قديم 01-17-2011, 01:12 AM
المشاركة 21
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


هل تعتقدين أن المرأة الكاتبة مطوّقةٌ بالبناء اللغوي الذي ينوء تحت ثِقل المجتمع البطريركي، أم أن المرأة تستخدم ذات البنية "الذكورية" بنفس الكفاءة لكن فقط عبر طرائق مختلفة عما يقدمها الرجل؟



أنت تجعلني أشعر أنني من طراز عتيق جداً! مثل هذا السؤال لم يكن مطروحاً ولا يمكن تصوره في زمني. كم أنا سعيدة أن حركات التحرر النسائية قد قطعت خطوات واسعة حتى للآن!


حين كتبتُ عن حق المرأة في المساواة، لم يكن هذا المصطلح (الفيمينزم-
feminism) قد صُكَّ بعد لأفيدَ منه، ولم أفد أيضاً من "جوليا كريستيفا" أو " هيلين سيكسوس".



بالرغم من هذا أفترضُ أنني كنت أفكر في الطرائق التي من خلالها يتكلم الرجال والنساء حول أغراضهم المشتركة. تأمل "الخروج في رحلة بحرية "، روايتي الأولى، حين كانت مسز آمبروز تتكلم بينما زوجها يكتفي يقول: "هراء، هراء". وحين كان تيرينس وراشيل يحاولان أن يتعلما اللغة التي يتحدثها العشاق فيما بينهم، غير أن كليهما بدا معوّقاً ومشوّشاً للآخر. الجنس والنشاط الجنسي بدا كمناطق محرمة (تابوو) بالنسبة لي، أو موضوعات لا يجوز الخوض فيها من قِبلي حتى بدت شخوص رواياتي وكأنهم أحياناً يتكلمون من عوالم متوازية.


إنها رواية جديرة بإعادة النظر إليها مجدداً. حين أنظر إليها بعد سنوات طويلة من كتابتها، أعتقد أن بها بقاع لامعة ومناطق أخرى تجعل وجنتيّ تشتعلان خجلاً. ولكن بوجهٍ عام أعتقد أن راشيل كانت بصدد شيء ما، وفي طريقها لتحقيق هدف مهم، لأنها كانت المواجهة الحاسمة للإشكالية: كيف تتعامل مع المسألة الجنسية وتفصح عنها في ظل مجتمع بطريركيّ حتى النخاع.


في رواية "ثلاثة جنيهات" كنت غاضبةً جداً إذ أكتب عن توغّل البطريركية. ليس فقط البطريركية التي تمارس على النساء لكن على الرجال أيضاً، الذين بدوا لي وكأنهم يفقدون حواسهم ووعيهم حين يضطلعون بوظائف سلطوية في المجتمع.
لهذا بصدق، أزعم أن الإشكالية تكمن في الخلاف والتباين بين لغة القوة والسلطة في مقابل لغة الإحساس والعاطفة، أكثر مما تكمن في الخلاف والتباين بين لغة الرجل ولغة المرأة. أظن أن تلك الفكرة كانت محور "غرفة يعقوب" أيضا.


مستر ومسز رامساي في ( صوبَ المنارة)، كان لدى كلٍّ منهما أيضاً بنية لغوية متباينة وخطاب مختلف: هو أفكاره محصورة داخل قضبان قفص، بينما هي تتكلم لغة العاطفة وتشغلها جماليات العاطفة. ولأنه كان طامعاً في القوة والنفوذ اقترب جداً من السلطة الملكية، بينما هي ظلت متخففة من الأسر في منظومة ما وظلت مستقبلةً تفعّل حدسها وحسب بعيداً عن دائرة نفوذه.


إذا شئت الحديث عن تأثيري في حركات التحرر النسائية (الفيمينيزم، أشعر بالفخر حين يقول الناس أنني نشّطت إحدى تلك الحركات)، وأيضا عن تأثير الفيمينيزم على تأويلات وترجمات أعمالي، تجد مقالاً حديثاً وجميلاً ربما احتجت أن تلقي عليه نظرة. هذا المقال كتبته لورا ماركوس وعنوانه "فيمينيزم وولف، ووولف الفيمينيزم" .

وهو ضمن كتاب حررّته سو روو، بالاشتراك مع سوزان سيللر، وعنوان الكتاب "رفيق كامبريدج إلى أعمال فرجينيا وولف"، عن مطبوعات جامعة كامبريدج 2000. هذا الكتاب يستخدم كافة المصطلحات الجديدة ولهذا فهو معاصر جداً. آمل أن تجد إجابات أخرى حول هذا الأمر هناك.




حين استقر في يقينك أنك ذاهبة إلى الجنون، ماذا كان شعورك تجاه هذا، وماذا كانت ردة الفعل؟



للأسف دخلت للجنون بالفعل مرات عديدة وليس مرة واحدة، (كان مرضاً عقلياً على كل حال).

المرة الأولى كانت بعد موت أمي، ويمكنكم أن تتخيلوا إلى أي مدى كان اضطرابي وتأزمي وقتها. كانت مرحلة عصيبة ومشحونة للغاية لأن كل العائلة كانت غارقة في الحزن. كنت أشعر أنني على غير ما يرام، كانت حالتي تسوء ونبضي يتسارع، وقلبي يضرب في قوة، لم أكد أتحمل هذا. ولهذا أوقفوا دروسي ولكنهم أيضاً أوقفوا كل الأشياء التي أحببت.


من ردود الفعل أنني بدأت أخشى الآخرين، وكنت أحمر خجلاً إذا ما كلمني أحد. وكان ما فعلته حيال هذا الأمر هو جلوسي في غرفتي وقراءة أكداس من الكتب حتى بدأت أتحسن. على الأقل حين غدوت كاتبة أفدت جداً من القراءات الكثيرة التي قرأتها.


وعادة ما كان يدفعني للوقوع داخل براثن المرض مجدداً وقوع شيء سيئ. ولابد أن أعترف أنني أحببت القراءة وأنا في حال جيدة عما كنت أقرأ بينما أنا مريضة.. أتمنى لكم أن تنعموا بحياة سعيدة لتستمتعوا بالقراءة.




لماذا أقدمتِ على إغراق نفسك في النهر؟




لقد انتحرت لأنني بدأت أسمع أصواتاً من جديد، وكنت أعلم أنني لن أستطيع مواجهة أية انهياراتٍ جديدة.

لكن عن: لماذا أغرقت نفسي، فلست متأكدة الآن من السبب. لا أعتقد أنني فكرت ملياً في الأمر قبل الإقدام على هذه الخطوة.

بالتأكيد هناك إشارات عديدة (للبحر) في كتبي، ودائما ما كان البحر شيئاً أوليّاً وأساسيّاً بالنسبة لي حيث كنت أستمع إلى صوت الأمواج فيما تتكسر وأنا في فراشي في مرحلة طفولتي الأولى في بيتنا الصيفيّ في سانت آيفيز.



كتبت قصتين مبكرتين عن الغرق ، تراجي-كوميدي، بعنوان "مأساة مروّعة في داكبوند" والأخرى في عام 1903 "قصة امرأة غارقة"، التي تخيلتها نفسي. لكنهما في الواقع لما يتعديا الكتابات التجريبية.


