور الا الوجه الطافح على السطح اما جانبه الخفي (( فارادة عمياء )) ذات وجود مطلق مستقل خارج عن اطر الزمان والمكان ، وما العالم بموجوداته الحية والميتة وقواه الفيزيائية واعراضه الاخرى من التفكير الدائر في العقول والاحساس الغامر للحواس والوجدان الطافح في الصدور، وقوى الجذب او التنافر بين اقطاب المغناطيس وبين الاجسام ، الا انبثاقات من هذه القوة وتجسدات لها وتجليات تسربت الى عالم الوجود . لو نظرنا اليها من الخارج لبانت لنا على صوراجسام صلبة ((ميته اوحية)) اوقوى فاعلة لها تاثير واضح للعيان .. ، ولو امكن لنا الاصغاء اليها ومد ابصارنا عميقا الى نهاياتها البعيدة وصورها الاولى، لاختفت عندها الاجسام وتلاشت المشاهد ولانتهى بنا الحال في ان نقف في جلال وانبهار امام هذا الكيان الميتافيزيقي الهائل المسمى بـ (( بالارادة العمياء)) .
وان بين ارادة شوبنهور وارادة نيتشه للحياة مقاربة وتماثل ، كلتاهما تعمل في الجانب الخفي اللامرئي من سلوك الانسان وتعمل عملها في تشكيل الانساق الاجتماعية والدينية والسياسية والفكرية وفي رسم مسار حركة التاريخ الانساني بشكل عام .
وفي رؤية الاثنين تقارب وتماثل عن دور الفن والموسيقى في حياة الانسان ، اذ راى شوبنهور اننا حين نستغرق في التامل الفني ننعتق (( مؤقتا )) من اسر الارادة الكلية وسطوتها وما تستلزمه من المعانات والمكابدة ويزول عندها احساسنا بالفردية وما يصحبه من الانفعال والمعانات و الالم ، وان اوضح صور التجلي للارادة التي ذكرها انما تكون في الاصوات المنبعثة في الحان من الموسيقى الخالصة المتجردة من كل وسيلة تعبيرية مرافقة ، بما فيها اشعار المنشدين او الحركات التي يؤديها الراقصون على المسرح .
وراى نيتشه في الموسيقى التي اغرم بها تدفقات وقوى عاطفية مرتبطة بالنوعين الذين تحدث عنهما ، تلك الانغام المنبعثة من قلبي الالهين ديونيسيوس وابولو وروحيهما والمعبرة تعبيرا صريحا وواضحا عن الارادة التي جعل منها المحرك الاول لسلوك الانسان وانفعالاته (( ارادة الحياة )) فلها دور عظيم وتاثير بالغ في حياة الفرد والمجتمع، ان الحياة بنظر نيتشه ((خطأ)) بغير الموسيقى ، اذ ان في الموسيقى قوة خفية تستنتهض الهمم وتولد في النفوس حب التحرك والعمل والنزعة الى الابداع ، وتبعث بدفقات من احاسيس السعادة والنشوة الخالصة ، وتثير في النفوس ذلك ((الشعور الابدي الماثل خلف ظواهر الوجود المتفرقة )) .

التكملة في صفحة اخرى تالية



قديم 04-15-2014, 11:20 AM
المشاركة 3
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القسم الثالث