أغرقت نفسي في نهر "أووز" . أظنني رأيت في هذا حلاً فورياً وسهلاً، لأنني استطعت الخوض داخل المياه بمجرد المشي إلى حيث أسفل حديقتنا في بيت الرهبان (منزلنا في سُسيكس).

كان هذا أفضل من أن أخنق نفسي بالغاز في جراج، تلك الميتة التي قررت أنا وزوجي ليونارد أن نموت بها في حال غزو الألمان ( تذكروا، كان هذا في عام 1939 مع بداية الحرب العالمية الثانية، وكان زوجي يهودياً. فقررنا أن نفتح الغاز علينا سوياً حال حدث الغزو).


كان هذا شيئاً أحمقَ بالفعل. لو كنت عشت لكنت سأرى أن الألمان لم ينجحوا في الغزو، وكنت سأرى زوجي وقد نجا من الحرب، وكنت سأرى روايتي "بين فصول العرض" وقد طُبعت. كان الغرق بالتأكيد شيئاً يجب تجنبه.




كيف انتحرتِ؟



أشعر بالعار أن أقول أنني أغرقت نفسي في نهر أووز. وهو نهر يجري حتى أسفل الحديقة في منزل الرهبان حيث كنت أعيش مع زوجي ليونارد في سُسيكس.


حين أنظر إلى الوراء الآن، أرى حمق تلك الخطوة. كنت أظن أنني أنقذ زوجي وشقيقتي وأرفع عنهما عبء مساعدتي في مرضي الوشيك، لكنني بالتأكيد قد تسببت في إيلامهما أكثر جراء فعلتي.


أما عن كيف انتحرت، فقد أثقلتُ جيوب ثوبي بالأحجار ودلفتُ إلى النهر ببطء حتى انتهت قامتي وانتهت حياتي. تجدون مشهد موتي مصوّراً كتابياً وسينمائياً في فيلم سيفوز بأوسكار عام 2002، انتحرتْ عني في الفيلم الحسناء نيكول كيدمان.




هل استخدمتِ شخصية "سبتيمس سميث" كأداة لنقد التوجهات الاجتماعية تجاه الخلل العقلي انطلاقاً من معاناتك الخاصة من مرض الاكتئاب باي-بولا Bi-pola ؟



ما هو اكتئاب باي-بولا؟ يجب أن أعترف أنني لم أسمع به من قبل (تذكروا أنني مت عام 1941، ومرض الاكتئاب لم يكن له كل تلك الأسماء آنذاك).


بالتأكيد كنت أحب دوماً انتقاد النظام الاجتماعيّ الذي اعتاد أن يعامل المرضى العقليين (بخاصة المصابين بصدمة القذائف الحربية وهو المرض الذي كان يعاني منه سبتيمس)، على نحو ازدرائي وجاهل.


أحد أهم محاور رواية "مسز دالواي" كان (الطبقية الاجتماعية)، وكان الأطباء المعالجون لسبتيمس من الطبقة الوسطي التي تقلد الطبقة الأعلى وتترفع على من هم دونهم، حتى على هؤلاء الذين يدفعون لهم أتعابهم من أجل العلاج.


كانوا يتصورون أن المرض العقلي هو شيء من عدم التحكم الجزئي في النفس، وهذا التصور محض هراء طبعاً. الأمور الآن دخلت في مناطق التنوير، هكذا أخبروني.


لم أعرف مطلقاً اسماً للمرض الذي كنت أعاني منه. كنت أشعر أنني مغمورة بشيء يدقُّ بعنف داخل مخي: مثل اصطكاك أجنحةٍ في رأسي، هكذا وصفت إحساسي يوماً.




كنت أشعر به مثل مرض عضويّ أكثر من كونه شيئا يشبه الحزن أوالقلق. أحد الأطباء قال أن الأمر يعود إلى إحدى الغدد الموجودة في مؤخرة العنق، وبقية الأطباء بدوا وكأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.


وعلى هذا أعتقد أن أفضل إجابة على تساؤلك هي: نهلتُ من خبرتي الخاصة في تجربة مرضي العقلي للكتابة عن سبتيمس و"صدمة القذيفة" التي أصابته، لأرسم كيف كان الناس متحاملين على المرضى العقليين في تلك الأيام وعن مدى الجهل في التعامل معهم، اجتماعياً أكثر منه طبيّاً.



يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:17 AM
المشاركة 22
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


كيف تعلّقين على رسم شخصية مثل "راشيل فينريز" في رواية" الخروج في رحلة بحرية"؟ وأيضا هل تعتقدين أن تلك الرواية قد جسدت المشاعر الداخلية لراشيل فينريز؟


كان هذا تحديّاً ضخماً. فقد كانت روايتي الأولى كما تعلمون، وكما هو الحال مع الأعمال الأولى عادةً، حاولت أن أضع فيها الكثير من خبراتي الخاصة.

تماماً مثل راشيل، ماتت أمي وأنا بعد طفلة، وكلما كبرت وجدت نفسي محاطة بأناسٍ نشطين مبهرجين مثلما كانت شخصية "كلاريس دالواي"(بنيت شخصيتها على شخصية حقيقية هي "كيتي مانكس")، وكذلك كنت محاطة برجال مثقفين مثل مستر "آمبروز" وزوجته عميقة التفكير "هلين"، التي كانت تشبه إلى حد ما شقيقتي فانيسا.


وضعت الكثير من قراءاتي في رواياتي وكتبي: روايات "جين أوستين"، خطابات "كوبر"، المؤلفون اليونانيون وخاصةً "جي إي موور" في كتاب "مبادئ الأخلاق"، ذاك الكتاب الذي درسه شقيقي "ثوبي" وأصدقاؤه في كامبريدج، وقرأته أنا في المنزل.


في عام 1904 سافرت بالبحر إلى إيطاليا وباريس، وفي عام 1905 ذهبت بالبحر أيضاً إلى إسبانيا مع شقيقي "آدريان". في عام 1906 سافرت إلى اليونان مع "ثوبي" و"آدريان"، وشقيقتي "فانيسا" وصديقتي "فايوليت ديكنسون"، غير أن تلك الرحلة انتهت بكارثة: حيث التقط شقيقي" ثوبي" حمى التيفوئيد ومات في نوفمبر من نفس العام. ولذا أظن أن توصيف الحمى التي أصابت راشيل كان متكئاً في الأساس على تجربتي من مرض "ثوبي" وموته.


هذه الرواية أخذت وقتاً طويلاً حتى انتهيت منها: شرعت في كتابتها في مايو 1908 وأرسلت بها إلى الناشر في مارس 1913. أنجزت فيها سبع مسودّات: وظللت أغير وأعدّل فيها طوال الوقت.


كنت مهتمة ومشغولة بها جداً، ولكنني ظللت قلقة بشان أسماء الشخوص: راشيل كان اسمها أولا "ثنسيا"، ولم أوفق في اختيار اسم مناسب لها. (في إحدى المرات تجولت بين شواهد القبور من أجل شحذ الأفكار، ووجدت سيدة تُدعى "تريدسرايد" .. كلا، ربما لم يكن هذا اسمها). كنت أريد لها أن تكون فرداً معاصراً، لا بطلةً فيكتورية محافظة!


في عام 1909 أرسلتُ المائة صفحة الأولى إلى زوج شقيقتي "كليف بيل"، الذي أرسل لي العديد من التعليقات الإيجابية. غير إنه قال أني – بسبب تحيزي ضد الرجال – جاءت روايتي تعليمية إرشادية بل وشديدة التزمت أيضاً. لهذا مزقت الكثير من أوراق الرواية وأعدت كتابتها.


كنت تسأل عما إذا كنت أعتقد أن مشاعر راشيل الداخلية جاءت مقنعة: وأتساءل ماذا تظنون أنتم؟ ربما نجد أن أهم الفصول التي تناولت هذا الأمر هي 20، 21، و 22، حين شعرت هيلين أن راشيل قد تخطّت حراساتها، فتصادمت مع ريتشارد، دالواي بتوجيه من هيلين الآن غدت حرة في أن تعبر عن أحاسيسها الخاصة.


إذا ما تأملتم مليّاً (صفحة رقم 200 في طبعة بِنجوين) عندما كانت تتحدث مع تيرينس، الذي أبدى ملاحظاته حول أنهم أصبحوا في القرن العشرين، لكن، لعدة سنوات ماضية لم يكن للمرأة أن تأتي من تلقاء نفسها لتتحدث في مثل تلك الأمور. هذه الأشياء كانت تعتمل في خلفية الرواية، كل تلك الآلاف من السنوات من الصمت الشغوف لحياة غير فعالة للمرأة.


تأملوا كذلك الفصل الثاني والعشرين، حين ألقى تيرينس خطبته الطويلة حول النساء بينما راشيل لم تتكلم مطلقاً، لأنها أغرقت ذاتها مجدداً في سونتات بيتهوفن. أتساءل كيف ترون هذه الأمور.


أنا شخصياً أعتقد أنني نجحت في بعض المقاطع، وأخفقت في القليل منها. لكن ما كنت أهدف إلى إظهاره: مدى صعوبة أن تعبر المرأة عن حياتها الداخلية في ظل كل تلك القيود وغياب الحرية.



ما هي الدلالات وراء الحفل الذي أقامته مسز دالواي في الرواية؟



أنا مغرمةٌ بالحفلات. ليونارد كان يعتقد أني أحب الإثارة الفيزيقية التي تحدث خلالها، وهو ما كان يطلق عليه "خميرة وينبوع الضجيج".

لطالما كنت مفتونةً بفكرة ما أسميته "الوعي الجماعيّ". أؤمن بأن الناس يمتلكون عدداً من الأنواع المختلفة من الوعي، و"الوعي الجمعيّ" – أثناء المحافل - يضعنا في بؤرة الضوء بما يسمح بتدقيق وفحص الناس الآخرين لنا، الأمر الذي يجعلنا نحاول أن نكون بصدق (ذواتنا)، إما على نحوٍ أقل أو أكثر.


تحت وهج أضواء الحفل، يصبح الناس شفافين غير محصنين ويسهل سبر أغوارهم. هذا يجعلهم يبوحون بأشياء عن أنفسهم، وبالتالي يكون هذا منبعاً جيداً للكاتب لاختيار شخوص رواياته كلهم من مكان واحد ويظهر كل أنواع الصفات البشرية من خلالهم. وهكذا حقق المحيط المكثف والقوي للحفل الذي أقامته "كلاريسا" في رواية "مسز دالواي"، توقعاتها من الحفل والإثارة التي أنتجها الحفل ما جعل لكلاريسا وعياً أكثر بذاتها وبالآخر.


في الأساس، كان "للحفل" دور في الهيكل الوظيفي للرواية، هذا الدور الذي بدأ يخفت قليلاً عند إعادة الكتابة والتحرير. كانت فكرتي الأولى أن يكون هذا الحفل هو الختام الروحي الصلب للرواية. كان الحفل سيتم رصده من خلال كامل المنزل (يبدأ بالمطبخ حيث مسز كلاريسا ، ثم يصعد رويدا إلى الطابق الأعلى).

كان هذا سيربط ويضفر الأحداث سوياً، ومن ثم ينتهي الحدث على ملاحظات ثلاث، على ثلاثة أماكن مختلفة على سلالم البيت، حيث ثلاثة شخوص من أبطال الرواية كلٌّ سوف يقول شيئاً ما يلخص به موقف كلاريسا، هؤلاء الثلاثة سوف يكونون ريتشارد، وبيتر، وسالي سيتون.


في النهاية فكرت أنه من الأفضل أن تترك كلاريسا الحفل وتصعد شاردةً إلى حيث غرفة نومها كي تتأمل حياتها على نحوٍ أكثر حساسية ووعياً، وبينما تتوجه للحفل ثانية لتنضم إلى ضيوفها، سوف يكون بيتر ولش في انتظارها ليقول:" إنها كلاريسا.... هي التي كانت هناك."



ماذا كانت أهدافك من وراء " مسز دالواي؟



كالعادة، مقاصدي تنبثق بالتدريج مع الوقت أثناء الكتابة. بدأت هذا العمل بكتابة بعض القصص القصيرة، ويبدو أنني تذكرت أنني واصلت الكتابة على نحوٍ ترادفيّ، بمعنى أنني وجدت أن فكرة رواية "مسز دالواي" قد تطورت وتحولت إلى رواية، وكان هذا غير ما اعتدت عليه مطلقاً.


كان من بين هذه القصص واحدة بعنوان "مسز دالواي في شارع بوند". وكانت تبدأ هكذا: "قالت مسز دالواي إنها سوف تشتري القفاز بنفسها. كانت ساعة "بج بن" تدق حين كانت تخطو خارجة إلى الطريق.."


وهكذا ترون أن التفاصيل مهما تغيرت، تظل الفكرة ثابتة هناك. القصة الأصلية انتهت بمشهد السيدة دالواي في المحل تشتري قفازها. البائعة في المحل تقول: "منذ الحرب لم يعد من الممكن الاعتماد على القفازات مطلقاً"، وفجأة يحدث انفجارٌ عنيفٌ في الشارع بالخارج. وبدا واضحاً أن كلاريسا تجاهلت هذا الحدث، واستمرت في الثرثرة مع الشخوص الآخرين في الشارع.


بالتدريج، أخذت في تطوير فكرة أن الحرب العالمية الأولى بوصفها حدثاً مروّعاً صممت الطبقة العليا-الوسطى أن تتجاهله، وبعد برهة قدمت شخصية "سبتيمس" كمعادل موضوعي للسيدة دالواي.


في يوم 14 أكتوبر 1922 كتبت في دفتر مذكراتي، "مسز دالواي تفرّعت إلى كتاب، و أشير هنا إلى دراسة حول الجنون والانتحار: العالم تتم رؤيته بواسطة العقلاء والمجانين جنبا إلى جنب....".


كنت أيضاً أريد أن أنتقد النظام الاجتماعيّ، وأظهر جانبه الأسوأ: الهرم الطبقي التراتبيّ، المتعاليون على طبقاتهم، الجهل بالمرض العقلي، خاصة مرض "صدمة القذيفة" shell shock ، آمل أن ترونني قد نجحت.



كيف كانت ردة فعلك تجاه النقد الذي قال أن "السيدة دالواي" رواية حاولت خلق شيء جذاب من شخصيات غير جذابة ومواقف غير جذابة؟ خاصة عبر تيار الوعي.