ريتشارد فاجنر

ربما كانت الموسيقى ، وقد تربعت عرش الفن واستحوذت على قلوب عشاقها من المنتمين الى الاوساط الاجتماعية المترفة والمثقفة ذلك الحين خير مدخل للتطرق الى العلاقة التي ربطت بين نيتشه وفاجنر وشوبنهور، وخصوصا اذا ما نظرنا اليها باعتبارها ظاهرة اجتماعية متفشية تكشف عن ابعاد عشاقها الفكرية واحوالهم النفسية ، وفلسفاتهم الخاصة .. لقد ابدى الثلاثة اهتمامهم الكبير بالموسيقى وعرضوا لنقادها انطباعاتهم التي امتازت بالفرادة والابتكار
فبالموسيقى الخالصة يمكن للانسان عند شوبنهور التحرر من اسار الوجود المادي ونسيان مشاغله ، الوجود الذي يقضي عليه بالعيش وفق قوانين الصراع والنزوع الى البقاء ، الصراع الممزوج بالالم والمعاناة ، والموسوم بالقسوة وايثار الذات على الغير ولو على حساب مقاييس السلوك الصحيح ...وبالموسيقى يرتقي الانسان منصة الجمال في امتزاج صوفي مهيب مع(( الارادة العمياء)) نفسها وليس بينهما من الحواجز الا اصوات الحان صاغها نور العقل ..
وتاثر كل من نيتشه وفاجنر بشوبنهور وفلسفته... بالارادة ذات الاندفاعة المحفزة للانسان ،وبالموسيقى واثرها العظيم عليه ، وبالدور الاصلاحي الذي على الموسيقيين انجازه في بعث الروح المتطلعة الى الافاق الرحبة ، المحبة للحياة ، والمجدة في سيرها دون مهابة او تخوف ، لكي تسري سريان الدم في اجساد الشعب الالماني (( المنتمين اليه)) وتقديم موسيقى ممزوجة بالماساة كتلك التي ابدعها اليونانيون من قبل فتبعث في قلوبهم النشوة والطرب ونشدان السمو والارتقاء .. اما عن راي فاجنر الذي خالف فيه شوبنهور فذهب الى القول بان الموسيقى الخالصة عاجزة في التعبير الكامل عن الحقيقة و لو انها امتزجت بالكلمات البليغة والاشعار التي تحيلها الى كيانات متجسدة وتعيينات مفهومة بدلا من ان تبقى على صور من التجريدات السابحة في عالم الخيال والغموض والابهام لكان العمل هذا اكمل ولبانت الحقيقة في صورة افصح .. فقد لاحظ دارسوه تراجعا صريحا لصالح فكرة ملهمه شوبنهور (( وان ما ذهب اليه في الدعوة الى تسلط الشاعر على الموسيقى في عروضه المقدمة ، والى اعتبار الدراما غاية العمل فيه اما الموسيقى فوسيلة مكملة له ، فقد انتهى به الحال ان غلب الموسيقى على الشاعر و جعل منها الغاية في العمل)).
راى نيتشه في موسيقى فاجنرتعبيرا مجسدا لفلسفة شوبنهور وانه قد اعطى لهذه الفلسفة جسدا حيا يجري في عروقه الدم وقيل ((ان انشداد نيتشه الى شوبنهور وتعلقة الشديد به قد خبا وفتر بعد ان راى الفكر الذي جاء به قد لبس جسدا وانتصب واقفا في موسيقى فاجنر، وصار عندئذ شوبنهور صورة باهتة اما فاجنر فهو البديل الافضل والامتثال المتجسد )) .. ولقد احس ان في هذه الموسيقى روحا كالروح التي يخفق بها قلبه وان لها مسرى مع الدم الجاري في عروقه ، ولها اشعاعات من نور وفكر، كالشعاع المنبعث من عقله والفكر الذي يدعو اليه ، لقد راى في اوبرا (( تريستان )) طابعا ثوريا عظيما وتمجيدا للارادة العمياء التي امن بها شوبنهور وان فيها بهجة كالتي بعث بها ديونيسيوس في قلوب شعب اليونان ايام ابداعهم ، فصارت هذة القطعة انيسة وحشته وملهمة روحه ومفجرة الابداع في عقله ولم ينقطع عن سماعها حتى بعد قطيعته مع فاجنر نفسه .. ولقد كانت لموسيقى فاجنر في نفس نيتشه اثار نفسية عميقة حتى انه ظل يكتب فصولا عن الدراما اليونانية في احد كتبه وهو سابح في غمره موسيقاه ودائر بدوران سورته ، لقد قال مرة عن ولهه هذا (( ما كنت استطيع ان اتحمل ايام شبابي بدون موسيقى فاجنر )).
لقد راى فيه الروح اليونانية وقد انبعثت من جديد في ذروة نشاطها واجلى صورها ، تنفخ في القلوب الرغبة في السمو وتلهب في الروح ارادة التحدي، وتجسد ((بالموسيقى)) الفكر الذي اراد نيتشه ((بالكلام)) ايصاله الى العالم ..
لقد راى في فاجنر شخصية لاتعرف للخوف معنى ، وان له دورا منتظرا في بعث روح ديونيسيوس مرة اخرى ، وانه باعث الفن الحقيقي وقد امكنته مقدرته الفذة من صهر الفنون المتاحة في بوتقة عقله المبدع ، واخراجها على اسلوب مميز جميل ... لكن الحال لم يدم والظن به خاب والامل فيه ذوى واضمحل بعد ان رآه يقدم عرضه الموعود في حفل ((يموج باللهو والتسلية ، والجلبة والضوضاء ، وروائح الخمرة والدخان ، وعطور ونساء )) ومن بعد ذلك اهدى عمله الاخير ((بارسيفال )) الى الكنيسة راجيا منها المغفرة والصفح .. لقد مات فاجنر في نظر نيتشه فقد ((سقط فجأة على اقدام الصليب)) وراى انه مداجي يضمر نية خبيثة ومنافق (( تملق صور المسيحية وباقي الديانات وكل ما يعبر عن السقوط والانحلال ، بعد ما عرفه قبل هذا متمردا عنيفا و بطلا ثائرا على روح المسيحية وما دعت اليه من اخلاق ، فوضع فيه آمالا كبيرة في الثورة على تعاليمها وقلب قيمها واحياء نزعة تمجيد الحياة ، لا ان يطاطئ لها راسه في ذل وصغار ويقر الاخلاق التي كانت هدفا لثورته المعلنة على الموروث )) .. ومن هنا كانت القطيعة بفاجنر ..
وهناك من جعل من تطورات نيتشه النفسية وتحولاته الفكرية وتركيزه على مصالحه ونفسه وكذلك التحول الذي طرا على نظرته التشاؤمية حينما نهض مشافى من مرض كاد ان ينهي حياته استبدل بعده حب الحياة والتفاؤل بالتشاؤم الذي كان عليه، فدعى الى الانعتاق والتحرر وتغليب ارادة الحياة فخفت معها تاثير شوبنهور عليه واضمحل اعجابه به ، كل ذلك كان السبب الحقيقي في تحوله هذا وانصرافه عن ملهميه الاثنين .