حسناً، أتساءل ما إذا كنتم توافقون على هذا الرأي. أنا شخصياً لم أرَ الأمر على هذا النحو مطلقاً.
أفترض أن أحد طرائق الاستجابة والتفاعل مع العمل تكون بتأمل الشخصيات المهمّشة – غير المحورية – ولماذا هم هناك: على سبيل المثال، هل كانت سالي سيتون غير جذابة؟ وإذا كانت هكذا، ماذا أخبرتنا عن كلاريسا؟


وهناك أطباء سبتيمس على سبيل المثال، كانوا مُنْسلخين طبقياً وغير ودودين وأفظاظاً، أي أنهم أناس ربما يكونون مملين في الحياة، غير أنهم في الرواية يشرحون فكرتي حول كيف كان الناس منعزلين (حتى الأطباء) في تلك الآونة عن المرضى العقليين والنفسيين وعن محنة "صدمة القذيفة".


لمدة طويلة كنت قلقةً بشأن مسز دالواي، فكرت أنها ربما تكون كائنا لامعا لكنه خاوٍ، لكنني كنت طامحةً أن تغدو، في نقاط التقائها وتقاطعها مع سيبتمس، كائناً جذاباً، ليس فقط من أجل التناقض والتباين بينهما، ولكن بسبب بعض اللحظات التي كانا فيها يتوافقان ويتقاطعان.


هل نظرتم في مقاطع صفحتي 3 و 75 ( طبعة بنجوين- كلاهما مثالاً على تيار الوعي)، عندما بدا أن كل من كلاريسا وسبتيمس يمتلكان نفس الإيقاع ونفس المعجم؟


ثم ماذا عن بيتر ويلش؟ أحد النقاد كتب أن طريقته حين كان يجلس ويلعب بتلك السكين طوال الوقت بدت شاذة وجديدة وجذابة!
أنتم تدفعوني الآن إلى التفكير في تساؤل ضخم وفاتن: ما الذي يجعل شخصية ما في رواية "شخصية جذابة"؟



يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:24 AM
المشاركة 23
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي




ما هي المدة التي احتفظتِ فيها بمذكراتك؟


بدأت بالاحتفاظ بما أكتب من مذكرات منذ أوائل يناير 1897، أي حين كنت في الخامسة عشر.

كنت بمثابة مؤرخة عائلات غير رسمية، وصفت أشياءً وأحداثاً مثل اليوبيل الماسيّ للملكة فيكتوريا، والإعدادات لحفل زفاف أختي غير الشقيقة "ستيللا"، كذلك أشياء من قبيل إعلانات مثل "زوروا محلاتنا في ركن سيرك بيكاديللي، عند موقف الباصات، وتذوقوا شطائرنا الساخنة"، كنت أحياناً أشير إلى نفسي في تلك المذكرات بلقب "ميس جان".

بين عاميّ 1897 و 1909 كنت قد ملأت دفاتر سبعة. كان أول تاريخ مكتوب هو الأحد 3 يناير 1897 وتبدأ هكذا: " كلنا بدأنا نحقق أرقاماً قياسية في بداية العام الجديد – نيسّا، وآدريان وأنا. ركبنا الدراجات مع جورجي(أخي غير الشقيق) وذهبنا إلى مستر إستادز (رسام صديق)، لكنه لم يكن موجوداً، ومن ثم ذهبنا إلى حديقة باتيرسي - ... "واستمر الحديث واصفةً حالنا فيما نقود دراجاتنا: "دراجتي كانت جديدة والمقعد كان غير مريح."

ربما تعرفون أنني ظللت أكتب يومياتي حتى عام 1941، وحتى في مذكراتي الأولى كتبتُ عن قراءاتي وكتاباتي، تماماً مثلما كتبتُ عن أحداثي اليومية.
في يومي 18 و 19 مارس من عام 1896 كنت أقرأ "حياة كوليريدج" ، و"سيلز مارنر لجورج إليوت، وكتاب بعنوان "حكايات من ثلاث مدن" لهنري جيمس. بعد أسبوعين (في 31 مارس) اصطدمنا به في شارع أكسفورد! ( أبي تعرف عليه).

هل تعرفون أن مذكراتي الأولى (من 1897 وحتى 1909) قد صدرت مجتمعةً الآن في كتاب واحد؟ كتاب بعنوان "صبيّة متحمسة تحت التدريب": اليوميات الأولى لفرجينيا وولف "تحرير ميشتشيل ايه ليسكا، عن دار هوجارث للنشر"، آمل أن تتمكنوا من قراءتها إذا ما أحببتم.



لاحظت أنك تتكلمين دائما في مذكراتك عن نفسك بصيغة "ضمير الغائب" مستخدمةً اسم "مِيس جان" Miss Jan. ماذا كان السبب وراء هذا؟


لا أحد بوسعه أن يذكر! إنها إحدى الأمور التي تلتصق بالذهن، لا أحد يتذكر كيف بدأ الأمر، ولا حتى أنا.

لابد أن للأمر علاقة بحقيقة أن تلك المذكرات واليوميات المبكرة كانت إلى حد ما محاولة لتثبيت وتكريس هويتي، تجربة شخصيات مختلفة عساي أعثر على صوت صافٍ لكتاباتي.

في نهاية دفتر مذكراتي الأول أتذكّر أني كتبتُ: إن ذاك العام كان بالفعل "أول عامٍ حقيقي مُعاش في حياتي"، الكتابة تجعل كل شيء يبدو قوياً ومشحوناً بالعاطفة.
كنت بالفعل أدعو نفسي "ميس جان" منذ عام 1897 ( كان عمري وقتها خمسة عشر عاماً)، لهذا لا يمكن أن أكون قد أخذت الاسم (كما هو شائع) عن اسم معلّمة اليونانية الجميلة، "جانيت كيس" لأنني وقتها لم أكن بعد تلقيت دروس اليونانية معها التي بدأتها عام 1902.

جدتي كانت تدعى "جين"، لكنني لا أظن أن هذا كان السبب وراء الاسم.
لابد أنني أخذت الاسم من أحد الكتب التي كنت أقرأ، ربما إحدى الروايات. (اللقب الآخر الذي اعتاد أشقائي وشقيقاتي مناداتي به كان "العنزة"، ولا أذكر كيف بدأ هذا اللقب أيضاً!).

لقد جعلتموني في حال تفكير، الآن: أتساءل الآن ماذا لو أن "ميس جان" كانت إحدى شخصيات رواياتي!!


هل أنت راضية عن اختيارك مهنة الأدب، أكثر من الرسم مثلما فعلت شقيقتك فينيسا؟

كان من الواضح في وقت مبكر أن فينيسا ستكون الفنانة في العائلة. كانت بارعة في الرسم حتى قبل أن تتم الخامسة عشرة.

رجل يُدعى "مستر كوك" هو من علمها الرسم، ونالت جائزة في مدرسة الرسم التي كانت تتردد إليها.

رأيتُها مرةً تشخبط متاهةً من الخطوط بالطباشير الأبيض فوق بابٍ أسود اللون. كانت تظن أن أحداً لا يرقبها أو يستمع إليها، لكنني سمعتها تقول: "حين أغدو رسامةً مشهورة...".

أستطيع القول أنني توقعت أن أغدو كاتبةً. كنت أرسم وأستمتع بالرسم، لكنني كنت أكثر تفوقاً في بناء القصص.

حين كنا أطفالاً، أصدرنا صحيفة اسمها "بوابة هايدبارك الإخبارية" Hyde Park Gate News
، ومازالت أذكر أنني من كتب معظمها.


حتى مذكراتي الأولى (التي بدأت أدونها في يومياتي التي لم تكتمل بعد: "لحظات الوجود
Moments of Being )، أنبأت بوضوح عن وعي كاتبة: "حين أتذكر تمددي في مشتل بيتنا في سانت آيفز، أفكر أنني لو كنت فنانة لكنت سأرسم المشهد باللون الأصفر الباهت والفضيّ والأخضر. كنت سأرسم لوحةً لبتلاّت الزهور الملتوية؛ للقواقع، للأشياء التي يظهر الضوء من خلالها."


لكن بمجرد أن بدأت أرسم الصورة في ذهني، سمعت أصواتاً، مثل نعيق الغربان. ربما هذا ما جعل مني أديبة، فأنا أحب الأصوات الخبيئة.

الرسم صمتٌ، مقارنةً بما حاولت أن أنقله في رواياتي: صوت نقر الكرة فوق المضرب في رواية "صوب المنارةومستر رامساي حين يكسر الصمت عن طريق الصياح بأبيات من الشعر، ومدقات البحر في "الأمواج"، وحين ينادي آرشر على الشاطئ " جا- كوب ! جا-كوب" في رواية" غرفة جاكوب.

قلت لفانيسا أنها تنشّط حافز الكتابة لدي بلوحاتها، وهي قالت إن قصصي تولّد لديها أفكارا للوحاتها. لهذا أنا سعيدة أنني أديبة، غير أن وجود شقيقة فنانة قد ساعدني في الكتابة، ومشاهدة الرسومات بين الوقت والآخر وهبني أفكاراً جميلة للكتابة.
* * *
* * *

المصادر:


World Masterpieces V-2-The Norton Anthology

Woman of Letters : A Life ofVirginia Woolf-1978- Phyllis Rose

Virginia Woolf :A Critical Reading 1975- Avrom Fleishman

Virginia Woolf: New Critical Essays-1983-Patrecialements & Isobel Grundy

Virginia Woolf:A Study of Short Fictions 1989- Dean R. Baldwin

New Feminist Essay on Virginia Woolf”- 1981-Jane Marcus

The Hours -2002 – Michael Cunningham

Moments of Being-1976- Jeanne Schulkind

Virginia Woolf: The quiet revolutionary - By Michael Cunningham

Who'sAfraid of Virginia Woolf ? Edward Albee's 1962


* * *

عن المؤلفة:


فرجينيا وولف (1882-1941)، قامة أدبية سامقة في الفن الروائي الإنجليزي الحديث، اشتهرت بالكتابة عن حقوق المرأة ومناهضة التمايز النوعي. تلقت تعليمها في المنزل حسب البروتوكولات الفيكتورية السائدة آنذاك.

اشتهرت بمنهجها السردي الجانح نحو التجريب والخارق لاستقرار الواقعية الذي برز في القرن التاسع عشر.

تقف على قدم المساواة من حيث التميز الروائي مع جويس وبروست وغيرهما من قامات الحداثة آنذاك. من رواياتها "الليل والنهار" 1919، " غرفة يعقوب" 1922، "مسز دالواي" 1925، "صوب المنارة" 1927 "أورلاندو" 1928. " السنوات" 1937 ومن مجموعاتها القصصية "الاثنين أو الثلاثاء" 1921 عدا العديد من المقالات الفكرية والنقدية. أغرقت نفسها في نهر أووز قرب لويس بمقاطعة سُسيكس في الثامن والعشرين من مارس عام 1941.

* * *

عن المُراجِع:


د. ماهر شفيق فريد، ولد في 1944. ناقد أدبي ومترجم وكاتب قصة قصيرة. أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة القاهرة.

له في المشروع القومي للترجمة "المختار من نقد ت أس اليوت" في ثلاثة أجزاء، "مختارات من النقد الأنجلو-أمريكي الحديث" لطائفة من النقاد، "ت أس اليوت: شاعراً وناقداً وكاتباً مسرحية" لعدة أقلام.

له مجموعة قصصية عنوانها "خريف الأزهار الحجرية". صدر له في عام 2004 "قطوف من أمهات الكتب"، " قصَّ يقصُّ: دراسات في الرواية والقصة القصيرة العربية"، "الواقع والأسطورة : دراسات في الشعر العربي المعاصر" ويعكف حالياً على إعداد كتاب للمشروع القومي للترجمة عنوانه "ديوان الشعر الإنجليزي في ستة قرون: من القرن الرابع عشر إلى مطالع الألفية الثالثة: قصائد مترجمة وتعليقات".



عن المُترجِمة:

فاطمة ناعوت: شاعرة مصرية.. تخرجت في كلية الهندسة ج عين شمس.

لها أربعة دواوين شعرية: "نقرة إصبع" –الهيئة المصرية العامة للكتاب، "على بُعْد سنتيمتر واحد من الأرض" –دار"كاف نون" ، "قطاعٌ طوليّ في الذاكرة" – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2003، "فوق كفِّ امرأة" –وزارة الثقافة اليمنية، أنطولوجي شعري مُترجَم عن الإنجليزية "مشجوجٌ بفأس" – سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2004، أنطولوجي قصصي مترجم عن الإنجليزية "المشي بالمقلوب" وزارة الثقافة اليمنية.

ولها تحت الطبع ديوان " نصف نوتة"، وديوان شعر بالإنجليزية "Before the School Shoe GotTight".لها قيد الإعداد كتاب نقدي "دائرة الطباشير".

www.geocities.com/fatima_naoot





دمتم بخير

آمل أن تنال إعجابكم




هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:36 AM
المشاركة 24
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الروائي منتحراً .. فرجينيا وولف الساحرة


(إبراهيم سبتي)




في بداية ظهور موجة الرواية الحديثة، ظهر ملازماً لها مصطلح تيار الوعي أو المونولوج الداخلي. االمصطلح الذي غير مفاهيم الرواية تغيراً مهماً سيما أن الكتاب الذين مارسوا كتابة الرواية جعلوا من تيار الوعي شاخصاً أمامهم لابد من الوصول اليه في رواياتهم، فأوغلوا في تصوير أعماق الشخوص وخباياها وجعل مكنونات الذات في متناول التشريح والتفصيل في السرد مما يعد خرقا للمألوف الروائي الذي كان سائداً. ويبدو أن جماعة الرواية الجديدة الإنكليز، جددوا في شكل وأسلوب الرواية في عصر كانت الرواية في اشد تمسكها بالمدرسة الكلاسيكية المعتمدة على السرد الواقعي.

لكن جيمس جويس وهنري جيمس وفرجينيا وولف، وضعوا لشخوصهم وصفات جديدة كالإغراق في الكآبة والدوافع النفسية المؤدية الى الانفعال الشديد والحافز الإنساني والعاطفي منضوية تحت زمن آخر لم يكن معهوداً وهو الزمن المتجدد أو فكرة تحطيم الزمن والغاء التراتبية المعروفة له. لقد شعرت وولف في بداية حياتها الروائية، بأنها قد لاتصل إلى موهبة جويس مثلاً ..