تاثير داروين

قيل عن سخرية نيتشه من اتباع التطور في انجلترا انها لم تكن تعبيرا عن رفضه للفكرة التي جاءوا بها ولتعارضها مع مضامين فلسفته ، اكثر من ان تكون اقرارا لاشعوريا بالمدى البعيد الذي تغلغلت في عقله والتأثير الشديد الذي احدثته في تفكيره ورؤاه ، وما فعله معهم كان طبعا قد اكتسبه بـ (( مهاجمة كل من يدين له بفلسفته )) ، واننا نلمس هذا الطبع واضحا في سلوكه مع صاحبيه شوبنهور وفاجنر حينما اعرض عنهما وانكر عليهما موقفهما المتشائم من الحياة ، المتخاذل في مجابهة الروح الاستسلامية للاديان عامة والمسيحية بشكل خاص ، وهو نفس الذي فعله مع موروثه الديني الذي تلقاه من والديه في تربيته ، ومن الايمان بالله الذي تملك قلبه واستحوذ على روحه ، اذ انكر دينه وامات الهه ورفض الموروث واقام بدله دينه الجديد ، وفعل هذا ايضا مع افلاطون الذي استمد منه الكثير من افكاره لدرجة قيل فيها (( ان فلسفته الاخلاقية والسياسية هي فلسفة افلاطون نفسه)) ..
لقد ايد فيهم (( اتباع التطور )) رفضهم للاهوت المسيحي لكنه انكر عليهم عدم جرأتهم على اعلان رفضهم للاخلاق المتفرعة عنه بما تتضمنه من صفات الليونه والضعف . اما عن الصراع التراجيدي الذي تعيشه الكائنات الحية فيما بينها في رحلة البقاء فتلك رحلة آمن بها نيتشه وكانت من ابرز ملامح فلسفته والعامل الاكثر ظهورا وتأثيرا لديه ..
فاذا كان البقاء للأصلح عند دارون ، وان الاصلح هو من يمتلك الخصائص والقدرات و الاعضاء الانسب لتلاؤم الحيوان مع البيئة التي يحيا فيها ، في حومة الصراع الملحمي الذي يعيشه ضد الطبيعة وقسوتها والحيوانات الاخرى واخطارها وما جبلت عليه من الشراسة والعدوانية واكل لحوم الاخرين ، فقد امن بمثل هذا نيتشه وراى (( ان الانسان من اشد الحيوانات قسوة)) يكشف عن هذا مظاهر الاستمتاع التي يبديها عند مشاهدته لمباريات المصارعة مع الثيران وما فيها من ارهاق وتعذيب للحيوان وقتله ، وكذلك في متابعة مشاهد القتل واعدام المحكومين .... ويكشف عن هذا ايضا ما ابداه الانسان القديم من مشاعر الفرح ونشوة الانتصار حينما يبطش بعدوه وينال من الاخرين.
لقد كانت الطبيعة القاسية هذه ،عند نيتشه ، الدافع الحقيقي في اختلاق قصة جهنم اذ ان فيها تحقيقا مقنعّا لرغبة التنكيل بالاعداء والظلمة من الجبابرة المتكبرين
. والحياة في نظره طافحة بالشرور والقسوة وميدان تدور على ارضه معركة عنيفة وتملأ سماءه رياح العداء وتعم فيه مشاهد البطش وتمزيق الاشلاء . ولهذا انقسم المجتمع الى طبقتين رئيسيتين طبقة الاسياد وطبقة العبيد . وكذلك الاخلاق ، اخلاق السادة واخلاق العبيد ،فلم يكن له مع كل هذا الا التحذير من ذوبان طبقة السادة واضمحلالها والدعوة الى المحافظة على نقاوتها ومنعها من الاختلاط بالعبيد .. فعند السادة قوة الارادة وثبات العاطفة والشدة والقسوة ، انها الخصال التي يلزمها الظرف الصعب ، ولن نجد هذا في من ينتمي الى طبقة العبيد . وانكر نيتشه النظام الديمقراطي ونادى بحكومة الاقلية الارستقراط، اذ ان في الارتكان الى الحكم الديمقراطي تغليب للطبقة المتدنية واشاعة لاخلاقهم فهم الاكثر عددا وفي سيادتهم تموت البطولة والتفرد والابداع ، لقد حذرنيتشة من طغيان مشاعر الحب بين الناس وانكر الزواج عن حب ودعى الى منعه ، فالحب يجمع ((الابطال بالخادمات، والعباقرة بالخياطات وعارضات الازياء )) ويجمع بين الطبقتين وينتج الاختلاط المضر الكريه.