ولذا كان لزاماً عليها أن تنظر له بعين الغيرة سيما أنه استطاع أن ينجز مطولته (عوليس) ويقدمها للطبع عام 1918 إلى دار النشر (هوجارت) أو هوغاربريس التابع لها والذي أسسته مع زوجها في عام 1916، ولكنها بدلاً من أن تأخذ الأمر على محمل الجد وتطبع الرواية، انهالت بالسخرية على موضوع الرواية وراحت تتندر على شخوصها وتستهين بقدرات جويس نفسه.


وأعتقد جازماً بأن وولف كانت تخشى من سطوة جويس الروائية في الوسط الأدبي الإنكليزي مما يؤثر عليها كروائية عرفت طريقها إلى الفضاء الروائي الجديد بصدور روايتها الأولى رحلة إلى الخارج عام 1915 والتي وصفت بالتقليدية إلى حد ما ويبدو أن تأثير عملها الصحفي كان واضحاً فيها والمعروف أنها بدأت صحفية في ملحق التايمز الثقافي.

وبذا لزم عليها أن تواصل السير الروائي بمحنة الوصول إلى مستوى كبير يضاهي ما وصل إليه روائيي عصرها. كانت دار النشر الخاصة بفرجينيا وولف قد طبعت ديواناً شعرياً لإليوت (الأرض اليباب) عام 1922 ولم يكن معروفاً بعد في الأوساط الشعرية آنذاك وحقق الكتاب شهرة عالمية بعد سنوات قليلة.

وطبعت روايات وقصصاً لأسماء مغمورة ومواهب شابة إنكليزية مثل كاترين مانسيفيلد. كما قامت بطبع جميع أعمال فرويد وطبعت مجموعة قصصية خاصة بها.. أما من الأدب الأجنبي فقد طبعت لمكسم غوركي والشاعر الألماني ريلكه وبايلر وهنري مود ..


وجاء في أسباب رفضها لنشر رواية جويس أنها كانت غارقة في الرتابة! مع إن الرواية عند طبعها خرجت من حدود دبلن مدينة جويس إلى كل العالم فأصاب وولف صدمة عنيفة أضيفت إلى صدماتها التي كانت تتوالى عليها سواء العائلية أو العاطفية ومن ثم الأدبية .

ويبدو أن وولف اقتنعت بتفوق موهبة جويس عليها، فاتخذت قرارها القاسي بعدم نشر الرواية كرد فعل للتفوق الروائي والمهارة العالية والأسلوب الفني الجديد الذي كتب به. ولم تكن تسخر من جويس بقدر ما كانت تسخر وتشتم روائيين آخرين كانت لهم حظوة في المجال الروائي وخاصة أولئك الذين كانوا يكتبون بالإنكليزية.


في العشرينيات، فيما كانت لندن تعيش أيام الازدهار الروائي والشعري مقارنة بالمدن الأوربية الأخرى، بدأت حركة القراءات والنقد القاسي لكافة الأعمال الأدبية التي ظهرت لكتاب معروفين أو ناشئين على حد سواء .. وكانت فرجينيا وولف تنتقد بكثرة الأعمال الروائية خاصة تلك التي تأخذ حظها الجيد من النقد في الصحافة اللندية .. فكانت ترد ساخرة على أغلب الأعمال المنقودة والناجحة بكلمات تطلقها في جلسات أو حلقات نقاشية أدبية بحذلقة وقدرة عجيبة كي لا تثير الآخرين لحساسيتها المفرطة تجاه تلك الأعمال الناجحة فنياً..


ولما كانت وولف لم تنتج طيلة حياتها الأدبية القصيرة غير واحداً وعشرين كتاباً في الرواية والقصة والشعر والمقالات الصحفية والنقدية، فإنها تعتبر نفسها من المقلين في الإنتاج الأدبي الإنكليزي عامة إضافة إلى اعتقادها بأنها لم تشتهر كالآخرين الكبار الذين كتبوا في زمنها .. تلك الوساوس أثرت كثيراً في حياتها الخاصة التي أثارت نوعاً من النزعة التصغيرية والنظر للاشياء بغير حجومها .. فهي تنظر للأدباء الشباب كقمم أدبية وتنظر إلى كبار الكتاب بأن أعمالهم رتيبة وغير مفهومة.

ويبدو أن ما أصابها من هوس وخوف من عدم بلوغ المجد الذي كانت تحلم به، إنه أدى بها إلى رفض الحياة برمتها باعتبارها غير مجدية وغير نافعة لها مهما بلغ إنتاجها الأدبي من آفاق ومراتب رغم أنها جددت كثيراً في الرواية وتركت بصمة مؤثرة في التقنية الحديثة من سرد متدفق ومتغير وزمن متداخل وهوس الشخوص وانفعالاتهم والغور في دواخل لم تكن معروفة ولم يتسن لأحد الإبحار فيها لصعوبتها ولأنها تحتاج إلى ثقافة نفسية خاصة.


كتبت فرجينا وولف أول أعمالها وهي في الثلاثين من عمرها وأول نشر لها كانت رواية رحلة إلى الخارج أو في ترجمة أخرى (نهاية الرحلة) وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها وهكذا انطلقت في عالمها الروائي والأدبي بعد استيعابها لمفهوم الرواية التي كان لابد لها أن تكتب في عصرها .. وهذا ما يفسر لجوءها إلى عوالم الإنسان المكبوت والمستفز والغارق في الإحباطات النفسية بعد أن انتشرت في عصرها نظريات علم النفس لفرويد وتأثر كافة الكتاب بها على نحو واضح.

وكان من الطبيعي أن تكتب وولف متاثرة بأجواء علم النفس الجديد الغائر في وعي الإنسان وبواطنه وخفاياه كما هو حال روايتها (السيدة دالاواي) التي تبدأ وتنتهي باسترجاع ذكريات واسترسال مباشر للأحداث في لحظة قيام السيدة دالاواي بالتسوق والسير في شوارع لندن لإعداد حفلة المساء. وفي رواية لاحقة هي أورلاندو تتخطى وولف السائد المطلق كلياً إلى عالم الرواية الأكثر انقلاباً في المسيرة الرواية المتعلقة بتيار الوعي بمعرفة تامة بعوالم التخيل الانفلاتي وهي عوالم من الرمزية لبطل ذكوري سرعان ما يتحول إلى امرأة.

وعن رواية "أورلاندو" كتب خورخى لويس بورخيس يقول: "يبرز فى هذه الرواية – يقصد أورلاندو – الإنشغال بالزمن. وأعتقد أنها الرواية الأكثر تميزاً بين كل الروايات التى كتبتها فرجينيا وولف، واشدها غرابة ويأساً، وبطلتها تعيش 300 سنة، وتصبح فى بعض الأحيان رمز إنجلترا، وشعرها بالخصوص. وفى هذه الرواية المدهشة تمتزج المرارة بالفرح والسحر. " (المصدر حسونة المصباحي، العرب اون لاين).


وتلجأ وولف إلى العبث بالزمن في رواية أخرى هي (الأمواج 1931) والتي تدور أحداثها في يوم واحد من خلال ذكريات وحوارات داخلية تتعلق بشخص ميت ويتناوب الزملاء الستة بعرض مونولوج داخلي واستظهار المبطن المكتف تحت عباءة السرد، فتداخلت الأزمة وتكسر السرد وهكذا تتعامل وولف مع جميع الزملاء بنفس التقنية المؤثرة

لقد اعتبر بعض النقاد الإنكليز أن تيار الوعي عند وولف يتجلى واضحاً في تلك الرواية التي اقتطعت لها مكاناً مهماً بين روايات عصرها وهي ترجمة بالغة لعذابات وإجلاء الدواخل الإنسانية المكبوتة.

وربما أيقنت فرجينا وولف بأن الرواية الإنكليزية قدرها أن تسير وفق معايير جديدة أكثر بعداً عن الرواية الكلاسيكية، فاتخذت لنفسها تابو روائي مختلف كلياً عن الآخرين الذين ربما سبقوها إلى عالم الحداثة، إلا أنها كانت أجرأ كاتبة نسائية في خوض تفاصيل الحبكة المتداخلة ذات الإلتواءات المختلطة بالمكان المتغير والزمن المتداخل. وهي مهمة صعبة لكاتبة ورثت تلالاً من الروايات القديمة التي صارت تاريخاً يعلوه الغبار ليس إلا.


أصيبت الروائية فرجينا وولف بمرض الهوس الإكتئابي وهو مرض الشعراء والكتاب وألقت بنفسها في نهر أوزو منتحرة بعد أن أثقلت جيوب معطفها بالحجارة الثقيلة في 28 اذار من عام 1941 .


وتركت أعمالاً روائية وشعرية وكتب مقالات نقدية وأهم رواياتها كانت:

نهاية الرحلة 1915، الليل والنهار 1919، غرفة يعقوب 1922، السيدة دالواي 1925، اورلاندو 1928، المنارة 1925، الأمواج 1931، فلاش 1933، بين الفصول 1941.


- - - - - - - - - -



صورٌ ثلاث بقلم : فرجينيا وولف


ترجمة : فاطمة ناعوت


الصورةُ الأولى


لبرهة من الزمن ظلت الصورة تسبح في عيني بحيث تجعل الأشياء أكثر بريقاً من المستحيل على المرء أن يتجنّبَ رؤية الصور؛ فلو كان أبي حدّادًا، وأبوك كان أحد النبلاء في المملكة، فسنحتاجُ حتماً إلى أن نكون صوراً لبعضنا البعض.

لن يكون بوسعنا أن نهربَ جماعيّاً من إطار الصورة عن طريق قول كلمات مألوفة. أنت تراني منحنياً أمام باب دكان الحدادة ممسكاً في يدي بحدوة حِصان فتفكرُ وأنت تمرُّ جواري: "يا له من مشهدٍ رائع يستحق التصوير!"، وأنا، حين أراك جالساً بثقة واطمئنان شديد في السيارة، تقريباً كأنك ذاهبٌ كي تنحني أمام حشود العامة، أفكّرُ: "يا لها من صورة لإنكلترا الأرستقراطيّة العريقة المترفة!". كلانا مخطئٌ تماما في حُكمه دون شك، لكنه أمرٌمحتوم.


وهكذا فقد رأيت الآن عند منعطف الطريق واحدةً من تلك الصور. ربما كان اسمُها "عودةُ البحّارِ إلى الوطن"، أو ربما كان اسماً شبيهاً بذلك. بحارٌ أنيق شاب يحمل مِخْلاةً، فتاةٌ يدُها في ذراعه، والجيران محتشدون حولهما؛ وحديقةُ كوخٍ ريفيّ صغير متوهجةٌ بالورود، حين يمرُّ المارُّ سوف يقرأُ في أسفل تلك الصورة أن البحّارَ كان عائداً لتوّه من الصين، وأن ثمة مأدبةً رائعة كانت تنتظره في ردهةِ الدار، وأنهديةً في مخلاته كان جلبها البحّارُ لزوجته الشابة، وأنها كانت سرعان ما سوف تحمل وتنجب له طفلهما الأول.

كلُّ شيء كان مضبوطاً وجميلاً وكما يجب أن يكون، هكذا يشعرُالمرءُ حيال تلك الصورة... ثمة شيءٌ ما كان يوحي بالهناء والرضا في مرأى مثل هكذا سعادة؛ فالحياةُ تبدو أكثرَ حلاوةً وفتنةً عن ذي قبل.


هكذا كان تفكيري وأنا أمرُّ بهم، ثم أقوم بملء فراغات الصورة بأكثر ما يمكنني من زخم واكتمال، أتأمّلُ لونَ فستانِها، لونَ عينيه، وأرقب القطّة التي لها لونُ الرمل وهي تنسلُّ خِلسةً حول باب الكوخ.


لبرهة من الزمن ظلّتِ الصورةُ تسبحُ في عينيّ، بحيث تجعل معظمَ الأشياء تبدو أكثر بريقًا ودفئًا، وأكثر بساطةً من المعتاد، وبحيث تجعل بعضَ الأشياء تبدو سخيفةً خرقاء، وبعضَ الأشياء خاطئةً وبعضَها صحيحةً وأكثرامتلاءً بالمعنى عما قبل.

في لحظات نادرة خلال ذلك اليوم واليوم الذي يليه كانتِ الصورةُ تعودُ إلى العقل، فيفكر المرءُ بحسد، لكن على نحو طيّب، في البحّار السعيد وفي زوجته، ثم يتساءل المرءُ عما عساهما يفعلان، وماذا تُراهما يقولان الآن. ا


لخيالُ يمدُّنا بصورٍ أخرى تنبثق من الصورة الأولى: صورة البحّار وهو يقطّع حطبَ الوقود، وهو يسحبُ الماء من البئر؛ فيما يتكلمان عن الصين، والفتاةُ التي وضعت هديته فوق جدار المدفأة ليكون بوسع كل من يأتي أن يراها، راحت تحيك في ملابس طفلهما القادم، بينما كانت كلُّ النوافذ والأبواب مفتوحةً على الحديقة بحيث تصفّق الطيورُ بأجنحتها وترفرف من مكان إلى آخر والنحلاتُ تطنُّ، و «روجرز» هكذا كان اسمه لايستطيع أن يصفَ إلى أي مدى كان كلُّ ذلك مُرضياً له بعد عُباب بِحار الصين. بينما كان يدخن غليونه، وقدمه ممدودةٌ في الحديقة.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:46 AM
المشاركة 25
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


الصورةُ الثانية


في منتصف الليل دوّتْ صرخةٌ عالية في كل أنحاء القرية. بعد ذلك كان ثمة صوتٌ لشيء يجر ساقيه، وبعدها سكونٌ مطبق. كل ما كان يمكن رؤيته من النافذة هو غصنُ شجرة الليلك الذي يتدلى عبر الطريق على نحو مضجر دون حراك. ليلةٌ حارّة خامدة. بلا قمر. الصرخةُ جعلت كلَّ شيء يبدو مشؤوماً.

من الذي صرخ؟ لماذا صرخت؟ كان صوتَ امرأة، تسبّب فيه هولٌ عظيم لشعورٍ يكاد يكون خلواً من النوع، خلواً من التعبير. كان صوتٌ كأنه الطبيعةُ البشرية تصرخ ضدَّ جَوْرٍ ما، ضد رعبٍ يفوق التصوّر.