وما ذهب اليه دارون في ان للاحياء سلم تطور يقف الانسان على اعلاه (( بشكل من التصريح والتمويه )) وان الهوة ((في القوى الفكرية)) بين اقل الحيوانات تطورا وبين القردة العليا هي اوسع من تلك التي بين القردة هذه وبين الانسان (( مما يؤكد اعتقاد دارون في انتماء الانسان الى هذه المملكة ومحكوم بقوانين التطور التي تحكمها )) ، فهو وان ذهب الى ان الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يمتلك اخلاقا تحكمه ، لكنه لم يجد في ذلك تناقضا مع مبدأ تنازع البقاء المحكوم بتشبث الاحياء على المحافظة على ديمومة بقاءها وان أدى ذلك الى الفتك بالاعداء وفي هذا تعارض واضح مع القانون الأخلاقي الذاهب الى تغليب المجموع على الفرد والتضحية بالفرد من اجل المجموع ، اذ راى ان في ذلك فائدة في حفط النوع وامتدادا لحياة الفرد ، وفي امتلاك المجموع الصفات الملائمة تتعزز مقومات بقاء الافراد ، وراى الفعل الاخلاقي المتجاوز لمصالح الفرد من الامور الظاهرة عند مملكة الحيوان اذ نلمسها واضحة في ما يقدمه لغيره خلال ممارساته اليومية من تربية الصغار وجمع الغذاء وبناء المستعمرات ، وان الفرق هنا (( بين القردة والانسان)) فرق بالكم والدرجة لا بالكيف والنوع .. قد ذهب الى مثله نيتشه (( في مضامين مقاربة )) و بشر بالانسان الاعلى الاتي الى العالم منحدرا منا ، وان هذا الوليد هو الهدف وما نحن الا جسر ممدود بين القرد والانسان الاعلى ، وبالرغم من ان بزوغ الانسان الاعلى وانبعاثه باعتباره وليدا جديدا انحدر من سلالة الانسان الحالى فان ((قدراته العليا)) لم تكتسب عن تطور بيولوجي وانتخاب طبيعي محكوم بقوانين البيولوجيا الموروثة من اسلاف امتلكوا اعضاءا وقدرات مناسبة لظروف بيئتهم واساليب معيشتهم وفقا لمبدا - البقاء للاصلح – المنتهي بتغليب المجموع والقبيلة على الفرد نفسه بل على أساس تغليب الفرد المميز على المجموع الهابط وان العبرة هي ان يرتقي السلم كيف متطور وفرد عظيم لا كم متدهور وشعب متخلف ولا يتم ذلك الا بالتوسع والنمو والتطور وامتلاك القدرات العالية والصفات الممتازة التي يمتلكها ((السوبرمان)) .
هذا وقد انتهج الاثنان ، ، منهجا تاريخيا تطوريا يعودان فيه الى الاحقاب الماضية من عمر الانسان خاصة و الحيوان بشكل عام ، ليجدا هناك الصور الاولى للبناء التطوري والنواة التي تفتقت عن شجرة حياة بيولوجية واجتماعية متطورة ، يقف في اعلاها الانسان .. لقد كانت نظرية دارون خيطا لامعا وظاهرا من بين الخيوط التي حاك بها نيتشه نسيجه ، ومعالم بارزة في الهيكل الفكري الذي شيده لفلسفته ..
كان دارون رجلا ملحدا، اعلن لاادريته ،.. لاينكر الله ((تعالى الله)) ولا يقطع بوجوده ، وان قضية الايمان والالحاد عنده، لغز مستغلق والقطع في ذلك خارج عن دائرة قدرات الانسان وحدود عقله. وما على الانسان بعد هذا الا المداومة على (( تأدية واجبه )) ..
لقد كان دارون معاصرا لنيتشه ومزامنا له فهل الالتقاء والتشابه بينهما ، كان على اساس من التاثير المتبادل ام انهما الاثنين قد شربا من نفس مياه الجدول الجاري في اودية الفكر الفلسفي والتطور العلمي ذلك الحين ..