ثم عمَّ سكونٌ كالموت. النجوم ظلّت تلمع بثباتٍ متقن. والحقول ترقد ساكنة. والأشجار صامتة دون حراك. مع ذلك بدا كل شيء مذنباً، ثابتةٌ عليه التهمة، ومنذراً بالشؤم. يشعر المرءُ كأن شيئاً ما يجب أن يحدث. كأن ضوءاً ما يجب أن يظهر متقاذفاً ومتخبّطاً بقلق. شخصٌما يجب أن يظهر راكضاً نحو الطريق. ونوافذ الكوخ الريفيّ يجب أن تكون مضاءةً.

وبعد ذلك ربما تدوّي صرخةٌ أخرى، غير أنها ستكون أقل غموضاً، وأقل افتقاراً إلى الكلمات، ستكون أكثر راحةً، أكثر سكوناً. لكن لا ضوءَ ظهر. لا قدمَ سُمعت خطاها. وليس منصرخةٍ أخرى دوّت. الأولى كانت قد اِبتُلِعت، وسادَ سكونٌ رهيب.


يرقد المرءُ في الظلام يصيخُ السمع. بالكاد كان ثمة صوت. ليس من شيء يمكن أن يرتبط به. ليس منصورة من أي نوع ظهرت لتفسّر الصوتَ، لتجعله مفهومًا للعقل.

لكنْ حين بدأ ينقشع الظلامُ في الأخير، كان كل ما يستطيع المرءُ أن يراه هو هيئة بشرية غامضةُ المعالم، بلا شكل تقريبًا، ترفع عبثاً ذراعاً عملاقة ضدَّ ظُلْمٍ مروّع غامر.




الصورةُالثالثة




الطقسُ المعتدل ظلّ متواصلاً. لولا تلك الصرخة الوحيدة في قلب الليل لأحسَّ المرءُ أن الأرضَ قد أرستْ قلوعَها في الميناء؛ وأن الحياةَ قد كفّّت عن الاندفاع أمام الرياح، لأنها وصلت إلى أحد الخلجان الصغيرة الساكتة وأرخت مرساها هناك، وراحت بالكاد تتحرك الهوينى فوق صفحة المياه الهادئة.


لكن الصوتَ ظلَّ يلحُّ. أينما ذهب المرءُ، ربما كانت جولةً طويلة صعوداً نحو التلال، شيء ما كأنه يمور باضطراب تحت السطح، يجعل السلام والأمن والاتزان الذي يحيط بالمرء يبدو إلى حد ماغير حقيقي.

كانت الخرافُ تتجمع كعنقود على جانب التل، والوادي يتكسّر في موجات تتناقص تدريجيّاً مثل شلال من المياه الناعمة. ثم يصل المرءُ إلى البيوت الريفيّةالمنعزلة. الجرو يتدحرج في الفناء. الفراشاتُ تطفرُ وتثبُ في مرح فوق نباتات الجولق. كلُّ شيء بدا هادئاً وآمناً لأقصى درجة. غير أن المرء يظلُّ يفكر، هنا كصرخةٌ قد مزّقت الهدوء، كلُّ هذا الجمال كان ضالعاً في الجريمة مع الليل؛ الذي قَبِلَ ورضي بأن يظلَّ ساكناً، بأن يظلَّ جميلاً، في أية لحظة يمكن أن يتمزّق الهدوءُ ثانيةً. هذه الطِيبةُ، هذا الأمان كان فوق السطح، وحسب.



بعد ذلك، من أجل أن يخفّفَ المرءُ عن نفسه وطأةَ مِزاجِه المضطرب الوجِل، ويسرّي عن نفسه،ي تحوّل إلى صورة."عودةُ البحّار إلى الوطن". يتأملّها كلَّها مجدداً مُنتجاً العديدَ من التفاصيل الصغيرة المتنوعة اللونُ الأزرق لفستانها، الظلالُ التي تسقط من الشجرة الصفراء المزهرة تلك التفاصيل التي لم نستخدمها من قبل.

ها هما قد وقفاعند باب الكوخ الريفيّ، هو ومخلاته فوق ظهره، وهي برفقٍ تكادُ تمسُّ كُمَّه بيدها. وقطّةٌ بلون الرمال تتسلّل خلسةً من الباب. وهكذا يستمر المرءُ تدريجياً في احتواء الصورة بكل تفاصيلها، يقنعُ نفسَه بالتدريج أن هذا السكون والسعادة والرضا والجمال من المحتمل جداً أن يمتد تحت السطح أكثر من أي شيء غادِرٍ أو مشؤوم.

النعاجُ التي ترعى، تموجاتُ الوادي، بيتُ المزرعة، الجروُ، الفراشاتُ الراقصة، جميعُها كانت في الواقع تشبه كلَّ شيء في العمق.

وهكذا يقفل المرءُ عائداً إلى البيت وعقلُه مثبّتٌ على البَحّار وزوجته، مُكمّلاً لهما صورةً تلو صورةٍ، ذلك أن صورةً وراء صورةٍ للسعادة والرضا قد تتمدد وتطغى على ذلك القلق والاضطراب، تطغى على تلك الصرخة الشنيعة، حتى يتم قمعُها وسحقُها فتسكن تحت وطأة إلحاحهم، خارج الوجود.


هاهي القريةُ أخيراً، وساحةُ الكنيسة التي لابد أن يمرَّ عبرَها المارُّ؛ وتأتي الفكرةُ المعتادة، بمجرد أن يدخلها، عن السلام الذي يعمُّ المكان، بأشجاره الصنوبر الظليلة، وشواهد أضرحته المصقولة، وقبوره المجهولة غير المسماة. الموتُ بهيجٌ هاهنا، هكذا يشعر المرء. حقًّا؟ انظرْ إلى تلك الصورة! ثمة رجلٌ يحفر قبراً، والأطفالُ يقومون بنزهة خلوية جواره بينما هو مستغرقٌ في عمله.

وعندما تحمل المجرفةُ حفنةً من التربة الصفراء لتُقذفها عالياً، يكون الأطفالُ مستلقين هنا وهناك يأكلون الخبزَ والمربى ويشربون اللبنَ من الأباريق الضخمة.

زوجةُ حفّار القبور، الحسناءُ السمينة، كانت تتكئ بجسدها على شاهد القبر بعدما بسطتْ مئزرَهافوق العشب جوار القبر المفتوح كي تستخدمه كطاولة شاي.

بعضُ كتلٍ من الطمي كانت قد سقطت بين أغراض الشاي. مَنْ ذاك الذي سوف يُدفن، أتساءلُ. هل مات أخيراً السيددودسون العجوز؟ «أوه! كلا. إنه للشاب روجرز، البحّار»، أجابتِ المرأةُ وهي تحملق في وجهي. «مات منذ ليلتين، قضى بحمى أجنبية غريبة. ألم تسمعْ زوجتَه؟ لقد اندفعتْ في الطريقِ وصرختْ».... «هنا أيها الجندي، تغطيّتَ تمامًابالتراب

يا لها من صورة!

النهار



هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: جيوب مثقلة للحجارة .. فرجينيا وولف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فرجينيا وولف و رواية " إلى المنارة" ريم بدر الدين منبر الآداب العالمية. 20 01-27-2015 02:02 PM
فيرجينيا وولف – د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 3 08-26-2012 11:06 AM
فيرجينيا وولف- هل كان انتحارها آخر صرخاتها ايوب صابر منبر الآداب العالمية. 1 10-04-2011 01:55 PM

الساعة الآن 02:52 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.