جوبينو

ومن الذين عاصروا نيتشه وقدموا افكارا مشابهة ، الكاتب الفرنسي الاديب الفيلسوف ((ارتور دو جوبينو)) .. لقد كان من المؤمنين المخلصين بالتفاوت العنصري وبالتفوق الطبيعي (( العرقي )) للاجناس القوقازية ، وله بحوث ودراسات منها ( التفاوت بين الاجناس البشرية ) مع ما عرف عما له من ملكات الرسم والنحت والكتابة الروائية وشغله منصبا دبلوماسيا في السفارة الفرنسية في المانيا ،وقد ابدى اسفا بالغا على ما أصاب الجنس الاري من تدهور بعد ان اختلط بسلالات أخرى ادنى منه مرتبة وصار العالم اليوم خليطا هجينا يصعب العثور فيه على من يحتفظ بالصورة النقية للعنصر ، حذر من الاختلاط بين الاجناس المتفوقة وبين المتدنية ، ففي الاختلاط ذوبان لنقاوة العنصر المتفوق واضمحلال لصفاته المميزة وتدهور للمستوى العام في المجتمع ،وفي تدهور الاخلاق المتعالية وضمور القدرات والاستعدادات التي يمتاز بها العنصر المتفوق تتدنى الحضارة ويضمحل الابداع ..
ان بين الاثنين نقاط تلاقي وتشابه ، لقد عرف هو الاخر ريتشارد فاجنر واعجب به كاعجاب نيتشه ، وكان اعجابا متبادلا اظهر فيه فاجنر تاثره الواضح بشخصية جوبينو واراءه فقرا مؤلفاته وجعل منه ضيفا دائما على المسرح الذي يستعرض عليه اعماله ، كلاهما ( نيتشه وجوبينو ) - ومعهما فاجنر- اولى للتاريخ دورا في صياغة الحاضر الذي نعيشه .. وكلاهما امن بلزوم المحافظة على العنصر المتعالي والارستقراطي في المجتمع ‘ ولقد الصقت بالاثنين التاثيرات التي تذرع بها دعاة الأفكار العنصرية والحركات السياسية الناشئة عنها .. وكما لاحظ مؤرخو الفلسفة وجود علاقة بين نيتشه ودارون بلغت من قوة التاثير وشدة الوضوح لان يقولوا عن نيتشه انه ((ولد دارون)) ، ذهب دعاة النازية في القرن العشرين الى ان ماجاء به جوبينو هو امتدادا لتاثير دارون، يبدو هذا برايهم فيما يدور في فكريهما من مفاهيم الانتخاب الطبيعي ، والتمايز الجنسي، وانتقال الصفات المتحركة على جسر التواصل والاختلاط ، والمنحدرة مع مجرى الزمان من الاسلاف الى الاخلاف ... ولا ينفي هذه العلاقة اختلاف دارون المؤمن بلزوم الاختلاط العرقي خلافا لما نادى اليه جوبينو اذ ان في الاختلاط – على ما يرى دارون - تشتيت للصفات الضارة ومنعها من الظهور على صور صفات طبيعية (( عرقية )) مميزة في المجتمعات المنعزلة والمغلقة ....

اسأل الله تعالى التوفيق لاكمال المقال واظهار ما لم يقال . . اذ ان في ما نشر عن نيتشه نتاجا وفيرا يغريني بتناول الجوانب السيكلوجية لهذا الفيلسوف وشخصيته .. وافراد فصل خاص عن مسالة الالحاد والايمان .


قديم 04-15-2014, 06:17 PM
المشاركة 4
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الشكر الجزيل لبادرتك الكريمة ايها الاخ العزيزوالاستاذ الفاضل استاذي ايوب صابر المحترم
ما قمت به في جمع اجزاء المقالة بملف واحد كان امنية لي لولا ضوابط النشر التي حالت دون ذلك
وفقكم الله في مسعاكم النبيل ونواياكم الطيبة ودعمكم اللامحدود في اعانة المشتركين ومتابعتهم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قديم 05-02-2014, 11:37 AM
المشاركة 5
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الاستاذ فارس

اهلا بك من جديد . لا شك ان مقالتك مليئة بالأفكار ويمكن ان نطور حول محتواها حوارا يتمد لسنوات عديدة قادمة .

دعنا نبدا لعلنا ونقاش بعض هذه الأفكار ونتحاور حولها
:

تقول في مقدمة مقالك " *لم يكن الوهم الذي عشش في راس نيتشه كالوهم الذي يتملك عقول المجانين ... حقا ان مسحة الاعجاب التي ابداها في نفسه عندما قال عنها ما قال وهو يمتدح اسلوب كتابته وفرادة افكاره والحكمة الطافحة التي تفيض بها بحور علمه وان التاريخ الفكري سيشهد انعطافة حادة في النقطة التي ظهر هو فيها ، وسيقسم تاريخ الفكر الى مرحلتين احداهما تلك التي سبقت ظهوره اما الثانية فهي التي بدأت منذ ان اشعت شمس افكاره لتنير للانسانية ظلمة دنياها وتهديها الى طريق النجاة والنجاح ، قد كان فيها شيء من المبالغة كبير وخصوصا حينما ذهب به الزهو الى وصف احد كتبه بانه اعظم كتاب ظهر في العالم ، وان الفكرالذي جاء به هو اعلى من المستوى الفكري الشائع ذلك الوقت ولن يفهم الناس افكاره الا بعد مرور مائة عام اخرى " .

- اجد من الصعوبة في تقبل هذا الحكم الذي اصدرته على هذه الشخصية العبقرية الجدلية نيتشه حيث تفترض في مطلع مقالتك ودون مقدمات بان ما عشش في ذهنه هو مجرد وهم رغم انك تحاول إزاحة تهمة الجنون عنه على الاقل في بدايات مشواره الذي ترى انه كان فيه عبقريا .

اقول ذلك لعدة اسباب اولها ان التاريخ يشهد له بانه كان فذا عبقريا جاء بفكر جديد لم يسبقه اله احد، ولا شك ان هناك إجماع بانه اب الفلسفة الوجودية ، هذه الفلسفة التي اصبحت مع الفكر الماركسي تمثل المرحلة الاخيرة من مراحل تطور الفكر الانساني الوضعي وشجرة المعرفة التي بدات بالأسطورة في ابسط صورها، وهي حتما لن تتوقف بل ستظل نامية متطورة متراكمة ، لكن يبدو اننا امام احتمال بان تحدث طفرة في هذا المجال وحسب نبوءة نيتشه ، حيث لا يعرف احد تحديدا ماذا سيجود به عقل الانسان السوبرمان الذي اصبح اقرب الى التحقق والواقع ، ولا نقول ذلك جزافا ولكن من واقع التقدم العلمي المهول في مجالات الدماغ وابحاثه والجسد وجيناته ومن خلال القفزات النوعية التي تم تحقيقها خلال المائة عام الماضية .

لا شك اننا لا نعرف الكثير عن نيتشه وانما نعرفه من خلال ما وصلنا ، وقد يكون هذا الذي وصلنا ظالما بحق الرجل، وذلك لن يكون اول مرة ولا اخر مرة، فنحن نعرف تاريخيا بان البشرية غالبا ما اصدرت أحكاما ظالمة ضد طروحات وافكار النخبة العبقرية التي كانت أصيلة وفذة عبقرية بطروحاتها لانها جاءت بفكر جديد غير مسبوق وغالبا ما كان هذا الفكر يقدم طروحات ضد السائد والمالؤف ولذلك كان يحارب وفي بعض الاحيان يتعرض صاحبه للقتل بتهمة إفساد الشباب مثل ما حصل مع سقراط في ما قبل التاريخ ومثل ما حدث مع جاليليو في القرن السادس عشر وهو على الاغلب ما حدث مع نيتشه وسيحدث مع غيره، وقد وجدنا في كل مرة ان الكثير مما جاءت به عقول هذه الفئة كان صحيحا عبقريا واشتمل على استشراف ونبواءت مستقبلية احتاج العقل الجماعي للبشرية لسنوات طويلة لاحقة لاستيعاها وفهمها وتقبلها وقد حدث ذلك مع جاليليو مثلا حيث قامت الكنيسة على اعادة الاعتبار له بعد اربعة قرون من ادعاؤه ان الارض ليست مركز الكون وانما الشمس! *

كما ان البشرية ما تزال تعجزعن فهم الطريقة التي تعمل بها العقول واحيانا ترى البشرية في التفكير الخارج عن الأطر المألوفة انما هو ضرب من الجنون وفقدان للتوازن رغم ان هناك ما يشير بان فقدان التوازن انما هو مؤشر على دماغ يعمل بطريقة فوق عادية ولذلك نجد ان العملية الابداعية عند كثير من المبدعين هي محاولة للتفريغ بهدف استعادة التوازن.

وعليه فان ادعاء نيتشه بانه فكره وطروحاته عن الانسان السوبرمان يمثل نقطة فاصلة في التاريخ انما هو حقيقة اصبحنا اقرب الى مشاهدتها على ارض الواقع . ويبدو ان ما قاله بهذا الخصوص يمثل نبوءة لانه لم يكن في عصره اية ملامح لهذه القفزات العلمية الهائلة التي حصلت لاحقا وجعلت احتمالية تحقق الانسان السوبرمان اقرب الى التحقق
.

*

قديم 05-03-2014, 09:43 PM
المشاركة 6
فارس كمال محمد
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الف شكر لك استاذي الكريم على مرورك واهتمامك في فتح باب للنقاش والحوار والجدال (( الايجابي )) السائر في الطريق الذي يجد السالك فيه ابعادا من الافكار النيرة وافاقا من الرؤى المبدعة ففي سيرة نيتشه نقاط كثيرة جديرة باهتمام دارسيه .. ولقد اشار الى هذه الحقيقة البعض منهم فعلا ورأوا ان الفكر الذي جاء به لم يقف عند حد ولم ينته بموت صاحبه .. بل سيبقى فكره حيا واثاره فاعلة لفترة قد تطول كثيرا ..
لقد قرات الذي كتبته اخي واستاذي ... وتاكد ان كلماتك لن تمر مر الرياح على ارض فلاة او مرور الاحلام في راس نائم لن يعلق في ذهنه منها - اذا ما استيقظ - الا ملامح باهتة لا تزيد في علمه او تثري فكره .. ولقد فهمت مرماك واحسست باتجاهك الفكري ورؤياك الفلسفية في خطوطها العامة .. وكم اتمنى لو يتيح لي ظرفي التوسع في دائرة النقاش والاستطراد في ذكر ما لدي من تفاصيل - وهي قليلة في حقيقة الامر - اذ ان في هذا اثراء لمضمون المقال ودفعه نحو نقطة الكمال والتمام وكذلك زيادة في مخزون معلوماتي وسعة فهمي وقوة ادراكي ,
لكن اسمح لي بذكر نقاط كنت قد ذكرتها وارى ان علي توضيح المعاني التي كنت اعنيها .
لقيد اخترت تعبير الوهم وقد عشش في راس نيتشه لما له من مدلول يختلف كثيرا عن الوهم الذي يتملك عقول المجانين .. فالوهم حينما يعشش في الراس لا يستحوذ على العقل فيخضع آلياته ويتصرف بها وفقا لما يذهب الوهم اليه ,, اما ان تملك العقل فهذا يعني ان العقل صار مملوكا وخاضعا لامرمالكه ياتمر بامره ويسير وفقا لهديه وغايته المتجهة الى اللامنطق واللامعقول .. والفارق جد كبير بين الحالين ...
لا اطيل عليك استاذي الكريم .. انني ارى ان لنيتشه قدرة خارقة على رصد المقبول من السلوك وفقا للمعايير المتعارف عليها وان (( الانا )) ظلت على تماسكها في رد ما يطفو الى السطح من الانفعالات والافكار الغير سوية المنبعثة من اعماق لاشعوره .. وبقيت في قوتها وتماسكها لاخر مراحل حياة نيتشه وتطوره العقلي .
المجنون قد يتعرى امام الناس دون ادنى شعور بالخجل وقد يكون عدائيا ويهاجم ويقتل .. وقد يرى اشياء لا وجود لها او يحس بمن يراقبه ويتحين له الفرص لقتله .. و.و.و الى اخر ما يذكره لنا علماء النفس .. وهو يتعامل معها تعاملا لاشك يتخلله او مراجعة ينتبه اليها الضمير ,
اما نيتشه فلم يكن اختلال فكره كاختلال المجانين فقد بقيت (( اناه )) يقظة ناشطة ، صامدة حتى اواخر عمره العقلي ..
لم يكن نيتشه اول ملحد ولا اول من انكر جهل المجتمع الذي يعيش فيه ، حتى ان من الفلاسفة المشهورين من انكر عليه الجدة في انتاج افكار فلسفية فنية تتميز بالابداع الذي نراه عند اعلام الفلسفة الاخرين ،
ولقد شهد تاريخ الفلسفة والتاريخ العلمي بشكل عام نقاطا فاصلة ومراحل متفردة فصلت ما شاع قبلها من الفكر عن الذي جاء من بعد .. وربما كان الفيلسوف (( كانت )) الشخصية الاكثر شهرة في ايضاح ذلك .. لدرجة قال بحقه احد اعلام الفلسفة .. ان المرأ ليبقى طفلا ما لم يقرأ كانت . فقد ايقظ عقول اعلامنا على حقيقة الفاصل ما بين العالم كما يبدو لنا والعالم المتواري خلف ذلك (( الشيء في ذاته )) ,, ولا ننسى التفرقة التي فتح عيون العالم عليها الفيلسوف (( هنري برجسون )) حينما فرق بين الحركة وهي مرصودة من الخارج عن الحركة المرصودة من الداخل .. فهيهات هيهات للعقل ان يدرك الحقيقة ما دام ينظر اليها بعينه ويقيسها بالاته .. لقد اقنعنا برجسون باستحالة ادراك الحقيقة بوساطة الات القياس والفحص والنظر وحسب مالم نلج اليه بملكة (( الحدس)) ,, فكان نقطة فاصلة اخرى من النقاط المؤثرة على جريان الفكر الانساني بشكل عام .
لا اطيل عليك استاذي الكريم ، فالحديث يطول ويطول .. لكن تاكد ان ما ذهبت اليه في ملاحظاتك القيمة قد افادني كثيا وسيكون مردوده واضحا اذا ما اعانني الله في الاستمرار بالكتابة .
ولا اخفي عيلك استاذي ان لي نية في نشر مقال عن فرويد في منتدانا العظيم كنت قد نشرته سابقا وساقوم باضافة ما ارى انه الانسب .. وسافخر كل الفخر اذا ما قبل لديكم ونشر عندكم وصار موضوعا من مواضيع المنتدى واسمي مدروجا بين اسماء اعلام المنتدى الذين افخر بالانتساب اليهم


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: فردريك نيتشه .. بين الايمان والالحاد
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فردريك دولامارك أ محمد احمد منبر ذاكرة الأمكنة والحضارات والأساطير 0 05-02-2016 08:58 PM
إمام الملحدين نيتشه متأثر بالعقيدة الداروينية ! سلمان يوسف منبر مختارات من الشتات. 0 08-31-2014 12:02 PM
القومية في السياسة والتاريخ - تأليف فردريك هرتز د. عبد الفتاح أفكوح منبر رواق الكُتب. 0 06-21-2014 02:28 PM
حدائق الايمان فى حرب رمضان محمد جاد الزغبي منبر الحوارات الثقافية العامة 75 11-18-2010 12:54 AM

الساعة الآن 09:24 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.